قصة الحضارة - ول ديورانت - م 2 ب 3
صفحة رقم : 1686
قصة الحضارة -> حياة اليونان -> تمهيد في حضارة بحر إيجة -> عصر الأبطال -> الآخيون
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الباب الثالث: عصر الأبطال
الفصل الأول: الآخيون
عثر المنقبون في بوغاز كوي Keui Boghaz على ألواح حثية قليلة يرجع عهدها إلى حوالي عام 1323 ق.م تصف الأهجافا Ahhijava بأنهم شعب لا يقل في قوته عن الحثيين أنفسهم. وورد في سجل مصري يرجع إلى حوالي عام 1221 ق.م أن الأكيواشا Akaiwasha انضموا إلى غيرهم من "شعوب البحر" في غارة لوبية على مصر، ويصفهم بأنهم عصابات رحل "يقاتلون ليشبعوا بطونهم...(1)". والآخيون كما يصفهم هومر في شعره شعب يتكلم اللغة اليونانية يسكن جنوبي تساليا(2)، وإذا كان هذا الشعب قد أصبح أقوى القبائل اليونانية فإن هومر يطلق اسمه على جميع اليونان الذين حاربوا طروادة. ويصف المؤرخون والشعراء اليونان الذين عاشوا في أيام مجد البلاد الأدبي الآخيين، كما يصفون البلاسجيين، بأنهم أهل البلاد الأصليين، وأنهم كانوا يعيشون فيها من أقدم الأزمنة التي تعيها الذاكرة؛ وافترضوا من غير ما تردد أن الثقافة الآخية التي يصفها هومر كانت هي والتي سميناها في هذا الكتاب بالثقافة الميسينية ثقافة واحدة. وأخذ شليمان بهذا الرأي، وظل العلماء يأخذون به فترة قصيرة من الزمان.
ثم حدث في عام 1901 أن جاء رجل إنجليزي عنيد هو سير وليم ردجواي Sir William Ridgeway(3)، وزعزع هذه الثقة العزيزة على نفوس العلماء بقوله إن الحضارة الآخية، وإن اتفقت هي والميسينية في نواح كثيرة، تختلف عنها في تفاصيل هامة: (1) فالحديد لا يكاد يعرف في الحضارة الميسينية أما الآخيون فهم على علم به. (2) ويذكر هومر أن موتى الآخيين يحرقون؛ أما في تيرينز وميسيني فهم يدفنون، وهذا يدل على اختلاف هؤلاء وأولئك في عقيدتهم عن الحياة الآخرة. (3) والآلهة الآخية هي الآلهة الأولمبية، وهذه لا أثر لها قط في ثقافة ميسيني. (4) إن الآخيين يستعملون سيوفاً طويلة، وتروساً مستديرة ودبابيس للصدور مأمونة؛ ولم يعثر قط بين الآثار الميسينية على أدوات مشابهة لها في الشكل. (5) وبين الشعبين اختلافات كثيرة في ملابسهم وفي تصفيف شعرهم. واستنتج ردجواي من هذا أن الميسينيين بلاسجيون، وأنهم كانوا يتكلمون اللغة اليونانية، وأن الآخيين "كِلْت" شقر أو من شعوب أوربا الوسطى نزحوا إلى تلك البلاد مخترقين إبيروس وتساليا ابتداء من عام 2000 ق.م، وجاءوا معهم بعبادة زيوس، ثم غزوا البلوبونيز حوالي عام 1400، واتخذوا اليونانية لغة لهم، واتبعوا أساليب الحياة اليونانية، وأقاموا من أنفسهم زعماء إقطاعيين يحكمون من قصورهم الحصينة البلاسجيين الخاضعين لسلطانهم.
وتلك نظرية تلقي بلا شك كثيراً من الضوء على أصل أولئك القوم حتى لو اضطر العلماء إلى إدخال تعديلات جوهرية عليها. ومما يؤخذ عليها أن الآداب اليونانية لا تذكر قط شيئاً عن غارة آخية على بلاد اليونان؛ وأن ليس من الحكمة أن ترفض نظرة أجمع عليها العلماء بسبب زيادة تدريجية في استعمال الحديد، أو تبدل في أساليب الدفن أو تصفيف الشعر، وفي إطالة السيوف أو استدارة التروس أو التزين بدبابيس مأمونة. وأرجح من هذا الرأي أن نفترض، كما كان يفترض كتاب اليونان الأقدمون، أن الآخيين قبيلة يونانية انتشرت على أثر الزيادة الطبيعة في عددها من تساليا إلى البلوبونيز في خلال القرنين الرابع عشر والثالث عشر، وامتزجت دماؤهم بدماء البلسجيين - الميسينيين الذين كانوا في تلك البلاد - وأنهم أصبحوا حوالي عام 1250 ق.م الطبقة الحاكمة فيها(4). وأغلب الظن أنهم هم الذين أخذ عنهم البلاسجيون اللغة اليونانية، ولم يأخذوها هم عن البلاسجين. وقد تكون ألفاظ كورنثة، وتيرينز، وبارنسس Parnassus، وأولمبيا وأمثالها من أسماء الأماكن، قد تكون هذه أصداء للغة كريتية - بلاسجية - ميسينية(5). وبهذه الطريقة عينها، فيما يبدو لنا، فرض الآخيون آلهتهم الجبلية والسماوية على الآلهة تحت الأرضية التي كان يعبدها مَن قبلهم من الأهلين. أما فيما عدا هذا فليس ثمة فارق واضح بين الثقافة الميسينية وذلك الطور الأخير منها، وهو الآخية، الذي نجده في أشعار هومر. ويلوح أن أساليب الحياة عند هؤلاء وأولئك قد امتزجت وانصهرت حتى أمست أساليب واحدة. ثم انمحت الحضارة الإيجية ببطء بعد أن جرى هذا الامتزاج في مجراه، وقضي عليها القضاء الأخير في هزيمة طروادة؛ ومن ذلك الوقت بدأت الحضارة اليونانية.
الفصل الثاني: خرافات الأبطال
توحي إلينا خرافات عصر الأبطال بأصل الآخيين وبما آل إليه أمرهم. وليس من حقنا أن نغفل هذه القصص، فهي وإن سادها خيال القتل وإراقة الدماء قد يكون فيها من الحقائق التاريخية أكثر مما نظن، وهي ممتزجة بالشعر والمسرح والفن اليوناني امتزاجاً يجعل فهمها مستحيلاً بغير هذه القصص . وتذكر النقوش الحثية اسم ملك يدعى أتارسياس Atarissyas تقول إنه ملك الأهيجافا في القرن الثالث عشر قبل الميلاد؛ وأكبر الظن أنه هو أتريوس ملك الآخيين(6). وتقول الأساطير اليونانية إن زيوس أعقب تنتالوس Tantalus ملك فريجيا ، وإن هذا أعقب بلبس Pelops، وأعقب بلبس أجممنون. ولما ُنفي بلبس من وطنه جاء إلى إليس في غرب البلوبونيز حوالي 1283 وصمم على أن يتزوج هبودوميا Hippodomia ابنة أونوماؤس Onomaus ملك إليس. ولا تزال القوصرة الشرقية فوق الهيكل العظيم المقام لزيوس في أولمبيا تقص علينا قصة خطبتهما. وقد كانت عادة الملك أن يختبر من يتقدمون لخطبة ابنته بأن يتبارى وإياهم في سباق المركبات، فإذا سبقه الخطيب تزوج هبودوميا؛ أما إذا لم يسبقه فإنه يقتل. وحاول كثير من الخاطئين أن يفوزوا بها، ولكنهم خسروا السباق وخسروا حياتهم جميعاً؛ وأراد بلبس أن يقلل ما يتعرض له من الأخطار بأن أرشى مريتلوس Myrtilus سائق عربة الملك ليزيل المسامير التي تربط عجلات العربة بقطبها، ووعده بأن يقتسم معه المملكة إذا أفلحت خطتهما. وحدث في أثناء المباراة أن انكسرت عربة الملك وقتل، وتزوج بلبس هبوداميا وحكم إيليس، ولكنه لم يقتسم مملكته مع مرتيلوس بل ألقاه في البحر؛ وصب مرتيلوس وهو يغرق لعنة على بلبس وعلى جميع نسله.
وتزوجت ابنة بلبس سثنلوس Sthenelus بن برسيوس ملك أرجوس؛ وورث الملك من بعده ابنهما يوريسثيوس Eurystheus، ولما مات خلفه عمه أتريوس. وتزوج أجممنون ومنلوس Menelaus ابنا أتريوس، كليتمنسترا وهلن ابنتي تنداريوس Tyndareus ملك لاسيديمون Lacedoemon، ولما مات أتريوس وتنداريوس اقتسم أجممنون ومنلوس فيما بينهما بلاد البلوبونيز الشرقية بأجمعها، وحكماها من عاصمتيهما ميسيني وإسبارطة، وسميت تلك البلاد بلوبونيز أو جزيرة بلوبس نسبة إلى جدهما، بعد أن نسي أحفاده لعنة مرتيلوس. وكانت بقية بلاد اليونان في ذلك الوقت تجد في إنجاب الأبطال، وكانوا يعملون في الغالب في تشييد المدن. وتقول الرواية اليونانية إن زيوس غضب على الجنس البشري لما كان يقترفه من مظالم، فسلط عليه طوفاناً جائحاً لم ينج منه إلا رجل واحد هو ديوكاليون Deucalion وزوجته بيرها Pyrrha في فلك أو صندوق استقر على جبل بارنسس. وتناسلت من هِلِّن Hellen بن ديوكاليون جميع القبائل اليونانية، واشتق من اسمه هلين Hellenes اسم هذه القبائل مجتمعة. وكان هِلِّن جد أخيوس Acheus وأيون Ion اللذين تناسلت منهما القبائل الآخية والأيونية، واستقرتا بعد تجوال طويل أولاهما في البلوبونيز والثانية في أتكا. وأنشأ سكربس أحد أبناء أيون بمعونة الإلهة أثينة في موضع كان البلسجيون قد استقروا من قبل على رابية فيه المدينة التي سميت فيما بعد باسمها وهي مدينة أثينة(8). وتقول القصة : إنه هو الذي نشر الحضارة في أتكا، وسن شريعة الزواج، وحرم التضحية بالأحياء، وعلم رعاياه عبادة الآلهة الأولمبية، وخاصة زيوس وأثينة.
وحكم أبناء سكربس وأحفاده أثينة وكانوا ملوكاً عليها. وكان رابع من حكمها من نسله إركثيوس Erechtheus الذي ألهته المدنية وأقامت له فيما بعد هيكلاً من أجمل هياكلها. وجمع حفيده ثسيوس حوالي 1250 ق.م قرى أتكا الاثنتي عشرة في وحدة سياسية سُمّي سكانها فيما بعد أينما كانوا بالأثينيين. ولعل السبب في أن اسم أثينة اليوناني ينطق به بصيغة الجمع كما ينطق أيضاً باسم طيبة وميسيني هو أنها نشأت في بداية أمرها من اجتماع سكان عدة قرى متجاورة. وكان ثسيوس هو الذي وهب أثينة النظام والقوة، وقضى على عادة التضحية بأبنائها قرباناً لمتيوس، وأمن أهلها في ترحالهم بقتل قاطع الطريق بركرستيس Procrustes الذي كان يجب أن يمد سيقان أسراه أو يقطعها حتى تكون في طول سريره. وعبدت أثينة ثسيوس بعد وفاته واتخذته هو أيضاً إلهاً لها. وجاءت المدينة في عام 476 ق.م أي في عصر التشكك أيام بركليز، جاءت بعظام ثسيوس من اسكيروس Scyros وأودعتها آثاراً مقدسة في هيكل ثسيوس.
وقامت في شمال أثينة في بؤوتية Boeotia حاضرة أخرى تنافسها، وكان لها مثلها تاريخ مثير للمشاعر، قدر له أن يكون محور المسرحيات اليونانية في عصر البلاد الأدبي. فقد أنشأ الفينيقيون أو الكريتيون، أو كادموس Cadmus أحد أمراء المصريين في أواخر القرن الرابع عشر مدينة طيبة، عند ملتقى الطرق التي تعبر بلاد اليونان من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، وعلم منشئوها أهلها الحروف الهجائية، وقتلوا التنين (ولعل هذا رمز قديم لوباء معد أو فتاك) الذي كان يمنع الأهلين من الانتفاع بماء العين الأرية Areian. وخرج من أسنان التنين التي غمرها كدموس في الأرض رجال مسلحون، أخذوا يقتتلون كما يقتتل اليونان في عصورهم التاريخية حتى لم يبق منهم إلا خمسة؛ وهؤلاء الخمسة هم الذين أنشئوا المدينة المالكة، على حد قول طيبة نفسها. وكان مركز حكومة المدينة حصناً يدعى كدمية Cadmeia أقيم على ربوة عثر فيها في هذه الأيام على "قصر كدموس" ، وحكم بعد كدموس من هذا الحصن نفسه ابنه بوليدوروس Polydorus، ثم حفيده ليدكوس Labdacus، ثم ابن حفيده لايوس Laius، وهو الذي قتله ابنه أوديبوس (أوديب) Oedipus كما يعرف العالم كله وتزوج أمه. ولما مات أوديب تنازع الملك أبناؤه كما يتنازع الأمراء على الدوام، وطرد إيتوكليز Eteocles أخاه بولينيسيز، فذهب هذا إلى أدراستوس Adrastus ملك أرجوس وأقنعه بالعمل على تنصيبه ملكاً. وحاول أدراستوس أن يقوم بهذه المهمة (حوالي 1213 ق.م) وشن على أثينة حرب (الأحلاف) السبعة، ثم عاد إلى حربها مرة أخرى بعد ستة عشر عاماً من ذلك الوقت في حرب الإبجوني Epigoni أو الأبناء السبعة. وفي هذه الحرب قتل إتيوكليز وبولينيسيز وحرقت طيبة عن آخرها.
وكان بين أشراف طيبة رجل يسمى أمفتريون Amphitryon متزوج من امرأة فاتنة تدعى ألكمين Alcmene. وزارها زيوس وأمفتريون غائب في حرب من الحروب واستولدها هرقليز (هرقل) Heracles أو هرقول Hercules. ولم تكن هيرا Hera تحب أن ينزل الآلهة في عبثهم إلى هذا الحد فأرسلت حَيَّتين لإهلاك الوليد في مهده؛ ولكن الطفل أمسك كل واحدة منهما بإحدى يديه وخنقهما جميعاً، ومن أجل ذلك سمى هرقليز لأنه ورث المجد عن هيرا. وحاول لينوس Linus، أقدم الأسماء في تاريخ الموسيقى، أن يعلم الطفل العزف والغناء، ولكن هرقليز لم يعبأ بالموسيقى، وقتل لينوس بقيثارته. ولما شب الطفل، وأصبح جباراً، شقياً، سمجاً، سكيراً، نهماً، تعهد أن يقتل أسداً كان يفتك بقطعان أمفتريون وثسيبوس. وقدم ثسيبوس ملك ثسيبا Thespiae بيته وبناته الخمسين إلى هرقليز. وقام البطل بما تعهد به على أحسن وجه(10)، فقتل الأسد واتخذ جلده لباساً له، وتزوج مجارة Megara ابنة كريون Creon الطيبي وحاول أن يحيا حياة مستقرة هادئة، ولكن هيرا سلطت عليه نوبة من الجنون، فقتل أبناءه على غير علم منه. وجاء إلى مهبط الوحي في دلفي يستنصحه، فأُشير عليه بأن يذهب إلى تيرينز، ويعيش فيها ويخدم يورثيوس ملك أرجوس مدى اثني عشر عاماً، يصبح بعدها إلهاً مخلداً. فصدع بالأمر وقام ليورثسيوس بالاثني عشر عملاً الذائعة الصيت. ولما أطلقه الملك عاد إلى طيبة، حيث قام بأعمال كثيرة شاقة، وانضم إلى ركاب السفينة أرجوس، ونهب طروادة فيمن نهبوها، وأعان الآلهة على أن تنتصر على المردة الجبابرة، وفك قيود بروميثيوس Prometheus، وأعاد الحياة إلى ألسستيس Alcestis، وقتل أصدقاءه في أوقات مختلفة بطريق الصدفة. واتخذه الناس بعد موته بطلاً وإلهاً وعبدوه. وإذا كان قد أحب فتيات يخطئهن الحصر فقد ادعت كثير من القبائل أنها من نسله .
واستقر أبناؤه في تراكيس Trackis في تساليا، ولكن يوريسثيوس خشي أن يخلعوه عن عرشه انتقاماً منه لما عاناه أبوهم على يديه من نصب لا ضرورة له، فأمر ملك تراكيس أن يخرجهم من بلاد اليونان. ولجأ أبناء هرقل إلى أثينة، وسيَّر يوريسثيوس إليهم جيشاً ليقاتلهم، ولكنهم هزموا الجيش وقتلوه. ولما جاءهم أتريوس على رأس قوة أخرى، عرض هيلوس Hyllus أحد أبناء هرقل أن يبارز أحد رجال أتريوس مشترطاً أنه إذا غلب خصمه استولى الهرقليون على مملكة ميسيني، وإذا هزم خرج الهرقليون فلا يعودون قبل مضي خمسين عاماً يمتلك أبناءهم بعدها ميسيني(12). فلما هزم خرج هو وأتباعه من البلاد، وبعد خمسين عاماً عاد إليها جيل جديد من الهرقليين. وكانوا هم، لا الدوريون، الذين رفضت مطالبهم، ففتحوا البلوبونيز، كما تقول الرواية اليونانية، وانتهى بهذا الفتح عصر الأبطال.
وإذا كانت قصة بلبس وأبنائه توحي بأن آسيا الصغرى هي أصل الآخيين، فإنا نستطيع أن نتتبع ما آل إليه أمرهم في قصة ركاب السفينة أرجوس، وهذه القصة ككثير غيرها من الخرافات التي تجمع بين الرواية التاريخية والقصص الشعبية عند اليونان تعد من أحسن القصص القديمة، لأن فيها جميع عناصر المغامرة، والارتياد، والحرب، والحب، والغموض، والموت، اندمجت كلها بعضها ببعض، وتكون منها نسيج غني خصب صاغ منه أبولونيوس الرودسي في أيام الحضارة المتأغرقة ملحمة جديدة متوسطة القيمة، بعد أن كاد الكتاب المسرحيون الأثينيون يبلونه بما صاغوه منه من مسرحيات. وتبدأ هذه الملحمة بقصة أوركمنوس البيؤوتي Boeotian وبالتضحية الآدمية، كما تبدأ مأساة أجممنون. ذلك أن الملك أثاماس Athamas، لما وجد أن بلاده قد حل بها القحط، عرض أن يقرب ابنه فركسوس Phrixus قرباناً للآلهة. وبلغ الخبر مسامع فركسوس ففر من أركمنوس بصحبة أخته هِليِ Helle بأن طار معها في الجو على ظهر كبش ذي جزة من الذهب. ولكن الكبش لم يكن ثابتاً في طيرانه فسقطت هلي من فوق ظهره وغرقت في المضيق الذي سمي فيما بعد الهلسبنت. أما فركسوس فوصل سالماً إلى البر واتخذ طريقه إلى كلكيز Colchis عند الطرف الشرقي من البحر الأسود، وهناك ضحى بالكبش وعلق جزته قرباناً لآريس Ares إله الحرب. وأقام أيتيس Aietes ملك كلكيز تنيناً لا تغمض له عين ليحرس الجزة، لأن نبوءة قد أوحت إليه أنه سيموت إذا استولى عليها رجل من غير أهل البلاد؛ وأراد أن يزيد اطمئناناً على نفسه فأمر أن يقتل كل من يأتي إلى كلكيز من الغرباء. وكانت ابنته ميديا Medea تحب الغرباء والأساليب الغريبة؛ وتشفق على أبناء السبيل وتساعدهم على الخروج من بلاد أبيها سالمين، فأمر أبوها بأن تمنع من الاتصال بالناس، ولكنها فرت إلى مكان مقدس بجوار البحر وعاشت هناك مكتئبة حزينة دائمة التفكير في أمرها حتى عثر عليها جيسن Jason في أثناء تجواله على شاطئ البحر.
وقبل عشرين عاماً من ذلك الوقت (والمؤرخون اليونان يقولون إن ذلك كان حوالي 1245) اغتصب بلياس Pelias بن بوسيدن Poseidon عرش إيسن Aeson ملك يولكوس Jolcus من أعمال تساليا. وأخفي أصدقاء الملك المخلوع ابنه الطفل جيسن، وشب هذا الطفل في الغابات حتى أصبح شاباً قوياً شجاعاً. وظهر يوماً من الأيام في السوق يرتدي جلد فهد ويحمل من السلاح رمحين، وطالب بمُلك أبيه. ولكنه كان يبلغ من السذاجة مبلغه من القوة. وأقنعه بلياس أن يقوم بعمل شاق يكون ثمناً لعرشه - وكان هذا العمل الشاق هو استعادة الجزة الذهبية. فصنع جيسن السفينة العظيمة أرجو (أي السريعة)، ودعا إلى صحبته في مغامرته أشجع شجعان اليونان، فلبّى الدعوة هرقل ومعه هيلاس Hylas رفيقه المحبوب؛ وجاء معهما بليوس Peleus والد أكليز، وثسيوس، ومليجر Meleager، وأرفيوس Orpheus والعذراء أتلنتا السريعة العَدْو. ولما دخلت السفينة الهلسبنت اضطرت إلى الوقوف، ولعلها قد وقفت في وجهها قوة من طروادة لأن هرقل ترك الحملة لينهب المدينة ويقتل ملكها لؤمدون Laomedon وأبناءه كلهم عدا بريام. ولما وصل ركاب السفينة أرجو إلى مقصدهم بعد أن لاقوا ألواناً من العذاب حذرتهم ميديا من الموت الذي ينتظر كل من جاء كلكيز من الغرباء؛ ولكن جيسن أصر على عزمه، ورضيت ميديا أن تساعده في الحصول على الجزة، إذا وعدها بأن يأخذها معه إلى تساليا، ويحتفظ بها زوجة له حتى مماته.
وعاهدها على ذلك واستولى بمعونتها على الجزة، وفر بها إلى سفينته ومعه ميديا ورجاله. وجرح الكثيرون منهم ولكن ميديا عالجتهم بالأعشاب والجذور. ولما وصل جيسن إلى بولكوس طالب بمملكته مرة أخرى، وتلكأ بلياس في إجابة طلبه، فما كان من ميديا إلا أن استعانت بفنون السحر فخدعت بنات يلياس وحملتهن على أن يغلين أباهن حتى يموت. وارتاع الناس من قواها السحرية فأخرجوها هي وجيسن من بولكوس وحرموه من العرش إلى أبد الدهر(13). ونترك بقية القصة إلى يوربديز.
إن الأسطورة في الكثير الغالب قطعة من الحكم الشعبية يخلق منها الشعر أشخاصاً. وكثيرا ما تكون الأسطورة قطعة من التاريخ تضخمت بفضل ما اتصل بها من قصص جديدة على مرّ السنين. وأكبر الظن أن اليونان قد حاولوا في الجيل السابق على حصار طروادة التاريخي أن يشقوا طريقهم في الهلسبنت ويفتحوا بلاد البحر الأسود للاستعمار والتجارة؛ وقد تكون قصة رجال السفينة أرجو ذكريات قديمة لهذا الارتياد التجاري صيغت في قالب المسرحيات؛ وقد تكون قصة "الجزة الذهبية" إشارة إلى الجلود الصوفية أو الأقمشة التي كانت تستخدم قديماً في شمالي آسية الصغرى للحصول على ما تحمله المجاري المائية من قطع ذهبية صغيرة(14). ولقد استقر اليونان فعلاً حوالي ذلك الوقت في جزيرة لمنوس Lemnos التي لا تبعد كثيراً عن الهلسبنت. لكن البحر الأسود لم يكن من البحار الصالحة للتجارة والاستعمار رغم اسمه المغري، وقامت طروادة الحصينة مرة أخرى بعد أن انتهبها هرقل تعترض سبيل من يخاطرون باجتياز المضيق؛ ولكن اليونان لم ينسوا ما فعلوه من قبل وعادوا من جديد يحاولون اجتيازه بمائة سفينة بدل سفينة واحدة، وأهلك الآخيون أنفسهم في سهل إليون ليحرروا الهلسبنت.
الفصل الثالث: الحضارة الهومرية
ترى كيف نستطيع أن نعيد تصوير حياة بلاد اليونان الآخية (1300-1100 ق.م) بالاستناد إلى أقاصيصها؟ أن أكثر ما نعتمد عليه من المصادر في رسم هذه الصورة هو أشعار هومر، وهو إنسان قد لا يكون له وجود، وقد قيلت ملاحمه بعد عصر الآخيين بثلاثة قرون على أقل تقدير. نعم إن علم الآثار قد أدهش الأثريين بأن أثبت أن طروادة، وميسيني، وتيرينز، ونوسس وغيرها من المدائن التي وضعتها الإلياذة كلها مدن حقيقية، كما أدهشتهم بالكشف عن حضارة ميسينية تشبه شبهاً عجيباً تلك الحضارة التي تتشكل من تلقاء نفسها بين أشعار هومر؛ ومن أجل هذا ينزع العلماء في هذه الأيام إلى أن يعدوا بعض الأشخاص المهمين الذين ورد ذكرهم في هذه القصص الخلابة أشخاصاً حقيقيين. لكننا مع هذا لا نستطيع أن نقول إلى أي حد تعكس قصائد هومر حال العصر الذي كان يعيش فيه الشاعر لا العصر الذي يكتب عنه. إذن فكل الذي في وسعنا أن نسأل عنه هو : ما هي الصورة التي كانت تتخيلها الرواية اليونانية كما جمعها هومر في أشعاره عن العصر الهومري؟ ومهما تكن هذه الصورة فإنا سنحصل منها على صورة من بلاد اليونان في طور الانتقال الظريف من الثقافة الإيجية إلى حضارة اليونان في العصور التاريخية.
1 - العمال
إن الصورة التي تنطبع في أذهاننا عن الآخيين (أي عن اليونان في عصر الأبطال) هي أنهم كانوا أقل حضارة من الميسينيين الذين سبقوهم، وأرقى حضارة من الدوريين الذين خلفوهم. وأهم ما نلاحظ فيهم أنهم كانوا أحسن أجساماً من هؤلاء وأولئك، فرجالهم طوال القامة أقوياء البنية، ونساؤهم ذوات جمال بارع فتان يسلب العقول بكل ما في هذا التعبير من معان. والآخيون ينظرون، كما ينظر الرومان الذين عاشوا من بعدهم بألف عام، إلى الثقافة الأدبية على أنها تدهور وتخنث. وهم لا يستخدمون الكتابة إلا مضطرين، ولا يعرفون من الأدب إلا الأغاني الحربية وأناشيد الشعراء الجوالين غير المكتوبة. وإذا جاز لنا أن نصدق هومر حق علينا أن نقول إن زيوس قد حقق في المجتمع الآخي آمال الشاعر الأمريكي الذي كتب يقول إنه لو كان إلهاً لجعل الرجال كلهم أقوياء، والنساء كلهن حساناً، ثم جعل نفسه بعد ذلك رجلاً. لقد كانت بلاد اليونان الهومرية جنة من الحور العين(15). وحتى رجالها كانوا على جانب كبير من الجمال، كان لهم شعر مرسل طويل، ولحى كبيرة؛ وكانت أعظم هدية يستطيع الرجل أن يهديها أن يقص شعر رأسه ويقربه قرباناً أمام كومة الحطب التي تحرق عليها جثة صديقه(16)؛ ولم يكن العري قد أصبح بعد عادة في البلاد، فكان النساء والرجال يغطون أجسامهم برداء مربع يطوونه فوق الكتفين، ويشبكونه بدبوس، ويصل إلى قرب الركبتين، وتضيف النساء إلى هذا نقاباً أو حزاماً، ويضيف الرجال غطاء للحقوين - قدر له أن يتطور على مر الزمن وازدياد الاحتشام والكرامة حتى أصبح هو اللباس ثم السروال (البنطلون). وكان الأغنياء يرتدون أثواباً غالية الثمن كالثوب الذي تقدم به بريام في ذلك إلى أكليز ليفتدي به ولده(17). وكان الرجال حفاة الأقدام والنساء عاريات الأذرع، إلا في خارج الدور فكانوا يحتذون جميعاً صنادل. أما في داخلها فكانوا في العادة حفاة. وكانوا رجالاً ونساء يتحلون بالجواهر، وقد أدهنت النساء وأدهن باريس "بالزيت الذي له رائحة الورد(18)".
ترى كيف كان يعيش أولئك الرجال والنساء ؟ يصفهم هومر بأنهم كانوا يحرثون الأرض، ويشمُون وهم فرحون الأرض السوداء بعد تقليبها، ويتتبعون بأعينهم في فخر وخيلاء الخطوط المستقيمة التي خطتها المحاريث، ويبذرون القمح ويروون الأرض، ويقيمون الجسور ليتقوا بها فيضان الأنهار في الشتاء(19). ويشعرنا هومر بيأس الفلاح الذي قضى الشهور الطوال في كدح مستمر، ثم يأتي "التيار الجارف السريع فيهدم الحواجز والجسور، ولا تستطيع سلسلة الأكوام الطويلة أن تكبح جماحه، أو أسوار البساتين المثمرة حين يفاجئها أن تقف في سبيله(20). وليست أرض البلاد مما يسهل فلحها لأن الكثير منها جبال أو مناقع، أو تلال كثيفة الأشجار؛ وكانت الحيوانات البرية تهاجم القرى، فكان الصيد ضرورة قبل أن يصبح رياضة وهواية. وكان الأغنياء يعنون بتربية قطعان كبيرة من الماشية، والضأن، والخنازير، والمعز، والخيل؛ ويُروى أن رجلاً منهم يسمى إركثونيوس Erichthonius كان له ثلاثة آلاف فرس ولود مع أمهارها(21). وكان الفقراء يأكلون لحم السمك، والبقول، والخضر أحياناً، أما المحاربون والأغنياء فكان جل اعتمادهم على اللحم المشوي الكثير، وكان فطورهم اللحم والنبيذ. وقد تغذى أديسيوس مع راعي خنازيره بخنزير صغير مشوي، وتعشيا بثلث خنزير عمره خمس سنوات". وكانوا يستعملون عسل النحل بدل السكر، ودهن الحيوان بدل الزبد، والكعك المصنوع من الحب بدل الخبز، فكانوا يجعلونه رقائق ثم يخبزونه على لوح من الحديد أو على حجر محمي. ولم يكن الآكلون يضطجعون في أثناء تناول الطعام كما كان الأثينيون يفعلون فيما بعد، بل كانوا يجلسون على كراسي ممتدة على طول الجدار لا مصفوفة حول مائدة وسطى. ولم يكونوا يستعملون الأشواك أو الملاعق أو الفوط إلا ما عسى أن يكون مع الضيوف من مدي؛ وكانوا يأكلون بأيديهم وأصابعهم(23)؛ وكان شرابهم الرئيسي حتى الفقراء والأطفال هو النبيذ المخفف. وكانت الأرض ملكاً للأسرة أو العشيرة لا للفرد؛ وكان الأب هو الذي يشرف عليها ويصرف شؤونها، ولكنه لم يكن من حقه أن يبيعها(24)، وتقول الإلياذة إن مساحات واسعة كانت من أملاك الملك المشاعة (الدومين)، وكانت في واقع الأمر ملكاً للمجتمع يستطيع أي إنسان أن يرعى فيها ماشيته؛ ونرى في الأوديسة أن هذه الأرض المشاعة قد قسمت وبيعت - أو أصبحت ملكاً للأفراد الأثرياء أو الأقوياء؛ وهكذا اختفت الأرض المشاعة في بلاد اليونان القديمة بنفس الطريقة التي اختفت بها في إنجلترا الحديثة(25).
وكان في مقدور الأرض أن تخرج المعادن كما تخرج الطعام، ولكن الآخيين أهملوا استخراج المعادن واكتفوا باستيراد النحاس، والقصدير، والفضة والذهب، ومادة أخرى جديدة عجيبة من أسباب الترف، وهي الحديد. فنرى كتلة غير مشكلة من الحديد تقدم هدية ثمينة في الألعاب التي أقيمت تكريماً لبتروكلوس Patroclus(26)، ويقول عنها أكليز (أخيل) إنه سوف يُصنع منها كثير من الأدوات الزراعية. وهو لا يذكر في هذا المقام شيئاً عن الأسلحة، وكانت لا تزال تصنع من البرنز(27)، وتصف الأوديسة سقي الحديد ، ولكن هذه الملحمة قد وصلت إلينا في أكبر الظن من عصر متأخر عن عصر الإلياذة. وكان الحداد أمام كوره، والفخراني أمام عجلته، يعملان في حانوتيهما، وكان غيرهم من الصناع الذين ورد ذكرهم في أشعار هومر - كصناع السروج، والبنائين، والنجارين، وصناع الأثاث - كان هؤلاء يعملون في منازل من يكلفونهم بعمل لهم؛ ولم يكونوا يعملون للأسواق، أو للبيع، أو للكسب؛ وكانوا يداومون العمل ساعات طوالاً، لكنهم كانوا يعملون على مهل وليس وراءهم دافع من المنافسة الظاهرة(29). وكانت الأسرة نفسها تقوم بصنع أكثر حاجياتها، فكان كل فرد يعمل بيديه، وكان رب الأسرة، بل كان الملك المحلى نفسه مثل أديسيوس، يصنع ما يحتاجه بيته من سرر وكراسي، وما يلزمه هو من أحذية وسروج، وكان - على عكس اليونان المتأخرين - يفخر بمهارته في الأشغال اليدوية. ولقد كانت بنبي، وهلين، وأندروماك وخادماتهن لا ينقطعن عن الاشتغال بالغزل والنسج والتطريز، والأعمال المنزلية. وتبدو هلين وهي تعرض تطريزها على تلماك(30)، أجمل منها وهي تتبختر فوق أسوار طروادة.
وكان الصناع من الأحرار، ولم يكونوا قط من الرقيق كما كانوا عند اليونان الأقدمين؛ وكان من المستطاع عند الحاجة تجنيد الفلاحين للعمل في خدمة الملك، ولكننا لا نسمع قط بالأقنان اللاصقين بالأرض المرتبطين بها؛ ولم يكن الأرقاء كثيرين، ولم تكن منزلتهم منحطة، وكان معظم الرقيق من الجواري خادمات المنازل، وكانت منزلتهن في الواقع لا تقل عن منزلة خادمات المنازل في هذه الأيام، إذا استثنينا أنهن كن يُشترين أو يبعن لآجال طوال، لا للقيام بأعمال قصيرة غير ثابتة كحالهن في هذه الأيام. وكن في بعض الأحيان يعاملن بقسوة وحشية؛ لكنهم في العادة كن كأعضاء في الأسرة التي يعملن لها، يُعنى بهن في مرضهن أو عجزهن أو شيخوختهن؛ وكن يرتبطن في بعض الأحيان بعلائق الود والمحبة مع رب الأسرة أو ربتها. فقد كانت نوسكا Nausica تساعد جواريها في غسل الملابس في النهر، وتلعب الكرة معهن، وتعاملهن في جميع الأحوال معاملة الرفيقات(31). وإذا ولدت الجارية ولداً من سيدها كان هذا الولد في العادة من الأحرار(32)، غير أنه كان ككل إنسان معرضاً لأن يكون رقيقاً إذا وقع أسيراً في الحرب أو في غارة القراصنة. وكان هذا أسوأ ما في الحياة الآخية.
والمجتمع الهومري مجتمع ريفي، وحتى "مدنه" لا تعدو أن تكون قرى تشرف عليها قلاع قائمة فوق التلال المجاورة لها. وكانت الرسائل تنقل على أيدي السُعاة أو الرُسل، وإذا كانت المسافة طويلة نقلت الرسالة بإشارات النار تبعث من إحدى قلل الجبال إلى قلة أخرى(33). وكان النقل البري تعوقه الجبال الخالية من الطرق، كما تعوقه المستنقعات، والمجاري الخالية من القناطر. وكان النجارون يصنعون عربات ذات أربع عجلات لها تروس وأطر من الخشب، ولكن معظم البضائع كانت رغم وجود هذه العربات تنقل على ظهور البغال أو الرجال؛ وكانت التجارة البحرية أقل مشقة من التجارة البرية رغم القراصنة والعواصف، فقد كانت الموانئ الطبيعية كثيرة، ولم تكن السفن تنقطع عن رؤية الأرض إلا في أثناء الرحلة الخطرة التي تدوم أربعة أيام من كريت إلى مصر. وكانت السفن عادة ترسو إلى البر في الليل، وينام البحارة والمسافرون في مكان أمين على الأرض. وكان الفينيقيون في العصر الذي نتحدث عنه لا يزالون أفضل من اليونان في التجارة والملاحة، وكان اليونان يثأرون لأنفسهم من هذا النقص باحتقار التجارة وإيثار القرصنة. ولم يكن عند اليونان الهومريين نقود، فكانوا يستخدمون بدل النقود المضروبة سبائك من الحديد، والبرنز، والذهب؛ وكان الثور والبقرة يتخذان واسطة للتبادل. وكانت السبيكة الذهبية التي تزن سبعة وخمسين رطلاً تسمى تالنت (من تالنتون أي وزنه(34)). وكانت المقايضة كثيرة رغم ما كان عندهم من وسائط متعددة للتبادل، وكانت ثروة الشخص تقدر بما عنده من بضائع وخاصة بما عنده من ماشية، لا بما يملك من قطع من المعدن أو الورق، قد تفقد قيمتها أو يعتريها التغيير والتبديل في أي وقت من الأوقات، إذا ما بدل الناس عقائدهم الاقتصادية. وفي أشعار هومر كما في الحياة الواقعية أغنياء وفقراء؛ ذلك بأن المجتمع أشبه ما يكون بعربة تجعجع في طريق لا مستو ولا معبد، ومهما أتقن صنع العربة وتركيبها فإن بعض ما تحمله من متاع سوف يرسب في قاعها ويطفو بعضه الآخر إلى أعلى سطحها. ولم يصنع الفخراني آنيته كلها من طينة واحدة، كما لم يصنعها كلها بنفس القوة والهشاشة؛ ومن أجل هذا لا يكاد يستهل عصر الكتاب الثاني من كتب الإلياذة حتى تستمع إلى حرب الطبقات، وحين يستشيط ثرسيتس Theresites غضباً ويطبق لسانه في أجممنون، ندرك من فورنا أن هذا عرض قديم من أعراض ذلك الداء المزمن الوبيل(35).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
2- الأخلاق
إنا ليخيل إلينا ونحن نقرأ أشعار هومر أننا نعيش في مجتمع أكثر بدائية وأقل خضوعاً للقوانين من المجتمع الذي شهدناه في نوسس أو ميسيني. فلقد رجعت الثقافة الآخية خطوة إلى الوراء، وكانت مرحلة انتقال بين الحضارة الإيجية الزاهرة والعصر المظلم الذي سوف يعقب الفتح الدوري. فالحياة الهومرية فقيرة في الفنون، غنية في النشاط والعمل؛ وهي ثقافة ينقصها التفكير والتأمل، خفية سطحية، سريعة. وهي أصغر سناً وأصلب عوداً من أن تهتم بالأخلاق أو الفلسفة. أو لعلنا نخطئ في حكمنا عليها لأننا نراها في الأزمنة الحادة أو الفوضى التي أعقبت الحرب.
ولسنا ننكر أننا نشهد في هذه الثقافة كثيراً من الصفات والمناظر الرقيقة الرحيمة، وإنك لترى المحاربين أنفسهم كرماء، يعطف بعضهم على بعض، كما ترى بين الأب والابن حباً به من العمق قدر ما به من السكون والصمت. فهاهو ذا أديسيوس يقبل رؤوس أفراد أسرته وأكتافهم حينما يعرفونه بعد غيابه الطويل، وهاهم أولاء يقبلونه كما يقبلهم(36). وحين يعلم منلوس وتعلم هلن أن تلمكس الطفل النبيل ابن أديسيوس المفقود الذي حارب من أجلهم حرب الأبطال يبكيان ويتحسران(37). وحتى أجممنون نفسه لا يستعصي عليه البكاء فيذرف من الدموع ما يذكر هومر بمجرى ماء يتدفق فوق الصخور(38). والصداقة بين الأبطال قوية متينة، وإن كنا نظن أنه قد يكون في العلاقة القوية أو قل العلاقة الغرامية التي بين أكليز وبتركلوس، وخاصة بتركلوس الميت شيء من الصلات الجنسية الشاذة. وهم شديدو السخاء على الأضياف لأن "الغرباء والمتسولين أبناء زيوس(39)" والعذارى يغسلن قدمي الضيف أو جسمه ويدهنه بالأدهان، وربما قدمن له ثياباً غير ثيابه؛ وهو يجد الطعام والمأوى إذا كان في حاجة إليهما، وقد يتلقى الهدايا أيضاً(40). ومن أقوال هلن ذات الخد الأسيل، وهي تضع بين يدي تلمكس ثوباً غالي الثمن : "هاأنذا أقدم لك أيها الطفل العزيز هذه الهدية، لتذكر بها يدي هلن في يوم زواجك المرتقب من زمن بعيد ولتلبسها زوجتك(41)". تلك صورة تكشف لنا عن الحنو الإنساني والشعور الرقيق اللذين يختفيان حتماً في الإلياذة بين نقع الحرب وقعقعة السلاح. والحرب نفسها لا تحول بين اليونان وبين حبهم القوي للألعاب. فالصغار والكبار على السواء يتبارون مباريات على جانب عظيم من الخطورة والمهارة، تسودها العدالة والفكاهة. ويلعب خُطّاب بنلبي الداما ويتقاذفون الأقراص والحراب، ويلعب ضيوف أديسيوس الفاكهون لعبة القرص وألعاباً غريبة هي مزيج من ألعاب الكرة والرقص . ولما أحرقت جثة بتركلوس بعد وفاته أقيمت بهذه المناسبة حسب العادات الآخية ألعاب كانت هي المثل الذي اُحتذي في الألعاب الأولمبية، وكانت تشمل العَدْو، وقذف القرص والحربة، والرمي بالسهام، والمصارعة، وسباق المركبات، والمبارزة بالسلاح؛ وكانت كلها تسودها الروح الرياضية الطيبة، إذا استثنينا أنها كانت محرمة إلا على الطبقات الحاكمة، وأن الآلهة وحدها هي التي كان يسمح لها بالغش والخداع(42).
أما الجانب الآخر من الصورة فكان أقل من هذا مدعاة للسرور. فنحن نرى أكليز يقدم "امرأة تحذق الأشغال اليدوية الجميلة" جائزة للفائز في سباق العربات. ونرى الخيل، والكلاب، والثيران، والضأن، والآدميين يُضحى بها على كومة إحراق بتركلوس حتى يكون له بعد موته ما يبتغيه من حسن الخدمة ومن الطعام(44). ويحسن أكليز معاملة بريام، ولكنه لا يفعل ذلك إلا بعد أن يجر جسم هكتور المشوه جراً مهيناً حول كومة الحريق. وكانت الحياة في نظر الرجل الآخي قليلة القيمة، لا يعد سلبها من الأمور الخطيرة، وكانت لحظة من السرور كفيلة بردها إلى من قضي عليه بفقدها. وإذا ما غلبت مدينة على أمرها قتل رجالها أو بيعوا بيع الرقيق، واتخذت النساء خليلات إن كن حساناً، أو رقيقات إن لم تكن كذلك. وكانت القرصنة لا تزال من المهن المحترمة، وكان الملوك أنفسهم ينظمون حملات مغيرة، تنهب المدن والقرى وتتخذ أهلها عبيداً، ويقول ثوسيديدس في هذا : "والحق أن هذا العمل أصبح أهم مورد من موارد الرزق لليونان الأولين، ولم تكن هذه المهنة حتى ذلك الوقت مما يجلل صاحبها العار(45)"، بل كانت تكسبه المجد. وكان في مقدور الأمم العظيمة أن تهاجم الشعوب الضعيفة المحرومة من وسائل الدفاع وتخضعها لسلطانها دون أن يعد ذلك منها مخالفاً للعدل أو الكرامة، شأنها في هذا شأن الأمم القوية في هذه الأيام. وحين يسأل أديسيوس هل هو تاجر يهتم بالمكاسب التي يسد بها مطامعه(46)، يرى في هذا القول إهانة له؛ ولكنه يتحدث في زهو وخيلاء عما فعله وهو عائد من طروادة إذ قل ما كان لديه من المؤن، فنهب مدينة إسمروس Ismarus وملأ منها سفينة بالطعام؛ وكيف صعد في نهر إيجبتس Aegyptus (يقصد نيل مصر) لينهب الحقول النضرة ويسوق أمامه النساء والأطفال الصغار، ويقتل الرجال"(47). وملاك القول أنه لم تكن ثمة مدينة من المدن آمنة من هجوم القراصنة المفاجئ عليها، دون أن تعمل من جانبها ما يستفزهم أو يبرر هجومهم.
ويتصف الآخيون فضلاً عن حبهم للنهب والقتل دون أن يخشوا في ذلك تأنيب الضمير، يتصفون فضلاً عن هذا بالكذب والخداع دون حياء، فأديسيوس لا يكاد ينطق بقول دون أن يكذب فيه، أو يعمل عملاً دون أن يشوبه الغدر. من ذلك أنه لما قبض على دولون Dolon الجاسوس الطروادي وعده هو وديوميد Diomed أن يبقيا على حياته إذا أدلى إليهما بما يطلبانه من المعلومات، فلما فعل قتلاه(48). ولسنا ننكر أن غير أديسيوس من الآخيين لا يضارعونه في الغدر والخيانة، ولكنهم لا يمتنعون عن ذلك لأنهم لا يريدون أن يغدروا أو يخونوا، بل هم يحسدون أديسيوس ويعجبون به، ويرونه أنموذجاً للخلق الطيب؛ والشاعر الذي يصوره يعده بطلاً من كل الوجوه، وحتى الإلهة أثينة نفسها تثني عليه لكذبه، وتضيف هذه الصفة إلى محاسنه الخاصة التي تحببه إليها، وتقول له وهي تبتسم وتربت عليه بيدها : "إن الذي يفوقك في حيلك المختلفة الأنواع لا بد أن يكون ماكراً خبيثاً، ولو كان الذي يلقاك إلهاً من الآلهة. إنك رجل ماكر فيما تسديه من نصح، لا يقف خداعك وغدرك عند حد؛ ويلوح أنك لا تمتنع في بلدك نفسه عن الاحتيال وعن القصص الكاذبة الخادعة التي تحبها من أعماق قلبك"(49).
والحق أننا نحن أنفسنا نشعر بميل نحو هذا البطل الذي يشبه في التاريخ القديم البطل منشهوزن الخرافي Munchausen، فنحن نتبين فيه وفي الشعب المجد المحتال الذي ينتمي إليه من الصفات ما يستثير الحب؛ فهو أب لطيف رقيق القلب، وهو في بلده حاكم عادل "لم يسيء لأحد في أرضه لا بالقول ولا بالفعل". ويقول فيه راعي خنازيره : "إنني لن أجد بعد اليوم سيداً يضارعه في شفقته مهما بعدت البلاد التي أذهب إليها، حتى لو عدت إلى بيت أبي وأمي!"(50). ونحن نغبط أديسيوس على "شكله الشبيه بأشكال الآلهة المخلدين" وعلى جسمه الرياضي، الذي يمكنه وهو في نحو الخمسين من عمره أن يقذف القرص أبعد مما يقذفه أي شاب من شبان الفيشيان Phaeacian؛ ونعجب "بثبات جنانه" و "بحكمته الشبيهة بحكمة جوف"(51). ولا ينقطع عطفنا عليه وهو يتمنى الموت بعد أن يئس من قدرته على أن يرى مرة أخرى "الدخان ينبعث من أرض وطنه"، أو حين يقوي قلبه وسط ما يحيط به من أخطار وآلام بالألفاظ التي كان سقراط يحب أن يرددها : "اصبري الآن يا نفسي، لقد قاسيت من قبل ما هو شر من هذا"(52). وهو في جسمه وعقله رجل من حديد، ولكن كل قطعة فيه مهما صغرت قطعة من إنسان، ولهذا فإنا نعفو عنه ونتجاوز عن سيئاته. والحق أن المعايير الخلقية عند الآخيين تختلف عن معاييرنا اختلاف فضائل الحرب عن فضائل السلم. فالرجل الآخي يعيش في عالم مضطرب، كَدِر، جوعان، على كل إنسان فيه أن يعني بحراسة نفسه، وأن يكون على الدوام ممسكاً بقوسه ورمحه قادراً على أن ينظر في هدوء إلى الدم المراق. وفي ذلك يقول أديسيوس : "إن المعدة الجائعة لا يستطيع أحد أن يخفيها ... ومن أجلها صنعت السفن المعوجة وأعدت لتحمل الويل إلى الأعداء فوق البحر الهائج المضطرب"(53). وإذا كان الآخي لا يجد إلا القليل من الأمن والسلامة في بلاده، فإنه لا يرعى شيئاً منهما في خارجها؛ ويرى أن من حقه أن يفترس كل ضعيف. وأسمى الفضائل في رأيه فضيلة الذكاء المقرون بالشجاعة والقسوة، ولفظ الفضيلة في لغته مشتق من لفظ الرجولة ومن صفة Ares أو المريخ . وليس الرجل الصالح عنده هو الرجل اللطيف المتسامح، الأمين الرزين، المجد الشريف؛ بل هو الرجل الذي يحارب ببسالة وكفاية. وليس الرجل الطالح هو الذي يدمن الشراب، ويكذب، ويقتل ويغدر، بل هو الجبان الغبي أو الضعيف. لقد كان ثمة نِتْشيون قبل نتشه، وقبل ثرازمكس Thrasymachus بزمن طويل، في فجاجة العالم الأوربي وصلابته.
3 - الرجال والنساء
كان المجتمع الآخي مجتمعاً أبوياً استبدادياً، يمتزج به جمال المرأة وغضبها بحنان الأبوة وحبها القويين . وكان الأب من الوجهة النظرية صاحب السلطان الأعلى، وكان له أن يتخذ من السراري ما يشاء ، وأن يقدمهن لضيوفه، وأن يضع أطفاله على قمم الجبال ليموتوا أو يذبحهم قرباناً للآلهة الغضاب. وهذه السلطة الأبوية المطلقة لا تستلزم حتماً أن يكون المجتمع الذي تسوده مجتمعاً وحشياً، بل كان ما تعنيه أن هذا المجتمع لم يبلغ نظام الدولة فيه مبلغاً يكفي لحفظ النظام الاجتماعي، وأن الأسرة فيه تحتاج في خلق هذا النظام الاجتماعي إلى القوى التي آلت فيما بعد إلى الدولة حين أممت حق القتل. وكلما تقدم التنظيم الاجتماعي وارتقى نقص سلطان الأب، وتفككت وحدة الأسرة، ونمت الحرية والفردية. ولقد كان الرجل الآخي في الحياة العملية رجلاً معقولاً في أغلب الأحوال، يصغي في صبر وأناة إلى فصاحة أهل منزله ويخلص إلى أبنائه. وكان مركز المرأة في نطاق هذا الإطار الأبوي أرقى في بلاد اليونان الهومرية منه في أيام بركليز. فهي تضطلع بدور رئيسي في القصص والملاحم من خطبة بلبس لهبوداميا Hippodameia إلى رقة إفجينيا وحقد إلكترا. فلا الحجاب ولا البيت بمانع لها من الخروج، بل نراها تسير حرة بين الرجال والنساء على السواء، وتشترك أحياناً في مناقشات الرجال الجدية كاشتراك هلن مع منلوس وتلمكس. ولم يكن الزعماء الآخيون إذا أرادوا أن يستثيروا غضب الشعب على طروادة يلجئون إلى المبادئ السياسية أو العنصرية أو الدينية، بل كانوا يستثيرونه بجمال النساء؛ ومن أجل ذلك كان وجه هلن الجميل هو الحجة التي تذرعوا بها لإثارة حرب تهدف إلى امتلاك الأرض وإلى التجارة؛ ولولا المرأة لكان بطل هومر جلفاً فظاً ليس له هدف يعيش من أجله، فهي تعلمه شيئاً من الأدب والمثالية ودماثة الأخلاق. وكان الشراء طريقة الزواج، وكان الثمن عادة أثواراً أو ما يساويها يؤديه الخطيب إلى والد الفتاة. ويحدثنا الشاعر عن "العذراء حالبة الماشية"(56). ولم يكن الخطيب وحده هو الذي يؤدي ثمن العروس، بل كان والدها يؤدي لها أحياناً بائنة قيمة. وكانت حفلة الزفاف عائلية واجتماعية معاً، وكان من مظاهرها كثرة الطعام، والرقص والمرح الذي تنطلق فيه الألسنة. "وكانوا يسيرون بالعروسين في وهج المشاعل من حجراتهما ويخترقون بهما المدينة وسط أغاني العرس العالية. وكان الشبان يرقصون وهم يدورون، وتعلو بينهم نغمات الناي والقيثارة(57)" - ألا ما أشبه الليلة بالبارحة. ومتى تزوجت المرأة أصبحت من فورها ربة بيتها ونالت من التكريم بقدر ما تنجب من الأبناء. وكان الحب بمعناه الحقيقي - أي بوصفه حناناً وشوقاً - يأتي إلى اليونان كما يأتي إلى الفرنسيين بعد الزواج لا قبله، فلم يكن هو الشرارة التي تنطلق باتصال جسمين أو تقاربهما، بل كان ثمرة الاشتراك الطويل في العناية بالبيت وشؤونه. وفي الزوجة الهومرية من الوفاء بقدر ما في زوجها من عدمه. وليس في أشعار هومر إلا ثلاث زانيات - هن كليتمنسترا، وهلن، وأفرديتي؛ ولكن الصورة التي يرسمها لهن لا تنطبق على المرأة العادية، وإن انطبقت على الإلهات في تلك الأيام.
وكانت الأسرة الهومرية التي أثرت فيها هذه العوامل (إذا صرفنا النظر عن مغالاة الأقاصيص التي لا وجود لها في أشعار هومر) نظاماً سليماً يستريح له الإنسان ويسر منه، أكثر نسائها مهذبات رقيقات وأكثر أطفالها مخلصون أوفياء. ولم يكن عمل الأمهات مقصوراً على إنجاب الأبناء، بل كن يقمن فيها بكثير من الأعمال : فكن يطحنّ الحب، ويمشطن الصوف، ويغزلن، وينسجن، ويطرزن. ولم يكن يخطن كثيراً لأن معظم الملابس لم تكن بحاجة إلى الخياطة، كما كان الطبخ في العادة من أعمال الرجال. وكن فضلاً عن هذه الأعمال يلدن الأطفال ويربينهم، ويعالجهن ما يصيبهم من أذى، ويسوين ما يقوم بينهم من خصام، ويعلمنهم عادات القبيلة وأخلاقها وتقاليدها الموروثة. ولم تكن عندهم كتب؛ فكانت الأسرة والحالة هذه أحسن نظام يرتضيه الصبيان. وكانت البنات يتعلمن الفنون المنزلية على حين يتعلم الأولاد الصيد والحرب؛ فكان الولد يدرب على صيد السمك وعلى السباحة، وحرث الأرض، ونصب الشراك وترويض الحيوانات، وتصويب السهام والحراب، وأن يعنى بنفسه في كل ما يعترضه من الأحداث في حياته التي لم يكن للقوانين فيها السلطان الكامل على الأهلين. وإذا شب أكبر أبناء الأسرة من الذكور وبلغ سن الرجولة أصبح في غيبة أبيه رب الأسرة المسئول عنها؛ فإذا تزوج جاء بزوجته إلى بيت أبيه. وهكذا تتجدد الأجيال جيلاً بعد جيل، يتغير في خلالها أفراد الأسرة على مر الأيام وتبقى الأسرة محتفظة بكيانها ووحدتها، وقد تظل محتفظة بهما عدة قرون، تضع في بوتقة البيت التي ينصهر فيها الأفراد قواعد النظام والأخلاق التي لا بد منها لقيام الحكومات على اختلاف أنواعها.
4- الفنون
وترك الآخيون إلى التجار والكتبة من أهل الطبقة الدنيا فن الكتابة الذي تلقوه في أغلب الظن من بلاد اليونان الميسنية، ذلك أنهم كانوا يفضلون الدم عن المداد واللحم عن الطين، ولسنا نجد في أشعار هومر كلها إلا إشارة واحدة للكتابة(58). ونجدها في سياق فذ واضح الدلالة، وهو أن لوحة مطوية تعطى لرسول ويؤمر فيها من سوف يتلقاها بأن يقتل حاملها. وإذا ما وجد الآخيون وقتاً يقضونه في ممارسة الأدب فإن ذلك لم يكن إلا حين يجدون بين الحروب والغارات فترة من الوقت يركنون فيها إلى السلم؛ ووقتئذ يجمع الملك أو الأمير أتباعه حوله، يولم لهم وليمة ويدعو شاعراً أو مغنياً جوالاً ينشدهم على قيثارته شعراً ساذجاً يقص أعمال الأبطال من أسلافهم الأولين. وكان ذلك شعر الآخيين وتاريخهم. ولعل هومر قد أراد كما أراد فيدياس أن ينقش صورته على ملاحمه فأخذ يقص علينا كيف طلب ألسينوس ملك القباشانيين أن يحيي أديسيوس بشيء من هذه الأغاني : "ادع إلينا المنشد الإلهي دمدوكس Demodocus، لأن الله قد اختصه دون غيره بالمهارة في الغناء .... ثم اقترب الرسول يقود المنشد القدير الذي تحبه إلهة الشعر أكثر من سائر الناس، فوهبته من نعمتها وسلطت عليه من نقمتها، فحرمته قوة البصر ولكنها وهبته نعمة الصوت الجميل"(59). والفن الوحيد الذي يعنى به هومر غير فنه طرق الحديد وتشكيله. فهو لا يذكر شيئاً عن التصوير ولا النحت ولكنه يستجمع كل ما أوتي من إلهام ليصف المناظر المصورة بالجواهر أو المزركشة على ترس أكليز، أو المنقوشة نقشاً بارزاً على دبوس أديسيوس الذي يحلي به صدره. وإذا تحدث عن العمارة كان حديثه قصيراً، ولكنه يلقي على هذا الفن كثيراً من الضوء. ففي وسعنا أن نستدل من حديثه على أن المساكن العادية في عصره كانت تشاد من اللبن على أساس من الحجارة، وأرضها من الطين المطروق بالأقدام، والذي كان ينظف بحكه بأداة خشنة؛ وكان السقف يتخذ من الغاب تعلوه طبقة من الطين لا تميل إلا بالقدر الذي يمكن الأمطار من النزول. وكانت الأبواب مفردة أو مزدوجة، وقد تكون لها مزالج أو مفاتيح(60). أما المساكن التي هي أعلى من هذه درجة فكانت جدرانها تطلى بالجبس الملون، وتزين حافاتها أو تنقش، وتعلق عليها الأسلحة والتروس والنسيج المنقوش. ولم يكن في الدار مطبخ، ولا مدخنة، ولا نوافذ، وكان في سقف بهوها الأوسط فتحة يخرج منها بعض الدخان المنبعث من الموقد، وتخرج بقيته من باب الدار، أو تستقر صناجاً على الجدران. وكانت الحمامات من المرافق التي تحتويها بيوت الأغنياء، أما غيرهم فكانوا يقنعون بوعاء من الخشب بدل الحمام. وكانوا يتخذون أثاثهم من الخشب الثقيل، وكثيراً ما كان يصقل وتحفر فيه أشكال فنية جميلة. وقد صنع إكماليوس لينلي كرسياً ذا متكأ مطعماً بالعاج والمعادن النفيسة، وكذلك صنع أديسيوس له ولزوجته سريراً ضخماً متيناً قَدَّر له أن يبقى مائة عام.
ومن خصائص هذا العصر أن أهله يُغفلون الهياكل ويوجهون كل عنايتهم إلى تشييد القصور، بعكس عصر بركليز فإن أهله كانوا يهملون القصور ويصرفون جهودهم في بناء الهياكل. فنحن نسمع عن "بيت باريس الفخم" الذي شاده ذلك الأمير بمعونة أمهر المهندسين في طروادة(61)، وبقصر الملك ألسنوس الفاخر الذي كانت جدرانه من البرنز، وطنفه من عجين الزجاج الأزرق، وأبوابه من الفضة والذهب، إلى غير ذلك من الأوصاف التي تَصْدُق على الشعر أكثر مما تصدق على فن العمارة. ونسمع كذلك الشيء القليل عن بيت أجممنون الملكي في ميسيني كما نسمع الشيء الكثير عن قصر أديسيوس في أتكا. وقد كان لهذا القصر دهليز أمامي مرصوف بعضه بالحجارة، ويحيط به سور مجصص، ويزدان بالأشجار ومذاود الخيل، وكومة من الروث الساخن ينام عليها أرجوس كلب أديسيوس في ضوء الشمس . ويؤدي إلى داخل القصر مدخل ذو عمد ينام فيه العبيد والزائرون في كثير من الأحيان، أما داخل القصر نفسه فكان يحتوي على حجرة للانتظار تؤدي إلى بهو أوسط يستند إلى عمد يصل إليه الضوء من قمته في السقف، وفي بعض الأحيان من فتحة أخرى بين طنف البناء وعوارضه التي فوق الأعمدة. وكانت مجامر نحاسية مستقرة على قواعد عالية تضيء البيت إضاءة مضطربة غير مستقرة. وكان في وسط البهو مدفأة الدار تجتمع الأسرة حول نارها المقدسة أثناء الليل للدفء والطرب، وللتحدث عن أخبار الجيران، وعناد الأطفال، وتقلبات الأيام.
5- الدولة
ترى كيف كان هؤلاء الآخيون الأشداء السريعو الانفعال يُحكمون ؟ لقد كانوا في السلم تحكمهم الأسرة وفي الأزمات تحكمهم العشيرة. والعشيرة جماعة من الناس ينتسبون إلى أصل واحد ويدينون بالطاعة إلى رئيس واحد، وحصن هذا الرئيس هو منشأ المدينة ومركزها، حتى إذا ما أصبح سلطانه سنة متبعة وشريعة معترفاً بها، تجمعت حول هذا الحصن عشيرة بعد عشيرة حتى يتكون من مجموعها مجتمع سياسي من ذوي القربى. وإذا تطلب الرئيس عملاً إجماعياً من عشيرته أو مدينته دعا أحرارها الذكور إلى اجتماع عام وعرض عليهم اقتراحاً قد يقبلونه وقد يرفضونه، ولكن أعظم الأعضاء شأناً هم الذين يستطيعون أن يقترحوا تغييره. ولقد كانت هذه الجمعية القروية العنصر الديمقراطي الوحيد في هذا المجتمع الأرستقراطي الإقطاعي، وكان أعظم أعضائها فائدة للدولة أفصحهم لساناً وأقدرهم على التأثير في عامة الشعب. وإنا لنشهد منذ ذلك الوقت البعيد في الشيخ نسطور الذي "يسيل صوته من لسانه أحلى من الشهد(62)"، وفي أوديسيوس المخاتل الذي تقع كلماته "على الناس وقع هشائش الثلج(63)"، نشهد فيهما بداية ذلك السيل من الفصاحة الذي قُدّر له أن يبلغ في بلاد اليونان مستوى أرفع مما بلغه في أية حضارة أخرى، والذي قضى في آخر الأمر على هذه الحضارة القضاء الأخير. وإذا تطلب الأمر أن تعمل العشائر مجتمعة فإن رؤساءها يطيعون أوامر أقواهم سلطاناً، ويتخذونه ملكاً عليهم، ويدينون له بالطاعة هم وجيوشهم من الأحرار وأتباعهم من العبيد. وكان أقرب الرؤساء إلى الملك مسكناً، وأكبرهم مقاماً عنده، يسمون "صحابة الملك"، وهذا هو الاسم الذي أطلق عليهم أيضاً في مقدونية أيام فليب وفي معسكر الإسكندر. وكان هؤلاء الأعيان يستمتعون في البول boule أو المجلس بحرية القول ويخاطبونه حين يوجهون له القول على أنه "الأول بين الأنداد". ومن هذه الهيئات المختلفة - الجمعية العامة، ومجلس الأعيان، والملك - نشأت دساتير العالم الغربي الحديث كله على كثرتها واختلاف أنواعها وأسمائها. وكان للملك سلطان عظيم ولكنه ضيق الحدود. فهو ضيق في الرقعة التي يظلها لأن مملكته صغيرة، وهو ضيق في زمانه لأن الملك معرض لأن يخلعه المجلس أو أن يخلع استناداً إلى حق سرعان ما اعترف به الآخيون وهو حق من عساه أن يكون أقوى من الملك سلطاناً. وفيما عدا هذا فقد كان حكم الملك وراثياً وكانت حدود سلطانه غير واضحة المعالم. وهو قبل كل شيء زعيم عسكري شديد العناية بجيشه لأنه إذا عدمه تبينت للناس أخطاؤه. وهو يحرص على أن يكون هذا الجيش حسن العدة، والطعام، والتدريب، لديه ذخيرة من السهام المسمومة(64)، والحراب، والخوذ، والجراميق، والرماح، والتروس، والدروع، والعربات الحربية. وهو الحكومة بأجمعها طالما كان الجيش يحميه، يجمع في يديه التشريع والتنفيذ والقضاء، وهو كاهن الدين الأكبر الذي يقرب القرابين باسم الشعب، أوامره هي القانون، وأحكامه نهائية لا معقب لها، ولم يكن لفظ القانون قد وجد بعد(65). ومن تحته المجلس الذي يجتمع أحياناً ليفصل في المنازعات الخطيرة؛ وكأنما كان هذا المجلس يضع التقاليد التي تسير عليها جميع المحاكم فيما بعد، فكان يبحث عن السوابق ويحكم على غرارها. وكان للسوابق الغلبة على القانون لأن السابقة مستمدة من العادة، والعادة هي الأخت الكبرى للقانون تنازعه سلطانه. على أن المحاكمات على أنواعها نادرة في المجتمع الهومري، وقلما نسمع فيه عن هيئات عامة للقضاء، بل كان على كل أسرة أن تدفع الأذى عن نفسها وتثأر لنفسها، وكانت أعمال العنف كثيرة تسود المجتمع.
ولم يكن من عادة الملك أن يجني الضرائب ليقيم بها دعائم ملكه، بل كان يتلقى من حين إلى حين "هدايا" من رعاياه؛ ولو أنه كان يعتمد على هذه الهدايا وحدها لكان ملكاً فقيراً بحق؛ أما مورده الأكبر فكان في أغلب الظن مستمداً من الرسوم التي يفرضها على ما ينتزعه جنوده وسفنه من الأسلاب في البر والبحر. ولعل هذا هو السبب الذي من أجله وُجد الآخيون في عصر متأخر كالقرن الثالث عشر قبل الميلاد في مصر وفي كريت. فكانوا في مصر قراصنة غير ناجحين وفي كريت فاتحين عابرين. ثم نسمع عنهم فجأة وهم يستثيرون غضب الشعب بقصة عن السبي المذل، ويجمعون بذلك قوى القبائل جميعها، ويجندون مائة ألف محارب، ويبحرون بأسطول ضخم منقطع النظير مكون من نحو ألف سفينة ليجربوا حظهم ضد حراب آسيا على سهول طروادة وتلها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الرابع: حصار طروادة
تُرَى هل حوصرت طروادة بحق؟ لسنا نعلم أكثر من أن كل مؤرخ يوناني وكل شاعر يوناني، وأن كل سجل في معبد يوناني إلا القليل الذي لا يستحق الذكر، وكل قصة يونانية - من أن هذه كلها تسلم بلا جدال بأن طروادة حوصرت؛ وأن علم الآثار قد كشف لنا عن المدينة المخربة مضاعفة عدة مرار؛ وأن القصة وأبطالها لا تزال في هذه الأيام كما كانت في آخر القرن الماضي تعد في جوهرها قصة صحيحة(66). وقد جاء في نقش مصري خلفه رمسيس الثالث أن "الجزائر كانت قلقة مضطربة" حوالي 1196 ق.م(67)، وفي بلني إشارة إلى رمسيس "الذي سقطت طروادة في أيامه"(68). ويرجع إرتشثنيز Eratosthenes العالم الإسكندري العظيم تاريخ هذا الحصار إلى عام 1194 ق.م مستنداً في ذلك إلى الأنساب المتواترة التي نسقها المؤرخ - الجغرافي هِكتِيُوس Hecataeus في أواخر القرن السادس قبل الميلاد.
ويتفق الفرس الأقدمون والفينيقيون مع اليونان في قولهم إن تلك الحرب العظمى قد استعرت نارها لأن أربعة من النساء الحسان قد اختطفن من بلادهن. فالمصريون على حد قولهم اختطفوا أيو Io من أرجوس، واليونان اختطفوا أوربا Europa من فينيقية، وميديا من كلكيز Colchis؛ أليس من الإنصاف والحالة هذه أن يختطف باريسُ هلن؟(69) ويأبى استسيكورس في سنيه الأخيرة بعد أن تاب وأناب، كما يأبى هيرودوت ويوربديز من بعده، أن يعترفوا بأن هلن قد غادرت بلادها إلى طروادة؛ وكل ما في الأمر أنها ذهبت إلى مصر مكرهة وأقامت فيها اثنتي عشرة سنة حتى جاءها منلوس. ويتساءل هيرودوت قائلاً : هل من الناس من يصدق أن الطرواديين يحاربون عشر سنين من أجل امرأة واحدة ؟ ويعزو يوربديز إرسال الحملة إلى ازدياد السكان في بلاد اليونان أكثر مما تتحمله مواردها، واضطرار أهلها بسبب هذه الزيادة إلى الهجرة والتوسع (70). ألا ما أقدم الأسباب الحديثة التي تبرر بها الرغبة في القوة والسلطان. على أنه لا يبعد أن تكون قصة شبيهة بهذه القصة قد استعين بها على جعل هذه المغامرة مستساغة لدى اليوناني العادي، وذلك بأن الناس في حاجة إلى الألفاظ الطنانة إذا أريد منهم أن يضحوا بحياتهم. ومهما تكن أسباب الحرب الظاهرة، فإن الذي لا شك فيه أن حقيقة أمرها وجوهرها لم تكن إلا نزاعاً بين طائفتين تتنازعان السيطرة على مضيق الهسبنت والأراضي الغنية المحيطة بالبحر الأسود، وكانت بلاد اليونان بأجمعها وغرب آسيا على بكرة أبيها ترى أنها نزاع حاسم؛ واحتشدت أمم اليونان الصغيرة لمساعدة أجممنون، كما أرسلت شعوب آسيا الصغرى العون بعد العون لطروادة. وكانت الحرب في حقيقة أمرها بداية الكفاح الذي تجدد في مراثون وسلاميس، وعند إسوس وأربيلا، وعند تور وغرناطة، وعند ليبنتو وفينا .... وليس في وسعنا أن نذكر من أحداث الحرب وما بعدها غير ما يقصه علينا الشعراء اليونان ومؤلفو المسرحيات منهم، ونحن نقبل ما يقولون على أنه أدب أكثر مما هو تاريخ، وهذا في حد ذاته مبرر قوي لاعتباره جزءاً من قصة الحضارة. فنحن نعلم أن الحرب بشعة وأن الإلياذة جميلة، وأن الفن (إذا عكسنا قول أرسطاطاليس) قد يجعل الرعب - ويطهره تبعاً لذلك- بما يخلعه عليه من معنى وشكل ظريف. ولسنا نقصد بقولنا هذا أن الإلياذة قد وصلت إلى حد الكمال في شكلها، إذ الحقيقة أن تركيبها مهلهل غير رصين، وأن القصص فيها متناقض تارة وغامض تارة أخرى، وأن خاتمتها ليست خاتمة بالمعنى الصحيح. غير أن كمال كل جزء على حدته يعوض ما في مجموعها الكلي من اضطراب، والقصة رغم عيوبها الصغرى لا تقل في مستواها عن مسرحيات التاريخ العظمى، ولعلها لا تقل عن مستوى التاريخ نفسه.
(1)%=@تشير الأعداد المحصورة بين قوسين إلى كتب الإلياذة.@ نرى اليونان في مستهل القصيدة وقد قضوا في حصار طروادة تسع سنين دون أن يظفروا بها : وقد غلبهم اليأس والحنين إلى الوطن، وفتك بهم المرض. وقد وقفوا طويلاً عند أوليس Oulis لأن المرض وسكون الريح في البحر قد حالا بينهم وبين مواصلة السير، وأثار أجممنون غضب كلتمنسترا، وهيأ السبيل لسوء مصيره بأن ضحى بابنتهما إفجينيا لكي تهب الريح. وكان اليونان قد وقفوا في أماكن متفرقة في طريقهم ليأخذوا حاجتهم من الطعام والسراري، فأخذ أجممنون الحسناء كريسيس Chryseis وأخذ أكليز بريسيس البارعة الجمال؛ ثم يقول عراف إن أبلو يمنع النصر عن اليونان لأن أجممنون قد اعتدى على عفاف ابنة كاهنه كريسز Chryses. فيرد أجممنون كريسيس لأبيها ولكنه يواسي نفسه ويخلق في القصة موقفاً مثيراً بأن يرغم بريسيس على أن تفارق أكليز وتحل محل كريسيس في الخيمة الملكية. ويدعو أكليز الجمعية العامة إلى الانعقاد، ويشكو إليها أجممنون وهو غاضب ثائر، وينطبق بأول كلمة في الإلياذة ويثير الموضوع الذي يتردد فيها مراراً وتكراراً، ويقسم أنه لن يمد هو أو جنوده يداً لمساعدة اليونان. (2) ثم ننتقل بعدئذ إلى استعراض سفن الجيوش المتجمعة وقبائلهم، ثم (3) نشاهد منلوس المتعجرف يبارز باريس مبارزة يراد بها وضع حد للقتال؛ ويتهادن الجيشان مهادنة المتحفزين، ويشترك بريام مع أجممنون في تقديم القربان إلى الآلهة. ويظفر منلوس بباريس ولكن أفرديتي تنقذه وتختطفه في سحابة ثم تلقيه على فراش زوجته بعد أن تعطره وتمسحه بالمساحيق الربانية. وتأمره هلن أن يعود إلى القتال ولكنه يعرض عليها بدلا من هذا أن "يصرفا الوقت في الفراش". وتتغلب على هلن شهوتها فتجيبه إلى طلبه (4)، ويعلن أجممنون انتصار منلوس، ويلوح أن الحرب قد وضعت أوزارها، ولكن الآلهة تعقد مجلساً على جبل أولمبس للتشاور في الأمر كما يتشاور البشر، وتقرر أنها في حاجة إلى أن يسفك فوق ما سفك من الدماء. ويقترع زيوس لمصلحة السلم ولكنه يسحب صوته وينقلب مرتاعاً حين توجه زوجته هيرا خطابها إليه، وتقترح أن تسمح لزيوس بأن يدّك ميسيني وأرجوس وإسبارطة دكاً إذا وافق على تدمير طروادة. ويبدأ القتال من جديد ويهلك عدد كثير من الرجال تمزق أجسامهم السهام أو الحراب أو السيوف "ويخيم الظلام على أعينهم".
(5) وتشترك الآلهة في هذه اللعبة المرحة لعبة التقتيل والتقطيع، فتنفذ حربة ديوميد في جسم أريس إله الحرب الرهيب، ويصيح صيحة كأنها صادرة من تسعة آلاف رجل"، ويسرع إلى زيوس ليبثه شكواه. (6) وتعقب ذلك فترة يودع فيها هكتر البطل الطروادي زوجته أندرمكا وداعاً حاراً قبل عودته إلى القتال. وتخاطبه بصوت رقيق قائلة : "حبيبي، إن بسالتك ستؤدي إلى هلاكك؛ إنك لا ترحم طفلك ولا ترحمني، أنا التي سأكون عما قريب أرملة، لقد قتل أبي وأمي وإخوتي جميعاً، ولكنك أنت يا هكتر أبي وأمي، وأنت زوج شبابي، فأشفق عليَّ إذن وأقم هنا في البرج". فيرد عليها بقوله : "إني أعلم حق العلم أن مآل طروادة هو السقوط، وأرى بعين الخيال أحزان إخواني وأحزان الملك؛ غير أني لا أحزن من أجلهم؛ أما الذي يكاد يزلزل كياني فهو أن أراك أسيرة رقيقة في أرجوس؛ ولكني مع هذا لن أحجم عن القتال(71)" ويصرخ ابنه الطفل أستياناكس Astyanax، الذي قدر له أن يلقيه اليونان المنتصرون من فوق أسوار المدينة بعد قليل فيسقط على الأرض جثة هامدة، يصرخ مرتاعاً حين يبصر الريش يتماوج في خوذة أبيه. فيرفع البطل خوذته حتى يستطيع أن يضحك، ويبكي ويصلي للطفل الحائر المندهش. ثم يتخذ طريقه إلى المعركة. (7) ويبارز أجاكس Ajax ملك سلاميس. ويستميت البطلان في القتال ثم يفترقان في المساء بعد أن يتبادلا الثناء والهدايا. يالها من زهرة مجاملة تسبح في بحر من الدماء. (8) وبعد أن يقضي الطرواديون يوماً كاملاً ينتقلون فيه من نصر إلى نصر يأمر هكتر المحاربين بالكف عن القتال ليستريحوا. هكذا خطب فيهم هكتر؛ وحياه الطرواديون بأعلى أصواتهم وصفقوا له بأكفهم. ثم رفعوا النير عن جيادهم الحربية والعرق يتصبب من أجسامها وعقل كل منهم جواديه بالسيور بجوار عربته، وجاء من المدينة بالثيران والضأن السمين؛ وقدم هكتر لهم النبيذ وهو يخاطبهم بأعذب الألفاظ وأرقها .... وجاءهم بالحب من البيوت، وجمع الرجال وقود النار، وحمل الهواء الرائحة الذكية من السهل إلى السماء، وسهر من كانوا على جانبي الميدان الليل الطويل يملأ الأمل صدورهم، وأوقدوا نار المراقبة، وعلا لهب النيران الكثيرة التي أوقدها الطرواديون مروضو الخيول بجوار إلْيوم بين السفن السود ونهر زنثوس Thanathus، وتلألأت تلألؤ النجوم حول آية الليل، فكان منظراً من أعجب المناظر، وسكنت الريح، ولاحت قمم الجبال والرؤوس، وظهرت الخلوات التي بين الجبال، وبدت السماء الواسعة ذات الجلال، وتلألأت نجومها التي يخطئها الحصر على قلب الراعي الذي أضناه النصب. وفي هذه الأثناء كانت خيل القتال المتعبة تلوك القمح والشعير الأبيض بالقرب من مركباتها تنتظر مقدم الفجر فوق عرشه الجميل(74).
(9) ويشير نسطور ملك ببلوس الإيلية على أجممنون أن يرد بريسيس إلى أكليز، ويجيبه أجممنون إلى طلبه، ويعد أكليز بأن يعطيه نصف بلاد اليونان إذا انضم مرة أخرى إلى المحاصرين، ولكن أكليز يظل غاضباً. (10) ويفاجئ أديسيوس وديوميد معسكر الطرواديين بهجمة في أثناء الليل يقتلان فيها اثني عشر من رؤساء العشائر. (11) ويقود أجممنون جنده ويستبسل في القتال ويُجرح ثم ينسحب من الميدان. (12) ويلتف الأعداء حول أوديسيوس فيقاتلهم قتال الأسود، ويشق له أجاكس ومنلوس الطريق وينجيانه ليقاسي فيما بعد حياة مريرة (12-13) ويتقدم الطرواديون إلى الأسوار التي أقامها اليونان حول معسكرهم. (14) فتنزعج هيرا وتصمم على إنقاذ اليونان، فتدهن بالزيت وتتعطر وتلبس أفخر الثياب، وتتمنطق بمنطقة أفرديتي المقوية؛ وتغوي زيوس فيضاجعها، ويعمد بوسيدن في هذه الأثناء إلى مساعدة اليونان علىطرد الطرواديين (15). وتظل الحرب سجالاً فيصل الطرواديون إلى سفن اليونان، وهنا تصل حماسة الشاعر ذروتها وهو يقص علينا كيف كان اليونان يحاربون مستيئسين وهم يتراجعون تراجعاً سيؤدي بهم إلى الهلاك.
(16) ويقنع بتركلوس حبيب أكليز هذا البطل فيسمح له بأن يقود جنوده لمحاربة طروادة، ويقتله هكتر بيده. (17) ويحارب أجاكس حرباً شديدة فوق جثة الشاب القتيل. (18) ويسمع أكليز بموت بتركلوس فيصمم آخر الأمر على القتال، وتقنع أمه الإلهة ثيتيس الحداد الإلهي هفستوس Hephaestus بأن يصنع له أسلحة جديدة ودرعاً سابغة ضخمة. (19) ويتصالح أكليز مع أجممنون، (20) ويقاتل إينياس ويوشك أن يقتله لولا أن بوسيدن ينقذه ليتخذ منه فرجيل موضوعاً لشعره. (21) ويقتل أكليز عدداً كبيراً من الطرواديين ويقذف بهم إلى الجحيم مودعين بخطب يتحدث فيها عن نسبهم. وتواصل الآلهة القتال : فتقذف أثينة أريس بحجر يطرحه أرضاً وتحاول أفرديتي وهي في زي جندي أن تنقذه، فتضربها أثينة ضربة على صدرها الجميل تلقيها على الأرض. وتصفع هيرا أرتميس على أذنيها، أما بوسيدين وأبلو فيكتفيان بحرب الألفاظ. (22) ويوليّ الطرواديون الأدبار من أكليز عدا هكتر وحده؛ ويشير بريام وهكيبا على هكتر أن يبقى وراء أسوار المدينة ولكنه يرفض مشورتهما، حتى إذا تقدم أكليز نحوه ولي الأدبار فجأة؛ ويطارده أكليز حول أسوار طروادة ويطوف بها ثلاث مرات؛ ثم يقف هكتر ليلاقي عدوه فيخر صريعاً. (23) وفي ختام هذه المسرحية تحرق جثة بتركلوس بالمراسم الفخمة؛ ويضحي أكليز من أجله بعدد كبير من الماشية، وباثني عشر من أسرى الطرواديين وبشعره هو الطويل. ويقيم اليونان الألعاب تكريماً له و (24) يجر أكليز جثة هكتر خلف مركبته ثلاث مرات حول كومة الحريق. ويقبل بريام بموكبه وحزنه يرجو أن يسمح له بجثة ولده، ويرق قلب أكليز له، ويرضى بعقد هدنة تدوم اثنى عشر يوماً، ويسمح للملك الشيخ بأن يأخذ جثة ولده بعد تطهيرها ودهنها بالزيت، ويعود بها إلى طروادة.
الفصل الخامس: العودة إلى الوطن
وهنا تختتم القصيدة العظيمة خاتمة فجائية، كأن الشاعر قد قام بنصيبه من القصة العامة ورأى من واجبه أن يترك ما بقي منها ينشده شاعر غيره. وتقص الآداب بعدئذ كيف رمي باريس أكليز وهو واقف إلى جانب المعركة بسهم اخترق مؤخرة قدمه، وهو الجزء الوحيد من جسمه الذي تؤثر فيها السهام، فأرداه قتيلاً، وكيف سقطت طروادة آخر الأمر نتيجة لخدعة الحصان الخشبي. وكان النصر الذي أحرزه المنتصرون سبباً في هزيمتهم، فعادوا منهمكين محزونين إلى أوطانهم بعد حنين إليها طويل. وتحطمت كثير من السفن التي أقلتهم، وارتطم بعضها بشواطئ البلاد الأجنبية وأنشأ من فيها مستعمرات يونانية في آسيا وجزائر بحر إيجة وإيطاليا(73). ولما أقبلت هلن "الإلهة بين النساء" على منلوس بجلال جمالها الهادئ عاد حبها إلى قلبه، وكان قد أقسم أن يقتلها حين يظفر بها، وسره أن يعود بها إلى إسبارطة لتكون ملكته فيها. ولما عاد أجممنون إلى ميسيني "عانق أرض بلاده وقبلها وذرفت عينه الدمع السخين"(74)، ولكن كلتمنسترا تزوجت في غيبته ابن عمه إجيسثس وأجلسته على العرش، فلما أن دخل أجممنون القصر قتلاه. وأدعى إلى الأسى من هذا عودة أديسيوس، وأكبر ظننا أن شاعراً آخر غير هومر قد قص قصته في ملحمة أقل قوة وبطولة من الإلياذة ، ولكنها أسلس منها وأرق وأجمل، وتقول الأديسة إن أديسيوس تحطمت سفينته على ساحل جزيرة أجيجيا Ogygia، وهي جزيرة مسحورة شبيهة بجزيرة تهيتي Tahiti، تحكمها ملكة إلهة تدعى كلبسو Calypso، شغفها حباً فاستبقته عندها ثماني سنين يحن فيها أشد الحنين إلى زوجته بلني وابنه تلمكس اللذين ينتظرانه في أتكا على أحر من الجمر.
وتقنع أثينة زيوس بأن يأمر كلبسو بإطلاق سراح أديسيوس، وتطير الإلهة إلى تلمكس وتستمع إلى قصته الساذجة وتعطف عليه، فتعرف كيف أقبل أمراء أتكا والجزائر الخاضعة لها على بنلبي يتوددون لها ويسعون إلى زواجها ليظفروا بعد ذلك الزواج بعرش أتكا، وكيف يعيشون في قصف ومرح في قصر أديسيوس ويستمتعون بخيراته (2) ويأمر تلمكس الخُطَّاب بأن يعودوا إلى ديارهم، ولكنهم يسخرون من شبابه، فيخرج سراً على ظهر سفينة يبحث عن أبيه؛ وتحزن بنلبي لبعد زوجها وابنها، وتستمهل خاطبيها بأن تعدهم أنها ستتزوج واحداً منهم بعد أن تتم نسيج غزلها، ولكنها تنقض منه في الليل ما تعمله بالنهار (3) ويزور تلمكس نسطور في بيلس و (4) منلوس في إسبارطة ولكن أحداً منهما لا يستطيع أن يدله على مكان أبيه. ويرسم الشاعر صورة جذابة لهلن وقد استقرت في بيتها خاضعة، ولكنها لا تزال تستمتع بجمالها الرباني، وقد غفر لها زوجها خطاياها من زمن بعيد، وتقول إنها حين سقطت طروادة كانت قد سئمت المقام في المدينة .
(5) وهنا يدخل أديسيوس القصة لأول مرة. فقد كان "يجلس على ساحل جزيرة كلبسو"، وقد جف الدمع من عينيه وغاض ماء حياته الحلوة من شدة حزنه وحنينه إلى وطنه. نعم إنه كان يقضي ليله في الكهوف الجوفاء مضطجعاً على الرغم منه بجوار كلبسو، ينام وهو كاره بجوار الحورية المشتاقة، ولكنه كان يقضي النهار جالساً على الصخور والرمال، يبكي ويتوجع وينظر إلى البحر المضطرب"(78) وتستبقيه كلبسو ليلة أخرى تأمره بعدها أن يصنع رمثاً ويبحر فيه منفرداً. (6) ويكافح أديسيوس البحر كفاحاً طويلاً ثم ينزل في أرض فيشيا الخرافية (ولعلها كرسيرا - كورفو Corcyra-Corfu) حيث تعثر عليه العذراء نوسكا Nausica وتأخذه إلى قصر أبيها الملك ألسنوس، وتعشق الفتاة البطل الجريء المفتول العضلات، وتفضي بسرها إلى أترابها فتقول لهن : "استمعن إليَّ أيتها العذارى ذوات الأذرع الجميلة البيضاء .... لقد كان هذا الرجل يبدو لي منذ قليل غير وسيم، أما الآن فهو في نظري كالآلهة التي تستقر في السماء الواسعة. ألا ليت رجلاً كهذا يصبح لي زوجاً، يقيم هنا، ألا ليته يرضي أن يقيم هنا معي"(79). (7-8) ويعجب ألسنوس بأديسيوس أشد الإعجاب فيعرض عليه أن يزوجه نوسكا، ويعتذر أديسيوس ولكنه يسره أن يقص عليه قصة عودته من طروادة. (11) فيقول للملك : إن سفنه قد دفعتها الرياح عن طريقها إلى أرض أكلة (اللوطس)، وإن هؤلاء قدموا لرجاله فاكهة اللوطس الحلوة فنسي الكثيرون منهم أوطانهم وحنينهم إليها، حتى لم يجد أديسيوس بداً من أن يرغمهم على العودة إلى سفنهم. وساروا من هنا إلى أرض السيكلوبين الجبابرة العور، الذين لا يقومون بعمل ولا يخضعون لقانون، ويعيشون في جزيرة تكثر فيها الحبوب والفاكهة البرية. ووقعوا في كهف السيكلوب بليفيمس Polyphemus فأكل عدداً منهم، وأنقذ أديسيوس من بقي بأن أنام الوحش الجبار بعد أن أسكره، ثم حرق بالنار عينه الوحيدة. (10) ثم ركب الجوالون البحر مرة أخرى وأوغلوا فيه حتى وصلوا إلى أرض اللستريجونيين Laestrygonians، وكان هؤلاء أيضاً من أكلة اللحوم البشرية فلم تنج منهم إلا سفينة أديسيوس. ووصل هو ومن كان معه في السفينة إلى جزيرة إينيا Aenea حيث أغوت سرس Circe الإلهة الجميلة الغدارة معظم رفاقه بغنائها الجميل فدخلوا كهفها، ثم خدرتهم ومسختهم فصاروا خنازير. وأوشك أديسيوس أن يذبحها، ولكنه غير رأيه ورضي بحبها، ثم عاد هو ورفاقه إلى صورتهم البشرية وأقاموا مع سرس سنة كاملة. (11) أبحروا بعدها مرة أخرى ووصلوا إلى أرض يغشاها الظلام السرمدي تبين لهم أنها مدخل الجحيم (هيدس Hades)، وفيها تحدث أديسيوس إلى أطياف أجممنون وأكليز ووالدته. (12) ثم واصلوا سيرهم ومروا بجزيرة السيرينات Sirens، وهناك أنجى أديسيوس رجاله من أغانيهن المغوية بأن وضع شمعاً في آذانهم. ثم تحطمت سفينته في مضيق سلا Scylla وكربديس Charybdis (مسينا؟) ولم ينج ممن كانوا فيها إلا هو وحده، وقد نجا ليعيش تسع سنين أخرى في جزيرة كلبسو.
(13) ويتأثر ألسنوس بقصة أديسيوس وتدفعه شفقته عليه فيأمر رجاله أن ينقلوه بحراً إلى أتكا، على أن يعصبوا عينيه لئلا يعرف مكان أرضهم الهنيئة ويدل الناس عليها. وفي أتكا تقود الإلهة أثينة السائح الجوال إلى كوخ يوميوس Eumaeus راعي خنازيره. (14) ويستقبله الراعي ويكرمه إكراماً حاتمياً، وإن كان لا يعرفه. (15) وتقود أثينة تلمكس إلى هذا الكوخ نفسه (16) ويكشف أديسيوس عن نفسه لولده. (17) ويبكيان كلاهما "وينتحبان بحرقة وبأعلى صوتيهما"، ويفضي الوالد لولده بخدعة يقتل بها جميع الذين تقدموا لخطبة زوجته.
(17-18) ويدخل القصر في زي متسول، ويرى الخاطبين يأكلون ويتمتعون بماله، وتغلي مراجل الغضب في صدره حين يعلم أنهم يضاجعون خادماته بالليل وإن كانوا يغازلون بنلبي بالنهار. (19-20) ويحتقره الخاطبون ويهينونه ولكنه يرد أذاهم بقوته وصبره. (21) وكان الخاطبون وقتئذ قد كشفوا حيلة النسيج التي خدعتهم بها بنلبي، وأرغموها على أن تفرغ منه، وتوافق على أن تتزوج من يستطيع منهم أن يشد وتر قوس أديسيوس المعلق على أحد جدران القصر، ويرمي منه بسهم يمر من فتحات اثنتي عشرة بلطة مصفوفة في صف واحد. ويحاولون جميعاً أن يفعلوا هذا ولكنهم لا يفلحون، ويطلب أديسيوس أن تتاح له الفرصة ليجرب حظه ويفلح فيما أخفقوا فيه. (22) ثم يلقي عن نفسه القناع ويكشف عن حقيقة أمره وهو غضبان آسف، ويصوب سهامه إلى صدور الخاطفين ويقتلهم جميعاً بمعونة تلمكس، ويوميس، وأثينة. (23) ويلقي صعوبة شديدة في إقناع بنلبي أنه هو أديسيوس، ذلك أن من أصعب الأمور أن تتخلى امرأة عن عشرين خاطباً من أجل زوج واحد. (24) ويواجه هجمات أبناء الخاطبين، ويستل سخائم صدورهم ويستعيد ملكه. وفي هذه الأثناء كانت أشد المآسي في القصص اليوناني تجري في مجراها. ذلك أن أرستيز Arestes بن أجممنون كان وقتئذ قد بلغ رشده، وأثارت أخته إلكترا ثائرته فأخذ بثأر أبيهما وقتلا أمهما وعشيقها. وقضي أرستيز بعدئذ سنين كثيرة يضرب في الأرض وهو ذاهب العقل حتى جلس آخر الأمر على عرش أرجوس - ميسيني (حوالي عام 1167 ق.م)، وضم بعدئذ إسبارطة إلى ملكه . ولكن بيت بلوبس Pelops أخذ بعد اعتلائه العرش في الاضمحلال، ولعل هذا الاضمحلال قد بدأ من أيام أجممنون نفسه، وكان هذا الزعيم قد اتخذ الحرب وسيلة لضم شتات ملك كان وقتئذ ينفرط عقده. غير أن انتصاره كان الضربة القاضية عليه لأن من كان معه من الزعماء لم يعد منهم إلا القليل، وشقت كثير من الممالك عصا الطاعة وخرجت على كثيرين ممن لم يصحبوه من الزعماء. ولم يكد ينتهي العهد الذي بدأ بحصار طروادة حتى كانت قوة الآخيين قد أنهكت ونضب معين الحياة من جسم أبناء بلوبس، وأخذ الشعب يترقب في صبر وأناة ظهور أسرة جديدة.
الفصل السادس: فتح الدوريين
اجتاحت بلاد اليونان حوالي عام 1104 موجة جديدة من الهجرة أو الغزو متدفقة من الشمال القلق المضطرب النازع إلى التوسع؛ فقد انزلق، أو سار إلى البلوبونيز، أو تدفق عليها، شعب ذو روح حربية، طويل القامات، مستدير الرؤوس، معدوم الصلة بالأدب، بعد أن اخترق إليريا وتساليا وعبر خليج كورنثة عند نوبكتوس Naupactus، ومضيق كورنثة عند كورنثة نفسها، واستولى على البلاد وقضى على الحضارة الميسينية قضاء يكاد يكون تاماً. وكل ما نقوله عن أصلهم وعن الطريق الذي سلكوه لا يرقى إلى أكثر من الحدس والتخمين. أما أخلاقهم وأثرهم في البلاد التي فتحوها فإن علمنا عنهما يرقى إلى مرتبة اليقين. لقد كانوا لا يزالون في مرحلة الرعي والصيد؛ وكانوا من حين إلى حين يستقرون لفلح الأرض، ولكن جل اعتمادهم كان على ماشيتهم، وكانت حاجة هذه الماشية إلى المرعى الجديد سبباً في كثرة تنقلهم وعدم استقرارهم. وكان الشيء الوحيد الموفور عندهم وفرة لم يسمع بها عند غيرهم هو الحديد؛ ومن أجل ذلك كانوا هم رسل الثقافة الهلستانية إلى بلاد اليونان؛ وكانت صلابة أسلافهم وشدة بأسهم سبباً في تفوقهم على الآخيين والكريتيين، وفي قسوة قلوبهم وبطشهم الشديد، وكان الآخيون والكريتيون وقتئذ يستخدمون أسلحة من البرونز. والراجح أنهم تدفقوا من الغرب والشرق، من إليس ومجارا، على ممالك البلوبونيز المتفرقة الصغيرة وذبحوا بسيوفهم طبقاتها الحاكمة، واتخذوا من بقي من الميسينيين أرقاء. ودمرت النيان وتيرينز وأضحت أرجوس عاصمة جزيرة بلوبس وظلت كذلك مائتين من السنين. واستولى الغزاة في برزخ كورنثة على أكروكورنثوس Acrocorinthus وهي قمة عالية تشرف على ما حولها وتسيطر عليه، وشادوا حولها مدينة كورنثة الدورية(80), وفر أمامهم من بقي حياً من الدوريين، فلجأ بعضهم إلى جبال البلوبونيز الشمالية، وبعضهم إلى أتكا، وعبر بعضهم البحر إلى الجزائر وإلى سواحل آسية. واقتفى الفاتحون أثرهم إلى أتكا ولكنهم صدوا عنها؛ وجاءوا في أثرهم إلى كريت(81)، ودمروا ما بقي من نوسس تدميراً تاماً؛ واستولوا على ميلوس وثيرا Thera، وكوس Cos، ونيدس Nidus ورودس. وكان الخراف أشمل وأتم في جميع أنحاء البلوبونيز وكريت حيث ازدهرت الثقافة الميسينية أكثر من ازدهارها في غيرها الأصقاع. وهذه الكارثة الختامية التي وقعت في العصر السابق للحضارة الإيجية هي المعروفة لدى المؤرخين المحدثين باسم الفتح الدوري، والتي تسميها الرواية اليونانية "عودة الهرقليين". ذلك أن الظافرين لم يقنعوا بأن يسموا انتصارهم هذا غلبة أقوام همج على شعب متحضر، بل قالوا إن ما حدث في واقع الأمر هو أن أبناء هرقل، ومن تناسلوا من أبنائه، حيل بينهم وبين حقهم المشروع في العودة إلى البلوبونيز، فانتزعوا هذا الحق بقوة سواعدهم وبطولتهم. ولسنا نعرف ما في هذا القول من الحقائق التاريخية، وما فيه من الأساطير الدبلوماسية التي يقصد بها تصوير هذا الفتح الدموي في صورة حق مقدس. وإنا ليصعب علينا أن نعتقد أن الدوريين قد برعوا في الكذب هذه البراعة كلها في شباب العالم. وقد تكون القصتان كلتاهما صحيحتين وهو ما لم يسلم به المحاجون: فقد يكون الدوريون غزاة فاتحين من الشمال يقودهم أبناء هرقل وحفدته.
ومهما يكن مظهر هذا الفتح فإن ما ترتب عليه من الأثر هو أنه عاق تقدم بلاد اليونان ونماءها زمناً طويلاً، وأصابها بمحنة شديدة. فقد ظلت أحوالها السياسية مضطربة قرنين كاملين، فقد كان كل رجل فيها يحمل السلاح لأنه بات غير مطمئن على حياته؛ وزادت أعمال العنف زيادة مطردة فعطلت أعمال الزراعة والتجارة البرية والبحرية، واشتعلت نيران الحرب وعلا سعيرها، وازداد الفقر شدة وانتشاراً؛ وأصبحت الحياة قلقة مضطربة لأن الأسر أخذت تنتقل من إقليم إلى إقليم طلباً للأمن والسلم(82). ويسمى هزيود Hesiod هذا العصر عصر الحديد، ويأسف على فساده وانحطاطه عن العصور الجميلة التي سبقته، وكان كثير من اليونان يعتقدون أن "كشف الحديد قد أضر بالإنسان"(83)؛ واضمحلت الفنون وأهمل التصوير، وقنع المثالون بنحت التماثيل الصغيرة الملونة؛ وانحطت صناعة الفخار لأن الصناع غفوا عما كان يمتاز به فن ميسيني وكريت من نزعة طبيعية حيوية، فاتبعوا "طرازاً هندسياً" لا حياة فيه، ظل يسيطر على فن الخزف اليوناني جملة قرون.
ولكن الخسارة لم تحل بكل شيء، فقد امتزج العنصر الجديد بالقديم امتزاجاً سريعاً في خارج لكونيا Laconia وامتزاجاً بطيئا في داخلها، على الرغم من تصميم الغزاة الدوريين على أن يحتفظوا بدمائهم نقية طاهرة من دماء الأهلين المغلوبين، وعلى الرغم من الكراهية العنصرية بين الدوريين والأيونيين، وهي الكراهية التي اصطبغت بها بلاد اليونان على بكرة أبيها. ولعل امتزاج دم الآخيين والدوريين القوي النشيط بدم الشعوب التي هي أقدم من هذين الشعبين وأرق، والتي كانت تقيم في جنوبي اليونان، لعل هذا كان ذا أثر حافز منشط. ومهما يكن لهذا الامتزاج من أثر فإن النتيجة النهائية التي أسفر عنها بعد قرنين من الزمان هي نشأة شعب جديد مختلفة عن الشعوب التي كانت تعيش من قبل في تلك البلاد، امتزجت فيها دماء عناصر "البحر الأبيض المتوسط" و "الألبي" و "الشمالي (النوردي)" والعناصر الآسيوية امتزاجا أدى إلى كثير من القلق والاضطراب.
كذلك لم تمح الحضارة الميسينية من الوجود. فقد بقيت الحياة كامنة طوال قرون العنف والفوضى في بعض عناصر التراث الإيجي-كطرائق الحكم والنظام الإجتماعي، وعناصر الصناعات اليدوية والفنية، وأساليب التجارة وطرقها، وأشكال العبادة وأدواتها(84)، والمهارة في صنع الخزف والنقش، وفن طلاء المظلمات، وأساليب الزينة وطرز العمارة. ويعتقد اليونان أن النظم الكريتية قد انتقلت إلى إسبارطة(85)، وقد ظلت الجمعية الآخية عنصراً أساسياً في بلاد اليونان الديمقراطية. وأكبر الظن أن تصميم الهياكل الدورية قد أخذ عن الميسينيين(86)، بعد أن خلعت عليه الروح الدورية حرية وتناسقاً وقوة. وانتعشت التقاليد الفنية انتعاشاً بطيئاً، فرفعت كورنثة وطيبة وسكيون Sicyon وأرجوس إلى نهضة فنية مبكرة شبيهة بالنهضة الأوربية التي أعقبت العصور الوسطى، وجعلت الفن والغناء يبتسمان في إسبارطة العنيدة نفسها، حيناً من الدهر، وظلت هذه التقاليد تبعث الحياة في الشعر الغنائي طوال هذا العصر المظلم الذي لا تاريخ له، وحملها معهم البلاسجيون والآخيون، والأيونيون، والميناويون المنفيون في هجرتهم إلى جزائر بحر إيجة وإلى آسية هرباً من الغزاة الفاتحين، وأعانت المدن التي أقامها المستعمرون على أن تفوق أمهاتها في الآداب والفنون. ولما جاء المنفيون إلى الجزائر وإلى أيونيا وجدوا بقايا الحضارة الإيجية فاستولوا عليها واستعانوا بها. فقد احتفظ عصر البرونز بشيء من المهارة والنضارة القديمتين في المدن القديمة بهذه الجزائر، لأنها كانت أقل اضطراباً من مدن القارة الأوربية، وهناك في هذه الأرض الآسيوية بدأت بعدئذ يقظة اليونان الجديدة.
وبعث هذا الاتصال بين خمس ثقافات- الكريتية والميسينية والآخية، والدورية والشرقية- الشباب من جديد في حضارة بدا يدب فيها دبيب الفناء، حضارة فقدت رقتها في أرض القارة بفعل الحرب والنهب، وأصبحت حضارة منحلة مخنثة في كريت لما ركنت إليه عبقرية أهلها من ترف. وقد اجتاح امتزاج السلالات والأساليب قروناً عدة حتى استقر بعض الاستقرار، ولكنه أعان على خلق ما في التفكير اليوناني والحضارة اليونانية من تنوع، ومرونة، ودقة منقطعة النظير. وليس من حقنا أن ننظر إلى الثقافة اليونانية على أنها وميض لاح فجأة، وبطريقة غير عادية، في بحر مظلم من الهمجية، بل إن علينا أن ننظر إليها على أنها عملية بطيئة كدرة أدت إلى خلق شعب غني غنىً يكاد أن يكون مفرطاً في تنوع مائه وفي ذكرياته، تحيط به وتتحداه، وتعلمه، جموع همجية، وإمبراطوريات قوية وحضارات قديمة.