قصة الحضارة - ول ديورانت - م 2 ب 2
صفحة رقم : 1661
قصة الحضارة -> حياة اليونان -> تمهيد في حضارة بحر إيجة -> قبل أجممنون -> شليمان
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الباب الثاني: قبل آجممنون
الفصل الأول: شليمان
في عام 1822 ولد في ألمانيا صبي قدر له أن يكتب بمعوله صفحة من أروع الصفحات على الآثار في القرن التاسع عشر. وكان والده مولعاً بالتاريخ القديم، وقد نشأه على حب قصص هومر عن حصان طروادة، وتجوال أوديسيوس، "ولشد ما كان يحزنني أن أسمع منه أن طروادة قد دمرت عن آخرها تدميراً تاماً، وأنها محيت من الوجود دون أن تخلف وراءها أثراً يدل عليها"(2). ولما بلغ هنريخ شليمان الثامنة من عمره وفكر في الأمر تفكيراً أوفى من تفكيره الأول، أعلن أنه سيهب حياته للكشف عن المدينة المفقودة؛ وفي العاشرة من عمره عرض على أبيه قصة لاتينية عن حرب طروادة. وفي عام 1836 غادر المدرسة بعد أن حصّل فيها علماً أرقى مما تطيقه موارده، واشتغل صبياً عند بدال، وفي عام 1841 خرج من همبرج خادماً على ظهر سفينة تجارية مسافرة إلى أمريكا الجنوبية، وبعد اثني عشر يوماً من مغادرة السفينة الميناء غرقت، وظل بحارتها تسع ساعات في قارب صغير تتقاذفهم الأمواج حتى ألقت بهم على سواحل هولندة. واشتغل هنريخ كاتباً، وكان يكسب من عمله مائة وخمسين ريالاً أمريكياً في العام، ينفق نصفها في شراء الكتب ويعيش على نصفها الآخر وعلى أحلامه، وأثمر ذكاؤه وجده ثمرتهما الطبيعية؛ فلما أن بلغ الخامسة والعشرين كان تاجراً له مصالح مالية في ثلاث قارات؛ ولما بلغ السادسة والثلاثين أحس بأنه قد حصل من المال كفايته فاعتزل التجارة ووهب وقته كله لعلم الآثار. "لقد كنت وأنا في غمرة الأعمال التجارية دائم التفكير في طروادة أو فيما قطعته لوالدي من عهد على أن أكشف عن آثارها" .
وقد اعتاد في أثناء اشتغاله بالتجارة أن يتعلم لغة كل بلد يتجر معه، وأن يكتب بهذه اللغة ما يتصل بأعماله في مفكرته اليومية(4). وبهذه الطريقة تعلم اللغات الإنجليزية، والفرنسية، والهولندية، والأسبانية، والبرتغالية، والإيطالية، والروسية، والسويدية، والبولندية، والعربية. ثم ذهب إلى بلاد اليونان ودرس فيها لغة الكلام الحية، وسرعان ما أصبح في مقدوره أن يقرأ اليونانية القديمة والحديثة بنفس السهولة التي يقرأ بها الألمانية؛ فلما تم له ذلك أعلن: "إني لا أستطيع أن أعيش بعد الآن في غير أرض اليونان القديمة"(6). ولما أبت زوجته الروسية أن تغادر روسيا أعلن في الصحف رغبته في الزواج بيونانية، ووصف بغاية الدقة كل ما يطلبه في هذه الزوجة، ثم اختار في السابعة والأربعين من عمره عروساً في التاسعة عشرة من بين الصور الشمسية التي أرسلت إليه. ولم يكد يرى صاحبة الصورة حتى تزوجها من فوره، وتزوجها بطريقة الشراء القديمة دون أن يعني بمعرفة حقيقة أمرها، وطلب إليه أبواها ثمناً يتناسب مع ما يعرفان من ثرائه. ولما ولدت له زوجته طفلين، لم يرض بأن يعمدهما إلا مكرهاً، ولكنه كان في أثناء الاحتفال يضع نسخة من الإلياذة فوق رأسيهما ويقرأ منها مائة بيت بصوت عال. وسمى هؤلاء الأبناء أندروماك، وأجممنون. وسمي خادميه تلامون Telamon، وبلوبس Pelops، وأطلق على بيته في أثينة اسم بلروفون Bellerophon(7). لقد كان شليمان شيخاً افتتن بهومر إلى حد الجنون.
وفي عام 1870 ذهب إلى الأرض المحيطة بطروادة - وهي الطرف الشمالي الغربي من آسيا الصغرى - وأصر رغم جميع العلماء في ذلك الوقت على أن طروادة بريام مدفونة تحت التل المسمى حصار لك. واستطاع بعد مفاوضات دامت عاماً كاملاً أن يحصل من الحكومة العثمانية على إذن بالحفر في هذا الموقع، واستأجر ثمانين عاملاً وبدأ العمل. وكانت زوجته، التي تحبه لما يتصف به من شذوذ ونزوات، تشترك معه في كدحه في الأرض من مطلع الشمس إلى مغيبها. وظلت العواصف الثلجية تهب من الشمال طوال الشتاء وتقذف الثرى في وجهيهما، وكانت الرياح تندفع بقوة من ثغرات كوخهما الضعيف فلا يستطيعان أن يحتفظا فيه بمصباح مضيء أثناء الليل. "ولم يكن لدينا ما يدفئنا إلا تحمسنا لعملنا العظيم ألا وهو كشف طروادة"(8).
ومر عام دون أن تثمر جهودهما ثمرة ما. ثم أخذت فأس أحد العمال تكشف ضربة في إثر ضربة عن وعاء نحاسي كبير، ولما فتح هذا الوعاء تكشف عن كنز مدهش ثمين مكون من تسعة آلاف تحفة مختلفة من الفضة والذهب. وكان شليمان ماكراً فأخفى الكنز في لفاعة زوجته، وصرف العمال على غير انتظار منهم لكي يستريحوا، وأسرع إلى كوخه، وأغلق عليه الباب، وبسط الكنز الثمين أمامه على المنضدة، ووصل ما بين كل قطعة منه وبين فقرة في شعر هومر، وحلى رأس زوجته بجوهرة قديمة، وأرسل إلى أصدقائه في أوربا يبلغهم أنه كشف عن "كنز بريام"(9). لكن أحداً منهم لم يصدقه، واتهمه بعض النقاد بأنه وضع بنفسه الأشياء التي كشفها في المكان الذي استخرجها منه، ورفع الباب العالي في الوقت نفسه قضية عليه يتهمه بالاستيلاء على الذهب من أرض تركية. لكن بعض العلماء أمثال فرشاو Virchow، ودوربفلد Dorpfeld وبرنوف Burnouf هرعوا إلى موضع الحفر، وحققوا أقوال شليمان، وواصلوا العمل معه حتى كشفوا عن طروادة مدفونة بعد طروادة؛ ولم تبق المشكلة القائمة بعدئذ هل كانت هناك طروادة أو لم تكن، بل أصبحت محصورة في أي الطروادات التسع التي كشفت هي التي تطلق عليها الإلياذة اسم إليوس.
وفي عام 1876 اعتزم شليمان أن يحقق ملحمة هومر من ناحية أخرى - وهي أن يثبت أن أجممنون كان هو أيضاً شخصاً حقيقياً. واسترشد في عمله بوصف بوسيناس القديم لبلاد اليونان ، فاحتفر أربعاً وثلاثين فجوة في ميسيني الواقعة في شرقي البلوبونيز. وقطع عليه الموظفون الأتراك عمله بأن طالبوه بنصف الكنوز التي كشفها في طروادة؛ ولم يشأ هو أن يترك "كنز بريام" في تركيا مختفياً عن الأنظار، فأرسله سراً إلى متحف الدولة في برلين، وأدى للباب العالي خمسة أمثال ما طلبه إليه من تعويض، وواصل أعمال الحفر في ميسيني. وكان النجاح في هذه المرة أيضاً حليفه، ولما أن أبصر عماله يحملون إليه هياكل بشرية، وفخاراً، وجواهر، وأقنعة ذهبية، أبرق إلى ملك اليونان يقول إنه كشف قبري أتريوس وأجمنون(10). وفي عام 1884 انتقل إلى تيرينز Tiryns واسترشد في عمله هنالك أيضاً ببوسنياس، وكشف عن القصر العظيم وعن الأسوار الضخمة التي وصفها هومر(11).
ولسنا مبالغين إذا قلنا إنه قلما خدم أحد علم الآثار كما خدمه شليمان. لقد كان هذا الرجل متصفاً بعيوب فضائله، ذلك أن حماسته كانت تدفعه إلى العجلة والتهور في عمله، فأدى ذلك به إلى إتلاف كثير من الأشياء التي عثر عليها أو خلطها بعضها ببعض لكي يحقق بسرعة الهدف الذي كان يعمل لتحقيقه. يضاف إلى هذا أن الملحمتين اللتين كانتا تهديانه في عمله قد أضلتاه، فحسب أنه كشف عن كنز بريام في طروادة، وعن قبر أجممنون في ميسيني. وارتاب العلماء في أنحاء العالم في تقاريره وظلت متاحف إنجلترا، وروسيا، وفرنسا زمناً طويلاً لا تصدق أن ما كشفه آثار قديمة بحق. وكان في هذه الأثناء يعزي نفسه بما ناله من مكانة عظمى في عينه هو، ويواصل الحفر بشجاعة حتى أقعده المرض. وتحير في آخر أيامه هل يصلي إلى إله المسيحيين أو إلى زيوس إله اليونان الأقدمين؛ وكتب إلى ابنه يقول: "إلى أجممنون شليمان أحب الأبناء أرسل تحياتي، وإني ليسرني أنك ستدرس بلوتارخ، وأنك فرغت من زنوفون .... وإني لأدعو أبانا زيوس وبلاس أثينة أن يجزياك من الصحة والسعادة ما يعادل جهودك مائة مرة"(12). وتوفي عام 1890 بعد أن أنهكه الكدح في الحر والبرد، وقاسى ما قاسى من عداوة العلماء، ومن حمى أحلامه التي لم تفارقه في يوم من الأيام. لقد كشف شليمان - كما كشف كولمبس - عن عالم أشد غرابة من العالم الذي كان يبحث عنه، فلقد كانت هذه الجواهر أقدم بمئات السنين من بريام وهكيبا Hecuba : ولم تكن تلك القبور قبور أتريدا، بل كانت أطلال حضارة إيجبة قامت في أرض اليونان الأصلية، قديمة قدم العصر المينوي في كريت. ولقد حقق شليمان، دون أن يعرف، بيت هوراس الذائع الصيت "لقد عاش قبل أجممنون كثيرون من الرجال البواسل" . وكلما توسع دوريفلد، وملر Muller، وتسونتاس Tsountas، واستماتاكس Stamatakis، وولدشتين Waldstein، وويس Wace في أعمال الحفر في أرض البلويونيز، وواصل غيرهم الحفر في أتكا وفي جزائر عوبيه Euboea، وبؤوتيا Boeotia، وفوسيس Phocis، وفي تساليا، تكشفت أرض اليونان عن بقايا ثقافة قامت فيها في أزمنة ما قبل التاريخ. وفي هذه الثقافة ارتقى الناس أيضاً من الهمجية إلى الحضارة بانتقالهم من حياة الصيد البدوية إلى حياة الاستقرار والأعمال الزراعية، وباستبدال النحاس والبرنز بالحجارة، وبما يسرته لهم الكتابة والتجارة من وسائل التقدم. إن الحضارة على الدوام أقدم مما نتصور، وتحت كل شبر من الأرض نطأه بأقدامنا عظام رجال ونساء عملوا وأحبوا كما نعمل نحن ونحب، وكتبوا الأغاني وصنعوا الجميل من الأشياء؛ ولكن أسماءهم وحياتهم نفسها قد ضاعت على مر الزمان الذي لا يحفل قط بالرجال والنساء.
الفصل الثاني: قصور الملوك
على تل منخفض طويل، على بعد ميل واحد في شمال البحر، كان يقوم في القرن الرابع عشر قبل الميلاد قصر تيرينز الحصين. ويستطيع الإنسان أن يصل إلى خرائب هذا القصر بعد رحلة ممتعة من أرجوس أو نوبليا Nsuplia، ومشهد هذه الخرائب تكاد تضيع معالمها بين حقول القمح والذرة الهادئة الساكنة. فإذا صعد السائح قليلاً فوق درجات حجرية باقية من أزمنة ما قبل التاريخ، وقف أمام الجدران الضخمة السيكلوبية التي بنيت كما تقول الرواية اليونانية للأمير الأرجوسي بروتوس Proetus قبل حرب طروادة بمائتي عام . ولقد كانت المدينة حتى في ذلك الزمن البعيد قديمة العهد فقد شادها كما تقول الرواية القديمة المأثورة البطل تيرينز بن أرجس Argus ذو المائة عين، والعالم لا يزال في طفولته(14). ةتضيف القصة إلى ذلك أن بروتيوس أهدى القصر إلى برسيوس الذي حكم تيرينز مع الملكة أندرمدا Andromeda الحمراء.
وكان ارتفاع الأسوار التي تحمي المدينة بين عشرين وخمسين قدماً، وقد بلغ من سمكها أن كانت تحتوي في بعض المواضع على معارض واسعة ذات قباب وعقود فيها قطع حجرية ضخمة مركبة بعضها فوق بعض في وضع أفقي.
ولا تزال بعض هذه الحجارة فـي أماكنها حتى الآن، والكثير منها يبلغ طوله ست أقدام وعرضه ثلاثاً وسمكه مثلها، أما أصغرها فيقول بوسنياس "إنه يصعب على زوج من البغال أن يحركها من أماكنها"(15). وكان في داخل الأسوار، وراء مدخل شيد على نمط كثير من مداخل الحصون فناء واسع مرصوف، حوله طائفة من الأعمدة، ومن حول هذه الأعمدة عدد كبير من الحجرات شبيهة بحجرات نوسس، تجتمع حول بهو فخم سعته ألفا وثلاثمائة قدم مربعة، أرضه مرصوفة بالأسمنت المطلي وسقفه مقام على أربعة عمد بينها موقد. وهنا وجد مبدأ جرت عليه العمائر اليونانية يختلف عما كان متبعاً في كريت - وهو فصل الجناح الذي تقيم فيه النساء عن حجرات الرجال. فقد كانت حجرة الملك وحجرة الملكة متجاورتين ولكنهما - على قدر ما نستطيع أن نستدل عليه من آثارهما - منفصلتان إحداهما عن الأخرى كل الانفصال ولا صلة بينهما من داخلهما. ولم يعثر شليمان من هذا القصر الحصين إلا على أساس الطابق الأرضي، وقواعد الأعمدة، وأجزاء من الجدران. وفي أسفل التل وجدت بقايا البيوت المقامة من الحجارة أو الآجر، والقناطر، وقطع من الفخار القديم. وفي هذا الموضع كانت مدينة تيرينز يف عهد ما قبل التاريخ تتقارب بيوتها لتحمي نفسها تحت أسوار القصر. ذلك أنه لا مفر لنا من أن نتصور بلاد اليونان في عصر البرنز تحيا حياة غير آمنة حول هذه القلاع الإقطاعية وفي داخلها.
وعلى بعد عشرة أميال شمالي هذه المدينة شاد برسيوس (إذا أردنا أن نصدق قول بوسنياس)(16) مدينة ميسيني - أعظم عواصم اليونان قبل التاريخ. وهنا أيضاً نشأت حول قلعة منيعة مدينة من عدة قرى، تضم عدداً من السكان النشيطين زراع، وتجار، وصناع، ورقيق، كانوا سعداء لأنهم ليس لهم تاريخ. وبعد ستمائة عام من ذلك الوقت وصف هومر ميسيني بأنها "مدينة حسنة البناء واسعة الطرقات، موفورة الذهب"(17). ولقد أبقى الزمان على أجزاء من هذه الجدران الضخمة رغم ما مر بها من مئات الأجيال التي تكفي لتخريب أقوى الصروح؛ وإن ما بقي منها ليشهد برخص الأيدي العاملة وعدم اطمئنان الملوك على أنفسهم في تلك الأيام. وفي ركن من أركان السور يوجد باب الأسد الشهير، وهناك فوق أسكفة ضخمة نحت على حجر مثلث الشكل أسدان كبيران أبلاهما الزمان وحطم رأسيهما، وأبقى على جسميهما ليحرسا وهما صامتان ذلك المجد العتيد الزائل. وعلى الرابية القريبة من هذا الباب ترى أطلال القصر. وفي وسعنا أن نفعل هنا ما فعلناه في تيرينز فنتبين فيها حجرة العرش، وحجرات المخازن، وحجرة النوم، وحجرات الاستقبال. وهنا كانت في غابر الأيام أرضيات منقوشة، ومداخل ذات عمد، وجدران ذات مظلمات، وسلالم فخمة. وقد كشف عمال شليمان، بالقرب من باب الأسد في بقعة ضيقة تحيط بها دائرة من القطع الحجرية المسطحة، عن تسعة عشر هيكلاً عظيماً، وعن عاديات قيمة ثمينة لا يسع من يراها إلا أن يغفر لهذا الهاوي العظيم ظنه أن هذه الحفر هي الحجرات التي دفن فيها أبناء أتريوس. كيف لا وقد وصف بوسنياس القبور الملكية بأنها "في أطلال ميسيني؟"(18)، لقد كان من بين هذه الهياكل العظيمة جماجم رجال عليها تيجان من الذهب، وعلى عظام وجوهها أقنعة ذهبية؛ وكان من بينها هياكل سيدات لهن تيجان من الذهب كن يلبسنها على رؤوسهن التي لم يبق لها وجود. ومن بين ما وجد في هذه المقابر آنية عليها رسوم جميلة، وجفان من البرنز، وكأس من فضة، ورؤوس وسيوف مزخرفة، ولوحة للعب شبيهة بالتي وجدت في نوسس، وكل ما يستطيع أن يتصوره الإنسان من الأدوات مصنوعة من الذهب الخالص - أختام وخواتم، ودبابيس، ومشابك، وأقداح، وخرز وأساور، ودروع، وآنية للزينة، وأثواب مزركشة بصفائح رفيعة من الذهب(19)، وليس ثمة شك في أن هذه الجواهر جواهر ملوك، وأن هذه العظام عظام ملوك.
وقد كشف شليمان وغيره من العلماء في سفح التل المقابل للسفح الذي شيد عليه هذا الحصن، تسعة قبور تختلف كل الاختلاف عن "القبور البئرية". فإذا ما خرج الإنسان عن الطريق النازل من القلعة دخل عن يمينه دهليزاً على جانبيه جدران من الحجارة الكبيرة الجيدة القطع، وفي آخر الدهليز مدخل بسيط كان يزدان فيما مضى بعمودين أسطوانيين رفيعين من الرخام الأخضر محفوظين في المتحف البريطاني الآن، ومن فوق العمودين أسكفة بسيطة من حجرين طول أحدهما ثلاثون قدماً ووزنه 113 طناً. فإذا اجتاز السائح هذا المدخل ألفى نفسه تحت قبة ارتفاعها خمسون قدماً وقطرها خمسون، وجدرانها من الحجارة المنشورة، مقواة بصفائح من البرنز نقش عليها الورد، وتركب كل طبقة من الحجارة على ما تحتها حتى تسد أعلى الطبقات قمة القبة. وقد اعتقد شليمان أن هذا الصرح العجيب هو قبر أجممنون، ولم يتردد في أن يصف قبة أخرى أصغر من هذه وجدت إلى جوارها وكشفتها زوجته بأنها قبر كليتمنسترا Clytaemnestra. وكانت كل القبور التي وجدت في ميسيني والتي تشبه خلية النحل في كثرتها خالية، لأن اللصوص سبقوا علماء الآثار إليها بعدة قرون.
وهذه الآثار الدارسة شواهد باقية على حضارة كانت قديمة في أيام بركليز قدم شليمان إلينا نحن. ويرجع المؤرخون المحدثون تاريخ المقابر البئرية إلى عام 1600 ق.م (أي قبل التاريخ الذي يحددونه لأجممنون بأربعمائة عام)، أما المقابر التي في الجهة الأخرى من التل فيرجع تاريخها في زعمهم إلى حوالي عام 1450، ولكن تأريخ ما قبل التاريخ عملية بعيدة كل البعد عن الدقة. ولسنا نعرف كيف بدأت هذه الحضارة، كما لا نعرف من هم أولئك الأقوام الذين شادوا مدائن في موضعي ميسيني وتيرينز، بل وفي مواضع إسبارطة، وأمكلي Amyclae وإيجينا Aegina، وإليوزيس Eleusis، وقيروينا Chaeronia، وأرثومينوس Orthomenos ودلفي. وأكبر الظن أن هؤلاء الأقوام كانوا كغيرهم من الأمم قد أصبحوا خليطاً من سلالات مختلفة، ورثوا ثقافات متعددة؛ فلقد كانت بلاد اليونان مختلطة دماء أهلها قبل غزو الدورين (1100 ق.م) اختلاط دماء سكان إنجلترا قبل فتح النورمان. ومبلغ ما نستطيع أن نهتدي إليه بظننا أن الميسينيين كانوا يمتون بصلة القرابة العنصرية للفريجيين والكاريين سكان آسيا الصغرى، وللمينويين سكان كريت(20أ). وللأسدين اللذين وجدا في ميسيني وجهان شبيهان بآساد أرض النهرين. ولعل هذه الفكرة القديمة قد انتقلت إلى هذه البلاد عن طريق أشور وفريجيا(20ب).
وتسمى الراوية التاريخية الميسينيين باسم "بلاسجى" Pelasgi (وربما كان معناه أهل البحر - بلاجوس Pelagos)، وكانوا يصورونهم كأنهم آتون من تراقية وتساليا إلى أتكا والبلويونيز في زمن يبلغ من القدم حداً جعل اليونان يطلقون عليهم اسم السكان الأصليين، أوتوكتنوي Autochthonoi. وقد صدق هيرودوت هذه القصة وقال إن الآلهة الأولمبية من أصل بلاسجي، ولكنه "لا يستطيع أن يقول وهو واثق ماذا كانت لغة البلاسجي"(21)، ولسنا نحن أكثر منه علماً بها.
وما من شك في أن أولئك الأوتوكتنويين قد قدموا في عصر متأخر إلى أرض كانت تزرع من أيام العصر الحجري الحديث؛ ذلك أنه لا يوجد في بلد من بلاد العالم سكان أصليون. وقد غلبهم على مر الزمان أقوام آخرون، وشاهد ذلك أننا نجد في العصور المتأخرة من تاريخ الميسينيين حوالي عام 1600 ق.م دلائل كثيرة على غزوة تجارية ثقافية، إن لم تكن سياسية عسكرية، لأرض البلويونيز، من حاصلات كريت أو من مهاجريها(22). وحجتنا في هذا القول أن قصور تيرينز وميسيني قد خططت وزينت على غرار القصور المينوية إذا استثنينا أقسام النساء في الأولى وهي التي لا نظير لها في الثانية. يضاف إلى هذا أن الآنية والأنماط الفنية الكريتية وصلت إلى إيجينيا وكلسيس Chalcis وطيبة، وأن سيدات ميسيني وإلهاتها قد قلدن الطراز الكريتي الساحر في الملبس والزينة، وأن الفن الذي كشف عنه في القبور البئرية المتأخرة مينوي بلا ريب(23). وجلي أن اتصال الميسنيين بحضارة أرقى من حضارتهم كان له فيهم أثر حافز قوي، وأنه هو الذي رفع ميسيني إلى أرقى من حضارتهم كان له فيهم أثر حافز قوي، وأنه هو الذي رفع ميسيني إلى أرقى ما وصلت إليه حضارتها.
الفصل الثالث: الحضارة الميسينية
إن ما لدينا من آثار هذه الحضارة أقل من أن يمكننا من أن نصورها في صورة واضحة وضوح الحضارات التي تتكشف عنها خربات كريت أو أشعار هومر. ولكننا نستطيع أن نقول عنها إن الحياة في أرض اليونان القارية كانت أقرب إلى مرحلة الصيد من الحياة في كريت، وإن ما نجده بين بقايا الآثار الميسينية من عظام الظباء، والخنازير البرية، والمعز، والضأن، والأرانب، والثيران، والخنازير - بل عظام السمك والأصداف البحرية - ليدل على أن شهوة الطعام بين أولئك القوم قد وصلت إلى المرحلة التي يصفها لنا هومر، والتي لا تلائم خصر الكريتيين النحيل. وتكشف الآثار في أماكن متفرقة عما بين أساليب الحياة "القديمة" و "الحديثة" من تشابه عجيب، فقد نجد سهاماً من الحجر الزجاجي إلى جانب مثقب برنزي أجوف كان يستعمل في عمل ثقوب في الحجارة للأوتاد(24).
أما الصناعة، فلم تكن متقدمة تقدمها في كريت، فلسنا نجد في أرض اليونان القارية مراكز صناعية مثل جورنيا، كذلك كان نمو التجارة بطيئاً، لأن البحار كانت عرضة لغارات القراصنة، ومنهم الميسينيون أنفسهم. وكان ملوك ميسيني وتيرينز يستخدمون فنانين كريتيين ليحفروا على الأواني والخواتم، ما كانوا يقومون به من أعمال القرصنة التي يفخرون بها(25). وكانوا يبنون مدنهم في داخل البلاد ليدفعوا عن أنفسهم شر غيرهم من القراصنة، بعيدة عن البحر بعداً يمكنهم من أن يتقوا الغارات المفاجئة، وقريبة منه قرباً يمكنهم من الإسراع إلى سفنهم. وكان موقع مدينتي تيرينز وميسيني على الطريق الممتد من خليج أرجولي إلى برزح كورنث يمكنهما من فرض إتاوات باهظة على التجار ومن القيام بغارات قرصنة عليهم من حين إلى حين. ولما رأت ميسيني أن كريت قد أثرت من اشتغالها بالتجارة المشروعة، أدركت أن القرصنة، كالضريبة الجمركية وليدتها المتحضرة، قد تخنق التجارة خنقاً وتنشر الفاقة في أوسع نطاق؛ ولذلك أصلحت أمرها وقبلت أن تتطور القرصنة فتصير تجارة. وما وافى عام 1400 حتى بلغ أسطولها التجاري من القوة درجة استطاع بها أن ينازع كريت سلطانها البحري؛ فرفضت أن تنقل بضائع ميسيني الذاهبة إلى أفريقيا عن طريق الجزيرة وأرسلتها إلى مصر مباشرة؛ وقد يكون هذا العمل سبباً أو نتيجة لحرب انتهت بتدمير القلاع الكريتية.
ولم تكن الثروة التي أفادتها البلاد من هذه التجارة مصحوبة بثقافة تتناسب معها، ونستطيع أن نتبينها فيما بقي من الآثار. وتعزو الروايات اليونانية إلى البلاسجيين فضل تعلم الحروف الهجائية من التجار الفينقيين، وقد وجدت في تيرينز وطيبة جرار عليها رموز لم تحل بعد، ولكن لم تكشف قط ألواح من الصلصال، أو نقوض، أو وثائق؛ وأكبر الظن أن ميسيني حين أرادت أن يتعلم أهلها الكتابة استخدمت فيها مواد سريعة العطب، كما فعل الكريتيون في المرحلة الأخيرة من تاريخهم، ولذلك لم يبق شيء من هذه المواد. ونهج الميسينييون في الفن نهج الكريتيين، وقلدوهم فيه بأمانة جعلت علماء الآثار يظنون أنهم كانوا يأتون بكبار الفنانين من كريت، ولكن يرد على هذا بأنه بعد أن اضمحل الفن الكريتي ازدهر فن التصوير أيما ازدهار في أرض اليونان، فترى النقوش التي تزدان بها أطراف الجدران وحلياتها ترقي إلى المرتبة الأولى في الفن وتبقى إلى عصر ازدهار الحضارة اليونانية؛ وكذلك يدل ما بقي من المظلمات على إحساس قوي بالحياة والنشاط. وترى "النساء اللاتي في المقاصير" من كبريات السيدات اللائي تزدان بأمثالهن دور التمثيل في هذه الأيام، وقد صففن شعرهن وارتدين من الملابس ما يتفق مع أحسن طراز في الوقت الحاضر؛ وهن أقرب إلى الحياة الحقة من "السيدات الراكبات في العربة" اللائي خرجن للتنزه في الحقول آخر النهار وتكلفن الجمود في ركبتهن. وخير من سيدات المقاصير منظر "صيد الخنازير البرية"، وهو نقش من نقوش تيرينز. إن الخنزير والأزهار قد تحكم في تصويرهما العرف إلى حد لا يصدقه العقل، واللون القرنفلي الغير المعقول قد شوهته بقع أرجوانية وسوداء وزرقاء تتفق مع النمط المألوف وقتئذ، والنصف الخلفي من الخنزير المندفع في جريه يدق تدريجاً حتى يشبه عذراء عالية الحذاءين تسقط من عريشة في قصرها. ولكن المطاردة رغم هذا مطاردة حقيقية، والخنزير قد أعياه الطراد حتى وصل إلى درجة اليأس، والكلاب تقفز بأقصى سرعتها في الهواء؛ والرجل، وهو أقوى الوحوش المفترسة عاطفة وأشدها قسوة، واقف متأهب برمحه القاتل الفتاك(26). ومن حق الإنسان أن يستدل من هذه النماذج على ما كان يستمتع به الميسينيون من حياة نشطة ومن أجسام قوية، وما كان لنسائهم من جمال وما كان في قصورهم من زينة واضحة جميلة. وأرقى فنون ميسيني كلها ما كان منها على المعادن، ففيها بلغت بلاد اليونان ما بلغته كريت، وبلغ من جرأتها في هذه الناحية أن اتبعت فيها أشكالها الخاصة وزينتها. وإذا لم يكن شليمان قد عثر بحق على عظام أجممنون، فقد عثر على ما يعادل وزنها فضة وذهباً. عثر على حلي كثيرة الأنواع، وبكميات تدل على الإسراف الشديد، وعلى أزرار ذات رؤوس خليقة بأن تكون في ملابس الملوك؛ وحجارة كريمة حفرت عليها مناظر صيد أو حرب أو قرصنة؛ ورأس بقرة من الفضة البراقة لها قرنان وجبهة من الفضة نقشت عليها ورود، يتوقع الناظر إليها في أية لحظة من اللحظات أن تخور خواراً محزناً، قد يفسره شليمان، وهو الذي لا يعدم وسيلة لتفسير كل ما يراه، بأنه اسم ميسيني(27). وأجمل ما وجد في تبرينز وميسيني من آثار معدنية خنجران من البرنز مرصعان بمزيج من الذهب والفضة، ومصفحان بالذهب المجلو المصقول، وعليهما نقوش تمثل قططاً برية تطارد بطاً، وأساداً تطارد فهاداً أو تحارب أناسي(29). وأغرب من هذه كلها الأقنعة الذهبية التي كانت على ما يظهر تغطي بها وجوه الموتى من الملوك. ويشبه أحد هذه الأقنعة وجه قطة؛ وقد دفعت شليمان شهامته إلى أن يعزو هذا القناع لأجممنون لا لكليتمنسترا.
ولكن أروع روائع الفن الميسيني بلا جدال لم يعثر عليها في تيرينز ولا في ميسيني، بل عثر عليها في قبرص ففيو Vaphio بالقرب من إسبارطة، حيث كان أحد صغار الأمراء ينافس ملوك الشمال في التفاخر والعظمة. وقد عثر في ذلك المكان، بين كنز آخر من الحلي، على قدحين من الذهب المطروق بسيطين في شكلهما ولكنهما بذل في صنعهما كل ما يستطيع الفنان المحب لفنه العظيم أن يبذله فيه من الصبر والإتقان. وتشبه صناعة هذين القدحين أحسن الصناعة المينوية، وقد أغرى ذلك بعض العلماء على أن يعزوهما إلى فنان كريتي عظيم بلغ من المنزلة في كريت ما بلغه سليني عند الإيطاليين. ولكننا يحزننا أن تحرم الثقافة الميسينية أحسن ما خلفت من آثار. نعم إن موضوع النقوش التي على القدحين - وهو اقتناص ثور وترويضه - يبدو من الموضوعات التي اختصت بها كريت؛ ولكن كثرة هذا المنظر وأمثاله محفورة على الخواتم والأختام الميسينية، أو مصورة على جدران القصور، تشهد بأن مصارعة الثيران كانت منتشرة في أرض اليونان انتشارها في الجزيرة. وقد نقش على أحد القدحين منظر القور وقد صيد في شبكة من الحبال السميكة، وفتح فاه ومنخريه وهو لا يكاد يستطيع التنفس من شدة الغضب وفرط التعب، وكلما حاول التخلص من الشرك ضاقت عليه حلقاته؛ وعلى الجانب الآخر ثور ثان يقفز قفزة الرعب والهلع، وثالث يهاجم غلاماً من الرعاة أمسكه بشجاعة نادرة من قرنيه. وعلى القدح الثاني يساق الثور المصيد؛ فإذا أدرنا القدح رأيناه قد رضي بقيود الحضارة، وانهمك على حد قول إيفنز في "حديث غرامي" مع بقرة(31). وقد مضت قرون كثيرة بعد ذلك العهد قبل أن يظهر مثل هذا الصنع البديع في بلاد اليونان.
ويوجد الميسيني نفسه، كما توجد معظم مخلفات فنه، في قبوره، ذلك أنه كان يطوي موتاه ويدفنهم في جرار غير مريحة، وقلما كان يحرق جثثهم كما كان يُفعل بها في عصر الأبطال. ويستدل من مخلفاته على أنه كان يؤمن بحياة من نوع ما في الدار الآخرة، لأن أدوات ذات قيمة ونفع قد وجدت في قبوره. وفيما عدا هذا فإن الدين الميسيني، على قدر ما تكشف لنا من مقوماته، قوي الدلالة على أنه نشأ من الدين الكريتي أو كان قوي الصلة به، ففيه - كما في كريت - نجد البلطة المزدوجة، والعمود المقدس، واليمامة الإلهية، وعبادة أم إلهة ممثلة في إله غلام لعله ولدها؛ وهنا أيضاً نجد أرباباً صغاراً في صور أفاع. وقد بقيت الأم الإلهة في بلاد اليونان خلال كل ما حدث في دينها من تطور وتغيير، فقد جاءت بعد ريا Rhea الكريتية دمتر Demeter أم اليونان الحزينة، وبعد دمتر جاءت العذراء أم الإله. وإذا ما وقف الإنسان اليوم على أطلال ميسيني رأى في القرية الصغيرة القائمة أسفلها كنيسة مسيحية متواضعة، لقد ولى عصر الأبهة والفخامة ولم تبق إلا البساطة والسلوى.
وازدهرت ميسيني بعد سقوط نوسس كما لم تزدهر من قبل، واستخدمت الثروة الطائلة المتزايدة التي كانت "لأسرة القبور البئرية" في تشييد القصور الفخمة على تلال ميسيني وتيرينز، واتخذ الفن الميسيني لنفسه طابعاً خاصاً، واستولى على أسواق بحر إيجة، ووصلت تجارة أمراء البلاد شرقاً إلى قبرص وسورية، وجنوباً إلى مصر مارة بجزائر سكلديس، وغرباً إلى أسبانيا مارة بإيطاليا، وشمالاً إلى نهر الدانوب مخترقة يؤوتيا وتساليا، ولم تقف في سبيلها إلا طروادة. وكما أن رومة قد استحوذت على حضارة اليونان ونشرتها في أنحاء العالم، كذلك فعلت ميسيني فاستحوذت على ثقافة كريت المختصرة، ونشرت الطور الميسيني من أطوار تلك الحضارة في عالم البحر الأبيض المتوسط كله.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الرابع: طروادة
بين كريت وأرض اليونان 220 جزيرة منثورة في بحر إيجة في دائرة حول ديلوس، ومن أجل ذلك سميت السكليديس. ومعظم هذه الجزائر صخري قحل وهي بقايا قمم جبال كانت تمتد في أرض غرق بعضها تحت ماء البحر، ولكن بعضها كان غنياً بالرخام أو المعادن إلى حد جعل أهله يعملون في استخراجها، وأنشئوا فيه حضارة على مر القرون القديمة قبل أن يطل علينا التاريخ اليوناني. وقد قامت المدرسة البريطانية في أثينة عام 1896 بأعمال الحفر في أرض ميلوس Melos عند فيلا كوبي Phylakopi، وعثرت على أدوات وأسلحة وفخار مشابهة شبهاً يثير الدهشة لآثار العصور التي مرت بها الحضارة المينوية عصراً عصراً؛ واستطاع الباحثون بفضل البحوث التي أجريت في غيرها من الجزائر أن يرسموا صورة لجزائر السكلديس في عصر ما قبل التاريخ تتفق في زمنها وصفاتها مع الصورة المستعادة التي رسمها المنقبون لكريت، وكانت جزائر السكلديس ضيقة الرقعة لا تزيد مساحة أرضها كلها على ألف ميل مربع، فكانت من هذه الناحية شبيهة ببلاد اليونان عاجزة عن الاجتماع في قوة سياسية موحدة؛ ولم يكد يحل القرن السابع قبل الميلاد حتى خضعت هذه الجزائر الصغيرة في حكمها وفنونها، بل خضع بعضها في لغته وكتابته لسيطرة الكريتيين؛ ولما أن حل الطور الأخير من أطوار الحضارة الكريتية (1400-1200) انقطع ما تستورده تلك الجزائر من كريت، وولت وجهها شطر ميسيني تستورد منها فخارها وأساليبها.
وإذا اتجهنا نحو الشرق إلى أسبوردايس Sporades (أي المتفرقة) ألفينا في جزيرة رودس ثقافة أخرى في عصر ما قبل التاريخ من نوع الثقافات الإبجية البسيطة، أما في قبرص فإن رواسب النحاس الغنية التي استق منها اسم الجزيرة قد أفاءت عليها قدراً من الثراء دام حتى عصر البرنز (3400-1200) ولكن مصنوعاتها ظلت مع ذلك خشنة غير مهذبة لا تمتاز في شيء إلى ما قبل السيطرة الكريتية. وكان أهلها الذين يغلب عليهم العنصر الآسيوي يستخدمون كتابة مقطعية شديدة الصلة بالكتابة المينوية، ويعبدون إلهات تنحدر من عشتار السامية، وهي التي قدر لها أن تصبح أفروديتي إلهة اليونان(32). ثم نمت صناعة المعادن في الجزيرة نمواً سريعاً بعد عام 1600؛ وأخذت المناجم التي تمتلكها الحكومة الملكية تصدر النحاس إلى مصر، وكريت، وبلاد اليونان؛ وكان المصنع المقام في إنكومي Enkomi يصنع الخناجر الذائعة الصيت، وكان الفخرانيون يبيعون آنيتهم المستديرة في جميع البلاد الممتدة من مصر إلى طروادة. واستخرجت الأخشاب من الغابات، وأخذ سرو قبرص ينافس أرز لبنان. وفي القرن الثالث عشر أنشأ المستعمرون الميسينيون المستعمرات التي أضحت فيما بعد مدناً يونانية وهي Pathos باثوس مدينة أفروديتي المقدسة، وسيتيوم Citium، مسقط رأس الفيلسوف زينون، وسلاميس القبرصية التي حط فيها صولون رحاله في أثناء تجواله ليُحل القانون محل الفوضى.
وعبرت التجارة الميسينية كما عبر النفوذ الميسيني البحر من قبرص إلى سوريا وكاريا، ومنهما انتقلا عن طريق الشواطئ والجزائر الآسيوية حتى وصلا إلى طروادة. وهناك كشف شليمان ودوربفلد على تل تفصله عن البحر ثلاثة أميال عن تسع مدن كل واحدة فوق الأخرى كأنما كان لطروادة تسع حيوات: 1- فكان في الطبقة الدنيا بقايا قرية من العصر الحجري الحديث يصل تاريخها إلى عام 3000 ق.م، وقد وجدت فيها جدران من الحجارة غير المنحوتة بينها طبقات من الطين، كما وجدت قواقع حلزونية، وقطع من العاج المشغول، وأدوات من الحجر الزجاجي، وقطع من الفخار المصقول باليد.
2- ووجدت فوق هذه الآثار أنقاض المدينة الثانية التي اعتقد شليمان أنها طروادة هومر. وكانت أسوارها المحيطة بها مقامة من حجارة ضخمة كأسوار تيرينز وميسيني، وكان في أماكن متفرقة منها حصون وفي أركانها أبواب ضخمة مزدوجة لا يزال اثنان منها باقيين حتى الآن. وهناك أيضاً بيوت باقية تعلو نحو أربع أقدام، وقد بنيت من الآجر والخشب فوق أساس من الحجارة. ويستدل مما عثر عليه فيها من فخار مطلي بطلاء أحمر، مصنوع على العجلة ولكنه خشن فج، على أن هذه المدينة كانت قائمة في الفترة المحصورة بين 2400، 1900 على وجه التقريب. وقد حل البرونز فيها محل الحجر في صنع الأدوات والأسلحة، وكثرت فيها الحلي، ولكن التماثيل الصغيرة قبيحة المنظر بدائية الصنع. ويتضح من مخلفات هذه المدينة الثانية على أن النار قد دمرتها، فآثار النار كثيرة فيها كثرة اقتنع معها شليمان بأن هذا كان من عمل يونانيي أجممنون. (3-5) ووجدت من فوق "المدينة المحروقة" بقايا ثلاث دساكر متتالية صغيرة وفقيرة، لا قيمة لها من الناحية الأثرية.
6- وقامت حوالي 1600 ق.م مدينة أخرى على هذا التل التاريخي. وقد دفعت السرعة والحماسة شليمان إلى أن يخلط عاديات هذه الطبقة بعاديات الطبقة الثانية، وأن يصف المدينة السادسة بأنها "مستقر ليدي"(33) لا خطر له، ولكن دوريفلد واصل الحفر بعد موت شليمان مستعيناً إلى وقت ما بمال شليمان نفسه(34)، حتى كشف عن مدينة أكبر كثيراً من المدينة الثانية مزدانة بالمباني الكبيرة مقامة من حجارة مسواة، يحيط بها سور يرتفع فوق الأرض ثلاثين قدماً بقيت له ثلاثة من أبوابه. ووجدت في أنقاض المدينة مزهريات ذات لون واحد أدق صنعاً من المزهريات التي وصفناها من قبل، كما وجدت فيها آنية كآنية أوركمنوس Orchomenos المينية Minyan، وقطع من الفخار شبيهة بما وجد في ميسيني إلى حد اعتقد معه دوريفلد أنها مستوردة من هذه المدينة الثانية وأنها لذلك معاصرة لأسرة القبور البئرية (1400-1200 ق.م). ويرى معظم العلماء أن هذه المدينة السادسة هي طروادة هومر، مستندين إلى هذه الآثار، وإلى عوامل أخرى أقل منها ثباتاً واستقراراً . ويخصون بها "كنز بريام" الذي ظن شليمان أنه عثر عليه في المدينة الثانية، والمكون من ستة أساور، وطاسين، وتاجين، وعصابتين للرأس، وستين قرطاً و 7800 قطعة أخرى كلها من الذهب(36). ويؤكد لنا المؤرخون أن المدينة الثانية قد دمرتها النار أيضاً حوالي عام 1200 ق.م، ويحدد المؤرخون اليونان حصار طروادة بالفترة الواقعة بين: 1194، 1184 ق.م . وبعد، فمن هم الطرواديون؟ تذكر إحدى البرديات المصرية اسم الدردنيويين Dardenui بين أحلاف الحثيين في واقعة قادش(1287)؛ ويحتمل أن يكون هؤلاء هم أسلاف الدردنويين Dardenoi وهم في لغة هومر الطرواديون أنفسهم(37). والراجح أن هؤلاء الأقوام ينتمون إلى أصل بلقاني، وأنهم عبروا مضيق الهلسينت في القرن السادس عشر مع أبناء عمومتهم الفريجيين، واستقروا في وادي نهر اسكمندر Scamander الأدنى(38). أما هيرودوت فيوحد بين الطرواديين والتيكريين Teucrians وهؤلاء في رأي اسطرابون أقوام من كريت استقروا في الصقع الذي بنيت فيه طروادة فيما بعد ، ولعل استقرارهم في ذلك المكان كان بعد سقوط نوسس(40). ولقد كان لكريت وطروادة جميعاً جبل مقدس يسمى جبل أيدا "جبل أيدا ذا الفوارات الكثيرة" الذي يذكره هومر وتنيسن Tennyson. ولقد تعرض هذا الإقليم في أوقات مختلفة إلى مؤثرات سياسية وجنسية من أرض الحثيين الواقعة خلفه. وتدل أعمال الحفر في جملتها على وجود حضارة بعضها مينوي، وبعضها ميسيني، وبعضها آسيوي، وبعضها دانوبي Danubian. ويصف هومر الطرواديين بأنهم كانوا يتكلمون لغة اليونان ويعبدون آلهتهم، ولكن اليونان المتأخرين عن عصر هومر كانوا يقولون إن طروادة مدينة آسيوية، وإن حصارها الذائع الصيت هو أول الأحداث المعروفة في النزاع القائم بين الساميين والآريين، وبين الشرق والغرب(41).
وأهم من مظهر أهلها وجنسهم موقع المدينة المنيع قرب مدخل الهلسبنت والأراضي الغنية المحيطة بالبحر الأسود. لقد كان هذا الممر الضيق في التاريخ كله ميدان القتال بين الإمبراطوريات، وكان حصار طروادة هو معركة جاليبولي الحديثة نشبت في عام 1194 ق.م. وكان السهل القائمة عليه على درجة لا بأس بها من الخصب، وكانت الأرض المجاورة له من الشرق غنية بالمعادن الثمينة؛ ولكن هذه الثروة وحدها لا يمكن أن تكون سبب ثراء طروادة أو هجمات اليونان عليها. إن أهم من هذا في رأينا أن موقع المدينة كان يمكنها من فرض المكوس على السفن المارة بالهلسبنت، وكانت هي في القوت عينه بعيدة عن البحر بعداً يجعلها في مأمن من الهجمات البحرية(42). وربما كان هذا السبب لا وجه هلن helen الجميل هو الذي جردت من أجله ألف سفينة للهجوم على إليوم. وثمة رأي آخر يفسر ثراء طروادة- وربما كان أرجح من الرأي الأول- وهو أن التيارات المائية والرياح الجنوبية في مضيق الهلسبنت قد جعلت التجار يفرغون بضائعهم في طروادة وينقلونها براً إلى داخل البلاد، وأن طروادة قد حصلت من المكوس التي تتقاضاها نظير قيامها بهذا العمل على ما تجمع لها من قوة(43). ومهما يكن سبب هذا الثراء فإن تجارة المدينة نمت نمواً سريعاً كما يستدل على ذلك من اختلاف المصادر التي تنتمي إليها آثارها. فقد كان يأتي إليها من الجزء الجنوبي من بحر إيجة النحاس، وزيت الزيتون، والخمر، والفخار؛ ومن بلاد الدانوب وتراقية: الفخار، والكهرمان، والخيل، والسيوف؛ ومن بلاد الصين النائية أشياء نادرة كحجر اليشب(44). وكانت طروادة تستورد من داخل البلاد المحيطة بها خشباً، وفضة، وذهباً، وحمراً برية، وتصدرها إلى الخارج. وكان أهل طروادة "مروضو الخيول" المقيمون في زهو وخيلاء داخل أسوارهم، يسيطرون على ما حولهم من البلاد ويفرضون المكوس على تجارتها البرية والبحرية.
والصورة التي تطالعنا في الإلياذة عن بريام وبيته هي صورة العظمة والعطف الأبوي التي تطالعنا في أسفار التوراة. فالملك كثير الزوجات، ولم يكن منشأ هذه الكثرة حب المتعة بل كان منشؤها ما يشعر به من تبعه تفرض عليه أن يستمر في إنجاب الأبناء وزيادة عددهم. أما أبناء الملك فيقتصرون على زوجة واحدة، وكلهم حسنو الأخلاق مستقيمون- إذا استثنينا بطبيعة الحال باريس المرح الذي كان بعيداً عن حسن الخلق بعد السبيديس. وإن هكتور Hector، وهلنوس helenus، وترويلوس Troilus لأجدر بالحب من أجممنون المتقلب، وأديسيوس Odysseus الغدار، وأكليز المشاكس. وأندروماك Andromache وبلكسينا Polyxena لا تقلان سحراً وفتنه عن هيلين وإفجينيا Iphigenia؛ وهكيبا أحسن قليلاً من كليتمنسترا. والطرواديون في جملتهم كما يصورهم أعداؤهم يبدون في نظرنا أقل خداعاً، وأكثر وفاء، وأحسن تهذيباً، من اليونان الذين غلبوهم على أمرهم. ولقد أحسن الفاتحون أنفسهم بهذا التفوق في أواخر أيامهم؛ ولم يبخل هومر على أهل طروادة بكلمة طيبة؛ ولم يترك سافو Sapho ولا يوريديز شكاً في الناحية التي يرون أنها خليقة بعطفهم وإعجابهم.
ولقد كان من دواعي الأسف أن يعترض هذا الشعب طريق بلاد اليونان المتوسعة التي جاءت، رغم عيوبها الكثيرة، إلى هذا الإقليم وإلى غيره من أقاليم البحر الأبيض المتوسط في آخر الأمر بحضارة أرقى من كل الحضارات التي عرفها من قبل.