قصة الحضارة - ول ديورانت - م 2 ك 2 ب 7

قصة الحضارة -> حياة اليونان -> نهضة بلاد اليونان -> اليونان في الغرب -> السيباريون


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب السابع: اليونان في الغرب

الفصِل الأوّل: السيباريون

بعد أن تمر سفينتنا الخيالية بسنيوم Sunium وتتجه نحو الغرب تصل إلى سثرا Cythera مقر أفرديتي الجَزَري، والتي كانت من أجل هذا مقصد وتو Watteau . وفيها شاهد بوزنياس في عام 160م "أقدس وأقدم ما شاده اليونان من الهياكل لأفرديتي"(1)، وفيها كشف شليمان في عام 1887م عن أنقاض هذا الهيكل(2). وكانت في أقصى الجنوب من الجزائر الأيونية التي تجاور ساحل بلاد اليونان الغربي، وقد سميت أيونية لأن مهاجرين أيونيين استقروا فيها، وبقية هذه الجزائر هي زاسنثوس Zacynthos، وكيفالينيا Ceplhalenia، وإثكا Ithaca، ولوكاس Leucas، وباكوس Paxos، وكورسيرا Corcyra. وحسب شليمان أن إثكا هي جزيرة أديسيوس، وحاول عبثاً أن يجد تحت ثراها ما يؤيد قصة هومر(3). غير أن دوربفلد Dorpfeld كان يعتقد أن موطن أديسيوس هو جزيرة لوكاس الصخرية. ويقول استرابون إن أهل هذه الجزيرة القدامى كانوا يلقون من فوق صخورها ضحية بشرية يقدمونها في كل عام قرباناً لأبلو؛ ولكن هؤلاء السكان لم يكونوا رجال دين فحسب بل كانوا فوق ذلك بشراً، ولهذا كانوا يربطون في الضحية طيوراً قوية شفقة بها ورحمة، حتى تخفف أجنحتها من شدة الصدمة عند سقوط الضحية على الأرض(4). والراجح أن قفزة سافو نفسها ذات اتصال بذكريات هذه العادة الدينية. واحتل كرسيرا (كورفو Corfu) مستعمرون كورنثة حوالي 734 ق.م. ولم يلبثوا أن أصبح لهم من القوة ما أمكنهم بها أن يهزموا أسطول كورنثة ويقرروا استقلالهم. وسافر بعض المغامرين اليونان من كرسيرا في البحر الأدرياوي متجهين نحو الشمال حتى وصلوا إلى البندقية؛ واستقر بعضهم في مستعمرات صغيرة على ساحل دلماشيا، وفي وادي نهر البو Po(5) وعبَرَ بعضهم آخر الأمر مياه البحر الهائجة وقطعوا فيها خمسين ميلاً حتى استقروا في كعب إيطاليا. ووجدوا في ذلك المكان شاطئاً جميلاً ينحني فتتكون من انحنائه مرافئ طبيعية آمنة، ورائه أرض خصبة أهملها السكان الأصليون إهمالاً يكاد أن يكون تاماً(6). واستولى الغزاة اليونان على هذا الإقليم الساحلي بمقتضى قانون التوسع الاستعماري الذي لا يعرف للرحمة معنى، وهو القانون القائل إن الموارد الطبيعية التي لا يستغلها أهل الإقليم تجذب، بنوع من الجاذبية الكيميائية، وغيرهم من الناس ليستغلوها ويدفعوا بها إلى تجارة العالم ومنفعته. واخترق الوافدون الجدد -وأكثرهم من الدوريين - كعب شبه الجزيرة مبتدئين من برنتيزيوم (برنديزي)، وأنشئوا مدينة كبيرة في تاراس taras- تارنتم الرومانية (تارنتو الحديثة) ، وفيها غرسوا أشجار الزيتون وربوا الخيول، وصنعوا الفخار، وبنوا السفن، وصادوا السمك بالشباك، وجمعوا بعض القواقع البحرية ليستخرجوا منها الصبغة الأرجوانية التي كانت أغلى قيمة من نظيرتها الفينيقية(8). وبدأت الحكومة كما بدأت معظم المستعمرات اليونانية بأن كانت ألجاركية يتولاها ملاك الأرض، ثم انتقلت إلى أيدي طغاة تمدهم بالمال الطبقة الوسطى، واستمتعت بفترات من الحكم الديمقراطي القوي المضطرب. وفي هذا المكان نزل بِرَس صاحب الشخصية الروائية في عام 281، وأراد أن يقوم في الغرب بالدور الذي قام به الإسكندر في الشرق. وأسست موجة أخرى من المهاجرين معظمهم من الآخيين مدينتي سيبارس وكروتونا على الجانب الآخر من خليج تارنتم. وتدل الغيرة القاتلة التي نشاهدها بين هذه الدول، وكلها من أصل واحد، على ما كان يتصف به اليونان من نشاط قوي مبدع، وعواطف جياشة مدمرة. وكان للتجارة بين بلاد اليونان وإيطاليا الغربية طريقان أحدهما بحري والثاني بري في بعض أجزائه. وكانت السفن تسير في الطريق البحري تمر بكروتونا وتبادل فيها بالكثير من بضائعها، وتمر بعدها برجيوم Rhgium وتؤدي فيها المكوس، ثم تجتاز في حذر بحاراً موبوءة بالقراصنة، ومضيق مسينا الكثير الدوامات، حتى تقبل إلى إلياوكومي، أقصى المستعمرات اليونانية في إيطاليا شمالاً. وكان التجار الذين يختارون الطريق الآخر يفرغون بضائعهم في سيبارس ليفروا من هذه المكوس والأخطار، وليوفروا على أنفسهم عناء السير بحراً بالمجاذيف والشراع، ثم ينقلونها بطريق البر نحو ثلاثين ميلاً إلى ساحل لوس Laus الغربي، ثم يحملونها مرة أخرى على ظهور السفن إلى بوسيدونيا، ومنها تنتقل إلى الأسواق في داخل إيطاليا. وكانت سيبارس ذات موقع حسن على الطريق التجاري، فأثرت وعمها الرخاء حتى بلغ عامروها (إذا جاز لنا أن نصدق أقوال ديودور الصقلي(9)) ثلاثمائة ألف نسمة، وأثرت ثراء لا يضارعها فيه إلا القليل من مدن اليونان، وحيث أضحت سيباري مرادفة لكلمة أبيقوري. وكان العمل الجثماني كله يقوم به العبيد ورقيق الأرض، أما المواطنون الأحرار فكانوا يرتدون الثياب الغالية، ويسكنون بيوتاً مترفة مريحة، ويطعمون الأطعمة الشهية الواردة من خارج البلاد . وكان يُحرم على من يشتغلون بأعمال ذات جلبة أن يمارسوا صناعتهم في داخل حدود المدينة. وكانت بعض الطرقات في الأحياء الغنية من المدينة تغطيها خيام ومظلات لتقي الناس شر الحر والمطر(11). ويقول أرسطو إنه كان لألسسثنيز السيباري ثوب من نسيج بلغ من عظيم قيمته أن باعه ديونيسيوس الأول السرقوسي فيما بعد بمائة وعشرين وزنة (000ر720 ريال أمريكي(12)). ولما جاء اسمندريدز Smyndyrides السيباري في زيارة لسكيون ليخطب ابنة كليسثنيز، كان معه ألف خادم(13). وسارت الأمور على أذلالها في سيبارس حتى انزلقت إلى الحرب مع كروتونا المجاورة لها (510). وتقول إحدى الروايات غير الموثوق بصحتها إن السيباريين ساروا إلى الحرب بجيش تبلغ عدته ثلاثمائة ألف(15). وتؤكد لنا هذه الرواية نفسها أن الكروتيين أحدثوا الاضطراب في صفوف هذا الجيش بأن عزفوا النغمات التي علم السيباريون خيولهم أن يرقصوا عليها(16). فلما سمعتها الخيل رقصت، وأعمل الأعداء فيهم القتل، ونهبوا مدينتهم، وخربوها، وأشعلوا فيها النيران، حتى اختفت من التاريخ في يوم واحد. ولما أن قام هيرودوت وغيره من الأثينيين بعد خمس وستين سنة من ذلك الوقت بالقرب من موقعها مستعمرة تورلي Thurli الجديدة، لم يكادوا يجدون في هذا الموضع أثراً لهذه الجالية التي كانت في يوم من الأيام أكثر الجاليات اليونانية زهواً.


الفصل الثاني: فيثاغورس الكروتوني

كان عمر كروتونا أطول من عمر سيبارس؛ فقد أنشئت في عام 710 ق.م. ولا تزال حتى الآن تعج بالصناعة والتجارة بعد أن تغير اسمها إلى كروتون. وقد كان مرفؤها المرفأ الطبيعي الوحيد بين تاراس وصقلية، ولم تكن تعفو عن السفن التي تفرغ بضائعها في سيبارس. وقد بقي فيها من التجارة ما يكفي لكي يعيش أهلها عيشة هنيئة لينة، كما أن هزيمتهم الموفقة في الحرب، وكساد تجارتهم زمناً طويلاً، وجو بلادهم المنعش، ومزاجهم الدوري المتزمت بعض الشيء، كل هذه الظروف مجتمعة قد جعلتهم يحتفظون بنشاطهم وقوتهم رغم ثرائهم العظيم. وفي هذه المدينة نشأ الرياضيون المشهورون أمثال ميلو Milo، كما نشأت أعظم مدرسة طبية في بلاد اليونان الكبرى (Magna Greca) . ولعل اشتهار كروتونا بأنها ملجأ صحي حبب إلى فيثاغورس المجيء إليها. ومعنى فيثاغورس هو "الناطق الفيثي" بلسان مهبط الوحي في دلفي، وكان كثيرون من أتباعه يرون أنه هو أبلو نفسه، ويدعي بعضهم أنه أبصر وميض فخذه الذهبية(17). وتقول الروايات المتواترة إنه ولد في ساموس حوالي عام 580، وتتحدث عن جده في صباه. وتعزو إليه أنه صرف ثلاثين عاماً في الأسفار. ويقول عنه هرقليطس، وهو الرجل الشديد الاقتصاد في مدحه إن "فيثاغورس كان أكثر الباحثين مثابرة"(18). ويروى عنه أنه زار بلاد العرب، وسوريا، وفينيقية، وكلديا، والهند، وغالة، وعاد يلقي على الرحالة حكمة غالية جديرة بالإعجاب هي قوله: إذا كنت مسافراً في خارج بلادك فلا تلتفت وراءك إلى حدودها"(19) ، ويجب أن تكبح جماح نزواتك عند كل ثغر تدخل فيه. وما من شك في أنه زار مصر حيث درس مع الكهنة، وتعلم الكثير من علم الفلك والهندسة النظرية، وربما تعلم أيضاً قليلاً من السخف(20). ولما عاد إلى ساموس ووجد أن طغيان بوليكراتيز يحد من طغيانه هو هجرها إلى كروتونا وكان قد جاوز الخمسين من العمر(21).

وهنا اشتغل بالتدريس، وكانت هيبته، وغزارة علمه، واستعداده لقبول النساء والرجال في مدرسته، سبباً في إقبال الناس عليها حتى بلغ عدد من فيها بضع مئات في زمن قصير. وقد قال بمبدأ تكافؤ الفرص للذكور والإناث على السواء قبل أن ينادي بذلك أفلاطون بمائتي عام، ولم ينادِ بهِ فحسب بل نفذه عملياً. على أنه مع ذلك لم يكن ينكر أن بين الجنسين فوارق طبيعية من حيث وظائف كل منهما. وكان يُعلم تلميذاته الشيء الكثير من الفلسفة والآداب، ولكنه كان يعلمهن أيضاً فن الأمومة والتدبير المنزلي، ومن أجل ذلك اشتهرت النساء الفيثاغوريات في الزمن القديم بأنهن "أعلى نموذج في الأنوثة أخرجته بلاد اليونان في جميع العصور".

وقد وضع فيثاغورس لطلابه بصفة عامة قواعد تكاد تحول مدرسته إلى دير للراهبات. فقد كان من يدخلونها يقسمون يمين الولاء للأستاذ ولبعضهم بعضاً. وتجمع الروايات المأثورة على أنهم كانوا يشتركون على قدم المساواة في جميع طيبات الحياة ما داموا يعيشون في هذه الجماعة الفيثاغورية(23). وكان اللحم والسمك والفول محرمة عليهم، أما الخمر فلم تكن محرمة؛ ولكنه كان يوصيهم بشرب الماء، وتلك وصية شديدة الخطورة في جنوبي إيطاليا في هذه الأيام. وربما كان تحريم اللحم لسبب ديني ذي صلة بعقيدة تقمص الأرواح، فإن على الناس أن يحذروا أن يأكلوا أجدادهم. والراجح أنه كان يباح للطلاب أن يخرجوا على حرفية هذه القواعد من حين إلى حين. ويرى المؤرخون الإنجليز بنوع خاص أن من غير المعقول أن يصبح المصارع ميلو الفيثاغوري أقوى رجل في بلاد اليونان كلها دون أن يأكل لحم العجول(24)، وإن كان العجل الذي أصبح بين ذراعيه ثوراً قد شب على أكل الكلأ. وكان يحرم على أفراد هذه الجماعة أن يقتلوا أي حيوان لا يؤذي الإنسان أو أن يتلفوا شجرة مزروعة. وكان يطلب إليهم أن يلبسوا الثياب البسيطة وأن يطرحوا الكبرياء، وألا "يندفعوا في الضحك، وألا يكونوا مع ذلك عابسين". ولم يكن يباح لهم أن يقسموا بالآلهة لأن "من الواجب على كل إنسان أن يعيش عيشة تجعله خليقاً بأن يصدقه الناس دون أن يلجأ إلى القسم". وكان محرماً عليهم أن يقدموا الضحايا قرباناً، وكان في وسعهم أن يتعبدوا أمام المذابح التي لم تلوثها الدماء. وكان عليهم أن يسألوا أنفسهم في آخر كل يوم عما ارتكبوه من الذنوب، وعما أهملوه من الواجبات، وعما فعلوه من الخير(25).

وقد أخذ فيثاغورس نفسه بهذه القواعد ورعاها أشد مما رعاها أي تلميذ من تلاميذه اللهم إلا إن كان هو ممثلاً من أبرع الممثلين. وما من شك في أن أسلوب حياته قد أكسبه من احترام طلابه وسلطانه عليهم ما جعلهم يتحملون طغيانه بلا تذمر، وما جعل الكلمة الفاصلة في كل جدال أو نظرية هي: لقد قالها هو نفسه "Autos epha-ipsi dixit". وقد نقل إلينا في عبارة تنم عن التعظيم وتستثير الإعجاب أن المعلم نفسه لم يشرب الخمر بالنهار أبداً، وأنه كان يعيش معظم أيامه على الخبز والعسل، وأن حلواه كانت هي الخضر، وأن ثوبه كان على الدوام ناصع البياض؛ وأنه لم يُعرف عنه قط أنه أفرط في الأكل، أو عشق، وأنه لم يغرق في الضحك، أو المزاح، أو القصص، ولم يعاقب إنساناً مطلقاً ولو كان عبداً(26). وكان تيمن الأثيني يظنه "مشعوذاً يخادع بقول الجد، ويعمل على اصطياد الناس" (27) ، وينقض هذا القول أن زوجته ثيانو Theano وابنته دامو Damo كانتا من أشد أتباعه إخلاصاً له، وقد كان في وسعهما أن توازنا بين فلسفته وحياته. ويقول ديوجنيز ليرتس إنه "عهد بتعليقاته إلى دامو وأمرها ألا تذيعها لأي إنسان في خارج البيت، وإنها لم تفرط قط في أحاديثه مع أنه كان في وسعها أن تبيعها بالمال الكثير، لأنها كانت ترى أن طاعة أوامر والدها أثمن من الذهب، ويزيد في فضلها أنها امرأة"(28).

وكان الانضمام إلى المجتمع الفيثاغوري يتطلب، فضلاً عن تطهير الجسم بالعفة وكبح الشهوات، تطهير العقل بدراسة العلم. وكان ينتظر من الطالب الجديد أن يلتزم "الصمت الفيثاغوري" مدى خمس سنين - ولعل المقصود بالصمت الفيثاغوري أن يتقبل الأوامر من غير سؤال أو مناقشة - قبل أن يُعترف به عضواً كاملاً في الجماعة، وقبل أن يُسمح له بأن "يرى" فيثاغورس(29) أي أن يدرس عليه. وتنفيذاً لهذا النظام كان التلاميذ يقسمون إلى طلاب خارجيين وطلاب داخليين، وكان الداخليون هم الذين يحق لهم أن يعرفوا الحكمة السرية للمعلم نفسه. وكان منهج الدراسة يتألف من أربعة موضوعات: الهندسة النظرية، والحساب، والفلك، والموسيقى. وكان يبدأ بالرياضيات ؛ ولكنها لم تكن العلم العملي الذي استحالت إليه على أيدي المصريين القدامى، بل كانت علماً مجرداً نظرياً يبحث في الكميات، ومثلاً أعلى في التدريب المنطقي يجعل التفكير منظماً واضحاً بعرضه على محك الاستدلال الصارم والبرهان الواضح الملموس. وأضحت الهندسة النظرية من ذلك الوقت مجموعة من البديهيات، والنظريات، والبراهين. وكانت كل خطوة في القضايا المنطقية المتتالية ترفع الطالب إلى مستوى أعلى من مستواه السابق - على حد قول الفيثاغوريين - يستطيع منه أن يطلع أكثر من ذي قبل على بناء العالم(31). وتقول الرواية اليونانية المتواترة إن فيثاغورس نفسه كشف كثيراً من النظريات الهندسية: وأهمها كلها أن مجموع الزوايا الداخلية في أي مثلث يساوي قائمتين، وأن المربع المقام على الضلع المقابل للزاوية القائمة في المثلث القائم الزاوية يساوي مجموع المربعين المقامين على الضلعين الآخرين. ويقول أبلودورس Appollodorus إنه لما كشف المعلم هذه النظرية ضحى بمائة ذبيحة شكراً على هذا الكشف العظيم(32) . فإن كان قد فعل ذلك حقاً فقد ناقض المبادئ الفيثاغورية مناقضة يندى لها الجبين. وانتقل فيثاغورس من الهندسة إلى الحساب - على عكس النظام المتبع في هذه الأيام. ولم يكن يقصد بالحساب وقتئذ أن يكون فناً عملياً للتعداد والإحصاء، بل كان نظرية مجردة للأعداد. ويلوح أن المدرسة الفيثاغورية هي أول من قسم الأعداد إلى فردية وزوجية، وإلى أعداد صماء وأخرى قابلة للقسمة(33)، وقد صاغت نظرية النسبة، واستطاعت بها و "بتطبيق المساحات" أن توجد الجبر الهندسي(34). ولعل دراسة النسبة هي التي أمكنت الفيثاغوريين من أن يحولوا الموسيقى إلى أعداد. ويُروى أن فيثاغورس كان في يوم من الأيام ماراً بحانوت حداد، فاسترعت سمعه الفترات الصوتية الخارجة من ضربات السندان، والتي بدت كأنها فترات موسيقية منتظمة. ولما عرف أن المطارق ذات أوزان مختلفة استنتج من ذلك أن النغمات تتوقف على نسب عددية. وتقول إحدى التجارب القلائل التي سمعنا بها في علوم القدماء إنه أتى بوترين متساويين في السمك وفي التوتر، وتبين له أنه إذا كان طول أحدهما ضعفي طول الآخر أخرجا إذا جذبهما نغمة من الدرجة الأولى؛ وإذا كان أحدهما قدر الآخر مرة ونصف مرة أخرجا خُمساً (دو - صول)؛ وإذا كان أحدهما قدر آخر مرة وثلث مرة، أخرجا رُبعاً (دو - فا(35))؛ وبهذه الطريقة يمكن أن تقدر كل نغمة موسيقية تقديراً رياضياً، وأن يعبر عنها تعبيراً رياضياً كذلك. وإذ كانت كل الأجسام التي تتحرك في الفضاء تحرج أصواتاً، تتوقف درجة ارتفاعها على حجم الجسم وسرعة حركته،فإن كل كوكب في فلكه حول الأرض (كما يقول فيثاغورس) يحدث صوتاً يتناسب مع سرعة انتقاله، وهذا الصوت يعلو أيضاً كلما بعُد الكوكب عن الأرض؛ ويتكون من هذه النغمات المختلفة ائتلاف في الأصوات أو "موسيقى الأفلاك"، وهي موسيقى لا نسمعها قط لأننا نسمعها على الدوام(36). ويقول فيثاغورس إن العالم جرم كري حيٌّ مركزه الأرض، وإن الأرض هي الأخرى جرم كري تدور، كما تدور الكواكب، من الغرب إلى الشرق. وقد قسم الأرض، والعالم كله في الحقيقة، خمس مناطق - المنطقة الباردة الشمالية، والباردة الجنوبية، ومنطقة الصيف، ومنطقة الشتاء، والمنطقة الاستوائية، وقال إن الجزء الذي نراه من القمر يكبر حجمه أو يصغر تبعاً للزاوية التي يواجه بها الأرضَ نصفُه المتجه نحو الشمس، وإن خسوف القمر ينشأ من وجود الأرض أو أي جرم آخر بينه وبين الشمس(37). ويقول ديوجنيز ليرتس إن فيثاغورس كان أول مَن قال إن الأرض مستديرة، وأول من سمى العالم كوناً Kosmos(38).

وقد عمل فيثاغورس بفضل بحوثه في الرياضيات والفلك أكثر مما عمله أي عالم آخر لوضع أسس العلوم الطبيعية في أوربا. ولما أن تم له ذلك انتقل إلى الفلسفة، ويبدو أن لفظ الفلسفة نفسه من وضعه هو. وقد رفض أن يستخدم كلمة سوفيا Sophia أي الحكمة لأنها ادعاء عريض لا يرضاه، ووصف سعيه لإدراك الحقائق بأنها فلسفة Philosophia أي محبة الحكمة(39). وقد صارت كلمتا فيلسوف وفيثاغورس في القرن السادس كلمتين مترادفتين(40). وبينما كان طاليس وغيره من الميليتيين يبحثون عن أصل الأشياء جميعها في المادة، كان فيثاغورس يبحث عنه في الشكل، وبعد أن كشف ما في الموسيقى من علاقات ونتائج متتالية عددية منتظمة، وبعد أن افترض وجود هذه العلاقات والنتائج المتتالية في الكواكب نفسها، قفز قفزة الفلاسفة نحو الوحدة، وأعلن أن هذه العلاقات والنتائج المتتالية العددية المنتظمة توجد في كل مكان، وأن العامل الجوهري الأساسي في كل شيء هو العدد. وكما أن اسبنوزا قد قال فيما بعد إن ثمة عالمين - أحدهما عالـَم الأشياء أو عالـَم الناس الذي يدركونه بالحواس والآخر عالم الفلسفة، أو عالم القوانين والثوابت الذي يدركه العقل - وإن العالم الثاني وحده هو العالم الحقيقي الدائم، كذلك شعر فيثاغورس أن النواحي الأساسية الخالدة لأي شيء هي ما بين أجزائه من علاقة عددية ، ولعله كان يرى أيضاً أن الصحة نفسها علاقة رياضية أو نسبة صالحة بين أجزاء الجسم أو عناصره؛ أو أن النفس كانت هي الأخرى عدداً. وعند هذه النقطة انطلقت صوفية فيثاغورس التي استقاها من مصر وبلاد الشرق الأدنى حرة لا تلوي على شيء. فقال إن النفس تنقسم أقساماً ثلاثة: الشعور واللقانة والعقل؛ فالشعور مركزه القلب، واللقانة والعقل مركزهما المخ؛ وإن الشعور واللقانة من صفات الحيوان والإنسان على السواء ، أما العقل فيختص به الإنسان وحده، وهو خالد لا يفنى(42). وتمر النفس بعد الموت بفترة من التطهير في الجحيم Hades، تعود بعدها إلى الأرض وتدخل في جسم جديد، ثم في جسم آخر، وتمر في سلسلة من التناسخ لا ينتهي إلا إذا كان صاحبها قد حَيي حياة فاضلة منزهة عن الرذائل بأجمعها.

وكان فيثاغورس يدخل السرور على أتباعه، أو لعله كان يقوي عقيدتهم، بقوله لهم إن روحه قد تقمصت مرة جسم عاهر، ومرة أخرى جسم البطل يوفوربوس Euphorbus؛ وإنه يذكر بوضوح مغامراته في حصار طروادة، وإنه قد تعرف في هيكلها في أرجوس على الدرع الذي كان يلبسه في تلك الحياة القديمة(43). وسمع مرة عواء كلب مضروب فقام من فورهِ لإنقاذه، وقال إنه قد عرف في عوائه صوت صديق له ميت(44). وفي وسعنا أن نتبين شيئاً من الصلات الفكرية التي كانت تربط بلاد اليونان وإفريقية وآسية في القرن السادس، إذا ذكرنا أن فكرة التناسخ هذه كانت مستحوذة في وقت واحد على خيال الهنود وعلى طقوس أورفيوس في بلاد اليونان وعلى إحدى الطوائف الفلسفية في إيطاليا. ونحن نستشف نزعة التشاؤم الهندية تمتزج في فلسفة فيثاغورس الأخلاقية بروح أفلاطون النيرة الصافية. والقصد من الحياة في النظام الفيثاغوري أن تخلص من التقمص، والسبيل إلى ذلك هي الفضيلة، والفضيلة هي ائتلاف الروح مع نفسها ومع الله. ومن المستطاع كسب هذا التآلف بطريقة اصطناعية. وكان الفيثاغوريون يستخدمون الموسيقى كما كان يستخدمها كهنة اليونان وأطباؤهم لشفاء الاضطرابات العصبية. وكانوا يعتقدون أن أكثر ما تحصل به النفس على التآلف هو الحكمة، وهي فهم الحقائق التي يقوم عليها هذا التآلف فهماً هادئاً؛ وذلك لأن هذه الحكمة تعلم الإنسان التواضع والاعتدال، والطريقة الوسطى الذهبية. أما الطريقة المضادة لهذه - أي طريقة التنازع والتطرف، والخطيئة - فتؤدي حتماً إلى المآسي والعقاب والعدالة "عدد مربع"، وكل خطأ "سيربع" إن عاجلاً أو آجلاً بالعقوبة المكافئة له(45). هذا هو جوهر فلسفة أفلاطون وأرسطو الأخلاقية.

أما سياسة فيثاغورس فهي فلسفة أفلاطون حققها من قبل أن يدركها. ولقد كانت مدرسة فيثاغورس، حسب ما نفهمه من الروايات القديمة المتواترة، أرستقراطية شيوعية: تطلب إلى الرجال والنساء أن يجمعوا كل ما لديهم من الطيبات، وأن يتعلموا مجتمعين، وأن يُدربوا على الفضيلة والتفكير الراقي بطريق العلوم الرياضية والموسيقى، والفلسفة، وأن يتقدموا من تلقاء أنفسهم ليكونوا حكام الدولة الحارسين لها. والحق أن الجهد الذي كان يبذله فيثاغورس ليجعل مجتمعه هو نفسه حكومة مدينته العقلية، هو الذي أهلكه وأهلك أتباعه. فقد اندفع المبتدئون من أتباعه في تيار السياسة. وانحازوا إلى جانب الأشراف انحيازاً أثار عليهم حزب الشعب في كروتونا، فاندفع أفراده في ثورات غضبهم، وأحرقوا البيت الذي كان الفيثاغوريين مجتمعين منه. وقتلوا طائفة منهم، وأخرجوا الباقين من المدينة. وتقول إحدى الروايات إن فيثاغورس نفسه قد قُبض عليه وقُتل حين أبى في فراره أن يطأ بقدمه حقلاً من الفول؛ وتقول رواية أخرى إنه فر إلى متابنتم Metapontum حيث امتنع عن الطعام أربعين يوماً - ولعله كان يحس أنه يجب أن يكتفي من العمر بثمانين عاماً - وأمات نفسه جوعاً(46). أما أثره فهو أثر خالد على مدى الأيام، ولا يزال اسمه حتى اليوم طناناً رناناً؛ كما عاش مجتمعه ثلاثمائة عام في صورة جماعات منتشرة في بلاد اليونان، يخرج منها علماء طبيعيون أمثال فيلولوس Philolaus الطيبي، وحكام أمثال أركيتاس Archytas طاغية تاتاس Tatas وصديق أفلاطون. ولقد كان وردسورث Wordsworth في أشهر قصائده كلها فيثاغورياً من غير أن يشعر. وكان أفلاطون نفسه يهيم بصورة فيثاغورس الغامضة؛ وهو يأخذ عنه في جميع نواحي نشاطه الذهني - في سخريته من الدمقراطية، وفي تلهفه على وجود أرستقراطية شيوعية من الحكام الفلاسفة، وفي اعتقاده أن الفضيلة تآلف، وفي نظرياته عن الطبيعة والنفس، وفي شغفه بالهندسة، وفي إيمانه بقوة الأعداد الخفية. وقصارى القول أن فيثاغورس - على قدر ما وصل إليه علمنا- هو واضع أساس العلوم الطبيعية والفلسفة في أوربا؛ وذلك عمل يكفي لتخليد اسم أي إنسان.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث: زنوفانيز الإيلائي

في غرب كروتونا مكانُ لُكري Locri القديمة، ويقول أرسطو إن هذه المستعمرة قد أسسها العبيد والزانون واللصوص الفارون من بلدة لكري في أرض اليونان القارية؛ ولكن لعل الذي أنطق أرسطو بهذا القول هو احتقار العالم القديم للجديد. وساد بين المستعمرين الاضطراب الناشئ من أصلهم الأول، فلجأوا إلى مهبط الوحي في دلفي يطلبون النصيحة فقيل لهم إن عليهم أن يسنوا لأنفسهم قوانين. وربما كان زلوكوس هو الذي أنطق الوحي بما نطق به، لأنه وضع لِلُكري في عام 664 قوانين قال إن أثينة أمْلَتها عليه في المنام. وكانت هذه أول قوانين مكتوبة في بلاد اليونان كلها، وإن لم تكن أولى القوانين التي هبطت من عند الآلهة. وبلغ من حب اللكريين إياها أن حكموا على كل من يريد أن يقترح قانوناً جديداً أن يتكلم وفي جيده حبل، حتى إذا رُفض اقتراحه شنق بأقل كلفة من الأموال العامة . وبعد أن يطوف المسافر حول إصبع قدم إيطاليا ويتجه نحو الشمال، يصل إلى رجيو Reggio، وكانت مدينة مزدهرة أسسها أهل مسينا حوالي عام 730 ق.م وسموها رجيون Rhegion وعرفها الرومان باسم رجيوم Rhegiom، فإذا اجتاز مضيق مسينا - ولعله هو الذي سمته الأوديسة "سلا وكربديس" Scylla and Charybdis - وصل إلى المكان الذي وقف فيه لوس Laus.

ثم جاء بعدئذ إلى هيلي(48) Hyele القديمة وهي فليا Velia الرومانية، المعروفة في التاريخ باسم إليا Elea لأن أفلاطون كتبها بهذه الصورة، ولأن فلاسفتها وحدهم هم الذين بقي ذكرهم. وهنا جاء زنوفانيز الكلوفوني حوالي 510 وأنشأ المدرسة الإليائية. وكان ذا شخصية فذة لا تقل في ذلك عن عدوه فيثاغورس المحبوب من أهل بلده. ذلك أنه كان جم النشاط لا يكل من العمل، مبتكراً لا يهاب الابتداع، ظل ستة وسبعين عاماً - على حد قوله هو نفسه - يطوف "في أرض هيلاس من أقصاها إلى أقصاها" يجمع منها مشاهداته ويخلق لنفسه فيها أعداء أينما حل. وكان يكتب قصائد فلسفية ويتلوها على الناس، ويندد بهومر ويعيد عليه سفاهته وعدم تقواه، ويسخر من الخرافات؛ وقد أنشأ ميناء في إليا وأتم من العمر قرناً كاملاً قبل أن يموت(49). ومن أقواله أن هومر وهزيود "يعزوان إلى الآلهة كل الأعمال التي تحط من قدر الآدميين ويجللهم بالعار- كالتلصص، والزنا والغش"(50). ولكنه هو لم يبلغ شأواً بعيداً في التقى والصلاح كما يدل على ذلك قوله: "لم يوجد في العالم كله، ولن يوجد فيه، رجل ذو علم أكيد عن الآلهة...فالآدميون يتصورون أن الآلهة يولدون، ويلبسون الثياب، وأن لهم أصواتاً وصوراً كأصوات الآدميين وصورهم. ولو كان للثيران والآساد أيدٍ مثلنا، وكان في وسعها أن ترسم وتصنع صوراً كما يفعل الآدميون، لرسمت لآلهتها صوراً وصنعت لها تماثيل على صورتها هي؛ ولو استطاعت الخيل لصورت آلهتها في صورتها، ولصورت الثيران آلهتها في صورة الثيران. والأحباش يصورون آلهتهم سوداً فطس الأنوف؛ والتراقيون يصورون آلهتهم زرق العيون حمر الشعر...ألا إن ثمة إلهاً واحداً يعلو على الآلهة والبشر؛ لا يشبه الآدميين في صورته ولا في عقله.


فهو كله يرى، وكله يفكر، وكله يسمع. وهو يسيطر من نصب على الأشياء كلها بقوة عقله(51). ويقول ديوجنيز ليرتس(52) إن زنوفانيز قد وحد بين هذا الإله والكون. وكان هذا الفيلسوف يعلم الناس أن الأشياء كلها، بل والناس أيضاً، مخلوقون من الطين والماء حسب قوانين طبيعية(53)، وإن الماء كان في يوم من الأيام يغطي الأرض بأجمعها لأنا نرى في الحفريات البحرية في الأرض بعيدة عن شواطئ البحار وعلى رؤوس الجبال، وأكبر الظن أن الماء سيغطي الأرض كلها يوماً ما في المستقبل(54). بيد أن كل ما يحدث في التاريخ من تغير، وكل ما يحدث في الأشياء من فرقة وانقسام، ليس إلا ظواهر سطحية، وأن من تحت هذا الرخام ومن وراء ذلك الاختلاف في الصور والأشكال وحدة لا تتبدل أبداً هي حقيقة العلم الباطنة الداخلية.

ومن هذه البداية سار برمنيدس الإليائي تلميذ زنوفانيز إلى الفلسفة المثالية التي كان لها أكبر الأثر في تشكيل تفكير أفلاطون والأفلاطونيين طوال العصر القديم، وتفكير أوربا الذي دام إلى يومنا هذا.


الفصل الرابع: من إيطاليا إلى أسبانيا

على بعد عشرين ميلاً إلى شمال إليا كانت تقوم مدينة بسدونيا - بستم Paestum الرومانية - التي أنشأها مستعمرون من سيباريس لتكون آخر محطة برية إيطالية لتجارة ميليتس. وفي وسع الإنسان أن يصل إليها اليوم بعد سفرة لطيفة من نابلي مخترقاً سالرنو Salerno، وتظهر أمامه على حين غفلة، على جانب الطريق، وسط حقل مهجور، ثلاثة تماثيل، عظيمة حتى في عزلتها. فلقد سد النهر في هذا المكان مصبه بما يحمله من الغرين طوال القرون الماضية، فاستحال هذا الوادي الذي كان من قبل وادياً صحياً طيباً مناقع ضارة بالصحة؛ وحتى الأقوام الذين يحرثون سفوح جبل فيزوف، والذين لا يبالون بما يصيبهم في سبيل ذلك من أذى، حتى هؤلاء قد فروا يائسين من هذه السهول الموبوءة بالملاريا. وقد أبقى الزمان على أجزاء من الجدران القديمة، وأبقى كذلك بحالة أجود من حالة هذه الجدران - وكأن العزلة كانت من أسباب هذا البقاء - على الأضرحة التي شادها اليونان من حجر الجير المتوسط الصلابة، ولكنها كاملة لم تكد تنال منها يد الزمان شيئاً. وقد أقام اليونان هذه الأضرحة لآلهة الحب والبحر - وأغلب الظن أن أقدم هذه المباني، وهو البناء الذي سُمي فيما بعد "الباسلكا Basilika "، كان هيكلاً لبوسيدن. وقد شاده له الأقوام الذين يعتمدون في طعامهم على فاكهة البحر المتوسط وتجارته حوالي منتصف هذا القرن السادس العجيب، الذي خلق كل عظيم في الفن والأدب والفلسفة بين إيطاليا وشانتنج Shantung. وقد بقيت من هذا الهيكل أعمدته الداخلية والخارجية شاهدة على شغف اليونان بإقامة العمد. وأقام الجيل الذي تلاه هيكلاً أصغر من هذا الهيكل شبيهاً به في بساطته وقوته الدوريتين. ونحن نسميه "هيكل سيريز Ceres" ولكنا لا نعرف أي الآلهة كان يشم رائحة قرابينه. وشاد جيل بعد هذا الجيل أيضاً؛ قبيل الحرب الفارسية أو بعدها(55)؛ أعظم الهياكل الثلاثة وأحسنها تناسباً؛ وأكبر الظن أنه شيد لبوسيدن أيضاً - وهو من أجدر الهياكل بهذا الإله لأن في وسع الإنسان أن يطل من أروقته على صفحة البحر الغدار الذي يغري المطل عليه بركوبه. وأينما ولى الإنسان وجهه في هذا الهيكل رأى عمداً: ففي الخارج رواق دوري قوي كامل البناء، وفي الداخل رواق من العمد ذو طابقين كان يحمل أعلاها فيما مضى سقفاً. وذلك منظر من أعظم المناظر الإيطالية تأثيراً في النفس؛ ولا يكاد الإنسان يصدق أن هذا الهيكل الذي احتفظ بكيانه أحسن مما احتفظ به أي هيكل شاده الرومان، كان من عمل اليونان قبل ميلاد المسيح بخمسة قرون لا تكاد تنقص شيئاً. وفي وسعنا أن نستدل منه على ما كان للأقوام الذين شادوا أمثال هذا المركز لحياتهم الدينية من حيوية وولع بالجمال، وما كانوا يستمتعون به من موارد ثراء ومن حسن ذوق. وفي وسعنا أن نتصور من بعد هذا صورة واضحة جلية لما كانت عليه المدن الكبرى مثل ميليتس، وساموس، وإفسوس، وكروتونا، وسيباريس وسرقوسة من أبهة وثراء. وعلى مسافة قليلة من الموضع الذي تقوم عليه نابلي الحديثة، وإلى شماليها، أقام بعض المغامرين من كلوسيس، وإرتريا، وكيمي Cyme العوبية، وجرايا Graia، حوالى عام 750 ثغر كومية أقدم المدائن اليونانية في غرب بلادهم، وسرعان ما أثرت كومية من استيرادها غلات بلاد اليونان الشرقية وبيعها في أواسط إيطاليا، وأعانها ذلك على استعمار جيوم والسيطرة عليها، كما سيطرت على مضيق مسينا وحرمت عبوره على سفن المدائن التي لم تعقد معها حلفاً تجارياً أو سمحت لها بالمرور بعد أداء رسوم باهظة فرضتها عليها(56). وانتشر الكوميون جنوباً وأسسوا دسيآركيا Dicaearchia - وهي التي أصبحت فيما بعد ثغر بتيولي Puteoli (بتسيولي Pozzuoli) الروماني - ونيبوليس Neapolis أو المدينة الجديدة وهي مدينة نابلي الحالية. ومن هذه المستعمرات انتقلت الأفكار اليونانية كما انتقلت المتاجر اليونانية إلى مدينة رومة الناشئة التي لم يكن لها وقتئذ شأن كبير بين المدن، كما انتقلت شمالاً إلى إتروريا.واختار الرومان من كومية عدداً من الآلهة اليونانية - وبخاصة أبلو، وهرقليز، وابتاعوا الملفات التي تنبأت فيها سيبيل الكومية - كاهنة أبلو العجوز - بمستقبل رومة بأكثر مما تستحقه من الثمن. وقبل أوائل القرن السادس بقليل نزل فوقِيُّو أيونيا على سواحل فرنسا الجنوبية وأسسوا مساليا (مرسيليا)، ونقلوا غلات بلاد اليونان في نهر الرون وروافده حتى أرليس Arles ونميز Nimes. واتخذوا من الأهلين أصدقاءً وأزواجاً، وأدخلوا زراعة الزيتون والكروم هدية منهم إلى فرنسا، كما أدخلوا الحضارة اليونانية إلى غالة الجنوبية، ونشروها بين ربوعنا إلى حد يسر لرومة فيما بعد أن تنشر فيها هي الأخرى في أيام قيصر حضارتها الوثيقة الصلة بالحضارة اليونانية. وأسس الفوقيون في اتجاه الشرق على طول الساحل مدن أنتبوليس Antipolis (أنثيب Antipes الحديثة)، ونيسية Nicaea (نيس الحالية) ومنوكوس Monoecus (موناكو). أما في الغرب فقد وصلوا إلى أسبانيا وأسسوا مدينة رودية Rhodae (ورساس Rosas) وإمبوريوم (أمبورياس) وهمروسكوبيوم Hemoroscopium وميناكا Maenaca بالقرب من مالقة Malaga؛ وأثرى اليونان في أسبانيا وقتاً ما باستغلالهم مناجم الفضة في تارتسوس Tartessus؛ ولكن القرطاجيين والإتروريين تألبوا عليهم في عام 535 ودمروا الأسطول الفوقي، ومن ذلك الوقت أخذت قوة اليونان في غرب البحر المتوسط تتضاءل ولم تقم لهم فيه بعدئذ قائمة.


الفصل الخامس: صقَلِّـيَة

لقد تركنا إلى آخر المطاف، أو على الأصح إلى قبيل أخره، أغنى الأصقاع التي استعمرها اليونان. ونقول أغناها لأن الطبيعة وهبت صقلية ما حرمت منه بلاد اليونان في القارة الأوربية - ونعني بذلك تربتها التي لا يكاد ينفذ خصبها بفضل أمطارها وحمم بركانها - ولذلك كانت تنتج من القمح والحبوب الأخرى ما جعل أهلها يعتقدون أنها إن لم تكن مسقط رأس دمتر نفسها فلا أقل من أن تكون ملجأها المفضل المحبوب. لقد كان فيها بساتين وكروم، وآجام من أشجار الزيتون مثقلة كلها بالثمار؛ وكان فيها شهد لا يقل حلاوة ولذة عن جني همتوس Hymettus، وأزهار تتفتح طائفة بعد طائفة من بداية العام إلى نهايته. كان فيها سهول كلئة ترعى فيها الماشية والضأن، وتنمو على منحدرات تلالها أشجار لا يحصها عد، وسمك البحار المحيطة بها يتوالد وينمو أسرع مما يستطيع أهل صقلية أن يأكلوه.

وازدهرت في هذه الجزيرة ثقافة من ثقافات العصر الحجري الجديد في الألف الثالث من السنين التي قبل ميلاد المسيح، وأخرى من ثقافات العصر البرونزي في الألف الثاني منها؛ وحتى في الأيام المينوية كانت التجارة الخارجية تربط الجزيرة بكريت وبلاد اليونان(57). وفي أواخر الألف الثاني من السنين تكسرت ثلاث أمواج من الهجرة على سواحل صقلية: وهي موجة السكانيين Sicans من أسبانيا، وموجة الإليميين Elymi من آسية الصغرى، وموجة الصقليين Sicels من إيطاليا(58). واستقر الفينيقيون حوالي عام 800 ق.م في متيا Motya وبنورموس Panormus (بالرمو) في غربي الجزيرة. ثم تدفق اليونان عليها من سنة 735 وما بعدها ، وسرعان ما أسسوا ناكسوس، وسرقوسة، وليونتيني Leontini، ومسانا (مسينا)، وقطانا Catana، وجيلا، وهميرا Himera، وسلينس، وأكروجاس. وكان أهل الجزيرة الأصليون في جميع هذه الهجرات يُطردون من السواحل نحو الداخل بقوة السلاح. وقد انسحبت كثرتهم إلى الأصقاع الجبلية الداخلية تفلحها وتستغلها، ومنهم أقلية أصبحت عبيداً للغزاة. وتزاوج عدد منهم مع الفاتحين بلغ من الكثرة حداً أصبح معه للدم والعادات والأخلاق اليونانية في صقلية الغلبة على طباع الأهلين، فاتصفوا بما كان يتصف به اليونان من ثورة عاطفية وانهماك في العلاقات الجنسية(59). ولم يفتتح اليونان الجزيرة في وقت من الأوقات بالمعنى الصحيح للفظ الفتح، بل بقي الفينيقيون والقرطاجنيون أصحاب السلطة العليا على ساحلها الغربي، ودامت الحرب بينهم وبين اليونان خمسمائة عام، رمزاً للكفاح بين اليونان والساميين، وبين أوربا وإفريقية، للاستيلاء على صقلية وبدأ هذا النزاع من جديد في العصور الوسطى بين أهل الشمال (النورمان) والعرب بعد أن ظلت رومة مسيطرة على الجزيرة ثلاثة عشر قرناً من الزمان.

وامتازت قطانا بشرائعها، كما اشتهرت جزائر ليباري Lipari بشيوعيتها، وميرا بشاعرها سيجستا Segesta سلينس وأكروجاس بهياكلهما، وسرقوسة بقوتها وثرائها. وأضحت الشرائع التي سنها كارنداس Charondas لقطانا قبل صولون بجيل كامل أنموذجاً تحتذيه كثير من المدن في صقلية وإيطاليا، وكانت عاملاً قوياً في استتباب النظام العام وكبح الشهوات الجنسية في مجتمعات لا تحميها التقاليد القديمة ولا السوابق المقدسة المرعية. ومن أقوال كارنداس في هذا المعنى أن في وسع الرجل أن يطلق زوجته، كما أن في مقدور الزوجة أن تطلق زوجها، ولكن ينبغي للرجل ألا يتزوج أصغر من مطلقته كما أن عليها هي الأخرى ألا تتزوج برجل أصغر ممن طلقها(60) وتروي قصية يونانية الطابع نصادفها كثيراً في القصص اليوناني أن كرنداس حرَّم على المواطنين أن يدخلوا الجمعية مسلحين. على أنه حدث في يوم من الأيام أن جاء هو إلى اجتماع عام يحمل سيفه سهواً منه، ولما أن لامه أحد الناخبين على مخالفته لشريعته أجابه بقوله: "سأؤيد هذا القانون" ثم قتل نفسه(61). وإذا شئنا أن نتصور ما كان يكتنف الحياة من صعاب في هذه المستعمرات التي نشأت عن طريق الفتح العنيف، فما علينا إلا أن نستعرض النزعة الشيوعية العجيبة التي كانت تسود جزائر ليبازي (أي المجيدة) الواقعة إلى الشمال من شرق صقلية. فقد أقام فيها حوالي عام 580 ق.م جماعة من المغامرين جاءوا من نيدس Cnidus جنة القراصنة. وكان هؤلاء يهاجم المتاجر المارة حول المضيق، ويأتون بغنائمهم إلى أوكارهم في الجزيرة ويقتسمونها فيما بينهم قسمات تعد مضرب المثل في العدالة. وكانت الأرض ملكاً للأهلين مجتمعين، يخصصون عدداً منهم لفلحها، ويوزعون غلتها على المواطنين توزيعاً عادلاً خالياً من الظلم والإجحاف. بيد أن النزعة الفردية عادت إلى الظهور على مدى الأيام، فقسمت الأرض أقساماً امتلكها الأفراد، وعادت تجري في مجراها المألوف خالية من المساواة، مليئة بالتنافس والتطاحن.

وعلى ساحل صقلية الشمالي كانت تقوم مدينة هيمارا، وقد شاءت الأقدار أن تجعل منها بلاتية في الغرب، وفيها صاغ استسيكورس Stecichorus "صانع الأناشيد الجماعية" خرافات بني جنسه في صورة أغانٍ جماعية في الوقت الذي أخذ فيهِ اليونان يملون الملاحم الطوال؛ وحتى هلن وأخيل نفسهما لم ينجوا من هذا التجديد القصير الأجل بل اكتسيا على يدهما بهذا "الثواب الجديد". وكأنما أراد استسيكورس أن يسد الثغرة بين الملحمة الميتة، والرواية القصصية المقبلة، فألف قصصاً شعرية؛ روى في إحداها كيف ماتت فتاة طاهرة لأن من أحبته لم يستجب لحبها، وكان الأسلوب الذي روي به هذه القصة شبيهاً بأسلوب أغاني الحب البروفنسالية Provencal في فرنسا أو قصص العصر الفكتوري في إنجلترا. هذا إلى أنه قد مهد في الوقت نفسه الطرق أمام ثيوقريطس Theocritus بأن كتب قصيدة في حياة الرعاة روى فيها موت الراعي دفنيس Daphnis الذي كان حبه لكلو Chloe موضوع الروايات اليونانية في العصر الروماني. وقد كتب استسيكوروس نفسه رواية غرامية كانت بطلتها هلن نفسها. ولما فقد استسيكوروس بصره اعتقد أن هذه الكارثة لم تحل به إلا لأنه نقل إلى الخلق قصة خيانة هلن؛ وأراد أن يكفر لها عن ذنبه (لأنها أصبحت وقتئذ إلهة) فألف قصيدة أخرى أنكر فيها ما قاله في أغنيته الأولى، وأكد للعالم أن هلن اختطفت من بيتها قوة واقتداراً، وأنها لم تسلم نفسها قط لباريس؛ ولم تذهب إلى طروادة، بل بقيت سالمة في مصر حتى جاء منلوس لينقذها من محنتها. وقد حظر الشاعر في شيخوخته هيمرا من سلطة فلارس Phalaris الأكرجاسي المطلقة ، فلما أصم فلارس أذنيه عن سماع نصحه انتقل إلى قطانا، حيث كان قبره الأثري من المناظر الرائعة في صقلية في العصر الروماني. وإلى غرب هيمرا كانت سيجستا Segesta، التي لم يبقَ منها إلا رواق ذو عمد دورية ناقصة تقوم الآن وسط ما يحيط بها من الأعشاب البرية. وإذا شئنا أن نتبين طراز فن العمارة الصقلية في أحسن صوره، كان علينا أن نخترق الجزيرة إلى الجنوب حيث كانت المدينتان العظيمتان سلينس وأكروجاس. فأما سلينس فقد شادت للآلهة الصامتة، في أثناء حياتها المحزنة منذ تأسيسها في عام 651 إلى أن دمرها القرطاجنيون عام 409، سبعة هياكل دورية الطراز، ضخمة ولكنها تعوزها الدقة وحسن الصناعة، يغطيها الجص المزين بالرسوم وعليها نقوس بارزة فجة. وقد دمر شيطان الزلازل هذه الهياكل في وقت غير معروف، ولم يبقَ منها سوى أعمدة محطمة وتيجان ملقاة على الأرض.

وأما أكروجاس - أجرجنتم الرومانية - فقد كانت في القرن السادس أكبر مدائن صقلية وأعظمها ثروة. وفي وسعنا أن نتخيلها ممتدة من أرصفتها الشديدة الحركة، إلى سوقها الصاخبة، وإلى بيوتها القائمة على جانب التل، ثم إلى قلعتها الحصينة الفخمة التي تكاد أضرحتها لعلوها الشاهق أن ترفع المتعبدين فيها إلى السماء. وفي هذه المدينة رضي الأشراف ملاك الأراضي أن يسلموا زمام الحكم إلى دكتاتورية تمثل الطبقة الوسطى بنوع خاص، شأنها في هذا شأن معظم المدن اليونانية. وفي عام 570 اغتصب فلارس زمام الحكم، وخلد اسمه على مر الأزمان بأن شوى أعداءه في داخل ثور من النحاس الأصفر؛ ولقد سره بنوع خاص أن استطاع صانعوا هذا الثور أن يستحدثوا فيه طريقة تجعل عويل الضحايا يخرج من طائفة من الأنابيب كأنه خوار الثور نفسه(62). لكنه رغم هذا كان هو وطاغية آخر من بعده يدعى ثيرون Theron الرجلين الذين تمتعت المدينة في عهدهما في النظام السياسي والاستقرار، وبفضلهما قطعت شوطاً بعيداً في سبيل تقدمها الاقتصادي، حتى أصبح تجار أكروجاس كما أصبح تجار سلينس، وكرتونا، وسيبارس أصحاب الملايين في تلك الأيام، وكان ذوو المال الأقل منهم شأناً في بلاد اليونان القديمة، يحسدونهم شراً على ثرائهم العظيم، وينتقمون لأنفسهم منهم بازدرائهم، ويقولون إن الأثرياء الجدد مولعون بالضخامة والمظهر، ولكنهم يعوزهم الذوق وجمال الفن. وما من شك في أن هيكل زيوس في أكروجاس كان يمتاز بضخامته، فقد وصفه بولبيوس بأنه "لا يعلو عليه هيكل آخر في حجمه أو تصميمه" (63)؛ وليس في مقدورنا أن نقدر ما كان عليه من جمال، لأن الحروب والزلازل دمرته تدميراً، ثم سادت أكروجاس بعد جيل من ذلك الوقت؛ أي في عصر بركليز، هياكل أخرى أقل من هذا حجماً. وقد بقي أحدها وهو هيكل الوفاق Concord بكامل أجزائه تقريباً، كما بقي من هيكل هيرا طائفة من العمد تؤثر في النفس بروعتها. ويكفي ما بقي من المعبدين للدلالة على أن الذوق اليوناني لم يكن مقصوراً على أثينة وحدها، وعلى أن الغرب التجاري نفسه قد أدرك أن "الرقي ليس في الضخامة". وفي أكروجاس ولد إمبدقليز العظيم، ولا يبعد أن يكون قد مات فيها أيضاً لا في فوهة بركان إتنا Etna.

وبدأت سرقوسة بالصورة التي هي عليها اليوم- قرية محتشدة على لسان ارتجيا Ortygia الجبلي الممتد في البحر. وكانت كورنثة قد أرسلت في القرن الثامن جماعة من المستعمرين مسلحين بأخلاق قوية وأسلحة متفوقة للاستيلاء على شبه الجزيرة الصغيرة. ولعلها كانت وقتئذ جزيرة، فبنوا أو وسعوا الطريق الذي يصلها بأرض صقلية، وطردوا معظم الصقليين إلى داخل الجزيرة. وازداد أبناؤهم كما يزداد أبناء الشعب القوي في الأرض الكثيرة الموارد، حتى أصبحت مدينتهم على مر الأيام أكبر المدن في بلاد اليونان كلها، فكان طول محيطها أربعة عشر ميلاً، وسكانها نصف مليون. وقام العامة من سكانها الذين لم يكن لهم ما لسائر الأهلين من حقوق سياسية، ومعهم الصقليون المسترقون، بثورة على الأشراف ملاك الأراضي واستولوا منهم على أزمة الحكم في عام 495. ولكن الدمقراطية الجديدة- إذا جاز لنا أن نصدق أرسطاطاليس(64). عجزت عن أن تقيم مجتمعاً منظماً، وما زالت كذلك حتى قام جيلون الجيلي Gelon of Gela في عام 485 واستبدل بها دكتاتورية مستعيناً على ذلك بخطة من الغدر المستنير. وكان كالكثيرين من أمثاله حاكماً قديراً لا يرعى عهداً ولا ذمة، يسخر من جميع المبادئ الأخلاقية والقيود السياسية، وجعل من أرتيجيا حصناً منيعاً لحكومته، وفتح نكسوس، وليونتيني، ومسانا؛ وفرض الضرائب على شرقي صقلية كله ليستعين بها على جعل سرقوسة أجمل العواصم اليونانية. ويقول عنه هيرودوت متحسراً: "وبهذه الطريقة أصبح جيلون ملكاً عظيماً".

ثم صلح حاله وصار بابليون صقلية المعبود، حين بعث خشيارشاي أسطوله ليهاجم أثينة، فسير القرطاجنيون عمارة بحرية يكاد عدد سفنها يساوي عدد مراكب الأسطول الفارسي؛ لتنتزع جنة الجزائر كلها من أيدي اليونان. وكان مصير الجزيرة هو نفس المصير الذي لاقته بلاد اليونان حين واجه جيلون هملكار في هيمرا في نفس الشهر- أو في نفس اليوم كما تقول الرواية المتواترة- الذي واجه فيه ثمستكليز خشيارشاي في سلاميس.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل السّادس: اليونان في إفريقية

وكان من حق القرطاجنيين أن يوجسوا في أنفسهم خيفة، لأن اليونان شيدوا مدناً عامرة على ساحل إفريقية الشمالي نفسه وأخذوا يستولون على تجارته. فقد أرسل الدوريون أهل ثيرا منذ عام 630 جالية كبيرة إلى قورين في منتصف الطريق بين قرطاجنة ومصر. ووجدوا فيها على حافة الصحراء تربة خصبة ومطراً بلغ من غزارته أن قال عنه أهل البلاد إن في السماء من فوقهم فرجة تنصب منها الأمطار. واستخدم اليونان بعض الأرض للرعي، وأصدروا منا إلى الخارج الأصواف والجلود، واستنبتوا من نبات الأنجدان تابلاً كانت بلاد اليونان بأجمعها تحرص على شرائه؛ وكانوا يبيعون غلات بلادهم إلى إفريقية، وارتقوا بحرفهم اليدوية إلى حد جعل المزهريات القورينية من أحسن مزهريات العالم. وانتفعت المدينة بثروتها على خير وجه وأحكمه، وازدانت بالحدائق الغناء، وبأعظم الهياكل والتماثيل وحلبات الألعاب. وفيها ولد ارستبوس Aristippus أول فيلسوف أبيقوري ذائع الصيت، وإليها عاد بعد تجوال طويل ليؤسس المدرسة القورينية. وحط اليونان رحالهم في مصر نفسها وهي المعروفة بكراهيتها لاستيطان الأجانب بها ؛ وأنشئوا لهم فيها آخر الأمر إمبراطورية. فقد أنشأ الميليتيون حوالي عام 650 محطة تجارية عند نقراطيس على فرع النيل الكانوبي. وسمح لهم أبسماتيك الأول فرعون مصر بإنشائها لأنهم يصلحون لأن يكونوا جنوداً مرتزقين، ولأن تجارتهم كانت غنية طيبة له يحصل منها جباتُه على ضرائب جمركية عالية(67). ووهبهم أحمس الثاني قسطاً كبيراً من الحكم الذاتي؛ وأصبحت نقراطيس مدينة صناعية أو كادت، تنتج الفخار، والقرميد، والخزف الرقيق؛ وأهم من هذا أنها أصبحت مستودعاً تجارياً عظيماً، يأتي إليها زيت بلاد اليونان وخمرها، وترسل قمح مصر وتيلها وصوفها، وعاج إفريقية وعطورها وذهبها. وانتقلت مع هذه المتاجر معارف مصر، وطقوسها الدينية، وعمارتها، ونحتها، وعلومها الطبيعية إلى بلاد اليونان، كما دخلت مصر مع غلات اليونان ألفاظهم وأساليبهم في الحياة، فمهدت السبيل إلى سيطرة اليونان على مصر في العصر الإسكندري. وإذا تصورنا مركباً يونانياً يسير من نقراطيس إلى أثينة؛ أتممنا بذلك طوافنا حول العالم اليوناني. ولقد كان واجباً علينا أن نطوف هذا الطواف الطويل لكي ندرك مدى الحضارة الهيلينية ونشعر باختلاف مظاهرها. ولقد قص علينا أرسطاطاليس تاريخ النظام الدستوري في 158 دولة من دول المدن اليونانية، ولكنه أغفل تاريخ ألف مدينة غيرها. لقد كانت كل واحدة منها تضطلع بنصيبها في تجارة البلاد التي نطلق عليها اسم بلاد اليونان، وصناعتها، وتفكيرها. وفي المستعمرات لا في أرض اليونان الأصلية ولد فنا الشعر والنثر اليونانيان، ونشأت علوم الرياضة وعلوم ما وراء الطبيعة، والخطابة والتاريخ، اليونانية. ولولا هذه المستعمرات وعشرات المئات من اللوامس الماصة التي بثتها في العالم القديم تمتص بها ما فيه من علم وفن وثقافة، ولولا هذه وتلك لما وجدت الحضارة اليونانية وهي أثمن نتاج التاريخ بأجمعه، وعن طريق هذه المستعمرات واللوامس انتقلت حضارة مصر والشرق إلى بلاد اليونان، وانتشرت الثقافة اليونانية انتشاراً بطيئاً في آسية وإفريقية وأوربا.