قصة الحضارة - ول ديورانت - م 2 ك 2 ب 4
قصة الحضارة -> حياة اليونان -> نهضة بلاد اليونان -> إسبارطة -> البيئة المحيطة ببلاد اليونان
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المجلد الثاني - الكتاب الثاني: نهضة بلاد اليونان من 1000 إلى 480 ق.م
الباب الرابع: إسبارطة
الفصل الأول: البيئة المحيطة ببلاد اليونان
لننظر إلى خريطة للعالم القديم ونطّلع فيها على جيران بلاد اليونان القديمة، ونعني ببلاد اليونان أو هلاس جميع البلاد التي كان يسكنها في الزمن القديم شعوب تتكلم اللغة اليونانية. ولنبدأ بالنظر إلى الأصقاع التي دخل منها إلى تلك البلاد كثير من الغزاة - فوق تلال إبيروس وعلى طول وديانها. وما من شك في أن أسلاف اليونان قد أقاموا في تلك الأماكن كثيراً من السنين، لأنهم أنشأوا في ددونا Dodona مزاراً لزيوس إله السماء المرعد. ولقد ظل اليونان حتى القرن الخامس يتلقون الوحي في هذا المكان ويقرأون ما تريده الآلهة في غليان المراجل أو حفيف أوراق البلوطة المقدسة(1). ويخترق نهر أكرون الجزء الجنوبي من إبيروس وسط أخاديد بلغت من الظلمة والعمق درجة جعلت شعراء اليونان يصفونها بأنها مدخل الجحيم أو أنها هي الجحيم نفسها. وكان معظم أهل إبيروس في أيام هومر يتكلمون اللغة اليونانية ويتبعون الأساليب اليونانية، ثم طغت عليهم موجات جديدة من الهمج أهل الشمال وحالت بينهم وبين المدينة.
وإلى شمال إبيروس على ساحل البحر الأدرياوي تقع إليريا Illyria، وكانت في الوقت الذي نتحدث عنه بلاداً قليلة السكان أهلها من الرعاة يبيعون الماشية والعبيد بملح الطعام(2). وعلى هذا الساحل عند إبدمنوس Epidamnus (وهي ديركيوم Dyrrachium الرومانية ودرزو الحالية) أنزل قيصر جنوده وهو يطارد بمبي. وعلى الجانب الآخر من البحر الأدرياوي اغتصب اليونان السواحل الجنوبية من القبائل المستوطنة هناك، وأدخلوا الحضارة في إيطاليا، (وقد عادت تلك القبائل في آخر الأمر فاكتسحتهم، وابتلعت معهم بلادهم الأصلية وضمت بلادهم إلى إمبراطورية لم يسبق لها مثيل في تاريخ العالم). وكان من وراء جبال الألب الغاليون، الذي أخلصوا الود فيما بعد لمساليا (مرسيليا)؛ وفي الطرف الغربي من البحر الأبيض تقع أسبانيا، وكانت قد تمدنت إلى حد ما على يد الفينيقيين والقرطاجيين حين أنشأ اليونان في عام 550 مستعمرتهم الوجلة في إمبريوم (أمبورياس Ampurias). وكانت قرطاجنة الإمبراطورية تقع على ساحل إفريقية أمام صقلية تتسلط عليها وتهددها، وقد اختط هذه المدينة ديدو Dido والفينيقيون، وتقول الرواية إن ذلك كان في عام 813. ولم تكن وقت إنشائها قرية صغيرة بل كانت مدينة عامرة يبلغ سكانها 700.000 نسمة، تحتكر تجارة البحر الأبيض المتوسط الغربي وتسيطر على يتكا، وهبو Hippo وثلاثمائة بلدة أخرى في إفريقية، ومناجم غنية، ومستعمرات في صقلية، وسردينية، وأسبانيا. وقد قدر لهذه الحاضرة ذات الثروة الطائلة أن تقود الكفاح ضد اليونان من ناحية الغرب، كما قدر لبلاد الفرس أن تقوده من ناحية الشرق.
وإلى شرق هذه المدينة على ساحل إفريقية كانت تقع مدينة قورينة اليونانية، وفي مؤخرتها بلاد اللوبيين المجهولة، وإلى شرقها مصر. وكان معظم اليونان يعتقدون أن عناصر كثيرة من حضارتهم قد جاءتهم من مصر. وتعزو قصصهم نشأة كثير من المدن اليونانية إلى رجال من أمثال كدموس Cadmus ودانوس Danaus جاءوا من مصر أو نقلوا الحضارة المصرية إلى بلاد اليونان عن طريق فينيقية وكريت(3). وقد انتعشت التجارة المصرية وبعث الفن المصري من جديد في عهد الملوك الساويين (663-525)، وفتحت الثغور الواقعة على نهر النيل لتستقبل التجارة اليونانية لأول مرة في التاريخ. وزار مصر كثيرون من عظماء اليونان المشهورين - أمثال طاليس، وفيثاغورس، وصولون، وأفلاطون، ودمقريطس، فأعجبوا أشد إعجاب بعظم حضارتها وقدمها؛ ولم يجدوا فيها برابرة همجاً كالذين كانوا يجدونهم في الأقطار الأخرى، بل وجدوا فيها أقواماً كانت لهم حضارة ناضجة، وفنون راقية، قبل سقوط طروادة بألفي عام. وكان مما قاله أحد الكهنة المصريين لصولون:
"إنكم أيها اليونان لا تزالون أطفالاً، ثرثارين، مغرورين لا تعرفون شيئاً عن الماضي."
ولما أخذ هكتيوس الميليتي يزدهي على الكهنة المصريين ويقول لهم إن في وسعه أن يذكر لهم سلسلة نسبه التي تنتهي بعد خمسة عشر جيلاً إلى أحد الآلهة، أطلعوه في هياكلهم على 345 تمثالاً لكبار الكهنة كل منهم ابن الذي قبله ويتكون من مجموعهم 345 جيلاً تبدأ من العهد الذي كان فيه الآلهة يحكمون الأرض(5). وكان علماء اليونان أمثال هيرودوت وبلوتارخ يرون أن العقيدة الأرفية القائلة بأن الخلق يحاسبون بعد موتهم على ما قدموا من خير وشر في حياتهم، وأن الاحتفالات التي كانت تقام لبعث دمترو وبرسفوني في إليوسيس، مأخوذة كلها عن عبادة إيزيس وأوزريس المصريين. وأكبر الظن أن طاليس الميليتي تعلم الهندسة النظرية في مصر، وأن روكوس Rhoecus وثيودورس الساموسيين قد عرفا فيها فن صب الآنية المجوفة البرونزية، وفي مصر ازداد مهارة في صناعة الفخار والنسيج وطرق المعادن والحفر على العاج(7). وعن المصريين والآشوريين والفينيقيين والحثيين أخذ المثالون اليونان طراز تماثيلهم الأولى - وجوهها المستوية، وعيونها المائلة، وأيديها المقبوضة، وأطرافها المعتدلة المتصلبة . وقد وجد مهندسو اليونان بعض إلهامهم الفني، الذي أوحى إليهم بالعمد المحززة وبالطراز الدوري، في عمد سقارة، وبني حسن، كما وجدوا بعضه الآخر في بقايا ميسيني اليونانية(8). وكما أن بلاد اليونان قد تعلمت في شبابها من مصر واعترفت لها بالفضل، فإنها حين خارت قواها ماتت في أحضان مصر إذا جاز هذا التعبير، فقد مزجت في الإسكندرية فلسفتها، وطقوسها الدينية، وآلهتها بنظائرها في مصر وبلاد اليهود حتى تبعث وتحيا حياة جديدة في رومة وفي المسيحية.
وكان أثر فينيقية في اليونان لا يزيد عليه إلا أثر مصر نفسها. فقد كان تجار صور وصيدا المغامرون وسيلة طوافة لنقل الثقافة، ونشروا في جميع أقاليم البحر الأبيض المتوسط علوم مصر والشرق الأدنى، وصناعاتهما، وفنونهما، وطقوسهما الدينية. ولقد بز الفينيقيون اليونان في صنع السفن ولعل اليونان قد أخذوا هذه الصناعة عنهم؛ وعلموهم كذلك أساليب في طرق المعادن، والنسيج والصباغة خيراً من أساليبهم(9)، وقد اشتركوا مع كريت وآسية الصغرى في نقل الصورة السامية للحروف الهجائية إلى بلاد اليونان بعد نمائها وتطورها في مصر واليونان وسوريا. وأخذت بلاد اليونان عن بابل نظام موازينها ومكاييلها(10)، وساعتها المائية ومزولتها(11)، ووحدات العملة المتداولة فيها، وهي الأبول Obol، والمينا Mina، والتالنت (الوزنة)(12)، وقواعد علم الفلك، وآلاته، وسجلاته، وحسابه، ونظامها الستيني الذي يقضي بتقسيم السنة والدائرة والزوايا الأربع القائمة التي تتقابل في مركزها إلى 360 جزءاً، وتقسيم كل درجة إلى 60 دقيقة وكل دقيقة من هذه الستين إلى 60 ثانية؛ ولعل معرفة طاليس بعلم الفلك عند المصريين والبابليين هي التي أمكنته أن يتنبأ بكسوف الشمس(13)، ولعل هزيود قد أخذ عن بابل فكرته القائلة إن الفوضى والعماء أصل الأشياء جميعها؛ وإن قصة إشتار وتموز لتشبه قصتي أفرديتي وأدنيس ودمتر وبرسفوني شبهاً يدعو إلى الظن بأن الأولى هي الأصل الذي أخذت عنه القصتان الأخريان. وكان بالقرب من الطرف الشرقي للمحيط التجاري الذي يضم أجزاء العالم القديم كله آخر أعداء اليونان ونعني بهم الفرس. ولقد كانت حضارة بلادهم من بعض نواحيها - وإن كانت نواحي قليلة - أرقى من حضارة بلاد اليونان المعاصرة لها. فلقد أخرجت إلى العالم طرازاً من الرجل المهذب أرق وأظرف من الرجل اليوناني في كل ناحية من النواحي عدا حدة الذهن والتعليم، كما أنشأت نظاماً للإدارة الإمبراطورية يفوق بلا جدال ذلك النظام الذي كانت تتزعمه أثينة وإسبارطة، ولم يكن ينقصه إلا حرص اليونان على الحرية. ولقد أخذ اليونان الأيونيون عن أشور قدراً من المهارة في صنع تماثيل الحيوان، كما أخذوا عنهم في صناعة النحت المبكرة ميلهم إلى ضخامة التماثيل واستواء ما عليها من الملبس، وأساليب الزينة الطنف والقوالب، وفي طراز النقش البارز في بعض الأحيان، كما نشاهد ذلك في لوحة أرستيون الجميلة(14). وكانت لليديا علاقات وثيقة بأيونيا، وكانت سرديس عاصمتها الزاهرة بمثابة البيت التجاري الذي تصفى به المتاجر والأفكار المتبادلة بين بلاد النهرين والمدن اليونانية المنتشرة على الساحل. وقد اقتضت الأعمال التجارية الواسعة قيام المصارف، واضطرت الحكومة الليدية إلى إصدار عملة مضمونة من الدولة في عام 680. وسرعان ما حاكى اليونان هذا العمل الجليل ذا الفائدة العظمى للتجارة، وأدخلوا عليه ضروب الإصلاح والتحسين، وكان له من الآثار التي لا تقل في خطرها وسعتها من استخدام الحروف الهجائية. وكان أثر فريجيا في بلاد اليونان أقدم من هذه الآثار السابقة وأدل على حذق الفريجيين. فقد دخلت سيبيلي أمها الإلهة من أول الأمر إلى دين اليونان، وأضحت موسيقى الناي وما يصحبها من تهتك هي "الطراز الفريجي" الشائع بين عامة الشعب، والذي أقلق بال رجال الأخلاق اليونان. وعبر هذه الموسيقى العنيفة مضيق الهلسبنت من فريجيا إلى تراقية، واستخدمت في طقوس ديونيسس. وكان إله الخمر أهم ما أهدته تراقية إلى بلاد اليونان، ولكن مدينة تراقية هي أبدرا المتأغرقة أرادت ان تعوض بلاد اليونان عما أصابها بهذه الهدية فأهدت إليها ثلاثة من فلاسفتها هم ليوسبس Luecippus ودمقريطس Democritus، وبروتجراس Protagoras. وتراقية هي التي انتقلت منها طقوس ربات الشعر إلى بلاد اليونان، ولقد كان واضعو فن الموسيقى اليونانية نصف الخرافيين - أرفيوس، وموسايوس Mausaeus وثاميرس Thamyris- مغنين وشعراء تراقيين.
وننتقل بعدئذ من تراقية نحو الجنوب إلى مقدونية، وبذلك نكون قد أتممنا دراسة كل ما يحيط ببلاد اليونان من حضارات. ومقدونية بلاد جميلة المناظر الطبيعية، كانت أرضها في الزمن القديم غنية بالمعادن، وسهولها الخصبة تنتج الفاكهة والحب، وجبالها تنشئ أقواماً صلاباً قدر لهم فيما بعد أن يفتحوا بلاد اليونان، وكان سكان الجبال والفلاحون من أهلها من عناصر مختلفة، أهمها الإليريون والتراقيون، وربما كانت لهم صلات في الدم بالدوريين الذي فتحوا البلوبونيز. وكان حكامها الأشراف يدعون أنهم من نسل اليونان (ومن أبناء هرقل نفسه)، وكانوا يتكلمون لهجة يونانية. وكانت عاصمتهم الأولى إدسا Edessa تقع فوق هضبة واسعة بين السهول الممتدة إلى إبيروس وسلاسل الجبال التي تصل إلى بحر إيجة. وكان إلى الشرق منها مدينة بلا Pella التي أضحت فيما بعد عاصمة فليب والإسكندر؛ وبالقرب من البحر مدينة بدنا، التي هزم فيها الرومان المقدونيين الفاتحين وكسبوا بعد هذه الهزيمة حق نقل حضارة اليونان إلى العالم الغربي.
تلك إذن هي البيئة التي كانت تحيط ببلاد اليونان: حضارات كحضارة مصر وكريت وبلاد النهرين أهدت إليها العناصر الفنية في الصناعة، والعلوم، والفن، فاستحالت على أيدي اليونان إلى أزهى صورة في التاريخ؛ وإمبراطوريات كبلاد فارس وقرطاجنة تؤثر فيها منافسة التجارة اليونانية، وينضم بعضها إلى بعض لمحاربة اليونان وجعلها ولاية خاضعة لسلطانها غير قادرة على أذاها؛ وإلى الشمال جموع حربية النزعة، تتكاثر دون تفكير في العواقب، وتتنقل في قلق واضطراب، وتعبر بعد زمن قد يقصر وقد يطول الحواجز الجبلية القائمة بينها وبين بلاد اليونان، وتفعل بها ما فعله الدوريون من قبل فتمزق ما سماه شيشرون الإطار اليوناني الموشى به الثوب الهمجي(15)، وتدمر حضارة لا تفقه لها معنى. وقلما كانت هذه الأمم المحيطة ببلاد اليونان تعنى بما كان يعده اليونان جوهر الحياة وأغلى ما فيها، ألا وهو الحرية - حرية الحياة والتفكير، والقول والعمل. وكان كل شعب من هذه الشعوب، عدا الفينيقيين، يرزح تحت حكم الطغاة المستبدين، ويسلم أرواح بنيه إلى الخرافات والأوهام، ولا يعرف إلا القليل من بواعث الحرية أو الحياة العقلية. وهذا هو السبب الذي حدا باليونان إلى أن يطلقوا عليهم بلا تمييز بينهم اسم البَرْبَرُوي barbaroi أي الهمج؛ فالهمجي في اعتقادهم هو الذي يرضى بالاعتقاد دون تفكير، والذي يعيش مسلوب الحرية. ثم تتنازع الفكرتان - صوفية الشرق وعقلية الغرب - آخر الأمر جسم بلاد اليونان وروحها، فتنتصر العقلية في عهد بركليز، كما انتصرت في عهد قيصر، وليو العاشر، وفردريك؛ ولكن الصوفية كانت تعود على الدوام. وتبادل النصر بين هاتين الفلسفتين المكملة كلتاهما للأخرى هو الذي تتكون منه أهم المراحل في قصة الحضارة الغربية.
الفصل الثاني: أرجوس
وأخذت بلاد اليونان الصغيرة تمد رقعتها داخل هذه الدائرة من الأمم المحيطة بها حتى لم يكد يبقى جزء من شاطئ البحر الأبيض المتوسط لم يعمره أبناؤها. ذلك أن اليد الهزيلة التي مدت أصابعها الرفيعة إلى البحر نحو الجنوب لم تكن إلا جزءاً صغيراً من بلاد اليونان التي يعنينا تاريخها في هذا الكتاب؛ فقد انتشر اليونان، الذي لا تصدهم عن غرضهم عقبات مهما قويت في أثناء تطورهم ونمائهم، في كل جزيرة من جزائر بحر إيجة، وإلى كريت وقبرص، وإلى مصر وفلسطين، وسوريا، وما بين النهرين، وآسية الصغرى، وإلى بحر مرمرة والبحر الأسود، وإلى شواطئ بحر إيجة وشبه الجزيرة الممتدة منه، وإلى إيطاليا، وغالة، وصقلية، وإلى شمال إفريقية. وقد أنشأوا في هذه الأقاليم جميعها دول مدن مستقلة متفرقة ولكنها يونانية، تتكلم اللغة اليونانية وتعبد الآلهة اليونانية ، وتكتب الآداب اليونانية وتقرؤها، وتقوم بنصيبها في تقدم العلوم والفلسفة اليونانية، وتمارس الدمقراطية على الطريقة اليونانية الأرستقراطية. وهم حين هاجروا من بلاد اليونان لم يتركوا موطنهم الأصلي وراءهم، بل حملوه معهم، حتى أرضه نفسها، إينما ذهبوا. وقد جعلوا حوض البحر الأبيض المتوسط بحيرة يونانية ومركزاً للعالم، ودام على هذا الوضع قرابة ألف عام.
وأصعب ما يواجهه مؤرخ الحضارة اليونانية القديمة ويثبط همته هو أن يؤلف من هذه الأعضاء المتفرقة في جسم بلاد اليونان وحدة منسجمة وقصة متصلة الأجزاء . وسنحاول أن نفعل هذا بتلك الطريقة الشيقة طريقة الطواف في رحلة بهذه الأجزاء. وسنضع أمامنا في خلال هذه الرحلة خريطة، لا تكلفنا غير قليل من الخيال، وسننتقل من مدينة إلى مدينة في العالم اليوناني، وندرس في كل مركز من هذه المراكز حياة الأهلين قبل الحرب الفارسية - أساليبهم الاقتصادية والحكومية، ونشاط علمائهم وفلاسفتهم، وما أنشدوا من الشعر وما أنتجوه من الفنون . ولسنا ننكر أن في هذه الطريقة عيوباً كثيرة: فالتتابع الجغرافي لن يتفق كل الاتفاق مع السياق التاريخي، وسنضطر في هذه الرحلة إلى أن نقفز من قرن إلى قرن ومن جزيرة إلى جزيرة، وسنجد أنفسنا نتحدث إلى طاليس وأنكسمندر قبل أن نصغي إلى هومر وهزيود. ولكننا لا يضيرنا قط أن نرى الإلياذة وما فيها من فحش في ضوء التشكك الأيوني، أو أن نستمع إلى شكاية هزيود الشديدة بعد أن زار المستعمرات الأيونية التي جاء منها والده المنهوك. وسنحيط بعض الإحاطة حين نصل في آخر رحلتنا إلى أثينة بالنواحي الكثيرة الاختلاف لتلك الحضارة التي ورثتها والتي حافظت عليها ببسالة في مرثون.
وإذا بدأنا رحلتنا من أرجوس حيث أقام الدوريون المنتصرون حكمهم،وجدنا أنفسنا في إقليم يوناني خالص: في سهل غير مسرف في خصبه، ومدينة صغيرة مهوشة النظام، ذات بيوت صغيرة من الآجر والجص، وهيكل على تلها، وملهى في الهواء الطلق على سفح ذلك التل، وقصور متواضعة في أماكن منها متفرقة، وأزقة ضيقة، وشوارع غير مرصوفة، وعلى بعد منها البحر الجميل الجذاب المضطرب الأمواج. ذلك أن بلاد اليونان إنما تتكون من جبال وبحار؛ والمناظر الجميلة الفخمة عادية فيها مألوفة إلى حد يجعل اليونان لا يعنون بذكر ذلك الجمال في كتبهم، وإن كان يستحوذ على قلوبهم ويوحي إلى عقولهم. وشتاء البلاد بارد ممطر، وصيفها حار جاف، وأهلها يزرعون في الخريف ويحصدون في الربيع؛ والمطر فيها نعمة وبركة، وزيوس مرسل المطر إله الآلهة.وأنهارها قصيرة ضحلة، تتحول إلى سيول جارفة في فصل الشتاء، وتجف حتى تظهر الحصباء في قيعانها في حر الصيف. ولقد كان على طول الشاطئ اليوناني مائة مدينة في حجم أرجوس وشبيهة بها؛ وألف مدينة أخرى تشبهها ولكنها أقل حجماً منها، وكلها ذات سيادة تغار على سيادتها،يفصل كل واحدة عن الأخرى ما بينها من خصام شديد أو مياه خطرة، أو تلال عديمة المسالك.
ويعزو أهل أرجوس منشأ مدينتهم إلى أرجس البلاسجي، البطل ذي المائة عين، كما يعزون ازدهارها الأول إلى رجل مصري يدعى دانوس Danaus قدم إليها على رأس جماعة من "الدنائيين"، وعلم الأهلين طريقة إرواء حقولهم من الآبار . وليس من حقنا أن نسخر من هذه الأسماء الخيالية، فقد كان اليونان يفضلون أن تنتهي بالأساطير تلك التواريخ الطويلة التي تنتهي عندنا نحن إلى الجهل والغموض. وقد أصبحت أرجوس، تحت حكم تمنوس أحد الهرقليين الذين عادوا إليها، أقوى المدن اليونانية بأجمعها، وأخضعت لسلطانها تيرينز، وميسيني وجميع الأراضي المحيطة بها. واستولى على زمام الحكم فيها حوالي عام 680 أحد أولئك الطغاة tyrranoi، الذي أصبح حكمهم الطراز المألوف في كبريات المدن اليونانية طوال القرنين اللذين أعقبا ذلك العهد. ولعل هذا الطاغية المسمى فيدون Pheidon قد استولى على الحكم، كما استولى عليه أمثاله من الطغاة، بأن تزعم طبقة التجار الآخذة قوتها في الازدياد بعد أن ضموا إليهم العامة مؤقتاً ليسهل عليهم الوصول إلى غرضهم - وهو مقاومة سلطان الأشراف ملاك الأراضي. ولما هددت إبدروس وأثينة مدينة إيجينة زحف فيدون لمساعدتها واستولى عليها لنفسه. واستعمل فيدون طريقة الموازين والمكاييل البابلية - ولعله أخذها عن الفينيقيين - كما استخدم نظام النقد الليدي الذي تضمنه الدولة. وأنشأ دار الضرب في إيجينة وأضحت "السلاحف" (أي قطع النقط المنقوش عليها رمز الجزيرة) أول عملة رسمية في بلاد اليونان القارية(16).
وكان حكم فيدون الاستبدادي المستنير بداية عصر من الرخاء جاء إلى أرجوس وما حولها بكثير من الفنون، حتى كان موسيقيو أرجوس أشهر الموسيقيين في بلاد اليونان كلها في القرن السادس قبل الميلاد(17)، ومن هؤلاء لاسوس Lasus الهرميوني (Hermione) الذي اشتهر بين الشعراء الغنائيين في عصره، والذي أخذ عنه بندار Pindar مهارته في هذا الضرب من الشعر. وفي أيامه وضع أساس مدرسة النحت الأرجوسية التي أهدت إلى بلاد اليونان بليكليتس، كما أهدت إليها قواعدها الفنية؛ ووجد التمثيل موطناً له في تلك المدينة حيث أنشئت له دار تحتوي على عشرين ألف مقعد؛ وشاد المهندسون فيها هيكلاً لهيرا، التي كانت تحبها أرجوس، وتخصها بعبادتها، وتعدها العروس الإلهة التي تتجدد بكارتها في كل عام(18). لكن ما أصاب خلفاء فيدون من ضعف وفساد - هما نقمة الملكية - بالإضافة إلى الحروب المتعاقبة الطوال مع إسبارطة، أوهن أرجوس، واضطرها إلى أن تتخلى عن زعامة البلوبونيز إلى اللسديمونيين Lacedaemonians. وهي اليوم بلدة هادئة تختفي معالمها بين ما يحيط بها من حقول، ولا تذكر إلا قليلاً عن مجدها الغابر، وتفخر بأن أهلها لم يهجروها قط في أثناء تاريخها الحافل الطويل.
الفصل الثالث: لاكونيا
في جنوب أرگوليس، وعلى مسافة بعيدة من البحر يشاهد السائح قلل سلاسل جبال الپرنون parnon، وهي قلل جميلة المنظر ولكن أجمل منها في العين نهر يوروتاس Eurotas الذي يجري بينها وبين سلسلة تيجتوس في الغرب، وهي أكثر منها ارتفاعاً وأشد قتاماً، وتكلل أعلاها الثلوج. وفي الوادي المعرض لفعل الزلازل يمتد "تجويف لسديمون"، وهو سهل منبسط تحميه التلال من جميع جوانبه بحيث لا تحتاج حاضرته إسبرطة إلى أسوار تحميها. وكانت اسپرطة "المبعثرة" في ذروة مجدها تتكون من خمس قرى منضمة بعضها إلى بعض يعمرها حوالي سبعين ألف نسمة. أما اليوم فهي قرية صغيرة لا يزيد سكانها على أربعة آلاف، ولا يكاد يبقى شيء، حتى في متحفها الصغير، من تلك المدينة التي حكمت فيما مضى بلاد اليونان وكانت سبباً في خرابها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
1- توسع اسبرطة
ولقد سيطر الدوريون من هذا الحصن الطبيعي المنيع على جنوبي البلوبونيز واستعبدوه. وكان هؤلاء الشماليون ذوو الشعر المرسل الطويل، الذين قوّت حياة الجبال أجسامهم وضرستهم الحروب، كان هؤلاء الأقوام يرون أن الحياة إما فتح أو استرقاق ولا ثالث لهما. وكانت الحرب عملهم المألوف يحصلون بها على رزقهم الشريف في ظنهم، كما كان غير الدوريين من أهل البلاد الذين أضعفهم اشتغالهم بالزراعة وطول عهدهم بالسلم في حاجة ملحة إلى سادة يتولون أمورهم ويسيطرون عليهم. وكان أول ما فعله ملوك إسبارطة، الذين يدعون أنهم من سلالة الهرقليين الذين وفدوا إلى البلاد منذ عام 1104، أن أخضعوا سكان لكونيا الأصليين ثم هاجموا ميسينيا Messinia. وكانت تلك الأراضي الممتدة في الطرف الجنوبي الغربي من البلوبونيز مستوية وخصبة إذا قيست إلى سائر أجزاء شبه الجزيرة، وتقوم بحرثها قبائل هادئة مسالمة. ويقص علينا بوسنياس كيف ذهب أرستوديموس Aristodemus ملك ميسينيا إلى مهبط الوحي في دلفي ليستشيره في الوسائل التي يستطيع بها أن يهزم الإسبارطيين، وكيف أمره أبلو أن يضحي بعذراء يجري في عروقها دمه الملكي، وكيف قتل ابنته هو وخسر الحرب(19) (وربما كان سبب خسرانه أنه كان مخطئاً في اعتقاده أنه قتل ابنته)، وكيف قاد أرستمينس Aristomenes الشجاع الميسينيين بعد جيلين من ذلك الوقت في ثورة جامعة على حكامهم الفاتحين، وكيف ظلت مدنهم تسع سنين صابرة على الهجوم والحصار ولكن الإسبارطيين ظفروا بهم آخر الأمر، فأخضعوا الميسينيين وفرضوا عليهم جزية سنوية تعادل نصف محصولاتهم، وساقوا نصف عددهم وضموهم إلى أقنان هيلوت Helot.
والصورة التي ترتسم في مخيلتنا للمجتمع اللكوني قبل ليكرجوس تتكون، كما تتكون بعض الصور الملونة القديمة، من ثلاث طبقات، العليا منها السادة الدوريين، ويعيش معظمهم في إسبارطة على منتجات الحقول التي يمتلكونها في الريف والتي يحرثها لهم الهيلوتيون (الأرقاء). وكان بين هاتين الطبقتين من الوجهة الاجتماعية، ويحيط بهما من الوجهة الجغرافية، طبقة البريئيسيين Perioeci (الساكنين حولهم)، وهم قوم أحرار يسكنون في مائة قرية أو على تخوم لكونيا، أو يشتغلون بالتجارة أو الصناعة في المدن، يؤدون الضرائب ويخدمون في الجيش ولكنهم لا نصيب لهم في حكم البلاد، وليس لهم حق الزواج من الطبقة الحاكمة. وكانت أحط الطبقات وأكثرها عدداً طبقة الهيلوتيين، وقد سموا بهذا الاسم- على حد قول استرابون- نسبة إلى هيلوس، وكان أهلها من أول من استعبدهم الإسبارطيون(20). وقد استطاعت إسبارطة بالغزو السافر لسكان لكونيا من غير الدوريين أو باستيراد أسرى الحرب أن تجعل لكونيا بلاداً يعمرها نحو 000ر224 من الهيلوتيين، 000ر120 من البريئيسيين، 000ر32 رجل وامرأة وطفل من طبقة المواطنين .
وكان الهيلوتيون يستمتعون بجميع الحريات التي يستمتع بها أقنان الإقطاع في العصور الوسطى، فكان للواحد منهم أن يتزوج كيف شاء، وأن يكون له أبناء لا يهتم بعددهم أو ما سوف يؤول إليه أمرهم، ويستغل الأرض بطريقته هو، ويعيش في قريته مع جيرته، لا يقلقه مالك أرضه الغائب عنها، ما دام يؤدي إلى هذا المالك بانتظام إيجارها الذي حددته لها الحكومة. وكان هذا القن مرتبطُاً بالأرض ولكن مالكها لم يكن في مقدوره أن يبيعه أو يبيعها. وكان في بعض الحالات يؤدي خدمات منزلية في المدينة؛ وكان ينتظر منه أن يقوم على خدمة سيده في الحرب، وأن يحارب دفاعاً عن الدولة إذا ما طلب إليه أن يحارب من أجلها، فإذا أبلى في الحرب بلاء حسناً فقد ينال حريته. ولم تكن حاله الاقتصادية في الظروف العادية أسوأ من حال المزارعين القرويين في سائر أجزاء اليونان الخارجة عن أتكا، أو الفعلة غير المهرة في مدينة من المدن الحديثة. وكان مما يخفف عنه عبء الحياة مسكنه الذي يملكه، وعمله المنوع، وما حوله من حقول وأشجار هادئة تؤنسه وتعينه على عيشه؛ ولكنه كان من الناحية الأخرى معرضاً على الدوام لأن تطبق عليه القوانين العسكرية، وأن تفرض عليه رقابة الشرطة السرية، تقتله في أية لحظة من غير سبب أو محاكمة. وكان الساذج في لكونيا كما كان في غيرها من بلاد العالم يؤدي الجزية إلى الشاطر الماكر. وتلك عادة لها ماض قديم مبجل ومستقبل مبشر بطول البقاء.
وسبب ذلك أن طيبات الحياة في أكثر الحضارات تأتي بها وتنظم تصريفها عملية البيع والشراء الهادئة السوية: فالشاطر الماكر يحملنا على أن ندفع في الكماليات التي لا يتيسر مضاعفتها وفي الخدمات التي يؤديها لنا أكثر مما يستطيع الساذج أن يحصل عليه في نظير ما ينتجه من الضرورات التي يسهل إنتاجها وتعويض ما يستهلك منها. أما في لكونيا فقد توصل بعضهم إلى تركيز الثروة في أيديهم بوسائل بادية للعين منفرة، ملأت قلوب الهيلوتيين غيظاً بلغ من الشدة حداً جعل إسبارطة في كل عام تقريباً مهددة بالثورات التي تعرض كيان الدولة لأشد الأخطار.
2- عصر اسبرطة الذهبي
كانت إسبارطة في هذا الماضي الغامض قبل أن يأتيها ليكرجوس مدينة كسائر المدن اليونانية ازدهر فيها الفن والأغاني كما لم يزدهرا قط بعد أيامه. وكانت الموسيقى أكثر الفنون انتشاراً فيها، وهي قديمة فيها قدم السكان أنفسهم، ذلك أننا مهما أوغلنا في القدم نجد اليونان يغنون. وإذ كان تاريخ إسبارطة لا تنقطع منه الحروب فإن موسيقاها قد اصطبغت بالصبغة العسكرية- وكان أسلوبها هو "الأسلوب الدوري" البسيط القوي. أما غيره من الأساليب الموسيقية فلم يكن يثبط فحسب، بل كان كل خروج عن هذا النمط الدوري يعاقب عليه القانون؛ وحتى تربندر نفسه Terpander، وهو الذي أخمد بأغانيه فتنة قامت في المدينة، وقد حكم عليه الإفوريون بغرامة وسمرت قيثارته في جدار لأنه جرؤ على أن يزيد على أوتارها وتراً جديداً لتنسجم مع صوته؛ ولم يسمح لتيموثيوس Timotheus في عهد آخر من عهودها بأن يشترك في المباريات الإسبارطية إلا بعد أن نزع بأمر الإفوريين ما أضافه من الأوتار الشائنة المرذولة على قيثارة تربندر، وكان قد زاد هذه الأوتار من سبعة إلى أحد عشر(23).
وقد وجد في إسبارطة، كما وجد في إنجلترا، مؤلفون عظام في الموسيقى، حين كانت تستورد هؤلاء المؤلفين من خارجها؛ فقد استدعت حوالي عام 670 تربندر من لسبس بأمر الوحي في دلفي، حسب زعمهم، ليعد مباراة في الغناء الجماعي في الاحتفال بعيد كرنيا Carneia. وكذلك استدعى ثاليتاس Thaletas، وألكمان Alcman، وبلمنستوس Polymnestus. وقد وجه هؤلاء معظم جهودهم لوضع ألحان وطنية وتدريب الفرق على إنشادها. وقلما كانت الموسيقى تعلم للأفراد من الإسبارطيين(24)، فقد بلغت الروح الشيوعية فيها، كما بلغت في روسيا الثورية، من القوة درجة جعلت الموسيقى تنزع فيها نزعة جماعية، وكانت الجماعات فيها تتبارى في إقامة حفلات الغناء والرقص الفخمة. وأتاحت هذه الأغاني الجماعية للإسبارطيين فرصة أخرى للتدريب ولتنظيم الجماهير، لأن كل صوت في الغناء كان خاضعاً للرئيس. ولم يشذ الملوك أنفسهم عن هذا الخضوع، فقد حدث في احتفال الهياكنثيا Hyacinthia أن غنى الملك أجسلوس في الزمان والمكان اللذين عينهما له رئيس الفرقة. وكان الإسبارطيون على بكرة أبيهم، كبيرهم وصغيرهم، رجالهم ونساؤهم، يشتركون أثناء الاحتفال بعيد الجمنوبيديا Gymnopedia في تمارين رياضية جماعية ورقص متناسق وغناء. وما من شك في أن هذه المناسبات كانت باعثاً قوياً للشعور الوطني، ومصرفاً ينصرف فيه ما تتأجج في الصدور من هذا الشعور. وكان تربندر (أي "مطرب الناس") أحد أولئك الشعراء الموسيقيين النابهين الذين بدأ بهم عصر ليسيوس المجيد في الجيل الذي سبق سافو. وتعزو إليه الرواية المأثورة اختراع أناشيد الشراب المعروفة باسم اسكوليا scolia وزيادة أوتار القيثارة من أربعة إلى سبعة؛ ولكن القيثارة ذات السبعة الأوتار كانت، كما سبق القول، قديمة قدم ميتوس، وأكبر الظن أن الناس كانوا يتغنون بفضائل الخمر في شباب العالم الذي جر عليه النسيان ذيله. والذي لا شك فيه أن تربندر قد ذاع صيته في لسبوس وعرف فيها بأنه مؤلف المقطوعات الغنائية الموسيقية ومغنيها. ولما أن قتل رجلاً في مشاجرة، نفي من هذه المدينة ورأى من مصلحته أن يقبل دعوة جاءته من إسبارطة بالذهاب إليها. ويلوح أنه أقام فيها بقية أيام حياته يعلم الموسيقى ويدرب الفرق الغنائية. ويقال لنا إنه قضي نحبه في مجلس شراب: فبينما هو يغني- ولعله كان يغني النغمة التي أضافها في أعلى السلم الموسيقي- قذفه أحد السامعين بتينة، فدخلت في فمه، وفي قصبته الرئوية، فسدت مسالك التنفس، وقضت عليه وهو في نشوة الغناء(25).
وواصل ترتيوس عمل تربندر في إسبارطة في أثناء الحرب الميسينية الثانية؛ وقد جاءها من أفدنا Aphidna- وقد تكون في لسيدمون، وقد تكون وهو الأرجح في أتكا. والذي لا شك فيه أن الأثينيين كانوا يروون فكاهة قديمة عن الإسبارطيين، وهي أنهم حين كانت الدائرة تدور عليهم في الحرب الثانية أنجاهم من الهزيمة الماحقة معلم أتِكِي أعرج أيقظت أغانيه الإسبارطيين الخاملين وبعثت في قلوبهم الشجاعة فانتصروا بذلك على أعدائهم(26). وجلي أنه كان ينشد أغانيه في المجتمعات العامة بمصاحبة الناي، وهو يعمل لتبديل الموت الحربي بالمجد الذي يحسد عليه. وقد جاء في إحدى القطع الباقية من أغانيه: "ما أجمل أن يموت الرجل الشجاع في الصف الأول من المجاهدين في سبيل أوطانهم؛ ألا فليثبت كل إنسان في مكانه واقفاً على قدميه لا يتزحزح عن موقفه، وليعض على نواجذه... وليضم كل إنسان قدم زميله، ولتتلاحق الدروع، ولتختلط الرياش المتماوجة، والخوذ المتلاطمة، وليتقدم المقاتلون متلاصقون كالبنيان المرصوص، تتلاقى في معمعان القتال نصال السيوف وأسنة رماحهم"(27). ويقول ليونيداس ملك إسبارطة إن ترتيوس "كان رجلاً بارعاً في إثارة حمية الشباب"(28).
وغنى ألكمان لأهل ذلك الجيل نفسه، وكان صديقاً لترتيوس ومنافساً له، ولكن غناءه كان أكثر تنوعاً من غناء صديقه وأقرب منه إلى مطالب هذه الحياة الدنيا. وكان موطنه الأصلي ليديا البعيدة. ويقول بعضهم إنه كان عبداً ولكن اللسديمونيين رحبوا به لأنهم لم يكونوا قد تعلموا كراهية الأجنبي التي أصبحت فيما بعد جزءاً من قانون ليكرجوس. ولو أنه قد عاصر الإسبارطيين المتأخرين لرأوا في مدائحه في الحب والطعام وتعداده لأصناف الخمور اللكونية مسبة لهم. وتصفه الرواية التاريخية بأنه أشد الأقدمين شرهاً وشغفاً بالنساء. وهو يقول في إحدى أغانيه إنه كان سعيد الحظ لأنه لم يبق في سرايس، وإلا لجبت خصيتاه وأصبح من كهنة سيبيل، بل جاء إلى إسبارطة حيث يستطيع أن يحب بكامل حريته مجالستراتا Megalostrata ذات الشعر الذهبي(29). وبه تبدأ أسرة الشعراء العشاق التي تنتهي بأنكريون، وهو حامل لواء "التسعة شعراء الغنائيين" الذين اختارهم النقاد الإسكندريون ووصفوهم بأنهم أحسن شعراء بلاد اليونان القديمة . ولقد كان في وسعه أن يكتب ترانيم وتهاليل، وخمريات وغزلا؛ وكان أحب شيء إلى الإسبارطيين ما وصفه في هذه الأغاني من حين إلى حين قطعاً تكتشف لنا عن قوة الشعور الخيالي التي هي جوهر الشعر وأساسه. "لقد استغرقت في النوم قلل الجبال ومسايلها، وشعابها، وخوانقها، والزواحف التي تخرج من الأرض السوداء، والوحوش التي تتربص على سفوح التلال، وثول النحل، والحيوانات المهولة في قاع البحر الأرجواني، استغرقت كلها في النوم، ومعها أسراب الطيور المجنحة .
ولنا أن نستنتج من وجود هؤلاء الشعراء أن الإسبارطيين لم يكونوا إسبارطيين على الدوام، وأنهم لم يكونوا في القرن السابق لليكرجوس أقل شغفاً بالشعر والفنون الجميلة من سائر اليونان؛ ولقد أضحت الأغاني الجماعية من الخواص الوثيقة الصلة بهم، ولما أن أراد كتاب المسرحيات الأثينيون أن يكتبوا أغاني جماعية لمسرحياتهم لم يروا بداً من أن يكتبوها باللهجة الدورية، مع أنهم كتبوا الحوار باللهجة الأتيكية. وليس من السهل علينا أن نقول أي الفنون الأخرى قد ازدهرت في لسديمون في تلك الأيام، أيام الهدوء والاطمئنان، لأن الإسبارطيين أنفسهم قد غفلوا عن تاريخ تلك الأيام والاحتفاظ بتاريخها إن كانوا قد سجلوه؛ ولكنا نستطيع أن نقول إن الفخار والبرنز اللكونيين قد اشتهرا في القرن السابع، وإن الفنون الصغرى قد أخرجت كثيراً من الكماليات التي تستمتع بها الأقلية المحظوظة. لكن هذه النهضة القصيرة الأجل قضت عليها الحروب الميسينية. فقد وزعت الأراضي المفتوحة على الإسبارطيين، وكاد عدد الأقنان أن يتضاعف نتيجة لهذا التوزيع. وكيف يستطيع ألفاً من المواطنين أن يخضعوا على الدوام أربعة أمثالهم من البرئيسيين وسبعة أمثالهم من الهيلوتيين؟ إنهم لا يستطيعون ذلك إلا إذا نفضوا أيديهم من ممارسة الفنون ومناصرتها، وجعلوا من كل إسبارطي جندياً شاكي السلاح مستعداً على الدوام لقمع الثورات أو السير إلى ميدان القتال. ولقد بلغوا هذه الغاية بفضل دستور ليكرجوس، ولكن هذا الدستور نفسه قد أخرج إسبارطة من تاريخ الحضارة بكافة معانيها اللهم إلا معناها السياسي وحده.
3- ليقورغ
يعتقد المؤرخون اليونان اعتقاداً لا يقبل الجدل أن ليقورغ هو واضع شرائع إسبارطة، كما يعتقدون أن حصار طروادة وقتل أجممنون من الحقائق التاريخية المسلم بصحتها. وكما أن العلماء المحدثين قد ظلوا مائة عام كاملة ينكرون وجود طروادة وأجممنون، فإنهم اليوم يترددون في الاعتراف بأن ليقورغ شخص واقعي كان له وجود في التاريخ. وتختلف التواريخ التي يحددها له من يؤمن بوجوده منهم ما بين 900 ، 600 ق.م؛ وكيف يستطيع رجل واحد أن يبتدع أعجب وأبغض طائفة من الشرائع في التاريخ كله، ثم لا يفرضها في سنين قليلة على شعب خاضع مغلوب فحسب، بل يفرضها كذلك على الطبقة الحاكمة ذات النزعة العسكرية صاحبة الإدارة القوية؟(33) ولكننا رغم هذا إذا رفضنا رواية يأخذ بها جميع المؤرخين اليونان اعتماداً منا على هذه الأسباب، نكون متجنين على الحقيقة والتاريخ. لقد كان القرن السابع قبل الميلاد عصر المؤرخين الأفراد- زلوكس Zaleucus في لكريس الإيطالية (حوالي 660)، ودريكو Draco في أثينة (620)، وكرنداس Charondas في كتابنا بصقلية (حوالي 610)- دع عنك كشف يوشع لشرائع موسى في هيكل أورشليم (حوالي 621). ولعل الحق في الحالات السالفة الذكر أن هذه الشرائع لم تكن من وضع رجل بعينه بل كانت طائفة من العادات ليقورغ نسقت وصيغت- حتى صارت قوانين معينة محددة، سميت من قبيل التيسير باسم الرجل الذي جمعها وقننها وأبرزها في معظم الأحيان في صورة شرائع مكتوبة . وسوف نسجل في هذا الكتاب الرواية المتواترة كما وصلت إلينا على أن نذكر مع ذلك أنها في أغلب الظن تجسيد وتصوير لعملية طويلة تطورت فيها العادات حتى صارت قوانين على يد عدد كبير من المؤلفين دأبوا على العمل كثيراً من السنين.
ويقول هيرودوت(34) إن ليقورغ، عم الملك كاريلوس Charilaus ملك إسبارطة ووليه، تلقى من الوحي في دلفي بعض مراسيم، يصفها البعض بأنها قوانين ليقورغ نفسها، ويصفها البعض الآخر بأنها تصديق رباني على القوانين التي اقترحها هو. ويبدو أن المشترعين قد أحسوا أن آمن طريقة لتغيير بعض العادات القائمة أو إدخال عادات جديدة هي أن يعرضوا ما يريدونه في كلتا الحالتين على أنه أوامر من عند الله؛ ولم تكن هذه أول مرة أقامت الدولة قواعدها في السماء. وتضيف الرواية إلى هذا أن ليقورغ سافر إلى كريت، وأعجب بنظمها، واعتزم أن يُدْخِل بعضها في لكونيا(35). وقبل الملوك ومعظم النبلاء إصلاحاته على مضض، لأنهم رأوا أن لا بد لهم منها إذا أرادوا أن يضمنوا لأنفسهم السلامة والطمأنينة؛ ولكن أحد الشبان الأشراف، واسمه الكمندر، قاوم هذا الإصلاح مقاومة شديدة عنيفة وفقأ إحدى عيني المشترع نفسه. ويقص بلوتارخ هذه القصة بأسلوبه السلس الساحر.
ولم يثبط هذا العمل عزيمة ليقورغ أو يضعف همته، بل سكت وكشف لمواطنيه عن وجهه المشوه وعينه المفقوءة. واستولى عليهم الخجل والهلع من هذا المنظر فجاءوه بألكمندر ليعاقبه على فعلته.. فشكر لهم ليقورغ ما فعلوا، وصرفهم عن آخرهم، ولم يستبق منهم إلا الكمندر، ثم أخذه معه ليقورغ إلى منزله، ولم يقل له كلمة نابية أو يوقع عليه أي عقاب، بل... أمره أن يقف في خدمته وقت الطعام. وكان الشاب ذا خلق كريم فقام بكل ما كان يؤمر أن يقوم به دون أن يتذمر أو يتململ؛ وبذلك أتيحت له الفرصة لأن يعيش مع ليقورغ فيلاحظ فيه فضلاً عن رقته وهدوء طبعه استقامة لا عهد له بها، وجداً وصبراً على العمل، وأصبح الشاب من أشد الناس إعجاباً به وقد كان من قبل من ألد أعدائه، وقال لأصدقائه وأقاربه إن ليقورغ لم يكن ذلك الرجل النكد السيئ الطباع كما كانوا يظنون، بل إنه دون غيره الرجل الظريف الرقيق الحاشية في العالم كله.
ولما أتم ليقورغ قوانينه، أخذ على الأهلين عهداً (ولعل هذه زيادة خرافية زيدت على قصته) ألا يبدلوا في القانون شيئاً قبل أن يعود إليهم. ثم سافر إلى دلفي، واعتزل العالم، وحرم على نفسه الطعام حتى مات "ظناً منه أن الواجب يقضي على السياسي أن يجعل موته إذا استطاع عملاً يخدم به الدولة"(37).
4- دستور لسديمونيا
وإذا أردنا أن نحدد بالضبط إصلاحات ليكرجوس؟، وجدنا الروايات التاريخية مضطربة متناقضة، حتى ليصعب علينا أن نقول أي عناصر القوانين الإسبارطية سبقت ليكرجوس، وأيها من وضعه هو أو من وضع الجيل الذي كان يعيش فيه، وأيها أضيفت إليها بعد أيامه. فأما بلوتارخ ويليبيوس(38) فيؤكدان لنا أن ليكرجوس أعاد تقسيم أراضي لكونيا ثلاثين ألف قسم متساوية، ووزعها على المواطنين؛ وأما ثوسيديدس(39) فَيُفْهَم من أقواله أن تقسيماً من هذا النوع لم يحدث قط، ولعل الذي حدث فعلاً أن الأملاك القديمة لم تُمَسّ وإنما وزعت الأراضي التي استولوا عليها حديثاً توزيعاً متساوياً. وألغي ليكرجوس (أو واضعوا الدستور المنسوب إليه)، كما فعل كليسثنيز السكيوني وكليسثنيز الأثيني، نظام المجتمع اللكوني القائم على صلة القرابة، واستبدل به أقساماً جغرافية، وبهذا تحطم سلطان الأسر القديمة، وأنشئ نظام أرستقراطي واسع النطاق. وأراد ليكرجوس أن يمنع هذه الألجركية مالكة الأرض من أن تقضي عليها طبقات التجار ونحوها، التي كانت تسير سيراً حثيثاً نحو مركز الزعامة في أرجوس، وسكيون، وكورنثة، ومجارا، وأثينة، فحرّم على المواطنين أن يشتغلوا بالصناعة، أو التجارة، ومنع استيراد الذهب والفضة، وأمر ألا يستخدم في سك العملة غير الذهب وحده. ذلك بأنه قد وطد العزم على أن يتفرغ الإسبارطيون (المواطنون ملاك الأرض) إلى شؤون الحكم والحرب. وكان مما يفخر به المحافظون الأقدمون(40) أن دستور ليكرجوس قد دام طويلاً لأن أنظمة الحكم الثلاثة: الملكية، والأرستقراطية، والدمقراطية قد اجتمعت كلها فيه، واجتمعت بنسب تمنع طغيان أي عنصر منها على العنصرين الباقيين. من ذلك أن الملكية الإسبارطية كانت في الواقع ملكية ثنائية، فقد كان فيها ملكان يحكمان معاً وينحدران من الهرقليين الغزاة. ولعل هذا النظام الغريب كان تراضياً بين أسرتين متنافستين لأنهما تنتميان إلى أصل واحد، أو لعله كان وسيلة للاستفادة مما للملكية من مزايا نفسانية في المحافظة على النظام الاجتماعي والعزة القومية مع تجنب استبدادها وطغيانها. وكانت سلطة الملكين سلطة محددة غير مطلقة: فكانا يقومان بتقريب القرابين التي يتطلبها دين الدولة، ويرأسان الهيئة القضائية، ويقودان الجيش في الحرب. وكانا في جميع أعمالهما خاضعين لمجلس الشيوخ، وأخذا بعد معركة بلاتية يفقدان سلطانهما شيئاً فشيئاً ويتولاها الإفورون.
أما العناصر الأرستقراطية ذات السلطان الأكبر في الدولة فكان مقرها في مجلس الشيوخ أو الجروسيا. وكانت الجروسيا بمعناها الحرفي وحقيقة أمرها جماعة من الرجال كبار السن؛ وكان الذين تقل أعمارهم عن ستين عاماً يعدون في العادة غير ناضجين لمناقشة شؤون الدولة في هذا المجلس. ويحدد بلوتارخ عدد أعضاء المجلس بثمانية وعشرين عضواً ويروي عن طريقة انتخابهم رواية لا يصدقها العقل، فيقول إنه إذا خلا مكان في المجلس كان يطلب إلى من يتقدمون لملئه أن يمروا صامتين واحداً بعد واحد أمام الجمعية، فمن حيته منهم بأعلى الأصوات وأطولها أعلن انتخابه(41). وربما كانت هذه الطريقة في رأيهم طريقة واقعية مختصرة للإجراءات الدمقراطية الطويلة الكاملة، ولسنا نعرف أي المواطنين كانوا هم الصالحين لهذا الانتخاب، وأكبر الظن أن الذين يصلحون كانوا هم "الهمويْوي" أي الأنداد، الذين يمتلكون أرض لكونيا وخدموا في الجيش وجاءوا بنصيبهم من الطعام إلى المائدة العامة(42). وكان مجلس الشيوخ هو الذي يقترح القوانين، وكان هو المحكمة العليا التي تفصل في الجرائم الكبرى، وهو الذي يضع أسس السياسة العامة للدولة. وكانت الجمعية الأبلا Apella هي العنصر الدمقراطي الذي ارتضته إسبارطة في حكومتها. ويلوح أن جميع المواطنين الذكور كانوا يقبلون فيها متى بلغوا سن الثلاثين، وكان عدد من يمكن اختيارهم أعضاء فيها 8000 من بين سكان إسبارطة البالغ عددهم 000ر376. وكانت تجتمع في كل يوم من الأيام التي يكون فيها القمر بدراً، وتعرض عليها جميع المسائل العامة ذات الأهمية الكبرى، ولا يسن قانون إلا إذا وافقت عليه. على أن الذي حدث بالفعل أن القوانين التي أضيفت إلى دستور ليكرجوس كانت قلة لا تستحق الذكر، وهكذا لم يكن للجمعية إلا أن تقبلها أو ترفضها دون أن يكون لها حق تعديلها. فهي في جوهرها الاجتماع الهومري العام القديم تستمع في رهبة إلى آراء الزعماء والكبار أو إلى الملكين قائدي الجيش. وكانت الأبلا من الوجهة النظرية مصدر السلطات وصاحبة السيادة، ولكن تعديلا أدخل على الدستور بعد ليكرجوس جعل لمجلس الشيوخ حق تغيير قرار الجمعية إذا رأى أنها اتخذت قراراً "معوجاً"(43). ولما أن طلب مفكر سباق لعصره إلى ليكرجوس أن ينشئ دولة دمقراطية أجابه المشترع بقوله: "ابدأ أيها الصديق بإنشائها في أسرتك"(44).
وكان شيشرون يشبه الإفورين (المشرفين) الخمسة بالتربيونين في رومة لأن الجمعية هي التي كانت تختارهم في كل عام، ولكنهم في الواقع كانوا أكثر شبهاً بالقناصل الرومان لأنهم كانت لهم سلطة إدارية لا يقف في سبيلها إلا معارضة مجلس الشيوخ. وكانت وظيفة الإيفور قائمة قبل ليكرجوس، ولكنها مع ذلك لم يرد لها ذكر فيما وصل إلينا من أنباء عن شرائعه. ولم يكد يمضي من القرن السادس إلا نصفه حتى أضحت سلطة الإفورين مساوية لسلطة الملكين؛ ثم أصبحوا في واقع الأمر أصحاب السلطة العليا بعد الحرب الفارسية. فكانوا يستقبلون السفراء، ويفصلون في المنازعات القضائية، ويقودون الجيوش، ويوجهون أعمال الملوك، ويعاقبون الملوك أنفسهم أو يبرئونهم من التهم التي توجه إليهم. أما تنفيذ أوامر الحكومة فكان يتولاه الجيش أو الشرطة. وقد جرت عادة الإفورين بأن يسلحو ا بعض الشبان الإسبارطيين، ويتخذونهم شرطة سرية (كربتيا krypteia) ليتجسسوا على الناس، وكان لهم حق قتل الهيلوتيين بمحض إرادتهم(45). وكانت هذه الهيئة تستخدم في أوقات لم يكن ينتظر أن تستخدم فيها، بل إنها كانت تستخدم للتخلص من الهيلوتيين إذا كان سادتهم يرونهم رجالاً قادرين يُخشى بأسهم، وإن كانوا قد دافعوا عن الدولة في الحرب دفاع الأبطال. ويقول عنهم ثوسيديدس النزيه بعد ثمان سنين من حرب البلوبونيز:
صدر إعلان يدعو الهليوتيين لأن يختاروا من بينهم من يقولون إنهم قد أظهروا تفوقهم في قتال الأعداء لكي ينالوا حريتهم؛ وكان الغرض الحقيقي من هذه الدعوة هو اختبارهم، لأن أول من يتقدمون للمطالبة بحريتهم كانوا في رأي الداعين أعزهم نفساً وأكثرهم استعداداً للعصيان. واختير بهذه الطريقة ألفان منهم وضعت على رؤوسهم التيجان، وطافوا بالهياكل مغتبطين بحريتهم الجديدة ولكن الإسبارطيين ما لبثوا أن تخلصوا منهم جميعاً، ولم يعرف أحد قط كيف هلك كل فرد من أفرادهم(46). وكان الجيش عماد السلطة في إسبارطة ومناط فخرها، لأنها وجدت في شجاعته، ونظامه، ومهارته، أمنها ومثلها الأعلى. وكان كل مواطن يدرب تدريباً حربياً، وكان عرضة لأن يُدعى إلى الخدمة العسكرية فيما بين العشرين والستين من عمره. وبفضل هذا التدريب القاسي نشأت الهبليت hoplites الإسبارطية، وهي فرق المشاة المتراصة الثقيلة قاذفات الحراب، والمكونة من المواطنين، التي كانت تقذف الرعب في قلوب الأثينيين أنفسهم، ولم يكد يقهرها عدو حتى انتصر عليها إباميننداس Epaminondas في لكترا Leuctra. وكان هذا الجيش هو المحور الذي صاغت إسبارطة حوله قانونها الأخلاقي. فالطيبة في إسبارطة هي أن تكون قوياً شجاعاً؛ والموت في ميدان القتال هو أعظم الشرف ومنتهى السعادة؛ والحياة بعد الهزيمة هي العار الذي لا يمحى والذي لا تغتفره الأم نفسها لابنها الجندي. وكانت الأم تودع ابنها الجندي الذاهب إلى حومة الوغى بقولها: "عد بدرعك أو محمولاً عليه". وكان الفرار بالدرع الثقيل أمراً مستحيلاً.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
5- القانون الإسبارطي
إن تدريب الناس على مثل أعلى متعب للجسم، وخاصة إذا كان كالذي يدرب عليه الإسبارطيون، يحتم أخذهم من أيام مولدهم وتعويدهم أشد النظم وأعظمها صرامة.
وكانت الخطوة الأولى هي تقوية النسل بأقصى الطرق. فلم يكن كل ما يفرض على الطفل هو أن يواجه ما لأبيه من حق قتله، بل كان يؤتى به فضلاً عن ذلك أمام مجلس من مجالس الدولة مكون من مفتشين، فإذا ظهر أن الطفل مشوه ألقي به من فوق جرف في جبل تيجيتس ليلقى حتفه على الصخور القائمة في أسفله(47). وكان ثمة وسيلة أخرى للتخلص من ضعاف الأطفال نشأت من العادة التي جرى عليها الإسبارطيون، وهي تعويد أطفالهم تحمل المشاق والتعريض لمختلف الأجواء(48). وكان يطلب إلى الرجال والنساء أن يهتموا بصحة من يريدون أن يتزوجوهم وبأخلاقهم؛ وحتى الملك أرخيداموس Archidamus نفسه قد فرضت عليه غرامة لأنه تزوج بامرأة ضئيلة الجسم(49). وكان الأزواج يشجعون على أن يعيروا زوجاتهم إلى رجال ذوي قوة ممتازة غير عادية حتى يكثر بذلك الأطفال الأقوياء؛ وكان ينتظر من الأزواج الذين أنهكهم المرض أو أعجزتهم الشيخوخة أن يدعوا الشبان ليعينوهم على تكوين أسر قوية. ويقول بلوتارخ إن ليكرجوس كان يسخر من الغيرة ومن احتكار الأزواج، ويقول إن من أسخف الأشياء أن يعنى الناس بكلابهم وخيلهم، فيبذلوا جهدهم ومالهم ليحصلوا منها على سلالات جيدة، ثم تراهم مع ذلك يبقون زوجاتهم في معزل ليختصوا بهن في إنجاب الأبناء، وقد يكونون ناقصي العقل أو ضعفاء أو مرضى". والأقدمون كلهم مجمعون على أن الذكور من الإسبارطيين كانوا أقوى أجساماً وأجمل وجوهاً من سائر رجال اليونان، وأن نساءهم كن أصح وأجمل من سائر نساء تلك البلاد(50).
وأغلب الظن أن هذه النتيجة يرجع أكثرها إلى التدريب لا إلى العناية بالنسل. وفي ذلك يقول ثوسيديدس على لسان الملك أرخيداموس: "قلما يكون ثمة فرق" (يعني وقت المولد على ما نظن) "بين الرجل والرجل، ولكن الذي يتفوق في آخر الأمر هو الذي ينشأ في أقصى مدرسة"(51). وكان الولد الإسبارطي يؤخذ من أسرته في السابعة من عمره لتتكفل الدولة بتربيته؛ فكان يسلك في فرقة عسكرية هي في الوقت نفسه فصل مدرسي تحت إشراف بيدونوموس Paidonomos أو قيم على الأولاد. وكان أقدر الأولاد وأشجعهم في كل فصل ينصب عريفاً عليهم؛ ويطلب إلى سائر الأولاد أن يطيعوه، وان يخضعوا لما عساه أن يفرضه عليه من عقاب، وأن يحاولا أن يجاروه أو أن يتفوقوا عليه في الأعمال الشاقة وفي حسن النظام. ولم يكن هدفهم من هذه التربية هو الجسم الرياضي والمهارة في الألعاب كما كان هدف الأثينيين، بل كان هذا الهدف هو الشجاعة الحربية والقيمة العسكرية. وكانوا يقومون بالالعاب وهم عراة على أعين الكبار والعشاق من الرجال والنساء. وكان هَمّ الكبار من الرجال أن يثيروا الشحناء بين الأولاد فرادي وجماعات، ليختبروا بهذا ما لديهم من قوة وجلد ويدربوهم عليهما؛ فإذا ما جبنوا لحظة جللهم العار أياماً طوالاً. وكان يطلب إلى الإسبارطيين جميعاً أن يتحملوا الألم ويقاسوا الصعاب، وأن يصبروا على المصائب وهم صامتون لا يتذمرون. وكان عدد من الشبان يختارون كل عام أمام مذبح أرتميس أرثيا Artemis Ortha وتلهب أجسامهم بالسياط حتى تخضب دماؤهم الحجارة(52). وإذا بلغ الولد الثانية عشرة من عمره منعت عنه ملابسه السفلى، ولم يسمح له إلا بثوب واحد طوال أيام السنة. ولم يكن يستحم كثيراً كغلمان الأثينيين، لأن الماء والأدهان تجعل الجسم ليناً رخواً، أما الهواء البارد والتراب النظيف فيجعلانه صلباً شديد المقاومة. وكان ينام في العراء صيفاً وشتاءً، على فراش من الأسل يقطع من شاطئ يوروتاس. وكان يعيش حتى الثلاثين من عمره في الثكنات مع فرقته، ولا يعرف وسائل الراحة المنزلية.
وكان يتعلم القراءة والكتابة، ولكنه لا يكاد يتعلم منهما ما يكفي لأن يخرجه من سلك الأميين، وقلما كانت الكتب تجد في إسبارطة من يشتريها(53)، وكان الناشرون قلة كالمشترين. ويقول بلوتارخ إن ليكرجوس كان يرغب ألا يتعلم الأطفال قوانينه بطريق الكتابة، بل يجب أن يتلقوها مشافهة وبطريق المران عليها في شبابهم بعناية من يرشدهم ويضرب لهم المثل بنفسه. وكان يرى أن تقويم الأخلاق بتعويدهم إياه دون أن يحسوا هم بذلك خير من الاعتماد على الإقناع بالحجج النظرية؛ وأن التعليم الصحيح هو خير أساليب الحكم، على أن يكون هذا التعليم خلقياً أكثر منه عقلياً، لأن الخلق أعظم خطراً من العقل. وكان الشاب الإسبارطي يدرب على الاعتدال في الشراب، وكانوا يرغمون بعض الهيلوتيين على الإفراط فيه حتى يرى الشبان ما قد يتردى فيه المخمور من حماقات(54). وكان يعلم أن يستعد للحرب بأن ينطلق في الحقول يجد طعامه بنفسه أو يموت جوعاً إذا لم يجده، وكانوا يجيزون له السرقة في هذه الأحوال، فإذا قبض عليه وهو يسرق عوقب بالجلد(55). وإذا كان حسن السلوك سمح له أن يحضر اجتماع المواطنين العام، وكان ينتظر منه أن يعنى بالاستماع إلى ما يقال فيه حتى يلم بمشاكل الدولة ويتعلم فن الحديث الظريف. فإذا تخطى صعاب الشباب بشرف وبلغ سن الثلاثين منح كل ما للمواطن من حقوق، وألقيت عليه جميع ما يلقى على المواطن من تبعات، وأجيز له أن يجلس لتناول الطعام مع من هم أكبر منه.
وكانت البنت أيضاً خاضعة لقيود تفرضها عليها الدولة، وإن كانت تتركها لتربى في منزل أبويها. فكان يطلب إليها أن تقوم ببعض الألعاب العنيفة- الجري، والمصارعة، ورمي القرص، وإطلاق السهام من القوس- لكي تصبح قوية البنية، صحيحة الجسم، صالحة في يسر للأمومة الكاملة. وكان عليها أن تسير عارية في أثناء الرقصات والمواكب العامة، ولو كانت في حضرة الشبان، لكي يحفزها ذلك إلى أن تعنى بجسمها العناية الواجبة، ولكي تنكشف للناس عيوبها فيعملوا على إزالتها. وفي ذلك يقول بلوتارخ، وهو الرجل الشديد الحرص على الأخلاق: "ولم يكن ثمة شيء يُستحى منه في عري الفتيات، فقد مكان الوقار شعارهن، وكان الفجور أبعد الصفات عنهن. وكن وهن يرقصن يغنين الأغاني في مدح من أظهروا الشجاعة في الحرب، ويصببن اللعنات على من يجبن. ولم يكن الإسبارطيون يضيعون جهودهم ووقتهم في تربية البنات تربية عقلية.
أما الحب فكان يسمح للشاب أن ينغمس فيه، وأن يحب الذكور والإناث دون ما تحرج، فقد كان لكل صبي تقريباً حبيب بين من هم أكبر منه من الرجال، وكان ينتظر من هذا الحبيب أن يواصل تعليمه، وأن يجزيه الصبي عن هذا حباً وطاعة. وكثيراً ما استحال هذا النفع المتبادل صداقة عاطفية قوية تبعث في نفس الفتى والرجل ضروب البسالة في الحرب(56). وكان يسمح للشبان بالكثير من الحرية قبل الزواج، ولذلك كانت الدعارة الرسمية نادرة الوجود، وكان التسري لا يلقى تشجيعاً(57). ولم نسمع عن وجود هياكل لأفرديتي في لسديمون كلها، اللهم إلا هيكلاً واحداً، وحتى في هذا الهيكل قد مثلت الآلهة وعليها نقاب وفي يدها سيف، وفي قدميها أغلال، كأنها تشير بذلك إلى ما في زواج الحب من سخف وطيش، وإلى خضوع الحب للحرب ، وإلى إشراف الدولة إشرافاً قوياً على الزواج.
وحددت الدولة أنسب سن للزواج سن الثلاثين للرجال والعشرين للنساء. وكانت العزوبة في إسبارطة جريمة، وكان العزاب يحرمون حق الانتخاب وحق مشاهدة المواكب العامة التي يرقص فيها الفتيان والفتيات عرايا؛ ويقول بلوتارخ إن العزاب أنفسهم كانوا يرغمون على أن يمشوا بين الجماهير عرايا صيفاً وشتاءً ينشدون نشيداً فحواه إنهم يقاسون هذا العقاب العادل جزاء لهم على مخالفة قوانين البلاد. وكان الذين يصرون على عدم الزواج عرضة لأن تهاجمهم في أي وقت من الأوقات جماعات من النساء يؤذينهم أشد الأذى. ولم يكن العار الذي يلحق بمن يتزوجون ولا يلدون ليقل كثيراً عن العار الذي يلحق العزاب؛ وكان المفهوم أن من لا أبناء لهم من الرجال غير خليقين بذلك الإجلال الديني الذي يقدمه الشبان الإسبارطيون لمن هم أكبر منهم سناً(58).
وكان الوالدان هما اللذان ينظمان زواج أبنائهما، دون أن يكون للبيع والشراء أثر في هذا التنظيم؛ فإذا ما اتفقا على الزواج كان ينتظر من العريس أن ينتزع عروسه من بيت أبيها قوة واقتداراً، كما كان ينتظر منها أن تقاوم هذا الانتزاع، وكان اللفظ الذي يعبر به عن الزواج هو لفظ هربدزين harpadzein أي الاغتصاب(59). فإذا ترك هذا التنظيم بعض الكبار بلا زواج، جاز حشر عدد من الرجال في حجرة مظلمة ومعهم عدد مساو لهم من البنات، ثم يترك هؤلاء وأولئك ليختار كل رجل شريكة حياته في الظلام(60)؛ ذلك أن الإسبارطيين كانوا يعتقدون أن هذا الاختيار لم يكن فيه من العمى أكثر مما في الحب. وقد كان من المألوف أن تبقى العروس مع أبويها وقتاً ما، وأن يبقى العريس في ثكناته لا يزور زوجته إلا خلسة. ويقول پلوتارخ إنهما كانا يعيشان على هذا النحو زمناً طويلاً حتى لقد كان بعضهم ينجب من زوجته أطفالاً قبل أن يرى وجهها في ضوء النهار". فإذا ما أوشكا أن يكونا أبوين سمح لهما بأن ينشئا بيتاً. وكان الحب ينشأ بعد الزواج لا قبله، ويلوح أن الحب بين الزوج وزوجته لم يكن في إسبارطة أقل منه في سائر الحضارات(61). وكان الإسبارطيون يفخرون بأن الزنا لا وجود له بينهم، وقد يكونون على حق في هذا الفخر، لأنهم كانوا يتمتعون قبل الزواج بقسط كبير من الحرية، وكان الكثيرون من الأزواج يقبلون أن يشترك معهم غيرهم وخاصة إخوتهم في زوجاتهم(62). وكان الطلاق نادراً، وقد عوقب ليساندر Lysander القائد الإسبارطي لأنه هجر زوجته وأراد أن يتزوج أخرى أجمل منها(63).
وكان مركز المرأة بصفة عامة في إسبارطة خيراً منه في أي مجتمع يوناني آخر، فقد احتفظت فيها أكثر من سائر المدن اليونانية بمكانتها الهومرية العالية وبالمزايا التي بقيت لها من أيام المجتمع القديم الذي كان الأبناء فيه ينسبون إلى أمهاتهم.. وفي ذلك يقول بلوتارخ إن النساء الإسبارطيات كن يمتزن "بالجرأة والرجولة، وبالتشامخ على أزواجهن.. وكن يتحدثن بصراحة حتى في أهم الأمور"؛ وكان من حقهن أن يرثن ويورثن، وقد آلت لهن على مر الوقت نصف الأملاك الثابتة في إسبارطة بفضل ما كان لهن من سيطرة قوية على الرجال(65). وكن يعشن في بيوتهن عيشة الترف والحرية، على حين كان الرجال يقاسون أهوال الحروب الكثيرة، أو يطعمن الطعام البسيط مع سائر الرفاق.
ذلك أن الدستور الإسبارطي كان يفرض على كل رجل من سن الثلاثين إلى الستين أن يتناول وجبته اليومية الرئيسية في مطعم عام كبير، وكان الطعام فيه بسيطاً في نوعه وأقل قليلاً في كميته مما يلزم للشخص العادي. وكانت هذه القلة في الطعام متعمدة يقصد بها المشترع- كما يقول بلوتارخ- أن يعودهم الصبر على ما يلاقونه في الحرب من حرمان، وأن يحول بينهم وبين ما ينشأ في عهود السلم من تدهور وانحطاط؛ فكان يحرم عليهم "أن يقضوا حياتهم في البيوت، ينامون على الفراش الوثير ويطعمون الطعام الشهي، يسلمون أنفسهم إلى أيدي التجار والطهاة، يتخمونهم في أركان الدور كما يتخمون الحيوانات الشرهة، فلا يفسدون بذلك عقولهم فحسب بل يفسدون أجسامهم كذلك، فإذا ما انحطت قواهم بسبب ذينك الانهماك والإفراط، أصبحوا في حاجة إلى النوم الطويل والاستحمام بالماء الساخن والتحرر من العمل؛ وجملة القول أنهم يصبحون لا يعنون بعمل شيء ولا يشرفون على شيء كأنهم مصابون بعلة دائمة لا يبرءون منها"(66).وكانوا يحصلون على المواد اللازمة لهذه الوجبة العامة بأن يطلب إلى كل شخص أن يقدم في فترات معينة إلى النادي الذي يطعم فيه كميات محددة من الحبوب وغيرها من الطعام؛ فإذا لم يقدمها حرم من حقوق المواطنين.
وكانت هذه البساطة في المأكل والمشرب، وكان هذا التقشف في المعيشة اللذان يدرب عليهما الشاب الإسبارطي يمتدان في القرون الأولى بعد وضع القانون إلى ما بعد سن الشباب. ولذلك كانت البدانة نادرة في لسديمون؛ نعم إنهم كانوا يسنوا قانوناً يحدد حجم المعدة، ولكن إذا كبر بطن الرجل كبراً معيباً، كان عرضة لأن تؤنبه الحكومة علناً على هذا الكبر أو أن تنفيه من لكونيا(67). ولم يكن في إسبارطة إلا القليل من السُكْر واللهو المنتشرين في أثينة؛ وكان ثمة فروق حقيقية في الثروات، ولكنها كانت فروقاً خفية؛ فقد كان الأغنياء والفقراء يلبسون الثياب البسيطة نفسها- وهي قميص من الصوف يتدلى من الكتفين من غير تظاهر بجمال أو اختيار شكل معين له؛ وكان الإكثار من الثروة المنقولة من أصعب الأمور، وكان ادخار نقود حديدية تبلغ قيمتها نحو مائة ريال أمريكي يتطلب صندوقاً كبيراً، ولم يكن نقل هذا القدر من المال يحتاج إلى أقل من ثورين(68)، ذلك أنه كان من المستطاع شراء الإفورين، وأعضاء مجلس الشيوخ، والرسل، وقواد الجيش، والملوك بأثمان تتفق مع مكانتهم(69). ولما أن عرض سفير من جزيرة ساموس صحافة الذهبية في إسبارطة حتم الملك كليومنيس الأول استدعاءه منها لئلا يفسد مواطنوه بهذا المثل الأجنبي(70).
وكان نظام الحكم الإسبارطي، لخوف الأهلين من هذه العدوى، غير كريم في معاملة الأجانب إلى حد لم يسبق له مثيل. فقلما كان الأجانب يرحب بهم في البلاد، وكانوا يفهمون عادة أن زياراتهم يجب ألا تطول، فإذا طالت فوق ما يجب صحبهم رجال الشرطة إلى حدود البلاد. وكان يحرم على الإسبارطيين أنفسهم أن يخرجوا من بلادهم إلا بإذن من الحكومة؛ كما كان يقلل من تشوفهم بتعويدهم العزلة المتعجرفة التي لا يحلمون معها أن في وسع غيرهم من الأمم أن تعلمهم شيئاً(71)؛ وكان لا بد لهذا النظام أن يكون غير كريم إلى هذا الحد ليحمي بذلك نفسه؛ لأن ريحاً تهب من هذا العالم المحرم عليه، عالم الحرية، والترف، والآداب، والفنون، قد تدك هذا النظام المصطنع العجيب الذي كان ثلثا الشعب فيه من الأقنان وكل السادة فيه من الرقيق.
6- ما لإسبارطة وما عليها
ترى أي طراز من الرجال وأي نوع من الحضارة أنتجهما هذا القانون؟ فأما الرجال فكانوا أقوياء الأجسام ألفوا المشاق والحرمان. وقد قال عنهم أحد السيباريين Sybarites المترفين إن الإسبارطيين "لا يمدحون على استعدادهم للموت في ميدان القتال لأن موتهم هذا ينجيهم من كثير من العمل الشاق ومن الحياة البائسة"(72). وكانت صحة الجسم من الفضائل الرئيسية في إسبارطة، كما كان المرض جريمة فيها؛ وما من شك في أن أفلاطون قد سره أن يجد بلاداً خالية من الدواء ومن الدمقراطية. وكان الإسبارطي شجاعاً؛ وما من أحد من الناس غير الرومان يضارعه في ثبات جنانه وفي انتصاره في الحروب؛ وليس أدل على ذلك من أن بلاد اليونان كلها لم تكد تصدق أن الإسبارطيين قد استسلموا لأعدائهم في اسفكتيريا Sphacteria؛ ذلك أنه لم يسمع عنهم من قبل أنهم لم يحاربوا إلى آخر رجل فيهم، وحتى الجندي الإسبارطي العادي كان يفضل الانتحار على الحياة بعد الهزيمة(73). ولما وصلت إلى آذان الإفورين أنباء هزيمة الإسبارطيين المنكرة في لوكتر Leuctra- وكانت هزيمة ماحقة اختتم بها في واقع الأمر تاريخ إسبارطة- وكانوا وقتئذ على رأس الألعاب الجمنوبودية، لم ينطقوا بكلمة واحدة. وكل ما فعلوه أن أضافوا إلى سجل الموتى المقدسين الذين نالوا شرف الموت في الألعاب أسماء القتلى الجدد. وكان من الصفات العادية التي يتصف بها كل مواطن إسبارطي، والتي كان يكتب عنها الأثينيون ولكنهم قلما كانوا يتحلون بها، كان من هذه الصفات ضبط النفس، والاعتدال والهدوء، والثبات في السراء والضراء.
وإذا كانت إطاعة القانون فضيلة فقد كان الإسبارطي يفوق في هذه الفضيلة سائر الناس. وفي ذلك يقول الطبيب دمراتوس Demaratus لخشيارشاي: "إن اللسديمونيين، وإن كانوا أحراراً، ليسوا أحراراً في كل شيء، لأن القانون سيدهم الأعلى، يخافونه أكثر مما يخافك شعبك"(74). وقل أن تجد شعباً غيرهم- مع جواز استثناء الرومان واليهود في العصور الوسطى- كان احترامه لقوانينه سبباً في قوته. وقد ظلت إسبارطة مائتي عام على الأقل تزداد قوة على قوة تحت حكم دستور ليكرجوس، وهي وإن عجزت عن فتح أرجوس وأركاديا، قد أقنعت جميع البلوبونيزيين أن يقبلوا زعامتها لحلف البلوبونيز الذي ساد بفضله السلام في جزيرة بلوبس ما يقرب من قرنين كاملين (560-380ق.م). وكانت بلاد اليونان على بكرة أبيها تعجب بجيش إسبارطة وحكومتها، وتتطلع إلى معونتها في ثل عروش الطغاة الظالمين. ويحدثنا زنوفون عن "الدهشة التي عرتني حين لاحظت أول مرة موقع إسبارطة الفذ بين دول اليونان، وعدد سكانها القليلين بالنسبة لغيرها من الدول، وقوة شعبها ومنزلته العالية بالرغم من هذه القلة. وقد حيرني تعليل قوة هذا الشعب ومنزلة هذه الدولة. ولم تزل هذه الحيرة إلا حين فكرت في أنظمة الإسبارطيين العجيبة"(75). ولم يكن زنوفون يمل من الثناء على أساليب الإسبارطيين، كما لم يكن أفلاطون وبلوتارخ يملان من الثناء عليهم. ولا حاجة إلى القول بأن إسبارطة هي التي وجد فيها أفلاطون الخطوط الرئيسية لمدينته الفاضلة، التي طمس معالمها بعض الشيء إغفاله العجيب للمثل العليا. ولقد كان كثيرون من المفكرين اليونان يعمدون إلى تمجيد نظام إسبارطة وشرائعها بعد أن ملوا ما في الدمقراطية من انحطاط وفوضى وأوجسوا في أنفسهم خيفة منهما. والحق أنهم كانوا يستطيعون الثناء على إسبارطة لأنهم لم يضطروا إلى المعيشة فيها، ولم يروا عن كثب ما في أخلاق الإسبارطيين من أنانية، وبرود، وقسوة، ولم يتبينوا ممن يرونهم من الصفوة التي التقوا بها منهم، أو من الأبطال الذين يمجدونهم عن بعد، أن الشرائع الإسبارطية كانت تخرج جنوداً بواسل ولا شيء غير الجنود، وأنها جعلت قوة الجسم وحشية مرذولة لأنها أماتت الكفايات العقلية كلها تقريباً. ذلك أنه لما أصبح لهذا القانون المقام الأول في البلاد أصاب الموت فجأة جميع الفنون التي ازدهرت قبل سيادته، فلم نعد نسمع بعدئذ عن شعراء أو مثالين، أو بنائين في إسبارطة بعد عام 550 ق.م ، ولم يبق فيها إلا الرقص الجماعي والموسيقى، لأن فيهما يمكن أن يتجلى النظام الإسبارطي وأن يختفي الفرد ويضيع في المجموع. ولقد كان من أثر حرمان الإسبارطيين أن يتجروا مع العالم، ومنعهم من الأسفار، وجهلهم بعلوم بلاد اليونان وآدابها وفلسفتها الآخذة في الظهور والنماء، أن أصبحوا أمة من الجنود المشاة المدرعين الثقال، لا ترقى عقليتهم فوق مستوى الذين قضوا في هذه الجندية حياتهم كلها. ولقد كان الرحالة اليونان يعجبون من هذه الحياة البسيطة الخالية من الرونق والبهاء، ومن هذا القدر الضئيل المقيد من الحرية، وهذه المحافظة الشديدة على كل عادة وكل خرافة، وهذه الشجاعة التي كانت موضع الإجلال، وذلك النظام الصارم، وهذا الخلق النبيل، وذلك الغرض الدنيء الذي لا يؤدي إلى غاية. وعلى بعد لا يزيد على مسيرة يوم واحد على ظهور الجياد كان الأثينيون يشيدون من آلاف المظالم والأخطاء صرح حضارة واسعة المدى، قوية في أعمالها، تتقبل كل فكرة جديدة، حريصة على الاتصال بالعالم، متسامحة متنوعة، معقدة، مترفة، مبتدعة، متشككة، واسعة الخيال، شعرية، مشاغبة، حرة. لقد كان ما بين أثينة وإسبارطة من التناقض هو الذي صبغ التاريخ اليوناني بصبغته المعروفة ورسم خطوطه الرئيسية.
ولقد قضى ضيق أفق إسبارطة في آخر الأمر على مالها من قوة نفسية، ذلك أن نفسيتها قد انحطت حتى صارت ترتضي كل وسيلة تؤدي إلى غرض إسبارطي، وبلغ من ذلتها في آخر الأمر للغزاة أن باعت للفرس تلك الحريات التي كسبتها بلاد اليونان في مراثون. لقد استحوذت عليها النزعة العسكرية وجعلتها سوط عذاب لجيرانها بعد أن كانت في مكان الشرف منها، ولما أن سقطت، عجبت الأمم كلها من سقوطها، ولكن ما من أمة حزنت لها. ولا نكاد اليوم نجد بين الأنقاض القليلة الباقية من هذه العاصمة القديمة نقشاً واحداً أو عموداً ملقى على الأرض يعلن للعالم أن اليونان كانوا في يوم من الأيام يسكنون في هذا المكان.
الفصل الرابع: الدول المنسية
يمتد وادي نهر يوروتس Eurotas في شمال إسبارطة إلى جبال أركاديا المتجمعة بعد أن يجتاز حدود لكونيا. ولو أن هذه الجبال كانت أقل مما هي خطورة لكانت أكثر مما هي جمالاً. ويلوح أنها لم ترحب بالطرق الضيقة التي نحتت في منحدراتها الصخرية، وأنها تهدد بقتامها كل من يحاول الاعتداء على هذه الملاجئ الأركادية المنعزلة؛ فلا غرابة والحالة هذه إذا ضل فيها الفاتحون الدوريون والإسبارطيون وتركوا أركادية كما تركوا إليس وآخيا للسلالات الآخية والبلاسجية. ويعثر السائح في أماكن متفرقة من هذا الإقليم على سهل أو هضبة ، كما يجد فيه مدناً جديدة زاهرة كمدينة تريبوليس Tripolis، أو بقايا مدن قديمة كمدائن أركمنوس Orchomenos، ومجالو بوليس Megalopolis، وتيجيا Tegea، ومنتينيا Mantinea حيث انتصر أباميننداس ولاقى حتفه. ولكنها في معظم أجزائها أرض يسمنها فلاحون ورعاة متفرقون يعتمدون على موارد مزعزعة غير ثابتة، ويعيشون هم وماشيتهم على هذه التلال الضنينة؛ ومع أن هذه المدائن قد استيقظت بعد مرثون لتستقبل الحضارة والفن، فإن من الصعب أن نسلكها في قصة الحضارة قبل الحرب الفارسية. وفي هذه الغابات ذات الأشجار العمودية كان يجول الإله بان في وقت من الأوقات.
ويلتقي نهر يوروتس في أركاديا الجنوبية بنهر آخر أوسع منه شهرة وهو نهر ألفيوس Alpheus. وهذا النهر يشق طريقه شقاً سريعاً خلال سلاسل الجبال البرهازية Parhasian، ثم يتثنى ببطء حتى يدخل سهول إليس، ويرشد السائح إلى أولمبيا. ويحدثنا بوزنياس بأن الإليانيين(76) كانوا من أصل إيولي أو بلاسجي جاءوا إلى إيتوليا بعد أن عبروا الخليج. وكان أول ملوكهم إيثليوس Aethlius والد إندميون Endymion الذي أغوى جماله القمر فأغمضت عينيه وأرسلت عليه نعاساً سرمدياً، وما زالت تضاجعه على مهل حتى ولدت منه مائة بنت. وفي هذا المكان الذي يلتقي فيه نهر ألفيوس بنهر كلاديوس Cladeus المقبل من الشمال كانت المدينة المقدسة للعالم اليوناني كله؛ وقد بلغ من قدسيتها أن الحرب قلما أزعجتها، ومن أجل ذلك نَعِمَ الإيليون Elians بتاريخ استبدلوا فيه الألعاب بالحروب. وفي الزاوية المحصورة بين النهرين كانت الألتيس Altis أو التخوم المباركة لمقر زيوس الأولمبي. وكانت موجات الغزاة المتتابعة تحط رحالها في هذا المكان لتعبده، كما كان مندوبون عن هؤلاء الغزاة يعودون إليه فيما بعد في مواسم معينة ليسألوه العون ويغنوا مزاره بالنذور. وظلت ثروة هيكلي زيوس وهيرا وشهرتهما تزدادان جيلاً بعد جيل حتى انتصر اليونان على الفرس فحشد أكابر المهندسين والمثالين اليونان ليعيدوا بناء الهيكلين ويزينوهما وينفقوا في سبيل ذلك الأموال الطائلة اعترافاً بما كان لهما من فضل في هذا النصر. ويرجع تاريخ هيكل هيرا إلى عام 1000 ق.م، وآثاره أقدم ما بقي من آثار الهياكل في بلاد اليونان جميعها. وقد بقي من هذه الآثار أجزاء من ستة وثلاثين عموداً وعشرين تاجاً دورياً تشهد بأن هذه العمد قد أقيمت المرة بعد المرة، وأنها كانت تقام بأشكال مختلفة. ولا جدال في أنها صنعت في أول الأمر من الخشب. وكان جذع من أحدها وهو من شجر البلوط لا يزال قائماً حين أقبل بوزنياس على ذلك المكان، وبيده كراسته، في أيام الأنطونيين.
وإذا ما غادر الإنسان أولمبيا مر بموضع إيليس العاصمة القديمة ودخل آخيا التي فر إليها بعض الآخيين بعد أن استولى الدوريون على أرجوس وميسيني، وهي شبيهة بأركاديا في أنها بلاد جبلية يرعى على منحدراتها الرعاة الصابرون قطعان الماشية، ويصعدون إلى أعلاها أو ينزلون إلى أسفلها في فصول السنة المختلفة. ولا يزال ثغر بتراس القديم قائماً مزدهراً حتى الآن على الساحل الغربي؛ وهذا الثغر هو الذي قال بوزنياس عن نسائه إنهن "ضعفا عدد الرجال، وإنهن وفيات لأفروديتي إن كان في النساء وفاء"(77). وكانت هناك عدة مدن أخرى محتشدة في غير نظام على طول خليج كورنثة- إيجيوم Aegium، وهليس Helice، وإيجيرا Aegira، وبليني Pellene، وقد كادت كلها تصبح نسياً منسياً، ولكنها كانت في غابر الأزمان تعج بالرجال والنساء والأطفال، وما من أحد منهم إلا كان مركز العالم.
الفصل الخامس: كورنثة
وبعد أن يخترق السائح عدداً آخر قليلاً من الجبال يعود إلى سكيون مُستقر الدوريين. وفي هذه المدينة علم رجل يدعى أرثجراس Orthagoras العالم في سنة 676 حيلة ظل يلجأ إليها فيما بعد ذلك من القرون. فقد قال للفلاحين إنهم من نسل البلاسجيين أو الآخيين، على حين أن الأشراف المالكين للأرض والذين يستغلونهم من نسل الغزاة الدوريين؛ ثم أخذ يستثير نعرة غير المالكين العنصرية، وتزعمهم في ثورة موفقة، ونصب نفسه حاكماً بأمره عليهم، ووضع السلطة في أيدي طبقتي الصناع والتجار . وأصبحت سكيون في عهد خليفتيه العظيمين ميرون Myron وكليسثنيز مدينة يشتغل نصف أهلها بالصناعة، واشتهرت بأحذيتها وفخارها، وإن كانت لا تزال تسمى باسم ما ينمو فيها من الخيار.
وإلى شرقها تقوم المدينة التي كان موقعها الجغرافي والاقتصادي خليقاً بأن يجعلها أغنى بلاد اليونان وأرقاها ثقافة. تلك هي مدينة كورنثة. وكان موقعها على الخليج المسمى باسمها مما تحسدها عليه سائر المدن اليونانية؛ فقد كان في مقدورها أن تغلق باب الطريق البري الموصل إلى البلوبونيز، وفي وسعها أن تيسر أسباب التجارة البرية بين شمالي بلاد اليونان وجنوبيها، أو أن تفرض عليها ما تشاء من الإتاوات. وكان لها موان وسفن على خليجي ساروس وكورنثة. وقد أنشأت بين هذين البحرين "مزلقاً للسفن" (ديولكوس Diolcos)- أي طريقاً خشبياً تجر عليه السفن نحو أربعة أميال فوق الأرض على اسطوانات، وربحت من وراء ذلك كثيراً من الأموال . وكان لها قلعة منيعة تدعى أكروكورنثس Acrocorinthus وهي قلة من قلل الجبال يبلغ ارتفاعها ألفي قدم، ويغذيها بالماء نبع لا ينضب معينه أبداً. وقد وصف لنا استرابون المنظر الذي تقع عليه عين من يشرف على هذا المكان من القلعة، والمدينة مبسوطة على سطحين مدرجين من تحتها، والملهى المقام في الهواء الطلق والحمامات العامة العظيمة، والسوق ذات العمد، والهياكل البراقة، والأسوار التي تصد عنها الأعداء والتي تمتد إلى ميناء لكيوم Lechaeum على الخليج الشمالي. وكان على قمة الجبل نفسها هيكل لأفرديتي وكأنما أقيم ليرمز إلى صناعة من أهم صناعات المدينة(80).
وكان لكورنثة تاريخ يرجع في قدمه إلى الأيام الميسينية، واشتهرت المدينة في أيام هومر نفسه بثروتها الطائلة(81). وكان يحكمها بعد الفتح الدوري ملوك، ثم تولى حكمها الأشراف تسيطر عليهم أسرة البكيادي Bachiadae؛ ثم حدث فيها ما حدث في أرجوس، وسكيون، ومجارا، وأثينة، ولسيوس، وميليتس، وساموس، وصقلية، وفي كل مكان راجت فيه التجارة اليونانية، وهو استيلاء طبقة التجار ورجال الأعمال على السلطة السياسية بالثورة أو الدسائس. وهذا هو المعنى الحقيقي الذي يجب أن يفهم من قيام حكومات "الطغيان" أو الدكتاتوريات في بلاد اليونان في القرن السابع قبل الميلاد. ففي عام 655 استولى سيسيلوس على مقاليد الحكم. وكان قد نذر أن يخص زيوس بثروة كورنثة كلها إذا ما وصل إلى غرضه، فلما تم له الأمر فرض على جميع أملاك المدينة ضريبة سنوية قدرها عشرة في المائة من قيمتها، ووهب ما تجمع منها للهيكل، فلم تمض إلا عشر سنين حتى كان قد وفى بنذره وأبقى ثروة المدينة كما كانت من قبل(82). وقد وضع بحكمه المحبب المستنير الذي دام ثلاثين عاماً أساس رخاء كورنثة(83).
وكان حكم ولده القاسي بريندر أطول حكم للطغاة في تاريخ اليونان (625-585). وقد أقر فيه الأمن والنظام، ومنع استغلال الناس بعضهم بعضاً، وشجع الأعمال التجارية والصناعية، وناصر الآداب والفنون، وجعل كورنثة زمناً ما أولى المدائن اليونانية، ونشط التجارة بسك عملة رسمية(84)، كما نشط الصناعة بخفض الضرائب المفروضة عليها؛ وحل مشكلة التعطل بإقامة طائفة من المباني العامة وإنشاء المستعمرات في خارج البلاد؛ وحمى صغار رجال الأعمال من منافسة الشركات الكبرى بتحديد عدد الأرقاء الذي يجوز للرجل الواحد أن يستخدمهم في أعماله، وحرم استيرادهم بعد هذا التحديد(85)، وأنجى الأغنياء مما عندهم من الذهب الزائد على حاجتهم بأن أرغمهم على الاشتراك بذهبهم في صنع تمثال ذهبي لتزدان به المدينة؛ ثم دعا النساء ذوات المال في كورنثة إلى حفلة كبرى، جردهن فيها من أثوابهن الغالية وحليهم الثمينة، ثم أمرهن بالعودة إلى بيوتهن بعد أن أمم جمالهن. وقد خلقت له أعماله هذه أعداء كثيرين أقوياء، فلم يكن يجرؤ على الخروج دون حرس كبير، وكان لخوفه وعزلته نكداً قاسياً. وأراد أن يحمي نفسه من الثورات فعمل بالنصيحة الخفية التي أشار بها عليه زميله الطاغية ثراسيبولس الميليتي، وهي أن يقطع "الفينة بعد الفينة أطول ما في الحقل(86) من سنابل" . وأخذت سراريه يوجهن التهم إلى زوجته، حتى أثرن غضبه عليها، فألقاها في نوبة من نوبات هذا الغضب من فوق سلم القصر؛ وكانت حاملاً فماتت من شدة الصدمة، فما كان منه إلا أن حرق السراري ونفى ابنه ليكفرون Lycophron إلى كرسير Corcyra لأنه حزن على أمه حزناً لم يطق معه أن يتحدث إلى أبيه. ولما أن قتل الكرسيريون ليكفرون قبض بريندر على ثلاثمائة شاب من أشراف الأسر وأرسلهم إلى أليتس Alyattes ملك ليديا ليتخذهم خصياناً، ولكن السفينة التي أقلتهم مرت بساموس، فما كان من أهلها ألا أن أطلقوا سراح الشبان متحدين بعملهم هذا بريندر غير عابئين بغضبه. وعمر هذا الطاغية طويلاً، وعده البعض بعد موته من السبعة الحكماء في بلاد اليونان القديمة(87).
وثل الإسبارطيون بعد جيل من وفاته عرش الطغاة في كورنثة، وأقاموا مكانهم حكم الأشراف- ولم يكن ذلك لأن إسبارطة تعشق الحرية، بل لأنها كانت تفضل طبعة الملاك على طبقات رجال الأعمال. بيد أن ثروة كورنثة كانت تقوم على التجارة يعينها من حين إلى حين أتباع أفرديتي والألعاب الهيلينية العامة التي كانت تقام في برزخ كورنثة. وكانت العاهرات كثيرات في المدينة إلى حد جعل اليونان يطلقون اسم كورنثيازوماي Corinthiazomai على العهر نفسه(88). وكان من العادات المتبعة في كورنثة أن تخصص إلى هيكل أفرديتي نساء يحترفن فيه الدعارة ويأتين بأجورهن إلى الكهنة. وقد وصل إلى علمنا أن رجلاً يدعى زنوفون (وهو غير زنوفون قائد العشرة آلاف) وعد الإلهة خمسين محظية إذا أعانته على النصر في الألعاب الأولمبية. ويشير بندار الشاعر التقي إلى هذا النذر وهو يشيد بهذا النصر دون حياء أو اشمئزاز(89). ويقول استرابون إن "هيكل أفرديتي قد بلغ من الثروة أن كان له أكثر من ألف عبد من عبيد الهياكل، ومحاظ وهبهن الرجال والنساء للهيكل؛ وبفضل أولئك النسوة ازدحمت المدينة بالناس وعظمت ثروتها؛ من ذلك أن قادة السفن كانوا ينفقون أموالهم في المدينة بلا حساب". وكانت المدينة تشكر لهن حسن صنيعهن وتنظر إلى "أولئك السيدات الكريمات" نظرتها إلى المحسنين للشعب.
وفي ذلك يقول مؤلف قديم نقل عنه أثينيوس Athenaeus: "من العادات القديمة في كورنثة، كلما أرادت المدينة أن توجه دعاء إلى أفرديتي...، أن تستعين بأكبر عدد مستطاع من المحاظي ليشتركن في هذا الدعاء". وكان لهؤلاء المحاظي عيد ديني خاص بهن هو عيد الأفرديزيا Aphrodisia يحتفلن به احتفالاً فخماً محوطاً بضروب التقي والصلاح(92). وقد ندد القديس بولس في رسالته الأولى إلى الكورنثيين(93) بأولئك النسوة اللائي ظللن يمارسن حرفتهن في المدينة إلى أيامه.
وكان يسكن كورنثة في عام 480 ق.م خمسون ألفاً من المواطنين وثلاثون ألفاً من الأرقاء، وهذه النسبة بين الأحرار والعبيد عالية علواً غير مألوف في المدن اليونانية(94). وكان اقتناص اللذة والذهب هَمّ جميع الطبقات، يستنفد كل جهودهم فلا يبقى منها ما ينفقونه في الأدب والفنون إلا القليل. نعم إننا نسمع في القرن الثامن عشر عن شاعر يدعى يوملوس Eumelus ولكن الأدب اليوناني قلما يزدان بأسماء كورنثية. وكان بريندر يرحب بالشعراء في بلاطه، واستقدم أريون Arion من لسيوس لينظم شئون الموسيقى في كورنثة. واشتهر فخار المدينة وبرنزها في القرن الثامن؛ وكان من يعملون في طلاء مزهرياتها في القرن السادس أرقى أهل هذا الفن في بلاد اليونان كلها. ويحدثنا بوزنياس عن صندوق عظيم من خشب الأرز اختفى فيه سبسيلوس Cypselus من البكياديين، وحفر فيه الفنانون نقوشاً ظريفة ورصعوه بالعاج والذهب(95). والراجح أن عصر بريندر هو الذي أقامت فيه كورنثة لأبلو هيكلاً دورياً اشتهر بأعمدته السبعة المنحوت كل واحد منها من حجر واحد. ولا تزال خمسة من هذه الأعمدة قائمة إلى يومنا هذا توحي بأن كورنثة قد تكون أحبت الجمال في أكثر من صورة واحدة. ولربما كان الدهر والمصادفات قد ظلما هذه المدينة فلم يوفياها حقها من الشكر لأن تاريخها دونه رجال لا يدينون لها بولاء ولا يعترفون لها بفضل؛ ولو أتيح للماضي أن يطلع على ما كتب عنه في صحف المؤرخين لعجب مما يرى أشد العجب.
الفصل السادس: مجارا
لم تكن مجارا أقل حباً للذهب من كورنثة، وكانت التجارة عماد ثروة الأولى كما كانت عماد ثروة الثانية؛ لكنها تختلف عنها في أنها كان لها شاعر عظيم تحيا تلك المدينة القديمة في شعره، كأن ما قام فيها من الثورات هي بعينها الثورات التي قامت في بلادنا. وكانت المدينة تقع عند مدخل البلوبونيز نفسه، وكان لها مرفأ على كلا الخليجين، ومن أجل هذا كان موقعها يمكّنها من أن تساوم الجيوش المغيرة على تلك البلاد، وتفرض المكوس على التجارة؛ وقد أضافت إلى هذه التجارة صناعة للنسيج مزدهرة يشتغل بها رجال ونساء كانوا يسمون بلغة تلك الأيام الصادقة عبيداً. وقد بلغت المدينة أوج ازدهارها في القرنين السابع والسادس حين كانت تنازع كورنثة تجارة البرزخ؛ وهذا هو العهد الذي أنشأت فيه مستعمرات لها كانت بمثابة محطات تجارية انتشرت ما بين بيزنطية على البسفور حتى مجارا هبليا Megara Hyblaea في صقلية. وازدادت الثروة في المدينة زيادة مطردة؛ ولكنها تجمعت في أيدي طائفة قليلة برعت في جمعها، وبقيت جمهرة الشعب مكونة من أقنان معدمين بين أقلية موفورة الثراء(96)، يستمعون إلى الدعاة الذين يمنونهم يعيش أرخى وحياة أنعم من عيشهم وحياتهم. وفي عام 630 قرر ثياجينز Theagenes أن يصبح طاغية فيها، فأخذ يتملق الفقراء ويندد بالأغنياء، ثم قاد جماهير الغوغاء الجياع إلى مراعي الأغنياء أصحاب الأنغام، وأفلح في حمل العامة على أن يؤلفوا له حرساً خاصاً، فلما تألف ضاعف عدده، واستعان به على إسقاط الحكومة القائمة(97). وحكم ثياجينز مجارا نحو ثلاثين عاماً حرر في أثنائها الأقنان، وأذل الأقوياء؛ وناصر الفنون، ولكن أغنياء المدينة أنزلوه عن العرش حوالي عام 600؛ ثم قامت ثورة ثالثة أعادت الدمقراطية الشعبية، وصادرت أملاك زعماء طبقة الأشراف، واستولت على بيوت الأغنياء، وألغت الديون، وأصدرت قراراً يحتم على أصحاب الأموال أن يردوا إلى المدينين ما استولوا عليه من فوائد عن قروضهم(98).
وكان يثوجنيز Theognis حياً خلال هذه الثورات كلها، وقد وصفها في قصائد مليئة حقداً تصلح لأن تكون وصفاً لحرب الطبقات عندنا في هذه الأيام. ويقول عن نفسه (وهو مرجعنا الوحيد في هذا الموضوع) إنه من أبناء أسرة قديمة شريفة. وما من شك في أنه قد نشأ نشأة منعمة راضية، لأنه كان مرشداً، وفيلسوفاً، وعاشقاً لشاب يدعى سيرنس Cyrnus أصبح فيما بعد زعيم حزب الأشراف؛ وهو يسدي سيرنس هذا كثيراً من النصح، ولا يطلب إليه في نظير هذا إلا أن يحبه.وهو يشكو الصد كما يشكو سائر المحبين، وأجمل ما بقي من قصائد قصيدة ذكر فيها سيرنس بأنه لن يخلد اسمه إلا شعر ثيوجنيز.
هاأنذا قد جعلت لك جناحين تطير بهما
فوق البحر والأرض اللذين لا آخر لهما؛
وسيتردد اسمك على ألسنة الكثيرين،
وستكون رفيقاً لهم في مآدبهم وفي مرحهم.
وسيأمرك الشبان الذين يحبونك أن
تطربهم بالناي الفضي ذي الصوت الشجي؛
وإذا ما ذهبت إلى أطباق الثرى المظلمة،
إلى مستقر الموتى الذي يبعث الأسى في القلوب،
فلن ينقطع اتصالك بالمجد والشرف
بل سوف تجول في الآفاق اسماً مخلداً.
سيرنس، يتردد في بحار بلاد اليونان وسواحلها،
يعبر البحر المجدب من جزيرة إلى جزيرة
ولن تكون في حاجة إلى الخيل، بل سوف تنطلق بخفة
تحملك ربات الشعر ذوات التاج البنفسجي
وسيولع بذكرك كل من يولع بالغناء،
أجل، لقد جعلت لك جناحين، ولم أنل منك
في نظير هذا إلا السخرية التي تتلظى كالنار بين أضلعي.
وهو ينذر سيرنس بأن مظالم الأشراف قد توقد نيران الثورة فيقول:
إن الليالي حبالى، وستلد عما قريب
من ينتقمون لهذا الفساد الطويل الأمد.
إن العامة ليظهرون حتى الآن بمظهر الاعتدال،
ولكن سادتهم فاسدون عمى العيون.
وحكم النفوس النبيلة، الباسلة العالية،
لم تعرض السلام والانسجام للخطر في يوم من الأيام.
أما التشامخ والغطرسة والادعاء الكاذب
واغتصاب العدالة والحق والقانون،
والعبث بها بالحيلة والطمع والكبرياء،
أما هذا كله فهو الطريق الذي سيؤدي بنا إلى الخراب.
وحذار أن تحلم ياسيرنس
(وإن بدت لك الدولة هادئة غير مضطربة)
أن ستكون الدولة في مستقبلها متمتعة بالسلام والأمن؛
بل سيعقب هذا الهدوء الظاهر،
عاجلاً كان ذاك أو آجلاً، الدم المراق والنزاع .
وشبت نار الثورة فعلاً؛ وكان ثيوجنيز من بين من نفتهم الدمقراطية المنتصرة من البلاد، وصودرت أملاكه. فترك زوجته وأطفاله في رعاية بعض أصدقائه، وأخذ ينتقل من دولة إلى دولة - من عوبية، إلى طيبة، إلى إسبارطة، إلى صقلية؛ وكان يجد فيها بادئ الأمر الطعام والحفاوة جزاء له على شعره، ثم حل به بعدئذ ما لم يتعوده من ضنك شديد. وأنطقه غيظه بتلك الأسئلة يوجهها إلى زيوس، وما أشبهها بالأسئلة التي يوجهها أيوب إلى يهوه:
طوبى لك يا جوف يا ذا الحول والطول! إني أنظر إلى العالم وأنا مندهش غاية الدهشة، متحير من أساليبك فيه.. يا عجباً كيف ينطبق فعلك فيه على إدراكك للحق والباطل إذا كنت توزع نعمك على الصالح والطالح على حدٍ سواء؟ وإذن فكيف يعرف الناس كنه شرائعك أو يدركون معناها؟(101).
ويصب جام غضبه على زعماء الدمقراطية، ويرجو زيوس الإله الذي تخفى على الناس طرائقه أن ينعم عليه بشرب دمائهم(102). وهو يشبه مجارا بسفينة استبدل بقائدها ملاحون عاجزون لا يعرفون قيمة النظام في العمل(103). وتلك على ما نعلم هي أول مرة يستخدم فيها هذا التشبيه. ويقول إن بعض الناس أقدر من غيرهم بفطرتهم، وإن الأرستقراطية في صورة نظام لا بد منه؛ وهكذا نرى أن الناس في ذلك العهد القديم قد تبينوا أن الأغلبية لا تحكم قط. وهو يستخدم لفظ الأخيار hoi agathoi بمعنى الأشراف، ولفظ الأشرار أو الأراذل أو المنحطين hoi kokoi بمعنى السوقة. ويقول إن هذه الفروق المتأصلة لا يمكن استئصالها؛ "وإن الرجل الشرير لا يمكن أن يصبح صالحاً مهما علّمته"(105) - وقد يكون كل الذي يعنيه بقوله هذا أنه ما من تعليم يستطيع أن يجعل السوقي أرستقراطياً؛ وهو ككل المحافظين الخلَّص يحرص أشد الحرص على نقاء النسل، ويقول "إن ما في العالم من شرور ليس ناشئاً من شره الأخيار بل من سوء اختيارهم لأزواجهم ومن ضعف خصبهم"(106).
وهو يدبر مع سيرنس ثورة جديدة مقاومة للثورة السابقة؛ ومن رأيه أن الإنسان، وإن أقسم يمين الولاء للحكومة الجديدة، يجوز له أن يغتال الحاكم المستبد الظالم؛ ويتعهد بأن يعمل مع رفاقه حتى ينتقموا لأنفسهم من أعدائهم أشد انتقام. لكنه بعد أن قضى في النفي والعزلة كثيراً من السنين يرشو موظفاً من الموظفين ليمكنه من العودة إلى مجارا(107). ثم يشمئز نفسه من نفاقه هذا وينشد أبياتاً من الشعر يعبر فيها عن يأسه، وهي أبيات يكررها مئات من اليونان.
ليس في العالم نعمة
أحسن من ألا يولد الإنسان أو لا يرى الشمس!
ويليها أن يدركه الموت عاجلاً
ويدفن تحت أطباق الثرى.
وتراه في آخر حياته في مجارا رجلاً طاعناً في السن مهشماً، وقد أخذ على نفسه ألا يكتب شيئاً في السياسة ليضمن بذلك سلامته. ويجد سلواه في الخمر وفي زوجة صالحة(109)، ويحاول جهده أن يتعلم أخيراً أن كل شيء طبيعي يمكن أن يغتفر.
تعلم، يا سيرنس، تعلم أن تكون هادئ العقل؛
ووفق بين مزاجك وبين الجنس البشري والطبيعة البشرية،
وخذ تلك الطبيعة كما تجدها،
فهي مزيج من العناصر فيه الطيب وفيه الخبيث -
هكذا خلقنا كلنا، وليس في الإمكان أبدع مما كان.
فخير الناس لا يخلون من النقص، ومن بقي منهم
حين يراد الانتفاع بهم لا يقلون عن خيارهم.
ولو أن الأمر كان على عكس هذا
لما أمكن أن تسير شئون العالم!.
الفصل السابع: إيجينا وإبدورس
لقد رفعت الزلازل أو خلفت وراءها في عرض الخليج الممتد من مجارا إلى كورنثة جزيرة من أقدم الجزائر المنافسة لهاتين البلدتين في الصناعة والتجارة، وهي جزيرة إيجينا حيث نشأت في أيام ميسين مدينة عامرة كشفت في مقابرها كميات كبيرة من الذهب(111). وقد وجد القائمون الدوريون أرض الجزيرة جدباء مستعصية على الزراعة ولكنها جد صالحة للتجارة. ولما غزا الفرس بلاد اليونان لم تكن في الجزيرة إلا أرستقراطية من التجار الحريصين على أن يبيعوا المزهريات الرائعة والآنية البرونزية التي يصنعونها في حوانيتهم، ليشتروا بها العبيد الذين كانوا يستوردون منهم عدداً كبيراً ليعملوا في المصانع، أو ليبيعوها للمدن اليونانية. وقد قدر أرسطو حوالي عام 350 ق.م سكان إيجينا بنصف مليون منهم 000ر470 من العبيد(112). وفي هذه المدينة سكت أول عملة يونانية، وبقيت الموازين والمكاييل الإيجينية هي الموازين والمكاييل الرسمية في بلاد اليونان إلى أيام الفتح الروماني.
ولقد عرف أن هذه البيئة التجارية يمكن أن تتحول من الاهتمام بالثراء إلى الاهتمام بالفن حين كشف أحد الرحالة في عام 1911 في كومة من المخلفات التماثيل الجميلة القوية التي كانت تزدان بها في وقت من الأوقات قوصرة هيكل أفئيا Aphaea. أما الهيكل نفسه فقد بقي منه اثنان وعشرون من الأعمدة الدورية تحمل فوقها عوارضها. وأكبر الظن أن أهل إيجينا قد شادوا هذا المعبد قبيل الحرب الفارسية، وذلك لأن في التماثيل شواهد كثيرة من الطراز نصف الشرقي العتيق وإن كانت هندسة البناء من الطراز اليوناني. غير أننا لا نستطيع أن نجزم بهذا، فربما كان الهيكل قد شيد بعد سلاميس لأن التماثيل التي تصور الإيجينيين يهزمون الطرواديين قد تكون مجرد رمز للنزاع الدائم بين بلاد اليونان والشرق، وإلى النصر الذي أحرزه الأسطول اليوناني من عهد قريب على مرأى من إيجينا في سلاميس، وقد أمدت الجزيرة الصغيرة ذلك الأسطول بثلاثين سفينة منح اليونان إحداها بعد النصر الجائزة الأولى من جوائز الشجاعة.
ويستطيع السائح بعد رحلة بحرية ممتعة أن ينتقل من إيجينا إلى إبدورس، وهي الآن قرية لا يزيد سكانها على خمسمائة نسمة، ولكنها كانت في وقت من الأوقات من أشهر المدن في بلاد اليونان؛ فقد كان فيها، أو على الأصح على بعد عشرة أميال منها، في أخدود ضيق بين أعلى الجبال وبين شبه جزيرة أرجوس، الموطن الرئيسي لأسكلبيوس Asclepius إله الشفاء وبطله. وقد خاطبه أبلو نفسه على لسان الوحي في دلفي بقوله: "أي إسكلبيوس يا من ولدت لتكون مصدر السرور للخلق أجمعين، يا وليد الحب يا من أنجبتك لي كورونيس الجميلة عند إبدورس الصخرية"(113). ولقد بلغ من شفاهم إسكلبيوس من الكثرة حداً جعل بلوتو إله الحجيم يشكو إلى زيوس - وخاصة بعد أن أحيا رجلاً من الموت - أنه لا يكاد أحد يموت. وتحير زيوس في أمره، ولم يدر ما يفعل بالجنس البشري إذا لم يكن مآلهم الموت، فأرسل على إسكلبيوس صاعقة أهلكته(114). لكن الناس اتخذوه إلهاً منقذاً وعبدوه في تساليا أولا ثم في بلاد اليونان بعدئذ، وشادوا له في إبدورس أعظم تماثيله، وهناك أنشأ الكهنة الأطباء، الذي سُمّوا على اسمه بالأسكلبياويين، مصحة اشتهرت في بلاد اليونان جميعاً بنجاحها في علاج الأمراض. وأصبحت إبدورس فيما بعد لورديس Lourdes اليونان، يحج إليها الناس من جميع بلاد البحر الأبيض المتوسط، ينشدون فيها نعمة الصحة التي يعدها اليونان أعظم النعم جميعاً. وكانوا ينامون في الهيكل، ويتبعون بدقة النظام الذي يفرض عليهم، ويسجلون شفاءهم الذي يعتقدون أنه من المعجزات الإلهية على ألواح من الحجر لا تزال باقية في أماكن متفرقة بين خربات الأيكة المقدسة. ومن الأجور والهدايا التي كانت تجمع من هؤلاء المرضى شادت إبدورس دار تمثيلها وملعبها، ولا تزال مقاعدها ومراميها باقية إلى اليوم بالقرب من التلال المجاورة لها؛ وقبابها المرفوعة على العمد والتي تعد بقاياها المحفوظة في متحف المدينة الصغير، من أروع قطع الرخام المنقوش في بلاد اليونان. ويذهب اليوم أمثال هؤلاء المرضى إلى تنوس Tenos في السكلديس حيث يعالجهم قساوسة الكنيسة اليونانية(115) كما كان قساوسة أسكلبيوس يعالجون أسلافهم منذ ألفي عام وخمسمائة. أما القُلَّة القائمة التي كان أهل إبدورس يقربون عليها القرابين إلى زيوس وهيرا فقد أضحت الآن جبل سانت إلياس St. Elias المقدس. إن الآلهة تموت ولكن التقى والصلاح مخلدان.
وليس أعظم ما يحرص العلماء على مشاهدته في إبدورس هو خرائب أسكلبيوم التي سوبت بالأرض. فالمكان كثير الأشجار وليس في وسع السائح أن يرى الملهى الكامل الذي جاء لمشاهدته حتى يصل إلى منعطف في الطريق يبسطه أمامه عند سفح الجبل على هيئة مروحة ضخمة من الحجارة. ولقد شاده بوليكليتوس الأصغر في القرن الرابع قبل الميلاد، ولكنه لا يزال باقياً إلى اليوم، ويكاد يكون كاملاً لم ينقص منه شيء. وإذا وقف السائح في وسط المرقص (الأركسترا Orchestra) وهو مكان رحب مستدير مرصوف بالحجارة، وأبصر أمامه أربعة آلاف مقعد في صفوف متراصة يعلو بعضها وراء بعض، وقد نظمت تنظيماً رائعاً بحيث يكون كل مقعد منها مواجهاً له، وإذا ما تتبع بنظراته الممرات المتشعبة التي ترتفع ارتفاعاً سريعاً في خطوط مستقيمة من المسرح إلى سفح الجبل من ورائه، وتحدث بصوت خافت إلى أصدقائه الجالسين على أبعد المقاعد وأعلاها على مسافة مائتي قدم منه، وأيقن أن كل كلمة نطق بها قد سمعها هؤلاء الأصدقاء وفهموها، إذا ما فعل هذا تمثلت له إبدورس في أيام عزها ورخائها، وصور له خياله الجموع الهائلة مقبلة حرة مرحة من كل مدينة ومزار لتستمع إلى يوربديز، وسرى في نفسه إحساس، أقوى من أن يعبر عنه بلسانه، بحياة الهواء الطلق البهجة التي كان يستمتع بها اليونان الأقدمون.