قصة الحضارة - ول ديورانت - م 2 ك 2 ب 6

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 1851

قصة الحضارة -> حياة اليونان -> نهضة بلاد اليونان -> الهجرة الكبرى -> أسبابها ووسائلها

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب السادس: الهجرة الكبرى

الفصل الأول: أسبابها ووسائلها

لقد ضحينا في سبيل استكمال قصة إسبارطة وأثينة إلى قبيل واقعة مرثون بوحدة الزمان من أجل وحدة المكان. نعم إن مدن بلاد اليونان الأصلية كانت أقدم من المستعمرات اليونانية في بحر إيجة وفي جزائر أيونيان، وإن هذه هي التي أنشأت في كثير من الحالات المستعمرات التي سنصف حياتها هذه في هذه الفصول، ولكن عدداً من هذه المستعمرات أضحى بما حدث من انقلاب مربك في سياق الحوادث السوي أعظم شأناً من المدن التي أنشأتها وسبقتها في ثروتها وفنونها، وبذلك لم يكن الذين أوجدوا الثقافة اليونانية بحق هم اليونان أهل البلاد التي نسميها الآن بلاد اليونان، بل كانوا هم الذين فروا أمام الدوريين الفاتحين وحاربوا حرب المستيئسين ليُثبتوا أقدامهم على السواحل الأجنبية، وأنشأوا بفضل ذكرياتهم الميسينية وجهودهم العجيبة العلوم والفنون، والفلسفة والشعر، التي جعلت لهم قبل مرثون بزمن طويل المقام الأول في العالم الغربي؛ ثم أورثت المستعمرات أمهاتها من المدائن الأصلية الحضارة اليونانية.

وليس شيء في تاريخ اليونان أدل على حيويتهم من انتشارهم السريع في جميع بلاد البحر المتوسط . لقد كانوا قبل أيام هومر شعباً بدوياً متنقلاً، وكانت شبه جزيرة البلقان كلها تضطرب بحركاتهم، ولكن أهم العوامل التي أثارت الموجات اليونانية المتتابعة التي طغت على جزائر بحر إيجة وعلى السواحل الغربية للقارة الآسيوية كانت غزوات الدوريين. فقد خرج الناس على أثرها من جميع أنحاء هيلاس يبحثون عن الموطن وينشدون الحرية بعيدين عن قبضة الفاتحين المستعبدين؛ وكان من العوامل الأخرى التي بعثت على هذه الهجرة ما في الدول القديمة من انقسامات سياسية ومنازعات بين الأسر؛ فكان المغلوبون يختارون النفي من البلاد أحياناً، وكان الغالبون يشجعونهم على الخروج منها أعظم تشجيع؛ يضاف إلى هذا أن بعض من بقي على قيد الحياة من اليونان الذين اشتركوا في حرب طروادة فضلوا البقاء في آسية؛ واستقر غيرهم في جزائر بحر إيجة حباً في المغامرات أو عجزاً عن العودة إلى وطنهم بعد أن تحطمت بهم السفن التي كانت تقلهم، ووجد غيرهم حين عادوا إلى أوطانهم بعد أسفارهم الطويلة التي تعرضوا فيها لأشد الأخطار، أن عروشهم قد ثُلّت وأن زوجاتهم قد احتضنهن غيرهم، فعادوا إلى سفنهم ليُنشئوا لهم أوطاناً جديدة ويجمعوا ثروات جديدة في خارج بلادهم(2). وعاد الاستعمار على بلاد اليونان الأصلية، كما عاد صنوه على أوربا الحديثة، بمزايا عظيمة من عدة وجوه. فلقد كان منفذاً للزائدين على طاقة الأرض من السكان وللمغامرين منهم، وكان بمثابة صمام الأمان من التذمر الزراعي، وبفضله نشأت أسواق أجنبية لغلات البلاد الأصلية، ومستودعات حصينة في مراكز منيعة للواردات من الطعام والمعادن. وأوجد الاستعمار في آخر الأمر إمبراطورية تجارية كان ما فيها من تبادل السلع، والفنون، وأساليب الحياة، والأفكار؛ من أقوى العوامل في نشأة حضارة اليونان المعقدة.

وسارت الهجرات في خمسة خطوط رئيسية - إيوليّة، أيونيّة، دورية، يكسينية Euxine، إيطالية.. وبدأت أقدمها في الدويلات الشمالية من أرض اليونان الأصيلة، وهي التي لاقت أولى الغزوات من الشمال والغرب. فقد سارت على مهل جحافل من المهاجرين من تساليا، وثيوتس، وبؤوتية، وإيتوليا، لم تنقطع طوال القرنين الثاني عشر والحادي عشر، مخترقة بحر إيجة، وزحفت على الأصقاع المحيطة بطروادة، وأنشأت فيها المدائن الاثنتي عشرة التي تألف منها الحلف الإيولي. ويبدأ الخط الثاني من خطوط الهجرة في البلوبونيز حيث فرَّ آلاف من الميسينيين والآخيين على أثر "عودة الهرقليين"، واستقر بعضهم في أتكا والبعض الآخر في عوبية، وخرج الكثيرون منهم إلى جزائر سكلديس، وجازفوا باختراق بحر إيجة، وأسسوا في غربي آسية الصغرى المدائن الاثنتي عشرة التي تألف منها الحلف الأيوني الاثنى عشري Ionian Dadecapolis. وسار في الخط الثالث من خطوط الهجرة الدوريين الذين فاضت بهم أرض البلوبونيز، فاستقروا في جزائر سكلديس، وفتحوا كريت وسيريني، وأنشأوا حلفاً من ست مدن دُورية Dorian Hexapolis حول جزيرة رودس. وبدأ الخط الرابع في مكان ما من بلاد اليونان واستقر من ساروا فيه على سواحل تراقية، وأنشأوا مائة مدينة على شواطئ الدردنيل، والبروبنتس (بحر مرمرة) والبحر اليكسيني (البحر الأسود). واتجه الخط الخامس نحو الغرب إلى الجزائر التي أسماها اليونان الجزائر الأيونية، ثم اخترق إيطاليا وصقلية حتى بلغ آخر الأمر غالة وأسبانيا.

وليس في وسع إنسان ما أن يتصور ما قام من العقبات في سبيل هذه الهجرة الطويلة المدى التي دامت مائة عام، أو كيف ذللت، إلا إذا كان عطوفاً واسع الخيال أو كان قوي الذاكرة لم ينسَ ما لقيناه نحن الأمريكيين في تاريخنا الاستعماري. لقد كان في مغادرة الأرض التي خلعت عليها شعائر القداسة قبور الآباء والأجداد، والتي يحرسها الأرباب القدامى، والخروج إلى أصقاع غريبة لا تحميها في أكبر الظن آلهة بلاد اليونان، لقد كان في هذا وذاك مغامرة خطيرة الشأن، ومن أجل هذا أخذ المستعمرون معهم حفنات التراب من بلادهم الأصيلة لينثروها فوق أرض الأقاليم الأجنبية، وحملوا في جد ووقار قبساً من النار من المذابح العامة في مدافنهم الأولى ليشعلوا به النار في مواقد المدن التي أنشأوها في مستعمراتهم الجديدة. وكانوا يختارون مواضع هذه المدن على شاطئ البحر أو قريبة منه، حيث يمكن أن تكون السفن - وهي الموطن الثاني لنصف اليونان - ملجأ يعصمهم من هجمات الأعداء براً؛ وكان خيراً من هذا الوضع عندهم أن تقام فوق سهل ساحلي تحميها الجبال التي تصد المغيرين من ورائها، أو على تل يكون حصيناً منيعاً في داخل المدينة نفسها، أو أن تكون ذات ميناء في البحر يحميه لسان بارز منه؛ وخير من هذا وذاك أن يكون هذا الميناء الأمين على طريق تجاري، أو قريباً من مصب نهر تصل إليه السفن حاملة الغلات من داخل البلاد لتُصدر أو يُستبدل بها غيرها من الغلات، فتنتعش ويعمها الرخاء عاجلاً كان ذلك أو آجلاً. وكانوا لا يكادون يجدون موقعاً صالحاً إلا احتلوه، واستولوا عليه بالحيلة إن أفلحت، فإن لم تفلح سلكوا إليه سبيل القوة. ولم يكن اليونان في هذه الظروف يرعون مبادئ أخلاقية أرقى مما نرعاه نحن الآن ، فكان الفاتحون في بعض الأحيان يستعبدون السكان الأولين بنفس الدعاوى المضحكة الباطلة التي ادعاها الحجاج المهاجرون طلباً للحرية. وكان أكثر من هذا حدوثاً أن يتودد المهاجرون الجدد إلى السكان الأولين بما يحملونه إليهم من الهدايا، ويخلبوا لبهم بثقافتهم الراقية، ومغازلة نسائهم، وعبادة آلهتهم. ولم يكن اليونان المستعمرون يعنون بنقاء الدم(3). وكان في وسعهم على الدوام أن يجدوا في مجتمع آلهتهم الكثيرة إلهاً شبيهاً بإله الموطن الجديد شبهاً ييسر لهم التوفيق بين الإلهين. وأهم من هذا كله أن المستعمرين كانوا يعرضون ما صنعته أيديهم من سلع يونانية على السكان الأصليين، ويستبدلون بها الحبوب والماشية أو المعادن، ويصدرون هذه الغلات إلى بلاد البحر المتوسط، ويفضلون من هذه البلاد أمهم التي هاجروا منها، والتي لا تنفك قلوبهم تنطوي لها مدى القرون على حب وولاء يبلغ حد التقديس.

وأخذت هذه المستعمرات واحدة بعد أخرى تتشكل وتتخذ صورة المدائن اليونانية حتى لم تعد بلاد اليونان مقصورة على شبه الجزيرة الضيقة التي كان يُطلق عليها هذا الاسم في أيام هومر، بل أضحت طائفة من المدن المستقلة مرتبطة بعضها مع بعض برباط غير متين، ومنتشرة من أفريقية إلى تراقية، ومن جبل طارق إلى الطرف الشرقي من البحر الأسود. وكان هذا العهد من أهم العهود في تاريخ نساء اليونان، فلسنا نجدهن على الدوام أكثر استعداداً مما كن في ذلك الوقت لإنجاب الأبناء. وبفضل هذه المراكز التي تفيض جِدّاً وحيوية وذكاء نشر اليونان في جميع أنحاء أوربا الجنوبية بذور ذلك الترف المزعزع الدال على الحذق والدهاء الذي يُطلق علية اسم الحضارة، والذي لولاه لما كان للحياة جمال ولا للتاريخ معنى.


الفصل الثاني: السيكلديس الأيونية

إذا سار السائح بحراً من بيريس (بيرية)، متجهاً نحو الجنوب، مصاحباً ساحل أتكا، ثم انحرف نحو الشرق وحول لسان سنيوم ذي الهيكل، وصل إلى جزيرة كيوس Ceos الصغيرة حيث "كان في يوم من الأيام قانون يحتم على من بلغوا الستين من عمرهم أن يشربوا عصير الشيكران السام حتى يكفي الطعام من يبقى حياً من الناس"(4)، إذا قبلنا ما لا يقبله العقل اعتماداَ على قول استرابون وبلوتارخ.

وربما كان هذا هو الذي جعل شاعرها العظيم ينفي نفسه مختاراً من كيوس بعد أن جاوز سن الكهولة؛ ولعله قد وجد أن من العسير عليه أن يبلغ في موطنه الأصلي السابعة والثمانين من العمر التي تقول الرواية اليونانية المتواترة إنه قد بلغها. وقد كان جميع العالم اليوناني يعرف سمنيدس وهو في سن الثلاثين، ولما مات في عام 469 أجمع الناس كلهم على أنه أنبه كُتاب زمانه ذكراً. كانت شهرته في الشعر والغناء هي التي جعلت هباركس Hipparchus، وهو ثاني اثنين من الحاكمين بأمرهما معاً في أثينة، يدعوا إليها، وقد استطاع في بلاطها أن يعد أواصر الصداقة مع شاعر آخر. وبقي حياً بعد الحروب الفارسية واختير عدة مرار ليكتب قبريات الأنصاب التي تقام على قبور المكرمين من الأموات. وعاش في شيخوخته في بلاط هيرون Hieron الأول طاغية سرقوسة، وبلغ من الشهرة وقتئذ حداً أمكنه به أن يعقد الصلح في ميدان القتال عام 475 بين هيرون وثيرون Theron طاغية أكرجاس، وكان القتال قد أوشك أن ينشب بينهما(5). ويحدثنا بلوتارخ في مقاله الشديد الصلة بهذا الموضوع نفسه وعنوانه "هل يجب أن يحكم الناس الشيوخ"، أن سمنيدس ظل يكسب جائزة الشعر الغنائي والغناء الجماعي حتى بلغ سن الشيخوخة. ولما رضي آخر الأمر أن يموت دفن في أكرجاس بمظاهر التكريم الخليقة بالملوك.

ولم يكن سمنيدس شاعراً فحسب، بل كان فوق ذلك رجلاً ذا شخصية عجيبة، وكان اليونان ينددون به ويحبونه لرذائله وشذوذه. وكان مغرماً بالمال فإذا غاب عنه الذهب لم يلهم الشعر؛ وكان أول من كتب الشعر ليؤجر عليه، وحجته في هذا أن من حق الشاعر أن يأكل كما يأكل سائر الناس؛ ولكن هذه العادة كانت جديدة في بلاد اليونان، وكان أرستفنيز يردد غضب الشعب منها، ويقول إن سمنيدس "لا يستنكف أن يذهب إلى البحر في محفة ليكسب فيه فلساً" (6). وكان يفخر بأنه اخترع طريقة لمساعدة الذاكرة على الاستظهار، أخذها عنه شيشرون واعترف بفضله عليه(7). والمبدأ الجوهري الذي تقوم عليه هذه الطريقة وهو ترتيب الأشياء التي يريد أن يتذكرها متتابعة في ترتيب منطقي من نوع ما بحيث يؤدي كل قسم منها بطبيعته إلى القسم الذي يليه. وكان رجلاً فكهاً، انتشرت أجوبته الفكهة المسكتة في جميع مدن اليونان وتداولها الناس فيما بينهم تداول النقود، ولكنه قال في شيخوخته إنه كثيراً ما ندم على الكلام وإن لم يندم قط على السكوت(8).

وإنا ليدهشنا أن نجد في القليل الباقي لدينا من أقوال هذا الشاعر الذي نال كثيراً من الثناء والعطاء تلك الكآبة التي كانت طابع الكثير من أدب اليونان بعد هومر-ونقول بعد هومر لأن الناس في أيامه كانوا أنشط من أن يكتئبوا، وكانوا أعنف من أن يتضايقوا ويملوا: "ألا ما أقل أيام الحياة وما أكثر ما فيها من شرور، ولكن نومنا تحت أطباق الثرى سيكون نوماً سرمدياً...وما أضعف الإنسان وما أقوى أغلاطه؛ إن الأحزان تأتي في أعقاب الأحزان طوال حياته القصيرة ثم يدركه آخر الأمر الموت الذي لا ينجو منه إنسان، والذي يرد حوضه الأخيار والأشرار على السواء...ما من أحد من الناس وما من شيء من صنعهم خالد؛ وما أصدق قول شاعر طشيوز Chjos إن حياة الإنسان كحياة ورقة الشجرة الخضراء. لكن الذين يسمعون هذا لا يكاد يذكره منهم أحد ، لأن الأمل قوي في صدور الشبان؛ فإذا كان الإنسان في نضرة الشباب، وكان فارغ القلب من المتاعب، امتلأ عقله بالأفكار الباطلة وظن أنه لن تدركه الشيخوخة، ولا الموت؛ وهو لا يفكر في المرض إذا كان صحيح الجسم..ألا ما أشد حمق من يفكرون هذا التفكير ومن لا يعرفون أن أيام شبابنا وأيام حياتنا قصيرة" (9).

ولم يكن يجيش في صدر سمنيدس أمل في جزيرة مباركة تخفف عنه آلامه؛ كما أن أرباب أولمبس قد أصبحت كأرباب المسيحية في بعض الشعر الحديث أدوات لقرض الشعر لا وسائل لتخفيف أحزان النفوس. ولما تحداه هيرون وطلب إليه أن يحدد طبيعة الله وصفاته، استمهله يوماً واحداً يعد فيه جوابه، وفي اليوم الثاني استمهله يومين آخرين، وكان في كل مرة يضاعف المهلة التي يطلبها ليعد فيها الجواب. ولما طلب إليه هيرون أن يوضح له معنى مسلكه هذا، أجابه أن هذا الأمر يزداد غموضاً كلما طال تفكيره فيه(10).

ولم تنجب كيوس سمنيدس وحده بل أنجبت أيضاً بكليدس Bacchylides ابن أخيه وخليفته في الشعر الغنائي، وأنجبت في أيام الإسكندر الأكبر إراستراتس Erasistratus العالم الكبير في تشريح الأجسام. وليس في مقدورنا أن نقول هذا القول نفسه عن جزائر سريفوس Siriphos، أو أندروس Andros أو تينوس Tenos أو ميكونوس Myconos أو سيكنوس Sicinos أو إيوس Ios. وفي سيروس Syros عاش فرسيديز Pherecydes (حوالي 550)، وقد اشتهر بأنه علم فيثاغورس، وبأنه أول من كتب من الفلاسفة نثراً. أما ديلوس فكانت مسقط رأس أبلو نفسه، على حد قول القصة اليونانية. ولقد بلغ من تقديس الناس لهذه الجزيرة، لأن فيها مزاره، أن حرموا الموت والولادة داخل حدودها. فكانت كل امرأة مقبلة على الوضع تُنقل منها، وكان كل إنسان دنت منيته يُبعد عنها، إلى غيرها من البلاد، وأخرجت أجسام من كان فيها قبل مولد أبلو من قبورها المعروفة حتى تصبح الجزيرة طاهرة نقية(11). وفي هذه الجزيرة احتفظت أثينة هي وحليفاتها من المدن الأيونية بكنوز حلف ديلوس بعد هزيمة الفرس؛ وفيها كان الأيونيون يجتمعون كل أربع سنين اجتماعاً يختلط فيه التقى بالمرح للاحتفال بعيد الإله الجميل. وتصف إحدى ترانيم القرن السابع قبل الميلاد "النساء ذوات المناطق الجميلة" (12) ، والتجار الحريصين الدائبين على العمل في حوانيتهم؛ والجماهير المصطفة على جوانب الطرق ترقب الموكب المقدس، وما يقام في المعبد من شعائر وطقوس مهيبة، وما يقرب فيه من قربان مقدس؛ وتصف كذلك الرقص المرح والترانيم الجماعية التي تنشدها عذارى من ديلوس وأثينة اختاروهن لجمالهن وحسن أصواتهن؛ والمباريات الرياضية والموسيقية، والمسرحيات التي كانت ُتمثل في الملاهي في الهواء الطلق. وكان الأثينيون يرسلون في كل عام بعثة إلى ديلوس تحتفل فيها بمولد أبلو، فإذا سافرت إليها لا يعدم مجرم في أثينة حتى تعود. وهذا هو سبب الفترة الطويلة التي انقضت بين الحكم على سقراط وبين إعدامه، والتي أفاد منها الأدب والفلسفة أعظم فائدة.

ونكسوس Naxos أكبر جوائز السكلديس، كما أن ديلوس تكاد تكون أصغرها. واشتهرت في الزمن القديم بخمرها ورخامها، وأثرت في القرن السادس ثراء أمكنها أن تبني لها أسطولاً خاصاً بها، وأن تكون لها مدرسة خاصة للنحت. وإلى الجنوب الشرقي من نكسوس جزيرة أمرجوس Amorgos موطن سمنيدس Semonides البغيض الذي هجا النساء هجاءً لاذعاً، حرص التاريخ الذي كتبه الرجال على الاحتفاظ به إلى هذه الأيام . وإلى الغرب منها تقع جزيرة باروس وتكاد كلها أن تكون من الرخام، وأهلها يشيدون منه بيوتهم، وقد وجد فيها بركستليز الحجر النصف الشفاف الذي نحته وصقله وصور فيه الجسم الآدمي صورة يكاد يعتقد الناظر إليها أنها من لحم ودم. وفي هذه الجزيرة ولد في أواخر القرن الثامن أركلوكوس Archilochus من جارية مشتراة بالمال، ولكنه كان أعظم الشعراء المغنين، ولد في بلاد اليونان. وقد قاده حظ الجنود شمالاً إلى ثاسيوس Thasos حيث اشتبك في حرب مع أهلها، ولكنه في أثناء المعركة ألقى بدرعه وأطلق ساقيه للريح لأنه وجدهما أعود عليه بالفائدة من الدروع، وعاش ليسخر من هذه الحرب فيما بعد سخريات كثيرة. ولما عاد إلى باروس أحب فيها نيوبولي Neobule ابنة الثري ليكمبيز Lycambes. وهو يصفها بأنها فتاة متواضعة، لها ضفيرتان تنوسان على كتفيها، ويتحسر كما يتحسر أمثاله في كل الأزمان ويقول إن "كل ما يتمناه أن يلمس يدها"(14). ولكن لكمبيز كان يُعجب بشعر الشاعر أكثر من إعجابه بماله فقضى على آماله؛ فما كان من أركلوكس إلا أن حمل عليه وعلى نيوبولي وأختها حملة من الهجاء شعواء آثر معها ثلاثتهم كما تقول القصة أن يشنقوا أنفسهم. وامتلأ قلب أركلوكس حقداً على باروس فترك "تينها وسمكها" وأصبح مرة أخرى جندياً يبحث عن حظه في ميادين القتال. ولما أن عجزت ساقاه في آخر الأمر عن أن تسعفاه في الهرب قتل وهو يحارب النكسيين .

وتدلنا قصائده على أنه كان يُغلظ في القول لأعدائه وأصدقائه على السواء، وأنه كان شديد الولع بالزنا، يدفعه إلى هذا خيبة آماله في الحب(15).

والصورة التي ترتسم له في مخيلتنا هي صورة القرصان الملهم والبحار الرخيم الصوت، ذي اللفظ الخشن في نثره المصقول في شعره، يعمد إلى البحر العمبقي من بحور الشعر، وهو الذي كانت تصاغ فيه الأغاني الشعبية وقتئذ، فيؤلف به أبياتاً قصيرة لاذعة من ثلاثة أوتاد. وهذا البحر العمبقي ذو الثلاثة أوتاد هو الذي كتبت به المآسي اليونانية الشهيرة. لكنه لم يقتصر على هذا الوزن، بل أخذ يجرب بحوراً أخرى كالبحر الدقتيلي السداسي الأوتاد، والتروقي الرباعي الأوتاد، وبحوراً أخرى تجاوز العشرة عداً . وهو الذي أدخل في الشعر اليوناني الأوزان التي احتفظ بها إلى آخر الأيام. ولم يبقَ من قصائده إلا بضعة أسطر قليلة غير كاملة، ولسنا نجد بداً من قبول الأقدمين إنه كان أحب الشعراء اليونان إلى بني وطنه بعد هومر. وكان هوراس يحب أن يقلد أوزانه المتغيرة، ولما سُئل أرستفنيز البيزنطي الناقد المتأغرق العظيم أي قصائد أركلوكوس أحبها إليه، أجاب عن ذلك السؤال بكلمتين اثنتين عبر بهما عن شعور بلاد اليونان كلها فقال: "أطول القصائد" (16).

وعلى مسيرة باكورة اليوم بالسفينة من باروس تقع جزيرة سفنوس Siphnos الشهيرة بمناجم الفضة والذهب. وكان الشعب يمتلك هذه المناجم عن طريق حكومته. وكان نتاجها عظيماً استطاعت الجزيرة به أن تعتمد عليه في إقامة الخزانة السَّفنية في دلفي، وما فيها من تماثيل النسوة اللائي يحملن على رؤوسهن مواد البناء وهن هادئات مطمئنات، وأن تقيم آثاراً غيرها كثيرة، وأن توزع مع ذلك مقداراً كبيراً من المعدنين النفيسين على الأهلين في آخر كل عام(17). وفي عام 524 جاء جماعة من اللصوص من ساموس ونزلوا في هذه الجزيرة وفرضوا عليها جزية تبلغ مائة وزنة - أي ما يساوي 000ر600 ريال أمريكي من النقود هذه الأيام. وقبلت بلاد اليونان الأخرى هذه السرقة الجريئة بالاطمئنان والجلد اللذين يقبل بهما الناس في العادة مصائب أصدقائهم.


الفصل الثالث: الفيض الدوري

واستعمر الدوريون أيضاً جزائر سكلديس، وروضوا طباعهم العسكرية بتدريج جوانب الجبال وتسويتها على مهل، حتى تمسك الأمطار الشحيحة فتروي نباتهم وكرومهم. وفي ميلوس ورثوا عن أسلافهم من أهل العصر البرنزي استخراج الحجر الزجاجي الطبيعي، وبفضلهم أثرت الجزيرة ثراء جعل الأثينيين يبذلون قصارى جهدهم لكسب معونتها في كفاحهم مع إسبارطة. وسنرى هذا في الفصول التالية من هذا الكتاب. وفي هذه الجزيرة عثر المنقبون على "أفرديتي ميلوس" وهو الآن أشهر تمثال في العالم الغربي كله.

واتجه الدوريون شرقاً ثم جنوباً وفتحوا ثيرا Thera وكريت؛ ومن ثيرا أرسلوا جالية منهم استعمرت سيريني. واستقر عدد قليل منهم في قبرص، وكان فيها منذ القرن الحادي عشر جالية قليلة العدد من اليونان الأركاديين تنازع الأسر الفينيقية القديمة السيادة على الجزيرة. وكان من هؤلاء الملوك الصغار بجمليون الذي تروى عنه القصص أنه أعجب بتمثال من العاج لأفرديتي نحته هو بنفسه فشغفه حباً ورجا الآلهة أن تهبه الحياة، فلما أجابت رجاءه تزوج الفتاة التي صنعها بيده(18). والراجح أن كشف الحديد قد قلل طلب الناس لنحاس قبرص، فتخلفت الجزيرة عن ركب التقدم الاقتصادي اليوناني. وكان من أثر تقطيع الأهلين الأشجار ليصهروا بها فلذ النحاس، وتقطيع الفينيقيين إياها لصنع سفنهم، وتقطيع اليونان الكثير منها لإعداد الأرض للزراعة، كان من أثر هذا التقطيع أن استحالت الجزيرة شيئاً فشيئاً إلى تلك الأرض المهجورة نصف المجدبة كما نراها اليوم. وكان فن الجزيرة، كما كان أهلها، في العصر اليوناني خليطاً من آثار الفن المصري والفينيقي واليوناني، ولم يكن له في يوم من الأيام طابع واحد خاص به .

ولم يكن الدوريين إلا أقلية من سكان قبرص اليونان؛ أما في رودس، وجزائر اسبرديس Sporades الجنوبية وما جاورها من أرض القارة الأوربية فقد أصبحوا هم الطبقة الحاكمة. وازدهرت رودس وعمها الرخاء في القرون التي بين هومر ومرثون، وإن لم يبلغ هذا الازدهار ذروته إلا في العصر الذي اصطبغت فيه تلك البلاد بالصبغة اليونانية. وأنشأ المستعمرون الدوريون على لسان في البحر بارز من قارة آسية مدينة نيدوس Cnidus؛ وبفضل موقعها هذا أضحت ثغراً صالحاً للتجارة الساحلية. وفي هذه المدينة ولد في مستقبل الأيام يودكسس Eudoxus الفلكي، وتسياس Ctesias المؤرخ (أو كاتب الخرافات)، وسستراتس Sostratus الذي بنى في مستقبل الأيام منارة الإسكندرية. وهنا أيضاً وجد بين أنقاض المعابد القديمة تمثال دمتر، الأم الحزينة المحفوظ في المتحف البريطاني. وتقع أمام نيدوس جزيرة كوس موطن أبقراط، وقد كان مركزاً لعلم الطب اليوناني ينافس فيه نيدوس. وفيها ولد أبليز Apelles الرسام وثيكريتوس Theocritus الشاعر. وكان على بعد قليل منها وعلى الساحل نفسه مدينة هليكرنسس Halicarnassus مسقط رأس هيرودوت. وقد كانت في أيام انتشار الحضارة اليونانية مقر حكم موسولوس Mausolus الملك الكاري وحبيبته أرتميزيا. وقد تكون من هذه المدينة ومن كوس ونيدوس ومن مدائن رودس الشهيرة (لندس، وكمبرس، وبليس) المدائن الست الدُورية في آسية الصغرى، وهي التي قامت تنافس إلى حين مدائن أيونيا الاثنتي عشرة منافسة ضعيفة.



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الرّابع: الاثنتا عشرة مدينة الأيونية

ميليتس والموطن الأول للفلسفة اليونانية

كان يمتد إلى الشمال الغربي من كاريا مسافة تسعين ميلاً شريط ساحلي جبلي يختلف عرضه بين عشرين وثلاثين ميلاً، وهو المعروف في الزمن القديم باسم أيونيا. ويصفه هيرودوت بقوله "إن هواءه ومناخه أجمل هواء ومناخ في العالم كله" (19). وكانت كثرة مدائنه عند مصاب الأنهار أو عند منتهى الطرق، وكانت هذه الأنهار والطرق تنقل البضائع مما ورائها من الإقليم إلى شاطئ البحر المتوسط، ومنه تُنقل على ظهور السفن إلى كافة الأنحاء.

وكانت ميليتس، وهي أبعد المدن الاثنتي عشرة الأيونية جهة الجنوب، أغنى مدائن العالم اليوناني كله في القرن السادس قبل الميلاد. وقد قامت هذه المدينة في موضع كان يسكنه الكاريون من العهد المينوي، فلما أقبل الأيونيون من أتكا على هذا المكان حوالي 1000 ق.م. وجدوا فيه الثقافة الإيجية وإن كانت في صورة مضمحلة، تنتظرهم ليتخذوها بداية متقدمة لحضارتهم. ولم يأتوا معهم بنساء إلى ميليتس فاكتفوا بأن قتلوا الذكران من أهلها وتزوجوا الأرامل(20). وبدأ امتزاج الثقافتين بامتزاج دماء الأهلين والوافدين. وخضعت ميليتس، كما خضعت كثرة المدن الأيونية، في أول الأمر لحكم الملوك الذين يقودون جيوشهم في الحرب، ثم خضعت بعدئذ لحكم الأشراف الذين يملكون الأرض، ثم لحكم "المستبدين" الذين يمثلون الطبقة الوسطى. ووصلت الصناعة والتجارة إلى ذروتيهما في عهد الطاغية ثراسيبولوس Thrasybulus في بداية القرن السادس قبل الميلاد، وأثمر رخاؤها المطرد أدباً وفلسفة وفناً. وكان الصوف يُحمل إليها من أرض الكلأ الغنية في الداخل وينسج ملابس في مصانع النسيج القائمة في المدينة. وتعلم التجار الأيونيون عن الفينيقيين إقامة المستعمرات لتكون مراكز تجارية، فأنشأوا العدد الكبير منها في مصر وإيطاليا، على شواطئ بحر البروبنتس واليوكسين، ثم تفوقوا شيئاً فشيئاً على معلميهم في هذا المجال، فكان لميليتس وحدها ثمانون مستعمرة من هذه المستعمرات التجارية، ستون منها في الشمال. وكانت ميليتس تستورد من أبيدوس وسيزيكوس Cyzicus وسينوب وألبيا Olbai وترابيزوس Trapezus وديوسكورياس Dioscurias الكتان والخشب والفاكهة والمعدن، وتصدر إليها بدلاً منها مصنوعاتها اليدوية. وأصبح ثراء المدينة وترفها ُتضرب بهما الأمثال وتعير بهما المدينة في بلاد اليونان بأجمعها. وفاضت خزائن تجارها بالأموال فأخذوا يمولون المشروعات في طول البلاد وعرضها وفي المدينة نفسها، فكانوا هم آل ميديتشي في عصر النهضة الأيونية.

وفي هذه البيئة المنعشة الباعثة على النشاط الذهني أثمرت بلاد اليونان الثمرتين الأوليين من الثمار التي امتازت بها على غيرها، وأهدتهما إلى العالم كله- نقصد العلوم الطبيعية والفلسفة؛ ذلك أنه حيث تتلاقى الطرق تتلاقى كذلك الآراء والعادات والعقائد المتباينة؛ وينشأ من اختلافها احتكاك، فتنازع، فمفاضلة، فتفكير؛ فتمحو الخرافات بعضها بعضاً، ويبدأ التفكير المنطقي السليم. وقد تلاقى في ميليتس كما تلاقى في أثينة رجال جاءوا من مائة دولة متفرقة، ذوو نشاط عقلي بعثه فيهم التنافس التجاري، وقد تحرروا من أسر التقاليد لطول غيابهم عن أوطانهم، وهياكلهم، ومذابح آلهتهم. وكان أهل ميليتس أنفسهم يسافرون إلى المدن البعيدة حيث تفتحت عيونهم على حضارة ليديا، وبابل، وفينيقية، ومصر. وبهذه الطريقة وغيرها من الطرق دخل علم الهندسة المصرية وعلم الفلك البابلي العقل اليوناني، ونمت التجارة الداخلية، والعلوم الرياضية، والتجارة الخارجية، وعلوم الجغرافية، والملاحة، والفلك، كلها في وقت واحد. وكان الثراء في هذه الأثناء قد أوجد للناس الفراغ؛ ونشأت في البلدة أرستقراطية ثقافية امتازت بالتسامح الفكري لأن من يستطيعون القراءة كانوا أقلية صغيرة في المدينة. ولم يكن يضيق على عقول الناس وتفكيرهم قيود يفرضها رجال دين أقوياء، ولا نصوص قديمة منزلة موحى بها، وحتى القصائد الهومرية التي أمست فيما بعد كتاب اليونان المقدس إلى حد ما لم تكن قد اتخذت بعد شكلها النهائي المحدد المعروف، ولمّا اتخذته كان ما فيها من أساطير دينية مطبوعاً بطابع التشكك الأيوني والمرح المُجُوني. ومن ثم أصبح التفكير في هذه المدينة لأول مرة تفكيراً دنيوياً غير ديني يسعى وراء الأجوبة العقلية المنسقة غير المتنافرة لما يحير العقول من مسائل العالم والناس .

على أن الغرس الجديد، وإن كان قد حل محل الغرس القديم، كانت له أصوله وكان له آباءه وأجداده، فقد امتزجت بالفلسفة الواقعية الطيبة التي كانت من خصائص التجار الفينيقيين واليونان حكمة الكهنة المصريين والمجوس الفرس الأقدمين، بل لعلها قد امتزجت بها أيضاً حكمة المتنبئين الهنود وعلم الكهنة الكلدان وبداية الخليقة المجسدة التي صاغها هزيود شعراً. وقد مهد الدين نفسه السبيل إلى هذا المزج حين تحدث عن مويرا Moira أو القدر، وقال إنه هو المتحكم في الآلهة والبشر. وكان هذا بداية فكرة القانون الذي يعلو على الإرادة الشخصية مهما عظمت، وهي الفكرة التي تدل على الفرق الجوهري بين العلم والأساطير؛ وبين الاستبداد والديمقراطية. ولقد تحرر الإنسان من يوم أن اعترف أنه خاضع لحكم القانون، وأكبر الأسباب التي جعلت اليونان ذوي خطر في التاريخ ورفعتهم فيه إلى أعلى مكانة، هي أنهم، على قدر ما وصل إليه علمنا، كانوا أول من اعترف بخضوع الإنسان لحكم القانون وبحقه في البحث الفلسفي وفي اختيار الحكم الذي يرتضيه.

وإذا كانت الحياة تتطور متأثرة بعاملين هما الوراثة والتجديد، أي بتثبيت العادات وإقرارها والتجديد التجريبي، فقد كان من المنتظر أن تكون الأصول الدينية للفلسفة هي التي تغذيها، وأن يبقى فيها إلى آخر أيامها عنصر ديني قوي. وقد كان في الفلسفة اليونانية تياران يجريان جنباً إلى جنب: أحدهما تيار طبيعي النزعة ظاهر، والثاني تيار صوفي غامض. وقد نشأ الأول في عهد فيثاغورس، وشمل برمنديدس وهرقليطس وأفلاطون وكلنثيس Cleanthes، وانتهى ببلنتينوس Blontinus والقديس بولس؛ وأما الثاني فقد كان أول رجاله العالميين طاليس، وشمل أنكسمندر وكزنوفانيس Xenophanes وبروتجراس وهبقراطس ودمقريطس، وانتهى بأبيقور ولكرتيوس Lucretius. وكان يحدث من حين إلى حين أن يقوم رجل عظيم- كسقراط وأرسطاطاليس، وماركس أورليوس- فيمزج التيارين في مجرى واحد يحاول به أن يوضح نظم الحياة المعقدة التي لا تنطبق على قانون. على أن النغمة الغالبة في هؤلاء الرجال أنفسهم كانت هي حب أتباع العقل، وهي النغمة التي يمتاز بها التفكير اليوناني.

ولد طاليس حوالي 640 ق.م وأكبر الظن أنه ولد في ميليتس، وكان الدائر على ألسنة الناس أنه من أبوين فينيقيين(21)، وتلقى معظم تعليمه في مصر والشرق الأدنى. وفيه يتمثل انتقال الثقافة من الشرق إلى الغرب. ويبدو أنه لم يشتغل بالأعمال التجارية والمالية إلا بالقدر الذي أمكنه أن يحصل به على طيبات الحياة العادية. وليس من يجهل قصة مضارباته في معاصر الزيت ثم صرف باقي وقته في الدرس وأنهمك فيه انهماكاً توحي به قصة سقوطه في حفرة وهو يرقب النجوم. وكان رغم عزلته يهتم بشؤون المدنية، يعرف الطاغية ثراسيبولوس، ويدعو إلى تكوين حلف من الدول الأيونية للدفاع عن نفسها ضد ليديا وفارس(23).

وتعزو إليه الروايات المتواترة كلها إدخال العلوم الرياضية والفلكية إلى بلاد اليونان. وتروي إحدى القصص القديمة أنه وهو في مصر قدّر ارتفاع الأهرام بقياس ظلها التي يكون فيها ظل الإنسان مساوياً لطول قامته. ولما عاد إلى أيونيا واصل دراسة الهندسة النظرية التي خلبت لبه بمنطقها السليم، وما فيها من استدلال علمي، وشرح كثير من النظريات التي جمعها إقليدس فيما بعد . وكما أن هذه النظريات كانت الأساس الذي قام عليه علم الهندسة النظرية اليونانية، كذلك كانت دراسته لعلم الفلك الأساس الذي قام عليه هذا العلم في الحضارة الغربية، بعد أن خلصه من التنجيم الذي أدخله فيه الشرقيون. وكانت له بعض الأرصاد الصغرى، وقد دهشت بلاد أيونيا بأجمعها حين أفلح بالتنبؤ بخسوف الشمس في الثامن والعشرين من شهر مايو 535 ق.م(25)، والراجح أنه قد بنى هذا التنبؤ على أساس السجلات المصرية وعلى حساب البابليين. أما فيما عدا هذا فإن نظريته في نظام الكون لا ترقى كثيراً على ما كان شائعاً عن هذا النظام عند المصريين واليهود، فقد ظن أن العالم يتكون من نصف كرة يرتكز على منبسط من الماء لا نهاية له، وأن الأرض قرص مستوي طافٍ على السطح المستوي في داخل هذا الجسم النصف الكري. ويذكرنا هذا بقول جيته Goethe إن الإنسان يشترك في رذائله (أو أخطائه) مع أهل زمانه، أما فضائله (أو فراسته) فإنه ينفرد بها دون سائر الناس.

وكما أن بعض الأساطير اليونانية قد جعلت أقيانوس Oceanus والد الخلائق بأجمعها، فكذلك جعل طاليس الماء المبدأ الأول لجميع الأشياء، وشكلها الأصلي ومصيرها النهائي. ويقول أرسطو إنه ربما جاء بهذا الرأي بعد أن شاهد "أن غذاء كل شيء رطب وأن ...بذور كل شيء ذات طبيعة رطبة؛..وأن ما يتولد منه كل شيء هو دائماً مبدؤها الأساسي" (27). أو لعله كان يعتقد أن الماء هو الصورة الأولى أو الأساسية من صور المادة الثلاث- الغازية والسائلة والصلبة- التي يمكن أن تتحول إليها المواد كلها من الوجهة النظرية؛ وليس أهم ما في آرائه قوله إن الماء أصل كل شيء، بل أهمها إرجاعه الأشياء جميعها إلى أصل واحد؛ ولقد كان ذلك أول قول بوحدة المادة في التاريخ المدون كله. ويصف أرسطو آراء طاليس بأنها مادية؛ ولكن طاليس يضيف إلى أقواله السابقة أن كل جزء في العالم حي، وأن المادة والحياة وحدة لا ينفصل أحد جزأيها عن الآخر، وأن في النباتات والمعادن "نفساً" خالدة كما في الحيوان والإنسان، وأن القوة الحيوية تتغير صورتها ولكنها لا تموت أبداً(28). وكان من عادة طاليس أن يقول إنه لا يوجد فرق جوهري بين الأحياء والأموات. ولما أراد بعض الناس أن يضايقه بسؤال إياه لـمَ إذاً يؤثر الحياة على الموت أجابه بقوله: "ذلك لأنه لا فرق بينهما" (29).

ولما بلغ سن الشيخوخة أجمع مواطنوه على تلقيبه بلقب الحكيم Sophos، ولما اعتزمت بلاد اليونان أن تخلد أسماء حكمائها السبعة، وضعت اسم طاليس على رأسهم، وسُئل طاليس عن أصعب الأشياء فأجاب بقوله الذي جرى مجرى الأمثال: "أن تعرف نفسك"، ولما سُئل عن أسهل الأشياء قال: "أن تسدي النصح"، وسُئل ما هو الله؟ فأجاب "هو ما ليس له بداية ولا نهاية"، وسُئل كيف يستطيع الناس أن يعيشوا عيشة الفضيلة والعدالة فأجاب: "ألا نفعل نحن ما نلوم غيرنا على فعله" (30). ويقول ديوجينيز ليرتيوس Diogenes Laertius(31): إنه مات "وهو يشاهد مباراة في الألعاب الرياضية، بعد أن أضناه الحر والظمأ والتعب لأنه بلغ سن الشيخوخة".

ويقول استرابون(32). إن طاليس كان أول من كتب في الفيزيولوجيا أي علم الطبيعة (Physics)، أو مبدأ وجود الأشياء وتطورها. وقد تقدم علمه تقدماً عظيماً على يد تلميذه أنكسمندر؛ وقد عاش بين عامي 611، 549 ق.م. ولكنه نشر على الناس فلسفة تشبه شبهاً عجيباً الفلسفة التي نشرها هربرت اسبنسر Herbert Spencer في عام 1860م، وهو يهتز طرباً من قوة ابتكاره الفطين. ويقول أنكسمندر إن المبدأ الأول كان لا نهائية غير محددة واسعة الأرجاء (Apeiron)، أي كتلة غير محددة ليست لها صفات خاصة، ولكنها تنمو وتتطور بما فيها من قوى ذاتية، حتى نشأت منها جميع حقائق الكون المختلفة . وهذه اللانهائية الحية السرمدية التي لا صلة لها بالشخصية ولا بالأخلاق، هي الإله الذي لا إله غيره في نظام أنكسمندر؛ هي الواحد السرمدي الذي لا يحول، والذي يختلف كل الاختلاف عن الكثرة الفانية المتغيرة التي في عالم الأشياء. وهنا تلتقي هذه الفلسفة بآراء المدرسة الإليتية Eletic فيما وراء الطبيعة- وهي أن الواحد السرمدي دون غيره هو الحقيقة. ومن هذه اللانهائية التي لا خواص لها تولد العوالم الجديدة في تتابع لا ينقطع أبداً، وإليها تعود هذه العوالم في تتابع لا ينقطع أبداً، بعد أن تتطور وتموت. وتحتوي اللانهائية الأزلية على جميع الأضداد- الحر والبرد، والرطوبة والجفاف، والسيولة والصلابة والغازية...، وهذه الصفات الإمكانية تصبح في حالة التطور حقائق واقعية، وتنشأ منها أشياء محددة مختلفة؛ وفي حالة الانحلال تعود الصفات المتضادة مرة ثانية إلى اللانهائية (ومن هذه الآراء استمد هرقليطس واسبنسر آراءهما). وفي قيام العوالم وسقوطها على هذا النحو تصطرع العناصر المختلفة بعضها مع بعض، ويعتدي بعضها على بعض اصطراع الأضداد المتعادية، ويكون جزاؤها على هذا التضاد هو الانحلال؛ "فتفنى الأشياء في الأشياء التي ولدت منها".

ولا يسلم أنكسمندر هو الآخر من الأوهام الفلكية التي يمكن أن تغتفر في عصر لا توجد فيه آلات، ولكنه تفوق على طاليس بقوله إن الأرض اسطوانة معلقة بغير شيء في وسط الكون لا يمسكها غير وجودها على أبعاد متساوية من جميع الأشياء(34). وهو يرى أن الشمس والقمر والنجوم تتحرك في دوائر حول الأرض. وأراد أنكسمندر أن يوضح هذا كله فصنع في إسبارطة مزولة (Gnomon)- وأكبر الظن أنه قلد فيها نماذج بابلية- أظهر فيها حركة الكواكب، وميل الفلك وتعاقب الانقلابين والاعتدالين والفصول(35). وقد استطاع بمعاونة زميله ومواطنه هكاتيوس Hecataeus أن يجعل الجغرافية علماً، وذلك برسمه أول خريطة معروفة للعالم المعمور .

ويقول أنكسمندر إن الدنيا في أول صورة لها كانت في حالة الميوعة، ولكن الحرارة الخارجية جففت بعضها فكان أرضاً، وبخرت بعضها فكان سحاباً؛ وإن اختلاف الحرارة في جَوّها الذي تكوّن بهذه الطريقة قد نشأت عنه حركة الرياح. ونشأت الكائنات الحية بمراحل تدريجية من الرطوبة الأولى؛ وكانت الحيوانات الأرضية في بادئ الأمر سمكاً، ولم تتشكل بأشكالها الحالية إلا بعد أن جفت الأرض . وقد كان الإنسان هو الآخر سمكة، ولا يمكن أن يكون من أول ما ظهر على الأرض قد ولد بالصورة التي هو عليها الآن، وإلا لكان عاجزاً عن الحصول على طعامه، ولهلك(36).

وكان أنكسمينيز Anaximenes تلميذ أنكسمندر أقل منه شأناً، والمبدأ الأول عنده هو الهواء. ومن الهواء تنشأ جميع العناصر الأخرى بالتلطيف (تقليل الكثافة) وبه تحدث النار، وبالتكثيف وبه تحدث على التوالي الرياح والسحب والماء والأرض والحجارة. وكما أن الروح وهي هواء، تمسك أجسامنا فكذلك يكون هواء العالم (النوما Pneuma) هو روحه السارية فيه كله أو نفسه أو الإله(37)، وتلك فكرة لا تنال منها جميع أعاصير الفلسفة اليونانية، وتجد لها عاصماً في الرواقية والمسيحية.

ولم تنتج هذه الأيام مجد ميليتس وعزتها أقدم ما أنتجته الفلسفة اليونانية فحسب، بل أنتجت أيضاً أقدم النثر وأقدم التاريخ المدون في بلاد اليونان كلها . ويبدو أن قول الشعر أمر طبيعي في شباب الأمة، حين يكون الخيال فيها أعظم من المعرفة وحين يجسد الإيمان القوي قوى الطبيعة في الحقل، والغابة، والبحر، والجو. وإن من أصعب الأشياء على الشعر تجنب تجسيد القوى ومنحها روحاً، كما أن أصعب الأشياء على هذا التجسيد وذاك المنح أن يتجنبا الشعر. أما النثر فهو صورة المعرفة التي تخلصت من الخيال ومن الإيمان، وهو لغة الشؤون العادية الدنيوية غير الدينية، وهو رمز نضوج الأمة والشاهد على انقضاء عهد شبابها. وقد ظل الأدب اليوناني كله تقريباً إلى العصر الذي نتحدث عنه (600 ق.م)، وصقل التعليم أخلاق اليونان شعراً لا نثراً، بل إن الفلاسفة الأولين أمثال زنوفانيز، وبرميدس، وأنبدقليز قد ألبسوا نظامهم الفلسفي ثوباً شعرياً؛ وكما أن العلم كان في بداية الأمر صورة من صور الفلسفة تكافح لتكرر نفسها من الصور العامة النظرية غير القابلة للتحقيق، كذلك كانت الفلسفة في أول عهدها من صور الشعر، تحاول أن تتحرر من الأساطير، وتجسيد القوى ومنحها روحاً، ومن التشابه والاستعارات .

ولذلك كان من الحوادث المهمة في تاريخ العلم أن يشرح فرسيدس Pherecydes وانكسمندر آراءهما نثراً. وقد بدأ رجال غيرهما في ذلك العصر نفسه يسميهم اليونان لوجوجرافوي أي الكُتَّاب العقليين أو كُتَّاب النثر، بدءوا يسجلون بهذه الوسيلة الجديدة تواريخ دولهم، فكتب كدموس Cadmus (550) تاريخاً لميليتس، وكتب يوجايون Eugaeon تاريخاً لساموس، وكتب زانثوس Xanthus تاريخاً لليديا. وفي أواخر ذلك القرن ارتقى هكتيوس Hecataeus الميليتي بالتاريخ والجغرافية رقياً عظيماً في كتابين يعدان فتحاً جديداً في هذين العلمين هما الهسترياي Historiai أو البحوث والجس بريودوس Ges Periodos أو دورة الأرض. وقد قسم الكتاب الثاني الكوكب الأرضي قارتين هما أوربا وآسية وضم مصر إلى آسية. وإذا كانت الأجزاء الباقية من هذا الكتاب حقيقية؛ فإن فيها معلومات قيمة عن مصر سطا هيرودوت على الكثير منها دون أن يعترف بهذا. وقد بدأ كتاب البحوث بهذه العبارة القوية الدالة على تشككه: "إني أكتب ما أرى أنه حق؛ لأن روايات اليونان في نظري كثيرة وسخيفة". وكان هكتيوس يعد أقوال هومر تاريخاً، وأخذ منها عدة قصص وهو مغمض العينين، على أنه قد حاول محاولة شريفة أن يميز الحقائق من الأساطير، وأن يتعقب الأنساب الحقة، وأن يحاول الوصول إلى تاريخ لليونان يمكن الركون إليه. وجملة القول أن كتابة التاريخ اليوناني كانت قديمة العهد حين ولد "أبو التاريخ".

وكان هكتيوس وغيره من الكتاب العقليين الذين ظهروا في هذا العصر في معظم مدن اليونان ومستعمراتهم يفهمون من كلمة هستوريا بحث الحقائق المتصلة بأية مادة من الموارد العلمية، سواء كانت متصلة بالعلوم الطبيعية أو الفلسفة أو بكتابة التاريخ بمعناه الحديث. وكان لهذا اللفظ في أيونيا معنى يثير الريبة في نفوس أهلها؛ فقد كانوا يفهمون منه أنه يراد به أن يستبدل بقصص المعجزات الخاصة بالآلهة وبالأبطال أنصاف الآلهة، سجلات للحوادث الدنيوية وتفاسير عقلية لِعِلَلْ هذه الحوادث ونتائجها. وقد بدأت هذه العملية بهكتيوس، وتقدمت على يد هيرودوت، وبلغت غايتها على يد توكيديدس. ويرتبط فقر النثر اليوناني قبل هيرودوت بهزيمة ميليتس وتغلب المغيرين عليها وفقرها في العصر الذي بدأ فيه النثر. ذلك أن الاضمحلال الداخلي قد مهد السبيل للفاتحين كما جرت العادة في مختلف العصور، وقد كان ازدياد الثراء وانتشار الترف سبباً في انغماس الناس في الملاذ، وبدت الرواقية والوطنية في نظر الناس من المبادئ العتيقة السخيفة؛ وجرت على ألسنة اليونان تلك العبارة التي يسخرون بها من أهل ميليتس: "لقد كان الميلينيون شجعاناً في يوم من الأيام" (38). واشتدت المنافسة بين الأهلين للحصول على طيبات الحياة، حين فقد الإيمان القديم قدرته على تخفيف النزاع بين الطبقات، ببث مبادئ الرحمة والعدالة في نفوس الأقوياء، والسلوى في نفوس الضعفاء؛ وأصبح الأغنياء وهم عماد الدكتاتورية الألجركية حزباً متحداً يقف في وجه الفقراء المطالبين بالديمقراطية؛ ولكن الفقراء استولوا على زمام الحكم، وطردوا الأغنياء من البلاد، وجمعوا من بقي من أبناء الأغنياء في أماكن الدراس، وأطلقوا عليهم الثيران فداستهم بأقدامها وقضت عليهم جميعاً. ثم عاد الأغنياء وقبضوا على أزمة الحكم وطلوا جلود زعماء الديمقراطية بالقار وأحرقوهم أحياء(39). وستقال عنا هذه القصة في مستقبل الأيام. ولما شرع كروسس في عام 560 يخضع إلى حكم ليديا ساحل آسية الصغرى اليوناني، الممتد من نيدس إلى الهلسبنت (الدردنيل)، حافظت ميليتس على استقلالها بامتناعها عن مساعدة أخواتها من الدول اليونانية. ولكن قورش فتح ليديا في عام 546، ولم يجد صعوبة كبيرة في الاستيلاء على مدن أيونيا التي مزقتها الانقسامات الداخلية، وضمها إلى الدول الفارسية، وانقضى بذلك عصر ميليتس المجيد. إن العلم والفلسفة في تاريخ الدول يصلان إلى غايتهما بعد أن يبدأ فيهما الانحلال، ذلك أن الحكمة نذير الموت.

بوليكراتيز الساموسي

على شاطئ الخليج في مقابل ميليتس، بالقرب من منافذ نهر الميندر Maender كانت تقوم بلدة ميوس المتواضعة أشهر مدائن البرييني Priene، وكان يسكنها في القرن السادس بياس Bias أحد الحكماء السبعة، ونقول سبعة وإن كان هرمبوس Hermippus يقول إنهم سبعة عشر، لأن اليونان اختلفوا في أسمائهم فوضع كل منهم أسماء غير التي وضعها الآخر. ولكن معظمهم متفقون على طاليس، وصولون؛ وبياس، وبتكوس Pittacus الميليتي، وبريندر الكورنثي، وشيلون Chilon الإسبارطي، وكليوبولوس Cleobolus اللندي (Lindus) من أعمال رودس. وكانت بلاد اليونان تعظّم الحكمة كما تعظّم الهند الدين، وكما عظّمت إيطاليا في عهد النهضة العبقرية الفنية، وكما تعظم أمريكا الناشئة بطبيعة الحال المشروعات الاقتصادية. فأبطال اليونان لم يكونوا قديسين أو فنانين أو من أصحاب الملايين، بل كانوا حكماء، ولم يكن أجل حكمائهم هم أصحاب النظريات العلمية، بل كانوا رجالاً جعلوا لحكمتهم عملاً جدياً نشيطاً في العالم. وأصبحت أقوال هؤلاء الرجال حكماً وأمثالاً يتناقلها اليونان، وكانت في بعض الأحيان تنقش على جدران معبد أبلو في دلفي. فقد كان الناس مثلاً مولعين بترديد قول بياس، إن أبأس الناس من لم يعرف كيف يصبر على البؤس، وإن على الناس أن ينظموا حياتهم كما لو كانوا قد قدر عليهم أن يعيشوا طويلاً أو قصيراً، وإن "الحكمة يجب أن يُعتز بها وأن تكون وسيلة للانتقال من الشباب إلى الشيخوخة، لأنها أبقى من كل ما عداها مما يملكه الإنسان" (40). وإلى غرب بريني تقوم جزيرة ساموس ثانية جزائر أيونيا في الاتساع. وكانت حضارتها تقوم على ساحلها الجنوبي الشرقي؛ وكان الإنسان إذا ما دخل موفأها الأمين، بالسفن الحمراء الذائعة الصيت التي يتألف منها أسطول الجزيرة، شاهد المدينة أمامه كأنها مشيدة من القرميد على سفح التل. وكان أول ما شاهده الأرصفة والحوانيت، ثم يرى بعدئذ البيوت؛ ثم حصنها القائم على ربوة، ثم هيكل هيرا العظيم، ومنهن وراء هذه كلها سلاسل متتابعة من الجبال والقلل تعلو إلى خمسة آلاف قدم. لقد كان ذلك بلا ريب منظراً يثير الحماسة الوطنية في قلب كل ساموسي.

ووصلت ساموس إلى أوج عظمتها في الربع الثالث من القرن السادس تحت حكم بوليكراتيز Polycrates. وقد استطاع هذا الطاغية بفضل المال الذي تدره عليه رسوم الميناء أن يقضي فترة من البطالة كانت تنذر الجزيرة بأوخم العواقب، فوضع خطة لإقامة منشآت عامة أثارت إعجاب هيرودوت. وكان أعظم مشروعاته نفق في جبل ينقل الماء إلى المدينة مسافة 4500 قدم. وفي وسعنا أن نستدل بعض الاستدلال على مهارة اليونان الرياضية والهندسة، إذا عرفنا أن الثقبين الذين بدءا من اتجاهين متضادين التقيا في وسط النفق، وأن الخطأ في تقديرهم عند التقائهما لم يزد على ثماني عشرة قدماً في الاتجاه وعلى تسع أقدام في الارتفاع .

وكانت ساموس مركزاً من مراكز الثقافة قبل بوليكراتيز بزمن طويل. ففيها عاش إيسوب صاحب الخرافات المشهورة، وكان عبداً فريجياً للادمون Lodmon اليوناني. وتقول إحدى الروايات التي لم تؤيد بعدُ إن لادمون أعتقه وإن إيسوب سافر كثيراً والتقى بصولون، وعاش في بلاط كروسس، واستولى على الأموال التي كلفه كروسس بتوزيعها في دلفي، وإنه لقي حتفه على يد الدلفيين الذين اغتصبوا مالهم(42). وكانت خرافاته التي أخذ معظمها من مصادر شرقية منتشرة بين الأثينيين في عصر بلادهم الأدبي. ويقول بلوتارخ إن سقراط قد نظمها شعراً(43)، وإن ما فيها من فلسفة، فلسفةٌ يونانية خالصة، وإن كانت الخرافات نفسها مصوغة في قالب شرقي: "ما أحلى جمال الطبيعة؛ والأرض والبحر، والنجوم وقرص الشمس والقمر، وأما ما عدا هذه فخوف وألم" (44) وخاصة إذا اغتصب الإنسان مال غيره! ولا نزال حتى الآن نلتقي به في الفاتيكان حيث نراه على كوب من عصر بركليز ذي رأس أصاب الصلع نصفه ولحية كلحية فانديك Vandyke، يستمع إلى ثعلب مرح يروي له قصة ذات فائدة له(45).

وفي ساموس ولد فيثاغورس العظيم، ولكنه غادرها في عام 529 ليعيش في كروثونا بإيطاليا. وجاء أنكريوس من تيوس Teos إلى ساموس ليتغنى بمحاسن بوليكراتيز ويربي له ابنه؛ وكانت أعظم شخصية في بلاد بوليكراتيز هي شخصية الفنان ثيودوس Theodorus ليوناردو ساموس، الذي يعرف طرفاً من كل شيء ويجيد معظم ما يعرف. ويعزو إليه اليونان - ولعلهم فعلوا هذا بعد بحث وتنقيب -اختراع ميزان الماء، وزاوية النجار، والمخرطة(46). وكان ماهراً في الحفر على الجواهر، كما كان يحترف صنع الأدوات المعدنية والحجرية والخشبية؛ وكان مثالاً ومهندساً معمارياً، اشترك في تصميم المعبد الثاني لأرتميس في إفسوس، وشاد قبة عظيمة للجمعيات العامة في إسبارطة، وساعد على إدخال التماثيل والنماذج الطينية إلى بلاد اليونان، وشارك ريكوس Rhoecus شرف إدخال صناعة صب البرونز المجوف من مصر أو من أشور إلى ساموس(47). وكان اليونان قبل ثيودورس يصنعون تماثيل برونزية غير متقنة بتثبيت ألواح من المعدن على "قنطرة" من الخشب(48)، أما في أيامه فقد استطاعوا أن يخرجوا من روائع الصناعة البرونزية أمثال راكب العربة في دلفي وقاذف القرص في ميرون. واشتهرت ساموس فضلاً عن هذا بفخارها؛ ويثني بلني على هذا الفخار بقوله إن كهنة سيبيل لم يكونوا يستخدمون غير شقافة ساموس في حرمان أنفسهم من رجولتهم(49).


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

هرقليطس الإفسوسي

وعلى الجانب الثاني المقابل لساموس من خليج كايسترا كانت تقوم إفسوس أشهر مدائن أيونيا، وقد أنشأها حوالي عام 1000ق.م مستعمرون من أثينة. وكان اجتماع تجارة نهري كايشتر وميندر سبباً في رخاء المدينة. وكان في أصلها، وفي دينها، وفنها، عنصر شرقي واضح. وكانت أرتميز التي تُعبد فيها من بداية أمرها إلى نهايته إلهة شرقية للأمومة والخصوبة. وقد حدثت في هيكلها العظيم وفيات كثيرة وعاد فيه إلى الحياة خلق لا يقلون في عددهم عمن ماتوا فيه. وقد شُيد هيكلها الأول حوالي عام 6000 ق.م. في موضع كان فيه من قبل هيكل قديم، وأعيد بناؤه مرتين ودمر مرتين، ولعله كان أول صرح عظيم شُيد على الطراز الأيوني. وشُيد الهيكل الثاني حوالي عام 540 وقدم كروسس جزءاً كبيراً من المال الذي أنفق في تشييده، واشترك في تصميمه بيونيوس الإفسوسي وثيودورس الساموسي، ودمتريوس أحد كهنة الضريح. وكان أكبر هيكل يوناني أقيم حتى ذلك الوقت، وكان بعد بلا نزاع من بين عجائب الدنيا السبع . ولم تشتهر المدينة بهياكلها وحدها، بل اشتهرت أيضاً بشعائرها، وفلاسفتها، وبنسائها ذوات الجلابيب الغالية(51). وعاش فيها في ذلك الزمن البعيد أي حوالي 690 ق.م كلنوس Callinus أول من نعرف من شعراء المرائي في بلاد اليونان. وكان أعظم منه قدراً وأقبح منه منظراً هبوناكس Hipponax الذي ألف عام 550 قصائد قبيحة في موضوعها، غامضة في ألفاظها، لاذعة في فكاهتها، دقيقة في وزنها الشعري، جعلت بلاد اليونان كلها تتحدث عنه، وإفسوس كلها تحقد عليه. وكان قصير القامة نحيل الجسم، أعرج، مشوهاً، غاية في قبح المنظر. ويقول في بعض ما بقي من إحدى قصائده إن المرأة تسبب السعادة للرجل في يومين - "أحدهما يوم يتزوجها، والثانية يوم يدفنها" (52). وكان هجّاءً قاسياً، هجا كل عظيم في إفسوس من أحقر المجرمين إلى أعظم كهنة الهيكل، ولما عرض المثالان بوبالوس Bupalus وأثنيس Athenis رسماً له مضحكاً لطيفاً، هجاهما في شعره هجواً لاذعاً بلغ من القذارة حداً جعله أبقى على الدهر من حجارتهم وأحد من أسنان الزمان.

وكان أعظم أبناء إفسوس كلهم هو هرقليطس الغامض Heracleitus The Obscure وقد ولد في عام 530 من أسرة نبيلة، ولذلك كان يرى أن الديمقراطية نظام خاطئ. ومن أقواله في هذا المعنى: "إن الفاسدين كثيرون والصالحين قلائل" و "عندي أن رجلاً واحداً خير من عشرة آلاف إذا كان هو أحسنهم" (113). ولكن الأشراف أنفسهم لم يعجبوه، كما لم يعجبه العلماء والنساء. وقد كتب في هذا المعنى خاصة بعبارة طريفة هي: "إن العلم الكثير لا يُكوِّن العقل، ولو كان يُكوِّنه لأفاد هزيود، وفيثاغورس، وزنوفانيز، وهكاتيوس".(16) "لأن الحكمة الحقة الوحيدة هي معرفة الفكرة التي تسيطر بنفسها على كل شيء في جميع الأحوال"(19). ثم خرج، كما كان يخرج حكماء الصين، ليعيش في شعاب الجبال، ويجيل العقل في الفكرة الوحيدة التي يستطيع بها أن يفسر كل شيء. وترفع عن شرح ما هداه إليه تفكيره في ألفاظ يفهمها عامة الناس، وأخذ يطلب في غموض الحياة وغموض الأقوال ملجأ يعصمه من متابعة الأحزاب والعامة الذين يقتلون الفردية، ولذلك أخذ يعبر عن آرائه في أمثال جامعة غامضة في الطبيعة، أودعها هيكل أرتميز لتحير عقول الخلف.

وقد صُوَّر هرقليطس في الأدب الحديث بأنه يقيم فلسفته حول فكرة التغير، ولكن من الصعب علينا أن نجد القليل الباقي من هذه الفلسفة، ما يؤيد هذا التفسير. وقد كان يتوق كما يتوق معظم الفلاسفة للكشف عن الواحد المستتر وراء الكثرة، وعن وحدة تثبت العقول، ونظام بين ما في العالم من زحام وفوضى وكثرة. وقد قال في هذا المعنى قولاً لا يقل قوة وحماساً عن قول برمنيدز Parmenidez(1) إن الأشياء كلها وحدة؛ والمشكلة التي تواجهها الفلسفة هي أن تعرف ما هي هذه الوحدة. وقد أجاب هرقليطس عن هذا السؤال بأنها هي النار. ولعله كان في هذا الجواب متأثراً بعبادة الفرس للنار. وأكبر الظن أنه كان يستعمل هذا اللفظ استعمالاً رمزياً وحرفياً معاً، ويقصد به الطاقة كما يقصد به النار نفسها، كما نستدل على هذا من جمعه بين النار والنفس والله في معنى واحد. على أننا ليس في وسعنا أن نقطع برأي في هذا بالاستناد إلى القليل الباقي من فلسفته. انظر مثلاً إلى قوله: "إن هذا العالم ... لم يصنعه إله ولا إنسان، ولكنه كان منذ الأزل، وهو كائن، وسيكون، ناراً حية أزلية، توقد بقدر، وتنطفئ بقدر"(20)، وكل شيء صورة من صور النار، فهو إما في "طريق" النار "إلى أسفل" في تكثفها المتتابع إلى رطوبة، فماء، فأرض؛ أو إلى "طريقها إلى أعلى" من الأرض، إلى الماء، إلى الرطوبة ، إلى النار(54).

ومما يضايق هرقليطس في النار الخالدة أنها تتبدل تبدلاً لا يقف عند حد، وإن كان يجد فيها ثباتاً يخفف عنه ما يسببه هذا التبدل من ضيق؛ والمحور الثاني الذي يدور حوله تفكيره هو أبدية "هذا التبدل ووجوده في كل شيء، فهو لا يجد قط شيئاً جامداً في الكون أو في العقل أو في النفس؛ فلا شيء كائن بل كل شيء صائر، وليس ثمة حالة تبقى على حالها دون أن تتغير، حتى في أقصر اللحظات؛ فكل شيء دائب على الخروج عن حاله التي هو عليها، صائر إلى ما سيكون عليه. وتلك حال جديدة من حالات الفلسفة تلقى من هرقليطس عناية وتوكيداً، وهو لا يقتصر (كما يقتصر طاليس) على السؤال عن ماهية الأشياء في حاضرها، ولكنه يسأل كما يسأل أنكسمندر، ولكريشيوس، واسبنسر عن الطريقة التي أدت بها إلى ما هي عليه. وهو يشير، كما يشير أرسطو، إلى أن دراسة الحالة الثانية هي خير طريقة تعرف بها الأولى. ولسنا نجد فيما بقي لدينا من أمثاله المثل القائل: "كل شيء يسير، ولا شيء يسكن" (Panta rei,ouden menei)، ولكن الأقدمين على بكرة أبيهم يعزون هذا المثل إلى هرقليطس(56): "إنك لا تستطيع أن تخطو خطوتين في نهر واحد، لأن مياهاً أخرى لا تنفك تجري إليك"(41). "نحن كائنون ونحن غير كائنون" (81)؛ والكون عنده كما هو عند هيجل صيرورة كبرى. والتضاعف، والاختلاف، والتغير حقائق لا تقل في ذلك عن الوحدة، والذاتية، والكينونة؛ والتعدد، حقيقة لا تقل في ذلك عن الوحدة(57). فالكثرة هي الوحدة؛ وكل تغير ما هو إلا انتقال الأشياء نحو حالة النار أو منها، إن الوحدة هي الكثرة، وفي قلب النار نفسها يخفق التغير الذي لا يستقر أبداً .

ومن هنا ينتقل هرقليطس إلى العنصر الثالث من عناصر فلسفته - وهو وحدة الأضداد، واعتماد المتناقضات بعضها على بعض، وائتلاف النزاع. "الله هو الليل والنهار، والشتاء والصيف، والحرب والسلم، والتخمة والجوع" (36). "والخيّر والشرير واحد، وكذلك الخير والشر" (57-58) "والحياة والموت شيء واحد، كذلك اليقظة والنوم، والشباب والشيخوخة" (78) لأن هذه الأضداد كلها مراحل في حركة متقلبة، ولحظات في النار الدائمة التغير؛ وكل فرد في الزوجين المتضادين لا غنى عنه لمعنى الآخر ووجوده، والحقيقة هي توتر الأضداد وتفاعلها وتبادلها وتغيرها ووحدتها وانسجامها. "وهم لا يفهمون كيف يتفق مع نفسه ما يختلف مع نفسه. وهنا يكون تتطابق التوترات المتضادة، كتطابق قوس الرامي ووتر القيثارة"(45)، فكما أن وتر الآلة الموسيقية إذا أرخيته أو شددته أحدث التآلف في الذبذبة الذي نسميه موسيقى أو نغمة، فكذلك تبادل الأضداد وتنازعها يخلق جوهر تآلف الحياة والتغير ومعناهما. وفي النزاع القائم بين كائن حي وكائن حي، وبين رجل ورجل، وبين رجل وامرأة، وبين جيل وجيل، وبين طبقة وطبقة، وبين أمة وأمة، وبين فكرة وفكرة، وبين عقيدة وعقيدة، تكون الأضداد المحتربة هي اللحمة والسدى على نول الحياة، تعمل كل منها لغاية تناقض التي تعمل لها الأخرى، لتنتج وحدة الكل غير المنظورة واتفاقه المخبوء. وأجمل التطابق ما كان بين الأشياء التي تختلف(46)؛ وليس هذا المعنى بخافٍ على كل عاشق.

وهذه المبادئ الثلاثة جميعها - النار والتغير ووحدة التوتر في الأضداد - تدخل كلها في فكرة هرقليطس عن الروح والله. وهو يسخر من الذين "يسعون عبثاً ليطهروا أنفسهم من خفايا الدم بتدنيس أنفسهم بالدم" (130)، ومن الذين يُصَلّون إلى التماثيل القائمة هنا - ولا فرق بين من يفعل هذا وبين من يخاطب البيوت؛ إن هؤلاء الناس لا يعرفون قط شيئاً عن طبيعة الآلهة الحقة(126). وهو لا يوافق فكرة الخلود الشخصية، ويقول إن الإنسان أيضاً، ككل شيء آخر، لهب كثير التغير كثير التقلب، "يشتعل ثم ينطفئ كالضوء في الليل"(77). والإنسان في هذه الحالة نفسها، نار؛ والنفس، أو المبدأ الحيوي في الإنسان، جزء من الطاقة الخالدة في الأشياء جميعها؛ وهي بهذا الوصف لا تموت أبداً، والموت والميلاد نقطتان حددهما العقل البشري المحلل للأشياء تحديداً تعسفياً؛ ولكنهما من وجهة نظر الكون النزيهة الخالية من التحيزات لا تعدوان أن تكونا صورتين من صور تغير الأشكال التي لا تقف عند حد؛ ففي كل لحظة من اللحظات يموت جزء منا، ويعيش الكل، وفي كل ثانية يموت واحد منا وتبقى الحياة. والموت بداية كما هو نهاية؛ والمولد نهاية كما هو بداية. وألفاظنا، وأفكارنا، وحتى أخلاقنا نفسها، نزعات وأهواء، وتمثيل لمصالحنا مجزأة أو مجتمعة؛ ومن واجب الفلسفة أن تنظر إلى الأشياء الفردية في ضوء المجموع. "والأشياء كلها عند الله جميلة طيبة، حقة؛ ولكن الناس يرون بعض الأشياء خطأ ويرون بعضها صواباً"(61).

وكما أن الروح لسان عابر من لهب الحياة المتغير إلى أبد الدهر، فكذلك الله هو النار الخالدة الأبدية، وهو طاقة العالم التي لا تفنى أبداً. وهو الوحدة التي تربط جميع الأضداد، وهو الانسجام الكائن بين جميع التفاعلات، وهو جماع المعاني في كل المشاحنات. وهذه النار المقدسة كالحياة (لأن كلتيهما توجد في كل مكان، وهما شيء واحد) تغير شكلها على الدوام، ولا تنفك تنقل إلى أعلى أو أسفل على سلم التغير، ولا تفتأ تبيد الأشياء وتعيد صنعها؛ والحق أنه سيأتي يوم بعيد "تحكم فيه النار على جميع الأشياء وتدينها"(26)، تهلكها وتمهد السبيل لأشكال جديدة، في يوم الحساب الأخير، أو يوم الكارثة الكونية. بيد أن أعمال النار الخالدة ليست خالية من المعنى أو مجردة من النظام؛ ولو أننا استطعنا أن نفهم العالم مجتمعاً، لرأينا فيه حكمة عظيمة غير شخصية، علماً أو عقلاً أو كلمة(65)؛ ومن واجبنا أن نحاول تشكيل حياتنا بحيث تتفق مع هذه السُّنة من سنن الطبيعة، وهذا القانون العالمي، هذه الحكمة أو الطاقة المنظمة التي هي الله (91). "إن من الحكمة ألا تستمعوا إليَّ، بل إلى الكلمة"(1)، وأن تبحثوا عن العقل اللانهائي للكل وتتبعوه.

وحين يطبق هرقليطس على الأخلاق هذه القواعد الأربع الأساسية من أفكاره - الطاقة، والتغير، ووحدة الأضداد - وعقل الكل - ينير بعمله هذا سبيل الحياة كلها والسلوك كله. فالطاقة إذا سيطر عليها العقل، واقترنت بالنظام، نشأ عنها أعظم الخير. وليس التغير شراً بل هو خير وبركة؛ "وفي التغير يجد الإنسان الراحة؛ والإنسان يمل الكدح الدائم في الأشياء نفسها والبدء دائماً من جديد" (72-73). وحاجة الأضداد بعضها إلى بعض تجعل نزاع الحياة وآلامها شيئاً معقولاً لا يمكن فهمه وغفرانه. "ليس حصول الناس على كل ما يرغبون فيه هو أحسن الأشياء؛ فالمرض هو الذي يجعل الصحة سارة حلوة؛ والشر هو الذي يفهم به الإنسان الخير، والجوع هو الذي يُفهم به الشبع، والكدح هو الذي يُفهم به الراحة"(104). وهو يلوم الذين يرغبون في القضاء على ما في العالم من نزاع(43)؛ فبغير تَشَادّ الأضداد لا يكون هناك تآلف، ولا ينسج نسيج حي ولا يحدث تطور. وليس الانسجام هو القضاء على النزاع وإنما هو تَشَادّ لا ينتهي بانتصار عنصر على عنصر، بل يعمل فيه العنصران دون أن يستغني كلاهما عن الأخر (كتطرف الشباب وتحفظ المشيب)، وتنازع البقاء ضروري لكي ينفصل الأطيب عن الأخبث، وينشأ الأعلى. والنزاع والد كل شيء ومَلِك كل شيء، وقد اختار البعض ليكون لآلهة، والبعض ليكونوا رحالاً؛ وجعل البعض عبيداً، والبعض أحراراً(44). وفي النهاية يكون التنازع هو "العدالة"(62). وتنافس الأفراد، والجماعات، والأنواع، والأنظمة، والإمبراطوريات يكوَّن محكمة الطبيعة العليا، التي لا ُيستأنف حكمها ولا يُنقض.

وفلسفة هرقليطس في جملتها، كما تجمعها لنا الآن مائة وثلاثون جذاذة متفرقة، تعد من أعظم نتاج العقل اليوناني. وقد انتقلت نظرية النار المقدسة منها إلى الرواقية؛ كما انتقلت منها فكرة النار الأخيرة إلى المسيحية بطريق الرواقية، وكما صارت الكلمة أو عقل الطبيعة في اللاهوت المسيحي هي الكلمة الإلهية، أو الحكمة المجسدة التي يخلق الله بها الأشياء كلها ويحكمها. وقد مهدت هذه الفلسفة إلى حد ما لفكرة القانون الطبيعي في الفلسفة الحديثة؛ وأصبحت الفضيلة بوصفها إطاعة الطبيعة شعار الرواقية؛ وانتعشت وحدة الأضداد انتعاشاً قوياً في فلسفة هيجل، واستردت فكرة التغير في فلسفة برجسن Bergson ما كان لها من قوة، وعادت إلى الظهور فكرة التنازع والكفاح المحددة لجميع الأشياء، في فلسفة دارون، واسبنسر، ونتشه - وقد واصل آخرهم حرب هرقليطس ضد الديمقراطية بعد أربعة وعشرين قرناً.

ولا نكاد نعرف شيئاً عن حياة هرقليطس؛ ولا نعرف عن موته إلا قصة لا سند لها، رواها إديوجنيس ليرتس توضح لنا ما قد تنتهي إليه حياة النوابغ الأفذاذ. ذلك أنه أصبح أخيراً شديد الكره للإنسانية، فكان يقضي وقته يضرب في الجبال يقتات بالعشب والنبات، فأصابه بسبب هذا داء الاستسقاء، وعاد إلى المدينة يسأل الأطباء ويحاورهم هل يستطيعون أن يحدثوا الجفاف بعد الجو الرطب؟ ولما لم يفهموه حبس نفسه في حظيرة ثيران، وغطى نفسه بروث البقر، لعل الرطوبة تتبخر منه بما يحدثه هذا الروث من دفء، ولكن عمله هذا لم يفده شيئاً، ومات بعد أن عاش من العمر سبعين عاماً(58).


أنكريون التئوسي

تقوم كلوفون Colophon على مسيرة بضعة أيام من إفسوس، ولعل اسمها مأخوذ من اسم التل الذي تقوم على جانبه وقد ولد فيها حوالي 576 ق.م. زنوفانيز الذي كان يبغض الكهنة، وقد وصف مواطنيه بأنهم "يلبسون الثياب الأرجوانية الفاخرة، ويُعجبون بشعورهم المصففة المضمخة بالزيوت العطرة الغالية"؛ إن للزهو بلا شك تاريخاً طويلاً(60). وكان الشاعر ممنرموس Mimnermus (610) يغني في هذه المدينة. ولعله كان يغني أيضاً في أزمير، لأقوام سرى فيهم تشاؤم الشرق الواهن بأغانيه الحزينة عن الشباب والحب القصيري الأجل. وشُغف حباً بنانو Nanno الفتاة التي كانت تُوقع أغانيه على نغمات الناي الحزينة، ولما لم تستجب إلى حبه (ولعل سبب امتناعها اعتقادها أن الشاعر إذا تزوج مات) خلّد اسمها في قصيدة من الشعر الرثائي العذب الرقيق. "نحنُ نزهر كأوراق الربيع، حين تبدأ الشمس تتوهج وتلتهب، وفي مسرات الشباب القصيرة الأجل لا نعرف من الآلهة خيراً ولا شراً، ولكن الأرواح السوداء تقف دائماً عند الهدف، تمسك في يدها عمراً واحداً محزناً وموتاً واحداً"(61).

وبعد مائة عام من ذلك الوقت كان شاعر آخر أعظم شهرة من ممنرموس يعيش في مدينة تئوس القريبة من كلوفون، ذلك هو أنكريون. وكان هذا الشاعر كثير الأسفار ولكنه ولد في أنكريون(563) وتُفي فيها (478). وقد دعاه كثير من الملوك ليعيش في بلاطهم لأنه لم يكن ينافسه في بُعدْ الصيت أحد من معاصريه إلا سمنيدس وحده. ونشهده منضماً إلى جماعة من المهاجرين إلى أبدرا Abdera في تراقية، وينخرط في سلك الجندية، ويحارب في سلسلة أو سلسلتين من المعارك، ثم يترك درعه في الميدان كما كان يفعل الشعراء في زمانه، ولا يستل بعدئذ إلا قلمه، ثم يقضي بضع سنين في بلاط بوليكراتيس في ساموس؛ وجيء به من هناك في موكب رسمي فخم، ليزدان به قصر هيباركس في أثينة، ثم عاد آخر الأمر إلى تئوس بعد الحرب الفارسية ليخفف عن نفسه العناء في شيخوخته وضعفه بالغناء والشراب. وكان جزاؤه على إفراطه في ملذاته أن عمر طويلاً حتى بلغ الخامسة والثمانين من عمره؛ وكان سبب موته على ما نقل إلينا الرواة أن وقفت بذرة عنبة في حلقه(62).

وقد عرفت الإسكندرية خمسة من كتي أنكريون ولكن لم يبقَ من أشعاره إلا بضعة أبيات مزدوجة. وكانت موضوعات شعره هي الخمر، والنساء، والغلمان، وكان يلجأ فيه إلى المزاح اللطيف يصوغه في البحر العمبقي (Iambic) الخفيف. وأياً كان الموضوع الذي يطرقه فإنه لا يبدو للقارئ بذيئاً أو غليظاً لأنه يصوغه في ألفاظ عفة وشعر رقيق. ولم يكن أنكريون مثل هبوناكس ذا ألفاظ بذيئة حادة، أو مثل سافو في شدتها، بل كان شاعر بلاط يعرض ثرثرته المهذبة الرقيقة على من يشتريها، ويمتدح كل ملك يعجبه ويبتاع له الخمر. ويظن أثنيوس أن أغانيه الخمرية، وتقلبه في عشقه، كانت كلها تصنعاً(63)؛ ولعل أنكريون كان يخفي وفاءه لكي يحظى بإعجاب النساء به، كما كان يخفي اعتداله في الشراب ليزيد بذلك شهرته. وثمة قصة لطيفة تروي كيف صدمت قدمه وهو ثمل طفلاً صغيراً فانهال عليه سباً بأقذع الألفاظ، ثم أحب في شيخوخته هذا الغلام نفسه وكفر عن ذنبه بأن أخذ يكيل له المدح(64). وكان لا يفرق في عشقه بين الذكور والإناث، بل يحب الجنسين على السواء، ولكنه لما كبر دفعته شهامته إلى تفضيل الإناث على الذكور. وقد جاء في بعض ما بقي لنا من شعره: "أنظر الآن، إن الحب ذا الشَّعر الذهبي يضربني بكرته الأرجوانية، ويدعوني لكي ألعب مع فتاة ذات حذائين متعددي الألوان، ولكنها تسكن لسبوس الشامخة، ولا يعجبها شعري الأبيض وتذهب لتبحث لها عن ضحية أخرى" (65). وقد كتب أحد الكتاب الفكهين الذي عاش بعد عصره قبرية تكشف عن حقيقة أمره قال فيها:

"الشجرة الساحرة يا ربيبة الخمر، يا كرمة، أينعي وطولي فوق قبر أنكريون حتى يستطيع الصاحب الثمل صديق الشراب الصافي، الذي كان يقضي الليل الطويل يقصف ويطرب ويُنشد على نغمات العود أغاني حب الغلمان، حتى يستطيع ذلك الصاحب الثمل أن يعبث بما فوق رأسه المدفون من عناقيد غصن مليء مثقل، وحتى لا ينفك يبتل برضاب الندى الذي لم يكن شذاه الذكي إلا أنفاساً تخرج من فمه الرقيق حين كبر"(66).


طشيوز، أزمير، فوسيا

تمتد أرض اليونان الأصلية من تئوس نحو الغرب في خلجان ونتوءات أرضية متتالية، حتى إذا قطع المسافر في البحر عشرة أميال وصل إلى طشيوز Chios . وليس ببعيد أن يكون هومر قد قضى شبابه في هذه الجزيرة بين غياض التين والزيتون والكروم الأنكرونية. وكان عصر الخمر من الصناعات الكبرى في طشيوز، وكان يشتغل به عدد كبير من الرقيق؛ فقد كانت الجزيرة في عام 431 تضم 000ر30 من الأحرار و 000ر100 من الأرقاء(67)، وأصبحت على مر الزمن سوقاً كبرى للنخاسة، فكان النخاسون يبتاعون من الدائنين أبناء مَن عجزوا عن الوفاء بديونهم، ويبتاعون الغلمان ليجعلوهم خصياناً يخدمون في قصور ليديا وفارس(68).

وفي القرن السادس ثار الأرقاء بزعامة زميلهم درمكوس Drimachus وهزموا جميع الجيوش التي أرسلت للقضاء عليهم، واعتصم قائدهم بمكان منيع في الجبال وفرض الإتاوات على الأغنياء من أهل الجزيرة، ونهب أموال من يرى أن أموالهم خليقة بأن تُنهب، وعرض عليهم "حمايته" نظير جعل معين كما يحدث عندنا%=@يريد في أمريكا.@ في هذه الأيام، وأرغمهم بجبروته على أن يعاملوا عبيدهم معاملة أقرب إلى العدل من معاملتهم السابقة، وقُطع رأسه باختياره وأوصى بأن يُعطى لجماعة من أصدقائه حتى يحق لهم أن يطالبوا بالمكافأة التي وعِد بها مَن يأتي به، وظل مئات من السنين بعد موته يُعد نصير الأرقاء والإله الحامي لهم(69)؛ وتلك حياة ما أجدرها أن تكون ملحمة طيبة يتغنى بها كاتب ثوري مثل حياة اسبارتكوس. وازدهرت الآداب والفنون بين أحضان الثروة والرق في طشيوز. وكانت الجزيرة مركز الهومريين، وهم رابطة من الشعراء المتتابعين، وفيها ولد أيون Ion الكاتب المسرحي، وتيوبوموس Theopomous المؤرخ. وهنا كشف جلوكوس Glaucus (كما تقول الرواية المتواترة) حوالي 560 صناعة طرق الحديد المحمي، وهنا صنع أركرموس Archermus وولداه بوبالوس وأثنيس أجمل ما صُنع من التماثيل في القرن السادس في بلاد اليونان.

وإذا عاد المسافر بعدئذ إلى أرض اليونان الأصلية مر بمواقع إريثرا Erythra وكلازوميني Clazomenae- مسقط رأس أنكسجراس Anaxagoras معلم بركليز وصديقه. وبعدها من جهة الشرق على خليج صغير أمين تقع مدينة أزمير التي استقر فيها الإيوليون من زمن بعيد يرجع إلى عام 1015ق.م(70)، ثم استحالت بالهجرة والفتح مدينة أيونية. وكانت مدينة واسعة الشهرة في أيام أخيل، وقد نهبها ألياتس Alyattes الليدي حوالي عام 600 ق.م، ودُمرت بعد ذلك مراراً، كان آخرها في عام 1924م على أيدي اليونان أنفسهم. وتنافس أزمير دمشق في قدم عهدها وطول حياتها، وقد ذاقت صروف الزمان بحلوها ومرها على السواء . ويدل ما بقي من مباني المدينة القديمة على ثرائها وتنوع الحياة فيها، فقد كُشف في أرضها عن ملعب رياضي، وحصن، ومضمار للركض، ودار للتمثيل. وكانت طرقاتها واسعة جيدة الرصف تزينها الهياكل والقصور، وكان شارعها الرئيسي، المعروف بالذهبي، مشهوراً ذائع الصيت في بلاد اليونان بأجمعها.

وكانت أبعد المدن اليونانية شمالاً مدينة فوقية Phocaea، ولا تزال قائمة إلى اليوم يُطلق عليها اسم فوقية Fokia؛ وكان نهر هرمس يكاد يصلها بسرديس نفسها فأكسبها هذا الاتصال مزية عظيمة في تجارة اليونان مع ليديا، وكان التجار الفوقيون يسافرون أسفاراً بعيدة بحثاً عن الأسواق، وهم الذين حملوا الثقافة اليونانية إلى قورسقة Corsica وأسسوا مرسيليا.

تلك هي مدائن أيونيا الاثنتا عشرة ألقينا عليها نظرة عاجلة كأنا نطوف بها في رحلة جوية خلال الزمان والفضاء. لقد كان ما بين هذه المدائن من تنافس وتحاسد مانعاً لها من أن تكون فيما بينها وحدة تعينها على الدفاع المشترك، ولكن أهلها مع ذلك كانوا يعترفون بما بينهم من تضامن واتفاق في المصالح، وكانوا يجتمعون في مراسم معينة في ميكالي Mycale، الأكمة الممتدة في البحر عند برين Prien، في عيد جميع الأيونيين Paniomium العظيم. وقد طلب إليهم طاليس أن يؤلفوا منهم جامعة يكون فيها كل ذكر رشيد مواطناً في مدينته وفي الاتحاد الأيوني، ولكن التنافس التجاري كان أقوى من أن يسمح بقيام هذه الجامعة، بل إنه بدل أن يؤدي إلى الوحدة السياسية أدى إلى التقاتل والتطاحن، ولما أن أقبل الفرس غازين فاتحين (546-545)، واتحدت تلك المدائن اتحاداً مرتجلاً للدفاع عن نفسها، كان هذا الاتحاد ضعيفاً واهي الأساس، فلم تلبث المدن الأيونية أن دانت لسلطان الملك العظيم. على أن ما كانت تنطوي عليه قلوب الأهلين من نزعة الاستقلال والتطاحن قد بعث في نفوس الجماعات الأيونية حب التنافس والحرص الشديد على الحرية. وتلك هي الظروف التي نمت فيها في أيونيا العلوم، والفلسفة، والتاريخ، ونشأت فيها العاصمة الأيونية، ووجد فيها في الوقت نفسه الشعراء الكثيرو العدد الذين جعلوا القرن السادس في هيلاس يبدو خصيباً كالقرن الخامس. ولما أن سقطت أيونية خلفت وراءها ثقافتها، فورثتها أثينة التي حاربت في الدفاع عنها، كما انتقلت إليها الزعامة العقلية لبلاد اليونان جميعها.


الفصل الخامس: سافو اللسبوسية

وفي أعلى المدن الأيونية الاثنتي عشرة تقوم المدن الإيولية الاثنتا عشرة في الأرض القارية، التي يسكنها الإيوليون والآخيون الذين وفدوا من شمالي بلاد اليونان، بعد أن افتتحت آسية الصغرى للمهاجرين اليونان عقب سقوط طروادة. وكانت كثرة هذه المدن الصغيرة، وكان شأنها في التاريخ صغيراً كذلك. غير أن جزيرة لسبوس كانت تنافس المراكز الأيونية في الثروة، والرقي، والعبقرية الأدبية. وكانت تربة أرضها البركانية قد جعلتها جنة حقة من البساتين والكروم؛ وكانت متليني أكبر مدائنها الخمس، وكانت تجارتها سبباً في ثرائها العظيم الذي لا يكاد يقل عن ثراء ميليتس، وساموس، وإفسوس. وتحالفت طبقات التجار فيها مع مواطنيها الفقراء في أواخر القرن السابع، وانتزعوا الحكم من طبقة الملاك الأشراف وعينوا بتاكوس Bitacus الشجاع الفظ حاكماً بأمره مدة عشرة سنين، ووضعوا في يديه من القوة مثل ما كان في يدي صديقه وزميله الحكيم صولون. وأخذ الأشراف يأتمرون ليستعيدوا سلطانهم، ولكن بتاكوس رد كيدهم في نحرهم، ونفى زعمائهم، ومنهم ألكيوس Alcaeus وسافو، فأخرجهم أولاً من متليني ثم من لسبوس نفسها آخر الأمر.

وكان ألفيوس ثائراً صخاباً، خلط السياسة بالشعر، فكانت كل قصيدة من قصائده مثاراً للفتنة والثورة. وكان شريف المحتد، وهاجم بتاكوس بكل ما في اللغة من بذاءة استحق عليها النفي من البلاد. وقد اصطنع هو بحوره الشعرية التي أسماها من جاءوا بعده "ألفيوس"؛ ويقال لنا إن كل مقطوعة في شعره كانت لها نغمتها الجميلة وسحرها. وقد غنى بعض الوقت في الحرب، ووُصِف بيته بأنه مزدان بالغنائم الحربية والدروع العسكرية، غير أنه لما سنحت له الفرصة التي كان يستطيع أن يُظهر فيها بطولته، ألقى بدرعه، وفر كما فر أركلوكس من قبله، وأخذ يمتدح نفسه لحصافته الباسلة، وقد غنى أحياناً في الحب، ولكن أحب الموضوعات التي كتب فيها إلى نفسه كان موضوع الخمر، التي اشتهرت بها لسبوس شهرتها في الشعر، وهو ينصحنا بأن نعب الخمر عباً، وأن ننقع بها غليلنا في الصيف، وأن نستقبل بها الموت بلا رهبة في الخريف، وأن ندفئ بها دماءنا في الشتاء، ونحتفل بها ببعث الطبيعة في الربيع:


ينزل مطر زيوس، وفي السماوات العلا تثور العاصفة،

ويمسك البَرْد بقبضته الثلجية مجاري المياه.

إذن فقم! وتغلب على الشتاء، وأشعل النار عالية، عالية ؛

وامزج الخمر الكثيرة حلوة كشهد النحل؛

ثم اشربها ولفاعة الصوف المريحة قد لفت حول صدغيك.

إن علينا ألا نستسلم للأحزان أو نضني أجسامنا بكثرة

المشاغل التي تذهب بقوانا؛

لأن الحزن يا صاح لا يعود علينا بأقل نفع،

ولا يصلح حالنا بأي حال؛

أما خير دواء لنا

فهو الخمر نطرد به الأفكار


ولقد كان من سوء حظه - وإن كان قد تحمل هذه الكارثة بصدر رحب ولم يلق بالاً إليها - أن كان بين معاصريه امرأة هي أشهر نساء اليونان أجمعين، ونعني بها سافو. وكانت بلاد اليونان بأجمعها تعظمها قبل أن تموت، ومن أقوال استبايوس Stobaeus فيها: "وحدث مرة في مجلس شراب أن أخذ إجزستيديس Execestidez ابن أخي صولون يغني أغنية من أغاني سافو، أعجب بها عمه إعجاباً لم يسعه معه إلا أن يأمر الغلام أن يعلمه إياها، ولما سأله أحد الحاضرين: "لــم يطلب هذا الطلب؟" أجاب بقوله: "إني أريد أن أتعلمها ثم أموت!"(73). وكان سقراط -ولعله كان يرجو مثلما يرجوه صولون لنفسه - يسميها "الجميلة"، وكتب فيها أفلاطون مقطوعة شعرية حماسية قال فيها:


يقولون إن ربات الشعر تسع، ألا ما أكثر غباءهم

فليعلموا أن سافو اللسبوسية هي العاشرة!.


ويقول استرابون: "كانت سافو امرأة فذة عجيبة؛ لأني لا أعرف أن قد وجدت في جميع العصور التي وصل إلينا علمها امرأة أوتيت معشار ما أوتيت سافو من النبوغ في قرض الشعر" (75). وكما أن الأقدمين إذا ذكروا لفظ "الشاعر" فإنما يعنون بهذا اللفظ هومر، كذلك كان العالم اليوناني كله إذا نطق أمامهم أحد بلفظ "الشاعرة" فهموا من فورهم من يعنون بهذا الاسم.

وقد ولدت بسافا Psappha كما كانت تسمي نفسها بلهجتها الإيولية الرقيقة، في إرسوس Eresus من أعمال لسبوس حوالي 612 ق.م. ولكن أسرتها انتقلت إلى متليني وهي لا تزال في المهد. وكانت في عام 593 بين الأشراف الذين ائتمرا ببثاكوس والذين نفاهم إلى مدينة بيرا Pyrrha؛ ولما بلغت التاسعة عشرة كانت ذات شأن في الحياة العامة لاشتغالها بالسياسة، وبقول الشعر. ولم تشتهر بجمالها، فقد كانت صغيرة الجسم، ضعيفة البنية، وكان شَعرها وعيناها، وبشرتها أسود مما يحبه اليونان(76)، ولكنها كانت تسحر الناس برشاقتها، ورقتها، ودماثة أخلاقها، وحصافة عقلها الذي لم يبلغ من "السفسطة" درجة تخفي رقتها وحنانها. ومما قالته هي عن نفسها: "إن قلبي كقلب الطفل" (77)، ويستدل من شِعرها على أنها كانت ذات عواطف جياشة، وأن ألفاظها كما يقول بلوتارخ "كانت تمتزج باللهب" (78)؛ وكانت مرهفة الحس إلى حد ما، وكان هذا سبباً في الحد من حماسة عقلها. وقد وصفها أثيس تلميذها المقرب إليها بأنها كانت ترتدي الثياب الزعفرانية اللون والأرجوانية، وتتوج رأسها بالزهر؛ وما من شك في أن قوامها النحيل قد أكسبها ملاحة وجاذبية، وشاهد ذلك أن لفيوس الذي نُفي معها إلى بيرا أرسل إليها مُسرعاً رسالة عشق وهيام، قال فيها: "أي سافو! يا ذات التاج القرنفلي، يا طاهرة، يا ذات الابتسامة الحلوة، أريد أن أحدثك في أمر ولكن الحياء يمنعني أن أنطق به". وكان جوابها أقل غموضاً من اقتراحه: "لو كانت رغباتك طيبة نبيلة، ولو كنت تريد ألا تنطق لسانك بما هو دنيء، لما أسدل الحياء على عينيك غشاوة، ولأفصحت عن رغباتك الطيبة العادة" (79). وأخذ الشاعر يتغنى بمدحها في قصائده وأناشيده، ولكننا لا نعرف أن صلة غير هذه الصلة قد عقدت أواصرها بينهما، ولعلهما قد افترقا حين نفيت سافو للمرة الثانية، وكان سبب نفيها أن بتاكوس قد خشي قلمها بعد نضوجه فنفاها في هذه المرة إلى صقلية، وكان ذلك في أغلب الظن عام 591، وهي في سن يكاد الإنسان يظنها فيها فتاة لا تستطيع أن تؤذي إنساناً. وقد تزوجت حوالي ذلك الوقت بتاجر ثري من أندروس Anodros وكتبت بعد بضع سنين من ذلك الوقت تقول: "لي ابنة صغيرة شبيهة بالزهرة الذهبية، هي كليس Cleis قرة عيني، التي لا أفرط فيها ولو أعطيت ليديا كلها أو لسبوس الحبيبة" (80). وما من شك في أنها كان في وسعها أن ترفض ما في ليديا من ثروة لأنها ورثت ثروة زوجها بعد وفاته المبكرة، وعادت إلى لسبوس بعد أن أقامت في منفاها خمس سنين، وأضحت زعيمة الحياة الاجتماعية والعقلية في الجزيرة. وإنا لنلمح بهرج الترف في إحدى القطع الباقية من شعرها حيث تقول: "أما أنا فليكن في علمكم أني أحب الحياة اللينة، وأرى أن النور والجمال مما تشتهيه الشمس" (81). وأضحت وثيقة الصلة بأخيها الأصغر كركسوس Charaxus، شديدة التعلق به، وغضبت أشد الغضب حين شغف في إحدى سفراته التجارية إلى مصر بحب محظية تدعى دريكا Doricha ثم تزوجها، ضارباً بتوسلات أخته عرض الحائط(82).

وفي هذا الوقت نفسه أحست سافو بنار الحب تشتعل في قلبها. ذلك أن نفسها تاقت إلى الحياة النشيطة، فأنشأت مدرسة للفتيات، تُعلمهن فيها الشعر والموسيقى والرقص، كانت هي أولى "مدارس صقل" الفتيات في التاريخ كله. ولم تكن تسمي الطالبات فيها تلميذات بل كانت تسميهن الرفيقات (Hetairai)، ولم تكن هذه الكلمة قد أصبح لها بعد معنى الاختلاط الجنسي الشاذ. وأحبت سافو - وكانت وقتئذ أرملة - هاته الفتيات واحدة بعد واحدة. وقد قالت في إحدى القطع الباقية من أشعارها: "لقد هز الحب قلبي كما تهز الريح القوية أشجار البلوط" (83). وتقول في إحدى القطع الأخرى: "لقد أحببتكِ يا أثيس من زمن بعيد، حين كانت أنوثتي كلها أزهاراً، وقد حسبتكِ وقتئذ طفلة صغيرة سمجة". فلما أن تقبلت أثيس حب شاب من متليني، عبرت سافو عن غيرتها بألفاظ تبدو فيها قوة العاطفة في قصيدة احتفظ بها إلينا لنجينس وترجمها ترجمة عرجاء جون أدنجتن سمندس في شعر من البحر السافي: إنه ليبدو لي هو والآلهة سواء، ذلك الرجل السعيد الذي يجلس ويراكِ بعينيه أمامه. فهو يجلس بالقرب منكِ ويستمع إليكِ وهو معقود اللسان تتحدثين حديثكِ الفضي وتضحكين ضحك الحبيب في غير صوت عالٍ. إن هذا، هذا وحده، ليكفي لأن يثير قلبي المكلوم في صدري ويبعثه على الاضطراب! لأني إذا رأيتكِ لحظة قصيرة خشع صوتي من فوري، وانعقد لساني؛ وسرت في ضلوعي نار تلظى يسمع من حولي حسيسها، ولا تبصر عيناي منها شيئاً وتطن في أذني أمواج من الصوت عالية، ويتصبب جسمي عرقاً فيجري أنهاراً، وترتجف جميع أعضائي، ويصبح لوني أكثر اصفراراً من لون الكلأ في الخريف، وتنتابني آلام الموت المترصد لي فأضطرب وأظل في سكرات الحب(84).

وأخرج والدا أثيس ابنتهما من المدرسة، ولدينا رسالة تعزى إلى سافو نفسها تصف فيها ساعة فراقهما:

بكت (أثيس؟) بكاءً مراً لفراقنا وقالت: "واحسرتاه ما أتعس حظنا؛ وأقسم لك ياسافا أن فراقي إياكِ كان على الرغم مني"، فأجابتها: "سيري في طريقكِ منشرحة الصدر؛ ولكن اذكريني لأنكِ تعرفين هيامي بكِ. فإذا لم تذكريني، فإني سأذكركِ بما تنسين؛ ألا ما أعز وأجمل الأيام التي قضيناها معاً! لقد كنتِ تزينين غدائرك المتماوجة بتيجان القرنفل والورد الجميل وأنتِ إلى جانبي، وتزينين جيدكِ الرقيق بعقود مجدولة من مئات الأزهار، وبالأدهان الكثيرة الغالية الخليقة بالملوك دهنتِ إهابكِ الأبيض النضر وأنتِ بين ذراعي. ولم يكن في المكان كله تل، أو موضع مقدس؛ أو غدير ماء لم تذهب إليه؛ ولم تملأ الأصوات الكثيرة في بواكير الربيع غابة من الغابات بسجع العندليب إلا ذهبتِ إليه معي" (85). وتأتي بعد هذه الأغنية في نفس المخطوط تلك الصيحة المريرة: "لن أرى أثيس بعد اليوم ولا فرق عندي بين هذا وبين الموت"، إن هذا بلا ريب هو صوت الحب الصادق، الذي يعلو ذروة الوفاء والجمال ويسمو فوق الخير والشر!

وقد ثار الجدل بين من جاء بعد ذلك العصر من علماء التاريخ القديم واختلفوا هل هذه القصائد تعبر حقاً عن "الحب اللسبوسي" أو أنها لم تكن إلا تدريباً للخيال الشعري ولتجسيد المعاني المجردة. ولكنا لا شأن لنا بهذا الجدل، وحسبنا أن هذه القصائد شعر من الطراز الأول جياش بالعاطفة، قوي الخيال، يبلغ حد الكمال في لفظه ومبناه. وفي قطعة باقية منه حديث عن "وقع أقدام الربيع المزهر"؛ وفي قطعة أخرى حديث عن "الحب الذي يفكك الأعضاء، والعذاب المر - الحلو" وتُشبِّه قطعة ثالثة الحبيب البعيد المنال "بالتفاحة الحلوة التي تحمر على طرف الغصن، على الطرف الأعلى للغصن، والتي سها عنها الجاني، لا لم ينسها بل إنه لم يستطع لعلوها أن يصل إليها" (86). وكتبت سافو عن موضوعات أخرى غير الحب، واستخدمت فيها بحوراً من الشعر بلغ عدد ما بقي لنا منها خمسين بحراً. وقد لحنت هي بنفسها أغانيها ووقعتها على العود. وجُمع أشهرها في خمسة دواوين تحتوي نحو ألف بيت ومائتين، بقي منها ستمائة يندر أن تكون متتالية. وحدث في عام 1073 بعد الميلاد أن أمر رؤساء الكنيسة في القسطنطينية ورومة بإحراق جميع أشعار سافو وألفينوس علناً(87)، وفي عام 1897 كشف جرنفل Grenfel وهنت Hunt في أكسرنكوس Oxyrhynchus بمديرية الفيوم توابيت مصنوعة من طبقات من الورق استخدمت في صناعتها قطع من كتب قديمة؛ وجدت عليها بعض قصائد سافو(88).

وقد ثأر ذكور الأجيال التالية لأنفسهم منها بأن نقلوا عنها، أو اخترعوا من عندهم، قصة تروي كيف ماتت قتيلة هيامها برجل لم يبادلها الحب. وثمة فقرة في معجم سويداس Suidas(89) تروي كيف قفزت "العاهرة سافو" - وهو الوصف الذي توصف به الشاعرة عادة - من فوق صخرة في جزيرة لوكاس Leucas قفزة قضت بها على نفسها، لأن البحار قاؤون لم يستجب لحبها. ويشير مناندر، واسترابون، وغيرهما من الكتاب إلى هذه القصة، ويرويها أوفد في تفاصيل جميلة(90) ولكنا نجد فيها حوادث كثيرة من نسج الخيال، وخليق بنا أن نتركها من غير تمحيص حائرة بين الحقيقة والخيال. وتقول الروايات المتواترة إن سافو عادت فتعلمت حب الرجال. ونجد في القطع الصغيرة التي كشفت أشعارها في مصر جواباً لها مؤثراً ردت به على اقتراح عرضه عليها بعضهم بأن تتزوجه فقالت "لو أن ثديي قد بقيا قادرين على إرضاع الأطفال، ولو أن رحمي قد بقي قادراً على حملهم لجئِتُ إلى فراش الزوجية بقدمي ترتجفان، ولكن الزمان قد خط على جسدي خطوطاً كثيرة، والحب لا يسرع إلي بما يحمله من هدايا الآلام"، ثم تشير إلى خطيبها بأن يبحث له عن زوجة أصغر منها سناً(91). وفي الحق أننا لا نعلم متى ماتت وكيف قضت نحبها، وكل الذي نعرفه أنها خلفت وراءها ذكريات واضحة من العاطفة القوية، والشعر الرائع، واللطف والدعة، وأنها بزت ألفيوس نفسه فكانت أشجى أهل زمانها صوتاً. وتراها في أخر قطعة لها تلوم في غير عنف مَن لا يقرون بأن غناءها قد انتهى فتقول:

"إنكم يا أطفالي تجللون بالعار هبات ربات الشعر القيمة حين تقولون: "سنتوجك ياسافو الحبيبة، ياخير من يعزف على القيثارة أوضح الأغاني وأشجاها"، ألا تعرفون أن إهابي كله قد تجعد من طول العمر، وأن شَعري قد استحال من أسود إلى أبيض؟..وكما أن الليل ذا النجوم يخلف حتماً الفجر ذا الذراع الوردية وينشر الظلام في طول الأرض وعرضها، كذلك يقتفي الموت آثار كل حي ويمسك بتلابيبه آخر الأمر"(92).


الفصل السّادس: الإمبراطورية الشمالية

في شمال لسبوس تقع تندوس Tenedos الصغيرة التي يقول بعض الرحالة الأقدمين إن نساءها أجمل النساء في بلاد اليونان جميعها(93)، ومنها يسير الإنسان في أثر اليونان المغامرين إلى جزائر اسبرديس الشمالية؛ إلى إمبروس، ولمنوس، وسمثريس. وأنشأ الميليزيون حوالي عام 560 في سعيهم للإشراف على الهلسبنت (الدردنيل) بلدة أبيدوس Abydos على شاطئه الجنوبي، ولا تزال هذه البلدة قائمة حتى الآن . ومن هذا المكان قطع ليندر Leander وبيرن Byron المضيق سباحة، ومنه عبر جيش خشيارشاي البحر إلى أوربا على جسر من القوارب، وإلى شرق هذه البلدة استعمر الفوقيون لمباكوس Lampacus مسقط رأس أبيقور. وفي داخل البروبنتس مجموعتان من الجزائر، أولاهما مجموعة الفقونيسوس Phoconnesus، وهي غنية بالرخام الذي أكسب البروبنتس اسمه المعروف به في هذه الأيام (بحر مرمرة- أي بحر الرخام) وثانيتهما مجموعة الأركتنيسوس Arctonnesus. وفي أقصى طرفها الجنوبي أنشأ الميليزيون في عام 757 ثغر سيزكوس Cyzicus العظيم. وقامت على طول الساحل مدينة في إثر مدينة: بنورموس Panormus ودسيليوم Dascylium وأباميا Apameia وكيوس Cius وأستكوس Astacus وخلقدون Chalcedon. وتقدم اليونان مجتازين مضيق البسفور، طلباً للمعادن والحبوب والتجارة، وأنشأوا خريسوبوليس Chrysopolis (اشقودار الحالية) ونتقوبوليس Ncopolis، "مدينة النصر"، ثم شقوا طريقهم على طول الشاطئ الجنوبي للبحر الأسود، وأقاموا مدائن في هرقلية، وبنتيكا Pontica، وتتوم Tieum، وسينوب Sinope- التي يصفها استرابون بأنها مدينة مزدانة أفخم زينة(94)، بها ملعب رياضي عظيم، وساحة كبرى، وأروقة مظللة ذات عمد؛ وكانت خليقة بأن يولد فيها ديوجين الكلبي Diogenes The Cynic؛ ثم تليها أميسس Amisus، وإينوي Oenoe، وتربوليس Tripolis، وترابيزوس Trapezus (تربزند أو طربزون)، والتي صاح فيها رجال زنوفون العشرة آلاف من فرط السرور حين أبصروا البحر الذي طالما تاقت نفوسهم لرؤيته. وقد كان افتتاح هذا الإقليم للاستعمار، على يد جيسن في أكبر الظن، ثم على أيدي الأيونيين فيما بعد، مصرفاً ينزح إليه من تفيض بهم المدائن الأصلية من السكان، وتنصرف إليه تجارتها، كما جعلها هذا الفتح مورداً للطعام والفضة والذهب، شأنها في ذلك شأن أمريكا بالنسبة لبلاد أوربا في بداية العصر الحديث(95). واتجه اليونان نحو الشمال إزاء الساحل الشرقي لبحر اليوكسين حين وصلوا إلى كلكيز Colchis الميدية وأسسوا فاسيس Phasis، وديوسكورياس Dioscurias، وثيودوسيا Theodosia، وبنتيكبيوم Panticapaeum في شبه جزيرة القرم. وأنشئوا عند مصبي نهري البوج Bug والدنيبر مدينة ألبيا Olbia (نيقولايف الحالية) وعند مصب الدنيستر أسسوا مدينة تيراس Tyras، وأقاموا على نهر الدانوب مدينة ترسميس Troesmis. ثم اتجهوا جنوباً على طول الشاطئ الغربي، وشادوا مدائن إستروس Istrus (قنسطنطة أو قسطج)، وتومي Tomi (التي مات فيها أوفد)؛ وأدِسُّوس (وارنة)، وأبولونيا Apollonia (برجاس). وإن الرحالة الذي يدرك طول العصور التاريخية ليذهله قدم هذه المدائن التي لا تزال باقية حتى الآن، ولكن سكانها الحاليين المنهمكين في أعمالهم الحاضرة لا يشغلون أنفسهم بالقرون الطوال المستقرة في بطون الثرى تحت أقدامهم.

وأنشأ المجاريون أيضاً على البسفور حوالي عام 660 مدينة بيزنطيوم (بيزنطية Byzantium) التي كانت إلى عهد قريب تسمى القسطنطينية، والتي تسمى الآن اسطنبول. وقد كان هذا الثغر ذو الموقع الحربي المنيع حتى قبل أيام بركليز مفتاح أوربا كما سماه نابليون في معاهدة تلزت Tilsit. وقد وصف بولبيوس في القرن الثالث قبل الميلاد موقعه البحري بأنه "من حيث السلامة والرخاء خير من موقع أية مدينة أخرى في العالم المعروف لنا"(97). وازدادت ثروة بيزنطية بما كانت تفرضه من المكوس على السفن المارة بها، وبما كانت تصدره إلى العالم اليوناني من حبوب روسيا الجنوبية ("سكوذيا" Scythia) والبلقان، وبما كان يُصاد بلا أدنى عناء من السمك الذي يتجمع في المضايق الضيقة. وقد كان التواؤها، وما تفيضه عليها صناعة الصيد من ثرائهما الذين خلعا على المدينة اسم "القرن الذهبي"، وكانت أثينة في عصر بركليز هي المسيطرة على سياسة بيزنطية، وكانت تفرض المكوس على السفن المارة لتملأ بها خزائنها في أوقات الشدائد، وتعامل إصدار الحبوب من موانئ البحر الأسود معاملة مهربات الحرب(98).

وأنشأ اليونان على الشاطئ الشمالي أو التراقي للبروبنتس مدائن عند سلمبريا Selymbria. وبرنثوس Perinthus (أرجلي Eregli الحديثة) وبيزنثي Bisanthe، وكليبويس Callipolis (غاليبولي)، وسستوس Sestus. ثم أقاموا فيما بعد مدناً أخرى على ساحل تراقية الجنوبي الغربي عند أفروديسياس Aphrodisias، وإينوس Oenus، وأبدرا Abdera- حيث قام ليوسبوس Leucippus ودمقرايطوس Democritus بعد ذلك العصر بنشر الفلسفة المادية الذرية وأمام ساحل تراقية في البحر تقع جزيرة ثاسوس Thasos، "الجرداء القبيحة المنظر كأنها ظهر حمار في البحر" كما وصفها أركلوكوس(99)، ولكنها كانت غنية بمناجم الذهب غنى جعل منتجاتها منه تفي بنفقات الأداة الحكومية كلها. وأنشأ الباحثون عن الذهب من اليونان وخاصة الأثينيون على ساحل مقدونية الشرقي أو بالقرب منه مدينتي نيبوليس Neapolis وأمفبوليس Amphipolis- وكان استيلاء فليب على هاتين المدينتين سبباً في اشتعال نار الحرب التي خسرت فيها أثينة حريتها. واستولى يونان آخرون معظمهم من كلسيس وإرتيريا على شبه جزيرة كلسديس Chalcidice ذات الأصابع الثلاث وسموها بهذا الاسم. وما وافى عام 700 ق.م حتى كانوا قد أنشأوا فيها ثلاثين بلدة قدر للكثير منها أن تكون ذات شأن عظيم في تاريخ اليونان: استاجيروس Stageirus (مسقط رأس أرسطاطاليس) وسيوني Scione، ومندي Mende، وبوتيديا، وأكنثوس Acanthus، وكليوني Cleonae، وتوروني Torone، وأولنثوس Olynthus التي استولى عليها فليب في عام 348 والتي تشتهر عندنا لصلتها بخطب دمستين. وقد كشفت أعمال الحفر الحديثة في أولنثوس عن مدينة واسعة الرقعة ذات بيوت كثيرة من طابقين يحتوي بعضها خمساً وعشرين حجرة. ويبدو أن هذه المدينة كان يسكنها في أيام فليب نحو ستين ألف نسمة. وفي وسعنا أن نستدل من هذا العدد الكبير الذي كان يقيم في مدينة صغيرة، على سرعة تناسل اليونان قبل عصر بركليز ونشاطهم وسرعة انتشارهم.

وآخر ما نذكره عن انتشار اليونان أن المهاجرين الأيونيين استقروا في الجزائر العوبية الواقعة بين كلسديس وجزيرة عوبية الكبيرة، وهي جيرونتيا Gerontia، وبوليجوس Polyaegos، وإيكوس Icos، وبيارثوس Peparethos، واسكانديل Scandile، واسكيروس Scyros؛ وهكذا انطبق محيط الإمبراطورية في الشرق والشمال انطباقاً تاماً والتقى طرفاه. وبفضل نشاط اليونان ومغامراتهم استحالت جزائر بحر إيجة وسواحل آسية الصغرى، وشواطئ الهلسبنت، والبحر الأسود، وسواحل مقدونية وتراقية معششاً من المدائن المصطبغة بالصبغة اليونانية، تفيض بالأعمال الزراعية، والصناعية، والتجارية، وبالنشاط السياسي، والأدبي، والديني، والفلسفي، والعلمي، والفني، وبالبلاغة، والسفسطة، والمماحكة. ولم يبقَ أمام اليونان في ذلك الوقت إلا أن يفتحوا بلاداً يونانية أخرى في غرب بلادهم، ويقيموا قنطرة بين هيلاس القديمة والعالم الحديث.