قصة الحضارة - ول ديورانت - م 2 ك 2 ب 5

من معرفة المصادر



 صفحة رقم : 1797   



قصة الحضارة -> حياة اليونان -> نهضة بلاد اليونان -> أثينة -> بؤوتية هزيود


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المجلد الثاني - الكتاب الثاني: نهضة بلاد اليونان

الباب الخامس: أثينة

الفصل الأوّل: بؤوتية هزيود

يتفرع الطريق في شرق مگارا- فيتجه جنوباً إلى أثينة وشمالاً إلى طيبة. والطريق الشمالي جبلي وعر يؤدي بالمسافر إلى مرتفعات جبل كيثاكرون Cithacron، وإذا نظر المسافر نحو الغرب رأى من بعيد جبل پارناسوس Parnassus ومن وراء هذا الجبل تقوم مرتفعات أقل منه، ومن بعدها ينبسط سهل بؤوتية الخصيب. وعند سفح التل تقوم بلاتية حيث أفنى مائة ألف من اليونان ثلاثمائة ألف من الفرس. وإلى غربها قليلاً نجد لوكترا Leuctra حيث كسب أباميننداس أول نصر عظيم له على الإسبارطيين. وإلى غرب لوكترا بقليل يرتفع جبل هليكون Mt. Helicon موطن ربات الشعر "وهبكرين الحيية" التي تغنى بها كيتس Keats، وهي الينبوع الذائع الصيت، ينبوع الجواد الذي تؤكد لنا الأساطير أنه نبع منه الماء حين ضرب بجسوس Pagasus الجواد المجنح الأرض بقدمهِ وهو يصعد إلى السماء. وإلى شمال هذا النبع مباشرة تقوم مدينة ثسبيا التي لا ينقطع النزاع بينها وبين طيبة وبالقرب منها يوجد النبع الذي أبصر فيه نارسس خياله- أو خيال أخته الميتة التي كان يحبها على ما جاء في قصة أخرى.

وفي بلدة أسكرا Ascra الصغيرة بالقرب من ثسبيا كان يعيش ويكدح الشاعر هزيود الذي لا يعلو عنه في حب اليونان الأقدمين إلا هومر وحده.

وتقول الرواية المتواترة إن هذا الشاعر ولد في عام 846 وتوفي في عام 777، ولكن بعض العلماء المحدثين يؤرخون تاريخه إلى حوالي 650، وأكبر ظننا أنه عاش قبل التاريخ الأخير بمائة عام. وكان مولده في كيمه Cyme من أعمال إيوليا في آسية الصغرى، ولكن والده حاقت بهِ الفاقة فيها فهاجر إلى أسكرا التي يصفها هزيود بأنها "بائسة في الشتاء، لا تطاق في الصيف، وليس فيها خير في وقت من الأوقات"- كمعظم الأماكن التي يعيش فيها الناس. وبينما كان هزيود الغلام الراعي والعامل في المزرعة يسير وراء قطعانه على سفوح جبال هليكون صاعداً تارة ونازلاً تارة أخرى خيل إليه أن ربات الشعر قد نفثت في جسمهِ روح الشعر فأخذ يكتبه ويغنيه ويكسب الجوائز في المباريات الموسيقية، ويقول البعض إنه فاز على هومر نفسه.

وإذ كان ككل شاب يوناني مولعاً بعجائب الأساطير، فقد كتب أنساباً للآلهة عندنا منها ألف بيت غث تسرد أسر الأرباب وملوكهم، وهي أنساب لا غنى عنها في الدين كما أن أنساب الملوك لا غنى عنها في التاريخ. وقد تغنى في بادئ الأمر بربات الشعر نفسها لأنها كانت جاراته على تل هليكون إذا جاز القول بأن الآلهة يجاورون الآدميين، وقد صور له خيال الشباب أنه يكاد يراها "ترقص بأقدامها الدقيقة" على سفح الجبل، و "وتغسل جلدها الرقيق" في الهبكرين. ثم وصف بعدئذ مولد العالم- لا خلقه- فأخذ يقص علينا كيف ولد إله من إله حتى ضاق أولمبس بالآلهة. ويقول إنه في بادئ الأمر عماء ثم "كانت بعدئذ الأرض العريضة الصدر المقر الثابت الأمين لجميع الآلهة المخلدين"؛ وكان الآلهة في الدين اليوناني يعيشون إما على ظهر الأرض أو في باطنها، وهم على الدوام قريبون من الناس، ثم جاء بعدئذ طرطروس Tartarus إله العالم السفلي ثم جاء بعده إروس Eros أو الحب " أجمل الآلهة " كلهم. وولد للعماء Chaos الظلمة والليل وولِد لهذين الأثيرEther والنهار وولدت الأرض الجبال والسماء وولد من اقتران السماء والأرض الأقيانوس Oceanus أي البحر. والمؤلفون الإنجليز يبدءون هذهِ الأسماء بالحروف الكبيرة Capitals ولكن هذهِ الحروف لم يكن لها وجود في اللغة اليونانية أيام هزيود، ومبلغ علمنا أنه لم يكن يقصد بهذا كله أكثر من أن العالم في بادئ الأمر كان عماء، ثم نشأت الأرض وما في باطنها، والليل والنهار والبحار؛ وأن الشهوة هي التي أوجدت كل شيء ولعل هزيود كان فيلسوفاً ألهِم الشعر فأخذ يجسد المعاني المجردة وينشئ منها شعراً؛ وقد لجأ إمبدقليز إلى تلك الأساليب نفسها بعد مائة عام أو مائتين في صقلية. وليس بين هذا القصص الديني وبين فلسفة الأيونيين الطبيعية إلا خطوة واحدة.

ويكثر في أساطير هزيود الهولات والدماء وهو لا يتحرج من أن يعزو إلى الآلهة أفحش الصلات الجنسية. وقد نشأ من تزاوج السماء (أورانوس) والأرض (گايا أو گيا) جنس من الجبابرة (Titans) لبعضهم خمسون رأساً ومائة يد. ولم يكن أورانوس يحبهم فقذف بهم إلى طرطروس المظلمة. ولكن الأرض ساءها هذا فعرضت عليهم أن يقتلوا أباهم. وقام كرونس أحد الجبابرة بهذهِ المهنة. فابتهجت "جي الضخمة بهذا العمل وأخفته في كمين؛ ووضعت في يدهِ منجلاً، مثلم الأسنان، وأوحت إليه بالخطة التي يسير عليها. ثم جاء السماء الواسع وأحضر معه الليل (Erebus)، وكان السماء محباً وإلهاً فاحتضن الأرض وامتد حولها في جميع الجهات". فلما رأى كرونس ذلك بتر قضيب أبيه وألقى باللحم المقطوع في اليم، ونشأت من نقط الماء التي سقطت على الأرض آلهة الانتقام (Furias)؛ ومن الزبد الذي تكون حول اللحم وهو طافٍ فوق الماء نشأت أفرديتي . واستولى الجبابرة على أولمبس، وأنزلوا أورانوس )السماء( عن عرشهِ ورفعوا عليه كرونس. وتزوج كرونس بأختهِ ريا Rhae، ولكن أبويه الأرض والسماء كانا قد تنبأ بأن أحد أبنائه سيقتله، فابتلعهم كرنس جميعاً ما عدا زيوس، الذي ولدته ريا سراً في كريت. فلما شب زيوس خلع كرونس وأرغمه على أن يُخرج أولاده من بطنهِ. وأعاد الجبابرة إلى باطن الأرض قوة واقتداراً.

هذهِ هي الطريقة التي ولدت بها الآلهة وهذهِ هي أساليبهم كما جاء في أقوال هزيود. وهنا يجد قصة بروميثيوس البعيد النظر، جالب النار؛ ونجد كذلك فجور الآلهة الكثير الممل، وهو الفجور الذي استطاع به كثير من اليونان أن يصلوا بأنسابهم إلى هؤلاء الآلهة- ولم يكن الإنسان ليظن أن الشعر الذي يروي هذا الفجور سيكون شعراً مملاً خالياً من الروعة إلى هذا الحد. ولسنا نعرف كم من هذهِ الأساطير كانت هي القصص الشعبي الذي نشأ في ثقافة بدائية تكاد أن تكون همجية، وكم منها من تأليف هزيود نفسه، ولسنا نجد في صحف هومر الطيبة إلا القليل من هذهِ الأساطير. ولربما كان بعض الفساد الذي غمرت فيهِ هذهِ القصص آلهة جبل أولمبس في أيام النقد الفلسفي والتطور الأخلاقي ربما كان هذا البعض من خيال شاعر أسكرا القاتم النكد.

وينزل هزيود في القصيدة الوحيدة التي لا يجادل أحد في أنها من شعرهِ من قلل أولمبس إلى السهول فيكتب شعراً زراعياً قوياً في وصف حياة الفلاح. وتلك هي قصيدة الأعمال والأيام وهي عتاب طويل ونصيحة إلى أخيهِ برسيوس، وقد صوره فيها بصورة غريبة تحمل على الظن بأن هذا الأخ لا يعدو أن يكون تجسيداً أدبياً لمعنى تخيله الشاعر. وهو يقول في مطلع القصيدة: "والآن سأتحدث إليك أيها الأخ الأبله برسيوس ولا أبغي من حديثي إلا الخير لكَ". ويقول لنا هزيود إن برسيوس هذا قد خدعه واغتصب منه ميراثه؛ ثم يحدثنا بعد هذا الاغتصاب حديثاً هو أول موعظة معروفة في التاريخ تصف فضيلة الجد وكرامته، وتقول إن الشرف والكدح أوفر كرامة وأدل على الحكمة من الرذيلة والترف والخمول: "إن من أيسر الأمور لكَ أن تختار الرذيلة وأن تختار منها أكداساً مكدسة لأن الطريق إليها معبد ومقامها جد قريب. ولكن الآلهة المخلدين قد أقاموا في سبيل الفضيلة عرق الكدح وجعلوا الطريق المؤدي إليها طويلاً وعراً شاقاً في بداية الأمر ولكنك إذا وصلت إلى أعلاه وجدته سهلاً بحق رغم ما لقيت فيه من المشقة قبل". ثم يضع الشاعر قواعد لأعمال الزراعة الجدية ويحدد خير أيام الحرث والغرس والحصاد، ويصوغ أقواله في أمثال فجة صقلها فرجيل فيما بعد في شعر بلغ حد الكمال. وهو يحذر برسيوس من عاقبة الإفراط في الشراب صيفاً ومن تخفيف الملابس شتاءّ. ويصور شتاء بؤوتية القاسي فيقول عنه إن ريحه زمهرير تسلخ جلد الجؤذر والبحار والأنهار تضطرب مياهها بفعل ريح الشمال والغابات تنوح وأشجار الصنوبر تتساقط، والحيوانات "ترهب الثلج الأبيض"، وتأوي خائفة إلى حظائرها ومذاودها، وما أدفأ الكوخ الحسن البناء في ذلك الوقت، فهو الجزاء الأخير للكدح بشجاعة وفطنة! ففيه لا تنقطع الأعمال المنزلية مهما اشتدت العواصف، وفيه تكون الزوجة نعم العون حقاً، فهي خير عوض للرجل مما سببته له من متاعب كثيرة.

ولا يستطيع هزيود أن يقطع برأي في الزوجات، وما من شك في أنه كان أعزب أو أرمل، لأن مَن كانت له زوجة حية لا يتحدث عن المرأة بهذا الغل الشديد. نعم إن الشاعر يبدأ في آخر القطعة الباقية من قصيدتهِ ثبتاً بأسماء النساء كله شهامة ومروءة، ويعيد على مسمعنا قصص تلك الأيام التي كان عدد البطلات فيها لا يقل عن عدد الأبطال وحين كانت كثرة الأرباب من النساء. ولكنه يذكر في كتابيهِ الكبيرين في اغتباط الحاقد الشامت أن معظم الشرور التي في العالم من فعل بندورا الحسناء، وأن زيوس لما غضب على بروميثيوس Prometheus حين سرق النار من السماء أمر الآلهة أن تخلق المرأة لتكون هدية يونانية إلى الرجل: "فأمر هفستوس Hephaestus أن يمزج من فورهِ التراب بالماء وأن يهب المزيج صوت الرجل وقوته، وأن يجعل وجه الفتاة الحسناء جميلاً كوجه الآلهات والمخلدات. ثم أمر أثينا أن تعلمها كيف تنسج القماش المتين، وأمر أفرديتي الذهبية أن تنشر حول رأسها الرشاقة، والشهوة الملحة، والقلق الذي يتلف الأعضاء، ولكنه أمر الرسول هرمس أن يمنحها عقلاً كعقل الكلاب وأخلاقاً كلها ختل ودهاء. وأطاعوا كلهم زيوس... ووضع رسول الآلهة في جوفها صوتاً جذاباً؛ وسمى هذهِ المرأة بندورا لأن كل الساكنين في البيوت الأولمبية قد أهدوا إليها هدية لتؤذي بها الرجال المبدعين".

ثم يقدم زيوس بندورا إلى إبيميثيوس Epimstheus؛ وقد حذره أخوه بروميثيوس من قبول هدايا الآلهة، ولكنه رغم هذا التحذير يشعر بأنه لا حرج عليه من أن يخضع للجمال هذهِ المرة. وكان بروميثيوس قد ترك مع إيميثيوس صندوقاً خفياً عجيباً وأوصاه ألا يفتحه بحال من الأحوال. وغلب على بندورا حب الاستطلاع ففتحت الصندوق فطار منه عشرة آلاف شر أخذت تنغص على الناس حياتهم، ولم يبقَ فيه إلا الأمل وحده. ومن بندورا، كما يقول هزيود، نشأ جنس النساء الرقيقات، ومنها نشأت سلالة مؤذية، وتسكن طوائف النساء الشديدات الأذى مع الرجال وهنَّ لا يعنهم على الفقر المدقع بل يعنّهم على التخمة؛ وبهذهِ الطريقة وهب زيوس الرجال نساء ليكنَّ مصدر الشر والأذى".

ثم يقول الشاعر المذبذب بعدئذ في حسرة ولوعة إن العزوبة لا تقل شراً عن الزواج لأن الشيخوخة مع العزلة شقاء أيما شقاء، ولأن أملاك من لا ولد له تعود بعد موتهِ إلى عشيرتهِ، ولهذا فإن من مصلحة الرجل أن يتزوج- وإن كان عليهِ ألا يتزوج قبل سن الثلاثين، ومن مصلحتهِ أن يكون له أولاد- وإن كان من الواجب ألا يكون له أكثر من ولد واحد، حتى لا تنقسم ثروته بعد موته.

"إذا ما توج النضج فخر رجولتك، فخذ بيدك إلى بيتك زوجة راضية؛ وخير سن الزواج هي سن الثلاثين، فلا تنقص منها كثيراً ولا تزد عليها كثيراً؛.. واخترها عذراء حتى تطبع الأخلاق الطاهرة صدرها بطابع الحب القائم على الحكمة والعقل. ولتكن الهدية التي تهدى إليك فتاة من جيرتك معروفة لك؛ ولتكن حذراً غاية الحذر لئلا تُسئ الاختيار فتكون أضحوكة لجميع مَن يسكنون حولك. وخير ما تهبه الحكمة الإلهية للإنسان امرأة جميلة فاضلة وشر ما يصيب الإنسان زوجة صغيرة تقضي كل وقتها في الطعام والشراب. إن هذهِ المرأة لتحرق بغير نار متقدة جسمك الذي أنهكته المتاعب، وتشعل النار في عظامك القوية التي في داخل جسمك وتسبب لك الشيخوخة وأنت لا تزال في عنفوان الشباب".

ويقول هزيود إن الجنس البشري عاش على وجه الأرض قبل سقوط الإنسان على هذا النحو مئات من السنين يرسل في حلل السعادة. ذلك بأن الآلهة قد خلقت أولاً في أيام كرونس )ستورينا في شعر فرجيل( جيلاً ذهبياً كانوا كالآلهة يعيشون بلا كدح ولا قلق، تنتج لهم الأرض من نفسها الطعام، وتغذي بكلئها قطعانهم الكثيرة، ويقضون كثيراً من الأيام فرحين مسرورين لا تدركهم الشيخوخة، حتى إذا أقبل عليهم الموت آخر الأمر كان كأنه نوم خال من الآلام والأحلام. ثم خلق الآلهة في نزوة من نزواتهم القدسية جيلاً فضياً أحط منزلة من الجيل الأول، يحتاج أفراده في نموهم إلى مائة عام، فإذا كمل هذا النمو عاشوا معذبين زمناً قليلاً يدركهم بعده الموت. ثم خلق زيوس جيلاً نحاسياً، رجالاً أعضاؤهم وأسلحتهم وبيوتهم من النحاس، شن بعضهم على بعض كثيراً من الحروب حتى "سلط عليهم الموت الأسود فغادروا ضياء الشمس اللامعة". ثم عاود زيوس التجربة وخلق جيل الأبطال الذين حاربوا في طيبة وطروادة؛ ولما مات أولئك الرجال "سكنوا بأرواحهم الخالية من الهم في جزائر الأبرار"، وجاء من بعدهم شر الناس كلهم، الجبل الحديدي، وهم خلق أدنياء فاسدون فقراء لا يعرفون النظام، يكدحون بالنهار ويقاسون الشدائد والأهوال بالليل؛ لا يوقر أبناؤهم آباءهم، يعصون الآلهة ويبخلون عليهم، كسالى مشاغبون، يحارب بعضهم بعضاً، يرشون ويرتشون، لا يثق بعضهم ببعض، ويفتري بعضهم على بعض، ويطأون بأقدمهم وجوه الفقراء منهم. ويقول هزيود في حسرة: "ألا ليتني لم أولد في هذا العهد بل ولدت قبله أو بعده!" وهو يتمنى أن يعجل زيوس بدفن هذا الجيل الحديدي في باطن الأرض.

هذا هو اللاهوت التاريخي الذي يفسر بهِ هزيود ما في زمانه من فقر وظلم. وقد كان يرى هذهِ الشرور بعينيهِ ويلمسها بيديه؛ ولكن الشاعر لم يكن يشك في أن الماضي الذي ملأه أبطالاً وآلهة كان أنبل وأجمل من هذا الجيل؛ ولسنا نرتاب في أن الناس لم يكونوا على الدوام فقراء معذبين أذلاء كما كان الزراع الذين عرفهم في بؤوتية. وهولا يعرف أن أخطاء الطبقة التي ينتمي إليها قد أثرت في نظرتهِ، وأن آراءه في الحياة والعمل والنساء والرجال آراء ضيقة، أرضية، تكاد أن تكون تجارية. وما أبعد هذهِ الصورة من صورة أعمال الناس التي تطالعنا في شعر هومر، وهي صورة إن كان فيها الإجرام والفزع فإن فيها أيضاً العظمة والنبل! لقد كان هومر شاعراً، يعرف أن ومضة من الجمال تمحو آلافاً من الخطايا؛ أما هزيود فكان فلاحاً يصعب عليه ما تتكلفه الزوجة، ويغضب من وقاحة النساء اللائي يجلسن حول المائدة مع أزواجهن. ويكشف لنا هزيود في صراحة فظة عما كان في المجتمع اليوناني القديم من انحطاط قبيح - عن الفقر المدقع الذي كان يعانيه رقيق الأرض وصغار الزراع الذين يقوم على سواعدهم مجد الأشراف والملوك وعبث الحروب. وكان هومر يتغنى بالأبطال والأمراء للأشراف من الرجال والنساء؛ أما هزيود فلم يكن يعرف أمراء، بل كان يتغنى في قصائدهِ بالسوقة من الرجال ويوائم بين نغماته وبين موضوعه. فنحن نستمع في شعرهِ إلى قعقعة ثورات الفلاحين التي أنتجت في أتكا من بعد إصلاحات صولون وطغيان بيسستراتس.

لقد كانت الأرض في بؤوتية، كما كانت في البلوبونيز، في حوزة نبلاء غائبين عنها يقيمون في المدن أو بالقرب منها. وقد شُيدت أكثر المدن رخاءً وازدهاراً نحو بحيرة كبسيس Capsais، وهي الآن جافة ولكنها كانت فيما مضى تمد بالماء شبكة معقدة من قنوات الري وأنفاقه. وقد غزت هذا الإقليم المُغري الجذاب في أواخر عصر هومر شعوب اشتُق اسمهم من جبل بيئون Boeon في إبيروس الذي أقاموا بيوتهم بالقرب منه. وقد استولوا على قيرونيا Chaeronia )وبقربها قضى فليب على حرية اليونان(، وطيبة عاصمتهم في مستقبل الأيام، ثم استولوا أخيراً على أركمنوس العاصمة المينياوية القديمة. وقد انضوت هذهِ المدن وغيرها في أيام اليونان الأقدمين تحت لواء طيبة في اتحاد بؤوتي يصرف شئونه العامة رجال من أهل هذا الحلف يُختارون في كل عام، ويحتفل أهله مجتمعين في كورونية Coronea بعيد الجامعة البؤوتية.

وكان من عادة الأثينيين أن يسخروا من البؤوتيين ويتهموهم بأنهم أغبياء ويعزوا بلادة ذهنهم إلى إفراطهم في الأكل وإلى جو بلادهم الكثير الضباب والأمطار- كما كان الفرنسيون يعيرون الإنجليز سواء بسواء. وقد يكون في هذا الوصف والتعليل بعض الصدق، لأن البؤوتيين يضطلعون في تاريخ اليونان بدور لا ترتاح له النفوس. من ذلك أن طيبة مثلاً قد ساعدت الغزاة الفرس، وظلت شوكة في جانب أثينة مئات السنين. ولكننا نضع في الكفة الأخرى- كفة الحسنات- أبطال بلاتية الشجعان الأوفياء، ونضع هزيود الكادح المثابر، وبندار الذي بلغ السماكين، وأباميننداس الأبي الشريف النفس، وفلوطرخس الحبيب إلى النفوس. ومن واجبنا أن نكون على حذر فلا نرى منافسي أثينة بأعين الأثينيين.

الفصل الثاني: دلفي

بعد أن يغادر الإنسان قيرونيا مدينة أفلوطرخس يصعد وهو يعرض حياته للخطر فوق اثني عشر ميلاً يلتقي عند آخرها بفوقيس Phocis، ثم يصل عند سفح جبل بارنسس نفسه إلى دلفي مدينة اليونان المقدسة. وعلى بعد ألف قدم من تحتها ينبسط سهل كريسيا Crisaea الذي تتلألأ فيه بأوراقها الفضية عشرة آلاف شجرة زيتونة؛ وعلى بعد خمسمائة قدم أخرى تحت هذا السهل يمتد في الأرض جون صغير من خليج كورنثة، تمر فيه السفن وهي مقبلة من بعيد، تتهادى في بطء وصمت فوق المياه الساكنة الخداعة. ومن وراء الجون سلاسل أخرى من الجبال تكسوها عند مغيب الشمس حلة أرجوانية. وعند منعطف في الطريق يلتقي السائح بنبع كستاليا Castalia في خانق بين الصخور العمودية. وتروي القصص أن أهل دلفي ألقوا إيسوب Aesop من فوق هذهِ الصخور المرتفعة )وأضافوا بقولهم هذا خرافة أخرى إلى خرافاتهِ(؛ كما يروي التاريخ أن فلوميلوس Philomelus الفوقي Phocian طارد اللكريين المنهزمين من فوق هذهِ الصخور في الحرب المقدسة الثانية. ومن فوقها قمتا برنسس التوأمتان حيث سكنت ربات الشعر بعد أن ملت المقام في جبل هِلِكُن. ولم يكن اليونان الذين يتسلقون مئات الأميال فوق الصخور الوعرة ليقفوا على قمة الجبل- متزنين على لسان بارز من الصخر بين المرتفعات التي يكسوها الضباب من جهة والبحر الذي تسطع عليه الشمس من جهة أخرى، ويحيط بهم من جميع الجهات جمال الطبيعة وأهوالها- لم يكن هؤلاء اليونان يشكُّون في أن من تحت هذهِ الصخور إله رهيب. وكثيراً ما زلزلت الأرض في هذا المكان وقذفت الرعب في قلوب الفرس النهابين، ومن بعدهم بمائة عام في قلوب الفوقيين النهابين، وبعد مائة عام أخرى في قلوب الغالبين النهابين؛ وكانت الزلازل في اعتقاد اليونان من فعل الإله يحمي بها قراره. وكان العباد المتدينون يؤمون هذا المكان من أقدم الأزمنة التي تتحدث عنها التواريخ اليونانية ليجدوا في الرياح التي تهب بين الأخاديد، أو الغازات التي تنبعث من باطن الأرض، صوت إلههم وإرادته. وكانت الصخرة العظيمة، التي تكاد تسد الفتحة التي تنبعث منها الغازات وسط بلاد اليونان كلها في اعتقاد الأهلين، ومن ثم كانت هي سرة العالم أو أمفالوسه Omphalos كما كانوا هم يسمونها.

وقد شادوا فوق هذهِ السرة مذابحهم لجي أمهم الأرض في الأيام القديمة، ثم لأبلو مالكها الأزهر فيما بعد. وكانت تحرس الأخدود في الزمن القديم أفعى رهيبة فتصد عنه الرجال؛ حتى قتلها فيبوس Phoebus بسهم وأصبح هو أبلو البيثيين الذي يُعبد في هذا الضريح. ولما أن دمرت النيران في عام 48 هيكلاً قديماً أعاد بناءه الأشراف الألكميونيون المنفيون من أثينة بأموال اكتتبت بها بلاد اليونان كلها وبأموالهم هم، وجعلوا له واجهة من الرخام. وأحاطوه برواق دوري الطراز، وأقاموه من الداخل على أعمدة أيونية. وقلما رأت بلاد اليونان ضريحاً مثله من قبل. وكان طريق مقدس ملتف حول الجبل يؤدي إلى المزار، ويزدان في كل خطوة بالتماثيل والأروقة والخزانات أي الهياكل الصغيرة التي أقامها عند تخومه المقدسة )في أولمبيا، ودلفي، وديلوس المدن اليونانية( لتودع فيها أموالها أو لتكون هبات منها إلى الإله. وقد أقامت كورنثة وسكسيون خزائن من هذا النوع في دلفي وأقامت مثلها فيما بعد أثينة، وطيبة، وسيريني، وأقامت أحسن منها نيدوس Cnidos وسفنوس Siphnos وفي وسطها كلها شُيد ملهى مواجه لجبل برنسس ليذكر الناس أن التمثيل كان في اليونان أصلاً من الأصول الدينية. وكان يعلو فوق هذهِ كلها ملعب يمارس فيه اليونان أحب الشعائر إليهم وهي عبادة الصحة، والشجاعة، والجمال، والشباب.

وفي وسعنا أن نتخيل منظر هذا المكان في عيد أبلو، فنصور لأنفسنا الحجاج المتحمسين يزحمون الطريق الموصل إلى المدينة المقدسة، وتغص بهم وبصخبهم وضجيجهم النزل والخيام التي أقيمت على عجل لتأويهم، وهم يمرون في حذر وارتياب بين الحوانيت التي يعرض فيها التجار الماكرون بضاعتهم، ثم يصعدون في مواكب دينية أو حاجين إلى هيكل أبلو يطلبون إليه الرضوان، ويقربون إليه القرابين أو الضحايا، ويرتلون الأناشيد؛ أو يتلون الأدعية والصلوات، ويجلسون خاشعين في الملهى، ثم يصعدون في خطى ثقيلة متعبة تبلغ الخمسمائة عداً ليشهدوا الألعاب البيثية أو ليتطلعوا في دهشة إلى البحر والجبال. لقد كانت الحياة يوماً من الأيام تسير على هذا النهج المليء بالحمية والحماسة.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث: الدول الصغرى

كان الأهلون في الجزء الغربي من أرض اليونان الأصلية يعيشون قانعين بحياتهم الريفية الهادئة طوال تاريخ اليونان القديم ولا يزالون كذلك حتى اليوم. لقد كان الناس في لكريس Locris، وإيتوليا Aetolia، وأكرنانيا Acarnania، واينيانيا Aeniania، لشدة قربهم من الحقائق البدائية الواقعية، وبعدهم عن تيار الحركة والتجارة الجارف، لا يجدون متسعاً من الوقت، وليست لهم المهارة الكافية، للاشتغال بالأدب أو الفلسفة أو الفن؛ إن الملعب والملهى العزيزين على أتكا لم يجدا لهما مواطناً في هذا المكان، وكانت الهياكل نفسها أضرحة قروية لا يجملها الفن ولا تثير العاطفة القومية. وكانت تقوم في فترات طويلة مدائن متواضعة مثل أمفسا Amphissa في لكريس، أو نوبكتوس Naupactus الإيتولية، أو كليدون Clydon الصغيرة حيث صاد مليجر Meleager في يوم من الأيام الخنزير البري مع أطلنطا Atalanta وعلى الساحل الغربي بالقرب من كليدون تقوم مسولنجيون Messolongion أو مسولنجي Messolongi حيث حارب ماركو بوزارس Marco Bozzaris وقُتل بيرن Byron ويجري بين أكرانيا وإتوليا أعظم نهر في بلاد اليونان- نهر أكلوس الذ أتخذه اليونان ذوو الخيال الخصب إلهاً لهم وعبدوه واسترضوه بالصلاة والضحايا. وبالقرب من منابعه في إبيروس Epiros ينبع نهر أسبركيوس Spercheus وبالقرب من شاطئيه في دولة إبنيانيا Aeniania الصغيرة كان يعيش الآخيون في العصر السابق لعصر هومر، هم وقبيلة صغيرة تسمى هلينز وهو الاسم الذي سمى به اليونان كلهم أنفسهم طوعاً لحكم العادة التي لا تخضع لغير الهوى. وفي اتجاه الشرق يقع ممر ترموبيل المعروف باسم "الأبواب الحارة..." بسبب عيونه الكبريتية الساخنة وممره الضيق المنبع الممتدة من الشمال إلى الجنوب بين الجبال والخليج الماليMalic Gulf؛ وبعد أن يصعد الإنسان جبل أثريس Othrys ويخترق آخيا ثيوتيس Achaea Ththiotis ينحدر إلى سهول تساليا العظيمة.

وفيها عند فرسالس Pharsalus أبادت جنود قيصر المتعبة قوات بمبي؛ وليس في بلاد اليونان كلها إقليم آخر من تساليا زرعاً، أو أقوى منها خيولاً، أو أفقر فنوناً. وتجري فيها الأنهار من جميع الجهات، ويصب كلها في نهر بنيوس فتكون فيها تربة غرينية خصبة تمتد من حدود الإقليم الجنوبية إلى سفوح السلاسل الشمالية. ويشق نهر ينيوس طريقه خلال الجبال مخترقاً تساليا بحر تراقية، وينحت بين قمم أسا Assa وأولمبس وادي التمبي )القطع( حيث يحيط بالنهر الغَضوب من جميع الجهات صخور وعرة تمتد على شاطئيه مدى أربعة أميال، وتعلو عن ماء النهر نحو ألف من الأقدام. وقد قلمت على طول النهر في الزمن القديم مدن كثيرة - فيرى، وكرانون، وفركا، ولاريسا، وجيرتون، وإلاتيا ، كان يحكمها أمراء إقطاعيون يعيشون من كدح رقيق الأرض. وهنا في أقصى الشمال يعلو جبل أولمبس أعلى قلل البلاد ومواطن الآلهة الأولمبية. وعلى سفوحه الشمالية والشرقية تقوم بيريا Pieria التي كانت موطن ربات الشعر قبل انتقالهن إلى هليكون . وإلى الجنوب، على طول الخليج، تمتد مجنيزيا حيث تتجمع الجبال من أسَّا Assa إلى بليون Pelion.

وتمتد جزيرة عوبية Euboea مقابلة لسواحل اليونان القارية بين الخلجان الداخلية ومياه بحر إيجة الخارجية، مبتدئة في عرض المضيق على بعد أميال قليلة من مجنيزيا، وترتكز على شبه جزيرة في كليس تكاد تصلها ببؤتية. والعمود الفقري للجزيرة سلسلة جبلية هي امتداد لأولمبس، وبليون، وأثريس وتنتهي بجزائر سكلديس. وقد بلغت سهولها الساحلية درجة من الخصب والثراء أغرت بها الأيونيين القادمين من أتكا في أيام غزو الدوريين، وأدت إلى فتحها على يد الأثينيين في عام 506 ق. م، وكانت حجة أثينة التي تذرعت بها لهذا الفتح أنها إذا حوصرت عند ببريوس ماتت جوعاً إن لم تصلها حبوب عوبية. وكانت رواسب النحاس والحديد وأجراف الأصداف مصدر ثراء كلسيس و الأصل الذي اشتق منه اسمها. وقد ظلت وقتاً ما أهم مراكز الصناعات المعدنية في بلاد اليونان، واشتهرت بسيوفها التي لا تضارعها قط سيوف أخرى، وبمزهرياتها البرونزية التي بلغت أعلى درجة من الإتقان. ومما ساعد على انتعاش تجارة الجزيرة أن استخدمت فيها نقود من أقدم النقود اليونانية، وكانت تخرج من كلسيس فكانت مصدر ثراء أهلها وحافزاً لهم إلى إنشاء مستعمرات تجارية في تراقية وإيطالية وصقلية. وكاد نظام الموازين والمكاييل العوبي أن يعم بلاد اليونان كلها، كما أضحت حروف كلسيس الهجائية التي أخذتها رومة من كومي الإيطالية مستعمرة عوبية، كما أضحت هذه الحروف في صورتها اللاتينية هي الحروف الهجائية لأوربا الحديثة. وعلى بعد أميال قليلة من جنوب كلسيس كانت مدينة إرثريا منافستها القديمة حيث أنشأ منديموس Meredemus أحد تلاميذ أفلاطون مدرسة للفلسفة؛ وفيما عدا هذا فإن إرتريا وكلسيس Chalcis كلتيهما لا يظهر أسماهما واضحين في تاريخ الفكر أو الفن اليونانيين.

ومن كلسيس يعبر المسافر على جسر قائم مكان المعبر الخشبي الذي أنشئ في عام 411 ق. م مضيق يوربوس Euripus عائداً إلى بؤوتية. وعلى بعد بضعة أميال إلى الجنوب على الساحل البؤوتي تقع بلدة أويس الصغيرة حيث ضحى أجممنون بابنته للآلهة. وكانت تعيش في هذا الإقليم في يوم من الأيام قبيلة خاملة الذكر هي قبيلة الجرايس التي أرسلت مع العوبيين جماعة من أهلها أنشئوا مستعمرة كومي بالقرب من نابلي، واشتق الرومان من اسم هذه القبيلة الاسم الذي أطلقوه على من قابلهم من الهيلنيين فسموهم الجراكي )الإغريق( . ومن أجل هذا أطلق العالم كله على هلاس Hallas اسماً لم يسمِ أهلها بلادهم بهِ في يوم من الأيام. وإلى جنوب أويس تقوم تنجارا Tangara التي كسبت شاعرتها كورنا Corinna الجائزة من بندار حوالي عام 500 ق. م. والتي صنع خزافوها في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد أشهر التماثيل الصغيرة في التاريخ. وبعد خمسة أميال أخرى إلى الجنوب يدخل السائح أتكا وفي وسعنا إذا وقفنا على قلل جبال بارنيس أن نبصر تلال أثينة.


الفصل الرّابع: أتيكا

1- ما حول أثينة

إن الجو نفسه في هذا الإقليم يختلف عنه في الإقليم السابق- فهو هنا نظيف، بارد، مضيء؛ وكل سنة هنا تحتوي على ثلاثمائة يوم ذات شمس ساطعة. وإذا قدم الإنسان إليه تذكر من فوره وصف شيشرون "هواء أثينة الصافي الذي يقال إنه كان له أكبر الأثر في حدة عقول أهل أتكا". ويسقط المطر في أتكا في الخريف والشتاء، وقلما يسقط في الصيف والضباب نادر فيها، ويسقط الثلج في أثينة مرة واحدة في العام تقريباً، ويسقط أربع مرات أو خمساً كل عام على قمم الجبال المحيطة بها. والصيف هنا حار ولكنه جاف يطاق؛ وكانت الأراضي المنخفضة في الزمن القديم ذات مناقع تنتشر فيها الملاريا فتقلل من ملائمة الهواء للصحة. وتربة أتكا فقيرة، والصخور الصلبة قريبة من سطح الأرض في كل مكان تقريباً، وهذا القرب يجعل الزراعة كفاحاً شاقاً للحصول على أبسط ضرورات الحياة ؛ ولولا التجارة التي تتطلب كثيراً من المغامرة، وزراعة الزيتون والكرم التي تتطلب كثيراً من الصبر، لما أمكن قيام الحضارة في أتكا.

وأكثر ما يدهش له الإنسان أن تقوم مدن كثيرة في هذه الشبه الجزيرة القاحلة؛ فهي تطالع الإنسان في كل مرفأ على الساحل، وفي كل وادٍ بين التلال، فقد استقر في أتكا شعب نشيط مغامر إبان العصر الحجري الحديث أو قبله، وأكرم وفادة القادمين عليه من الأيونيين- وهم مزيج من البلاسجيين الميسينيين والآخيين- الفارين من بؤوتية والبلوبونيز أمام المهاجرين والغزاة الشماليين، وتزوج منهم وتزوجوا منه. ولم يكن هؤلاء القادمون فاتحين من الأجانب، يستغلون أهل البلاد الأولين، بل كانوا سلالة مختلطة من شعوب البحر المتوسط، متوسطي القامة، سمر البشرة، ورثوا من طريق مباشر دم الحضارة الهيلينية وثقافتها، وكانوا يعتزون بنشأتها وصفاتها الأصلية، ويصدون عن قدسها القومي، الأكربوليس، الدوريين نصف الهمج الحديثي العهد بالثقافة اليونانية.

وكان نظامهم الاجتماعي مستمداً من صلة الدم هذه؛ فكانت كل أسرة تنتمي إلى قبيلة من القبائل يدعى أفرادها أنهم من نسل بطل مقدس واحد، ويعبدون إلهاً واحداً، ويشتركون في حفلات دينية واحدة، ولهم أركون )حاكم( واحد وخازن على المال واحد، ويملكون مجتمعين بعض الأراضي العامة، ويستمتعون بحق التزاوج والتوارث، ويقبلون ما تفرضه عليهم واجبات التعاون، والثأر، والدفاع، ويوارون التراب آخر الأمر في مدافن القبيلة. وكانت كل قبيلة من قبائل أتكا الأربع تتألف من ثلاثة بطون، وكل بطن من ثلاث أفخاذ وكل فخذ من ثلاثين من آباء الأسر أو نحوهم. وكان تقسيم المجتمع الأتيكي هذا التقسيم القائم على صلة القربة مما يسر تنظيمه الحربي وتعبئته العسكرية، كما أنه ساعد على قيام طبقة أرستقراطية من الأسر القديمة اضطر كليسثنيز بسبب وجودها إلى إعادة توزيع القبائل قبل أن يستطيع إقامة نظام ديمقراطي في البلاد. ويغلب على الظن أن كل بلدة أو قرية كانت في الأصل مواطن بطن من البطون وكانت تسمى أحياناً باسم هذا البطن أو باسم الإله أو البطل الذي تعبده، وكانت هذه هي الحال في أثينة نفسها. وإذا أقبل السائح على أتكا من بؤوتة الشرقية التقى أولاً بأوروبوس Oropus وانطبعت في ذهنه صورة غير جميلة لهذا الإقليم، لأن أوروبوس كانت بلدة قائمة عند تخومه يرتاع لها السائح ارتياعه من أية بلدة مثلها في هذه الأيام. ويصفها ديكي آركوس Dicaearchus حوالي عام 300 ق. م بقولهِ إن "أوروبوس معشش للبائعين المحتالين. وموظفو الجمارك في هذه البلد شرهون شرهاً لا يدانيه شره سواه، وخستهم متأصلة في لحمهم وعظامهم. ومعظم أهلها غلاظ شرسو الطباع، لأنهم أطاحوا برؤوس المؤدبين الظرفاء من الأهلين". وإذا اتجه السائح من أوروبوس نحو الجنوب التقى في الزمن القديم بسلسلة من البلدان المتقاربة؛ رامنوس Rhamnus، أفدنا Aphidna، دسليا Deceleia، )وهي مكان ذو موقع حربي حصين اشتهر في حرب البلوبونيز(، وأكارني Acharnae )موطن ديسبوبوليس Dicaepolis داعية السلام الشرس في مسرحيات أرستفنيز(، ومراثون، وبرورونيا Brauronia. وفي الهيكل العظيم الذي كان قائماً في هذه المدينة الأخيرة نصب تمثال أرتميس الذي جاء بهِ أرستيز وإفيجينيا من كرسنيز Chersonese في طوروس Taurus، وكان يحج إليهِ كل أربعة أعوام كل من يستطيع الحج إليها من أهل أتكا ليشتركوا في حفلات التقى والدعارة المعروفة باسم برورونيا أو عيد أرتميس. وبعد هذا يلتقي السائح ببراسية Prasiae وثوركوس Thoricus، ثم يدخل إقليم لوريوم Laurium الذي تُستخرج الفضة من مناجمهِ، والذي كان عظيم الشأن في تاريخ أثينة الاقتصادي والحربي؛ ثم يلتقي في طرف شبه الجزيرة بسونيوم Sunium التي شيد على أطرافها هيكل جميل يهتدي به الملاحون ويوفون فيه بنذورهم إلى بوسيدن. وعلى الساحل الغربي )لأن نصف أرض أتكا سواحل، واسمها نفسه مشتق من أكتيكي Aktike أي أرض السواح (، يمر المسافر بأنافلستوس Anaphlystus ويصل إلى جزيرة سلاميس Salamis موطن إجاكس ويوربديز، ومن بعدها إلى إلوسيس المدينة المقدسة لدمتر وطقوسها الخفية، ثم يعود آخر الأمر إلى بيريس )بيرية( Piraeus. وإلى هذا المرفأ، الأمين الذي ظل مهملاً حتى كشف ثمستكليز فائدته العظيمة، صارت السفن فيما بعد تنقل جميعها غلات عالم البحر المتوسط لتستخدمها أثينة فيما بعد عليها بالمنفعة أو اللذة. وكان جدب تربة أتكا، وقرب أجزائها كلها من شاطئ البحر، ووفرة الموانئ الصالحة، كان هذا كله حافزاً لأهل أتكا للاشتغال بالتجارة؛ وقد كسبوا بفضل شجاعتهم وقوة ابتكارهم أسواق بحر إيجة؛ ومن هذه الإمبراطورية التجارية العظيمة نشأت ثروة أثينة، وقوتها، وثقافتها، في عصر بركليس.


2- أثينة في عهدها الألجركي

لم تكن هذه البلدان محيطة بأثينة فحسب، بل كانت أجزاء منها كذلك. وقد سبق القول كيف جمع ثيسوس، كما يعتقد اليونان، الأهلين في نظام سياسي واحد وجعل لهم عاصمة واحدة . ونشأت أثينة ثم نمت على بعد خمسة أميال من بيريس بين معشش من التلال، همتوس Hymettus وبنتلكوس Pentalicus وبارنس Oarnes، حول الحصن الميسيني القديم. وكان جميع ملاك الأراضي في أتكا من مواطنيها. وكانت أقدم الأسر، وأكثرها أملاكاً هي التي تحفظ التوازن بين ذوي السلطان في البلاد؛ فقد رضوا بقيام الملكية حين كان اضطراب الأمن يهدد البلاد، ولما أن عاد إليها الهدوء والاستقرار وعادوا هم أيضاً إلى الاستمساك بسيطرتهم الإقطاعية وبالحكومة المركزية؛ ولما مات الملك كادروس Cadrus ميتة الأبطال مضحياً بنفسه لصد الدوريين الغزاة أعلنوا (كما تروي القصة المتواترة) أن أحداً من الناس لا يصلح خليفة له، واستبدلوا بالملك أركونا (حاكماً) يختار ليتولى السلطة مدى الحياة. وفي عام 752 حددوا مدة الأركونية بعشر سنين ثم أنقصوها إلى سنة واحدة في عام 683. وفي هذه السنة الأخيرة قسموا سلطة صاحب هذا المنصب بين تسعة أركونيين، أركون سميت السنة باسمه ليستطيعوا بذلك تأريخ الحوادث، وأركون يسمى ملكاً ولكنه لم يكن إلا رئيس دين الدولة؛ وأركون يتولى قيادة الجند وستة مشترعين. وحدث هنا ما حدث في إسبارطة ورومة، فلم يكن القضاء على الملكية نصراً عاماً أو خطوة مقصودة نحو الدمقراطية، بل كان يمثل عودة الإقطاعيين إلى السيادة، ويكرر ما كان يحدث في التاريخ كله من قيام السلطة المركزية تارة وغير المركزية تارة أخرى. وبفضل هذه الثورة المجزأة جرد منصب الملك من كل ما كان له من سلطان، واقتصر عمل من يتولاه على الكهانة دون غيرها من الأعمال. ولقد بقيت لفظة ملك في الدستور الأثيني حتى آخر تاريخ المدينة القديم، ولكن حقيقة الملكية لم تعد إليها قط. إن الدساتير قد تبدل أو يقضى عليها من ذوي السلطة العليا دون أن ينالهم من جراء ذلك عقاب ما إذا تركت أسماؤها دون تغيير.

وظل "الحاكمون الشريفو المحتد" (Eupatrid Oligarchs) يحكمون أتكا زمناً يكاد يبلغ خمسة قرون. وكان أهل البلاد أيام حكمهم مقسمين خمس طبقات سياسية: طبقة الفرسان (Rippes) الذين يملكون الخيل والذين يستطيعون أن يكونوا فرقة الفرسان في الجيش، وذوي الثيران (Zeugitai) الذين يملك كل منهم ثورين والذين يستطيعون أن يسلحوا أنفسهم ليكونوا من فرق المشاة الثقيلة، وطبقة العمال المأجورين Chetes الذين كانوا يؤلفون فرق المشاة الخفيفة. وكانت الطائفتان الأوليان وحدها هما اللتين تحسبان في عداد المواطنين؛ والفرسان وحدهم هم الذين يمكن اختيارهم أركونين أو قضاة أو كهنة. وكان الأركونون بعد أن يتموا مدة توليهم منصبهم، إذا لم يرتكبوا فضائح تلوث سمعتهم، بحكم منصبهم القديم أعضاء في البول Boule أو تل أريس Ares، ويختارون الأركونين، ويحكمون الدولة. وقد حدد مجلس شيوخ الأريوباجوستي في عهد الملكية نفسها سلطان الملوك؛ فلما قامت الحكومة الألجركية كان له مثل ما لنظيره في رومة من سعة النفوذ وعظيم السلطان.

وكان السكان ينقسمون من الوجهة الاقتصادية ثلاثة أقسام كذلك. فكان على رأسهم الأشراف كريمو المحتد Eupatrids الذين كانوا يعيشون عيشة مترفة بالنسبة إلى غيرهم من الجماعات، ويقيمون في المدن بينما يقوم العبيد والعمال المأجورون بزراعة أملاكهم في الريف، أو التجار باستغلال الأموال التي اقترضوها منهم وأداء جزء غير يسير من الأرباح إليهم. ويلي هؤلاء في الثروة العمال العموميون (Demiugoi) أي أرباب المهن، والصناع، والتجار، والعمال الأحرار. ولما فتح الاستعمار أسواقاً جديدة للتجارة، وتحررت هذه التجارة بعد سك العملة، كان سلطان هذه الطبقة المتزايد هو القوة الفعالة التي أنالتها في عهد صولون وبيستراتس نصيباً من الحكم، ورفعتها في عهد كليسثنيز وبركليز إلى ذروة السلطان. وكان معظم العمال أحراراً لأن العبيد كانوا في ذلك العهد لا يزالون أقلية حتى بين الطبقات الدنيا. وكان أفقر الأهلين عمال الأرض (Georgoi)، وهم الزراع الصغار الذين ينتزعون القوت من التربة الضنينة ومن شره المرابين والأشراف، وليس لهم من عزاء إلا التباهي بأنهم يملكون قطعة من الأرض.

وكان بعض هؤلاء الزراع يملكون في أيامهم الخالية أراضي واسعة، ولكن زوجاتهم كن أكثر خصوبة من أرضهم، فتقسمت هذه الأرض ثم تقسمت بين أبنائهم وأحفادهم على مر الأجيال. وكان امتلاك العشائر أو الأسر الأبوية للأرض يزول زوالاً سريعاً، كما كانت الأسوار والخنادق والحواجز تُشير إلى الأملاك الفردية وما يصحبها من غيرة وتحاسد. وكلما صغرت مساحة الأراضي التي يملكها الأفراد وأضحت الحياة الريفية مزعزعة غير مأمونة باع كثيرون من الفلاحين أرضهم- رغم ما كان يوقع على الذين يبيعونها من عقاب وما يحرمون بسببهِ من حقوق- ونزحوا إلى أثينة أو غيرها من المدن الصغرى ليشتغلوا فيها تجاراً أو صناعاً أو فعلة. وأصبح غيرهم، ممن عجزوا عن تحمل التزامات الملكية، مستأجرين لضياع الأشراف Hectemoroi، أو عاملين فيها لقاء نصيب من غلتها. وظل غيرهم في أرضهم يكافحون، يقترضون المال بربا فاحش ويرهنون أرضهم ضماناً لما اقترضوه، ولكنهم عجزوا عن الوفاء بديونهم وألفوا أنفسهم لاصقين بالأرض يلزمهم بذلك دائنوهم ويعملون فيها عمل الرقيق الإقطاعيين. وكان الدائن المرهونة إليهِ الأرض يعد مالك الأرض الحقيقي حتى يسترد ما لهُ من دين، وكان يضع عليها لوحاً من الحجر يُعلن فيهِ هذه الملكية. وتضاءلت الملكيات الصغيرة على توالي الأيام، وقل عدد الملاك، واتسعت الأملاك الكبيرة. ويقول أرسطاطاليس في هذا: "وأصبحت كل الأراضي ملكاً لعدد قليل من الناس، وتعرض الزراع هم وأزواجهم وأبناؤهم لأن يباعوا بيع الرقيق" لا في داخل البلاد فحسب بل في خارجها أيضاً، "إذا عجزوا عن أداء إيجار الأرض" أو الوفاء بما عليهم من ديون. وألحقت التجارة الخارجية واستبدال النقود بالمقايضة ضرراً آخر بالأهلين، لأن منافسة مواد الطعام المستوردة من خارج البلاد أبقت أثمان محصولاتهم منخفضة، على حين أن ما كان عليهم أن يؤدوه ثمناً للسلع المصنوعة التي كانوا مضطرين إلى شرائها كانت تحدده عوامل لا سلطان لهم عليها؛ وظلت هذه الأثمان تزداد على توالي السنين. وإذا ما أجدبت البلاد عاماً حل الخراب بكثيرين من الزراع وهلك بعضهم جوعاً. وبلغ الضنك في أتكا درجة رحب معها الأهلون بالحرب وعدوها نعمة وبركة، فقد تؤدي إلى كسب أرض جديدة، وستؤدي حتماً إلى قلة الأفواه التي تتطلب الطعام.

وفي هذه الأثناء كانت الطبقات الوسطى من أهل المدن التي لا يقف في وجهها القانون تُنزل بالعمال الأحرار الفقر والضنك، وتستبدل بهم الرقيق شيئاً فشيئاً. وبلغ الجهد العضلي من الرخص حداً أصبح معه كل القادرين على ابتياعه يترفعون عن العمل بأيديهم. وصار العمل اليدوي غلاً وعبودية، ومهنة غير جديرة بالأحرار، وأخذ ملاك الأرض، لغيرتهم من ثراء التجار المتزايد، يبيعون في خارج البلاد الحبوب التي يحتاجها مستأجروا أرضهم طعاماً لهم، وانتهوا آخر الأمر ببيع الأثينيين أنفسهم تطبيقاً لقانون الديون. وأمل الناس وقتاً ما أن تعالج تشريعات داركون Dracon هذه الشرور. فقد كلف هذا المشترع ثسموثيتي Thesmothete حوالي عام 620 بأن يسن القوانين الكفيلة بإعادة النظام إلى أتكا، وأن يسجلها كتابة لأول مرة في تاريخ اليونان. ومبلغ علمنا أن أهم ما نجده من تقدم في قوانينهِ هو أنه وسع إلى حد ما دائرة من لهم الحق في أن يُختاروا أركونيين حتى شملت كثيرين من الأغنياء المحدثين، وأحل القانون محل الغصب والانتقام، وأصبح مجلس الشيوخ الأريوباجوستي بعدئذ صاحب الحق في النظر في جميع جرائم القتل. وكان هذا التشريع الأخير إصلاحاً أساسياً تقدمياً؛ ولكنه لما أراد أن ينفذه، بل لما أراد أن يقنع ذوي الثراء بقبولهِ وبأنه أقسى من كل ما يستطيعون فرضه من ثأر وانتقام، لما أراد هذا وذاك اضطر أن يضمن قوانينه صنوفاً من العقاب القاسي الشديد. ولما أن حلت شرائع صولون محل معظم قوانينه هو، كان كل ما يذكره الناس بهِ هو ضروب القسوة والعقاب لا قوانينه نفسها. والحقيقة أن داركون قد جمع في شرائعه ما كان في نظام الإقطاع من عادات قاسية مهوشة خالية من النظام، ولكنه لم يفعل شيئاً لإنقاذ المدينين من الاسترقاق، أو يقلل من استغلال الأقوياء للضعفاء؛ ومع أنه قد وسع دائرة من لهم حقوق سياسية بعض التوسيع، فإنه ترك لطبقة كرام المحتد )اليوبترد( السيطرة التامة على دور القضاء، كما ترك لهم الحق في أن يفسروا كما يرون كل ما يمس مصالحهم من القوانين ونقط الخلاف. وقد ضمنت شرائعه لأصحاب الأملاك حماية أكثر مما كان لهم من قبل؛ فكانت السرقات صغيرة، بل التراخي في العمل، يعاقب عليهما بحرمان المواطنين من حقوقهم السياسية، ويعاقب عليهما غير المواطنين بالإعدام.

وبنما كان القرن السابع عشر قبل الميلاد يقترب من نهايته، كان حقد الفقراء المعدمين عديمي النصير على الأغنياء المتمتعين بحماية القانون قد أوشك أن يقذف بأثينة في أتون الثورة. ذلك أن المساواة ليست نظاماً طبيعياً، وحيث تُطلق الحرية للكفاية والدهاء فلابد من أن تنشأ الفوارق وتبقى حتى تقضي على نفسها في الفقر الشامل الذي تؤدي إليهِ الحرب الاجتماعية والذي لا يميز بين من كان في الأصل غنياً ومن كان فقيراً؛ وقصارى القول أن الحرية والمساواة ليستا رفيقين متلازمين بل عدوين متباغضين. وتجمع الثروة يبدأ بأن يكون نظاماً محتوماً، ثم ينتهي بأن يكون نظاماً مهلكاً مبيداً. وفي ذلك يقول أفلوطرخس: "إن التفاوت في الثراء بين الأغنياء والفقراء قد بلغ غايته، حتى بدا أن المدينة قد أضحت في حال تُخشى مغبتها، وأن ليس ثمة وسيلة تنجيها من الاضطراب... إلا سلطة استبدادية". ورأى الفقراء أن حالهم تزداد سوءاً عاماً بعد عام، فزمام الحكم والجيش في أيدي سادتهم، والمحاكم الفاسدة المرتشية تقضي في كل نزاع في غير مصلحتهم- فأخذوا يتحدثون عن الثورة العنيفة، وعن توزيع الثروة توزيعاً يخالف ما هو قائم وقتئذ مخالفة تامة. فلما عجز الأغنياء عن تحصيل ما لهم من ديون قانونية، وأغضبهم تحدي الفقراء لهم وتهديدهم بالاعتداء على أموالهم المدخرة وأملاكهم، لجأوا إلى القوانين القديمة واستعدوا لحماية أنفسهم بالقوة من الغوغاء، بعد أن بدا لهم أن هؤلاء لايهددون أموالهم فحسب، بل يهددون فوق ذلك النظام القائم كله، والدَّين، والحضارة بقضها وقضيضها.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

3- الثورة الصولونية

قد يبدو عجيباً بعيداً عن المعقول أن يقوم في هذا الدرك الذي تدهورت إليه شؤون أثينة والذي يتكرر كثيراً في تاريخ الأمم، نقول قد يبدو عجيباً أن يقوم رجل يستطيع بغير عنف أو خطب قاسية مريرة أن يقنع الأغنياء والفقراء على السواء بأن يسووا أمورهم فيما بينهم تسوية لم تحل دون الفوضى الاجتماعية فحسب بل أقامه فوق ذلك نظاماً سياسياً واقتصادياً جديداً خيراً من النظام السابق، بقي ما بقيت أثينة مدينة مستقلة ألا إن ثورة صولون السلمية لمن المعجزات التاريخية التي تبعث الشجاعة والأمل في النفوس! كان والد صولون من الأشراف الكرام المحتد، ومن أرفعهم بيتاً، وأنقاهم دماً، ينتهي نسبه إلى الملك كدروس، بل إنه كان يتبع نسبه إلى بوسيدن نفسه. وكانت أمه ابنة عم بيسستراتس الطاغية الذي خرق دستور صولون في أول الأمر ثم عاد بعدئذ فثبت دعائمه. وقد انغمس صولون في شبابه فيما كان ينغمس فيه أهل زمانه: فكان يقرض الشعر ويتغنى بملاذ "الصداقة اليونانية"، وفعل ما فعله ترتاروس Tyrtaetus فأثار حماسة الناس بشعره ودفعهم إلى فتح سلاميس. ثم صلحت أخلاقه في سن الكهولة صلاحاً يتناسب تناسباً عكسياً مع شعره، فأصبحت أشعاره فاترة ونصائحه جيدة. انظر مثلاً إلى قوله في أشعاره: "إن الكثيرين من الناس أغنياء، ولكنهم لا يستحقون هذا الغنى، على حين أن من هم خير منهم يقاسون آلام الفاقة. ولكنا لن نستبدل حال هؤلاء الأغنياء بحالنا، لأن ميزتنا باقية دائمة، أما ميزتهم فإنها تنتقل من إنسان إلى إنسان"، وثروة الغني "ليست أعظم من ثروة من لا يملك إلا معدته ورئتيه وقدميه، وهي الأعضاء التي تأتيه بالسرور ولا تأتيه بالألم؛ وليست خيراً من محاسن الفتى أو الفتاة أو نضرة شبابه أو شبابها، أو من وجود ينسجم مع صروف الأيام". ولما حدث في أثينة شقاق وانقسام بقي هو على الحياد، وكان ذلك لحسن الحظ قبل أن تقرر الشرائع المعزوة له أن هذهِ الحيطة جريمة، ولكنه لم يتردد قط في التشهير بالوسائل التي سلكها الأغنياء لإذلال الفقراء، ودفعِهم إلى أحضان الفاقة. وإذا كان لنا أن نأخذ بأقوال أفلوطرخس فإن والد صولون قد "بدد ثروته في التصدق على الناس والإحسان إليهم". واشتغل صولون بالتجارة وأصبح من التجار الناجحين ذا مصالح كثيرة في أقطار بعيدة، أكسبته خبرة واسعة وأمكنته من الأسفار والتنقل في بلاد بعيدة، وكان يسير في عمله على المبادئ التي يدعو إليها في قوله، واشتهر بين جميع طبقات الناس بالاستقامة. وكان لا يزال صغير السن نسبياً- في الرابعة والأربعين أو الخامسة والأربعين- حين أقبل عليه في عام 594 ممثلو الطبقات الوسطى يدعونه إلى قبول ترشيحهم إياه ليكون أركوناً بالاسم Teponymos، على أن يُمنح سلطة مطلقة لإخماد نار حرب الطبقات، ووضع دستور جديد للبلاد، وإعادة الاستقرار إلى الدولة. ووافقت الطبقات العليا على هذا الاختيار وهي كارهة، وكان الباعث لها على الموافقة ثقتها بأن رجلاً مثله من أصحاب المال لا بد أن يكون رجلاً محافظاً.

وكانت أعماله الأولى أعمالاً بسيطة ولكنها كانت من قبيل الإصلاحات الاقتصادية الشاملة؛ وقد خيب آمال المتطرفين بإحجامه عن إعادة تقسيم الأراضي. ولو أنه فعل هذا لأدى ذلك إلى الحرب الأهلية وإلى الفوضى التي تدوم جيلاً كاملاً، وإلى عودة الفوارق مسرعة، ولكن صولون استطاع بفضل قانونه الشهير قانون السيسكثيا Seisachtheia أو "رفع الأعباء" أن يلغي كما يقول أرسطاطاليس "جميع الديون القائمة سواء أكانت للأفراد أم للدولة"، وهكذا حرر أراضي أتكا من جميع الرهون بجرة قلم؛ هذا إلى أنه أطلق سراح جميع مَن استرقوا أو التصقوا بالأرض، وكل مَن بيعوا رقيقاً في خارج البلاد وطلب إليهم أن يعودوا إلى مواطنهم، وحرم مثل هذا الاسترقاق في المستقبل. وخليق بنا أن نذكر من خصائص الخلق في هذا المقام أن بعض أصدقاء صولون قد عرفوا ما يعتزمه من إلغاء الديون فاشتروا أراضي واسعة مرتهنة ثم احتفظوا بها فيما بعد من غير أن يؤدوا ما عليها من رهون ويحدثنا أرسطاطاليس بأسلوب تهكمي بأن هذا كان منشأ ثروات طائلة كثيرة العدد "ظن الناس" فيما بعد "أنها ترجع إلى أزمنة لا يذكرها الناس لقدم عهدها". وقال بعض الناس إن صولون قد تغاضى عن هذا العمل وإنه استفاد منه حتى تبين بعدئذ أنه وهو الدائن الكبير قد خسر بقانونه الشيء الكثير. واحتج الأغنياء بأن هذا التشريع كان في حقيقة الأمر مصادرة لأموالهم، ولكنه أصم أذنيه عن سماع احتجاجهم؛ ولم تمضِ عشرة أعوام على صدوره حتى أجمع الناس؛ أو كادوا يجمعون، على أنه أنجى أتكا من الثورة.

وثمة إصلاح آخر من إصلاحات صولون لا نستطيع أن نتحدث عنه حديثاً يقينياً واضحاً. وفيه يقول أرسطاطاليس إن صولون قد "استبدل بالنقود الفيدونية "Phedonian"- أي النقود الأجنبية التي كانت مستعملة في أتكا حتى ذلك الوقت- "نظام عوبية النقدي على نطاق واسع وجعل قيمة المينا Mina مائة درخمة بعد أن كانت من قبل سبعين". ويقول أفلوطرخس في بيانه عن هذا الإصلاح، وهو أوفى من بيان أرسطاطاليس، "إن صولون جعل المينا تصرف بمائة درخمة بعد أن كانت ثلاثاً وسبعين، وبهذا أصبحت قيمة القطع التي تدفع أقل مما كانت قبل وإن كان عددها واحداً، وكان في هذا نفع كبير للذين يريدون أن يوفوا بديونهم، ولم يكن فيه خسارة على الدائنين". إن أفلوطرخس الظريف الكريم وحده هو الذي استطاع أن يجد طريقة لتضخم العملة ينقذ بها المدينين دون أن يلحق الضرر بالدائنين- إلا هذا الضرر الوحيد وهو أن نصف العمى في بعض الحالات خير بلا ريب من العمى كله .

وكان أبقى من هذهِ الإصلاحات الاقتصادية تلك القرارات التاريخية التي أنشئ بمقتضاها دستور صولون. وقد قدم لها صولون بعفو عام أطلق به سراح كل من سجن، وأعاد إلى البلاد كل من نفي منها لجرائم سياسية إذا لم تكن هذهِ الجرائم هي محاولة اغتصاب مقاليد الحكم في البلاد. ثم واصل عمله بأن ألغى إلغاءً صريحاً أو ضمنياً معظم شرائع دراكون؛ إلا أنه أبقى منها على القانون الخاص بعقاب القتلة وقد طبقت قوانين صولون على جميع السكان الأحرار بلا تمييز بينهم؛ فأصبح الأغنياء والفقراء على السواء مقيدين بقيود واحدة تفرض عليهم عقوبات واحدة. وإذ كان صولون قد عرف أنه لم يستطع تنفيذ إصلاحاته إلا بمعونة طبقتي التجار والصناع، ورغبة منه في أن يجعل لهم حظاً في حكومة البلاد، فقد قسم سكان أتكا أربع مجموعات على أساس ثروتهم: الأولى أصحاب الخمسمائة بشل Bushel وهو الذين يصل دخلهم السنوي إلى خمسمائة مكيال من الحاصلات أو ما يعادلها Pentacosiomedemni ، والثانية هم الهبي الذين يتراوح دخلهم بين ثلاثمائة وخمسمائة بشل. والثالثة جماعة الزوجتاي Zeugitai الذين يتراوح دخلهم بين مائتين وثلاثمائة، والرابعة جماعة الثيتي Thetes وتشمل غير هؤلاء كلهم من الأحرار. وكانت مظاهر الشرف والتكريم تتناسب مع ما يؤدى من الضرائب فلا يستمتع إنسان بالأولى دون أن يتحمل عبء الثانية؛ يضاف إلى هذا أن الضرائب التي تؤديها الطبقة الأولى كانت تُفرض على ما يعادل دخلها السنوي اثني عشر مرة؛ والطبقة الثانية على ما يعادل دخلها عشر مرات، والثالثة على ما يعادل دخلها خمس مرات فقط؛ أي أن ضريبة الأملاك كانت في واقع الأمر ضريبة دخل تصاعدية. أما الطبقة الرابعة فكانت معفاة من الضرائب المقررة )المباشرة(. وكانت الطبقة الأولى وحدها هي التي يمكن اختيار رجالها إلى الأركونية وإلى قيادة الجيش؛ أما الطبقة الثانية فكان من حقها أن يُختار أفرادها إلى المناصب وإلى فرق الفرسان في الجيش، وكانت الطبقة الثالثة تختص بالعمل في فرق المشاة الثقيلة؛ وأما الرابعة فكان يُطلب إليها أن تمد الدولة بالجنود العاديين. وقد أضعف هذا التقسيم الفذ نظام القرابة الذي كانت تعتمد عليهِ قوة الألجركية؛ وأحل محله مبدأ جديداً هو مبدأ "التمقراسيه Timocracy"، أي حكم ذوي الشرف أو المنزلة، ويحدد صراحة ما لهم من ثروة تُفرض عليها الضرائب. وكان حكم "بلوتوقراطي )يتولاه المثرون(" شبيه بهذا الحكم منتشراً خلال القرن السادس كله وبعض القرن الخامس في معظم المستعمرات اليونانية.

وقد أبقى دستور صولون على رأس الدولة مجلس الشيوخ القديم مجلس الأريوبجوس، بعد أن جرده من بعض ما كان له من سلطان وما كان يمتاز به من عزلة، وبعد أن أصبح مفتوح الأبواب لجميع أفراد الطبقة الأولى، ولكنه ظل مع ذلك صاحب السلطة العليا المهيمن على سلوك الناس وعلى موظفي الدولة. ثم أنشأ بولا Boule أو مجلساً جديداً مؤلفاً من أربعمائة عضو يلي مجلس الشيوخ في السلطة تختار له كل طبقة من الطبقات الأربع مائة عضو. وكان هذا المجلس يختار جميع الأعمال التي تُعرض على الجمعية ويبحثها ويعدها. ووضع صولون في منزلة أدنى من هذا النظام الألجركي الأعلى الذي استرضى به الأقوياء، أنظمة ديمقراطية في أساسها، ولعله كان مدفوعاً إلى ذلك بحسن النية ورغبة العمل على خير الطبقات الدنيا. فقد أعاد إلى الحياة الإكليزيا Iklesia ) الجمعية( القديمة التي كانت قائمة في أيام هومر ودعا كل المواطنين إلى الاشتراك في مناقشاتها. وكانت هذه الجمعية تختار كل عام من بين ذوي الخمسمائة بشل الأركونين الذين كانوا حتى ذلك الوقت يعينون من قبل مجلس الأريوبجوس؛ وكان من حقها أن تستجوب هؤلاء الموظفين في أي وقت، وتتهمهم، وتعاقبهم؛ وإذا ما انقضت مدة توليهم مناصبهم، كانت تبحث في مسلكهم في السنة التي تولوا العمل فيها، وكان لها إذا شاءت أن تحرمهم حقهم في أن يكونوا أعضاء في مجلس الشيوخ. وأهم من هذا الحق، وإن لم يبدُ وقتئذ كذلك، مساواة الطبقات الدنيا للطبقات العليا في حق الاختيار بالقرعة إلى الهيليائيا Heliaea، وهي هيئة من خمسة آلاف من المحلفين تتألف منهم أنواع المحاكم التي تنظر في جميع القضايا عدا قضايا القتل والخيانة، والتي يصح أن ترفع إليها الشكاوى من أعمال الحكام على اختلاف أنواعها. ويقول أرسطوطاليس في هذا: "يظن البعض أن صولون قد تعمد إدخال الغموض على قوانينهِ ليمكن العامة من استخدام سلطتهم القضائية لتقوية نفوذهم السياسي"؛ ذلك أنه "لما كان الخلاف بينهم وبين الحكام لا يمكن تسويته بتطبيق حرفية القانون، فقد كان عليهم أن يعرضوا جميع منازعاتهم على القضاة، وكان هؤلاء إلى حد ما سادة القوانين" كما يقول أفلوطرخس نفسه. وقد كان حق الاستئناف إلى المحاكم الشعبية الإسفين الذي وسع نطاق الدمقراطية الأثينية، كما كان حصنها الحصين في مستقبل الأيام.

وأضاف صولون إلى هذا التشريع الأساسي، وهو أهم ما في تاريخ أثينة من تشريعات، طائفة أخرى من الشرائع المختلفة يقصد بها معالجة مشاكل الوقت التي لم تكن لها مثل ما للمسائل الأساسية السابقة من خطر. وكان أول ما فعله أن جعل الثروة الفردية التي قررتها العادات قبل معترفاً بها قانونياً. وإذ كان للرجل أولاد كان عليه أن يقسم ثروته بينهم قبل وفاته، فإذا لم يكن له أولاد كان له أن يوصي لأي إنسان بأملاكه التي كانت تؤول حتى ذلك الوقت ومن تلقاء نفسها لقبيلته. فبقوانين صولون بدأ حق الوصية وقانونها. وإذ كان هو من رجال الأعمال فقد أراد أن يشجع التجارة والصناعة بمنح حق المواطنية لجميع الأجانب الذين يحذقون حرفة ما والذين يأتون مع أسرهم ليقيموا بصفة دائمة في أثينة. وحرم تصدير الغلات الزراعية عدا زيت الزيتون، وكان يرجو بهذا أن يحول الناس من إنتاج المحصولات الزراعية الزائدة على الحاجة إلى الاشتغال بالصناعة. وسن قانوناً يقضي بأن الولد غير ملزم بمساعدة أبيه إذا كان هذا الأب لم يعلمه حرفة خاصة. ويرجع الفضل فيما نالته الصناعات من تشريف عظيم ومكانة سامية إلى صولون- لا إلى من جاء بعده من الأثينيين.

ولم يحجم صولون عن التشريع في ذلك الميدان الخطر. ميدان الأخلاق والآداب العامة. فقد كان يعد الإصرار على البطالة جريمة، ولم يكن يسمح للرجل الذي يعيش عيشة الدعارة والفجور أن يتقدم إلى الجمعية بطلب، وجعل البغاء قانونياً وفرض على البغاة ضريبة، وأنشأ مواخير عامة، مرخصة من قبل الدولة وخاضعة لرقابتها. وشاد هيكلاً لأفرديتي بندموس من إيراد هذه المواخير. وقد تغنى بمدحه رجل من معاصريه يدين بما يدين به لكي Lecky المؤرخ الأيرلندي المعروف فقال: "مرحباً بك يا صولون! لقد ابتعت المومسات لخير المدنية، ولوقاية أخلاق المدينة الغاصة بالشبان الأشداء، ولولا تشريعكَ الحكيم، لضايق هؤلاء الشبان فضليات النساء ونشروا في المدينة الفساد والاضطراب". وفرض غرامة قدرها مائة درخمة على من يعتدي على عرض امرأة حرة، وهي عقوبة أقل كثيراً مما في قوانين داركون، ولكنه أباح لمن يمسك برجل زانٍ متلبس بجريمته أن يقتله لساعتهِ. وحدد بائنات العرائس ومهورهن لرغبته في أن يكون الباعث على الزواج هو الحب المتبادل بين الزوجين والرغبة في النسل وتربية الأولاد، ونهى النساء عن أن يكون لهن من الملابس أكثر من ثلاث حلل، وكان في ثقته بقدرته على تنفيذ قانونه شبيهاً بالأطفال في ثقتهم بقدرتهم على تنفيذ أوامرهم ونواهيهم. ولقد طُلب إليه أن يسن قانوناً يضيق بهِ على العزاب، ولكنه لم يجب هذا الطلب وقال في تبرير عدم إجابته إن "الزوجة عبء ثقيل الحمل". وقد جعل اغتياب الموتى جريمة، وكذلك كان اغتياب الأحياء في الهياكل والمحاكم، ومكاتب الموظفين العموميين، وفي ساحات الألعاب؛ ولكنه حتى هو نفسه لم يستطع أن يمسك ألسنة الناس في أثينة حيث كانت الغيبة والنميمة تبدوان كما تبدوان عندنا الآن من مستلزمات الدمقراطية وقد قرر أن الذين يبقون على الحياد في أوقات الفتن يفقدون حقهم بوصف كونهم مواطنين، وذلك لأنه كان يرى أن عدم اهتمام الجمهور بالشؤون العامة يؤدي إلى خراب الدولة. وحرم الاحتفالات الفخمة، والقرابين الكثيرة النفقة، والندب الطويل في الجنائز؛ وحدد مقدار ما يدفن مع الأموات من متاع، وسن ذلك القانون العادل الذي ظل مصدراً لبسالة الأثينيين أجيالاً طويلة وهو القانون الذي فرض على الحكومة تربية أبناء مَن يُقتلون في الحرب وتعليمهم على نفقتها.

وأضاف صولون إلى كل شريعة من شرائعه عقوبات كانت أخف من عقوبات دراكون ولكنها مع ذلك صارمة، وجعل من حق كل مواطن أن يقاضي أي شخص يرى أنه ارتكب جريمة ما. وأراد أن يعرف الناس قوانينهم حق المعرفة وأن يطيعوها ويلتزموا العمل بها فكتبها في ساحة الأركون الديني )أركون باسليوس( على ملفات أو منشورات خشبية تدار وتُقرأ. ولم يدَّعِ كما ادعى ليقورغ ومينوس، وحمورابي، ونحوما، أن إلهاً ما قد أنزل عليه هذه الشرائع؛ وهذا العمل في حد ذاته مما يكشف عن مزاج ذلك العصر ومزاج المدينة ومزاج صولون نفسه. ولما طُلبَ إليه أن يجعل نفسه حاكماً بأمره مدى الحياة أبى وقال إن الدكتاتورية "مُقام جميل حقاً ولكن ليس ثمةَ طريق للنزول منه". وكان المتطرفون ينتقدونه لأنه لم يسوِ بين الناس في الملك وفي السلطان، والمحافظون ينددون بهِ لأنه منح العامة الحقوق السياسية وأجلسهم فوق منصة القضاء؛ بل إن صديقه أنكرسيس Anachrsis، الحكيم السكوذي صاحب الأطوار الشاذة، قد سخر من دستوره الجديد وقال في ذلك إن الحكماء قد أصبحوا يترافعون، والحمقى يحكمون، وأضاف إلى ذلك قوله إنه لا يمكن أن تقوم بين الناس عدالة دائمة لأن في وسع الأقوياء والمهرة أن يحوروا أي قانون يسن لكي يتفق مع مصلحتهم الخاصة؛ ولأن القانون أشبه ببيت العنكبوت يقتنص الذباب الصغير ويفلت منه البق الكبير. وكان صولون يتقبل كل هذا النقد بقبول حسن، ويعترف بما في شرائعه من نقص ولما سئل هل سن للأثينيين أحسن الشرائع أجاب "لا، بل" سننت لهم "خير ما يستطيعون أن يُعطَوه"- أي خير ما يمكن إقناع الجماعات والمصالح المتضاربة في أثينة بأن تقبله كلها في ذلك الوقت بالذات. وقد اتبع الطريق الأوسط وأبقى بذلك على الدولة؛ وكان تلميذاً ناجحاً من تلاميذ أرسطاطاليس قبل أن يولد هذا الفيلسوف الاستجيري Stagirite وتعزو إليه الرواية الشعار الذي نقش على هيكل أبلو في دلفي وهو Medenagen أي لا إفراط في شيء، وقد أجمع اليونان على وضعه بين السبعة الحكماء.

وخير شاهد على حكمته هو ما كان لتشريعه من أثر خالد، فقد استطاع شيشرون، على الرغم مما حدث في أثينة من آلاف التغيرات والتطورات، وبالرغم مما قام فيها من دكتاتوريات وانقلابات سطحية، استطاع على الرغم من هذا أن يقول بعد خمسة قرون من عهد صولون إن شرائعه كانت لا تزال نافذة في أثينة. ولقد كان عمله من الوجهة القضائية الحد الفاصل بين حكم المراسيم المتغيرة التي لا عداد لها وبين بداية حكم الشرائع المدونة الدائمة. ولما سأله سائل متى تكون الدولة حسنة النظام ثابتة البنيان أجاب بقوله: "حين يطيع المحكومون الحكام، ويطيع الحكام القوانين". وبفضل قوانينه تحرر زراع أتكا من الاسترقاق الإقطاعي، وقامت فيها طبقة من الزراع الملاك، كان إمتلاكهم الأرض هو الذي جعل الجيوش الأثينية الصغيرة قادرة على الإحتفاظ بحرية المدينة أجيالاً طويلة، ولما اقترح في نهاية حرب البلوبونيز قصر الحقوق السياسية على الملاك الأحرار لم يوجد من الأحرار الراشدين في أتكا كلها مَن لا ينطبق على هذا الشرط إلا خمسة آلاف لا أكثر. هذا إلى أن التجارة والصناعة فد تحررتا في الوقت نفسه من القيودالسياسية كانت مفروضة عليهما، ومن العوائق المالية، وبذلك بدأ فيهما ذلك التطور القوي النشيط الذي أصبحت أثينة بفضله الزعيمة التجارية في بلاد البحر المتوسط. وكانت أرستقراطية الثراء الجديدة ترفع من شأن الذكاء لا من شأن المولد، وتشجع العلم والتعليم، وتمهيد السبيل مادياً وعقلياً للأعمال الثقافية العظيمة التي تمت في العصر الذهبي.

ولم بلغ صولون في عام 572 سن السادسة والستين آثر الحياة الخاصة، فاعتزل منصبه بعد أن ظل أركوناً خمسة وعشرين عاماً، وبعد أن أخذ العهد على أثينة، بأيمان أقسمها موظفوها، أن تطيع قوانينه بلا تغيير فيها ولا تبديل مدة عشر سنين؛ وسافر بعدئذ ليطلع على حضارة مصر والشرق، ويلوح أن ذلك الوقت هو الذي قال فيه قالته الذائعة الصيت- "إني لتكبر سني وما فتئت أتعلم". ويقول أفلوطرخس إنه درس التاريخ في عين شمس )هليوبوليس( على الكهنة، ويقال إنه سمع منهم عن أطلنطيس القارة الغارقة، التي قص قصتها في ملحمة لم يتمها، افتتن بها أفلاطون الواسع الخيال بعد مائتي عام من عصره. وسافر من مصر إلى قبرص ووضع القوانين لتلك المدينة التي غيرت اسمها من قبرص إلى Soli تكريماً له . ويصف هيرودوت أفلوطرخس حديثه مع كروسس ملك ليديا في سرديس- وما أقوى ذاكرتهما التي أمكنتهما من أن يقصا هذا الحديث- فيرويا كيف خرج هذا الرجل صاحب الثروة المنقطعة النظير مزداناً بكل ما عنده، وسأل صولون ألا يرى أنه، كروسس، رجل سعيد، وكيف أجابه صولون بصفاقته اليونانية قائلاً:

"إن الآلهة أيها الملك قد وهبت اليونان كل ما وهبتهم من النعم بقسط معتدل؛ وكذلك حكمتنا فهي حكمة معتدلة، لا حكمة نبيلة ملكية؛ وإذا ما قلبنا النظر في البلايا الكثيرة التي تكتنف الناس في جميع الظروف فإن هذا الاعتدال ينأى بنا عن أن نصطنع الصغار فيما نتمتع بهِ في وقتنا الحاضر، أو أن نعجب بما يتقلب فيه أي إنسان من سعادة، قد نتبدل إلى نقيضها على مرالأيام. ذلك أن المستقبل المجهول قد يأتي بما لا يحصى من مختلف الحظوظ؛ ونحن لا نسمي إنساناً سعيداً إلا إذا وهبته الآلهة السعادة إلى آخر أيامه. وإن في وصف الرجل الذي لا يزال في منتصف حياته وأخطارها بأنه سعيد من الخطأ والمخاطرة مثل ما في تتويج المصارع بتاج النصر وإعلان فوزه وهو لا يزال في حلبة الصراع.

وهذا العرض الشائق لما يطلق عليه كتاب المسرحيات اليونان اسم هبريس Hybris- أي الرخاء الوقح- لينم عن حكمة أفلوطرخس الشاملة. وكل ما نستطيع أن نقوله فيها إنها قد صيغت في ألفاظ أجمل من الألفاظ التي صاغها فيها هيرودوت، وإن كلا النصين في أغلب الظن من نسج الخيال. وما من شك في أن الطريقة التي مات بها صولون وكروسس تبرر ما في هذه العظة من تشكك. فقد خلع قورش كروسس في عام 546، وعرف الرجل )إذا صح لنا أن نعيد صياغة عظة هيرودوت في ألفاظ دانتي( وهو في بؤسه مرارة تذكر أيام مجده السعيدة وما كان في تحذير الحكيم اليوناني من صرامة. أما صولون فإنه بعد أن عاد إلى أثينة ليلقى فيها الموت شهد في آخر أيامه القضاء على دستوره وإقامة حكم دكتاتوري على أنقاضه، وإخفاق كل ما بذله من جهود وإن كان إخفاقاً في ظاهر الأمر فحسب.


4- دكتاتورية بيسستراتس

لما غادر صولون أثينة- عادت الجماعات المتنازعة التي سيطر عليها مدى جيل كامل إلى ما كانت عليه من دسائس ومشاحنات سياسية متأصلة في طبيعتها. وكان فيها، كما كان في أيام الانفعالات الشديدة في الثورة الفرنسية، ثلاثة أحزاب تسعى جاهدة ليكون منها صاحب السلطان الأقوى: "الشاطئ" ويتزعمه تجار الثغور الذين يميلون إلى صولون؛ و "السهل" ويتزعمه ملاك الأراضي الذين يكرهون صولون؛ و "الجبل" ويتألف من خليط من الفلاحين وعمال المدن، وكانوا لا يزالون يطالبون بإعادة توزيع الأراضي. ورضي بيسستراتس، كما رضي بركليز بعد مائة عام من ذلك الوقت، أن يتزعم حزب العامة، وإن كان هو من الأشراف مولداً، وثروة، وأخلاقاً، وميولاً. وكشف في إحدى جلسات الجمعية عن جرح قال إنه أصابه به أعداء الشعب، وطلب أن يعين له حرس خاص؛ واحتج صولون على هذا الطلب، لأنه كان يعرف ما عليهِ قريبه من دهاء، وظن أن الجرح قد أحدثه هو في جسمه، وأن الحرس الخاص سيمهد السبيل إلى الدكتاتورية، وقال محذراً الأثينيين: "يا رجال أثينة! إني أكثر من بعضكم حكمة، وأكثر من البعض الأخر شجاعة: أكثر حكمة ممن لا يدركون غدر بيسستراتس، وأكثر شجاعة ممن يدركونها ولكنهم لخوفهم يسكتون عنها". ولكن الجمعية رغم هذا التحذير وافقت على أن يكون له حرس مؤلف من خمسين رجلاً، غير أن بيسستراتس لم يكتف بخمسين- بل جمع أربعمائة، واستولى على الأكروبول، وأعلن نفسه حلكماً بأمره. ونشر صولون على الأثينيين رأيه فيهم فقال إن "كل واحد منكم يمشي وهو منفرد بخطى الثعلب فإذا اجتمعتم كنتم إوزاً"، ثم وضع أسلحته ودرعه في باب بيته إشارة إلى أنه لم يعد يهتم بالسياسة، وخص أيامه الباقية بقرض الشعر.

واتحدت قوات أصحاب المال من حزبي الشاطئ والسهل زمناً ما، وطردت الطاغية من البلاد، ولكن بيسستراتس اصطلح مع حزب الشاطئ سراً، وعاد إلى أثينة في ظروف يلوح أنها تؤيد رأي صولون في عقلية الجماعة. وأكبر الظن أن حزب الشاطئ قد غض الطرف عن هذه العودة. وأقبلت امرأة طويلة حسناء مدرعة بدرع أثينا إلهة المدينة وعليها ثيابها، تجلس في مركبة جلسة العظماء والكبرياء، وتقود جيش بيسستراتس إلى المدينة، بينما كان المبشرون ينادون أن ربة المدينة وحاميتها أخذت تعيد إليه بنفسها سلطته. ويقول هيرودوت في هذا: "ولم يكن لدى أهل المدينة أقل شك في أن هذه المرأة هي الإلهة نفسها، فخروا سجداً أمامها، ورضوا بعودة بيسستراتس". وانقلب زعماء الشاطئ عليه مرة أخرى، وأخرجوه من المدينة مرة ثانية (549)، ولكنه عاد إليها من جديد في عام 546، وهزم الجنود الذين سُيروا لقتاله وبقي في هذه المرة حاكماً بأمره تسعة عشر عاماً، كادت سياسته وخططه الحكيمة في خلالها أن تكفر عن الأساليب الروائية غير الشريفة التي استولى بها على أزمة الحكم.

وكانت أخلاق بيسستراتس مزيجاً نادراً من الثقافة، وقوة العقل، ومن الكفاية الإدارية، والجاذبية الشخصية. وكان في وسعه أن يقاتل دون أن تأخذه بأعدائه رحمة، وأن يعفو عنهم دون ما تردد؛ وكان في مقدوره أن يعيش في أكثر التيارات الفكرية تقدماً في أيامه، وأن يحكم دون أن يتأثر بما يتأثر به الرجل المفكر من تردد في الهدف وإحجام عن البت في الأمور. وكان دمث الأخلاق، رحيماً في أحكامه، كريماً في معاملته جميع الناس. ويقول فيه أرسطاطاليس: "وكان حكمه معتدلاً وسار فيه سيرة السياسي لا سيرة الرجل الظالم الشديد". ولم ينتقم إلا من عدد قليل من أعدائهِ الجدد؛ ولكنه نفى من البلاد من لم يستطيع استرضاءهم من معارضيه، وقسم ضياعهم على الفقراء. وأصلح الجيش، وأنشأ الأسطول، ليصد بهما الأعتداء من خارج البلاد؛ وجعل أثينة بمنجاة من الحرب، ونشر في المدينة التي لم تخرج من غمار المنازعات الطائفية إلا من عهد قريب لواء الأمن والنظام والرضى والطمأنينة، حتى أصبح من الأقوال التي تألف الأذن سماعها أنه أعاد إليها عصر كرونوس الذهبي.

وأدهش الناس كلهم باحتفاظه بدستور صولون وعدم إدخاله شيئاً على تفاصيله إلا القليل الذي لا يستحق الذكر. ذلك أنه كان يعرف، كما عرف أغسطس من بعده، كيف يزين الدكتاتورية ويؤيدها بالمنح والأشكال الدمقراطية. لقد ظل الأركونون يُختارون كما كانوا يُختارون من قبل، وظلت الجمعية، والمحاكم الشعبية، ومجلس الأربعمائة، ومجلس شيوخ الأريوبجوس يجتمع وتقوم بواجباتها كما كانت تفعل قبل أيامه، وكل ما جد أن اقتراحات بيسستراس كانت تلقى فيها كلها أذناً واعية. ولما أن اتهمه أحد المواطنين بالقتل مَثل أمام مجلس الشيوخ وعرض عليه أن يتقدم للمحاكمة، فما كان من الشاكي إلا أن قرر أنه لا يستمسك بالتهمة. ورضي الناس بحكمهِ على مر السنين، وكان أكثرهم رضاً أقلهم ثراءً، وما لبثوا أن تفاخروا بهِ، وفي آخر الأمر أحبوه وأولعوا بهِ، وأكبر الظن أن أثينة كانت بعد صولون في حاجة إلى رجل مثل بيسستراتس أوتي من الشدة ما يستطيع بهِ أن يستبدل بما كان في الحياة الأثينية من اضطراب نظاماً واستقراراً، وأن يعود الناس بالإكراه في بادئ الأمر عادات النظام وطاعة القانون، وهما للمجتمع البشري كالهيكل العظمي للحيوان يكسبانه الشكل والقوة وإن لم يكسباه الحياة المبدعة الخلاقة. ولما زالت الدكتاتورية بعد جيل من ذلك الوقت، بقيت عادات النظام، وبقي معها الإطار الخارجي لدستور صولون، لترثهما الدمقراطية. فكأن بيسستراتس لم يأتِ ليمحو القانون بل ليوطد أركانه، وربما كان قد فعل ذلك على غير علم منه.

أما خططه الاقتصادية فقد واصل بها تحرير الشعب، وهو التحرير الذي بدأه صولون. وقد حل المشكلة الزراعية بأن وزع على الفقراء ما كانت تمتلكه الدولة من الأراضي، وما كان يمتلكه منها الأشراف الذين نفوا من البلاد، وهكذا استقر في الأرض الزراعية آلاف من الأثينيين الذين كانت بطالتهم خطراً على البلاد، وظلت أتكا بعدئذ قروناً طوالاً لا نسمع فيها عن تذمر بين الزراع. وأوجد عملاً للمحتاجين فيما شرع فيه من منشآت متسعة النطاق، فقد أنشأ سلسلة من المجاري لنقل ماء الشرب إلى المدينة، ومن الطرق المعبدة، وشاد هياكل عظيمة للآلهة، وشجع استخراج الفضة من مناجم لوريوم Laurium، وسك للبلاد عملة جديدة خاصة بها. وجاء بالمال اللازم لهذهِ الأعمال بأن فرض ضريبة قدرها عشرة في المائة على جميع المحصولات الزراعية، ويبدو أنه خفض هذهِ الضريبة فيما بعد إلى خمسة في المائة. ووضع مشروعاً لإقامة مستعمرات في النقط الحربية الهامة على الدردنيل، وعقد معاهدات تجارية مع كثير من الدول. وراجت التجارة في أيامه رواجاً عظيماً، وازدادت الثروة، ولم تكن زيادتها بين عدد قليل من الناس بل شملت الأهلين بوجه عام؛ فقد أصبح الفقراء أقل فقراً؛ ولم يعد الأغنياء أقل غنى؛ عما كانوا؛ وامتنع تركيز الثروة الذي كاد يقذف بالمدينة في أتون الحرب الأهلية؛ وانتشر الرخاء وسنحت له الفرص فوضعت بذلك الأسس الاقتصادية للدمقراطية الأثينية.

وتبدلت أحوال أثينة جسماً وعقلاً في أيام بيسستراتس وولده فقد كانت إلى ما قبل أيامهما بلدة في المرتبة الثانية بين بلاد العالم اليوناني، تسبقها ميليتس وإفسوس، ومتليني، وسرقوسة، في الثروة والثقافة، والحيوية والنتاج العقلي. أما في أيامهما فقد قامت فيها أبنية من الحجر والرخام شاهدة بما كانت فيه وقتئذ من بهجة ونعيم، وزين معبد أثينة القديم القائم على الأكروبول بأن ضم إليه رواق دوري الطراز، وبُدئ العمل في هيكل زيوس الأولمبي الذي تزين أعمدته الكورنثية الفخمة، حتى وهي محطمة، الطريق الممتد بين أثينة ومرفئها. وأقام الألعاب الأثينية الجامعة، وخلع عليها الصبغة اليونانية العامة، فأولى المدينة بذلك شرفاً عظيماً، فضلاً عما بعثه فيها من النشاط رؤيتها وجوهاً أجنبية، ومباريات وأساليب غير أساليبها، وفي أيامه أصبح عيد أثينة الجامع عيداً قومياً عاماً للشعب اليوناني كله، ولا يزال موكبه العظيم يتحرك أمامنا على إفريز البارثنون. وقد أقبل على بلاطهِ، بفضل منشآته العامة وحياته الخاصة، المثالون، والمهندسون، والشعراء، وجمع في قصرهِ مكتبة من أولى المكتبات التي أنشئت في بلاد اليونان. وقد عين لجنة أعطت للإلياذة والأوديسة الصورتين اللتين نعرفهما بهما الآن. وبفضل إدارته الرشيدة وتشجيعه العظيم ارتقى تسبيس وغيره من الكتاب بالتمثيل من تقليد هزلي ساخر إلى عمل فني قابل لأن يصل إلى ذروة الكمال في العهد الثلاثي العظيم من عهود المسرح الأثيني.

ولم يكن "استبداد" بيسستراتس إلا جزءاً من حركة عامة في المدن التجارية النشيطة التي كانت قائمة في بلاد اليونان في القرن السادس، والتي كانت تسعى لكي تستبدل بالحكم الإقطاعي على أيدي الملاك الأشراف السلطان السياسي للطبقة الوسطى المتحالفة مؤقتاً مع الطبقات الفقيرة . وكانت أهم الظروف التي مهدت لهذهِ الدكتاتوريات هي تركيز الثروة في أيدٍ قليلة تركيزاً وخيم العاقبة، وعجز الأغنياء عن الاتفاق على وسيلة للتوفيق بينهم وبين غيرهم من الطبقات. وإذ لم يكن للفقراء بد من أن يختاروا بين المال والحرية السياسية، فإنهم كالأغنياء سواء بسواء يؤثرون المال على الحرية، والحرية السياسية التي تستطيع البقاء وهي التي تشذب بحيث تمنع الأغنياء أن يستخدموا ما عندهم من مقدرة أو دهاء في تجريد الفقراء مما عندهم، وتمنع الفقراء أن ينهبوا الأغنياء بعنفهم أو بأصواتهم. ومن ثم كانت السبيل إلى السلطة في المدن التجارية اليونانية ممهدة سهلة: فما على من يريدها إلا أن يهاجم الأشراف، ويدافع عن الفقراء، ويتفاهم مع الطبقات الوسطى. فإذا وصل الطاغية إلى ما يرجوه من سلطان ألغى الديون، أو صادر الضياع الواسعة، وفرض الضرائب على الأغنياء ليمول بحصيلتها ما ينشئه من الأشغال العامة، أو أعاد توزيع الثروة المركزة في أيدٍ قليلة بوسيلة أخرى غير هذه الوسيلة. وفي الوقت الذي يضم فيه الجماهير إلى جانبه بهذه الوسائل وأشباهها، يحصل على معونة رجال الأعمال بتشجيع التجارة عن طريق العملة الرسمية وعقد المعاهدات التجارية الأجنبية، ورفع المنزلة الاجتماعية للطبقات الوسطى. وإذ كان الحاكم بأمره مضطراً إلى الاعتماد على حب الشعب له لا على حقه الموروث في السلطان، فإن الدكتاتوريات كانت في الأغلب الأعم تتجنب الحروب وتناصر الدين، وتحفظ النظام، وتحث على الأخلاق الفاضلة، وترفع منزلة النساء في المجتمع، وتشجع الفنون، وتنفق المال بسخاء في تجميل مدائنها. والطغاة يفعلون هذا كله في كثير من الأحيان وهم محتفظون بصورة الحكومة الشعبية وأساليبها في العمل، ومن ثم كان الناس حتى في عهود الاستبداد يتعلمون طرائق الحرية. وبعد أن تنتهي الدكتاتورية من تحطيم الأرستقراطية كان الشعب يحطم الدكتاتورية، ولم يكن يحتاج إلى تغييرات كثيرة ليجعل ديمقراطية الأحرار قائمة شكلاً وعملاً.


5- قيام الدمقراطية

لما توفي بيسستراتس في عام 527 ورث أبناؤه السلطة من بعدهِ، وكانت حكمته قد اجتازت بنجاح كل اختبار إلا اختباراً واحداً، فقد أخفق في كسب حب أبنائه له. وقد وعد هبياس أن يكون عادلاً عاقلاً في حكمهِ، وظل ثلاثة عشر عاماً يسير على نهج أبيه. وكان أخوه الأصغر مولعاً بالحب والشعر؛ ولم يكن في هذا من الضرر أكثر من تبديد المال في هاتين الهوايتين؛ وكان هو الذي استقدم أنكريون Anacreon وسمنيدس Simonides إلى أثينة. غير أن الأثينيين لم يكونوا راضين كل الرضا عن أن يروا أزمة الحكم تنتقل بغير رضاهم إلى ابني بيسستراتس، وأخذوا يدركون أن الدكتاتورية قد مكنت لهم في كل شيء إلا حافز الحرية. على أن أثينة رغم هذا كانت تتمتع بالرفاهية ورغد العيش، ولولا أن الحب اليوناني الحقيقي يسير في طريق وعر شائك لاستطال حكم هبياس الهادئ حتى يصل إلى خاتمته السلمية الطبيعية. وكان أرستوجيتون Aristogeiton وهو رجل كهل قد كسب حب الفتى هرمديوس Harmodius وهو وقتئذ "في ريعان الشباب ونضارته" كما يقول توكيديدس، ولكن هباركس، وهو أيضاً ممن لا يستحون أن يحبوا الغلمان، كان يسعى هو الآخر ليتحبب إلى هذا الشاب؛ فلما سمع أرستوجيتون بهذا اعتزم أن يقتل هباركس ويعمل في الوقت ذاته على حماية نفسه بقلب الحكومة الاستبدادية، وانضم إليه في هذه المؤامرة هرموديوس وغيره من الأثينيين واغتالوا هباركس وهو يعد العدة لموكب الألعاب الأثينية الجامعة؛ ولكن هبياس أفلت منهم ودبر قتلهم. ومما زاد الأمور تعقيداً أن ليينا Leaena عشيقة هرمديوس ماتت ميتة الشجعان أثناء تعذيبهم إياها، لأنها أبت أن تغدر بالباقين من المتآمرين؛ وإذا كان لنا أن نصدق الرواية اليونانية فإنها قطعت طرف لسانها وبصقته في وجه معذبيها لتؤكد لهم أنها لن تجيب عن أسئلتهم.

وارتاع هبياس لهذهِ الثورة، وإن كان الأهلون لم يؤيدوها تأييداً ظاهراً، ودفعه هذا الروع إلى أن يستبدل بحكمهِ الرحيم حكماً طابعه القمع، والتجسس والإرهاب. وكان في مقدور الأثينيين، بعد أن نعموا بالرخاء جيلاً كاملاً، أن يطلبوا الآن ترف الحرية، وزادت صرخة المطالبة بها دوياً كلما زاد الطغيان قسوة؛ واستحال هرمديوس وأرستجيتون في حيال الشعب شهيدين من شهداء الحرية بعد أن لم يكونا إلا متآمرين يحيكان مؤامرة مبعثها الحب والهيام لا الدمقراطية.

ورأى الألكميونيون في دلفي الذين نفاهم بيسستراتس من البلاد الفرصة سانحة لهم، فجمعوا جيشاً، وزحفوا به على أثينة، وأعلنوا أنهم لا يقصدون إلا خلع هبياس. ورشوا في الوقت نفسه الناطق بلسان الوحي في بيثيا لكي يعلن لكل من يستشيره من الإسبارطيين أن من واجب إسبارطة أن تقضي على حكومة الطغيان في أثينة. وقاوم هبياس قوى الألكميونيين مقاومة عنيفة موفقة، حتى انضم إليهم جيش لسديموني، فانسحب من الميدان واعتصم بالأريوبجوس. وأراد أن يؤمن أبناءه على حياتهم إذا ما قُتل هو، فأخرجهم سراً من أثينة؛ ولكن الغزاة ألقوا القبض عليهم، وافتداهم هبياس بأن قبل النزول عن الحكم والنفي. ودخل الألكميونيون وعلى رأسهم كليسثنيز الباسل ، أثينة ظافرين، وفي أعقابهم الأشراف المنفيون يستعدون للاحتفال باسترجاع أملاكهم وسلطانهم.

واختبر إسجوراس Isagoras في الانتخابات التي أعقبت هذه الحوادث ليكون كبير الأركونين، ولكن كليسثنيز أحد المرشحين المنهزمين حرض الشعب على العصيان، وأسقط إسجوراس، وأقام دكتاتورية شعبية. وغزا الإسبارطيون أثينة مرة أخرى، يريدون إعادة إسجوراس إلى منصبه، ولكن الأثينيين قاوموا الغزو مقاومة عنيفة اضطرت الإسبارطيين إلى الارتداد، فلما تم ذلك شرع كلسثنيز، الشريف الألكيموني، ينشئ حكومة دمقراطية.

وكان أول إصلاح له بمثابة معول دك به قواعد الأرستقراطية الأتيكية- ونعني بها القبائل الأربع والبطون الثلاثمائة والستين التي كانت تتولى زعامتها، جرياً على التقاليد التي دامت مئات السنين، أقدمُ الأسر وأوفرها ثراء: فقد ألغى كليسثنيز هذا التقسيم القائم على صلات القرابة واستبدل به تقسيماً آخر إقليمياً جعل الأهلين بمقتضاه عشر قبائل تتألف كل منها من عدد من المراكز يختلف باختلاف القبائل. وأراد أن يمنع التكتلات الجغرافية أو المهنية الشبيهة بأحزاب الجبل، والشاطئ، والسهل، فألف كل قبيلة من عدد متساوٍ من أقسام المدينة وسواحل البحر وداخلية البلاد. وعوض كل الأقسام الجديدة عن القداسة التي كان يخلعها على الأقسام القديمة فأوجد لكل قسم أو قبيلة حفلات دينية واختار أحد الأبطال القدماء وجعله إلهاً أو قديساً راعياً للقسم أو القبيلة. وأصبح الأحرار الذين ولدوا من أصل أجنبي مواطنين من تلقاء أنفسهم في القسم الذي يقيمون فيه، وقلما كان هؤلاء يتمتعون بحق الانتخاب في العهود الأرستقراطية التي كان حق المواطن فيها يعتمد على حسبه ونسبه، وبهذا العمل وحده تضاعف عدد الناخبين، وأصبحوا عوناً جديداً للدمقراطية التي أضحت من ذلك الوقت أقوى أساساً من ذي قبل.

وخولت كل قبيلة جديدة حق ترشيح أحد الأستراتيجوى (القواد) العشرة الذين اشتركوا من ذلك الوقت مع القائد الأعلى في قيادة الجيش، كما خولت أيضاً حق اختيار خمسين عضواً من أعضاء المجلس الجديد المؤلف من خمسمائة عضو وعضو والذي حل الآن مجلس صولون المؤلف من أربعمائة، وجعلت له السلطات الهامة التي كانت لمجلس الأريوبجوس. وكان هؤلاء الأعضاء يختارون مدة عام واحد بالقرعة لا بالانتخاب، من قوائم تحوي أسماء جميع المواطنين الذين بلغوا سن الثلاثين، والذين لم يكونوا قد قضوا في المجلس القديم دورتين. وفي هذا النوع الجديد العجيب من أنواع النظام النيابي استبدل بالمبدأ الارستقراطي القائم على شرف المحتد، وبالمبدأ البلوتقراطي القائم على الثراء، مبدأ الانتخاب بالقرعة، فأتيحت لكل مواطن فرص متكافئة للاقتراع، ولشغل منصب في أهم فرع من فروع الحكومة وأعظمها سلطاناً. ذلك أن المجلس الذي كان يختار بهذه الطريقة كان يعين جميع المسائل والاقتراحات التي تعرض على الجمعية لإقرارها أو رفضها، كما كان يحتفظ لنفسه ببعض السلطات القضائية المختلفة الأنواع، ويصرف كثيراً من الشؤون الإدارية، ويشرف على جميع موظفي الدولة.

وزيد عدد أعضاء الجمعية ممن دخلها من المواطنين الجدد، وبهذا كانت جلستها التي يحضرها الأعضاء جميعاً تضم ما يقرب من ثلاثين ألف رجل، وكان من حق هؤلاء جميعاً أن يُختاروا للعمل في البليا أو المحاكم، أما الطبقة الرابعة أو الثيتيس فقد بقيت كما كانت في عهد صولون لا يُختار منها أحد للمناصب التي يشغلها فرد واحد. وزادت سلطات الجمعية بإنشاء نظام "الحرمان" من عضوية الهيئة الاجتماعية والطرد من البلاد، وهو الحق الذي أضافه كليسثنيز إلى حقوقها على ما يبدو ليحمي به الجمهورية الناشئة. وبمقتضى هذا الحق الجديد كان في استطاعة الجمعية، بناء على اقتراح تقدمه أغلبية أعضائها مكتوب بطريقة سرية على قطع من الفخار، كان في استطاعة الجمعية إذا حضرها العدد القانوني وهو ستة آلاف من أعضائها أن تنفي من البلاد مدة عشر سنين أي إنسان ترى هي أنه أصبح خطراً على الدولة. وبهذهِ الطريقة كان الزعماء الطموحون يضطرون إلى أن يسلكوا مسلك الحذر والاعتدال، وكان في استطاعة الجمعية أن تتخلص ممن تظنهم يتآمرون عليها من غير الإبطاء الذي تستلزمه الإجراءات وكان كل ما يتطلبه هذا العمل من إجراءات أن يسأل أعضاء الجمعية: "هل من بينكم رجل تظنونه شديد الخطر على الدولة؟ وإذا كان فمن هذا الرجل؟" وكان في وسع الجمعية حينئذ أن تقترع على نفي أي مواطن دون أن يُستثنى من ذلك صاحب السؤال نفسه . ولم يكن هذا النفي يتضمن مصادرة الملك كما أن المنفي لم يكن يلحقه من جرائه عار؛ ولم يكن إلا الطريقة التي تلجأ إليها الدمقراطية لقطع "أطول السنابل". ولم تسيء الجمعية استخدام سلطانها هذا، ذلك أنها لم تستخدم حقها طوال التسعين عاماً التي مضت بين تقريره وبين إبطال العمل به في أثينة إلا في إخراج عشرة أشخاص من أتكا.

ويقال إن كليسثنيز نفسه كان بين هؤلاء العشرة؛ ولكننا في واقع الأمر لا نعرف تاريخة في آخر أيامه، فقد اختفى وضاع في لألاء أعماله. بدأ عمله بثورة تتعارض كل المعارضة مع الأصول الدستورية، ولكنه وضع بها رغم معارضة أقوى الأسر الأثينية دستوراً دمقراطياً ظل نافذاً، مع بعض تغييرات قليلة، إلى آخر عهود الحرية الأثينية. على أن الدمقراطية لم تكن كاملة، لأنها لم تكن تُطبق إلا على الأحرار، وظلت تضع قيداً خفيفاً من المِلْكية على حق الانتخاب للمناصب الفردية . غير أنها أعطت جميع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية إلى جمعية وإلى محكمة تتكونان من المواطنين، وإلى حكام كبار تعينهم الجمعية ويكونون مسئولين أمامها، وإلى مجلس يختار أعضاؤه بأصوات كل من يريد الاقتراع من المواطنين، ويشترك بالفعل في ممارسة سلطانه الأعلى ثلثهم مدة سنة من حياتهم على الأقل. إن العالم لم يرَ قط في تاريخه كله قبل ذلك العهد نظاماً انتخابياً أكثر من هذا النظام حرية، ولا سلطة سياسية شعبية أوسع من هذه السلطة.

واغتبط الأثينيون أنفسهم أشد الاغتباط بهذه المغامرة التي تستهدف سيادة الشعب. لقد أدركوا أنهم كانوا مقدمين على مغامرة شاقة خطيرة، ولكنهم أقدموا عليها بشجاعة وأنفة، وباعتدال وضبط للنفس داما بعض الوقت. ولقد عرفوا من ذلك الوقت لذة الحرية في العمل والقول والتفكير، وبدأوا يتزعمون بلاد اليونان كلها في الآداب والفنون، بل في السياسة والحرب أيضاً، وتعلموا أن يطيعوا من جديد قانوناً يعبر عن إرادتهم هم أنفسهم، وأن يحبوا حباً لا يعادله حب من قبله الدولة التي كانت تمثل وحدتهم وسلطانهم، والتي تعمل لإكمال هذه الوحدة وهذا السلطان ولما همت أعظم إمبراطورية في ذلك العهد أن تدمر هذه المد المتفرقة المسماة ببلاد اليونان، وأن تفرض عليها الجزية تؤديها عن يد إلى الملك العظيم، نسيت أنها سيقاومها في أتكا رجال يمتلكون الأرض التي يفلحونها، ويسيطرون على الدولة التي تحكمهم. وكان من حسن حظ بلاد اليونان ومن حسن حظ أوربا أن كليسثنيز قد أتم عمله وعمل صولون قبل مرثون باثني عشر عاماً.