قصة الحضارة - ول ديورانت - م 2 ك 3 ب 11

من معرفة المصادر

قصة الحضارة -> حياة اليونان -> العصر الذهبي -> مقدمة الترجمة


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مقدمة الترجمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وبعد: فهذا هو الجزء الثاني من المجلد الثاني من مجلدات قصة الحضارة الست. وهو يضم بين دفتيه حضارة اليونان في العصر الذهبي، وفي عصر اضمحلال الحرية اليونانية وسقوطها. وهو كسابقه ترجمة أمينة للأصل الإنجليزي لا يزيد عليه إلا في بعض شروح قليلة في هامش الكتاب. ولقد جرينا فيه على السنة التي جرينا عليها في الأجزاء السابقة فأثبتنا أسماء الأماكن والأشخاص بالحروف الإنجليزية بعد العربية حين يرد ذكرها أول مرة، حتى يكون القارئ على بينة منها، وحتى يسهل عليه نطقها. أما الأسماء اليونانية التي ورد ذكرها في الكتب العربية كأسماء الفلاسفة وبلادهم، فقد كتبناها كما كتبها العرب أنفسهم وإن خالف ذلك نطقها باليونانية والإنجليزية. ولعلنا لم نستطع الوصول إلى بعض الأسماء، ولكنا قج بذلنا كثيراً من الجهد في الوصول إليها، وسنتدارك ما نستطيع معرفته منها في الجزء الثالث كما تداركنا في هذا الجزء بعض ما فاتنا في الجزء الول. ونعود فنكرر الشكر للإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية، التي بفضلها ترجم هذا الكتاب، وللجنة التأليف والترجمة والنشر التي بفضلها نشر. والله الهادي إلى سواء السبيل،
محمد بدران
ديسمبر سنة 1953



المجلد الثاني: حياة اليونان- الكِتابُ الثالِث: العصر الذهبي من 480 إلى 399 ق.م.

الباب الحادي عشر: بركليز والتجربة الدمقراطية

الفصل الأوّل: نهضة أثينة

يقول شلي Shelley إن "الفترة الواقعة بين مولد بركليز وموت أرسطو تعد بلا شك أهم فترة في تاريخ العالم كله، سواء نظرنا إليها من حيث هي ذاتها أو من حيث أثرها في مصائر الإنسان المتحضر من بعدها". وكانت أثينة هي المسيطرة على هذه الفترة، وقد نالت ولاء معظم المدن الإيجية فأمدتها هذه المدن بالأموال لأنها تزعمتها في إنقاذ بلاد اليونان من الغزو الأجنبي، ولأن أيونيا بعد هذه الحرب قد حلت بها الفاقة، وإسبارطة قد اضطربت أحوالها بسبب تسريح جيوشها وما حدث فيها من زلازل وفتن؛ ولأن الأسطول الأثيني قد نال من النصر في العالم التجاري ما لا يقل عن نصره الحربي في أرتميز يوم سلاميس.

ولسنا نقصد أن الحرب كانت قد وضعت أوزارها نهائياً؛ فقد استمر النزاع بين الفرس واليونان من عهد أن فتح قورش أيونيا إلى أن هزم الإسكندر دارا الثالث. وقد طرد الفرس من أيونيا في عام 479 ومن البحر الأسود عام 478 ومن تراقيا عام 475. وفي عام 468 انتصر أسطول يوناني بقيادة سيمون الأثيني نصراً مؤزراً على الفرس في البر وفي البحر عند مصب نهر يوريمدون Eurymedon . وفي ذلك الوقت ألفت المدن اليونانية في آسية وبحر إيجة اتحاد ديلوس بزعامة أثينة وتبرعت كلها بمقدار من المال أودع في هيكل أبلو في ديلوس. وأمدت أثينة هذا الاتحاد بالسفن بدل المال فلم تلبث لهذا السبب أن أصبحت لها الزعامة عليه بفضل قوتها البحرية، ولم يلبث اتحاد الأنداد أن استحال إلى إمبراطورية أثينية.

وانضم كبار الساسة الأثينيون جميعهم ومنهم الرجل الفاضل أرستيديز والرجل المنزه الطاهر بركليز إلى ثمستكليز الذي لا ضمير له في هذه السياسة الجديدة، سياسة التوسع الاستعماري. ولم تكن أثينة مدينة لإنسان ما بمثل ما كانت مدينة به لثمستكليز، ولم يكن أحد من رجالها أكثر منه تصميماً على أن ينال جزاء ما قدمه لها. فلما أن اجتمع زعماء اليونان ليقترحوا مكافأة أولئك الرجال الذين أظهروا كفاية ممتازة في الدفاع عن البلاد اقترح كل منهم لنفسه أولاً ولثمستكليز ثانياً. وكان هو الذي سَيَّرَ تاريخ اليونان في المجرى الذي سار فيه بعدئذ، وذلك بأن أقنع أثينة أن البحر لا البر والتجارة لا الحرب هما سبيل السيطرة والسيادة، ومن أجل هذا أخذ يفاوض في بلاد الفرس ويسعى إلى وضع حد للنزاع القائم بين الإمبراطورية الهرمة والإمبراطورية الفتية حتى تزول العقبات القائمة في سبيل الاتجار مع آسية ويعم الرخاء أثينة. وقد حشد رجال أثينة - بل ونساءها وأطفالها - لإقامة سور حول المدينة وسور آخر حول ثغري بيرية Piraeus ومنيشية Muniychia، ووضع الخطة التي نفذها بركليز لإقامة أرصفة عظيمة، ومخازن، ومصافق في بيرية تسهيلاً للتجارة البحرية. وكان يعرف أن هذه السياسة ستثير الغيرة والحسد في نفس إسبارطة، وقد تؤدي إلى نشوب الحرب بين الدول المتنافسة، ولكنه كان يسعى لرقي أثينة وتقدمها، وكان هذا الأمل ووثوقه بقوة الأسطول الأثيني يدفعانه إلى العمل دفعاً.

وكان في أهدافه من العظمة بقدر ما في وسائله من الانحطاط فقد استخدم الأسطول لإرغام جزائر سكلديس على أداء الجزية له بحجة أن هذه الجزائر استسلمت للفرس أسرع مما ينبغي لها أن تستسلم، وأنها أمدت خشيارشاي بالجند؛ ويلوح أنه أعفى بعض المدن من هذه الجزية بعد أن قدمت له الرشا(2). ولهذه الاعتبارات عينها أعد العدة لاستدعاء بعض المنفيين, ويقول تيموقريون Timocreon إنه كان يحتفظ بما يقدم له من الرشا وإن لم يفلح في إعادتهم (3) إلى أوطانهم. ولما عهد إلى أرستيديز الإشراف على الأموال العامة وجد أن من كانوا يشرفون عليها قد اختلسوا الكثير منها، وأن ثمستكليز لم يكن أقلهم اختلاساً (4) وتبديداً لها، وأصدر الأثينيون حوالي عام 471 قراراً بنفيه من البلاد لأنهم كانوا يخشون مقدرته وفساد ضميره فخرج منها يريد البقاء في أرجوس. ولكن وثائق ذات بال لم تلبث أن وقعت في يد الإسبارطيين تثبت على ما يظهر أن ثمستكليز دارت بينه وبين بوزنياس نائب الملك عندهم، وكانوا قد أماتوه جوعاً لأنه اتصل بالفرس في مفاوضات تثبت عليه الخيانة لبلاده. وانتهزت إسبارطة هذه الفرصة لإسقاط عدوها، فأطلعت أثينة على هذه الوثائق وأرسلت أثينة من فورها أمراً بالقبض على ثمستكليز؛ فما كان منه إلا أن فر إلى كرسيرا Gorcyra، وأبت هذه أن تحميه، فلجأ إلى بيروس حيث أقام زمناً قصيراً، ثم أبحر منها سراً إلى آسية، وطلب إلى خليفة خشيارشاي أن يكافئه على منعه اليونان من تعقب آثار الأسطول الفارسي بعد سلاميس؛ وانخدع أرتخشتر (أردشير) بما وعده به ثمستكليز من مساعدة على إخضاع بلاد اليونان (5) فضمه إلى مستشاريه وخصه بموارد بعض المدن الخاضعة لحكمه. وقبل أن يستطيع ثمستكليز إنقاذ الخطة التي أقضت مضجعه عاجلته المنية في مجنيزيا عام 449 وهو في سن الخامسة والستين، بعد أن نال إعجاب بلاد البحر الأبيض المتوسط كلها واكتسب كراهيتها.

وآلت زعامة الحزب الدمقراطي في أثينة بعد ثمستكليز وأرستيديز إلى إفيليتز، كما آلت زعامة الحزب الألجاركي أو حزب المحافظين إلى سيمون بن ملتيادس. وكان سيمون متصفاً بمعظم الفضائل التي تنقص ثمستكليز، ولكنه كانت تعوزه الكياسة والمقدرة اللتان لا بد منهما للنجاح في الحكم والسياسة. ولما ضاق ذرعاً بما كان يحاك في المدينة من دسائس تولى قيادة الأسطول، وثبت دعائم الحرية في بلاد اليونان بما ناله من النصر في يوريميدون، وعاد إلى أثينة ظافراً ولكنه فقد حب الشعب له حين أشار بتسوية النزاع مع إسبارطة. ووافقت الجمعية على كره منها أن تعهد إليه قيادة قوة أثينة لمساعدة الإسبارطيين على إخضاع الهيلوتيين في إيثومي، ولكن الإسبارطيين لم يأمنوا للأثينيين وارتابوا فيهم وهم يريدون لهم الخير. وبلغ من سوء ظنهم بجنود سيمون أن عادوا إلى أثينة غاضبـين، كما عاد سيمون يجلله الخزي والعار، وسقطت مكانته بين مواطنيه. وفي عام 461 صدر قرار الجمعية بنفيه بتحريض بركليز، وسقطت بسقوطه منزلة الحزب الألجركي إلى الحضيض، حتى لقد ضلت الحكومة مدى جيلين في قبضة الدمقراطيين. وبعد أربع سنين من سقوطه استصدر بركليز من الجمعية قراراً باستدعائه مدفوعاً إلى ذلك بندمه على فعلته (أو لعشق إلبنيس Elpenice أخت سيمون كما تقول الشائعات)، ومات سيمون ميتة شريفة في معركة بحرية في جزيرة قبرص. وآلت زعامة الحزب الدمقراطي وقتئذ إلى رجل قد يُدهَش القارئ إذا قلنا إنا لا نعرف عنه إلا القليل، مع أن نشاطه هو الذي غير مجرى تاريخ أثينة، والرجل الذي نعنيه بقولنا هذا هو إفيلتيز. وكان إفيلتيز هذا رجلا فقيراً ولكنه طاهر اليد، ولم يعش طويلاً بعد أن هدأت نار الأحقاد السياسية في أثينة. وكانت الحرب قد زادت من قوة حزب الشعب لأن المواطنين الأحرار نسوا إلى حين ما كان بين طبقاتهم من شقاق وانقسام, ولأن الجيش - الذي كان يسيطر عليه الأشراف - لم يكن هو الذي كسب معركة سلاميس، بل كسبها الأسطول، وكان رجاله من فقراء المواطنين كما كانت قيادته في أيدي طبقة التجار الوسطى. وحاول الحزب الألجركي أن يحتفظ بامتيازاته بتركيز السلطة العليا في الأريوبجوس (مجلس الشيوخ) المحافظ، فما كان جواب إفيلتز إلا أن قام بهجوم عنيف على مجلس الشيوخ القديم، ووجه تهماً شنيعة إلى الكثيرين من أعضائه، وأمر بإعدام بعضهم (7)، وحمل الجمعية على أن توافق على إلغاء ما كان باقياً للأريوبجوس من سلطة إلغاء يكاد يكون تاماً. وأثنى أرسطاطاليس الأرستقراطي النزعة فيما بعد على هذه السياسة المتطرفة بحجة أن "انتقال السلطات القضائية التي كانت من قبل من اختصاص مجلس الشيوخ إلى أيدي العامة كان فيما يبدو عظيم النفع لأن إرشاد العدد القليل من الناس أيسر من إرشاد العدد الكبير منهم"(8). غير أن المحافظين من أهل ذلك الوقت لم يؤمنوا بهذه النتيجة وهم هادئون. ولما عجزوا عن شراء ضمير إفيلتز سلطوا عليه من اغتاله في عام 461 (9)، وانتقلت بعد موته زعامة الحزب الدمقراطي الذي تعرض من يتولاها لأشد الأخطار إلى بركليز الأرستقراطي.


الفصل الثاني: بركليز

ولد قبل مرثون بثلاث سنين رجل أصبح فيما بعد صاحب السلطة العليا على جميع قوى أثينة المادية والروحية في خلال عصر عظمتها ومجدها. وكان والده زنثبوس Xanthippus ممن حاربوا في سلاميس، وقد تولى قيادة الأسطول الأثيني في معركة ميكالي، واسترد مضيق الهلسبنت لبلاد اليونان. وكانت أجرستي Agariste أم بركليز حفيدة المصلح كليسثنيز، ولهذا فإن نسبه من جهة أمه يتصل بأسرة الألقميونيين القديمة. وفي ذلك يقول بلوتارخ: "ولما قرب يوم مولده رأت أمه في منامها أنها ولدت أسداً، وبعد بضعة أيام ولدت بركليز - وكان جسمه كاملاً سوياً في كل شئ ما عدا رأسه، فقد كان طويلاً بعض الطول غير متناسب مع جسمه"(10) وكثيراً ما سخر نقاده من طوله. وتعلم الموسيقى على دامون Damon أشهر معلميها في زمانه، وعلمه فيثاغورس الموسيقى والأدب، واستمع إلى محاضرات زينون الإيلي في أثينة، وأصبح صديقاً وتلميذاً للفيلسوف أنكساغوراس. وتثقف في أثناء نموه بثقافة عصره السريعة النماء، وجمع في ذهنه واستخدم في سياسته جميع نواحي الحضارة الأثينية - الاقتصادية، والعسكرية، والأدبية، والفنية، والفلسفية. ومبلغ علمنا أنه كان أكمل إنسان أنجبته بلاد اليونان جميعها. ولما رأى أن مبادئ الحزب الألجركي لا تتمشى مع روح العصر انضم من بداية حياته العامة إلى حزب "الديموس" (الشعب) أي سكان أثينة الأحرار. وكانت كلمة "الشعب" وقتئذ، كما كانت في أمريكا إلى أيام جفرسن، تفترض فيمن تطلق عليه بعض القيود الخاصة بالملكية. وكان حين ينزل ميدان السياسة بوجه عام وحين يقدم على أي عمل سياسي بوجه خاص، يستعد له أكمل استعداد، فلا يتردد في أن يمضي في أي عمل تفرضه عليه قواعد التربية الحقة، لا يتكلم إلا قليلاً، ولا يطيل الكلام، ويدعو الآلهة أن تمسك لسانه فلا ينطق بأي كلمة لا تمت بصلة قوية للموضوع الذي يتكلم فيه. وكان الناس كلهم ومنهم الشعراء الهزليون الذين يحقدون عليه، يسمونه "الأولمبي" الفصيح اللسان الذي لم تسمع أثينة قبله مثل فصاحته في قوتها وعظيم تأثيرها، ومع هذا فالمؤرخون كلهم مجمعون على أن خطبه كانت خالية من الانفعال، تتأثر بها العقول المستنيرة. ولم يكن نفوذه مستمدا من ذكائه فحسب، بل كان مستمداً كذلك من صلاحه واستقامته، ولم يكن يستنكف أن يستعين بالرشا ليحصل للدولة على أغراضها، أما هو نفسه فكان "بلا جدال مبرئاً من جميع ضروب الفساد وأكبر من أن يهتم بالمال"(11). ويحدثنا المؤرخون أن بركليز لم يضف طوال حياته العامة شيئاً ما إلى ما ورثه من أبيه، على حين أن ثمستكليز تولى المناصب العامة وهو فقير وخرج منها وهو واسع الثراء (12). ومما يدل على فطنة الأثينيين وحكمتهم في ذلك العهد أنهم ضلوا خلال ثلاثين عاماً أو نحوها بين 467 و428 ينتخبونه ويجددون انتخابه - ما عدا فترات قصيرة - ليكون واحداً من الاستراتجوى أي القادة العشرة، وكان بقاؤه في منصبه هذه المدة الطويلة نسبياً مما جعله صاحب السلطة العليا في المجلس العسكري، وأمكنه أن يجعل منصب الاستراتجوس أو توكراتور أي القائد صاحب السلطة أعلى المناصب الحكومية شأناً وأعظمها سلطاناً. وحصلت أثينة في أيامه على فوائد الحكم الأرستقراطي والدكتاتوري، وإن كانت قد استمتعت أيضاً بجميع مزايا الدمقراطية. فقد بقي لها ما كان يزدان به عهد بيسستراتس من حكم صالح وعمل على نشر الثقافة وتشجيعها، واجتمع لها ما كان في عهد بيسستراتس من حسن توجيه، وفرط ذكاء، وسرعة البت في الشئون العامة، مضافة إلى رضاء المواطنين الأحرار رضاءً كاملاً يظهرونه عاماً بعد عام. وكان وجوده برهاناً يثبت به التاريخ المبدأ القائل إن خير وسيلة لتنفيذ الإصلاحات القائمة على أسس الحرية وأضمن الطرق لتثبيت هذه الإصلاحات وتقوية دعائمها هي أن يتولاها زعيم حذر معتدل، يستمتع بتأييد الشعب. ومن أجل ذلك بلغت الحضارة اليونانية أعلى درجاتها حين نمت الدمقراطية نمواً يكفي لأن يكسبها قوة وتعدداً في نواحي نشاطها، وبقي فيها من الأرستقراطية ما يكسبها حسن النظام وسلامة الذوق. وأدت إصلاحات بركليز إلى زيادة سلطة الشعب زيادة عظيمة. ذلك أن عدم أداء أجور للقضاة نظير عملهم في المحاكم كان قد أكسب الطبقات الثرية سلطاناً عظيماً فيها وإن كانت سلطتهم قد زادت من قبل في عهد صولون وكليسثنيز وإفيلتيز. وأدرك بركليز هذا، فقرر في عام 451 أبولتين Obols أي ما يعادل 34slash100 من الريال الأمريكي لكل قاض عن كل يوم يجلس فيه للقضاء، ثم رفع هذا الأجر بعدئذ إلى ثلاث أبولات، وكان هذا الأجر في كلتا الحالتين يعادل وقتئذ نصف ما يكسبه الأثيني العادي من عمله اليومي(13). ولسنا نستطيع أن نحمل محمل الجد قول بعضهم: إن هذه الأجور القليلة أضعفت قوة أثينة وأفسدت أخلاق أهلها؛ لأن هذا لو صح لقضى من وقت بعيد على كل دولة تؤجر قضاتها أو محلفيها. ويلوح أن بركليز قرر كذلك مكافأة قليلة لمن ينخرطون في سلك الخدمة العسكرية. وقد توج كرمه الذي يعيبه عليه بعض الناس بأن خصص من مال الدولة أبولتين في العام لكل مواطن من مواطنيها يؤديها أجراً لدخوله لمشاهدة ما يعرض من المسرحيات والألعاب في الأعياد العامة، وحجته في هذا أن هذه المسرحيات والألعاب يجب ألا تكون ترفاً تختص به الطبقات العليا والوسطى، بل يجب أن تهدف إلى رفع مستوى الناخبين العقلي على بكرة أبيهم. على أننا يجب أن نذكر في هذا المقام أن أفلاطون، وأرسطاطاليس، وبلوتارخ - وهم جميعاً محافظون - مجمعون على أن هذه الأجور أضرت بأخلاق الأثينيين(14).


وواصل بركليز عمل إفيلتيز فنقل إلى المحاكم الشعبية ما كان للأركونيين وكبار الموظفين من اختصاصات قضائية، فأصبحت الأركونية من ذلك الحين منصباً إدارياً أكثر منها منصباً يوجه سياسة الدولة، أو يفصل في القضايا أو يصدر الأحكام والأوامر. وفي عام 457 وسع حق الانتخاب للأركونية حتى شمل الطبقة الثالثة من الأهلين، الزوجتاي Zeugitai، وكان من قبل مقصوراً على الطبقات الغنية؛ ولم تلبث أحط الطبقات منزلة وهي طبقة الثيتيين أن حصلت على حق الانتخاب لهذا المنصب من غير حاجة إلى إجراءات شكلية، وذلك بأن غالت في تقدير دخلها، وتغاضت سائر الطبقات عن هذا الخداع والتزوير لما كان لهذه الطبقة الدنيا من شأن عظيم في الدفاع عن أثينة (15). ثم اختط بركليز إلى أجل قصير خطة مغايرة لخطته السالفة الذكر فأقنع الجمعية في عام 451 بأن تقصر حق الانتخاب على الأبناء الشرعيين الذين يولدون من آباء أثينيين وأمهات أثينيات. وحرّم عقد زواج شرعي بين مواطن وغير مواطن. وكان يقصد بهذا الإجراء عدم تشجيع الزواج بين الأثينين والأجانب والإقلال من عدد الأبناء غير الشرعيين، ولعله كان يريد أيضاً أن يحتفظ لأهل مدينة أثينة الحريصين على حقوقهم بما يعود عليهم من هذه الحقوق الوطنية والإمبراطورية من مزايا. ولكن بركليز لم يلبث أن وجد من الأسباب ما جعله يندم على هذا التشريع الضيق المانع. وأدرك بركليز أن أي أنواع الحكم يبدو في أعين الناس صالحاً إذا عاد عليهم بالرخاء، وأن أحسن أنواعه يبدو لهم سيئاً إذا لم يعد عليهم به، فوجه عنايته إلى سياسة البلاد الاقتصادية بعد أن ثبت دعائم مركزه السياسي، فعمل على تقليل ضغط السكان على مواد أتكا الضئيلة بإسكان جاليات من فقراء المواطنين الأثينيين في البلاد الأجنبية، وهيأ العمل للمتعطلين (16) بأن جعل الدولة تستخدم من الأهلين عدداً كبيراً لم يكن له نظير في بلاد اليونان من قبل: فزاد عدد سفن الأسطول، وأنشأ دور الصنعة، وبنى في بيرية مصنعاً عظيماً لتجارة الحبوب. وأراد أن يحمي أثينة حماية قوية من خطر الغزو عن طريق البر، وأن يهيئ في الوقت نفسه عملاً جديداً للمتعطلين، فأقنع الجمعية بأن توافق على صرف الأموال اللازمة لبناء أسوار لا يقل طولها عن ثمانية أميال سميت "الأسوار الطويلة" تصل أثينة ببيرية وفالروم Phalerum. وقد جعلت هذه الأسوار مدينة أثينة ومرفأيها كنفاً واحداً حصيناً لا يتوصل إليه في وقت الحرب إلا من طريق البحر - الذي يسيطر عليه الأسطول. ونظرت إسبارطة غير المسورة إلى هذا البرنامج الواسع من برامج التسليح نظرة عدائية، ورأى الحزب الألجركي في هذا العداء فرصة تتيح له الاستيلاء على زمام السلطة السياسية، فأرسل رسله سراً إلى الإسبارطيين يدعونهم لغزو أتكا، وتعهدوا لهم بأن يوقدوا في أثناء الغزو نار الفتنة في المدينة، فيقضوا بذلك على الحكومة الدمقراطية، كما تعهدوا أيضاً بهدم "الأسوار الطويلة". ووافق الإسبارطيون على هذه الخطة، وسيروا على أثينة جيشاً هزم الأثينيين عند تنجارا Tangara (457)، ولكن الألجركيين عجزوا عن القيام بثورتهم، وعاد الإسبارطيون إلى البلوبونيز بخُفّي حنين، ينتظرون على مضض أن تتاح لهم فرصة أحسن من هذه الفرصة يقضون بها على منافستهم المزدهرة التي أخذت تنتزع منهم زعامتهم التقليدية على بلاد اليونان. وقاوم بركليز ما حدثته به نفسه من الانتقام من إسبارطة، ووجه جهوده كلها بدلاً من هذا إلى تجميل أثينة، فوضع منهاجاً ضخماً يهدف إلى الانتفاع بجهود جميع عباقرة الفن الأثينيين ومن بقي فيها من المتعطلين في تزيين الأكوربوليس؛ وكان يرجو من وراء ذلك أن يجعل المدينة مركز هلاس الثقافي، وأن يعيد بناء الهياكل القديمة - التي خربها الفرس - على نطاق واسع فخم يبعث العزة والفخار في نفس كل مواطن في المدينة. ويقول بلوتارخ في هذا: "لقد كانت رغبته وغايته ألا يحرم جمهور الصناع غير المهذبين من نصيبه في الأموال العامة، على ألا ينالوا نصيبهم هذا وهم متعطلون لا يفعلون شيئاً، ومن أجل هذا وضع البرنامج الضخم للمنشآت العامة"(17). أما المال اللازم لهذه المشروعات فقد حصل عليه بأن اقترح نقل ما تجمّع من الأموال في خزانة حلف ديلوس من هذه البلدة غير المأمونة، بعد أن ضل فيها زمناً طويلاً لا ينتفع منه بشيء، وأن يستخدم ما لا يحتاج إليه منه للدفاع المشترك عن البلاد اليونانية في تجميل المدينة التي يرى بركليز أنها هي العاصمة الشرعية للإمبراطورية الصالحة الخيرة. وكان نقل خزانة حلف ديلوس إلى أثينة عملاً صالحاً في نظر الأثينيين جميعاً بما فيهم الألجركيون. ولكن الناخبين ترددوا في السماح بإنفاق أي قدر كبير من الأموال لتجميل المدينة - وقد يكون الباعث لهم على هذا عدم ارتياح ضمائرهم إلى هذا العمل، أو أنهم كان يخالجهم أمل خفي في أن يحصلوا بطريقة أقرب من طريقة بركليز وأيسر منها على هذه الأموال لينفقوها في قضاء حاجاتهم وفي ملذاتهم. وكان زعماء الحزب الألجركي مهرة في الاستفادة من هذا الشعور، فلما أن اقترب اليوم الذي سيعرض فيه هذا الأمر على الجمعية لتقترع عليه بدا أنها سترفضه لا محالة. ويحدثنا بلوتارخ عن الطريقة الماكرة التي حول بها بركليز هذا التيار إلى صالحه فيقول: "وقال بركليز: حسن جداً، فلتذهب نفقات هذه المنشآت إلى جيبي أنا لا إلى جيوبكم، ولينقش عليها اسمي لا اسمكم، فلما سمعوا قوله هذا نادوه بأعلى أصواتهم أن ينفق المال ... وأن لا يقف عن الإنفاق حتى ينفذ عن آخره، ولسنا نعرف أكان هذا لأنهم دهشوا من عظمته النفسية أم لأنهم أرادوا أن يكون لهم فضل القيام بهذه الأعمال". وبينما كانت هذه الأعمال قائمة على قدم وساق، وكان بركليز يبسط معونته وحمايته لفدياس، وإكتنوس Ictinus، ونسكليز Mnesicles وغيرهم من الفنانين الذين كانوا يكدحون لتحقيق أحلامه، كان هو يناصر الأدب والفلسفة؛ وبينما كان الشقاق بين الأحزاب في سائر المدن اليونانية يستنفذ جهود المواطنين، وغصن الأدب يذوي ويذبل، كانت الثروة المتزايدة في أثينة والحرية الدمقراطية تتعاونان مع الزعامة الحكيمة المثقفة على خلق عصرها الذهبي المجيد. وبينما كان بركليز، وأسبازيا، وفدياس، وأنكساغوراس، وسقراط يشاهدون مسرحيات يوربديز في ملهى ديونيسس، كان في وسع أثينية أن تشهد هي الأخرى ذروة مجد الحياة في بلاد اليونان وكمال وحدتها - من سياسة، وفن، وعلم،وفلسفة،وأدب، ودين، وأخلاق، تشهد هذه كلها وليس لكل ناحية منها حياة منفصلة عن الأخرى في صحف المؤرخين، بل تراها وقد اندمجت بعضها ببعض فتكون منها صرح متعدد الألوان هو مفخرة تاريخ هذه الأمة. وترددت عواطف بركليز بين الفن والفلسفة، ولعله كان يصعب عليه أن يقول أي الرجلين يحب أكثر من الآخر: فدياس أو أنكساغوراس؛ ولعله أيضاً قد ولى وجهه شطر أسبازيا لكي يوفق بين رغبته في الجمال وفي الفلسفة معاً. ويقال لنا إنه "كان يكن لأنكساغوراس منتهى الإجلال والإعجاب"(18). ويقول أفلاطون(19) إن الفيلسوف هو الذي دفع بركليز إلى شؤون السياسة والحكم؛ ويعتقد بلوتارخ أن اتصال بركليز الطويل الأمد بأنكساغوراس هو الذي أفاد منه سمو القصد وقوة اللغة التي سمت كثيراً فوق بلاغة الغوغاء وما فيها من سخف حقير دنيء؛ هذا فضلاً عما أفاده من هدوء واطمئنان ووقار في جميع حركاته، وثبات لا يتزعزع قط مهما يحدث حوله في أثناء خطبه. ولما تقدمت بأنكساغوراس السن وانهمك بركليز في الشؤون العامة نسي رجل الحكم رجل الفلسفة فلم يعد له مكان ما في حياته زمناً ما؛ ولكنه لما سمع فيما بعد أن أنكساغوراس يعاني مرارة الجوع والحرمان بادر إلى معونته، وقبل منه في تواضع ما وجهه إليه من اللوم بقوله: "إن من يحتاجون يوماً ما إلى مصباح، يمدونه بالزيت" (20). وقد لا يصدق الإنسان لأول وهلة أن هذا "الأولمبي" الصارم كان مرهف



 صفحة رقم : 2083   



قصة الحضارة -> حياة اليونان -> العصر الذهبي -> بركليز والتجربة الدمقراطية -> بركليز


الحس بمفاتن النساء، وإن كان لا يرى بعد أن يعيد التفكير أن ذلك من الأمور الطبيعية التي لا غبار عليها. ذلك أن سيطرته على نفسه كانت تدفعه إلى مقاومة حساسيته الرقيقة، على حين أن متاعب المنصب قد قوّت بلا ريب حنينه الشديد السوي إلى رقة الأنوثة. وكان حين التقى بأسبازيا قد مضى على زواجه زمن طويل؛ وكانت هي من ذلك الطراز الذي كانت تحاول خلقه في بلاد اليونان، طراز المؤنسات اللاتي أصبح لهن بعد قليل شأن كبير في الحياة الأثينية. كانت أسبازيا امرأة تأبى العزلة التي يفرضها الزواج على النساء في أثينة، وكانت تفضل أن تعيش معيشة الاختلاط الجنسي غير المشروع بل الاختلاط الجنسي المطلق إلى حد ما إذا كان هذا يمكنها من أن تستمتع بحرية الحركة وبالحرية الخلقية اللتين يستمتع بهما الرجال، وأن تشترك معهم في الأعمال الثقافية. وليس لدينا من الأدلة ما نستند إليه إذا شئنا أن نقدر جمال أسبازيا، وإن كان الكتّاب القدامى يتحدثون عن "قدمها الصغيرة المقوسة إلى أعلى" وعن "صوتها الفضي" وشعرها الذهبي(21)، وإن كان أرستفنيز، وهو عدو سياسي لدود لبركليز، لا يؤنبه ضميره لتوجيه أية تهمة له، يصفها بأنها عاهر من ميليطس، أنشأت بيتاً فخماً للدعارة في مجارا، ثم جاءت في ذلك الوقت ببعض فتياتها إلى أثينة. ويشير كاتب الملاهي العظيم من طرف خفي إلى أن النزاع الذي قام بين أثينة ومجارا والذي عجل إشعال نار حرب البلوبونيز كان سببه أن أسبازيا أقنعت بركليز بأن يثأر لها من المجاريين الذين اختطفوا بعض فتياتها(22). لكن أرستفنيز لم يكن مؤرخاً، ولا يصح أن يوثق به إلا فيما لا يتصل بشخصه هو. ولما وصلت أسبازيا إلى أثينة في عام 450 افتتحت فيها مدرسة لتعليم البلاغة والفلسفة، وأخذت تشجع بجرأة عظيمة خروج النساء من عزلتهن، واختلاطهن بالرجال، وتربيتهن تربية عالية. والتحقت بمدرستها كثيرات من فتيات الطبقات العليا، وأرسل كثيرون من الأزواج زوجاتهم ليدرسن معها(23).



 صفحة رقم : 2084   



قصة الحضارة -> حياة اليونان -> العصر الذهبي -> بركليز والتجربة الدمقراطية -> بركليز


وكان الرجال أيضاً يستمعون إلى محاضراتها، ومن بينهم بركليز وسقراط، وأكبر الظن أن أنكساغوراس نفسه، ويوربديز، وألسبيديز، وفدياس كانوا يستمعون إليها. ويقول سقراط إنه تعلم منها فن البلاغة(24)، ويؤكد بعض قدماء النمامين الثرثارين أن رجل الحكم قد ورثها من الفيلسوف . ووجد بركليز وقتئذ أن الفرصة الطيبة قد واتته إذ أحبت زوجته رجل آخر، فلم يكن منه إلا أن عرض عليها أن تستمتع بحريتها نظير استمتاعه هو بحريته، فرضيت بذلك، واتخذت لها زوجا ثالثاً(26)، وجاء بركليز بأسبازيا إلى بيته. غير أن قانونه الذي سنه في عام 451 لم يكن يبيح له أن يتخذها زوجة له لأنها من مواليد ميليطس,وإذا ولد له منها طفل كان هذا الطفل بمقتضى هذا القانون نفسه طفلاً غير شرعي، لا يستطيع أن ينال حق المواطنة الأثينية. ويلوح أنه كان شديد الحب والإخلاص لها، بل إننا لا نبالغ إذا قلنا إنه كان يهيم بها هياماً شديداً، فلا يغادر بيته ولا يعود إليه دون أن يقبلها، ثم أوصى آخر الأمر بكل ما يملك إلى ولدها منه. وانقطع من ذلك الوقت عن الحياة الاجتماعية كلها خارج بيته، وقلما كان يغادره إلى أي مكان غير ساحة المدينة، أو قاعة المجلس، حتى أخذ أهل أثينة يشكون بعده عنهم. أما أسبازيا نفسها فقد جعلت بيته أشبه بالندوات الفرنسية في عهد الاستنارة تناقش فيه الفنون، والعلوم، والآداب، والفلسفة، وشؤون الحكم والسياسة في أثينة، مناقشة تجمع بين هذه النواحي المختلفة وتؤثر كل منها في الأخرى. وكان سقراط يُعجب بفصاحتها ويُدهش منها، ويعزو إليها فضل إنشاء الخطبة الجنائزية التي ألقاها بركليز بعد الخسائر الأولى في حرب البلوبونيز. وما لبثت أسبازيا أن أصبحت ملكة أثينة غير المتوجة، تشيع فيها آخر أنماط الحياة الاجتماعية، وعنها تأخذ نساء المدينة "مُثُل الحرية العقلية والأخلاقية التي يتطلعن لها والتي تثير حماستهن".



 صفحة رقم : 2085   



قصة الحضارة -> حياة اليونان -> العصر الذهبي -> بركليز والتجربة الدمقراطية -> بركليز


وكان هذا كله صدمة قوية لمشاعر المحافظين من الأهلين، فأخذوا ينددون ببركليز لأنه يدفع اليونان لحرب اليونان كما حدث في إيجينا وساموس، ثم اتهموه بأنه يبدد الأموال العامة، ثم سلطوا عليه الممثلين الهزليين فأساءوا استخدام حرية الكلام التي سادت أثينة في عهده، فاتهمه هؤلاء بأنه جعل داره بيتاً من بيوت الفساد السيئة السمعة، وبأن بينه وبين زوجة ابنه علاقة غير شريفة(28). وإذ كانوا لا يجرؤون على عرض تهمة من هذه التهم علناً أمام القضاء أخذوا يهاجمونه بالكيد لأصدقائه. فاتهموا فدياس باختلاس بعض الذي عهد إليه لصنع تمثال أثينة الذهبي العاجي، ويلوح أنهم أفلحوا في إثبات التهمة عليه. ووجهوا إلى أنكساغوراس تهمة تتعلق بالدين، ففر الفيلسوف إلى خارج البلاد اتباعاً لمشورة بركليز. ووجهوا تهمة دينية أخرى إلى أسبازيا مضمونها أنها لا تخضع لأوامر الدين، وإنها جهرت بعدم تعظيمها آلهة اليونان(29). وهجاها الشعراء الهزليون هجاءً قاسياً ووصفوها بأنها ديانيرا Deianeira التي أهلكت بركليز وأطلقوا عليها بلغة يونانية صريحة اسم العاهر، واتهمها واحد منهم يدعى هرمبوس Hermippus بأنها تعمل لكسب المال من طريق غير شريف، ذلك بأنها قوادة لبركليز، تأتي إليه بالحرائر ليستمتع بهن(30)، وقدمت للمحاكمة ونظرت قضيتها أمام ألف وخمسمائة من القضاة، ودافع عنها بركليز دفاعاً مجيداً استخدم فيه كل ما وهب من بلاغة، بل إنه استخدم فيه دموعه نفسها، ورفضت الدعوة. وبدأ بركليز من ذلك الوقت (432) يفقد سيطرته على الشعب الأثيني، ولما وافته منيته بعد ثلاثة سنين من ذلك الوقت كان قد أصبح رجلاً مهدماً كسير القلب والجسم.



 صفحة رقم : 2086   



قصة الحضارة -> حياة اليونان -> العصر الذهبي -> بركليز والتجربة الدمقراطية -> الدمقراطية الأثينية -> المناقشات


الفصل الثالث



الديمقراطية الأثينية



1- المناقشات


حسبنا هذه التهم العجيبة شاهداً على أن الدمقراطية الضيقة التي كانت قائمة تحت سلطان دكتاتورية بركليز المزعومة كانت دمقراطية حقة. ومن واجبنا أن ندرس هذه الدمقراطية بعناية لأنها تجربة من أبرز التجارب في تاريخ الحكم. ولقد كان يحد منها أولاً أن أقلية صغيرة من الأهلين كانت هي التي تستطيع القراءة، ويحد منها من الوجهة الطبيعية صعوبة الوصول إلى أثينة من المدن القاصية في أتكا. هذا إلى أن حق الانتخاب كان مقصوراً على من ولد من أبوين أثينيين حُرَّين، وبلغ الحادية والعشرين من العمر. وكان هؤلاء وأسرهم دون غيرهم هم الذين يستمتعون بالحقوق المدنية أو يتحملون مباشرة أعباء الدولة الحربية والمالية. وفي داخل محيط هذه الدائرة التي تضم 000ر43 من المواطنين يحرصون على ألا تشمل غيرهم من سكان أتكا البالغين 000ر315، كانت السلطة السياسية في عصر بركليز موزعة من الناحية الشكلية توزيعاً متكافئاً، فكان كل مواطن يستمتع، ويصر على أن يستمتع، بكل ما يستمتع به غيره من حقوق أمام القانون وفي الجمعية الوطنية. ولم يكن "المواطن" في نظر الأثيني هو الذي يقترع فحسب، بل كان هو الذي يشغل بالقرعة إذا جاء دوره على مر الأيام منصب الحاكم أو القاضي، ويجب أن يكون حراً، مستعداً لخدمة الدولة حين تناديه، وقادراً على خدمتها. ولا يخفى أنه ليس في مقدور إنسان خاضع لغيره، أو مضطر إلى الكدح ليحصل على قوته، أن يجد من الوقت أو من المقدرة ما يمكنه من



 صفحة رقم : 2087   



قصة الحضارة -> حياة اليونان -> العصر الذهبي -> بركليز والتجربة الدمقراطية -> الدمقراطية الأثينية -> المناقشات


أداء هذه الخدمات؛ ومن أجل هذا كان يبدو لمعظم الأثينيين أن الذي يعمل بيديه غير صالح لأن يكون مواطناً أثينياً، وإن كانت هذه الكثرة تناقض نفسها فتعترف بهذا الحق للفلاح الذي يزرع أرضه. وكان أرقاء أتكا جميعهم البالغ عددهم 000ر115، وجميع النساء، وجميع العمال، وجميع المستوطنين الغرباء البالغ عددهم 000ر28، وعدد كبير من طبقة التجار، كان هؤلاء كلهم تبعاً لهذا محرومين من الحقوق السياسية . أما من كان لهم هذا الحق فلم يكونوا يجتمعون في أحزاب سياسية، بل كانوا يقسمون تقسيماً غير دقيق إلى أنصار الألجركية أو أنصار الدمقراطية على أساس ميلهم إلى توسيع الحقوق السياسية أو تضييقها، ونظرتهم إلى سيطرة الجمعية، وإعانة الحكومة للفقراء من أموال الأغنياء. وكان أنشط الأعضاء في كلتا الجماعتين ينتظمون في نواد تسمى مجتمعات الرفقاء hetaireiai وكان في أثينة نواد من جميع الأنواع - نواد سياسية، ونواد للأقرباء، ونواد عسكرية، ونواد للصناع، ونواد للممثلين، ونواد دينية، ونواد تجهر بأن همها هو الأكل والشرب. وكانت أقوى هذه النوادي هي النوادي الألجركية التي يتعهد أعضاؤها بأن يساعد بعضهم بعضاً في الشئون السياسية والقانونية، وتربطهم بعضهم ببعض رابطة العداوة المشتركة الشديدة للطبقات الدنيا التي نالت حقوقها السياسية، والتي أخذت تنافس طبقتي الأشراف مُلاك الأراضي والتجار أصحاب المال(31). وفي وجه هذا الحزب الألجركي يقف الحزب الدمقراطي إلى حد ما حزب صغار رجال الأعمال، والمواطنين الذين أصبحوا أجراء، وأولئك الرجال الذين يعملون بحارة على ظهور السفن التجارية والأسطول الأثيني. وكان



 صفحة رقم : 2088   



قصة الحضارة -> حياة اليونان -> العصر الذهبي -> بركليز والتجربة الدمقراطية -> الدمقراطية الأثينية -> المناقشات


هؤلاء كلهم يبغضون ترف الأغنياء وامتيازاتهم، ويرفعون إلى مصاف الزعامة في أثينة رجالاً من أمثال كليون Cleon دابغ الجلود، ولسكليز Lysicles بائع الأغنام، ويكراتيز Eucrates بائع حبال السفن، وكليوفون Cleopehon صانع القيثارات، وهيبربولس صانع المصابيح. وأفلح بركليز مدى جيل كامل في إبعاد هذا الحزب عن الحكم بسياسته التي كانت مزيجاً من الدمقراطية والأرستقراطية، فلما مات ورث الحزب الحكم واستمتع كل الاستمتاع بمستلزماته. وظل النزاع المرير قائماً بين الألجركيين والدمقراطيين من أيام صولون إلى أيام الفتح الروماني عن طريق الخطابة والاقتراع والنفي والاغتيال والحرب الأهلية الداخلية. وكان كل ناخب يعد بهذا الوصف عضواً في الهيئة الحاكمة الأساسية - وهي الإكليزيا أو الجمعية. وعند هذا الحد من الحكم لم تكن هناك حكومة نيابية. وإذ كان الانتقال فوق تلال أتكا من أشق الأمور فلم يكن يحضر أي اجتماع من اجتماعاتها إلا عدد قليل من أعضائها، قلما كان يزيد على ألفين أو ثلاثة آلاف، وكان المواطنون الذين يعيشون في أثينة أو في ثغرها بيرية يحضرون وكأنهم مصممون على أن يكون موطنهم هو المسيطر على الجمعية؛ وكان الدمقراطيون بهذه الطريقة يتفوقون على المحافظين لأن كثرة هؤلاء كانت مشتتة في مزارع أتكا وضياعها. وكانت الجمعية تعقد جلساتها أربع مرات في الشهر، تعقدها في المناسبات الهامة في السوق العامة، أو في ملهى ديونيسس، أو في ثغر بيرية. أما الجلسات العادية فكانت تعقد في مكان نصف دائري يدعى البنيكس Pnyx على منحدر تل غرب الأريوبجوس؛ وكان الأعضاء في هذه الحالات كلها يجلسون على مقاعد مكشوفة للسماء وتبدأ الجلسات عند مطلع الفجر، ويفتتح كل دور اجتماع بالتضحية بخنزير إلى زيوس. وقد جرت العادة أن تؤجل الجلسات على الفور إذا ثارت عاصفة أو حدث زلزال أو خسوف أو كسوف، لأن هذه الظواهر كانت في رأيهم أدلة على غضب الآلهة. ولم يكن



 صفحة رقم : 2089   



قصة الحضارة -> حياة اليونان -> العصر الذهبي -> بركليز والتجربة الدمقراطية -> الدمقراطية الأثينية -> المناقشات


يصح عرض تشريعات جديدة إلا في الجلسة الأولى في كل شهر؛ وكان العضو الذي يقترحها هو الذي يعمل على قبولها. فإذا تبين بعدئذ أن هذه الشرائع شديدة الضرر كان من حق أي عضو آخر أن يلجأ في خلال عام من قبولها إلى ما يسمى قرار عدم الشرعية Graphe Paranomon، فيطلب أن تفرض على صاحب التشريع غرامة أو أن يُحرم من حقوقه السياسية أو يُعدم. وكانت هذه هي الطريقة التي تتبعها أثينة لمنع العجلة في التشريع. وكان لقرار عدم الشرعية هذا صيغة أخرى تجعل من حق الجمعية أن تعرض أي تشريع جديد قبل البت فيه على إحدى المحاكم لتبحثه من الناحية الدستورية, أي من ناحية اتفاقه مع القوانين القائمة المعمول بها في البلاد(32). هذا إلى أنه كان على الجمعية قبل النظر في مشروع قانون أن تعرضه على مجلس الخمسمائة ليبحثه أولا, كما يُعرض أي مشروع قانون يُقدم إلى مجلس الأمة الأمريكي في هذه الأيام قبل بحثه في المجلس على لجنة يفترض فيها أنها ذات علم خاص بموضوع المشروع وكفاية خاصة لبحثه. ولم يكن من حق مجلس الخمسمائة أن يرفض الاقتراح رفضاً باتاً, بل كان كل ما يستطيعه أن يقدم تقريراً عنه مصحوباً بتوصية بقبوله أو غير مصحوب بها. وكان المعتاد أن يفتتح رئيس الجمعية دور انعقادها بعرض تقرير عن مشروع مقدم لها. وكانت الجمعية تستمع إلى من يطلبون الكلام حسب سنهم؛ ولكن كان يجوز حرمان أي عضو من مخاطبة الجمعية إذا ثبت أنه لا يملك أرضاً، أو أنه غير متزوج زواجاً شرعياً، أو أهمل في القيام بواجبه نحو أبويه، أو أساء إلى الأخلاق العامة، أو تهرب من القيام بالواجبات العسكرية، أو ألقى درعه في إحدى المعارك الحربية، أو أنه مدين للدولة بضريبة أو غيرها من المال(33). غير أن الخطباء المدربين وحدهم هم الذين كانوا يستخدمون حق الكلام لأنه لم يكن من السهل حمل الجمعية على الإصغاء للمتكلمين. فقد كانت تضحك من الخطأ في نطق الألفاظ، وتحتج بصوت عالٍ على الخروج



 صفحة رقم : 2090   



قصة الحضارة -> حياة اليونان -> العصر الذهبي -> بركليز والتجربة الدمقراطية -> الدمقراطية الأثينية -> المناقشات


عن موضوع النقاش، وتعبر عن موافقتها بالصراخ الشديد، والصفير، والتصفيق باليدين، وعن عدم موافقتها التامة بإحداث جلبة شديدة تضطر المتكلم إلى النزول عن المنصة(34). وكان يحدد لكل متكلم وقت معين لا يتجاوزه يقاس مداه بساعة مائية(35). وكانت طريقة الاقتراع هي رفع الأيدي، إلا إذا كان للاقتراح المعروض أثر خاص مباشر في شخص ما، وفي هذه الحال يكون الاقتراع سرياً. وكان من حق المقترع أن يؤيد تقرير المجلس على المشروع المعروض أو يعارضه أو يطلب تعديله، وكان قرار الجمعية في هذا نهائياً. وكانت القرارات التي توجب العمل العاجل، وهي التي تختلف عن القوانين، تمر أسرع من القوانين الجديدة، ولكن هذه القرارات كان يمكن أيضاً إلغاؤها بمثل هذه السرعة نفسها، فلا تتضمنها كتب القوانين الأثينية. وكانت هناك هيئة أعظم من الجمعية منزلة ولكنها أقل منها سلطاناً، وهي هيئة المجلس المعروف باسم البول Boule. وكان البول في أصله مجلساً أعلى شبيهاً بمجالس الشيوخ في الحكومات النيابية، ولكن منزلته انحطت قبل عصر بركليز حتى أصبح لجنة تشريعية تابعة للإكليزيا. وكان أعضاؤه يُختارون بالقرعة وبالدور من سجل المواطنين، على أن يختار خمسون منهم عن كل قبيلة من القبائل العشر، وألا تطول مدة خدمتهم أكثر من سنة واحدة؛ وكان العضو في القرن الرابع يتقاضى خمس أبولات في كل يوم من أيام انعقاد المجلس. وإذ كان من المقرر ألا يعاد انتخاب أي عضو إلا بعد أن تتاح لكل عضو آخر صالح للانتخاب فرصة العمل في المجلس، فإن كل مواطن في الظروف العادية، كان يجلس في البول دورة على الأقل في أثناء حياته. وكان يعقد جلساته في قاعة المجلس (البولتريون Bouleuterion) في الجهة الجنوبية من ساحة المدينة، وكانت جلساته العادية علنية واختصاصاته تشريعية، وتنفيذية، واستشارية: فكان يفحص عن مشروعات القوانين



 صفحة رقم : 2091   



قصة الحضارة -> حياة اليونان -> العصر الذهبي -> بركليز والتجربة الدمقراطية -> الدمقراطية الأثينية -> المناقشات


المعروضة على الجمعية ويعدل صياغتها، ويشرف على أعمال موظفي المدينة الدينيين والإداريين، ويراقب حساباتهم، ويشرف على الأموال والمشروعات والمباني العامة، ويصدر مراسيم تنفيذية حين يتطلب العمل إصدارها وتكون الجمعية غير منعقدة، ويسيطر على شئون الدولة الخارجية، على أن تُراجع الجمعية أعماله من هذه الناحية فيما بعد. ولكي يؤدي المجلس هذه الواجبات المختلفة كان يقسم نفسه إلى عشر لجان تتألف كل منها من خمسين عضواً، وترأس كل لجنة المجلس والجمعية شهراً طوله ستة وثلاثون يوماً. وكانت هذه اللجنة صاحبة الرياسة تختار في كل صباح عضواً من أعضائها ليكون رئيساً لها وللمجلس في ذلك اليوم، ومن ثم كان هذا المنصب وهو أعلى منصب في الدولة مفتوحاً أمام كل مواطن حين يأتي دوره في القرعة؛ وكان لأثينة ثلاثمائة من هؤلاء الرؤساء في العام. وكانت القرعة هي التي تحدد في آخر لحظة أية لجنة ترأس المجلس في أثناء الشهر، وأي عضو في اللجنة يرأسه في أثناء اليوم. وكان الأثينيون الفاسدون المرتشون يرجون أن يستطيعوا بهذه الطريقة أن يقللوا تطرق الفساد إلى العدالة إلى أصغر حد تستطيع الأخلاق البشرية أن تصل إليه. وكانت اللجنة ذات الرياسة تعد جدول الأعمال، وتدعو المجلس إلى الانعقاد، وتصوغ القرارات التي يصدرها المجلس في أثناء اليوم. وعلى هذا النحو كانت الدمقراطية الأثينية تؤدي وظائفها التشريعية عن طريق الجمعية والمجلس واللجنة. أما الأريوبجوس فكانت اختصاصاته في القرن الخامس مقصورة على النظر في قضايا الحريق العمد، والاغتصاب المتعمد، والتسميم والقتل مع سبق الإصرار. وتغيرت شرائع اليونان تغيراً بطيئاً من شرائع مفروضة إلى شرائع تعاقدية، ومن هوى فرد واحد أو أمر طبقة من الناس ضيقة محدودة العدد إلى اتفاق بين مواطنين أحرار يسبقه جدل ونقاش.



 صفحة رقم : 2092   



قصة الحضارة -> حياة اليونان -> العصر الذهبي -> بركليز والتجربة الدمقراطية -> الدمقراطية الأثينية -> القوانين


2- القوانين


يبدو أن القوانين كانت في نظر اليونان الأقدمين عادات مقدسة ارتضتها الآلهة وأوحت بها؛ وكانت لفظة ثميس Themis في لغتهم تطلق على هذه العادات وعلى الآلهة التي يتمثل فيها نظام العالم الأخلاقي وائتلافه (كما يتمثل في الدو أو التين الصيني، وفي رينا الهندية). وكان القانون عندهم جزءاً من الدين، وشاهد ذلك أن أقدم قوانين الملكية عند اليونان كانت ممتزجة بالطقوس الدينية وبقوانين المعابد القديمة(36). ولعل القواعد التي قررتها مراسيم شيوخ القبائل أو الملوك، والتي بدأت بوصفها أوامر تفرضها القوة وانتهت بأن صارت على توالي الأيام تعاقداً وتراضياً بين الحاكمين والمحكومين، نقول لعل هذه القواعد كانت هي الأخرى قديمة قدم هذه القوانين الدينية. وكانت المرحلة الثانية من مراحل تاريخ التشريع اليوناني هي جمع العادات المقدسة وتنسيقها على يد مشترعين Thesmothetai أمثال زلولسوس Zaleucus وكرونداس Chronodas، ودراكون Drako وصولون. ولما أن دوّن هؤلاء الرجال وأمثالهم قوانينهم الجديدة أصبحت العادات المقدسة Thesmoi قوانين من وضع الإنسان Nomoi . وفي هذه الكتب القانونية تحرر القانون من سيطرة الدين وازدادت على توالي الأيام صبغته الدنيوية، وأصبحت نية الفاعل ذات شأن



 صفحة رقم : 2093   



قصة الحضارة -> حياة اليونان -> العصر الذهبي -> بركليز والتجربة الدمقراطية -> الدمقراطية الأثينية -> القوانين


كبير في الحكم على فعله، وحلت التبعة الفردية محل الالتزامات العائلية، واستبدل بالانتقام الفردي العقاب القانوني على يد الدولة(37). وكانت الخطوة الثالثة في تطور التشريع اليوناني هي نمو الشرائع المطرد وتجمعها. ذلك أن اليوناني إذا تحدث في أيام بركليز عن قوانين أثينية كان يقصد بهذه القوانين شرائع دراكون وصولون والقرارات التي أصدرتها الجمعية والمجلس ولم تُلغ بعد صدورها؛ وإذا تعارض قانون جديد مع قانون قديم، استلزم هذا إلغاء القانون القديم. ولكن البحث عن هذا التناقض وتقصي القوانين المتعارضة قلما كانا بحثاً وتقصياً كاملين، ومن أجل هذا نجد في بعض الأحيان قانونين متعارضين تعارضاً مضحكاً. وكان يحدث في أوقات الارتباكات التشريعية الشاذة أن تختار بطريق القرعة من المحاكم الشعبية لجنة من مقرري القوانين Nomethetai لتقرر أي القوانين يجب الإبقاء عليها وأيها يجب إلغاؤها. ويعين في هذه الحال محامون ليدافعوا عن القوانين القديمة ضد من يقترحون إلغاءها. وقد نُقشت شرائع أثينية بإشراف أولئك المقررين على ألواح من الحجارة في "باب الملك" بعد أن صيغت في عبارات بسيطة سهلة الفهم، وبهذه الطريقة لم يكن يسمح لأي حاكم أن يفصل في مسألة بالاستناد إلى قانون غير مكتوب. والتشريع الأثيني لا يفرق بين القانون المدني والقانون الجنائي إلا في أنه يحتفظ للأريوبجوس بحق الفصل في جرائم القتل، وفي أنه يترك المدعي في القضايا المدنية أن يتولى بنفسه تنفيذ قرار المحكمة، فلا تتقدم الدولة لمعونته إلا إذا لقي في هذا التنفيذ مقاومة(38). وكان القتل قليل الحدوث لأنه يعد خطيئة دينية وجريمة قانونية في وقت واحد، ولأن الخوف من الانتقام يظل قائماً إذا عجز القانون عن الاقتصاص من القاتل. وقد بقي القصاص المباشر حتى القرن الخامس قبل الميلاد مباحاً في أحوال خاصة، من ذلك أن الرجل إذا وجد أمه أو زوجته، أو محظيته، أو أخته، أو ابنته ترتكب الفحشاء كان من حقه أن يقتل من



 صفحة رقم : 2094   



قصة الحضارة -> حياة اليونان -> العصر الذهبي -> بركليز والتجربة الدمقراطية -> الدمقراطية الأثينية -> القوانين


يرتكبها معها من الرجال على الفور(39).وكان يجب التكفير عن جريمة القتل سواء ارتكبت بقصد أو بغير قصد لأنها عندهم تدنيس لأرض المدينة؛ وكانت مراسيم التطهير معقدة صارمة صرامة مؤلمة. وإذا ما عفا القتيل قبل موته عن قاتله، لم يكن يجوز تقديم القاتل للقضاء. وكانت هناك تحت الأريوبجوس ثلاث محاكم للنظر في جرائم القتل، تختلف باختلاف طبقة القتيل وأصله، وباختلاف نوع الجريمة، هل كانت متعمدة أو غير متعمدة، وهل هي مما يجوز التسامح فيه أو لا يجوز. وكانت محكمة رابعة تنعقد في فريتس Phrcattys على الساحل لتحاكم الذين نفوا من قبل لارتكابهم جريمة القتل خطأ، ثم اتهموا بعدئذ بجريمة القتل المتعمد. ذلك أنهم وقد دُنـِّسوا بارتكاب الجريمة الأولى لا يسمح لهم بأن تطأ أقدامهم أرض أتكا، ولهذا يدافع المدافعون عنهم وهم في قارب بجوار شاطئ البحر. وقانون الملكية صارم لا هوادة فيه، فالتعاقد واجب التنفيذ؛ وكان يُطلب إلى القضاة أن يقسموا بأنهم "لن يطلبوا إلغاء الديون الخاصة، أو توزيع الأراضي أو المساكن التي يملكها الأثينيون". وكان كبير الأركونيين حين يتولى منصبه في كل عام يكلف منادياً بأن يؤذن في الناس أن "كل مالك سيبقى له ما يملك وسيظل صاحبه المطلق التصرف فيه"(41). وكان حق الوصية لا يزال مقيداً بقيود شديدة، فإذا كان للمالك أبناء ذكور، فإن الفكرة الدينية القديمة عن الملك، والتي تربطها بتسلسل الأسرة وبالعناية بأرواح السلف، تتطلب أن ينتقل هذا الملك من تلقاء نفسه إلى الأبناء الذكور؛ ذلك أن الولد إنما كان يحتفظ بالملك وديعة لديه للأموات من الأسرة والأحياء منها ولمن يولد من أبنائها. وكان الملك في أثينة يقسم بين الورثة الذكور، كما هي الحال في فرنسا إلى حد كبير، وكان أكبرهم سناً ينال نصيباً أكبر بعض الشيء من سائر الورثة(42)، ولم يكن الأثينيون كالإسبارطيين القدماء والإنكليز في هذه الأيام يبقون الملك من غير تقسيم ويعطونه أكبر الأبناء الذكور. وترى الزارع من عهد هزيود وبعده يحدد



 صفحة رقم : 2095   



قصة الحضارة -> حياة اليونان -> العصر الذهبي -> بركليز والتجربة الدمقراطية -> الدمقراطية الأثينية -> القوانين


عدد أبنائه كما يفعل الفرنسيون في هذه الأيام حتى لا تنقسم أملاكه بين أبنائه انقساماً يقضي عليها آخر الأمر(43)؛ ولم تكن للأرملة أن ترث ملك زوجها، بل كان كل ما تناله من هذا الملك أن تسترد بائنتها. وكانت الوصايا معقدة في أيام بركليز تعقدها في أيامنا هذه، وكانت تصاغ في لغة شبيهة إلى حد كبير بلغة هذه الأيام(44)؛ والتشريع اليوناني في هذا كما هو في غيره من المسائل، أساس التشريع الروماني الذي أصبح فيما بعد الأساس القانوني للمجتمع الغربي.



 صفحة رقم : 2096   



قصة الحضارة -> حياة اليونان -> العصر الذهبي -> بركليز والتجربة الدمقراطية -> الدمقراطية الأثينية -> القضاء


3- القضاء


إصلاح القضاء آخر ما تفعله الدمقراطية، ولقد كان أعظم إصلاح قام به إفيلتيز وبركليز هو نقل الحقوق القضائية التي كان يمارسها الأركونيون والأريوبجوس إلى الهيلية أي المحاكم الشعبية. وكان إنشاء هذه المحاكم هو الذي وهب أثينة ذلك النظام القضائي الذي أخذت عنه أوربا نظام المحلفين والذي عاد عليها بالخير العميم. وكانت الهيلية تتألف من ستة آلاف محلف يُختارون بالقرعة من سجل المواطنين. وكان هؤلاء الآلاف الستة يوزعون على عشرة سجلات يحتوي كل سجل على خمسمائة اسم تقريباً، ويُترك الباقون للمناصب التي تخلو أو للظروف العاجلة الطارئة. وكانت القضايا الصغرى أو المحلية يفصل فيها ثلاثون محلفاً يزورون مقاطعات أتكا في مواسم معينة. وإذا كان كل محلف لا يبقى في منصبه أكثر من عام واحد في كل مرة، وكان الانتخاب لهذه المناصب بالدور، فقد كان كل مواطن تُتاح له الفرصة في الغالب لأن يكون محلفاً مرة في كل ثلاث سنين. ولم يكن مفروضاً عليه أن يؤدي هذا العمل، ولكن الأجر المقرر له وهو أوبلتان - ثم ثلاث أوبلات فيما بعد - كل يوم كان يجتذب



 صفحة رقم : 2097   



قصة الحضارة -> حياة اليونان -> العصر الذهبي -> بركليز والتجربة الدمقراطية -> الدمقراطية الأثينية -> القضاء


نحو مائتي محلف أو ثلاثمائة في كل دور. أما القضايا الهامة كقضية سقراط مثلاً، فكانت تنظرها محاكم ضخمة مؤلفة من ألف ومائتي رجل. ولكي ينقص الأثينيون الرشوة والفساد في القضاء إلى الحد الأدنى كان أعضاء المحكمة الذين يوكل إليهم النظر في قضية ما يُختارون بطريق القرعة في آخر لحظة، وإذا كانت معظم القضايا لا يطول النظر فيها أكثر من يوم واحد، فإنا لا نسمع كثيراً عن الرشوة في المحاكم؛ ذلك أن الأثينيين أنفسهم كانوا يجدون صعوبة في إرشاء ثلاثمائة رجل في لحظة واحدة. وكانت القضايا تتراكم في أثينة على الرغم من سرعة إجراءاتها، شأنها في هذا شأن المحاكم في جميع أنحاء العالم، وسبب ذلك أن الأثينيين كانوا كثيري التقاضي ولكي يقللوا من هذه الحمى كانوا يختارون محكمين بطريق القرعة من بين سجلات أسماء المواطنين الذين بلغوا سن الستين، وكان الطرفان المتنازعان يعرضان نزاعهما وأوجه دفاعهما على أحد هؤلاء المحكمين، يُختار كالقضاة بطريق القرعة في اللحظة الأخيرة. وكان كل طرف يؤدي إليه أجراً قليلاً؛ فإذا عجز عن الصلح بينهما فصل في النزاع بعد أن يحلف اليمين. وكان لكلا الطرفين بعدئذ أن يستأنف الحكم إلى المحاكم، ولكنها كانت ترفض عادة القضايا الصغرى التي عرضت للتحكيم. فإذا قبلت المحكمة أن تنظر في القضية كتب كلا الطرفين حجته وأقسم اليمين على صحتها، وكتب الشهود شهادتهم وأقسموا بأنهم صادقون، ثم تُقدم كل هذه الأقوال مكتوبة إلى المحكمة. وكانت توضع في صندوق خاص وتُختم، ويُفتح الصندوق بعد وقت ما وتُبحث القضية، وتصدر الحكم فيها هيئة تُختار بالقرعة. ولم يكن عند الأثينيين مدع عمومي، فقد كانت الحكومة تعتمد على المواطنين أن يَتَّهموا أمام المحاكم كل من يرتكب جريمة خطيرة ضد الأخلاق العامة أو الدولة. ومن هنا نشأت طائفة من "النمامين" دينهم وعملهم اتهام الناس، وقد تطورت مهنتهم هذه على أيديهم حتى أصبحت فناً من فنون اغتصاب أموال الناس لكف الأذى



 صفحة رقم : 2098   



قصة الحضارة -> حياة اليونان -> العصر الذهبي -> بركليز والتجربة الدمقراطية -> الدمقراطية الأثينية -> القضاء


عنهم. وكانوا في القرن الرابع يكسبون المال الكثير برفع القضايا - أو على الأصح بالتهديد برفعها - على الأغنياء لاعتقادهم أن المحاكم الشعبية لا تميل إلى تبرئة من يستطيعون أداء الغرامات الكبيرة . وكانت نفقات المحاكم تغطيها في الغالب الغرامات التي تفرض على من يدانون من المتقاضين. كذلك كان يُحكم بالغرامة على من يعجزون من المدعين عن إثبات ما يوجهون من التهم إلى خصومهم؛ فإذا لم ينالوا خمسة على الأقل من أصوات القضاة كانوا عرضة لأن يُحكم عليهم بالضرب بالسياط أو بغرامة كبيرة تبلغ ألف دراخمة (نحو ألف ريال أمريكي). وكان كل طرف من المتقاضـين يدافع بنفسه عن قضيته، وكان عليه أن يعرض بنفسه قضيته للمرة الأولى. فلما أن تعقدت الإجراءات القضائية، وتبين المتقاضون تأثر القضاة بعض الشيء ببلاغة الألفاظ، نشأت عادة استخدام خطيب أو رجل بليغ متضلع في القانون، يؤيد المدعي أو المدعى عليه، أو يُحضّر باسم من يستخدمه وبالنيابة عنه خطبة يستطيع المتقاضي نفسه أن يقرأها أمام المحكمة، ومن هؤلاء المدافعين البلغاء نشأ المحامون. وفي وسعنا أن نتبين قدم المحاماة في بلاد اليونان من عبارة في أقوال ديوجين ليرتيوس Diogenes Laertius وهي أن باياس Bias، حكيم بريني Priene كان محامياً بليغاً في القضايا، وأنه كان على الدوام يحتفظ بمواهبه لمن كان الحق في جانبه. وكانت المحاكم تستخدم بعض هؤلاء المحامين ليشرحوا لها القانون Exegetai، وذلك لأن الكثير من القضاة لم يكونوا أكثر علماً بالقوانين من المتقاضين أنفسهم. وكانت الأدلة تُقدم عادةً مكتوبة، ولكن كان على الشاهد أن يَحضُر بنفسه ويقسم بأن ما يشهد به صحيح دقيق حين يتلو كاتب الجلسة أو الجراماتيوس



 صفحة رقم : 2099   



قصة الحضارة -> حياة اليونان -> العصر الذهبي -> بركليز والتجربة الدمقراطية -> الدمقراطية الأثينية -> القضاء


Grammateus شهادته على القضاة. ولم يكن الشهود يناقشون، وكانت شهادات الزور كثيرة إلى حد يجعل المحكمة في بعض الأحيان تقضي بما يناقض الشهادة التي أقسم الشاهد على صدقها. ولم تكن شهادة النساء والقاصرين تقبل إلا في قضايا القتل، أما الأرقاء فلم تكن تُقبل شهاداتهم إلا إذا انتزعت منهم بالتعذيب، فقد كان من المسلم به عند الأثينيين أنهم سيكذبون إذا نجوا من التعذيب. وتلك وصمة في جبين الشرائع اليونانية ووحشية شاءت الأقدار أن تزداد قسوة في السجون الرومانية، وفي حجرات محاكم التفتيش، ولعلها لا تقل عما يحدث في الحجرات السرية التابعة لمحاكم الشرطة في وقتنا الحاضر. وكان تعذيب المواطنين محرماً في عصر بركليز، وكان كثيرون من ملاك الرقيق لا يسمحون أن يستخدم أرقاؤهم شهوداً في القضايا ولو كانت قضاياهم هم أنفسهم، وكان الحكم فيها لمصلحتهم موقوفاً على أداء شهادتهم. وكانوا يلزمون من يتسبب في إحداث عاهة مستديمة لأحد الأرقاء بتعويضه عنها(46). وكانت العقوبات المقررة هي الضرب، والغرامة، والحرمان من الحقوق السياسية، والكي بالنار، ومصادرة الأموال، والنفي، والإعدام، وقلما كان المذنبون يعاقبون بالسجن، وكان من المبادئ المقررة في القانون اليوناني أن يعاقب العبد في جسمه، وأن يعاقب الحر في ماله، ونرى في رسم على إحدى المزهريات عبداً معلقاً من ذراعيه وساقيه يُضرب بالسياط ضرباً خالياً من الرحمة(47).وكانت الغرامات هي العقوبة التي تفرض عادةً على المواطنين. وكانت تقدر بدرجات تعرض الدمقراطية الأثينية لأن تُتهم بأنها كانت تملأ خزائنها بالمال عن طريق الأحكام الظالمة. على أنه كان يسمح في كثير من الحالات للمحكوم عليه هو وصاحب الحق أن يقدرا بأنفسهما الغرامة أو العقوبة اللتين يريان أنهما عادلتان، ثم تختار المحكمة إحدى العقوبتين المقترحتين؛ وكان القتل، وانتهاك حرمة المعابد، وخيانة الوطن، وبعض الجرائم التي تبدو في نظرنا جرائم صغيرة،



 صفحة رقم : 2100   



قصة الحضارة -> حياة اليونان -> العصر الذهبي -> بركليز والتجربة الدمقراطية -> الدمقراطية الأثينية -> القضاء


يعاقب عليها بمصادرة الأموال والإعدام معاً؛ ولكن كان من المستطاع عادةً تجنب الحكم بالإعدام قبل صدوره، بالنفي الاختياري وترك الأملاك. وإذا رأى المتهم أن الهرب يزري به، وكان مواطناً، نُفذ فيه الإعدام بأقل الوسائل إيلاماً له، وذلك بأن يقدم له عصير الشوكران، وهو العقار الذي يخدر الجسم تدريجا ابتداءً من القدمين إلى أعلى أجزاء الجسم، ثم يقضي على من يتعاطاه حين يصل إلى قلبه. أما الأرقاء فقد كانت عقوبة الإعدام تنفذ فيهم أحياناً بالضرب الوحشي(48). وكان يحدث أحياناً أن يُلقى المحكوم عليه قبل إعدامه أو بعده من فوق صخرة عالية إلى حفرة تعرف عندهم باسم البرثرون Barathron. وإذا ما صدر الحكم بإعدام قاتل نفذ بحضور أقارب المقتول استجابةً لعادة الانتقام القديمة في مظهرها وروحها. ولم تبلغ الشرائع الأثينية ما كنا نتوقعه لها من الاستنارة، وهي لا تسمو كثيراً عن شرائع حمورابي؛ وعيبها الأساسي أنها تُقصر الحقوق القانونية على الأحرار الذين لا يكادون يتجاوزون سبع السكان، وحتى النساء والأطفال كانوا خارجين عن نطاق المواطنين أصحاب الحقوق. ولم يكن في وسع النزلاء، أو الأجانب، أو الأرقاء أن يرفعوا الدعاوى إلى المحاكم إلا عن طريق مواطن يأخذهم في كنفه. وكان ابتزاز المال بطريق الإرهاب، وتعذيب العبيد المتكرر، والحكم بالإعدام في كثير من الجرائم الصغرى، والشتائم الشخصية في المناقشات القضائية، وتشتت التبعة القضائية وإضعافها بسبب هذا التشتت، وتأثر المحلفين بالبلاغة الخطابية، وعجزهم عن الحد من انفعال الساعة بعلمهم بماضي القضية وتقديرهم الحكيم لنتائجها المستقبلية، كان هذا كله وصمة لنظام أثينة القضائي، الذي كانت تحسدها عليه سائر بلاد اليونان للينه وعدالته إذا قيس إلى غيره من النظم القضائية، والذي كان نظاماً عملياً موثوقاً به إلى حد أمكنه أن يبسط حمايته على الحياة وعلى الأملاك، وهي الحماية التي لا غنى عنها للنشاط الاقتصادي والرقي الأخلاقي. وفي وسعنا أن نقدر ما كان للقانون الأثيني من شأن عظيم إذا عرفنا



 صفحة رقم : 2101   



قصة الحضارة -> حياة اليونان -> العصر الذهبي -> بركليز والتجربة الدمقراطية -> الدمقراطية الأثينية -> القضاء


ما كان يشعر به كل أثيني تقريباً من احترام عظيم له؛ فقد كان القانون في اعتقاده هو روح المدينة، ومصدر سعادتها وقوتها. وخير ما نحكم به على شرائع أثينة هو تهافت غيرها من دول اليونان على استعارة الجزء الأكبر منها، وفي ذلك يقول إيسقراط Isocrates: "ليس ثم من ينكر أن شرائعنا مصدر كثير من الخير العظيم في حياة البشرية" (49). ففي أثينة نجد للمرة الأولى في التاريخ حكم القوانين لا حكم الناس. وقد ظل القانون الأثيني منتشراً في جميع أنحاء الإمبراطورية الأثينية التي يبلغ عمرها مليونين من الأنفس ما دامت هذه الإمبراطورية قائمة، أما في خارج دائرة هذه الإمبراطورية فلم يكن لبلاد اليونان نظام قضائي واحد تخضع له بأجمعها؛ وإن الصورة التي تنطبع في أذهاننا عن القانون الدولي في أثينة القرن الخامس لتبلغ من الضعف ما تبلغه صورة هذا القانون في عالم هذه الأيام. لكن التجارة الخارجية تتطلب بعض الأنظمة القانونية. ويقول دمستين إن المعاهدات التجارية قد بلغت في أيامه درجة من الكثرة أصبحت معها القوانين التي تخضع لها المنازعات التجارية "واحدة في كل مكان"(50).وكانت هذه المعاهدات تنص على التمثيل القنصلي، وتضمن تنفيذ العقود، وتجعل الأحكام الصادرة في إحدى الدول الموقعة على المعاهدة نافذة في سائر الدول الموقعة عليها(51). على أن هذا لم يقضِ على القرصنة، فقد كانت تنتشر إذا ما ضعُفَ الأسطول المسيطر على البحار، أو تراخى في مراقبتها. ولقد كانت هذه اليقظة الخارجية الثمن الذي يشتري به الأهلون الأمن والنظام والحرية جميعاً؛ وكانت الفوضى رابضة كالذئب حول كل دولة مستقرة، تتربص بها، وتترقب ثغرة من الضعف تنفذ منها إليها. وكانت بعض الدول اليونانية ترى أن من حق المدينة أن توجه الحملات لتنهب أملاك غيرها من المدن وأهليها، إذا لم تكن ثمة معاهدة تنص صراحة على تحريم هذه الحملات(52). وقد أفلح الدين في تحريم الاعتداء على الهياكل ما لم تتخذ قواعد حربية، وفي



 صفحة رقم : 2102   



قصة الحضارة -> حياة اليونان -> العصر الذهبي -> بركليز والتجربة الدمقراطية -> الدمقراطية الأثينية -> القضاء


حماية الوفود والحجاج الذاهبين إلى مشاهدة الأعياد اليونانية الجامعة، وفي فرض صدور إعلان رسمي بالحرب قبل بدء القتال، وفي قبول الهدنة إذا طلبها أحد الطرفين المتقاتلين لإعادة من يُقتلون في المعارك إلى بلادهم ودفنهم. وكانت الأسلحة المسمومة لا تستعمل بحكم العادة المألوفة، وكان الأسرى عادةً يُتبادلون أو يُفتدون، وكان الفداء المعترف به ميناءين - ثم أصبح ميناء واحدة (نحو مائة ريال أمريكي) - لكل أسير(53). وكانت المعاهدات كثيرة العدد، وكان المتعاهدون يُقسمون الأيمان المغلظة على احترام نصوصها، ولكنها كانت تخرق على الدوام تقريباً. وكانت المحالفات كثيرة، وكانت تؤدي أحياناً إلى إيجاد أحلاف دائمة، كحلف دلفي الاثني عشري (الأمفكتيوني) في القرن السادس، والحلفين الآخي والإيتولي في القرن الثالث. وكانت مدينتان في بعض الأحيان تجامل كلتاهما الأخرى بأن تمنح أحرار أختها حقوق المواطنين فيها. وكان التحكيم الدولي يحدث أحياناً، ولكن كان في وسع الطرفين المحتكمين أن يرفضا نتيجته أو يتجاهلاها. ولم يكن اليوناني يشعر بأي التزام أدبي نحو الأجانب أو بأي التزام قانوني إلا إذا كان بلداهما مرتبطين بمعاهدة، وكان هؤلاء في عرفه برابرة (Barbaroi) . ولم يكن اليونان يقصدون بذلك أنهم "همج". Barbarian بالمعنى الذي نفهمه نحن من هذا اللفظ بالضبط، بل كانوا يفهمون منه "الأجانب" أو الغرباء الذين يتكلمون لغة غريبة غير مألوفة. ولم ترقَ بلاد اليونان الرقي الذي تدرك به وجود قانون أخلاقي يشمل الجنس البشري بأكمله إلا على يد الفلاسفة الرواقيين في العصر الذي اصطبغت فيه بلاد الشرق الأدنى بالصبغة اليونانية العالمية.


4- النظام الإداري


حلت القرعة منذ عام 487 أو قبله محل الانتخاب في اختيار الأركونين، ذلك أنه كان لا بد من إيجاد طريقة ما لمنع الأغنياء أن يجدوا سبيلهم إلى هذا المنصب بالمال، ومنع السفلة أن يصلوا إليه بالملق والدهان. وأرادوا مع هذا ألا يجعلوا الاختيار وليد المصادفة المحضة، فكانوا يفرضون على جميع من تقع عليهم القرعة أن يجتازوا قبل القيام بواجباتهم اختباراً صارماً في الأخلاق (Dokimasia) أمام المجلس أو المحاكم. فكان على الطالب أن يثبت أنه من أبوين أثينيين، وأنه سليم من العيوب الجسمية والخلقية، يكرم أسلافه ويقوم بواجباته العسكرية، ويؤدي الضرائب كاملة. وكانت حياته كلها في هذه المناسبة عرضة للاتهام من أي مواطن. وما من شك في أن التعرض لهذين الفحص والاتهام كان يرهب أدنياء الناس غير الجديرين بهذا المنصب. فإذا اجتاز الأركون هذا الاختبار كان عليه أن يقسم بأنه سيضطلع بأعباء منصبه على خير وجه، وبأنه سيقدم للآلهة تمثالاً من الذهب بالحجم الطبيعي إذا قبل هدية أو رشوة(54) من أحد. على أن ما كان للمصادفة من أثر كبير في اختيار الأركونين التسعة ليدل على ما آل إليه هذا المنصب من الصغار بعد أيام صولون، فقد أصبحت اختصاصاته في الوقت الذي نتحدث عنه لا تعدو العمل الإداري الرتيب، ولم يكن الأركون باسليوس الذي ظل يحمل لقب الملك من غير أن يؤدي عمله أكثر من كبير الموظفين الدينيين في المدينة. وكان على الأركون أن يحصل على اقتراع بالثقة من الجمعية، وكان في وسع أي إنسان أن يعرض أعماله ويستأنف أحكامه إلى البول أو الهيلية؛ وكان في مقدور أي مواطن أن يتهمه بسوء استخدام سلطته، وإذا انتهت مدة توليه منصبه، بحثت أعماله الرسمية، وحساباته، ووثائقه،لجنة من الحاسبين مسئولة أمام المجلس، وكان معرضاً لأشد العقاب، الذي كان يصل أحياناً إلى الإعدام، إذا تبين أنه أساء العمل أيام توليه منصبه. أما إذا نجا من هذا الإرهاب الدمقراطي فإنه يصبح بعد انتهاء العام الذي تولى فيه منصبه عضواً في الأريوبجوس، ولكن هذه العضوية أضحت في القرن الخامس منصباً فخرياً عديم القيمة لأن هذه الهيئة فقدت وقتئذ كل ما كان لها من سلطان. ولم يكن الأركونون إلا هيئة من هيئات كثيرة تشترك كلها في تصريف شئون المدينة الإدارية تحت إشراف الجمعية والمجلس والمحاكم. ويذكر أرسطاطاليس خمساً وعشرين من هذه الهيئات المختلفة، ويقدر عدد الموظفين الإداريين في المدينة بسبعمائة موظف. وكان هؤلاء كلهم تقريباً يُختارون كل عام بطريق القرعة، ولم يكن في وسع أي إنسان أن يكون عضواً في لجنة بعينها أكثر من مرة واحدة، ولذلك كان كل مواطن يأمل أن يشغل منصباً كبيراً في المدينة عاماً على الأقل في أثناء حياته؛ ذلك أن أثينة لم تكن تؤمن بطريقة الحُكم على أيدي الخبراء الأخصائيين.

وكانت المناصب العسكرية أكثر أهمية في نظرهم من المناصب الدينية، ولذلك لم يكن القواد Strategoi العشرة يُختارون بالقرعة بل كانوا يُنتخبون انتخاباً علنياً في الجمعية، وإن كانوا هم أيضاً لا يبقون في مناصبهم أكثر من عام واحد، وإن كانوا عُرضة لأن يُفحص عن أعمالهم وأن يُعزلوا من مناصبهم في أي وقت من الأوقات. وكانت الكفاية لا حب الشعب هي السبيل إلى التقدم والرقي في هذه المناصب. وقد برهنت الأكليزيا في القرن الرابع على حسن إدراكها للأمور باختيارها فوشيون Phocion قائداً خمساً وأربعين مرة، على الرغم من أنه كان أبغض الناس للجمهور الأثيني، وأنه لم يكن يخفي احتقاره للجماهير. وزادت مهام القواد بازدياد العلاقات الدولية، حتى أصبحوا في أواخر القرن الخامس لا يشرفون على شئون الجيش والأسطول فحسب، بل صاروا هم الذين يفاوضون الدول الأجنبية ويشرفون على إيرادات المدينة ونفقاتها. ومن أجل هذا كان القائد الأعلى المعروف باسم الاسترتجوس أوتوكراتور Strategos Autokrator أقوى رجال الحكومة؛ وإذا كان من المستطاع انتخابه لهذا المنصب أعواماً متتالية، فقد كان في وسعه أن يخلع على سياسة الدولة استمراراً في الأهداف لم يكن دستورها ليمكنها منه لولا هذا المنصب الدائم. وبفضله استطاع بركليز أن يجعل أثينة مدى جيل كامل ملكية دمقراطية، حتى استطاع توكيديس أن يقول عن السياسة الأثينية إنها دمقراطية بالاسم ولكنها حكومة يسيطر عليها أعظم مواطن في المدينة. وكانت الخدمة في الجيش ملازمة لحق الانتخاب، فقد كان على كل مواطن أن يعمل في الجيش، وكان معرضاً حتى يبلغ الستين من عمره لأن يُجَنَّد للقتال في أية حرب تستعر نارها. ولكن الحياة الأثينية لم تكن حياة عسكرية، فلم يكن هناك تدريب عسكري يستحق الذكر بعد الفترة الأولى التي يقضيها الشاب في هذا التدريب، ولم يكن فيها اختيال بالحلل الرسمية أو تدخل من قبل الجند في أعمال السكان المدنيين. وكان الجيش في الميدان يتألف من فرق المشاة الخفيفة، وكانت كثرتهم من المواطنين الفقراء، يحملون الرماح والمقاليع؛ وفرق المشاة الثقيلة أو الهبليت، وتتألف من المواطنين الأغنياء الذين تمكنهم مواردهم من شراء الدروع والتروس والحراب؛ ومن فرق الفرسان وتتألف من كبار الأغنياء ذوي الدروع والخوذ، حملة الرماح والسيوف. وكان اليونان يفوقون الآسيويين في النظام العسكري، ولعل ما أحرزوه من انتصارات عسكرية مجيدة يرجع إلى أنهم جمعوا إلى الطاعة في الميدان محافظتهم الشديدة على استقلالهم في الشؤون المدنية. غير أنه لم يكن عندهم مثل إباميننداس وفليب ما تستطيع أن تسميه علم حرب، أو معرفة بفنونها وحركاتها العسكرية. وكانت مدنهم مسورة في العادة، وكان الدفاع عند اليونان- كما هو عندنا اليوم- أعظم أثراً من الهجوم؛ ولولا هذا لما كانت للإنسان حضارة يستطيع تسجيلها. وكانت الجيوش المحاصرة تأتي بكتل خشبية ضخمة معلقة بسلاسل، يشدون بها الكتل إلى الوراء ثم يدفعونها نحو السور؛ وهذا هو كل ما حدث من التطور في آلات الحصار قبل عصر أرخميدس. أما الأسطول فكانت طريقة الاحتفاظ به أن يُختار في كل عام أربعمائة من الأغنياء امتيازهم الخاص أن يُجندوا بحّارة السفن، ويهيئوا السفينة ذات الثلاثة الصفوف من المجاديف بما يلزمها من أدوات تقدمها لهم الدولة، على أن يؤدوا هم نفقات بنائها وإنزالها في البحر والمحافظة عليها من العطب. وبهذه الطريقة كانت أثينة تحتفظ وقت السلم بأسطول مؤلف من نحو ستين سفينة(55). وكانت نفقات الجيش والأسطول تستنفذ الجزء الأكبر من مصروفات الدولة. وكانت مصادر الإيراد هي المكوس، وعوائد المرافئ، وضريبة مقدارها اثنان في المائة على الواردات والصادرات، وضريبة الفرضة ومقدارها اثنتا عشرة دراخمة على كل فرد من الأجانب، ونصف دراخمة على كل معتوق ورقيق، وضريبة العاهرات، وضريبة البيوع، والرخص، والغرامات، والأملاك المصادرة، والجزية التي تؤديها الولايات. وقد ألغت الدمقراطية الضريبة التي كانت مفروضة من قبل على الحاصلات الزراعية والتي استمدت منها أثينة مواردها في أيام بيسستراتس لأنها رأت أن هذه الضريبة تحط من كرامة الزراعة. وكانت جباية معظم الضرائب يناط بها الملتزمون يجمعونها لحساب الدولة ويحتفظون لأنفسهم بنصيب منها. وكانت الدولة تحصل على إيراد كبير من استغلال موارد البلاد المعدنية. وكانت في أثناء الأزمات تجبي ضريبة على رؤوس الأموال تختلف نسبتها باختلاف الأملاك. وقد جمع الأثينيون بهذه الطريقة في عام 428 مثلاً مائتي وزنة (تالنت) تبلغ قيمتها بنقود هذه الأيام مليون ريال أمريكي ومائتي ألف ريال لتسد بها نفقات حصار متليني. كذلك كان الأغنياء يُدعَون لأداء بعض الخدمات العامة Leiturgiai كتقديم ما يلزم من المعدات للسفراء الذاهبين في مهام إلى خارج البلاد، وإعداد بعض السفن للأسطول، أو أداء نفقات المسرحيات، أو المباريات الموسيقية، والألعاب. وكان بعض الأغنياء يتطوعون لأداء هذه "الخدمات"، ويُلزم الرأي العام غيرهم بأدائها. وكان مما يضاعف متاعب الأغنياء أن كان في وسع أي مواطن يُطلب إليه أداء إحدى هذه الخدمات العامة أن يفرضها هو نفسه على أي مواطن آخر أو أن يستبدل بها فريضته إذا أثبت أن هذا المواطن الآخر أغنى منه. وكان الحزب الدمقراطي كلما قوي سلطانه يجد مناسبات وأسباباً مطردة الزيادة لاستخدام هذه الوسيلة؛ وكان الماليون، والتجار، والصناع، وملاك الأراضي في أتكا في نظير هذا جادين في البحث عن أحسن الطرق لإخفاء ثروتهم والوقوف في وجه الجباة، وتدبير الثورات. وقد بلغت إيرادات أثينة في أيام بركليز نحو أربعمائة وزنه (000ر400ر2ريال أمريكي) في العام لا تدخل فيها هذه الهدايا والفرائض، ويضاف إليها ستمائة وزنة ترد من البلاد الخاضعة لها ومن أحلافها. وكان هذا الإيراد يُنفق من غير أن توضع له ميزانية توزِع بنوده وتخصصها لأبواب النفقات المختلفة. وقد زاد المتجمع في خزانة الدولة من الفرق بين الإيرادات والنفقات في أيام بركليز، وبفضل إدارته الاقتصادية الحكيمة، وبالرغم من نفقات الدولة الكثيرة التي لم يسبق لها مثيل، زاد هذا المتجمع زيادة مطردة حتى بلغ في عام 440 ق. م 9700 وزنة (نحو 000ر200ر58 ريال أمريكي) وهو احتياطي يُعد ضخماً في أية مدينة في أي عصر من العصور، كما يُعد وجوده في بلاد اليونان نفسها أمراً عجيباً لأنا لا نكاد نجد فيها ولا نجد في البلوبونيز كلها مدينة أخرى تزيد فيها إيراداتها على نفقاتها(56). وكانت المدن القليلة التي يتجمع فيها هذا الاحتياطي تودِعه عادةً في هيكل إله المدينة، فكانت أثينة بعد عام 434 تُودِعه في البارثنون. وكان للدولة حق الانتفاع بهذا الاحتياطي وبذهب التماثيل التي تقيمها لإلهها. وقد بلغ مقدار هذا الذهب في تمثال أثينة برثنوس أربعين وزنة (000ر400 ريال أمريكي)؛ وقد وضع في التمثال بحيث يُستطاع إزالته عنه(57).وكانت المدينة تحتفظ في الهيكل أيضاً بالمال الذي تؤديه للمواطنين لِيشاهدوا به المسرحيات والألعاب المقدسة. تلك هي الدمقراطية الأثينية- أضيق الدمقراطيات وأكملها في التاريخ. لقد كانت أضيقها لقلة عدد من يشتركون في امتيازاتها، وأكملها لأنها تتيح لجميع المواطنين على قدم المساواة فرصة السيطرة بأنفسهم على التشريع وتصريف الشئون الإدارية. وتتكشف عيوب هذا النظام واضحة على مر الأيام، بل إن الناس قد أخذوا يتحدثون بها في أيام أرسطوفان. وكان من أظهر هذه العيوب التي كفرت عنها أثينة بخضوعها لإسبارطة، وفليب، والإسكندر، ورومة، أن قامت فيها جمعية لا تسأل عما تفعل، تدفعها عواطفها، فتقرر أمراً ما في أحد الأيام، لا يعوقها عائق من سابقة أو مراجعة، ثم تعود في اليوم الثاني فتندم أشد الندم على ما فعلت؛ وهي بندمها هذا لا تعاقب نفسها بل تعاقب من أضلوها؛ ومنها قصر السلطة التشريعية على الذين يستطيعون حضور الإكليزيا، وتشجيع الزعماء المهرجين، ونفي القادرين من الرجال نفياً أفقد المدينة عدداً كبيراً من خيرة كبرائها؛ وملء المناصب العامة بالقرعة والدور، وتغيير الموظفين في كل عام، وإشاعة الفوضى في الأداة الحكومية، ومنها نزاع الأحزاب الذي لم ينفك يُحدِث الارتباك في توجيه أعمال الدولة وشئونها الإدارية. ولكن ما من حكومة إلا وهي ناقصة، منهكة، مقضي عليها آخر الأمر. وليس لدينا من الأسباب ما يحملنا على الاعتقاد بأن الملكية أو الأرستقراطية كانت تستطيع أن تحكم أثينة خيراً من حكومتها هذه، أو أن تحفظ عليها حياتها أطول مما حفظتها الدمقراطية؛ ولعل هذه الدمقراطية المختلة النظام، دون غيرها من أنواع الحكم، هي التي استطاعت أن تطلق تلك الطاقة التي رفعت أثينة إلى أسمى مقام بلغته أمة أخرى في التاريخ. ذلك أن الحياة السياسية، داخل نطاق المواطنية، لم تبلغ قبل ذلك العهد أو بعده، ما بلغته فيه من القوة والابتكار. وأقل ما يُقال في هذه الدمقراطية الفاسدة العاجزة أنها كانت مدرسة: لقد كان المقترع في الجمعية يستمع إلى أقدر الرجال في أثينة؛ وكان ذهن القاضي في المحكمة يُشحذ بإطلاعه على الأدلة ووزنها واستخراج ثمينها من غثها، وكان الموظف يصوغه ويشكله ما يُلقى عليه من تبعة وما يكسبه من تجارب، فينضج عقله وفهمه وقدرته على الحكم. وفي هذا يقول سمنيدس إن "المدينة معلمة الرجال"(58). ولعل هذه الأسباب هي التي جعلت أثينة تقدر رجالاً من طراز إيسكلس، ويوربديز، وسقراط، وأفلاطون. لقد كان تقديرها لرجال من هذا الطراز هو الذي أوجدهم فيها. وفي الجمعية ودور القضاء تكوَّن نظارة دور التمثيل، وكانت هذه الدور على استعداد لاستقبال خير هؤلاء النظارة. ولم تكن هذه الدمقراطية الأرستقراطية نظاماً يفسح الطريق لكل إنسان ليفعل ما يحلو له كما أنها لم تكن رقيباً عتيداً على الأملاك والنظام فحسب؛ بل كانت تشجع بالمال المسرحيات اليونانية وتشيد البارثنون، وتعمل لرفاهية الشعب وتقدمه، وتهيئ له الفرص التي لا تمكنه "من أن يعيش فحسب، بل تمكنه من أن يعيش على خير وجه". ومن أجل هذا فإن التاريخ لا يجد حرجاً من أن يصفح عن جميع خطاياها.