قصة الحضارة - ول ديورانت - م 2 ك 3 ب 15

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 2243

قصة الحضارة -> حياة اليونان -> العصر الذهبي -> تقدم العلوم -> مقدمة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب الخامس عشر: تقدم العلوم

لقد ظهر النشاط الثقافي في عصر بركليز في ثلاثة أشكال رئيسية - هي الفن والتمثيل والفلسفة. وكان الدين الملهم لأولها، وميدان القتال الملهم لثانيها، والتضحية هي الملهمة لثالثها. وإذ كان تنظيم الجماعة الدينية يتطلب وجود عقيدة مشتركة مستقرة، لأن كل دين لا بد أن يتعارض عاجلاً أو آجلاً مع تيار التفكير الدنيوي السائد المتبدل الذي نطلق عليه بحق اسم تقدم المعرفة. ولم يكن هذا التعارض في أثينة ظاهراً للعين على الدوام، ولم يؤثر في جمهرة الشعب تأثيراً مباشراً، فقد كان العلماء والفلاسفة يواصلون عملهم دون أن يهاجموا العقائد الدينية للشعب مهاجمة صريحة، وكثيراً ما كانوا يخففون من حدة النزاع باتخاذ المصطلحات الدينية القديمة رموزاً أو استعارات لعقائدهم الجديدة، ولم يظهر هذا النزاع سافراً ويصبح مسألة حياة أو موت إلا في فترات متفرقة كما حدث حين وجهت التهم إلى أنكساغوراس، وأسبازيا، وديُجراس الميلوسي Diogaras of Melos ويوربديز، وسقراط. ولكن النزاع رغم خفائه كان موجوداً بحق، وكان تياره يسري في عصر بركليز، وكان من الموضوعات الكبرى التي تشغل الأذهان، كما كان يظهر في صور وأشكال مختلفة قوياً تارةً وضعيفاً تارةً أخرى. وأوضح ما كان يسمع في أحاديث السوفسطائيين المتشككة، وفي آراء دمقريطس المادية، وكانت أصداؤه الخفية تتردد في آراء إسكلس الصالحة التقية، وفي زندقة يوربديز وحتى في أقوال أرسطوفان المحافظ المليئة بالهزل وقلة الاحتشام. وظهرت مرة أخرى قوية في محاكمة سقراط وموته. ذلك هو الموضوع الذي تدور حوله الحياة العقلية لأثينة في عصر بركليز.


الفصل الأوّل: علماء الرياضة

كان العلم الخالص في بلاد اليونان في القرن الخامس لا يزال يسير في ركاب الفلسفة، وكان يدرسه ويعمل على ترقيته رجال فلاسفة أكثر منهم علماء. ولم تكن علوم الرياضة العليا في نظر اليونان أداة عملية بل كانت أداة منطقية، تهدف إلى التركيب الذهني للعالم المعنوي أكثر مما تهدف إلى السيطرة على البيئة المادية الطبيعية.

ويكاد علم الحساب المتداول بين جمهرة اليونان قبل عصر بركليز أن يكون علماً بدائياً لم يدخل عليه إلا القليل من الصقل والتهذيب ، فكان يرمز لرقم 1 بشرطة عمودية ولرقم 2 بشرطتين، وبثلاث شرط لرقم 3 وبأربع لرقم 4، وكانت الأعداد 5، 10، 100، 1000، 000ر10 يرمز لها بالحروف الأولى من الكلمات اليونانية التي تسمى بها هذه الأعداد وهي: بنتي Pente، وديكا Deka، وهكتون Hekaton، وكليوي Chilioi، ومريوي Myrioi. ولم يضع علماء الحساب اليونان رمزاً للصفر. ومما يدل على أن علم الحساب اليوناني كعلم الحساب عندنا، مصدره بلاد الشرق أنه أخذ عن المصريين النظام العشري فكان اليونان يعدون بالعشرات، وأنه أخذ عن البابليين في علمي الفلك وتقويم البلدان الطريقة الاثني عشرية والستينية فكانوا يعدون في هذين العلمين بالاثني عشرات والستينات، ولا نزال نحن نستخدم هذه الطريقة في الساعات وعلى الكرات الأرضية والخرائط الجغرافية. ولعل العامة كانوا يستعينون بمعداد لإجراء عمليات الحساب السهلة. أما الكسور الاعتيادية فكانت تسبب لهم عناءً شديداً، فكانوا إذا أجروا عملية حسابية تحتوي على كسر اعتيادي بسْطُهُ أكبر من 1 حولوا هذا الكسر إلى عدة كسور بسطها كلها 1 فالكسر الاعتيادي 23slash32 مثلاً كان يقسم إلى 1slash2 + 1slash8 + 1slash16 + 1slash32 .

وليست لدينا معلومات مدونة عن الجبر عند اليونان قبل التاريخ المسيحي. أما الهندسة النظرية، فكانت من الدراسات المحببة إلى الفلاسفة، ولم تكن تدرس لفائدتها العملية بقدر ما كانت تدرس لفائدتها الذهنية النظرية وما فيها من استدلال منطقي خلاب، وما فيها من دقة ووضوح، وتفكير متتابع ينبني بعضه على بعض. وكانت ثلاث مسائل بوجه خاص تسترعي انتباه هؤلاء العلماء الرياضيين الباحثين فيما وراء الطبيعة، ومما يدل على ما أصبح للمشكلة الأولى من شأن عندهم أن شخصية من شخصيات مسرحية الطيور لأرسطوفان تمثل ميتون Meton تأتي إلى المسرح بمسطرة وفرجار وتعلن أنها سترى النظارة كيف "تحول الدائرة إلى مربع" أي كيف يرسم مربع مساحته تساوي مساحة دائرة معلومة. ولعل هذه المسائل وأمثالها هي التي جعلت الفيثاغوريين المتأخرين يضعون قواعد الأعداد الصماء والكميات غير المتناسبة . كذلك كانت دراسات الفيثاغوريين للقطع المكافئ، والقطع الزائد، والقطع الناقص هي التي مهدت السبيل إلى مؤلف أبولونيوس البرجي Appolonius of Perga في القطاعات المخروطية، وهو المؤلف الذي كان عظيم الشأن في تاريخ العلوم الرياضية(2). وفي عام 440 ق.م. نشر أبقراط الطشيوزي (وهو غير أبقراط الطبيب) أول كتاب معروف في الهندسة النظرية وحل مشكلة تربيع المساحة الكائنة بين قوسين متقاطعين . وفي عام 420 أفلح هيبياس الإليائي Hippias of Elia في تقسيم الزاوية ثلاثة أقسام متساوية بالاستعانة بالمنحني، وحوالي عام 410 أعلن دمقريطس الأبدري على الملأ قوله: "لم يفقني أحد قط ولا المصريون أنفسهم في رسم خطوط حسب شروط معلومة"(4)، وكاد يفلح في تبرير هذا الازدهاء بتأليف أربعة كتب في الهندسة النظرية، ووضع قوانين لمعرفة مساحتي المخروط والهرم(5). وملاك القول أن براعة اليونان في الهندسة قد بلغت من العظمة ما بلغه ضعفهم في الحساب. وكان للهندسة شأن عظيم في جميع نواحي نشاطهم، وحتى فنونهم نفسها قد تدخلت فيها فوضعت أشكالاً كثيرة للحلي المنقوشة على خزفهم وأبنيتهم، وحددت النسب بين أجزاء البارثنون ومنحنياته.

الفصل الثاني: أنكساغوراس

كان من مظاهر النزاع القائم بين الدين والعلم أن حرمت الشرائع الأثينية دراسة علم الفلك في الوقت الذي بلغ فيه عصر بركليز أعلى درجاته(6). وكان هذا العلم قد خطا خطوته الأولى في بلاد اليونان حين أعلن أنبادوقليس في أكرجاس أن الضوء يستغرق بعض الوقت في انتقاله من نقطة إلى أخرى(7). ثم خطى خطوةً ثانية حين أعلن بارمنيدس في إيليا Elea أن الأرض كروية الشكل، ثم قسم هذا الكوكب الأرضي إلى خمس مناطق، وعرف أن القمر يواجه الشمس بجزئه المنير على الدوام(8). ثم قام فيلولوس Philolaus الفيثاغوري في طيبة فخلع الأرض عن عرشها في مركز الكون وأنزلها منزلة كوكب من الكواكب الكثيرة التي تطوف حول "نار تتوسطها" جميعاً(9). وجاء لوقيبوس Leucippus تلميذ فيلولوس فقال إن النجوم قد نشأت من الاحتراق المتوهج لمواد "تندفع في مجرى الحركة العالمية للدوامة الدائرية" ومن تجمع هذه المواد وتركزها(10). وقام في أبدرا دمقريطس تلميذ لوقيبوس بعد أن درس العلوم البابلية، فوصف المجرة بأنها مكونة من عدد لا يحصى من النجوم الصغرى، ولخص التاريخ الفلكي بقوله إنه تصادم دوري وتحطيم لعدد لا يحصى من العوالم(11). وفي طشيوز كشف إينوبديز انحراف منطقة البروج(11أ). وجملة القول أن القرن الخامس كان في جميع المستعمرات اليونانية عصر تطور علمي عجيب في زمن يكاد يكون خلواً من الآلات العلمية.

فلما حاول أنكساغوراس أن يقوم بمثل هذه الأعمال في أثينة وجد أن مزاج الأهلين ومزاج الجمعية معاديان للبحث الحر بقدر ما كانت صداقة بركليز مشجعة له. وكان أنكساغوراس قد أقبل على أثينة من كلزميني Chlazomenae حوالي عام 480 ق.م. وهو في الخامسة والعشرين من عمره. وحبب إليه أنكسيمانس Anaximenes دراسة النجوم إلى حد جعله يقول جواباً عن سؤال وجهه إليه بعضهم عن الغرض من الحياة: "هو البحث عن حقيقة الشمس والقمر والسماء"(12). وأهمل العناية بالثروة التي خلفها له والده وصرف وقته في رسم خريطة للأرض والسماء، وحلت به الفاقة في الوقت الذي رحبت فيه الطبقات في أثينة بكتابه في الطبيعة وعدته أعظم الكتب العلمية التي ظهرت في ذلك القرن.

وكان هذا الكتاب حلقة من سلسلة البحوث العلمية التي قامت بها المدرسة الأيونية، وفيه يقول أنكساغوراس إن العالم كان في بادئ الأمر فوضى أو عماء مكوناً من بذور مختلفة الأنواع (Spermata)، يسري فيها فكر (Nous) أو عقل مادي، لطيف، قويُّ الصلة بأصل الحياة والحركة في الآدميين، وكما أن العقل يصدر الأوامر إلى الفوضى التي تسود أعمالنا، فكذلك أصدر العقل العالمي أمره إلى البذور الأولية فبعث فيها دوامة رحوية ، وهداها إلى طريق نشأة الأشكال العضوية(13). وقسم هذا الدوران البذور إلى الأركان أو العناصر الأربعة - النار، والهواء، والماء، والأرض - وقسم العالم طبقتين دوارتين طبقة خارجية مكونة من "الأثير" وأخرى داخلية مكونة من الهواء. وبسبب هذه الحركة الدوارة العنيفة انتزع الأثير الناري الملتف حول الأرض حجارةً من الأرض وأضاءها فكانت نجوماً(14). والشمس والنجوم في رأيه كتلة من الصخور حمراء متوهجة أكبر من البلوبونيز مراراً كثيرة(15). وحين تضعف حركتها الدائرية تسقط أحجار الطبقة الخارجية على الأرض فتكون شهباً(16).

والقمر جسم صلب متوهج، في سطحه سهول وجبال وأخاديد(17)، يستمد ضوءه من الشمس، وهو أقرب الأجرام السماوية إلى الأرض(18). "ويُخسف القمر إذا توسطت الأرض بينه وبين الشمس كما تُكسف الشمس إذا توسط القمر بينها وبين الأرض"(19). وربما كانت بعض الأجرام السماوية مسكونة عليها خلائق كالأرض، وعليها "يتكون أناس، وتتكون حيوانات أخرى ذات حياة، ويسكن الناس المدن، ويزرعون الأرض كما نزرعها نحن"(20). وقد نشأ من التكثف المتتابع للطبقة الداخلية أو الغازية من طبقتي كوكبنا سحب، وماء، وتراب، وحجارة. وتنشأ الرياح من رقة الجو الناشئة من حرارة الشمس كما "ينشأ الرعد من تصادم السحب والبرقُ من احتكاكها"(21). وكمية المادة ثابتة لا تتغير، ولكن الأشكال جميعها تبدأ ثم تزول، وستصبح الجبال في مستقبل الأيام بحاراً(22). وينشأ كل ما في العالم من أشياء وأشكال بتجمع أجزاء متماثلة Homoiomeria وفقاً لنظام يزداد تحديداً على مدى الأيام(23). وقد ولدت جميع الكائنات العضوية في بادئ الأمر من التراب، والرطوبة، والحرارة، وبذلك نشأ بعضها من البعض الآخر(24). وقد تطور الإنسان أكثر مما تطورت سائر الحيوانات لأن قامته المعتدلة أطلقت يديه فاستطاع بهما أن يمسك الأشياء(25).

وأصبح أنكساغوراس بفضل ما حققه من نتائج - وهي وصفه أساس علم الظواهر الجوية، وتفسير الكسوف والخسوف تفسيراً علمياً صحيحاً، ووضع فرض معقول لتكوين الكواكب السيارة، وإدراكه أن القمر يستمد نوره من الشمس، وقوله بتطور الحياة الحيوانية والبشرية - أصبح بفضل هذه النتائج كوبرنيق ذلك العصر ودارونه معاً. ولعل الأثينيين كانوا يعفون عن هذه الآراء لو أن أنكساغوراس لم يهمل تفسير منشأ عقله ومواهبه فيما فسر من حادثات طبيعية وتاريخية، ولعلهم ظنوا أنه لجأ إلى هذا الصمت، كما لجأ يوربديز في إحدى تمثيلياته إلى "آلة إسقاط الآلهة من السماء" لينجو بها من غضب مواطنيه. ويقول عنه أرسطاطاليس إنه كان يبحث عن العلل الطبيعية لكل شيء. من ذلك أنه جيء لبركليز بكبش ذي قرن واحد في وسط جبهته وقال أحد العرافين إنه نذير من نذر الآلهة، فأمر أنكساغوراس بفتح رأس الحيوان وأظهر للحاضرين أن مخه قد نما في مقدم الجبهة بدل أن يملأ جانبي الجمجمة كلها، فنشأ من نموه على هذا النحو قرن الكبش الوحيد(27). وقد أثار أنكساغوراس مشاعر السذج بتفسير سقوط الشهب على أساس القوانين الطبيعية، وأرجع كثيراً من الشخوص الأسطورية إلى تجسيم المجردات العقلية(28).

وصبر عليه الأثينيون وداروه إلى حين، وكل ما فعلوه به أن أطلقوا عليه لفظ Nous (الفكر- العقل(29)). فلما لم يجد كليون Cleon الذي كان يناقش بركليز في تزعم الشعب وسيلةً أخرى يضعف بها خصمه اتهم أنكساغوراس بالإلحاد لأنه وصف الشمس (وكانت لا تزال في نظر الشعب إلهاً من الآلهة) بأنها كتلةً من الحجارة المحترقة، ولم يترك وسيلةً يستعين بها على تأييد دعواه إلا اتبعها. وأدين أنكساغوراس رغم دفاع بركليز المجيد عنه . ولم يكن أنكساغوراس راغباً في تعاطي عصير الشوكران السام، ففر إلى لمبسكوس Lampasacus على مضيق الهلسبنت، وأخذ يكسب عيشته بتدريس الفلسفة . ولما ترامى إليه أن الأثينيين حكموا عليه بالإعدام قال: "لقد قضت الطبيعة عليهم وعليَّ بهذا الحكم من زمن بعيد"(33). ومات بعد بضع سنين من ذلك الوقت في الثالثة والسبعين من عمره.

ويُرى تأخر الأثينيين في علم الفلك واضحاً في تقويمهم، ذلك أنه لم يكن لليونان تقويم عام بل كان لكل دولة تقويم خاص بها، وكانت كل نقطة من النقاط الأربع التي يصح اتخاذها بدايةً للسنة الجديدة متبعة في مكان ما من بلاد اليونان، وحتى الشهور نفسها كانت تتغير أسماؤها في الدويلات المختلفة، فكان تقويم أتكا يحسب الشهور بمنازل القمر والسنين بأبراج الشمس(34). وإذ كان في كل اثني عشر شهراً قمرياً 360 يوماً فقط، فقد كانوا يزيدون شهراً على كل سنتين لكي يتفق حساب السنة مع حساب الشمس والفصول(35). وهذا الحساب نفسه يجعل السنة تطول عشرة أيام فوق ما يجب أن تكون، ولذلك وضع صولون النظام الذي يقضي بأن تكون أيام الشهور القمرية 30 يوماً و29 يوماً بالتناوب مقسمة إلى ثلاثة أسابيع (ديكادوي) في كل أسبوع عشرة أيام (أو تسعة في بعض الأحيان)(36). وتبقى بعد هذا أربعة أيام صححها اليونان بحذف شهر من كل ثمان سنين. وبهذه الطريقة الملتوية التي لا يكاد يدركها العقل وصل اليونان آخر الأمر إلى احتساب السنة 365 يوماً وربع يوم .

وحدث في هذه الأثناء تقدم قليل في علم الجغرافية. فقد فسر أنكساغوراس فيضان النيل السنوي تفسيراً صحيحاً بقوله إنه ينشأ من ذوبان جليد بلاد الحبشة في فصل الربيع ومن سقوط الأمطار فيها(38). وفسر علماء طبقات الأرض اليونان وجود مضيق جبل طارق بأنه نتيجة لتشقق الأرض من أثر زلزال، كما فسروا وجود جزائر بحر إيجه بأنه ناشئ من انخفاض قاع البحر(39). وقال زنثوس الليدي Zanthus of Lydia حوالي 495 إن البحرين الأبيض المتوسط والأحمر كانا في الزمن القديم متصلين أحدهما بالآخر عند السويس، وسجل إسكلس ما كان يعتقده أهل زمانه من أن صقلية قد انفصلت من إيطاليا نتيجةً لاضطراب في القشرة الأرضية(40). وارتاد إسكيلاكس الكاري Scylax of Caria (521-485 ق.م) جميع شواطئ البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود. ويبدو أن أحداً من اليونان لم يجازف بالقيام برحلة استكشافية كالرحلة التي قام بها هنو Hanno القرطاجي بأسطول مؤلف من ستين سفينة، اخترق به مضيق جبل طارق وسار به نحو 2600 ميل إزاء الساحل الغربي لإفريقية (حوالي 490 ق.م). وكانت خرائط عالم البحر الأبيض المتوسط منتشرة في أثينة في أواخر القرن الخامس. أما الطبيعة فمبلغ علمنا أنها لم تتقدم على أيدي اليونان وإن كانت منحنيات البرثنون تدل على أنهم كانوا يعرفون الكثير عن البصريات. غير أن الفيثاغوريين أعلنوا حوالي عام 450 أبقى الفروض العلمية اليونانية، وهو التركيب الذري للمادة. كذلك وضع أنبادوقليس وغيره من العلماء نظرية نشوء الإنسان وارتقائه من صور للحياة أدنى منه، ووصفوا رقيه البطيء من الهمجية إلى الحضارة(41).


الفصل الثالث: أبقراط

لقد كان أهم الحوادث في تاريخ العلوم اليونانية في عصر بركليز نهضة الطب القائم على العقل لا على الخرافة. ذلك أن الطب اليوناني قبل ذلك الوقت حتى في القرن الخامس نفسه كان وثيق الارتباط بالدين إلى حد كبير، وكان كهنة هيكل أسكلبيوس Asclepiusلا يزالون يقومون بعلاج المرضى. وكان العلاج في هذا الهيكل يقوم على خليط من الأدوية التجريبية، والطقوس المؤثرة الرهيبة، والرقى السحرية التي تؤثر في خيال المريض وتطلقه من عقاله، وليس ببعيد أنهم كانوا يلجأون أيضاً إلى التنويم المغناطيسي وإلى بعض المخدرات(42). وكان الطب الدنيوي ينافس الطب الديني ويحاول أن يتغلب عليه. وكان أنصار هذا وذاك يعزون منشأ علمهم إلى أسكلبيوس، ولكن الأسكلبيسيين غير الدينيين كانوا يرفضون الاستعانة بالدين في عملهم، ولا يدعون أنهم يعالجون المرضى بالمعجزات، وقد أفلحوا شيئاً فشيئاً في إقامة الطب على قواعد العقل.

وتطور الطب الدنيوي في بلاد اليونان أثناء القرن الخامس في أربع مدارس كبرى: في كوس ونيدس من مدن آسية الصغرى، وفي كرتونا بإيطاليا، وفي صقلية. وفي أكرجاس اقتسم أنبادوقليس- وهو نصف فيلسوف ونصف رجل معجزات- مفاخر الطب مع أكرون Acron الطبيب المفكر المنطقي(43). وقد وصلت إلينا أنباء مدونة ترجع إلى عام 520 عن طبيب يدعى دِمُسِديز Democedes ولد في كرتونا، ومارس مهنة الطب في إيجينا، وساموس، وسوسة، وعالج دارا والملكة أتسا Atossa، ثم عاد ليقضي آخر أيامه في مسقط رأسه(44). وفي كرتونا أيضاً خرجت المدرسة الفيثاغورية أوسع أطباء اليونان شهرةً قبل أبقراط، ونعني به ألقميون Alcmaeon الذي يلقبونه الأب الحق للطب اليوناني(45). ولكنه لم يكن في واقع الأمر إلا اسماً متأخراً في ثبت طويل من أسماء الأطباء غير الدينيين ضاعت أسماؤهم فيما وراء أفق التاريخ. وقد نشر هذا الطبيب في أوائل القرن الخامس كتاباً في الطبيعة Peri Physeos- وكان ذلك هو العنوان المألوف في بلاد اليونان لأي بحث عام في العلوم الطبيعية. ومبلغ علمنا أنه كان أول من حدد من اليونان موضع العصب البصري وقناة أستاخيو ، وشرح الحيوانات، وفسر فسلجة النوم، وقرر أن المخ هو العضو الرئيسي في عملية التفكير، وعرف الصحة تعريفاً فيثاغورياً فقال إنها التوافق بين أجزاء الجسم المختلفة(46). وكان أكبر رجال الطب في نيدس هو يوريفرون Euryphron الذي كتب في الطب خلاصة موجزة تعرف باسم الجمل النيدية Cnidian Sentences، وقال عن التهاب البلورا إنه مرض من أمراض الرئتين، وإن الإمساك منشأ الكثير من الأمراض، وذاع صيته لنجاحه في عمليات التوليد(47). وقامت حرب مشئومة بين مدرستي كوس ونيدس لأن النيديين لم يكونوا يحبون ولع أبقراط في أن يقوم "التشخيص" على معرفة طبائع الأمراض، ومن ثم أصروا على وجوب العناية بتصنيف الأمراض كلها تصنيفاً دقيقاً، وعلاج كل مرض منها بطريقته الخاصة. وتسرب في آخر الأمر، بنوع من العدالة الفلسفية، كثير من الكتابات النيدية إلى المجموعات الطبية الأبقراطية.

ويبدو أبقراط، كما تراه في سيرته الموجزة التي كتبها سويداس Suidas، أعظم أطباء زمانه بلا منازع. وقد ولد في جزيرة كوس في السنة التي ولد فيها دمقريطس، وأصبح الرجلان صديقين حميمين بالرغم من بعد موطنيهما، ولربما كان "للفيلسوف الضاحك" نصيب في توجيه الطب وجهة دنيوية. وكان أبقراط ابن طبيب ونشأ ومارس صناعته بين آلاف المرضى والسياح الذين وفدوا على كوس "لأخذ الماء من عيونها الساخنة". ووضع له معلمه هيرودكس السلمبري Herodicus of Selymbria الأساس الذي بنى عليه فنه بتعويده الاعتماد على نظام التغذية وعلى الرياضة الجسمية أكثر من اعتماده على الأدوية. وذاعت شهرة أبقراط حتى كان من بين مرضاه حكام مثل بردكاس Percdiccas ملك مقدونية، وأردشير الأول ملك الفرس، وفي عام 430 ق.م. استدعته أثينة ليحاول وقف انتشار الطاعون فيها. وأخجله صديقه دمقريطس بأن عاش من العمر مائة عام كاملة، على حين أن الطبيب العظيم مات في الثالثة والثمانين من عمره.

وليس في كل ما كتب في الطب وفي كل ما يمكن أن يكتب فيه ما هو أكثر اختلافاً وأقل تجانساً من مجموعة الرسائل التي كانت تُعزى في القديم إلى أبقراط. ففيها كتب مدرسية للأطباء، ونصائح لغير رجال الطب، ومحاضرات للطلبة، وتقريرات، وبحوث، وملاحظات، وتسجيلات سريرية (كلينيكية) )لحالات طريفة، ومقالات كتبها سوفسطائيون ممن يهتمون بالناحيتين العلمية والفلسفية في الطب. وكانت الاثنان والأربعون سجلاً سريرياً هي السجلات الوحيدة من نوعها في السبعة عشر قرناً التي أعقبت ذلك العهد، وكانت أعلى الأمثلة في الأمانة باعترافها أن المرض أو العلاج قد أعقبه الموت في ستين في المائة من الحالات(48). وأربعة لا أكثر من هذه المؤلفات هي التي انعقد إجماع المؤرخين على أنها من كتابات أبقراط:وهي "الحكم" و"الأدلة" و "تنظيم التغذية والعوائد في الأمراض الحادة"، ورسالته "في جروح الرأس". أما ماعدا هذه الأربعة من المؤلفات المعزوة إلى أبقراط فمن وضع مؤلفين مختلفين عاشوا في أوقات مختلفة بين القرنين الخامس والثاني قبل الميلاد(49). وفي هذه المجموعة قدر غير قليل من السخف والهذيان، ولكن أكبر الظن أنه ليس أكثر مما سيجده علماء المستقبل في رسائل هذه الأيام وتواريخها. وكثير من المعلومات التي في هذه الكتب والرسائل شذرات متفرقة، موضوعة في صورة حكم وقواعد مفككة تقترب بين الفينة والفينة من الغموض الذي يلازم كتابات الفيلسوف هرقليطس. ومن بين "حكم" أبقراط تلك العبارة الذائعة الصيت: "الفن طويل، ولكن الوقت يمر مر السحاب"(50).

وأكبر فضل لأبقراط وخلفائه أنهم حرروا الطب من الدين والفلسفة. نعم إنهم يشيرون في بعض الأحيان بأن يستعين المريض بالصلاة والدعاء، كما نرى ذلك في كتاب "التنظيم"، ولكن النغمة السارية في صفحات المجموعة كلها هي وجوب الاعتماد الكلي على العلاج الطبي. وتهاجم رسالة "المرض المقدس" صراحة النظرية القائلة بأن الأمراض ترسلها الآلهة، ويقول مؤلفها إن للأمراض جميعها عللاً طبيعية بما في ذلك الصرع نفسه الذي يفسره الناس بأنه تقمص الشيطان جسم المريض : "وما زال الناس يعتقدون بأنه من عند الآلهة، لعجزهم عن فهمه... ويتوارى المشعوذون والدجالون وراء الخرافات ويلجأون إليها لأنهم لا يجدون علاجاً ناجعاً لهذا الداء، ومن أجل هذا يطلقون عليه اسم المرض المقدس حتى لا ينكشف للناس جهلهم الفاضح"(51) وكانت روح العصر البركليزي تتمثل أوضح تمثيل في عقلية أبقراط، فقد كان واسع الخيال ولكنه واقعي، يكره الخفاء، ولا يطيق الأساطير، يعترف بقيمة الدين ولكنه يكافح لفهم العالم على أساس العقل والمنطق. وإنـا لنحس بأثر السوفسطائيين في الحركة التي تهدف إلى تحرير الطب، والحق أن الفلسفة قد أثرت في طرق العلاج اليونانية تأثيراً بلغ من قوته أن قام النزاع بين العلم والفلسفة كما قام بينه وبين العقبات التي يضعها الدين في سبيله. ويقول أبقراط، ويصر على قوله، إن النظريات الفلسفية لا شأن لها بالطب ولا موضع لها فيه، وإن العلاج يجب أن يقوم على شدة العناية بالملاحظة(52) وعلى تسجيل كل حالة من الحالات وكل حقيقة من الحقائق تسجيلاً دقيقاً. ولسنا ننكر أنه لم يدرك كل الإدراك قيمة التجارب العلمية، ولكنه كان يصر على أن يهتدي في جميع أعماله بالخبرة والتجربة العلمية.

وفي وسعنا أن نتبين ما تلوث به الطب الأبقراطي في منشئه من عدوى الفلسفة بالنظر إلى عقيدة "الأخلاط" المشهورة. يقول أبقراط: إن البدن يتكون من الدم، والبلغم، والصفراء، والصفراء السوداء، وإن الإنسان يستمتع بالصحة الكاملة إذا امتزجت فيه هذه الأركان (العناصر) بنسبها الصحيحة، وإن الألم ينشأ من نقص بعض هذه "الأخلاط" أو زيادتها أو انفصالها عن الأخلاط الأخرى(53). وقد بقيت هذه النظرية وعاشت بعد زوال جميع الفروض الطبية القديمة، ولم يتخل عنها الناس إلا في القرن الماضي، ولعلها لا تزال باقية في صورة أخرى هي عقيدة الأنوار (الهرمونات) أو إفرازات الغدد، التي يقول بها الأطباء في هذه الأيام. وإذ كان اليونان يعتقدون أن سير هذه الأخلاط يتأثر بالجو والطعام، وإذ كانت أكثر الأمراض انتشاراً في بلاد اليونان هي أمراض البرد، وذات الرئة، والملاريا، فقد كتب أبقراط (؟) رسالة موجزة في "الأهوية، والمياه، والأماكن" وعلاقتها بالصحة، وفيها يقول: "في وسع الإنسان أن يعرض نفسه للبرد وهو واثق من أنه لن يصيبه منه سوء، إلا إذا فعل ذلك بعد الأكل أو الرياضة... وليس من الخير للجسم ألا يتعرض لبرد الشتاء"(54). وليس لنا أن نستخف بأقوال أبقراط وأتباعه هذه لأن من واجب الطبيب العلمي، أياً كان مستقره، أن يدرس الرياح، والفصول، وموارد ماء الشرب، وطبيعة الأرض، وأثر هذه العوامل كلها في السكان.

والتشخيص أضعف النقط في طب أبقراط. فقد يبدو أنه لم يكن يعنى بقياس النبض، وكانت الحمى تعرف باللمس البسيط كما كان الاستماع يحدث بالأذن مباشرة. وكان يؤمن بالعدوى في أحوال الجرب، والرمد، والسل(55). وفي كتابه عن (الجسم Corpus) صور إكلينيكية كثيرة للصرع، والتهاب الغدة النكفية الوبائي، وحمى النفاس، والحمى اليومية، وحمى الثلث، وحمى الربع. ولم يرد في المجموعة ذكر للجدري أو الحصباء، أو الخناق (الدفتريا) أو الحمى القرمزية أو الزهري، كما لم يرد فيه ذكر صريح للتيفود(56). وتنزع رسائل : "التنظيم" نحو الطب الوقائي بدعوتها إلى دراسة أحوال الداء في أول ظهوره- وهي محاولة لمعرفة أولى علامات المرض والقضاء عليه قبل أن يستفحل(57). وكان أبقراط شديد الولع بمعرفة العواقب في الطب ويرى أن الطبيب الماهر يعرف بتجاربه نتائج أحوال الجسم المختلفة، وفي مقدوره أن يتنبأ بسير المرض من مراحله الأولى. ويقول إن معظم الأمراض تصل إلى مرحلة يقضى فيها إما عليها وإما على المريض ذاته، وإن تقديره الحسابي- الذي يكاد يبلغ في دقته الحساب الفيثاغوري- الذي يصل فيه المرض إلى أشد حالاته لمن أخص خصائص النظرية الأبقراطية. وهو يقول في هذا المعنى أنه إذا استطاعت حرارة الجسم في هذه الأزمات أن تتغلب على سبب العلة وتطرده من الجسم شفي المريض. ويقول إن الطبيعة- أي قوى الجسم وبنيته- هي أهم علاج لكل مرض أياً كان نوعه، وإن كل ما يستطيع الطبيب أن يفعله هو أن يقلل أو يزيل العقبات القائمة في طريق هذين الدفاع والشفاء الطبيعيين. ولهذا فإن الطريقة الأبقراطية لا تستخدم العقاقير في العلاج، وأكثر ما تعتمد عليه هو الهواء النقي، والمقيئات، والأقماع، والحقن الشرجية، والحجامة، والإدماء، والكمادات، والمراهم، والتدليك، والمياه المعدنية. ومن أجل ذلك كان دستور الأدوية اليوناني جد صغير يتكون معظمه من المسهلات. وكانت أمراض الجلد تعالج بالحمامات الكبريتية، وبالتدليك بدهن كبد الدلفين(58). ويسدي أبقراط للناس هذه النصيحة: "عش عيشة صحية تنج من الأمراض إذا انتشر في البلد وباء أو أصابتك حادثة. وإذا مرضت ثم اتبعت نظاماً صالحاً في الأكل والحياة أتاح لك ذلك أحسن الفرص للشفاء" (59). وكثيراً ما كان يوحي بالصوم إذا سمحت بذلك قوة المريض لأنه "كلما أكثرنا من تغذية الأجسام المريضة زدنا بذلك تعريضها للأذى"(60). ويمكن القول بوجه عام إن "الإنسان يجب ألا يتناول إلا وجبة واحدة من الطعام في اليوم إلا إذا كانت معدته شديدة الجفاف"(61).

وكان تقدم علمي التشريح ووظائف الأعضاء في بلاد اليونان بطيئاً، وكان أكبر العوامل فيما أحرزاه من تقدم هو الفحص عن أحشاء الحيوانات في عملات العرافة. وفي المجموعة الأبقراطية كراسة صغيرة "في القلب" تصف البطينين، والأوعية الكبرى، وصماماتها. وكتب سينيسس Syennesis القبرصي وديوجين الكريتي يصفان الجهاز الدموي، وعرف ديوجين أهمية النبض(62). كذلك عرف أنبادوقليس أن القلب مركز الجهاز الدموي، ووصفه بأنه العضو الذي يحمل النيوما Pneuma أو الهواء الحيوي (الأوكسجين؟) من الأوعية الدموية إلى جميع أجزاء الجسم(63). وفي كتاب الجسم Corpus يحذو أبقراط حذو القيمون فيجعل المخ مركز الشعور والتفكير ويقول: "وبه نفكر، ونبصر، ونسمع، ونميز القبيح من الجميل والغث من الثمين"(64). أما الجراحة فكانت لا تزال في معظم الأحوال عملاً لا يتخصص فيه الطلاب، ويشتغل به كبار الأطباء، وإن كان من الموظفين في الجيوش جراحون(65). وتصف مؤلفات أبقراط عملات التربنة، والطريقة التي تصفها لعلاج انخلاع الكتف أو الفك "حديثة" في كل شيء عدا استخدام المخدرات(66). وقد وجدت في هيكل إسكلبيوس بأثينة لوحة نذور نقشت عليها علبة تحتوي مباضع ذات أشكال مختلفة(67). ويحتفظ متحف أثينة الصغير بعدد من الملاقط، والمسابر، والمباضع، والقناطر، والنظارات الطبية القديمة لا تختلف في جوهرها عن أمثالها المستحدثة في هذه الأيام. ويبدو أن بعض ما هنالك من تماثيل هي نماذج أعدت لشرح الوسائل التي تتبع لرد الخلع في مفاصل العجز(68). وفي رسالة أبقراط "في الطب" تعليمات مفصلة لتحضير حجرة العمليات الجراحية وتنظيم ما فيها من ضوء طبيعي وصناعي، وتنظيف اليدين، والعناية بآلات الجراحة وطريقة استخدامها، وموضع المريض، وتضميد الجروح وما إلى ذلك(69).

ويتضح من هذه الفقرات وغيرها أن الطب اليوناني في عهد أبقراط قد تقدم تقدماً عظيماً من الناحيتين الفنية والاجتماعية. لقد كان الأطباء اليونان قبل أيامه ينتقلون من مدينة إلى أخرى كلما دعتهم الحاجة إلى الانتقال، شأنهم في هذا شأن السوفسطائيين في أيامهم والوعاظ في أيامنا نحن. أما في عهده فقد استقروا في مدنهم وافتتحوا مكاتب أو "أمكنة للعلاج Iatria" يعالجون فيها المرضى تارة ويعالجونهم في منازلهم(70)تارةً أخرى. وكثرت عندهم الطبيبات، وكن يستخدمن عادةً في علاج أمراض النساء، وقد كتب بعضهن رسائل في العناية بالجلد والشعر تعد حجة في موضوعاتها(71). ولم تكن الدولة تحتم على من يريد ممارسة الطب أن يؤدي امتحاناً عاماً، ولكنها كانت تطلب إليه أن يقدم لها أدلة مقنعة على أنه قد تمرن أو تتلمذ على طبيب معترف به(72). ووفقت حكومات المدن بين الطب المُأمم والطب الخاص باستخدام أطباء للعناية بالصحة العامة، ولعلاج الفقراء. وكان أكبر أطباء الدولة هؤلاء، أمثال دموسيدز Democedes يتقاضون وزنتين (000ر12 ريال أمريكي) في العام(73). وكان عندهم بطبيعة الحال دجالون كثيرون، كما كان عندهم عدد لا يحصى من الهواة الذين يدعون العلم بكل شيء في الطب، وهؤلاء موجودون في كل زمان ومكان. ولقد قاست المهنة في تلك الأيام، كما تقاسي في كل جيل من الأجيال، الأمَرّين من أعمال أقلية فيها خربة الذمة، عاجزة عن القيام بواجبها(74)، وثأر اليونان لأنفسهم، كما ثأر غيرهم من الأمم، من عدم وثوقهم بأطبائهم بما كالوه لهم من السخرية والفكاهة اللاذعة، التي لا تقل عن سخرياتهم من الزواج.

وقد رفع أبقراط من شأن هذه المهنة بتوكيده شأن الأخلاق في الطب، ذلك أنه لم يكن طبيباً فحسب بل كان طبيباً ومدرساً معاً، وربما كان القسم الشهير الذي يعزى إليه قد وضع لضمان ولاء طالب الطب لأستاذه.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قسم أبقراط

"أقسِمُ بأبلو الطبيب، وبأسكلبيوس، وبهجيائيا Hygiaea وباناسيا Panacea وبجميع الآلهة والإلهات، وأشهِدُها جميعاً على ، أن أنفذ هذا القسم وأوفي بهذا العهد بقدر ما تتسع له قدرتي وحكمتي، وأن أضع معلمي في هذا الفن في منزلة مساوية لأبواي، وأن أشركه في مالي الذي أعيش منه، فإذا احتاج إلى المال اقتسمت مالي معه، وأقسم أن أعد أسرته إخوة لي، وأن أعلمهم هذا الفن إذا رغبوا في تعلمه، من غير أن أتقاضى منهم أجراً أو ألزمهم باتفاق، وأن ألقن الوصايا والتعاليم الشفوية وسائر التعاليم الأخرى لأبنائي، ولأبناء أستاذي، وللتلاميذ المتقاعدين الذين أقسموا يمين الطبيب، ولا ألقنها لأحد سواهم. وسوف أستخدم العلاج لأساعد المرضى حسب مقدرتي وحكمتي، ولكن لا أستخدمه للأذى أو لفعل الشر. ولن أسقي أحداً السم إذا طلب إليَّ أن أفعل هذا، أو أشير بسلوك هذا السبيل. كذلك لن أعطي امرأة صوفة لإسقاط جنينها، ولكني سأحتفظ بحياتي وفني كليهما طاهرين مقدسين، ولن أستعمل المبضع ولو كنت محقاً في استعماله، لمن يشكو حصاة، بل أتخلى عن مكاني لمن يحذقون هذا الفن. وإذا دخلت بيت إنسان أياً كان، فسأدخله لمساعدة المرضى، وسأمتنع عن كل إساءة مقصودة أو أذى متعمد، وسأمتنع بوجه خاص عن تشويه جسم أي رجل أو أية امرأة، سواءً كانا من الأحرار أو من الأقرباء. ومهما رأيت أو سمعت في أثناء قيامي بفروض مهنتي، وفي خارج مهنتي في خلال حديثي مع الناس، إذا كان مما لا تجب إذاعته، فلن أفشيه، وسأعد أمثال هذه الأشياء أسراراً مقدسة. فإذا ما ألزمت نفسي بإطاعة هذا القسم ولم أحنث فيه، فإني أرجو أن أشتهر مدى الدهر بين الناس جميعاً بحياتي وبفني، أما إذا نقضت العهد وحنثت بالقسم فليحل بي عكس هذا"(76).

ويضيف أبقراط إلى هذا أن من واجب الطبيب أن يحتفظ بحسن مظهره الخارجي، وأن ينظف جسمه ويتأنق في ملبسه. ويجب عليه أن يكون هادئاً على الدوام، وأن يكون سلوكه بحيث يبعث الثقة والاطمئنان في نفس المريض(77) ، ويجب عليه:

"أن يعنى بمراقبة نفسه، و... وألا يقول إلا ما هو ضروري... وإذا دخلت حجرة مريض فتذكر طريقة جلوسك، وكن متحفظاً في كلامك، معتنياً بهندامك، وصريحاً حاسماً في أقوالك، موجزاً في حديثك، هادئاً... ولا تنس ما يجب أن تكون عليه أخلاقك وأنت إلى جانب فراش المريض... واضبط أعصابك، وازجر من يقلقك، وكن على استعداد لفعل ما يجب أن يُفعل... وأوصيك ألا تقسو على أهل المريض، وأن تراعي بعناية حال مريضك المالية، وعليك أيضاً أن تقدم خدماتك من غير أجر، وإذا لاحت لك فرصة لأن تؤدي خدمة لإنسان غريب ضاقت به الحال، فقدم له معونتك كاملة، ذلك أنه حيث يوجد حب الناس يوجد أيضاً حب الفن"(78). وإذا أضاف الطبيب إلى هذا دراسة الفلسفة والعمل بها، كان هو المثل الأعلى لأبناء مهنته لأن "الطبيب الذي يحب الحكمة لا يقل عن الآلهة في شيء"(79).

وبعد فإن الطب اليوناني لا يرقى رقياً جوهرياً عما كانت تعرفه مصر عن الطب وعن الجراحة قبل عصر آباء الطب المختلفين بألف عام، وإذا ما نظرنا إلى التخصص بدا لنا أن ما وصل إليه اليونان فيه أقل مما وصل إليه المصريون. على أننا يجب من الناحية الأخرى أن نجل اليونان ولا نبخسهم حقهم، لأن الطب من ناحيته النظرية والعملية قد بقى حتى القرن التاسع عشر عند الحد الذي أوصله إليه اليونان. وجملة القول أن العلوم اليونانية قد بلغت الدرجة التي ينتظر الإنسان أن يبلغها علم من العلوم من غير الاستعانة بآلات دقيقة للرصد والملاحظة، ومن غير التجارب العلمية. ولولا العقبات التي أقامها في طريقه الدين والفلسفة لكان له شأن أعظم من شأنه هذا، فقد حدث في الوقت الذي كان فيه كثيرون من الشبان في أثينة يتحمسون لدراسة الفلك والتشريح المقارن، أن حالت التشريعات الرجعية الجاهلة دون تقدم العلوم، وكانت سبباً في اضطهاد أنكساغوراس، وأسبازيا، وسقراط. وكذلك كان "تحول" سقراط والسوفسطائيين عن دراسة العالم الخارجي إلى دراسة العالم الداخلي، ومن الطبيعة إلى علم الأخلاق، كان هذا التحول سبباً في تحويل التفكير اليوناني من مشاكل الطبيعة والنشوء والتطور إلى مشاكل ما وراء الطبيعة والأخلاق. وظل العلم واقفاً لا يتحرك مائة عام كاملة خضع فيها اليونان لسحر الفلسفة ومفاتنها.