قصة الحضارة - ول ديورانت - م 1 ك 3 ج 24

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 1186



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> بسمرك الصين

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المجلد الأول: التراث الشرقي - الكتاب الثالث: الشرق الأقصى -> الصين

الباب الرابع والعشرون: عصر الشعراء

الفصل الأول: بسمرك الصين

عهد الدول المتنازعة - انتحار تشوبنج - شي هونج - دي يوحد الصين - السور الكبير - "إحراق الكتب" - إخفاق شي هونج - دي


أكبر الظن أن كنفوشيوس مات بائساً، لأن الفلاسفة يحبون توحيد البلاد، ولأن الأمة التي حاول أن يوحدها تحت حكم أسرة قوية ظلت سادرة في الفوضى والفساد والانقسام. ولما أن ظهر هذا الموحد العظيم في آخر الأمر واستطاع بعبقريته الحربية والإدارية أن يؤلف من دويلات الصين دولة واحدة أمر بأن يحرق كل ما كان باقياً من كتب كنفوشيوس. وفي وسعنا أن نحكم على الجو الذي كان يسود "عهد الدول المتنازعة" من قصة تشوبنج، وهو رجل بدأ نجمه يلمع في سماء الشعر، حتى سما إلى مركز عظيم في وظائف الدولة، ثم ألفى نفسه وقد طرد من منصبه على حين غفلة، فاعتزل الحياة العامة ولجأ إلى الريف وأخذ يفكر في الحياة والموت إلى جانب غدير هادئ، وسأل متنبئاً من المتنبئين: "هل ينبغي لي أن أواصل السير في طريق الحق والوفاء؟، أو أسير في ركاب جيل فاسد ضال؟ هل أعمل في الحقول بالفأس والمجرف أو أسعى للرقي في حاشية عظيم من العظماء؟ هل أعرّض نفسي للخطر بما أنطق به من صريح اللفظ أو أتذلل بالنغم الزائف للأثرياء والعظماء؟ وهل أظل قانعاً راضياً بنشر الفضيلة أو أمارس فن مصانعة النساء كي أنال النجاح؟ هل أكون نقي السريرة، طاهر اليد صالحاً مستقيماً، أو أكون معسول الكلام، مذبذباً، متزلفاً، نهازاً للفرص؟"(1).

وتخلص الرجل من هذه المشكلة العويصة بالانتحار غرقاً (حوالي 350 ق.م). ولا يزال الصينيون حتى يومنا هذا يحيون ذكراه في كل عام، ويحتفلون بهذه الذكرى في يوم عيد القارب الكبير وهو اليوم الذي ظلوا يبحثون فيه عن جثته في كل مجرى من المجاري المائية.

وكان الرجل الذي وحد الصين من أصل وضيع هو أدنأ الأصول التي استطاع المؤرخون الصينيون أن يخترعوها. فهم يقولون لنا أن شي هونج - دي كان ابناً غير شرعي لملكة تشين (لإحدى الولايات الغربية) من الوزير النبيل "لو"، وهو الوزير الذي اعتاد أن يعلق فوق باب داره ألف قطعة من الذهب جائزة لمن يستطيع أن يصلح كلمة واحدة من كتاباته(2) (ولم يرث ابنه عنه هذا الذوق الأدبي الممتاز).

ويقول زوماتشين إن شي اضطر والده إلى الانتحار واضطهد والدته، وجلس على كرسي الإمارة وهو في الثانية عشرة من عمره. ولما أن بلغ الخامسة والعشرين بدأ يفتح البلاد ويضم الدويلات التي كانت الصين منقسمة إليها من زمن بعيد؛ فاستولى على دولة هان في عام 230ق.م، وعلى جو في عام 228، وعلى ويه في عام 225، وعلى تشو في عام 223، وعلى ين في عام 222؛ واستولى أخيراً على دولة تشي المهمة في عام 221؛ وبهذا خضعت الصين لحكم رجل واحد لأول مرة منذ قرون طوال، أو لعل ذلك كان لأول مرة في التاريخ كله. ولقب الفاتح نفسه باسم شي هونج - دي، ثم وجه همه إلى وضع دستور ثابت دائم لإمبراطوريته الجديدة.

أما أوصاف هذا الرجل الذي يعده المؤرخون الصينيون عدوهم الألد، فكل ما خلفوه لنا منها وهو قولهم انه كان "رجلا كبير الأنف، واسع العينين، ذا صدر كصدر الطائر الجارح، وصوت شبيه بابن آوى، لا يفعل الخير، له قلب كقلب النمر أو الذئب"(3). وكان قوى الشكيمة عنيداً لا يحول عن رأيه، ولا يعترف بالألوهية إلا لنفسه، اجتمعت فيه عقائد نيتشه وبسمرك، وعقد العزم على أن يوحد بلاده بالدم والحديد. ولما وحد بلاد الصين وجلس على عرشها كان أول عمل قام به أن حمى بلاده من الهمج البرابرة المجاورين لحدودها الشمالية، وذلك بأن أتم الأسوار التي كانت مقامة من قبل عند حدودها، ووصلها كلها بعضها ببعض. وقد وجد في أعدائه المقيمين في داخل البلاد مورداً سهلاً يستمد منه حاجته من العمال لتشييد هذا البناء العظيم الذي يعد رمزاً لمجد الصين ودليلاً على عظيم صبرها. ويبلغ طول السور العظيم ألفاً وخمسمائة ميل، وتتخلله في عدة أماكن منه أبواب ضخمة على النمط الآشوري، وهو أضخم بناء أقامه الإنسان في جميع عصور التاريخ، ويقول عنه فلتير: "إن أهرام مصر إذا قيست إليه لم تكن إلا كتلاً حجرية من عبث الصبيان لا نفع فيها"(4). وقد احتاج تشييده إلى عشر سنين وإلى عدد لا يحصى من الخلق؛ ويقول الصينيون إنه "أهلك جيلا من الناس، وأنقذ كثيراً من الأجيال". على أنه لم يصد الهمج عن الصين كما يتبين لنا ذلك فيما بعد، ولكنه عطل هجومهم عليها وقلل من حدته. وحال بين إغارتهم على أرض الصين زمناً ما، فاتجهوا غرباً إلى أوربا، ثم اجتاحوا بلاد إيطاليا، وسقطت رومة في أيديهم لأن الصين أقامت سورها العظيم. ثم ترك شي هونج - دي، وهو مغتبط مسرور، شؤون الحرب ووجه عنايته، كما وجهها نابليون من بعده، إلى شؤون الإدارة، ووضع القواعد العامة التي قامت عليها الدولة الصينية في المستقبل. وعمل بمشورة لي - سيو، المشترع الكبير ورئيس وزرائه، فاعتزم ألا يقيم المجتمع الصيني على العادات المألوفة وعلى الاستقلال المحلي للولايات، بل اعتزم أن يقيمه على قواعد القانون الصريح وعلى الحكومة المركزية القوية. ولذلك قضى على قوة أمراء الإقطاع، واستبدل بهم طائفة من كبار الموظفين تعينهم الوزارة القومية في مناصبهم؛ وأقام في كل مركز من المراكز حامية عسكرية مستقلة عن الحاكم المدني، وسن للبلاد قوانين وأنظمة موحدة، وبسط الاحتفالات الرسمية، وسك عملة للدولة، وجزأ معظم الضياع الإقطاعية، ومهد السبيل لرخاء الصين بإنشاء الملكيات الزراعية، ولوحدتها القوية بإنشاء الطرق الكبيرة الممتدة من هين - يانج عاصمة ملكه إلى جميع أطراف إمبراطوريته. وجمل العاصمة بما أقامه فيها من القصور الكثيرة، وأقنع أغنى أسر الدولة وأقواها سلطاناً البالغ عددها 000ر12 أسرة بأن تعيش في هذه العاصمة تحت إشرافه ورقابته. وكان يسير في البلاد متخفياً ومن غير حرس، يتفقد أحوالها ويتعرف ما فيها من خلل وفساد وسوء نظام، ثم يصدر الأوامر الصريحة لإصلاح هذه العيوب، وقد شجع العلم وقاوم الأدب(5).

ذلك أن رجال الأدب من شعراء، ونقدة، وفلاسفة بوجه عام، وطلاب الفلسفة الكنفوشية بنوع خاص، كانوا أعدى أعدائه. فقد كانوا يتبرمون بسيطرته القوية الشاملة، وكانوا يرون أن إنشاء حكومة مركزية عليا سيقضي لا محالة على تباين أساليب التفكير والحياة وحريتهما. وقد كان هذا التباين وتلك الحرية مصدر الانتعاش الأدبي طوال عهد الحروب والانقسامات أيام أسرة جو. فلما أقبل هؤلاء العلماء على شي هونج - دي يحتجون عليه لإغفاله الاحتفالات القديمة رد عليهم رداً جافاً وأمرهم ألا يتدخلوا فيما لا يعنيهم(6). وجاءه وفد من كبار العلماء الرسميين يعرضون عليه أنهم قد أجمعوا رأيهم على أن يطلبوا إليه إعادة النظام الإقطاعي بتوزيع الضياع على أقاربه؛ وأضافوا إلى ذلك قولهم: "لم يحدث قط فيما وصل إلى علمنا أن إنساناً لم يترسم خطوات أسلافه الأقدمين في أمر من الأمور ودام عمله طويلاً "(7). فرد عليهم لي سيو رئيس الوزراء، وكان وقتئذ يعمل على إصلاح الحروف الهجائية الصينية ويضعها في الصورة التي تكاد تحتفظ بها إلى يومنا هذا، رد عليهم بخطبة تاريخية لا ترفع من شأن الآداب الصينية قال: "إن الملوك الخمسة لم يفعل كل منهم ما فعله الآخر، وإن الأسر المالكة الثلاث لم تحذ إحداها حذو الأخرى؛... ذلك أن الأيام قد تبدلت. والآن قد قمتم جلالتكم لأول مرة بعمل جليل، وأسستم مجداً سيدوم مدى عشرة آلاف جيل. لكن الحكام الأغبياء عاجزون عن فهم هذا العمل... لقد كانت الصين في الأيام الخالية مضطربة منقسمة على نفسها، ولم يكن بمقدور أحد أن يوحدها؛ ومن أجل هذا ساد النبلاء جميعاً وقويت شوكتهم؛ وهؤلاء النبلاء جميعاً تدور أحاديثهم كلها حول الأيام الخالية ليعيبوا هذه الأيام... وهم يشجعون الناس على اختراع التهم الباطلة، فإذا ترك لهم الحبل على الغارب، فسينحط مقام الملك في أعين الطبقات العليا، وستنتشر الأحزاب والفرق بين الطبقات السفلى. "ولهذا اقترح أن تحرق التواريخ الرسمية جميعها عدا "مذكرات تشين، وأن يرغم الذين يحاولون إخفاء الشي - جنج، والشو - جنج ومحاورات المدارس المائة على أن يأتوا بها إلى ولاة الأمور لإحراقها"(8). وأعجب الإمبراطور إعجاباً شديداً بهذه الفكرة، وأصدر الأمر بتنفيذ هذا الطلب، وجيء بكتب المؤرخين في كل مكان وألقيت في النار يرفع عبء الماضي عن كاهل الحاضر؛ وحتى يبدأ تاريخ الصين من عهد شي هونج - دي. ويلوح أن الكتب العلمية ومؤلفات منشيس قد نجت من النيران، وأن كثيراً من الكتب المحرمة قد احتفظ بها في دار الكتب الإمبراطورية حيث يستطيع الرجوع إليها الطلاب الذين يجيز لهم الإمبراطور هذا الاطلاع(9). وإذ كانت الكتب في تلك الأيام تكتب على شرائح من الخيزران يشد بعضهما إلى بعض بمشابك متحركة، وإذ كان المجلد الواحد لهذا السبب كبير الحجم ثقيل الوزن، فإن العلماء الذين حاولوا إخفاء هذه الكتب قد لاقوا عناء كبيراً. وكشف أمر بعضهم، وتقول الروايات إن كثيرين منهم أرسلوا للعمل في بناء السور الكبير، وأن أربعمائة وستين منهم أعدموا(10). ولكن بعض الأدباء حفظوا مؤلفات كنفوشيوس كلها عن ظهر قلب، ولقنوها لحفاظ مثلهم، فما إن توفى الإمبراطور عادت هذه الكتب من فورها إلى الظهور والانتشار، وإن كان كثير من الأغلاط قد تسرب في أكبر الظن إلى نصوصها. وكل ما كان لهذا التحريم من أثر خالد أن خلع على الآداب المحرمة هالة من القداسة وأن جعل شي هونج - دي مبغضاً إلى المؤرخين الصينيين. وظل الناس أجيالاً طوالاً يعبرون عن عقيدتهم فيه بتدنيس قبره(11).

وكان من أثر القضاء على الأسر القوية وعلى حرية الكتابة والخطابة أن أمسى شي في شيخوخته لا نصير له ولا معين. وحاول أعداؤه عدة مرات أن يغتالوه، ولكنه كان يكشف أمرهم في الوقت المناسب ويقتل بيده من يحاولون قتله. وكان يجلس على عرشه والسيف مسلول فوق ركبتيه، ولا يسمح لأحد أن يعرف في أية حجرة من حجرات قصوره الكثيرة ينام ليله(13). وقد حاول كما حاول الإسكندر من بعده أن يقوي أسرته بما يذيعه في الناس من أنه إله، ولكنه أخفق في غرضه هذا كما أخفق الإسكندر لأنه لم يستطع أن يقنع الناس بما بينه وبين الآلهة من شبه. وأصدر أمراً بأن يطلق عليه خلفاؤه "الإمبراطور الأول"، وأن يضعوا هم لأسمائهم أرقاماً مسلسلة من بعده تنتهي بالإمبراطور المتمم لعشرة آلاف من نسله. ولكن أسرته قضي عليها بموت ولده. وإذا جاز لنا أن نصدق أقوال المؤرخين الذين كانوا يبغضونه فإنه صار في شيخوخته يؤمن بالخرافات، وينفق الأموال الطائلة في البحث عن أكسير الخلود. ولما مات جيء بجسمه سراً إلى عاصمة ملكه، وقد نقلته إليها قافلة تحمل السمك النتن حتى تختفي بذلك رائحته الكريهة، ويقال أن بضعة آلاف من الفتيات قد دفن معه ليؤنسنه في قبره، وأن خلفه أراد أن يظهر اغتباطه بموته فنثر الأموال على قبره وأنفق الكثير منها في تزيينه، فنقشت على سقفه أبراج النجوم، وصورت على أرضه خريطة للإمبراطور بالزئبق فوق أرضية من البرنز، وأقيمت في القبة آلات تقتل من نفسها كل من يتعدى على حرمه القبر، وأشعلت فيه شموع ضخمة لكي تضيء أعمال الإمبراطور الميت وأعمال ملكاته إلى أمد غير محدود. أما العمال الذي حملوا التابوت إلى القبر فقد دفنوا فيه أحياء مع حملهم خشية أن يكشفوا للناس عن الطريق السري المؤدي إلى المدفن(14).


الفصل الثاني: تجارب في الاشتراكية

الفوضى والفقر - أسرة هان - إصلاحات وو دي - ضريبة الدخل - مشروعات وانج مانج الاقتصادية - القضاء عليها - غزو التتار


وأعقب موته عهد من الفوضى والاضطراب كما تعقب الفوضى والاضطراب موت الطغاة جميعهم تقريباً في أحقاب التاريخ كلها. ذلك أنه في وسع إنسان أياً كان أن يجمع السلطة كلها في يده ويحسن التصرف فيها. وثار الشعب إلى ابنه وقتله بعد أن قتل هو لي سيو بقليل، وقضى على أسرة تشين، ولم يمض على وفاة مؤسسها أكثر من خمس سنين. وأقام الأمراء المتنافسون ممالك متنافسة متعادية وساد الاضطراب من جديد. ودامت هذه الحال حتى اغتصب العرش زعيم عسكري مغامر مرتزق يدعى جو - دزو، وأسس أسرة هان التي ظلت تحكم البلاد أربعمائة عام كاملة، تخللتها فترات أنزلت فيها عن العرش، وتبدلت فيها العاصمة مرة واحدة . وأعاد ون - دي (179-75ق.م.) إلى الشعب حرية القول والكتابة، وألغي المرسوم الذي حرم به هونج - دي انتقاد الحكومة، وجرى على سياسة السلم، وابتدع العادة الصينية المأثورة عادة هزيمة قائد الجيش العدو بتقديم الهدايا إليه(15).

وكان وو - دي أعظم الأباطرة من أسرة هان؛ وقد حكم البلاد زهاء نصف قرن (140-87 ق.م) وصد البرابرة المغيرين، وبسط حكم الصين على كوريا ومنشوريا وأنام، والهند الصينية والتركستان، وشملت الصين - لأول مرة في التاريخ جميع الأقاليم الشاسعة التي تعودنا أن نقرنها باسمها. وأخذ وو - دي يقوم بتجارب في الاشتراكية، فجعل موارد الثروة الطبيعية ملكاً للامة، وذلك ليمنع الأفراد "أن يختصوا أنفسهم بثروة الجبال والبحار، ليجنوا من ورائها الأموال الطائلة، ويخضعوا لهم الطبقات الدنيا(16). واحتكرت الدولة استخراج الملح والحديد وعصر الخمور وبيعها. وأراد وو - دي - كما يقول معاصره زوماتشين - أن يقضي على سلطان الوسطاء والمضاربين "الذين يشترون البضائع نسيئة، ويعقدون القروض، والذين يشترون ليكدسوا ما يشترونه في المدن، والذين يخزنون كل أنواع السلع"، فأنشأ نظاماً قومياً للنقل والتبادل تشرف عليه الدولة، وسعى للسيطرة على التجارة حتى يستطيع منع تقلب الأسعار الفجائي. فكان عمال الدولة هم الذين يتولون شئون نقل البضائع وتوصيلها إلى أصحابها في جميع أنحاء البلاد. وكانت الدولة نفسها تخزن ما زاد من السلع على حاجة الأهلين، وتبيعها إذا أخذت أثمانها في الارتفاع فوق ما يجب، كما كانت تشتريها إذا انخفضت الأسعار وبهذه الطريقة كان "أغنياء التجار وأصحاب المتاجر الكبيرة يمنعون من أن يجنوا الأرباح الطائلة... وكانت الأسعار تنظم وتتوازن في جميع أنحاء الإمبراطورية"(17). وكان دخل الأفراد كله يسجل في سجلات حكومية وتؤدى عنه ضريبة مقدارها خمسة في المائة. وكان الأمير يسك النقود المصنوعة من الفضة مخلوط بالقصدير لتكثر في أيدي الناس فيسهل عليهم شراء البضائع واستهلاكها. وشرع يقيم المنشآت العامة العظيمة ليوجد بذلك عملاً لملايين الناس الذين عجزت الصناعات الخاصة عن استيعابهم، فأنشئت الجسور على أنهار الصين وحفرت قنوات لا حصر لها لربط الأنهار بعضها ببعض وإرواء الحقول وازدهر النظام الجديد وأفلح إلى حين، وراجت التجارة، وكثرت البضائع وتنوعت، وارتبطت الصين مع الأمم المجاورة لها ومع أمم الشرق الأدنى البعيدة عنها(20). وكثر سكان عاصمتها لو - يانج وزادت ثروتها وامتلأت خزائن الدولة بالأموال، وانتشر طلاب العلم في كل مكان، وكثر الشعراء، وبدأ الخزف الصيني يتخذ منظراً جميلاً جذاباً. وجمع في المكتبة الإمبراطورية 123ر3 مجلداً في الأدب الصيني القديم، و 705ر2 في الفلسفة، و 388ر1 في الشعر، و 568ر2 في الرياضيات، و 868 في الطب، و 790 في فنون الحرب(21). ولم يكن أحد يعين في مناصب الدولة إلا إذا اجتاز امتحاناً تضعه لهذا الغرض، وكانت هذه الامتحانات عامة يتقدم إليها كل من شاء. والحق أن الصين لم يمر بها عهد من الرخاء كالذي مر بها تلك الأيام.

ولكن طائفة من الكوارث الطبيعية مضافاً إليها خبث بني الإنسان قضت على هذه التجربة الجريئة. فقد تعاقبت على البلاد سنون من الفيضان والجدب ارتفعت على أثرها أسعار السلع ارتفاعاً لم تقو الحكومة على وقفه. وتضايق الناس من غلو أثمان الطعام والكساء فصاحوا يطالبون بالعودة إلى الأيام الحلوة الماضية، التي أضحت في اعتقادهم خير الأيام وأكثرها رخاء، وأشاروا بأن يُغلى مقترح النظام الجديد في الماء وهو حي، ونادى رجال الأعمال بأن سيطرة الدولة قضت على الابتكار الفردي السليم وعلى التنافس الحر، وأبوا أن يؤدوا ما يلزم لهذه التجارب من الضرائب الباهظة التي كانت الحكومة تفرضها عليهم(22). ودخلت النساء بلاط الإمبراطور وبسطن نفوذهن السرى على كبار الموظفين، وأصبحن عنصراً هاماً في الموجة من الفساد انتشرت في طول البلاد وعرضها بعد وفاة الإمبراطور(23). وأخذ المزيفون يقلدون العملة الجديدة ونجحوا في تقليدها إلى حد اضطر الحكومة إلى سحبها من أيدي الناس، وعادت الخطة القديمة خطة استغلال الضعفاء، يسيطر عليها نظام جديد، ومضى قرن من الزمان نسيت فيه إصلاحات وو دي أو أضحت مسبة له وعاراً.

وجلس على عرش الصين مصلح آخر في بداية التاريخ المسيحي بعد أربعة وثمانين عاماً من موت وو دي، وكان في بادئ الأمر وصياً على العرش ثم أصبح فيما بعد إمبراطوراً. وكان هذا الإمبراطور وانج مانج من أرقى طراز وصل إليه الرجل الصيني الكامل المهذب؛ وكان على غناه يعيش عيشة معتدلة بل عيشة مقتصدة، ويوزع دخله على أقاربه وعلى الفقراء من أهل البلاد . وقد قضى جل وقته يكافح لإعادة النظام إلى أحوال البلاد الاقتصادية والسياسية، ولكنه مع ذلك وجد فسحة من الوقت لا لمناصرة الأدب والعلم فحسب بل للاشتغال بهما بنفسه حتى أصبح من أكمل الناس ثقافة وتهذيباً؛ ولما جلس على سرير المُلك لم يحط نفسه بما يحيط به الملوك أنفسهم من الساسة، بل جمع حوله رجالاً من الأدباء والفلاسفة، وإلى هؤلاء الرجال يعزو أعداؤه أسباب إخفاقه، وإليهم يعزو أصدقاؤه أسباب نجاحه.

وروع وانج مانج في بداية حكمه انتشار الرق في ضياع الصين الكبيرة، فلم يكن منه إلا أن ألغى الرق وألغى الضياع بتأميم الأرض الزراعية، فقسمها قطعاً متساوية ووزعها على الزراع، ثم حرم بيع الأرض وشراؤها ليمنع بذلك عودة الأملاك الواسعة إلى ما كانت عليه من قبل(25). واحتفظ باحتكار الدولة للملح والحديد وأضاف إلى ذلك امتلاكها للمناجم وإشرافها على تجارة الخمور.

وحاول كما حاول وودي أن يحمي الزراع والمستهلكين من جشع التجار بتحديد أثمان السلع. فكانت الدولة تشتري ما زاد على الحاجة من الحاصلات الزراعية وتبيعها إذا عزت وغلا ثمنها. وكانت الحكومة تقدم القروض بفائدة منخفضة لكل مشروع إنتاجي(26).

لكن وانج لم يفكر في خططه إلا من الناحية الاقتصادية ونسي طبائع الآدميين. فكان يعمل الساعات الطوال بالليل والنهار ليبتكر الخطط التي تزيد ثروة الأمة وأسباب سعادتها، ولكن أحزنه وأضرم قلبه أن وجد الاضطراب الاجتماعي ينتشر في البلاد في أثناء حكمه. فقد ظلت الكوارث الطبيعية كالفيضان والجدب تعطل مشروعاته الاقتصادية، واجتمعت كل الطوائف التي قضت هذه المشروعات على مطاعمها وأخذت تكيد له وتعمل لإسقاطه. فثار نقع الفتن في البلاد يصلت سيفها الشعب في الظاهر، ولكن أكبر الظن أن القائمين بها كانوا يتلقون الأموال من مصادر عليا. وبينما كان وانج يكافح ليقلم أظفار هذه الفتن، وقد ساءه كفر الشعب بفضله وجحوده بنعمته، إذ أخذت الشعوب الخاضعة لسلطان الصين تشق عصا الطاعة، كما أخذ برابرة الشيونج - نو يجتاحون الولايات الشمالية، فأضعف ذلك كله من هيبة الإمبراطور.

وتزعمت أسرة ليو الغنية ثورة عامة اندلع لهيبها في البلاد واستولت على شانج - آن، وقتلت وانج مانج، وألغت جميع إصلاحاته، وعاد كل شيء إلى ما كان عليه من قبل. وجلس على العرش في أواخر أيام أسرة هان جماعة من الأباطرة الضعاف خاف بعضهم بعضاً، وانتهى بهم عهد هذه الأسرة؛ وأعقب ذلك عهد من الفوضى حكمت في أثنائه أسر خاملة الذكر، انقسمت البلاد في أيامها إلى دويلات متعددة. وتدفق التتار على البلاد ولم يصدهم عنها السور على مساحات واسعة من أجزائها الشمالية، وكانت غارات هؤلاء التتار سبباً في اضطراب حياة الصين والقضاء على حضارتها النامية، كما كانت غارات الهون الذين يمتون إلى التتار بأواصر القرابة العنصرية سبباً في اضطراب نظام الإمبراطور الرومانية وإلقاء أوربا في غمار الفوضى التي أرجعها نحو مائة عام كاملة. وفي وسعنا أن ندرك ما يمتاز به الصينيون من صلابة عنصرية، ومن قوة في الأخلاق والثقافة، إذا عرفنا أن هذا الاضطراب كان أقصر أجلاً وأقل عمقاً من الاضطراب الذي قضى على الدولة الرومانية. فلما أن انقضى عهد من الحروب والفوضى والامتزاج العنصري بين المغيرين والأهلين، أفاقت الحضارة الصينية من سباتها، وانتعشت انتعاشاً رائعاً يبهر الأنظار.

ولعل دم التتار الجديد قد بعث القوة في أمة كانت قد أدركتها الشيخوخة. وقبل الصينيون الغزاة الفاتحين بينهم، وتزوجوا منهم، وحضروهم، وارتقوا هم وإياهم إلى أسمى ما بلغوه من المجد في تاريخهم الطويل.



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث: مجد تانج

الأسرة المالكة الجديدة - خطة ناي دزونج في تقليل الجرائم - عصر رخاء - "الإمبراطور النابه" - رواية يانج - جوي - في - ثورة آن لو - شان


تعزى نهضة الصين الكبرى في العصر الذي سنتحدث عنه في هذا الفصل إلى أسباب ثلاثة وهي: امتزاج هذين الشعبين، والقوة الروحية التي انبعثت من دخول البوذية فيها، وعبقرية إمبراطور من أعظم أباطرتها وهو ناي دزونج الذي حكمها من عام 627 إلى عام 650 بعد الميلاد. جلس هذا الإمبراطور على عرش الصين وهو في الحادية والعشرين من عمره بعد أن نزل عنه أبوه جو - دزو الثاني الذي أقام أسرة تانج قبل ذلك الوقت بتسع سنين. وقد بدأ حكمه بداية غير مبشرة بخير، وذلك بقتل أخوته الذين كانوا يهددونه باغتصاب عرشه، ثم أظهر كفايته العسكرية برد غارات القبائل الهمجية إلى مواطنها الأصلية، وإخضاع الأقاليم المجاورة التي خرجت على حكم الصين بعد سقوط أسرة هان. ثم عافت نفسه الحرب فجأة وعاد إلى شانجان عاصمة ملكه وخصص جهوده كلها للأعمال السلمية، فقرأ مؤلفات كنفوشيوس مرة بعد مرة، وأمر بنشرها في شكل بديع رائع وقال في هذا: "إنك إذا استعنت بمرآة من الشبهان فقد تستطيع أن تعدل وضع قلنسوتك على رأسك؛ وإذا اتخذت الماضي مرآة لك فقد تستطيع أن تتنبأ بقيام الإمبراطوريات وسقوطها". ورفض كل أسباب الترف وأخرج من قصره الثلاثة آلاف من السيدات اللاتي جيء بهن لتسليته.

ولما أشار عليه وزراؤه بوضع القوانين الصارمة لقمع الجرائم قال لهم: "إني إذا أنقصت نفقات المعيشة، وخففت أعباء الضرائب، ولم أستعن إلا بالأمناء من الموظفين حتى يحصل الناس على كفايتهم من الكساء، كان أثر هذه الأعمال في منع السرقات أعظم من أثر أقسى أنواع العقاب"(27).

وزار الإمبراطور يوماً سجون شانجان فرأى فيها مائتين وتسعين سجيناً حكم عليهم بالإعدام. فلم يكن منه إلا أن أرسلهم ليحرثوا الأرض واكتفى منهم بأن يعدوه بشرفهم أن يعودوا إلى سجنهم. وكان أن عادوا جميعاً، وبلغ من سرور تاي دزونج أن أمر بالإفراج عنهم كلهم، وسن من ذلك الوقت قانوناً يقضي بالا يصادق أي إمبراطور على حكم بالإعدام إلا بعد أن يصوم ثلاثة أيام. وجمّل عاصمة ملكه حتى أقبل عليها السياح من الهند ومن أوربا، وجاء إلى الصين عدد كبير من الرهبان البوذيين الهنود، وكان البوذيون الصينيون أمثال يوان جوانج يسافرون بكامل حريتهم إلى بلاد الهند ليأخذوا دين الصين الجديد عن مصادره الأصلية. وجاء المبشرون إلى شانجان ليبشروا بالأديان الزرادشتية والنسطورية المسيحية، وكان الإمبراطور يرحب بهم كما كان يرحب بهم أكبر، ويبسط عليهم حمايته، ويطلق لهم كامل حريتهم، ويعفي معابدهم من الضرائب، وذلك في الوقت الذي كانت فيه أوربا تعاني آلام الفاقة والجهالة والمنازعات الدينية. أما هو نفسه فقد بقى كنفوشياً بسيطاً بعيداً عن التحيز والتحكم في عقول رعاياه، وقد قال عنه مؤرخ نابه إنه لما مات حزن الناس عليه حزناً لم يقف عند حد، وبلغ من حزن المبعوثين الأجانب أنفسهم أن كانوا يثخنون أجسامهم بالجراح بالمدي والحراب، وينثرون دماءهم التي أراقوها بأنفسهم طائعين على نعش الإمبراطور المتوفي"(28).

لقد مهد هذا الإمبراطور السبيل إلى أعظم عصور الصين خلقاً وإبداعاً، فقد نعمت في عهده بخمسين عاماً من السلام النسبي واستقرار الحكم فشرعت تصدر ما زاد على حاجتها من الأرز والذرة والحرير والتوابل، وتنفق مكاسبها في ضروب من الترف لم يسبق لها مثيل. فغصت بحيرتها بقوارب التنزه المنقوشة الزاهية الألوان، واكتظت أنهارها وقنواتها بالسفن التجارية، وكانت المراكب تخرج من موانيها تمخر عباب البحار إلى الثغور البعيدة على شواطئ المحيط الهندي والخليج الفارسي. ولم تعرف الصين قبل ذلك العهد مثل هذه الثروة الطائلة؛ ولم تستمتع قط بما كانت تستمتع به وقتئذ من الطعام الوفير، والمساكن المريحة، والملابس الجميلة(29). وبينما كان الحرير يباع في أوربا بما يعادل وزنه ذهباً(30)، كان هو الكساء المألوف لنصف سكان المدن الصينية الكبرى، وكانت الملابس المتخذة من الفراء في القرن الثامن في شانجان أكثر منها في نيويورك في القرن العشرين. وكان في إحدى القرى القريبة من العاصمة مصانع للحرير تستخدم مائة ألف عامل(31). وصاح لي بو في إحدى الولائم: "ما أعظم هذا الكرم، وما أكثر هذا الإسراف في المال! أأقداح من اليشم الأحمر، وأطعمة شهية نادرة على موائد مرصعة بالجواهر الخضراء؟"(32). وكانت التماثيل تنحت من الياقوت، وأجسام الأثرياء من الموتى تدفن على فرش من اللؤلؤ(33). وكأنما أولع هذا الجنس العظيم بالجمال فجأة، وأخذ يكرم بكل ما في وسعه من كان قادراً على خلق هذا الجمال. ومن أقوال أحد النقاد الصينيين في هذا: "ذلك عصر كان فيه كل رجل بحق شاعرا" (34). ورفع الأباطرة الشعراء والمصورين إلى أعلى المناصب. ويروي "سير جون مانفيل" Sir John Manville أن أحداً من الناس لم يكن يجرؤ على أن يخاطب الإمبراطور إلا "إن كان شاعراً مطرباً يغني وينطق بالفكاهات" (35). وأمر أباطرة المانشو في القرن الثامن عشر الميلادي أن يوضع سجل يحوى ما قاله شعراء تانج، فكانت النتيجة أن وصل هذا السجل إلى ثلاثين مجلداً تحتوي 900ر48 قصيدة قالها 300ر2 شاعر، كانت هي التي أبقى عليها الدهر من هذه القصائد ومن أسماء أولئك الشعراء. وزاد ما في دار الكتب الإمبراطورية حتى بلغ 000ر54 مجلداً؛ وفي هذا يقول مردك Murdock : "ولا جدال في أن الصين كانت في ذلك الوقت أرقى البلاد حضارة، فقد كانت وقتئذ أعظم الإمبراطوريات قوة، وأكثرها استنارة، وأعظمها رقياً، وأحسنها حكماً على الأرض" (36)، "وقد شد ذلك العصر أرقى ما شهده العالم من الثقافات".

وكان زينة هذا العصر كله منج هوانج - دي "الإمبراطور النابه" الذي حكم الصين نحو أربعين عاماً تخللتها فترات قصيرة كان فيها بعيداً عن العرش (713- 756 ب.م). وكان هذا الإمبراطور رجلاً اجتمعت فيه كثير من المتناقضات البشرية؛ فقد كان يقرض الشعر ويشن الحرب على البلاد النائية، ومن أعماله أنه فرض الجزية على تركيا وفارس وسمرقند، وألغى حكم الإعدام وأصلح إدارة السجون والمحاكم، ولم يرحم من لا يبادر بأداء الضرائب، وكان يتحمل راضياً مسروراً عنت الشعراء والفنانين والعلماء؛ وأنشأ كلية لتعليم الموسيقى في حديقة له تسمى "حديقة شجرة الكمثرى"، وقد بدأ حكمه متقشفاً متزمتاً، أغلق مصانع الحرير وحرم على نساء القصر التحلي بالجواهر أو الملابس المطرزة، ثم اختتمه أبيقورياً يستمتع بكل وسيلة من وسائل الترف، وضحى آخر الأمر بعرشه لينعم ببسمات يانج جوي - في. وكان حين التقى بها في سن الستين، أما هي فكانت في السابعة والعشرين. وكانت قد قضت عشر سنين محظية لابنه الثامن عشر. وكانت بدينة ذات شعر مستعار، ولكن الإمبراطور أحبها لأنها كانت عنيدة، ذات أطوار شاذة، متغطرسة وقحة، وتقبلت منه إعجابه بها بقبول حسن، وعرفته بخمس أسر من أقاربها، وسمحت له بأن يعيّن أبناء هذه الأسر في وظائف مجزية سهلة في بلاطه.

وكان منج يسمى هذه السيدة "الطاهرة العظيمة"، وقد أخذ عنها فن الاستمتاع بضروب الترف والملاذ، وانصرف ابن السماء عن الدولة وشؤونها وعهد بالسلطة الحكومية كلها إلى يانج جو - جونج أخى السيدة الطاهرة، وهو رجل فاسد عاجز؛ وبينما كانت نذر الخراب والدمار تحيط به من فوقه ومن أسفل منه، كان هو يواصل ليله بنهاره منهمكاً في ضروب اللهو والفساد. وكان في بلاط مانج رجل تتاري يسمى آن لو - شان يعشق هو الآخر يانج جوي - في، وقد كسب هذا الرجل ثقة الإمبراطور فرفعه إلى منصب حاكم إحدى الولايات الشمالية، وأمره على زهرة جيوش الإمبراطورية. ولم يلبث آن لو - شان أن أعلن نفسه إمبراطوراً على البلاد وزحف بجيوشه على شانجان. وتداعت حصون المدينة وكانت قد طال إهمالهما، وفر منج من عاصمة ملكه. وتمرد الجنود الذين كانوا يحرسونه في فراره، وقتلوا يانج جو - جونج وجميع أفراد الأسر الخمس، واختطفوا يانج جوي - في من بين يدي الملك وقتلوها أمام عينيه. ونزل الإمبراطور عن عرشه بعد أن أذلته الشيخوخة والهزيمة، وعاثت جحافل آن شان الهمجية في المدينة فساداً، وقتلت عدداً كبيراً من أهلها ولم تفرق بين كبير وصغير . ويقال أن ستة وثلاثين مليوناً من الأنفس قد قضى عليهم في هذه الفتنة الصماء(39). ولكن الفتنة أخفقت آخر الأمر في الوصول إلى أغراضها، وقتل آن لو -شان بيد ابنه نفسه، وقتل هذا الابن بيد أحد القواد، ثم قتل هذا القائد ابن له. وظلت نار الفتنة مشتعلة حتى أكلت وقودها وخمدت جذورها في عام 672، وعاد منج هوانج محطماً كسير القلب إلى عاصمته المخربة. ومات فيها بعد بضعة أشهر من ذلك الوقت. وفي هذه الفترة من المآسي والحادثات الروائية العجيبة ازدهر الشعر الصيني ازدهاراً لم يكن له نظير من قبل.


الفصل الرابع: الملاك المنفي

قصة لي بو - شبابه وبسالته وحبه - على القارب الإمبراطوري - إنجيل الكرم - الحرب - تجوال لي بو - في السجن - "الشعر الخالد"


استقبل منج هوانج ذات يوم من أيام مجده، رسلاً من كوريا يحملون إليه رسائل خطيرة مكتوبة بلهجة لم يستطع أحد من وزرائه أن يفهمها، فصاح الإمبراطور غاضبا: "ما هذا؟ ألا يوجد بين هذا العدد الحجم من الحكام والعلماء والقواد رجل واحد ينجينا من هذه الورطة؟ قسماً إن لم أجد بعد ثلاثة أيام من يستطيع أن يحل رموز هذه الرسالة لأقصينكم جميعاً عن أعمالكم!".

وقضى الوزراء يوماً كاملاً يتشاورون ويتضجرون، وهم يخشون أن تطيح منهم مناصبهم ورؤوسهم. ثم تقدم الوزير هو جي- جانج إلى العرش وقال: "هل تأذن لأحد رعاياك أن يعلن لجلالتك أن في بيته شاعراً جليل الشأن يدعى لي متبحراً في أكثر من علم واحد؟ مُرْهُ أن يقرأ هذه الرسالة إذ ليس ثمة شيء يعجز عنه ". وأمر الإمبراطور أن يستدعى لي للمثول بين يديه من فوره. ولكن لي أبى أن يحضر بحجة أنه غير جدير بالاضطلاع بالواجب الذي طلب إليه أن يضطلع به، لأن الحكام قد رفضوا مقاله حينما تقدم لآخر امتحان عقد لطالبي الالتحاق بالوظائف العامة. واسترضاه الإمبراطور بأن منحه لقب دكتور من الدرجة الأولى، وخلع عليه حلة هذا اللقب. فجاء لي ووجد الذين امتحنوه بين الوزراء، وأرغمهم على أن يخلعوا له نعليه، ثم ترجم الوثيقة، وقد جاء فيها أن كوريا تعتزم خوض غمار الحرب لاستعادة حريتها. ولما قرأ لي هذه الرسالة أملى عليها رداً مروعاً، ينم عن علم غزير، وقعه الإمبراطور من فوره، وكاد أن يصدق ما أسره إليه "هو" وهو أن لي ملاك طرد من السماء لأنه ارتكب فيها ذنباً عظيماً . وأرسل الكوريون يتعذرون، وأدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وأرسل الإمبراطور بعض هذه الجزية إلى لي فوهب بعضها إلى صاحب الحانة لأنه كان يحب الخمر.

وكانت أم لي قد رأت في منامها ليلة مولد الشاعر الكوكب الأبيض الكبير الذي يسميه الصينيون ثاي- بو جنج ويسميه أهل الغرب فينوس . ولهذا سمى الطفل لي أي البرقوقة ولقب ثاي- بو أي النجم الأبيض. ولما بلغ العاشرة من عمره كان قد أتقن كتب كنفوشيوس، كما كان في مقدوره أن ينظم الشعر الخالد. وفي الثانية عشرة خرج إلى الجبال ليعيش فيها عيشة الفلاسفة، وأقام فيها سنين طوالاً، حسنت في خلالها صحته، وعظمت قوته، وتدرب على القتال بالسيف ثم أعلن إلى العالم مقدرته وكفايته فقال: إني وإن لم يبلغ طول قامتي سبع أقدام (صينية) فإن لي من القوة ما أستطيع به ملاقاة عشرة آلاف رجل"(41) (وعشرة آلاف لفظ يعبر به الصينيون عن الكثرة) ثم أخذ يضرب في الأرض يتلقى أقاصيص الحب من أفواه الكثيرين، وقد غنى أغنية "لفتاة من وو" قال فيها:


نبيذ الكروم

وأقداح الذهب

وفتاة حسناء من وو-

في سن الخامسة عشرة، تقبل على ظهر مهر،

ذات حاجبين قد خُطّا بقلم أزرق-

وحذاءين من النسيج القرنفلي المشجر-

لا تفصح عن ما في نفسها-

ولكنها تغني أغاني ساحرة.

وقد أخذت تطعم الطعام على المائدة،

المرصعة بأصداف السلاحف.

ثم سكرت في حجري.

أي طفلتي الحبيبة! ما أحلى العناق.

خلف ستائر المطرزة بأزهار السوسن!


ثم تزوج الشاعر، ولكن مكاسبه كانت ضئيلة، فغادرت زوجته بيته وأخذت معها أبناؤه. ترى هذه الأسطر التي يبث فيها شوقه موجهة إليها، أو إلى حبيبة أخرى لم يطل عهد الوداد بينهما؟-


أيتها الحسناء، لقد كنت وأنت عندي أملأ البيت زهراً.

أما الآن أيتها الحسناء وقد رحلت- فلم يبق فيه إلا فراش خال.

لقد طوى عن الفراش الغطاء المزركش؛ ولست بقادر على النوم.

وقد مضت على فراقك ثلاث سنين؛ ولا يزال يعاودني شذى العطر الذي خلفته ورائك.

إن عطرك يملأ الجو من حولي وسيدوم أبد الدهر؛

ولكن أين أنت الآن يا حبيبتي؟

إني أتحسر- والأوراق الصفراء تسقط عن الغصن،

وأذرف الدمع- ويتلألأ رضاب الندى الأبيض على الكلأ الأخضر.

وأخذ يسلي نفسه باحتساء الخمر، حتى أصبح أحد "الستة المتعطلين في أيكة الخيزران"، الذين يأخذون الحياة سهلة في غير عجلة، ويكسبون أقواتهم المزعزعة بأغانيهم وقصائدهم. وسمع لي الناس ينثون الثناء الجم على نبيذ نيو جونج فسافر من فوره إلى تلك المدينة، وكانت تبعد عن بلده ثلاثمائة ميل(44). والتقى في تجواله بدوفو الذي صار فيما بعد منافسه على تاج الصين الشعري، وتبادل هو وإياه القصائد الغنائية، وصارا يضربان في البلاد معاً كالأخوين، وينامان تحت غطاء واحد، حتى فرقت الشهرة بينهما. وأحبهما الناس جميعاً لأنهما كانا كالقديسين لا يؤذيان أحداً ويتحدثان إلى الملوك وإلى السوقة بنفس الأنفة والمودة اللتين يتحدثان بهما إلى الفقراء المساكين. ودخلا آخر الأمر مدينة شانجان وأحب "هو" الوزير الطروب شعر لي حباً حمله على أن يبيع ما عنده من الحلي الذهبية ليبتاع له الشراب، ويصفه دوفو بقوله:


أما لي بو فقدم له ملء إبريق،

يكتب لك مائة قصيدة.

وهو يغفو في حانة

في أحد شوارع مدينة شانجان؛

وحتى إذا ناداه مولاه،

فإنه لا يطأ بقدمه القارب الإمبراطوري.

بل يقول: "معذرة يا صاحب الجلالة.

أنا إله الخمر".


لقد كانت أيامه هذه أيام طرب ومرح؛ يعزه الإمبراطور، ويغمره بالهدايا جزاء ما كان يتغنى به من مديح يانج جوي- في الطاهرة. وأقام منج مرة مأدبة ملكية يوم عيد الفاونيا في فسطاط الصبار، وأرسل في طلب لي بو لينشد الشعر في مديح حبيبته. وجاء لي، ولكنه كان ثملاً لا يستطيع قرض الشعر. فألقى خدم القصر ماء بارداً على وجه الوسيم وسرعان ما انطلق الشاعر يغني ويصف ما بين الفاونيا وحبيبته يانج من تنافس فقال:


في أثوابها جلال الغمام السابح،

وفي وجهها سنا الزهرة الناضرة.

أيها الطيف السماوي يا من لا يكون إلا في العلا

فوق قلة جبل الجواهر

أو في قصر البلور المسحور حين يرتفع القمر في السماء!

على أنني أشهد هاهنا في روضة الأرض-

حيث يهب نسيم الربيع العليل على الأسوار،

وتتلألأ نقاط الندى الكبيرة...

لقد هزم حنين الحب الذي لا آخر له

والذي حملته إلى القلب أجنحة الربيع.

ترى من ذا الذي لا يسره أن يكون هو الذي تغنى فيه هذه الأغنية؟ لكن الملكة أدخل في روعها أن الشاعر قد عرض بها أغنيته تعريضاً بها خفياً، فأخذت من هذه اللحظة تدس له عند الملك وتبعث الريبة في قلبه. وما زالت به تقلبه بين الذروة والغارب حتى أهدى لي- بو كيساً به نقود وصرفه. فأخذ الشاعر يهيم في الطرقات مرة أخرى يسلي نفسه باحتساء الخمر، "وانضم إلى الثمانية الخالدين أصحاب الكأس"، الذين كان شرابهم على لسان الناس في شانجان. وكان يرى رأي ليو لنج القائل إنه يحسن بالإنسان أن يسير وفي صحبته على الدوام خادمان يحمل أحدهما خمراً ويحمل الآخر مجرفاً يستعين به على دفنه حيث يخر صريعاً "لأن شئون الناس" كما يقول ليو "ليست إلا طحالب في نهر" (46). وكأنما أراد شعراء الصين أن يكفروا عن تزمت الفلسفة الصينية، فأطلقوا لأنفسهم العنان. وفي ذلك يقول لي بو: "لقد أفرغنا مائة إبريق من الخمر لنغسل بها أرواحنا ونطهرها من الأحزان التي لازمتنا طوال حياتنا" (47) وهو يترنم ببنت الحان ترنم عمر الخيام:


إن المجرى الدافق يصب ماءه في البحر ولا يعود قط.



ألا ترى فوق هذا البرج الشامخ



شبحاً أبيض الشعر يكاد يذوب قلبه حسرة أمام مرآته البراقة؟



لقد كانت هذه الغدائر في الصباح شبيهة بالحرير الأسود،



فلما أقبل المساء إذا هي كلها في بياض الثلج.



هيا بنا، ما دام ذلك في مقدورنا، نتذوق الملاذ القديمة،



ولا نترك إبريق الخمر الذهبي



يقف بمفرده في ضياء القمر...



إني لا أبغي سوى نشوة الخمر الطويلة،



ولا أحب أن أصحو قط من هذه النشوة...



هيا بنا أنا وأنتما نبتاع الخمر اليوم!



لم تقولان أنكما لا تملكان ثمنها؟



فجوادي المرقط بالأزهار الجميلة،



ومعطفي المصنوع من الفراء والذي يساوي ألف قطعة من الذهب



سأخرج عن هذين وآمر غلامي



أن يبتاع بهما الخمر اللذيذة



ولأنسى معكما يا صاحبي



أحزان عشرة آلاف من الأعمار!


ترى ما هي هذه الأحزان؟ أهي آلام من محب أزدرى حبه؟ لا نظن هذا لأن شعراء الصين لا يكثرون من الشكوى من آلام الحب، وإن كان الحب يملأ قلوبهم كما يملأ قلوبنا، وإنما الذي أذاق لي مرارة المآسي البشرية هو الحرب والنفي، وهو آن لو شان والاستيلاء على عاصمة البلاد، وفرار الإمبراطور وموت يانج، وعودة منج هوانج إلى قصوره المهجورة. وهو يقول في حسرة "ليس للحرب نهاية! " ثم يأسو للنساء اللاتي قدمن أزواجهن ضحايا لإله الحرب فيقول:


هاهو ذا شهر ديسمبر؛ وهاهي ذا فتاة يورتشاو الحزينة!



لقد امتنع عليها الغناء، وعز الابتسام، وحاجباها أشعثان،



وهي تقف بالباب، تنتظر عابري السبيل،



وتذكر ذلك الذي اختطف سيفه وسار لحماية الحدود،



ذلك الذي قاسى أشد الآلام في البرد القارس وراء السور العظيم،



ذلك الذي جندل في ساحة الوغى ولن يعود أبداً،





في مشيتها الذهبية النمراء التي تحتفظ فيها بالذكريات،



قد بقي لها سهمان مراشان بريشتين بيضاوين،



بين نسج العنكبوت وما تجمع من الغبار خلال السنين الطوال.



تلك أحلام الحب الجوفاء التي لا تستطيع العين أن تنظر إليها لما تسببه للقلب من أحزان،



ثم تخرج السهمين وتحرقهما وتدرو رمادهما في الرياح.



إن في وسع الإنسان أن يقيم سداً يعترض به مجرى النهر الأصفر،



ولكن من ذا الذي يخفف أحزان القلب إذا تساقط الثلج،



وهبت ريح الشمال؟(49)


وفي وسعنا الآن أن نتخيله ينتقل من بلد إلى بلد ومن ولاية إلى ولاية على الصورة التي وصفه بها دزو تشونج- جي: "على ظهرك حقيبة ملأى بالكتب، تطوف ألف ميل أو أكثر، وفي كمك خنجر وفي جيبك طائفة من القصائد"(50). وقد حبته رفقته القديمة للطبيعة في هذا التجوال الطويل بعزاء وسلوى وراحة تجل عن الوصف؛ وفي وسعنا أن نرى من خلال أشعاره أرض بلاده ذات الأزهار، ونشعر أن حضارة المدن قد أخذ عبئها الباهظ يثقل على الروح الصينية:


لم أعيش بين الجبال الخضراء؟



إني أضحك من هذا السؤال ولا أجيب عنه، إن روحي ساكنة صافية،



إنها تسكن سماء أخرى وأرضاً ليست ملكاً لإنسان.



إن أشجار الخوخ مزدهرة والماء ينساب من تحتها.


ثم انظر إلى هذه الأبيات:


أبصرت ضياء القمر أمام مخدعي.



فخلته الصقيع على الأرض.



ورفعت رأسي ونظرت إلى القمر الساطع فوق الجبل،



وطأطأت رأسي وفكرت في موطني البعيد.


ولما تقدمت به السن وابيض شعره امتلأ قلبه حناناً للأماكن التي قضى فيها أيام شبابه. وكم من مرة، وهو يحيى في العاصمة حياة اصطناعية، حنّ قلبه للحياة البسيطة الطبيعية التي كان يحياها في مسقط رأسه وبين أهله:


في أرض وو وأوراق التوت الخضراء،



نام دود الحرير مرات ثلاثاً.

وأرض لوه الشرقية حيث تقيم أسرتي،

لا أعرف من يزرع فيها حقولنا.

وليس في وسعي أن أعود لأقوم فيها بأعمال الربيع.

ومع هذا فإني لا أستطيع أن أعمل شيئاً،بل أسير على ضفة النهر.

إن ريح الجنوب إذا هبت أطارت روحي المشوقة إلى وطني.

وحملتها معها إلى حانتنا المعهودة.

وهناك أرى شجرة خوخ على الجانب الشرقي من البيت.

بأوراقها وأغصانها الكثيفة تموج في الضباب الأزرق.

إنها هي الشجرة التي غرستها قبل أن أفارق الدار منذ سنوات ثلاث.

لقد نمت شجرة الخوخ الآن وطالت حتى بلغت سقف الحانة،

في أثناء تجوالي الطويل إلى غير أوبه.

أي بنيتي الجميلة يابنج- يانج، إني أراك واقفة

بجوار شجرة الخوخ، تنتزعين منها غصناً مزهراً،

تقطفين الأزهار، ولكني لست معك-

ودموع عينيك تفيض كأنها مجرى ماء!

وأنت يا ولدي الصغير بو سشين لقد نموت حتى بلغت كتفي أختك



وصرت تخرج معها تحت شجرة الخوخ!



ولكن من ذا الذي يربت على ظهرك هناك؟



إني حين أفكر في هذه الأمور تخونني حواسي



ويقطع الألم الشديد في كل يوم نياط قلبي.



وهاأنذا اقتطع قطعة من الحرير الأبيض وأكتب عليها هذه الرسالة



وأبعث بها إليك مصحوبة بحبي تجتاز الطريق الطويل إلى أعلى النهر


وكانت السنون الأخيرة من عمره سني بؤس وشقاء، لأنه لم ينزل قط من عليائه ليجمع المال، ولم يجد في أيام الفوضى والفتن ملكاً يحنو عليه ويرد عنه غائلة الجوع والحرمان. ولما عرض عليه لي- لنج أمير يونج أن ينضم إلى حاشيته قبل هذا راضياً مسروراً؛ ولكن لي- لنج خرج على خليفة منج هوانج، فلما أقلمت أظفار فتنته ألفى لي بو نفسه بين جدران السجن محكوماً عليه بالموت لأنه خان دولته. ثم توسط له جوُو دزيئي القائد الذي أخمد ثورة آن لو شان، وطلب أن تفتدى حياة لي بو بنزوله هو عن رتبته ولقبه. وخفف الإمبراطور عنه الحكم واستبدل به النفي مدى الحياة. ثم صدر عفو عام بعد ذلك بقليل، وعاد الشاعر يتعثر إلى مسقط رأسه. ومرض وتوفي بعد ثلاث سنين من ذلك الوقت؛ وتقول الأقاصيص، التي يعز عليها أن تموت نفس قل أن يوجد مثلها بين النفوس ميتة عادية، إنه غرق في أحد الأنهار، بينما كان يحاول وهو ثمل جزلان أن يعانق صورة القمر. وديوان شعره الرقيق الجميل المؤلف من ثلاثين مجلداً لا يترك مجالاً للشك في أنه حامل لواء شعراء الصين بلا منازع. وقد وصفه ناقد صيني: "بأنه قمة تاي الشامخة المشرفة على مئات الجبال والتلال؛ والشمس إذا طلعت خبا وميض ملايين من نجوم السماء".


لقد مات منج هوانج، وماتت يانج وعفا ذكرهما ولكن لي بو لا يزال يغني!



لقد بنيت سفينتي من خشب الأفاوية وصنع سكانها من خشب المولان.



وجلس العازفون عند طرفها وبيدهم الناي من الغاب المحلى بالجواهر والمزمار المرصع بالذهب.



ألا ما أعظم سروري إذا كان إلى جانبي دن الخمر اللذيذة وغيد حسان يغنين



ونحن نطفو فوق ظهر الماء تدفعنا الأمواج ذات اليمين وذات الشمال!


إذاً لكنت أسعد من جنى الهواء الذي ركب على ظهر غرنيقه الأصفر،



حراً كعريس البحر الذي تعقب النوارس دون غرض يبتغيه،



إني الآن أهز الجبال الخمسة بضربات من وحي قلمي.



هاأنذا قد فرغت من قصيدتي. فأنا أضحك وسروري أوسع من البحر.



أيها الشعر الخالد! إن ألحان شوبنج لشبيهة في روعتها بالشمس والقمر،



أما قصور ملوك جو وأبراجهم فقد عفت آثارها من فوق التلال(55).




. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الخامس: من خصائص الشعر الصيني

النظم الطليق - التصوير - كل قصيدة صورة وكل صورة قصيدة .. - العاطفية - كمال الشكل


ليس في وسعنا أن نحكم على الشعر الصيني بدراسة شعر لي وحده، فإذا أراد الإنسان إن يحس به (وهذا خير من الحكم عليه) وجب عليه أن يسلم نفسه في غير استعجال للكثيرين من الشعراء الصينيين وأساليبهم الشعرية الفذة. ولا جدال في أن بعض الصفات الدقيقة التي يتصف بها هذا الشعر تخفيها عنا ترجمته: فنحن لا نرى في هذه الترجمة الرموز الصينية الجميلة، التي يتكون كل منها من مقطع واحد ولكنه يعبر مع ذلك عن فكرة معقدة؛ ولا نرى السطور تجري من أعلى إلى أسفل ومن اليمين إلى اليسار، ولا ندرك الوزن والقافية اللذين يتشبثان بقوة بالقواعد والسوابق القديمة؛ ولا نستمع إلى النغمات - وما فيها من خفض ورفع - التي يترنم بها الشعر الصيني وجملة القول أن نصف ما في شعر الشرق الأقصى من جمال فني يضيع حين يقرؤه من يجب أن نسميه "أجنبياً عنه. إن خير القصائد الصينية في لغتها الأصلية لصورة مصقولة ثمينة لا تقل في صقلها وعظيم فنها عن المزهرية المنقوشة النادرة الجميلة؛ ولكنه بالنسبة إلينا لا يكون إلا نتفاً من القريض الخداع "الطليق" من الوزن أو الشعر ""التصويري" قد أدركه بعض الإدراك ونقله نقلاً ضعيفاً عقل جاد ولكنه عقل غريب عنه لا يمت إليه بصلة.

إن أهم ما نراه في هذا الشعر هو إيجازه؛ فنميل إلى الظن بأن هذه القصائد تافهة، وإذا ما قرأناها شعرنا بأنا قد لا نجد فيها ما في شعر ملتن وهومر من عظمة تارة وملالة تارة أخرى. ولكن الصينيين يعتقدون أن الشعر كله يجب أن يكون قصيراً؛ وأن القصيدة والطول لفظان متناقضان، لأن الشعر في نظرهم نشوة وقتية بنت ساعتها تموت إذا طالت ومدت حتى صارت ملحمة، وأن رسالة الشاعر أن يرى الصورة ويرسمها بضربة ويسجل الفلسفة في بضعة سطور، وأن مثله الأعلى أن يجمع المعاني الكثيرة في أنغام قليلة. وإذ كانت الصور من جوهر الشعر، وكانت الكتابة الصينية في جوهرها كتابة تصويرية، كانت لغة الصين المكتوبة لغة شعرية بطبيعتها تنقاد للكتابة التصويرية، وتنفر من المعنويات المجردة التي لا يمكن التحدث عنها كما يتحدث عن المرئيات. وإذ كانت المعنويات تكثر كلما ارتقت الحضارة، فقد أضحت اللغة الصينية، في صورتها المكتوبة، أشبه بشفرة سرية ذات إيحاء دقيق. وكذلك كان الشعر الصيني بالطريقة نفسها، وقد يكون للسبب عينه، يجمع بين الإيحاء والتركيز، ويهدف بما يرسم من الصور إلى الكشف عن شيءخفي عميق. فهو لا يجادل ولا يناقش، بل يوحي ويوعز، ويترك أكثر مما يقول؛ وليس في وسع أحد غير الشرقي أن يستجيب لما يوعز به ويملأ الفراغ الذي يتركه. وفي هذا المعنى يقول الصينيون:

كان الأقدمون يرون أن أحسن الشعر ما كان معناه أبعد من لفظه، وما اضطر قارئه أن يستخلص معناه لنفسه . الشعر الصيني كالأخلاق الصينية والفن الصيني ذو جمال رائع لا حد له تخفيه بساطة هادئة مستكنة. فهو لا يعمد إلى الاستعارة والمجاز والتشبيه بل يعتمد على إظهار ما يريد أن يتحدث عنه، ويشير من طرف خفي إلى ما يتضمنه، ويتصل به، وهو يتجنب المبالغات والانفعالات ويلجأ إلى العقل الناضج بما فيه من إيجاز في القول وما يتقيد به من قيود. وقلما تراه في صور روائية هائجة، ولكن في مقدوره أن يعبر عن المشاعر القوية بأسلوبه الهادئ الرصين:


الناس يقضون حياتهم متفرقين كالنجوم تتحرك ولكنها لا تلتقي أبداً.



أما هذه العين فما أسعدها، إذ ترى مصباحاً واحداً يبعث الضوء لي ولك!



ألا ما أقصر أيام الشباب!



وإن لما منا لتدل الآن على أن حياتنا قد آذنت بالزوال.



بل إن نصف من نعرفهم قد انتقلوا الآن إلى عالم الأرواح.



ألا ما أشد وقع هذا على نفسي.


وقد يعترينا الملل في بعض الأحيان مما في هذه القصائد من التكلف العاطفي، وما تحويه من تحسر وتمن باطل بأن تقف عجلة الزمان دورتها حتى يبقى الرجال فتياناً وتحتفظ الدول بشبابها أبد الدهر. ونحن ندرك من هذا الشعر أن حضارة الصين كانت قد شاخت وانقضى عهد شبابها في أيام منج هوانج، وأن الشعراء في هذا العهد - كالفنانين في الشرق بوجه عام - قد أولعوا بتكرار الموضوعات التليدة، وأنهم كانوا يسخرون قدرتهم الفنية للاحتفاظ بالصيغ سليمة مبرأة من العيوب. ولكننا رغم هذا كله لا نجد لهذا الشعر مثيلاً في غير بلاد الصين، ولا نرى ما يضارعه في جمال التعبير وما فيه من رقة العواطف رغم اعتدالها، ومن بساطة واقتصاد في التعبير عن أعمق الأفكار. ويقال لنا إن للشعر الذي كتب في عهد أباطرة تانج أثراً عظيماً في تعليم كل شاب صيني وأن الإنسان لا يجد صينياً مفكراً لا يحفظ الكثير من ذلك الشعر عن ظهر قلب. فإذا صح هذا كان في تاريخ لي بو ودوفو بعض ما نجيب به حين نسأل لِمَ يكاد كل صيني متعلم أن يكون فناناً وفيلسوفاً؟


الفصل السادس: دوفو

داوتشين - بو - جوي - قصائد لشفاء الملاريا - دوفو ولي بو - رؤيا الحرب - أيام الرخاء - الإملاق - الموت


لي بو عند الصينيين شبيه بكيتس عند الإنجليز، ولكن للصين غيره من المغنين، لا يكاد يقلّ حبهم لهم عن حبهم للي بو، فمنهم داوتشين الشاعر الرواقي البسيط الذي اعتزل منصباً حكومياً، لأنه على حد قوله لم يعد في وسعه أن يحني فقرات ظهره نظير خمسة أرطال من الأرز في كل يوم" أي أن يبتاع مرتبه بكرامته. واعتزل داوتشين الحياة العامة كما اعتزلها كثيرون من رجال الدولة اشمئزازاً من حياة الوظيفة ذات النزعة التجارية , وذهب ليعيش في الغابات ينشد فيها "طول السنين وعمق الخمور"، ويجد في مجاري الصين وجبالها من السلوى والبهجة ما صوره رساموها على الحرير فيما بعد:


اقطف الأقحوان تحت السياج الشرقي،



ثم اسرح الطرف طويلاً في تلال الصيف البعيدة



وأملا صدري من هواء الجبال النقي عند مطلع الفجر،



وأرى الطيور تعود مثنى مثنى.



إن في هذه الأشياء لمعاني عميقة،



لكننا إذا شئنا التعبير عنها خانتنا الألفاظ فجأة . . .



ألا ما أسخف أن يقضي المرء حياته كأوراق الشجر الساقطة المطمورة في تراب الطرقات!



ولقد قضيت ثلاثة عشرة سنة من حياتي على هذا النحو. . .


وعشت زمناً طويلاً حبيساً في قفص،



وهاأنذا قد عدت



إذ لا بد للإنسان أن يعود



ليحيا حياته الطبيعية


أما بو - جوي فقد سلك مسلكا آخر، إذ اختار المنصب الرسمي والحياة في العاصمة. وصار يرقى في المناصب العامة حتى أمسى حاكم مدينة هانج تشاو العظيمة ورئيس مجلس الحرب. لكنه رغم متاعب الحياة العامة عاش حتى بلغ الثانية والسبعين من العمر، وأنشأ أربعة آلاف قصيدة، وعب ملاذ الطبيعة في فترات نفي فيها من بلده( 58 ). وعرف السر الذي يستطيع به أن يجمع بين الوحدة والاختلاط بالجماهير، وبين الراحة والحياة الناشطة. ولم يكن كثير الأصدقاء لأنه كما يقول عن نفسه كان رجلاً وسطاً غير ممتاز في "الخط، والتصوير، والشطرنج، والميسر، وهي الوسائل التي تؤدي إلى اجتماع الرجال وإلى الضجة السارة" (59). وكان مولعاً بالتحدث إلى عامة الناس، ويروى عنه أنه كان يقرأ قصائده لعجوز قروية، فإذا عجزت عن فهم شيء منها بسطه لها. ومن ثم أصبح أقرب الشعراء الصينيين إلى قلوب الجماهير، وكان شعره ينقش في كل مكان، على جدران المدارس والمعابد وقمرات السفن. ويروى أن فتاة من المغنيات قالت لربان سفينة كانت تطربه ليس لك أن تظن أني راقصة عادية؛ وحسبك أن تعرف أن في مقدوري أن أسمعك قصيدة الأستاذ بو: الغلطة الأبدية" . وآخر من نذكره من أولئك الشعراء هو دوفو الشاعر المحبوب العميق الذي يقول فيه آرثر ويلي Arthur waley: "من عادة الذين يكتبون في الأدب الصيني من الإنجليز أن يقولوا إن لي تاي - بو أشعر شعراء الصين؛ أما الصينيون أنفسهم فيقولون إن دوفو هو حامل لواء الشعراء الصيني"(61).

ونحن نسمع به لأول مرة في شانجان حيث أقبل ليؤدي امتحاناً ليتقلد إذا نجح فيه منصباً حكومياً، ولكنه لم ينجح. على أن ذلك لم يفت في عضده، رغم أنه أخفق في مادة الشعر؛ وأعلن للجمهور أن قصائده علاج ناجع لحمى الملاريا، ويبدو أنه جرب هذا العلاج بنفسه(62). وقرأ بنج هوانج بعض أشعاره ووضع له هو نفسه امتحاناً آخر، وأنجحه فيه وعينه أمين أسرار القائد تسُوَّا. وشجع هذا العمل دوفو وأنساه وقتاً ما زوجته وأبناءه في قريتهم النائية، فأقام في العاصمة وتبادل هو ولي بو الأغاني، وأخذ يتردد على الحانات ويؤدي ثمن خمره شعراً. وقد كتب عن لي بو يقول:


أحب مولاي كما يحب الأخ الأصغر أخاه الأكبر،



ففي الخريف وفي نشوة الخمر ننام تحت غطاء واحد، وفي النهار نسير معاً يداً بيد.


فعل هذا في أيام كان منج ليانج يحب جوي - في فأخذ دو يتغنى بهذا الحب كما يتغنى غيره من الشعراء؛ فلما شبت نار الثورة وأغرقت الأحقاد والمطامع بلاد الصين في بحر من الدماء حول شعره إلى موضوعات حزينة، وأخذ يصور الناحية الإنسانية من الحرب:


في الليلة الماضية صدر أمر حكومي



بتجنيد الفتيان الذي بلغوا الثامنة عشرة.



وأمروا أن يعاونوا على الدفاع عن العاصمة



أيتها الأم! وأيها الأبناء! لا تبكوا هذا البكاء!



إن هذه الدموع التي تذرفونها تضر بكم.



وحين تقف الدموع عن الجريان تبرز العظام


ووقتئذ لا ترحمكم الأرض ولا السماء.



وهل تعرفون أن في شانتونج مائتي مقاطعة قد استحالت صحاري مجدبة،



وأن آلافا من القرى والمزارع قد غطاها الحسك والشوك؟



وأن الرجال يذبحون ذبح الكلاب، والنساء يسقن كما يساق الدجاج...



ولو أنني كنت أعرف ما هو مخبأ للأولاد من سوء المصير



لفضلت أن يكون أطفالي كلهم بنات...



ذلك أن الأولاد لا يولدون إلا ليدفنوا تحت العشب الطويل.



ولا تزال عظام من قضت عليهم الحرب في الماضي البعيد مدفونة بجوار البحر الأزرق تراها وأنت مار.



فهي بيضاء رهيبة تراها العين فوق الرمال،.



هنالك تجتمع أشباح الصغار وأشباح الكبار لتصيح جماعات،



وإذا هطل المطر وأقبل الخريف وهبت الريح الباردة،



علت أصواتهم حتى علمتني كيف تقتل المرء الأحزان...



إن الطيور تتناغى في أحلامها وهي تحلق فوق الماء



والبراعة تشع بضيائها في غسق الليل.



فلم يقتل الإنسان أخاه الإنسان ليعيش؟



إني أتحسر خلال الليل في غير طائل؟.


وقضى الشاعر عامين خلال عهد الثورة يطوف بأنحاء الصين تقاسمه إملاقَه زوجته وأبناؤه، وقد بلغ من فقره أنه كان يستجدي الناس الخبز، ومن ذلته أنه خر راكعاً يدعو بالخير للرجل الذي آوى أسرته وأطعمها حيناً من الزمان(65). ثم أنجاه من بؤسه القائد الرحيم ين وو فعينه أمينا لسره، وغفر له أهواؤه وأطواره الشاذة، وأسكنه كوخاً على ضفة "مجرى غاسل الأزهار"، ولم يطلب إليه أكثر من أن يقرض الشعر . وعاش الرجل حينئذ سعيداً طروباً يتغنى بالأمطار والأزهار والقمر والجبال:


وماذا تجدي العبارة أو المقطوعة الشعرية الجميلة؟



إن أمامي جبالاً وغابات كثيفة سوداء فاحمة.



وإن نفسي لتحدثني بأن أبيع تحفي وكتبي



وأعب من الطبيعة وهي صافية عند منبعها...



فإذا قدمت على مكان بهذا الجمال



مشيت رويداً. وتمنيت أن يغرق الجمال روحي.



أحب أن ألمس ريش الطير.



وأنفخ فيه بقوة حتى أكشف عما تحته من الزغب



وأحب أن أعد إبر النبات أيضاً،



بل أحب أن أعد لقاحه الذهبي،



ألا ما أحلى الجلوس على الكلأ،



ولست بحاجة إلى الخمر حين أجلس عليه، لأن الأزهار تسكرني..



أحب الأشجار القديمة حباً يسري في عظامي، وأحب أمواج البحر التي في زرقة اليشب.


وأحبه القائد الطيب القلب حباً أفسد على الشاعر راحته، لأنه رفعه إلى منصب عال في الدولة، إذ جعله رقيباً في شانجان، ثم مات القائد فجأة، وثارت الحرب حول الشاعر، فأمسى وحيداً لا سند له إلا عبقريته، وسرعان ما ألفى نفسه



 صفحة رقم : 1224   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> دوفو


فقيراً معدماً، وأخذ أطفاله وقد أذهب عقلهم الجوع يسخرون منه لقلة حيلته، وكان في آخر أيامه شيخاً مهدماً بائساً وحيداً، "يؤذي العين منظره"، وأطاحت الريح بسقف كوخه، وسرق الأطفال قش فراشه، وهو ينظر إليهم ولا يستطيع لضعفه أن يقاومهم(67)، وشر من هذا كله أنه فقد لذة الخمر، ولم يعد في وسعه أن يحل مشاكل الحياة كما يحلها لي بو. ثم لجأ آخر الأمر إلى الدين ووجد سلواه في البوذية، وعاجلته الشيخوخة ولم يتجاوز التاسعة والخمسين من عمره، فحج إلى جبل هون المقدس ليزور فيه معبداً ذائع الصيت، وهناك عثر عليه حاكم من الحكام قد قرأ شعره، فآواه إلى منزله وأقام وليمة تكريماً له، صُفَّت فيها صحاف الشواء وكؤوس الخمر. ولم يكن ووفو قد رأى ذلك من عدة سنين فأكل أكل الجياع. ثم طلب إليه مضيفه أن ينشد الشعر ويغني، فحاول أن يجيبه إلى ما طلب، ولكنه خارت قواه وسقط على الأرض ومات في اليوم الثاني(68).


الفصل السابع: النثر

وفرة الآداب الصينية - الروايات الغرامية - التاريخ - زوماتشين - المقالات - هان يو على عظام بوذا


ليس شعراء تانج إلا فئة من شعراء الصين، وليس الشعر إلا جزءاً من الأدب الصيني، وإنه ليصعب علينا أن ندرك حقيقة ما كان في هذا العصر من وفرة في الأدب ومن سعة انتشاره بين كافة طبقات الشعب. وكان عدم وجود قانون للملكية الأدبية عاملاً من العوامل التي ساعدت على رخص أثمان المطبوعات، ولذلك كان من الأمور العادية، قبل دخول الأفكار الغربية في البلاد، أن يجد الإنسان مجموعات جديدة مجلدة من عشرين كتاباً تباع الواحدة منها بريال أمريكي، وأن يرى موسوعات مؤلفة من عشرين مجلداً تباع جديدة بأربعة ريالات، وأن تباع جميع روائع الأدب الصيني القديم كلها بريالين(69). وأصعب مما سبق أن نقدر نحن قيمة هذا الأدب، وذلك لأن الصينيين يضعون الشكل والأسلوب فوق المادة حين يحكمون على كتاب ما، وليس في وسع أية ترجمة مهما بلغت أن تظهر جمال الشكل أو روعة الأسلوب. ليس من حقنا أن نلوم الصينيين حين يقولون إن آدابهم أرقى من أية آداب أخرى عدى الآداب اليونانية، ولعلهم حين يستثنون آداب اليونان إنما يفعلون هذا من قبيل المجاملات المأثورة عن الشرقيين. والصينيون لا يعدون القصص فرعاً من فروع الأدب، وهم في هذا يختلفون عن الغربيين حيث يرفع القصص من شأن المؤلفين ويذيع أسمائهم في سرعة وسهولة. ولذلك فإنا قلما نجد له ذكراً في بلاد الصين قبل أن يدخلها المغول(70) بل إن أدباء الصين لا يزالون إلى هذا اليوم يعدون خير الروايات القصصية مجرد تسلية شعبية غير خليقة بأن تذكر في تاريخ الآداب الصينية. لكن سكان المدن الصينية السذج لا يبالون بهذه الفروق، ويتركون أغاني بو- جوي، ولي بو في غير تحرج، ويفضلون عليها الروايات الغرامية التي لا حصر لها، والتي يكتبها مؤلفون يخفون عن القراء أسماءهم، وينشرونها باللهجات الشعبية التي تكتب بها المسرحيات. وهي تصوّر للصينيين في وضوح ما في ماضيهم من أحداث روائية رائعة؛ ذلك أن جميع الروايات الصينية الشهيرة، إلا القليل النادر منها، روايات تاريخية، وقلّ أن يوجد فيها ما هو واقعي النزعة، وأقلّ منه ما يحاول فيه مؤلفوه ذلك القرب من التحليل النفساني أو الاجتماعي الذي يرقى "بأخوة كرمزوف" The Brothers Karamazov و "الجبل المسحور" The Magic Mountain و "الحرب والسلم" War and Peace و "البائسون" Les Miserables إلى مستوى الأدب الرفيع. ومن أقدم الروايات الصينية رواية شوي هو جوان أو "قصة حواشي الماء" التي ألفها رهط من الكُتاّب في القرن الرابع . ومن أكبر هذه الروايات حجماً رواية "هونج لومن" أو حلم الغرفة الحمراء (حوالي 1650 م) وهي رواية في أربعة وعشرين مجلداً؛ ومن أحسنها كلها رواية لياو جاي جبىْ أو قصص عجيبة (حوالي 1660 م) وهي التي يجلها الصينيون لجمال أسلوبها وأناقة عبارتها. وأشهرها كلها رواية ساق جورجي ياق إي أو "رواية الممالك الثلاث" وهي رواية منمقة الأسلوب في ألف صفحة ومائتين كتبها لو جوان - جونج (1260-1241م) في وصف الحرب والدسائس التي أعقبت سقوط أسرة هان ، وكلها شبيهة بالروايات الطويلة التصويرية التي كانت منتشرة في أوربا في القرن الثامن عشر. وكثيراً ما تجمع هذه الروايات (إذا جاز لنا في مثل هذه الموضوعات أن ننقل إلى القارئ ما يتحدث به الناس عنها) بين تصوير الأخلاق الفكه اللطيف الذي تراه في رواية تم جونز Tom Jones وبين القصص الشائق الذي نراه في جل بلاس Gil Blas. وهي أصلح ما تكون لأن يقرأها الشيوخ الطاعنون في السن ليقطعوا بها أوقات فراغهم.

والتاريخ أجل الآداب شأناً في الصين، وهو كذلك أحبها إلى الصينيين، وليس ثمة أمة ظهر فيها من المؤرخين عدد يوازي ما ظهر منهم في الصين، وما من شك في أنه ليس بين الأمم جميعهاً أمة كتبت في التاريخ بقدر ما كتبت الأمة الصينية. وذلك أن أقدم عصور الملوك كان لها كتابها الرسميون، يسجلون أعمال الملوك وأحداث الأيام؛ ولقد دام منصب مؤرخ البلاط إلى أيامنا هذه، وأوجد في الصين قدراً من الأدب التاريخي لا نرى له مثيلاً في طوله ولا في ملله في جميع بلاد العالم. وحسبنا أن نضرب بعض الأمثلة ليدرك القارئ طول هذه التواريخ. فمنها أربعة وعشون كتاباً في "تواريخ الأسر" وهو تاريخ رسمي نشر في عام 1747م في 219 مجلداً ضخماً(71). وأخذت كتابة التواريخ تخطو خطى سريعة في الصين مبتدئة بالشو - جنج أو "كتاب التاريخ" الذي هذبه كنفوشيوس أحسن تهذيب، وبالدوز - جواق وهو شرح لكتاب المعلم الكبير وإحياء له كتب بعد مائة عام من ذلك الوقت وحوليات كتب الغاب التي وجدت في قبر أحد ملوك ويه، حتى أخرجت في القرن الثاني قبل ميلاد المسيح أعظم كتب التاريخ الصينية على الإطلاق، وهو كتاب السجل التاريخي الذي جمعه زوماتشين وبذل في جمعه جهوداً جبارة.

ذلك أنه لما خلف زوما أباه في منصب منجم البلاط بدأ عمله بإصلاح التقويم، ثم وجه جهوده للعمل الذي بدأه أبوه وهو رواية تاريخ الصين من عهد الأسرة الأولى الأسطورية إلى العصر الذي كان يعيش فيه. ولم يكن زوما مولعاً بجمال الأسلوب، بل كل ما كان يهدف إليه أن يجعل سجله هذا كاملاً. وقد قسم كتابه هذا خمسة أقسام هي: (1) حوليات الأباطرة، (2) الجداول التاريخية، (3) ثمانية فصول في المراسم، والموسيقى، وموازين النغمات، والتقويم، والتنجيم، والقرابين الإمبراطورية، والمجارى المائية، والاقتصاد السياسي، (4) حوليات أمراء الإقطاع، (5) تراجم عظماء الرجال. ويبلغ طول العهد الذي تُؤرّخ له هذه الكتب كلها نحو ثلاثة آلاف عام، وقد سجلت في 000ر526 متر صيني نقشت بقلم مدبب على ألواح من الغاب في صبر طويل(72). ولما فرغ زوماتشين من وضع كتابه هذا الذي قضى فيه حياته كلها أرسله إلى الإمبراطور وإلى العالم ولم يضف إليه إلا هذه المقدمة المتواضعة:

"لقد وهنت الآن قوة خادمك الجسمية، وضعف بصره وأظلمت عيناه، ولم يبق من أسنانه إلا العدد القليل، وضعفت ذاكرته حتى أصبح ينسى حوادث الساعة حين تدبر عنه، ذلك أن قواه كلها قد استنفدها إخراج هذا الكتاب. وهو لهذا يرجو أن تصفح جلالتكم عن محاولته الجريئة التي تشفع لها نيته الخالصة، وأن تتفضل في لحظات الفراغ بلقاء نظرة قدسية على هذا الكتاب حتى تعرف من أسباب قيام الأسر السابقة وسقوطها سر نجاح هذه الساعة وإخفاقها، فإذا ما استخدمت هذه المعرفة لخير الإمبراطورية، فإن خادمك يكون قد حقق غرضه ومطمعه في الحياة، وإن ثوت عظامه في الينابيع الصفراء" (73).

ولسنا نجد في صفحات كتاب زوماتشين شيئاً من تألق تين Taine، ولا ثرثرة ساحرة أو قصصا طريفة مكتوبة بأسلوب هيرودوت، ولا تعاقبا للعلة و المعلول كما نجدها في توكيديد Thucydides، ولا نظرة واسعة الآفاق في لغة موسيقية كما نجد في ِجبُن Gibbon. ذلك أن التاريخ قلما يرتفع في الصين من صناعة إلى فن. وقد ظل المؤرخون الصينيون من أيام زوماتشين إلى أيام سميه زوما جوانج الذي حاول بعد أحد عشر قرناً أن يكتب مرة أخرى تاريخاً عاماً للصين، نقول ظل هؤلاء المؤرخون يكدحون ليدونوا في صدق وإخلاص حوادث أسرة حاكمة أو ملك من أسره. وكثيراً ما أضاعوا في هذا العمل كل ما كان لهم من مال، بل إنهم أضاعوا فيه أحياناً حياتهم نفسها؛ وكانوا ينفقون جهودهم كلها في سبيل الحقيقة لا يبغون عنها بديلاً، ولم يدخروا شيئاً من هذه الجهود ينفقونه في جمال الأسلوب، ولعهم كانوا في عملهم هذا على حق، ولعل التاريخ ينبغي أن يكون علماً لا فناً، ولربما كانت حوادث الماضي يعتريها الغموض إذا وصلت إلينا في زينة ِجبُن أو في مواعظ كارليل. ولم تخل بلادنا نحن أيضا من مؤرخين ثقال، وفي وسعنا أن ننافس أية أمة من الأمم في عدد المجلدات التي خصصت لتسجيل - وجمع - أتفه الأشياء.

أما المقالة الصينية فهي أجمل من التاريخ الصيني وأعظم منه بهجة. ذلك أن الفن فيها غير محرم والفصاحة مطلقة العنان. وأوسع كتاب المقالات شهرة هان يو العظيم الذي يقدر الصينيون كتبه أعظم تقدير، ويجلونها إجلالا بلغ من قدره أنهم يطلبون إلى من يقرؤها أن يغسل يديه بماء الورد قبل أن يمسها. وكان هان يو وضيع المولد ولكنه وصل إلى أرقى المراتب في خدمة الدولة، ولم يغضب عليه الإمبراطور إلا لأنه احتج احتجاجاً شديداً صريحاً على تسامحه مع البوذية وما حباها من امتيازات. ذلك أن هان كان يعتقد أن الدين الجديد إن هو إلا خرافة هندية، وقد آلمه أشد الألم، وهو الكنفوشي الصميم، أن يرضى الإمبراطور عن هذا الحلم الموهن الذي أسكر أهل بلاده. ومن أجل هذا رفع مذكرة إلى الإمبراطور (803 ق.م) نقتبس منها هذه السطور لنقدم للقارئ مثلاً من النثر الصيني، وإن كانت الترجمة الأمينة قد شوهته:

"لقد سمع خادمكم أن أوامر صدرت إلى جماعة الكهنة بأن يسيروا إلى فنج - شيانج ليتسلموا عظماً من عظام بوذا، وأن جلالتكم ستشرفون من برج عال على دخوله في القصر الإمبراطوري؛ وأن أوامر أخرى أرسلت إلى الهياكل المختلفة تقضي بأن يحتفل بهذا الأثر الاحتفال الذي يليق به. وقد يكون خادمكم أبله ضعيف العقل، ولكنه يدرك أن جلالتكم لا تفعلون هذا لتنالوا منه نفعاً، بل تفعلونه مسايرة منكم لرغبة الشعب في أن يحتفل بهذا المجون الباطل في عاصمة البلاد، في الوقت الذي بلغ فيه الرخاء غايته، وامتلأت جميع القلوب بهجة وانشراحاً. وإلا فكيف تجيز لكم سامي حكمتكم أن تؤمنوا كما يؤمن عامة الشعب بهذه العقائد السخيفة؟ وعامة الشعب يا مولاي بطيئو الإدراك يسهل التغرير بهم، فإذا رأوا جلالتكم تركعون خاشعين أمام قدمي بوذا صاحوا من فورهم: هاهو ذا ابن السماء مصدر الحكمة قوى الإيمان ببوذا؛ فهل يحق لنا نحن عامة شعبه أن نضن عليه بأجسامنا. ثم يعقب هذا سفع النواصي وحرق الأصابع؛ وتجمع الناس من كل صوب يمزقون ملابسهم، وينثرون أموالهم، ويقضون وقتهم كله من الصباح إلى المساء يحذون حذو جلالتكم. ونتيجة هذا أن تتملك الشعب كله، صغاره وكباره، هذه الحماسة نفسها فيهمل الناس ما يجب عليهم أن يفعلوه في حياتهم. وتراهم يحجون إلى الهياكل زرافات، يقطعون أيديهم ويشوهون أجسامهم، ليقدموها قرباناً إلى الإله، إلا إذا حرمتم عليهم جلالتكم هذا العمل. وبهذا يقضى على عادتنا وتقاليدنا، ونصبح مضغة في أفواه الناس وهدفاً لسخريتهم على ظهر الأرض..

ولهذا فإن خادمكم، وقد تجلل بالعار من أفعال الرقباء ، يضرع إلى جلالتكم أن تتركوا هذه العظام طعمة للنار والماء، حتى يجتث هذا الشر من منابته فلا يعود أبداً، وحتى يعرف الشعب أن حكمة جلالتكم أعلى من حكمة عامة الناس. وإذا كان للرب بوذا من القوة ما يستطيع به أن يثأر لنفسه من هذه الإهانة بالكوارث يصبها على رأس من كان سبباً فيها، فليصب جام غضبه على شخص خادمكم، وهو في هذه اللحظة يشهد السماء على أنه لن يحيد عن عقيدته" (74). وبعد فإذا ما قام النزاع بين التخريف والفلسفة فأكبر الظن أن النصر سيكون حليف التخريف، ذلك بأن العالم قد أوتي من العقل ما يجعله يفضل السعادة على الحكمة، ومن أجل ذلك نفي هان إلى قرية في هوانج - تونج حيث كان الناس لا يزالون همجاً سذجاً. ولم يشك من هذا النفي، بل شرع يهذب الناس ويجعل من نفسه خير قدوة يقتدون بها عملاً بتعاليم كنفوشيوس. وقد بلغ من نجاحه في عمله هذا أن صورته لا تزال يكتب عليها في هذه الأيام تلك الأسطورة "لقد كان ينشر الطهر حيثما مر" (75). ثم استدعي آخر الأمر إلى عاصمة البلاد، وأدى للدولة خدمات جليلة، ومات معززاً مكرماً أعظم الإعزاز والتكريم. وقد نصبت له لوحة تذكارية في هيكل كنفوشيوس - وهو المكان الذي يحتفظ به عادة لأتباع المعلم العظيم أو لكبار شرّاحه - ؛ وذلك لأنه دافع عن العقائد الكنفوشية دفاعاً لم يبال فيه بما يتعرض له من الأخطار، وقاوم عقيدة كانت من قبل صالحة نبيلة ولكنها أصبحت الآن منحطة فاسدة.


الفصل الثامن: المسرح

منزلته الوضيعة في الصين - منشؤه - المسرحية - النظارة - الممثلون - الموسيقى


ليس من السهل أن نقسم المسرحيات الصينية أقساماً جامعة مانعة، لأن الصينيين لا يقرون أن التمثيل أدب أو فن، وليس للتمثيل في الصين منزلة تتناسب مع ما يتمتع به من انتشار واسع بين طبقات الشعب، وشأنه في هذا شأن كثير من مقومات الحياة. من أجل ذلك لا نكاد نسمع بأسماء كُتاّب المسرحيات، والممثلون ينظر إليهم على أنهم من طبقة منحطة ولو أنفقوا حياتهم كلها في إعداد أنفسهم لهذا العمل والنبوغ فيه، ولو بلغوا فيه أعظم ما يبلغه الإنسان من الشهرة. وما من شك في أن شيئاً من هذا كان من نصيب الممثلين في جميع الحضارات، وبخاصة في العصور الوسطى، حين كان التمثيل يكافح للخروج من دائرة التمثيل الديني الصامت المضحك الذي نشأ منه وتفرع عنه. وكان هذا بعينه منشأ المسرح الصيني. فلقد كانت الطقوس الدينية في عهد أسرة جو تشمل أنواعاً من الرقص المصحوب بالمخاطر. ويقال أن هذا الرقص قد حرم فيما بعد لأنه أصبح مدعاة للفساد الخلقي، ولعل هذا التحريم الذي فصل الرقص عن المراسم الدينية هو الذي نشأ منه التمثيل غير الديني(76). وشجع منج هوانج قيام هذا النوع المستقل من التمثيل كما شجع كثيراً من الفنون الأخرى، وذلك بأن جمع حوله طائفة من الممثلين والممثلات أطلق عليهم اسم: "فتيان حديقة الكمثرى". غير أن المسرح لم يصبح نظاماً قومياً معترفاً به إلا في عهد كوبلاى خان. ذلك أنه لما اختير كونج دوْفو - وهو من سلالة كنفوشيوس - في عام 1031م ليكون مبعوثاً صينياً إلى البلاط المغولي استقبل فيه باحتفال عظيم شمل فيما شمل تمثيل إحدى المسرحيات. بيد أن الماجن في هذه المسرحية كان يمثل كنفوشيوس. ومن أجل هذا خرج كونج دو - فو غاضبا؛ لكنه لما عاد إلى الصين هو وغيره من الرحالة الذين طافوا بلاد المغول، تحدثوا إلى أبناء وطنهم عن ضرب من التمثيل أرقى كثيراً من كل ما عرفته بلادهم منه. ولما أن فتح المغول الصين أدخلوا فيها القصة المقروءة والمسرحية، ولا تزال أرقى المسرحيات الصينية في هذه الأيام هي المسرحيات التي كتبت في أثناء حكم المغول(77). وتقدم فن التمثيل على مهل، لأنه لم يلق معونة من رجال الدولة ولا من رجال الدين. وكان معظم العاملين فيه ممثلين جوالين، يقيمون طواراً في حقل خال من الزرع ويمثلون ما يشاءون أمام النظارة القرويين الواقفين في العراء. وكان الحكام الصينيون يستخدمون الممثلين أحياناً لإقامة حفلات تمثيلية خاصة في أثناء المآدب، كما كانت النقابات أحياناً تمثل بعض المسرحيات. وزاد عدد دور التمثيل في أثناء القرن التاسع عشر الميلادي، ولكنها رغم هذه الزيادة لم يكن منها في مدينة نانكنج الكبيرة أكثر من دارين(76)؛ وكانت المسرحية الصينية مزيجاً من التاريخ والشعر والموسيقى، وكانت حبكتها عادة تدور حول حادثة تاريخية روائية، وكان يحدث في بعض الأحيان أن تمثل مشاهد من مسرحيات مختلفة في ليلة واحدة؛ ولم يكن لزمن التمثيل حد محدود، فتارة يكون قصيراً وتارة يدوم عدة أيام، لكنه في أكثر الأحيان كان يمتد نحو ست ساعات أو سبع، وهو الزمن الذي تستغرقه أحسن المسرحيات الأمريكية في هذه الأيام وكان يتخلل المسرحيات كثير من التفاخر والخطب الرنانة، وكثير من العنف في الأقوال والأعمال، ولكن واضع المسرحية كان يبذل غاية جهده ليجعل خاتمتها انتصاراً للفضيلة على الرذيلة؛ ومن أجل ذلك أصبحت المسرحية الصينية أداة للتعليم والإصلاح الأخلاقي، تعلم الشعب شيئاً من تاريخه، وتغرس في نفوس أفراده الفضائل الكنفوشية - وأهمها كلها بر الأبناء بالآباء-وكانت تعمل لذلك باطراد ودأب أفسدا عليها غايتها.

وقلما كان المسرح يزين بالمناظر أو الأثاث، ولم يكن له مخرج للممثلين، فكان هؤلاء جميعاً، سواء منهم أصحاب الأدوار وغير أصحابها، يجلسون على المسرح طوال وقت التمثيل ويقفون إذا ما جاء دورهم؛ وكان يحدث في بعض الأحيان أن يقدم الخدم الشاي لهم وهم جالسون؛ وكان غيرهم من الخدم يطوفون بين النظارة يبيعونهم الدخان والشاي والمرطبات، ويقدمون لهم القطائل ليمسحوا بها وجوههم في ليالي الصيف؛ وكان يشربون ويأكلون ويتحدثون حتى تستلفت أنظارهم قطعة من التمثيل جميلة أو عالية الصوت؛ وكثيراً ما كان الممثلون يضطرون إلى الصراخ بأعلى أصواتهم لكي يسمعهم النظارة، وكان في أغلب الأحيان يلبسون أقنعة على وجوههم حتى يسهل على النظارة فهم أدوارهم. ولما حرّم تشين لونج على النساء أن يظهرن على المسرح كان الرجال يمثلون أدوار النساء، وقد مثلوها تمثيلاً بلغ من إتقانه أن النساء حين سمح لهن في أيامنا هذه بالظهور على المسرح من جديد كان لا بد لهن أن يعملن جاهدات على تقليد مقلديهن حتى يضمنّ النجاح. وكان لا بد للممثلين أن يتقنوا الرقص والألعاب البهلوانية، لأن أدوارهم كثيراً ما كانت تتطلب منهم المهارة في تحريك أعضائهم، ولأن كل حركة من حركات التمثيل كانت تؤدى طبقاً لقواعد من الرشاقة معينة منسجمة مع النغمات الموسيقية التي تعزف في خلال التمثيل؛ وكانت حركات اليدين تستخدم رمزاً للكثير من الأعمال، كما كانت تصحب الكثير من الأقوال، وكان لابد أن تكون هذه الحركات دقيقة متفقة مع العرف والتقاليد القديمة؛ وكان فن تحريك اليدين والجسم عند بعض كبار الممثلين أشباه ماي لانج - فانج يؤلف نصف ما في المسرحية من شعر. وقصارى القول أن التمثيلية لم تكن كلها رواية مسرحية، ولم تكن كلها مسرحية غنائية، ولم تكن في أكثر أدوارها مرقصة، بل كانت مزيجاً من هذا كله تكاد تشبه في صفاتها مسرحيات العصور الوسطى في أوربا، ولكنها كاملة في نوعها كمال الموسيقى البلسترينائية Palestrina أو الزجاج المصبوغ(79).

وقلما كانت الموسيقى فناً قائماً بذاته عند الصينيين بل كانت تعزو منشأ كثير غيرها من الفنون إلى الإمبراطور الأسطوري فوشي. وقد احتوى اللي - جى أو "كتاب المراسم" الذي يرجع عهده إلى ما قبل كنفوشيوس عدة رسائل في الموسيقى وأسماء عدة رسائل فيها، كما احتوى الدزو - جوان الذي كتب بعد مائة عام من أيام كنفوشيوس وصفاً بليغاً للموسيقى التي كانت تصحب غناء قصائد ويه. وما أن حل عهد كونج فو - دزه حتى كان السلم الموسيقى الصيني قد ثبت وتقادم عهده؛ وحتى كانت البدع التي أخذت تتسرب إليه تقض مضاجع الهادئين المحافظين ، وحتى أخذ هذا الحكيم يضج بالشكوى من الأنغام الداعرة الشهوانية التي بدأت في أيامه تحل محل أيام الماضي المتفقة في رأيه مع الفضائل وكرم الأخلاق(80). ثم شرع النفوذ اليوناني البكتري والنفوذ المغولي يتسربان إلى الموسيقى الصينية حتى تركا آثارهما في السلم الموسيقي الصيني المعروف ببساطته.

وقد عرف الصينيون تقسيم البعد الكلي في الموسيقى إلى اثني عشر نصفاً من أنصاف النغمات، ولكنهم كانوا يؤثرون كتابة موسيقاهم في سلم خماسي يطابق على وجه التقريب نغماتنا F.G.A.D.C وكانوا يطلقون على هذه النغمات الكاملة أسماء "الإمبراطور" و "رئيس الوزراء" و "الرعية" و "شئون الدولة" و "صورة الكون". وكانوا يفهمون التوافق في الألحان، ولكنهم قلما كانوا يعنون به إلا إذا أرادوا ضبط آلاتهم الموسيقية. وكانت هذه الآلات تشمل من آلات النفخ الناي والبوق والمزمار والصفارة، ومن الآلات الوترية الكمان الأوسط والمزهر وغيرهما، ومن آلات الدق الدفوف والطبول والأجراس والصنوج. وكانت لهم ألواح موسيقية من اليشب والعقيق(81). وكانت النغمات التي تنبعث من هذه الآلات عجيبة مزعجة لأذن المستمع الغربي، كما تبدو، في ظننا، أحسن الأغاني الغربية عجيبة مزعجة للمستمع الصيني. ولكن هذه النغمات هي التي أثرت في نفس كنفوشيوس فامتنع عن أكل اللحم، وأصبح رجلاً نباتياً، وهي التي جعلت كثيراً من مستمعيها يفرّون من منازعات الحياة واختلاف الأفكار والإرادات، وهو الفرار الذي لا يكون إلا نتيجة الاستسلام إلى الموسيقى الشجية. ومن أقوال هان يو في هذا: "لقد علم الحكماء الإنسان لكي يقشعوا ما في نفسه من حزن وغم" (82). وكانوا يؤمنون بقول نيتشه: "لولا الموسيقى لكانت الحياة عبثاً لا خير فيه".