قصة الحضارة - ول ديورانت - م 1 ج 5

من معرفة المصادر

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المجلد الأول: التراث الشرقي - نشأة الحضارة

الباب الخامس: العناصر العقلية في المدنية

الفصل الأول: الآداب

اللغة - بطانتها الحيوانية - أصولها البشرية - تطورها - نتائجها - التربية - التقليد - الكتابة - الشعر


كانت الكلمة بدايةَ الإنسان لأنه بالكلمة أصبح الإنسان إنساناً؛ فلولا هذه الأصوات الغريبة التي نسميها أسماء كلية لا نحصر الفكر في الأشياء الجزئية أو الخبرات الجزئية التي يذكرها الإنسان أو يدركها عن طريق الحواس، وخصوصاً حاسة النظر؛ وأغلب الظن أنه لولا هذه الأسماء الكلية لما استطاع الفكر أن يدرك الأنواع باعتبارها متميزة عن الأشياء الجزئية، ولا أن يدرك الصفات متميزة عن أشيائها التي تتصف بها، ولا أن يدرك الأشياء مجردة عن صفاتها؛ إنه لولا الكلمات التي هي أسماء لأنواع لاستطاع الإنسان أن يفكر في هذا الإنسان وهذا وذاك، ولكنه لم يكن ليستطيع أن يفكر في "الإنسان" بصفة عامة، لأن العين لا ترى الأنواع بل ترى الأشياء الجزئية؛ ولقد بدأت الإنسانية حين جلس مِسخّ نصفه حيوان ونصفه إنسان، جلس متربعاً في كهف أو شجرة، يشحذ رأسه شحذاً ليخلق أول اسم من الأسماء الكلية، أول رمز صوتي يدل على طائفة من أشياء متشابهة: كاسم منزل الذي ينطبق على المنازل كلها، وإنسان الذي يدل على أفراد الإنسان جميعاً، وضوء الذي معناه كل ضوء لمع على يابس أو ماء؛ ومنذ ذلك الحين، انفتح أمام التطور العقلي للإنسان طريق جديد ليست له نهاية يقف عندها ذلك لأن الكلمات للفكر بمثابة الآلات للعمل، والإنتاج يتوقف إلى حد كبير على تطور الآلات(1).

ولما كان تصويرنا لأوائل الأشياء لا يزيد أبداً عن حَدس وتخمين، فَلِخيالنا أن يرسل لنفسه العنان في تصور بداية الكلام؛ يجوز أن تكون أول صورة بدت فيها اللغة - ويمكن تعريف اللغة بأنها اتصال عن طريق الرموز - صيحة حبّ بين الحيوان والحيوان؛ وإنك لترى في صيحات النذير والفزع، وفي مناداة الأم لصغارها، وفي الزقزقة والنقنقة التي يعبر بها الحيوان عن فرحه بصوته أو باتصاله بعشيره من الجنس الآخر، واجتماعه أفراداً ليتبادل الأصوات من شجرة إلى شجرة، إنك لترى في هذا كله الخطوات التمهيدية التي يجهد الحيوان نفسه في اجتيازها لكي يصل الإنسان إلى الذروة العليا، ذروة الكلام؛ ولقد وُجِدَت فتاة حوشية تعيش مع الحيوان في غابة بالقرب من شالون في فرنسا، فلم يكن لها من الكلام إلا صرخات ودمدمات كريهة الوقع على المسامع؛ هذه الأصوات الحية التي تنبعث في الغابات قد لا تكون ذات معنى لآذننا التي تحضَرت، فنحن في هذا كالكلب المتفلسف "ريكيه" Requet الذي يقول عن "السيد برجريه" Bergeret "إن كل ما ينبعث به صوتي له معنى، أما سيدي فيجري من فمه هراء"؛ ولاحظَ "وِتمَن" Whitman و "كريج" Craig علاقة عجيبة بين أفعال الحمام وصيحاته؛ واستطاع "ديبون" Dupont أن يميز اثنى عشر صوتا مختلفا يستعملها الدجاج والحمام، وخمسة عشر صوتاً تستعملها الكلاب، واثنين وعشرين صوتاً تستعملها الماشية ذوات القرون، ووجد "جارنَر" Garner أن القردة تمضي في لغوها الذي لا ينتهي بعشرين صوتاً على الأقل، مضافاً إليها عدد كبير من الإشارات؛ ومن هذه اللغات المتواضعة نشأت، بعد تطور قصير المراحل، الثلاثمائة كلمة التي تكفي بعض القبائل البشرية المتواضعة(2).

ويظهر أن الإشارات كانت لها الأهمية الأولى، وللكلام المنزلة الثانية في تبادل الفكر في العصور الأولى؛ وإنك لتلاحظ أنه إذا ما أخفق الكلام في الأداء، وثبَت الإشارات من جديد إلى الطليعة؛ ففي القبائل الهندية في أمريكا الشمالية، التي تستعمل من اللهجات ما لا يقع تحت الحصر، يجيء العروسان من قبيلتين مختلفتين فيتبادلان الفكر ويتفاهمان بالإشارات أكثر من الكلام، ولقد عَرف "لويس مورجان"Lewis Morgan عروسين ظلا يستخدمان إشارات صامته مدى ثلاثة أعوام؛ وكان التفاهم بالإشارات من الأهمية في بعض اللغات الهندية بحيث تعذر على أفراد قبيلة "أراباهو" Arapaho - كما يتعذر على بعض الشعوب الحديثة - أن يتحدثوا في الظلام(3)؛ وربما كانت أول الألفاظ الإنسانية صيحات تعبر عن العواطف كما هي الحال عند الحيوان، ثم جاءت ألفاظ الإشارة مصاحبة للإشارة بالجسم لتدل على الاتجاه، ثم تلَت ذلك أصوات مقلدة جاءت في أوانها المناسب لتعبر عن الأشياء والأفعال التي يمكن محاكاة أصواتها، ولا تزال كل لغة من لغات الأرض تحتوي على فئات من هذه الألفاظ التي تحاكي بأصواتها الأشياء والأفعال، على الرغم من آلاف السنين التي مضت مليئة، بالتغيرات والتطورات التي طرأت على اللغة - مثل: زئير، همس، تمتمة، قهقهة، أنين، زقزقة الخ وعند قبيلة "تكونا" Tecuna في البرازيل القديمة لفظ يقلد صوت المسمى تقليداً تاما يدلون به على الفعل "يعطس" وهو "هايتشو" (5) وربما كانت هذه البدايات وأمثالها أساساً للكلمات الأولية في كل لغة من اللغات؛ وحصر "رينان" Renan الألفاظ العبرية في خمسمائة كلمة أصلية، وحصر "سكيت" Skeat كل الألفاظ الأوربية تقريباً في نحو أربعمائة كلمة أصلية .

ولا تحسبنَّ لغات الشعوب الفطرية بدائية بالضرورة، إذا أردنا بكلمة "بدائية" في هذا السياق أي معنى من معاني البساطة في التركيب، نعم إن كثيراً منها بسيط في ألفاظه وبنائه، لكن بعضها معقد البناء كثير الكلمات مثل لغاتنا، بل هو أرقى في التكوين من اللغة الصينية(7) ومع ذلك فتكاد اللغات البدائية كلها أن تحصر نفسها في حدود الحسي والجزئي؛ وهي بصفة عامة فقيرة في الأسماء الكلية والمجردة؛ فسكان استراليا الأصليون يطلقون اسماً على ذيل الكلب واسماً آخر على ذيل البقرة، ولكن ليس في لغتهم كلمة تدل على "ذيل" بصفة عامة(8) وأهل تسمانيا يطلقون على كل نوع من الشجر اسماً، لكن ليس لديهم كلمة واحدة تدل على "الشجرة" بصفة عامة، وكذلك هنود "تُشكتُو" Choetaw يطلقون اسماً على السنديانة السوداء، وآخر على السنديانة البيضاء، وثالثاً على السنديانة الحمراء؛ لكنهم لا يعرفون كلمة واحدة تدل على السنديانة بصفة عامة، ثم بالطبع ليس لديهم كلمة تدل على الشجرة عامة؛ ولا شك أن أجيالاً من الناس تعاقبت قبل أن يستطيع الإنسان أن ينتهي من اسم العَلم إلى الاسم الكلي؛ وفي قبائل كثيرة لا تجد ألفاظاً تدل على الألوان مجردة عن الأشياء الملونة، كلا ولا تجد عندها كلمات لتدل على مجردات مثل: نغمة، جنس، نوع، مكان، روح، غريرة، عقل، كمية، أمل، خوف، مادة، شعور...الخ(9)، فمثل هذه الألفاظ المجردة تتكون وتتزايد - فيما يظهر - مع تقدم الفكر، لأن بينها وبين الفكر علاقة السبب والمسبب؛ وهي بعد تكوينها تصبح أدوات تعين على دقة التفكير، ورموزاً تدل على الحضارة.

ولما كانت الألفاظ تعود على الناس بكل هذه المزايا، فقد حسبوها نعمة إلهية وشيئاً مقدساً، بحيث أصبحت مادة تصاغ منها صبغ السحر، وهي تزداد في أعين الناس تقديساً كلما ازدادت فراغاً من المعنى؛ ولا تزال في يومنا مقدسة إذا استخدمناها في الأسرار الخفية، حين تتحول "الكلمة" إلى "لحم" - مثلا - إن الألفاظ لم تكن وسيلة التفكير الواضح فحسب، بل كانت سبيلاً لإصلاح التنظيم الاجتماعي كذلك، لأنها ربطت بين الأجيال المتعاقبة ربطاً عقلياً وثيق العرى، بأن هيأت لهم وسيلة أصلح للتربية من جهة، ولنقل المعارف والفنون من جهة أخرى؛ فبظهور ألفاظ اللغة ظهرت أداة جديدة تصل الأفراد بعضهم ببعض بحيث يمكن للمذهب الواحد أو العقيدة الواحدة أن تصُبَّ أفراد الشعب في قالب واحد متجانس؛ وفتحت طرقاً جديدة لنقل الآراء وتبادلها، وزادت عمق الحياة زيادة عظيمة، كما وسَّعَت نطاقها ومضمونها، فهل تعرف اختراعاً آخر يساوي في قوته ومجده هذا الاختراع، اختراع الاسم الكلي؟. وأعظم هذه المزايا التي لألفاظ اللغة - بعد توسيعها للفكر - هي التربية؛ فالمدنية ثروة زاخرة تجمعت على الأيام من الفنون والحكمة وألوان السلوك والأخلاق، ومن هذه الثروة الزاخرة يستمد الفرد في تطوره غذاء لحياته العقلية، ولولا أن هذا التراث البشري يهبط إلى الأجيال جيلاً بعد جيل، لماتت المدنية موتاً مفاجئاً، فهي مَدِينة بحياتها إلى التربية.

التربية بدايات ضئيلة من الشعوب البدائية، إذ التربية عندهم - كما هي عند الحيوان - هي قبل كل شيء نقل لضروب المهارة تدريب الناشئ تدريباً يصوغ له شخصيته، فهي علاقة مفيدة سليمة بين العلم والتعلم في تلقين طرائق العيش؛ وهذا التعليم العملي المباشر شجع عند الطفل البدائي نمواً سريعاً؛ ففي قبائل "أوماها" يكون الولد وهو في سن العاشرة تقريباً قد تعلمَ معظم فنون أبيه، مستعداً للحياة؛ وفي قبائل "الألوت" Aleuts غالباً ما يؤسس الولد داراً لنفسه وهو في العاشرة، وأحياناً يختار زوجة وهو في هذه السن؛ وفي نيجيريا يترك الأطفال وهم في السادسة أو الثامنة دور آبائهم ليبنوا لأنفسهم أكواخاً ويزودوا أنفسهم بالقوت من الصيد والسماكة(10)، والعادة أن ينتهي شوط التربية حين تبتدئ الحياة الجنسية، ولما كان نضجهم يأتي مبكراً فإن خمودهم يأتي كذلك مبكراً، ففي ظروف الحياة عندهم ينضج الصبي في الثانية عشرة من عمره ويشيخ في الخامسة والعشرين(11)، وليس معنى ذلك أن "الهمجي" له عقلية الطفل، بل معناه أنه لم يكن له حاجات الطفل الحديث ولا فُرَصه؛ وهو لم يتمتع بمثل ما يتمتع به الناشئ الحديث من مراهقة طويلة آمنة، تسمح بنقل التراث الثقافي نقلاً يكاد يكون كاملاً، وتضمن تدريبه على ضروب أكثر ومرونة أكبر في الاستجابة للبيئة التي بعدت من الصورة الفطرية والتي زادت فيها عوامل التغير.

كانت بيئة الإنسان الفطري ثابتة نسبياً، ولم تكن تتطلب القدرة العقلية، بل تطلبت الشجاعة وتكامل الشخصية؛ فكان الوالد البدائي يركّز اهتمامه في بناء شخصية ولده كما تركّز التربية الحديثة اهتمامها في تدريب القوة العقلية؛ فقد كان يعنيه أن يبني رجالا، لا أن يكوّن العلماء؛ ومن هنا كانت طقوس إدماج الناشئ في القبيلة، تلك الطقوس التي كانت في الشعوب الفطرية تعلن بلوغ الناشئ سن النضج وتعترف له بعضوية الجماعة؛ ترمي إلى اختبار شجاعته أكثر مما تقصد إلى قياس معرفته؛ وكانت مهمتها أن تُعِدَّ الشباب لمشاق الحرب وتبعات الزواج؛ وهي في الوقت نفسه فرصة تتاح للكبار أن يمرحوا ويفرحوا بإيقاع الأذى على الآخرين؛ وبعض هذه الطقوس "يبلغ من البشاعة ومن إثارة النفس حداً تتعذر معه الرؤية وتصعب الرواية" (12)؛ ففي قبيلة "الكفير" - وهذا مثل معتدل - كان الصبيان الذين يطلبون عضوية القبيلة يُمتحنون بعمل شاق في النهار وحرمان من النوم في الليل، حتى يسقطوا من الإعياء؛ لكي يزداد القائمون بامتحانهم يقيناً بصلابة هؤلاء الصبيان، كانوا يضربونهم بالسّياط "على فترات قصيرة وبغير رحمة حتى يَنزَّ الدم من أجسادهم" وكان ذلك يؤدي إلى قتل نسبة كبيرة من الغلمان؛ لكن الكبار - فيما نظن - كانوا ينظرون إلى الأمر نظرة الفيلسوف؛ وربما كانوا بفعلهم هذا يسبقون الانتخاب الطبيعي ويضيفون إلى عوامله عاملاً جديداً(13)؛ وكانت هذه الطقوس الممتحنة عادة علامة انتهاء المراهقة والاستعداد للزواج؛ وكانت العروس تلح في أن يثبت عريسها قدرته على تحمل الألم؛ وكانت هذه الطقوس عند كثير من القبائل تدور حول عملية الختان، فإذا تحرك الشاب أثناء إجرائها أو صرخ، ضربه أهله ضرباً، ورفضته عروسه المنتظرة - التي وقفَت لتشهد العملية في عناية وانتباه - على أساس أنها لا تريد أن تتزوج من فتاة(14).

لم تكن التربية البدائية تنتفع بالكتابة إلا قليلاً، أو لم تكن تنتفع بها إطلاقاً، فليس يدهَشُ الإنسانُ الفطري لشيء دهشته لاستطاعة الأوربيين أن يتصل أحدهم بالآخر - وبينهما مسافة بعيدة - بواسطة خطوط سوداء تُخَطُّ على قطعة من الورق(15)؛ وقد تعلمت قبائل كثيرة الكتابة بمحاكاتها لمن جاءوا لاستغلالها من المتحضّرين، لكن بعض القبائل - كما هو الحال في شمالي إفريقية - لبث أمياً على الرغم من خمسة آلاف عام أخذت هذه القبائل تتصل خلالها بالأمم الكاتبة اتصالا متقطعاً؛ أما القبائل الساذجة التي تعيش معظم حياتها عيشاً معتزلاً بالنسبة إلى سواها، وتنعم بالسعادة التي تنجم عن جهل الإنسان بتاريخه الماضي، فلا تحسّ بالحاجة إلى الكتابة إلا قليلاً، ولقد قويت ذاكراتهم بسبب انعدام المخطوطات التي تساعدهم على حفظ ما يريدون الاحتفاظ به، فتراهم يحتفظون. ويَعُون؛ ثم ينقلون ما حفظوه وما وَعَوه إلى أبنائهم بتسميعهم إياه؛ وإنما هم يحفظون ويعون ويُسَمعون كل ما يرونه هاماً في الاحتفاظ بحوادث تاريخهم وفي نقل تراثهم الثقافي؛ ويجوز أن يكون الأدب قد بدأ حين بدأ تدوين هذا المحفوظ وتدوين الأغاني الشعبية؛ ولا شك أن اختراع الكتابة قد صادف معارضة طويلة من قبل رجال الدين، على اعتبار أنها في الأرجح ستؤدي إلى هدم الأخلاق وتدهور الإنسان، فتروي أسطورة مصرية إنه لما كشف الإله تحوت للملك تحاموس عن فن الكتابة، أبى الملك الطيب أن يتلقى هذا الفن لأنه يهدم المدنية هدماً؛ وقال في ذلك: "إن الأطفال والشبان الذين كانوا حتى الآن يُرغَمون على بذل جهدهم كله في حفظ ما يتعلمونه ووعيه، لن يبذلوا مثل هذا الجهد "إذا ما دخلت الكتابة" ولن يروا أنفسهم في حاجة إلى تدريب ذاكراتهم"(16).

وبطبيعة الحال ليس في وسعنا أكثر من التخمين إذا أردنا أن نقول شيئاً عن أصل هذه اللعبة العجيبة؛ فيجوز إنها كانت نتيجة تفرعت عَرَضاً عن صناعة الخزف كما سنرى فيما بعد، وذلك بأن نشأت عن رغبة الناس في إثبات "العلامات التجارية" على ما يصنعونه من آنية خزفية؛ ويجوز أن تكون زيادة التجارة بين القبائل قد اقتضت اصطناع مجموعة من العلامات المكتوبة، وأن تكون أولى صورها تصاوير غليظة أتفق عليها الناس لتدل على السلع التي يتبادلونها في تجارتهم وعلى ما يقوم بينهم من حساب؛ لأنه ما دامت التجارة قد وصلت قبائل يتكلمون لغات مختلفة، بعضها ببعض، فلا بد من اتخاذ وسيلة للتدوين وللتفاهم يفهمها الطرفان المتعاملان معاً؛ وفي وسعنا أن نفترض أن قد كانت الأرقام بين أول طائفة من الرموز المكتوبة، وإنها في معظم الحالات كانت تتخذ صورة خطوط متوازية تمثل الأصابع؛ ولا نزال نستعمل كلمة "أرقام" (في اللغة الإنجليزية) التي تدل على ذلك الأصل المخطوط، حين نريد أن نقول "أعداد" ؛ ثم لا تزال كلمات مثل كلمة "خمسة" في اللغات الإنجليزية والألمانية واليونانية، ترتدُّ إلى أصل لغوي معناه "يد" (17)؛ وكذلك الأرقام الرومانية تشير بصورتها إلى أصابع اليد، فالعلامة التي معناها خمسة "V" تصــــــــور يـــــداً مفتوحـــة، والتي معناها عشرة "X" تتركب من علامتين من علامات الخمسة تقابلتا عند زاويتيهما؛ وكانت الكتابة في بدايتها - كما لا تزال عند أهل الصين واليابان - ضرباً من الرَّسم أي كانت ضرباً من الفن؛ فكما أن الإنسان كان يستخدم الإشارات حين كانت تتعذر عليه الكلمات، فكذلك استخدم الصور لينقل أفكاره عَبر المكان وخلال الزمان؛ فكل كلمة وكل حرف مما نستعمله اليوم كان فيما سبق صورة، كما هي الحال الآن في العلامات التجارية وفي التعبير عن أبراج السماء؛ والصور الصينية البدائية التي سبقت الكتابة كانت تسمى "كوروان" ومعناه الحرفيّ "صور للإشارات"؛ وكانت القوائم الطوطمية كتابة تصويرية، أو كانت - كما يقترح "ماسون" Mason رسماً تدونه القبائل لتعبر به عن نفسها؛ فبعض القبائل كان يستعمل عصيًّا محزوزة لتذكّرهم بشيء أو ليبعثوا بها رسالة؛ وبعضها الآخر - مثل "هنود الجُنكِوِن" Algonquin لم يكتف بحزّ العصيّ، بل رسم عليها أشكالاً تجعلها صوراً مصغرة للقوائم الطوطمية؛ أو ربما العكس هو الصحيح، أي أن هذه القوائم الطبيعية كانت صورة مكبرة للعصيّ المحزوزة، وكان هنود بيرو يحتفظون بمدوّنات طويلة من الأعداد ومن الأفكار، بأن يعقدوا حبالاً مختلفة الألوان بالعُقَد والعُرَى؛ وربما ألقى شيء من الضوء على أصل هنود أمريكا الجنوبية إذا عرفنا أن هذه العادة نفسها سادت بين سكان الأرخبيل الشرقي وأهل بولينزيا. ولما أهاب "لاَوتسي" Lao-Tse بقومه الصينيين أن يعودوا إلى الحياة الساذجة، اقترحَ عليهم أن يرتدُّوا إلى ما كانوا يصنعونه من حِبال معقودة(18) وتظهر صور من الكتابة أرقى مما ذكرنا بين الشعوب الفطرية آنا بعد آن، فلقد وجدنا رموزاً هيروغليفية في جزيرة "إيستر" في البحار الجنوبية؛ وكشفنا الغطاء في إحدى جزر "كارولينا" عن مخطوط يتكون من واحد وخمسين رمزاً مقطعياً تصور أعداداً وأفكاراً(19)، وأن الرواية لتروي كيف حاول رؤساء جزيرة إيستر وكهنتها أن يحتفظوا لأنفسهم بكل معرفة تتصل بالكتابة، : وكيف كان الناس يحتشدون مرة في كل عام ليسمعوا المدوّنات وهي تُقرأ عليهم؛ فبديهي أن الكتابة كانت في مراحلها الأولى شيئاً غامضاً مقدساً، ولفظة "هيروغليف" معناها نقش مقدس، ولسنا على يقين من أن هذه المخطوطات البولينيزية لم يكن مصدرها إحدى المدنيَّات التاريخية؛ لأن الكتابة - على وجه العموم - علامة تدل على الحضارة، وهي من أوثق المميزات التي تفرق بين أهل المدنيَّة وأبناء العصور البدائية.

الأدب في أول مراحله كلمات تقال أكثر منه حروفاً تكتب "على الرغم من أن الكلمة في الإنجليزية تنتمي في أصلها اللغوي إلى ما يدل على الكتابة"؛ وهو ينشأ في ترانيم دينية وطلاسم سحرية، يتغنى بها الكهنة عادةً، وتنتقل بالرواية من ذاكرة إلى ذاكرة؛ والكلمة التي معناها الشعر عند الرومان، وهي "Carmina" تدل على الشعر وعلى السحر في آن واحد؛ والكلمة التي معناها نشيد عند اليونان، وهي "Ode" معناها في الأصل طلسم سحريّ، وكذلك قل في الكلمتين الإنجليزيتين "Tune" و "Lay" والكلمة الألمانية "Lied" وأنغام الشعر وأوزانه، التي ربما أَوحَى بها ما في الطبيعة وحياة الجسد من اتساق، قد تطورت تطوراً ظاهراً على أيدي السحرة الذين أرادوا أن يحتفظوا وينقلوا ثم يزيدوا من "التأثير السحريّ لأشعارهم" (20) ويعزو اليونان أول ما قيل من شعر في البحر العُشاري إلى كهنة دلفي، الذين ابتكروا هذا البحر ليستخدموه في نظم نبوءاتهم(21)، وبعدئذ أخذ الشاعر والخطيب والمؤرخ يتميز بعضهم من بعض شيئاً فشيئاً، ويتجهون اتجاهاً دنيوياً في فنونهم، بعد أن اتحدوا جميعاً في هذا الأصل الكهنوتي، فأصبح الخطيب مُشيدا رسمياً بأعمال الملك أو مدافعاً عن الآلهة، وبات المؤرخ مسجلاً لأعمال الملك، والشاعر مغنياً لأناشيد كانت في الأصل مقدسة، ومعبراً و حافظاً لأساطير البطولة، وموسيقيَّا صاغ أقاصيصه صياغة الألحان ليعلّم بها الشعب وملوكه جميعاً؛ وهكذا كان لأهل فيجي وتاهيتي وكالدونيا الجديدة خطباء ومؤرخون رسميون، عليهم أن يخطبوا الناس في المحافل العامة، وأن يثيروا حماسة المقاتلين في القبيلة بذكر أعمال أجدادهم والإشادة بمجد أمتهم التليد الذي لا تضارعها فيه أمة أخرى؛ وكان للصومال شعراء محترفون يطوفون من قرية إلى قرية ينشدون الأناشيد مثل الشعراء المنشدين والشعراء الطوافين الذين عرفتهم العصور الوسطى، ولم تكن أشعارهم التي يتغنون بها عن الحب إلا في حالات نادرة، وأما في أكثر الحالات فقد كانت تقال عن البطولة البدنية أو حومة القتال أو علاقة الآباء بأبنائهم، وهاك مثلاً من الشعر مأخوذاً عن أحد الآثار القديمة في جزيرة إيستَر، وهو رثاء والد لابنته أبعدتها تصاريف الحروب عنه:


إن ركوب ابنتي لمتون البحار

لم تُفسده عليها قط قبائل الأعداء

إن ركوب ابنتي لمتون البحار

لم يفسده عليها التآمر من أهل هونيتي

فما فتئت ظافرة في كل حروبها

هل أغرَوها بشرب الماء المسموم

من الزجاجة الحجرية السوداء؟ هذا مستحيل

هل يمكن لأحزاني أن يقلّ سعيرها

بينما يفصلني عن ابنتي خضمُّ البحار؟

أواه يا ابنتي، أواه يا ابنتي!

إنه لطريق مائي فسيح

ذلك الذي أمدّ بصري خلاله تجاه الأفق

يا ابنتي، أواه يا ابنتي!


الفصل الثاني: العلم

البدايات - الرياضة - الفلك - الطب - الجراحة


يرى هربرت سبنسر ذلك الأخصائي العظيم في جمع الشواهد للوصول إلى النتائج، أن العلم- كالأدب- بدأ بالكهنة، واستمد أصوله من المشاهدات الفلكية التي كانت تحدد مواقيت المحافل الدينية، ثم صِينَ في كنف المعابد ونُقِلَ عَبر الأجيال باعتباره جزءاً من التراث الديني(23)؛ ولسنا نستطيع الجزم برأي في هذا، لأن البدايات لا تمكننا من معرفتها، سواء في العلم أو في غيره؛ وكل ما نستطيعه هو التخمين والظن؛ فيجوز أن يكون العلم- شأنه في ذلك شأن المدنيَّة بصفة عامة- قد بدأ مع الزراعة؛ فالهندسة في أولها كانت عبارة عن قياس الأرض المزروعة؛ وربما أنشأ علمَ الفلك حسابُ المحصول والفصول الذي يستدعي مشاهدة النجوم وإنشاء التقويم؛ ثم تقدم الفلك بالملاحة، وطَورَت التجارة علم الرياضة، كما وضعت فنونُ الصناعة أسس الطبيعة والكيمياء.

وربما كان العدُّ من أول ما شهد الإنسان من صور الكلام، ولا يزال العدُّ في كثير من القبائل يتم على صورة تبعث على الابتسام ببساطتها؛ فقد عَدَّ "التسمانيون" إلى العدد اثنين لم يجاوزوه: "بارمَرِى، كالاباوا، كاردِيا"- يعني: "واحد، اثنين، كثير" والهولنديون الجدد ليس لديهم كلمات للفظتي ثلاثة أو أربعة، بل هم يطلقون على ثلاثة كلمة "اثنين- واحد" وعلى أربعة كلمة "اثنين- اثنين"؛ وأهل "دامارا" لا يقبلوا أن يبادلوا غنمتين بأربع عصي، لكنهم يقبلون أن يبادلوا غنمة بعَصَوَين، ثم يكررون العملية مرة أخرى؛ ولقد كان العَدُّ وسيلته الأصابع، ومن هنا نشأ النظام العشري؛ ولما أدرك الإنسان فكرة العدد اثني عشر، والأغلب أن يكون أدركه بعد حين من الزمن، فرح به لأنه كان مريحاً للنفس بقبوله القسمة على خمسة من الأعداد الستة الأولى؛ وهنا وُلد النظام الاثنا عشري في الحساب، وهو نظام لا يزال قائماً، لا يريد لنفسه الزوال، في المقاييس الإنجليزية حتى اليوم؛ فاثنا عشر شهراً تكوّن عاما، واثنا عشر بنساً تكون شلناً، و "الدستة" اثنا عشر، و "الجروسة" اثنا عشر "دستة" والقدم اثنا عشر بوصة؛ أما العدد ثلاث عشر، فهو على عكس سالفه، يأبى الانقسام، ولذا أصبح بغيضاً عند الناس، ومبعثاً للتشاؤم إلى الأبد؛ ولما أضيفت أصابع القدمين إلى أصابع اليدين، تكونت فكرة العشرين؛ ولا يزال استعمال هذا العدد في العدّ ظاهراً في قول الفرنسيين "أربع عشرينات" ليدلوا على "ثمانين"؛ وكذلك استخدمت أجزاء أخرى من البدن معايير للقياس، فاليد كلها "للشبر" والإبهام للبوصة "اللفظتان في اللغة الفرنسية ينوب عنهما لفظة واحدة تؤدي المعنيين" والذراع حتى المرفق للذراع؛ والذراع كلها لمقياس آخر "يسمى ذراع الهندازة" والقدم للقدم؛ وفي عصر متقدم، أضيف الحصوات إلى الأصابع لتعين على عملية العدّ؛ ولا تزال الكلمة الإنجليزية للعدّ، "Calculate" تشير بأصلها اللغوي إلى أصلٍ معناه "حجر صغير" مما يدل على صغر المسافة التي تفصل القدماء السذج عن المحدثين، ولقد تمنى "ثورو" Thoreau أن يحيا هذه الحياة البدائية الساذجة، وأجاد التعبير عن حالة كثيراً ما تعاود الإنسان فقال: "إن الرجل الأمين لا يكاد يجد الحاجة إلى عدّ يجاوز به أصابع يديه، وقد يضيف إليها أصابع قدميه في حالات نادرة؛ ثم يكدس ما بقى له بعد ذلك في كتلة واحدة؛ فرأيي هو أن نُجري أمورنا على نسق الاثنين أو الثلاثة، لا على نسق المائة أو الألف، فبدل المليون، عُدَّ ستة فقط، وسجل حسابك على ظفر إبهامك" (25).

وربما كانت بداية الفلك في قياس الزمن بحركات الأجرام السماوية وكلمة "مقياس" نفسها "في اللغة الإنجليزية measure" وكلمة شهر "month"- بل ربما كانت كلمة إنسان man أيضاً وهو الذي يقوم بالقياس- كل هذه الكلمات تَرتَدُّ- بغير شك- إلى أصل لغويَّ معناه القمر "moon" (26) ذلك لأن الناس قاسوا الزمن بدورات القمر قبل قياسه بالأعوام بزمن طويل؛ فالشمس- مَثَلُها في ذلك مَثَلُ الأب لم تستكشف إلا في وقت متأخر نسبيا؛ وحتى اليوم ترانا نحسب موعد عيد الربيع "Easter" بأوجه القمر؛ وكان لأهل بولنيزيا تقويمَّ، العامُ فيه ثلاثة عشر شهراً ينظمها القمر؛ فلما رأوا أن سنتهم القمرية تختلف اختلافا بيّنا عن مواكب الفصول، أسقطوا شهراً قمرياً، وبذلك استعادوا التوازن بين سنتهم وبين الفصول(27)؛ لكن استخدام الأجرام السماوية على هذا النحو المتزن كان شذوذاً بالقياس إلى التخبط في استخدامها للتنجيم، فالتنجيم قد سبق علم الفلك، وربما دام وجوده على الرغم من ظهور علم الفلك؛ ذلك لأن النفوس الساذجة أكثر اهتماما بالكشف عما يخبئه لها الغيب منها بمعرفة الزمن؛ فنشأت ألوف الخرافات عن تأثير النجوم في خُلُق الإنسان ونصيبه المقدور، ولا يزال كثير من هذه الخرافات مزدهراً في يومنا هذا وربما لم تكن هذه الخرافات خرافات بالمعنى الصحيح، ويجوز أن تكون ضربا آخر من الخطأ في التعليل؛ وما العلم نفسه إلا الضرب الأول من ذلك الخطأ.

والإنسان البدائي لا يصوغ شيئاً من قوانين علم الطبيعة، ويكتفي بممارستها من الوجهة العملية؛ فلئن لم يكن في مقدوره أن يقيس مسار المقذوف في الفضاء، إلا أنه يستطيع أن يصوب سهامه نحو الهدف فلا يخطئ؛ ولئن لم يكن لديه رموز كيماوية، إلا أنه يستطيع أن يميز بلمحة سريعة أي النباتات سام وأيها طعام، بل يستطيع أن يستخدم الأعشاب استخداماً دقيقاً في شفاء أمراض البدن؛ والأرجح أن يكون أول من أمتهن حرفة الطب هن من النساء، لا لأنهن الممرضات الطبيعيات للرجال فحسب، ولا لأنهن جعلن من فن التوليد- أكثر مما جعلن من مهنة الارتزاق- أقدم المهن جميعاً فحسب؛ بل لأن اتصالهن بالأرض كان أوثق من اتصال الرجال بها، فأتاح ذلك لهن علما أوسع بالنبات، ومكنَهن من التقدم بفن الطب، ومَيَّزنَه عن التجارة بالسحر التي كان يقوم بها الكهنة؛ فمنذ أقدم العصور حتى عصر يقع في حدود ما تعيه ذاكرتنا، كانت المرأة هي التي تباشر شفاء المرضى؛ ولم يلجأ المريض عند البدائيين إلى طبيب يشفيه أو إلى ساحر إلا إذا أخفقت المرأة في أداء هذه المهمة(28).

وإنه لما يثير الدهشة في نفسك أن تعلم كم من الأمراض كان يشفيها هؤلاء البدائيون على الرغم من قصور علمهم بالأمراض(29)؛ فالمرض عند هؤلاء السُّذَّج- فيما بدا لهم- كان نتيجة لحلول قوة غريبة عنه أو روح غريبة في بدنه- وهو تصور لا يختلف من حيث الجوهر عن النظرية التي تسود الطب الآن من تعليل المرض بدخول الجراثيم في الجسم؛ وأوسع طرق العلاج شيوعا بين البدائيين هو اصطناع رُقيَةٍ سحرية من شأنها أن تسترضي الروح الشريرة التي حَلَّت في البدن العليل؛ لعلها تنزاح عنه؛ وإذا أردت أن تعرف مدى رسوخ هذه الطريقة في أفئدة الناس بحيث لا تزول عنها أبداً، فاقرأ قصة "خنزير جادارين" Gadarene Swine (29)، وحتى اليوم ترى الناس يعللون الصرع بحلول روح شرير في البدن؛ وبعض العقائد الدينية المعاصرة تنص على طرائق معينة لإخراج مثل هذا الروح الشرير من جسم العليل إذا أريد شفاؤه؛ والكثرة الغالبة من الناس تعترف بالصلاة والدعوات على أنها تعين على الشفاء مع أقراص الدواء؛ وربما كان البدائيون يقيمون طريقتهم في العلاج على نفس الأساس الذي يقيم عليه أحدث الطب طريقته، ألا وهو الشفاء بقوة الإيحاء؛ غير أن أفاعيل أولئك الأطباء الأولين كانت أشد استلفاتاً للنظر بأساليبها المسرحية، مما يصطنعه خلفاؤهم الذين ازدادوا عنهم حضارة؛ فقد كانوا يحاولون طرد الروح الحالّ في جسم المريض بتخويفه بما يلبسونه له من أقنعة مفزعة، وما يغطون به أجسادهم من جلود الحيوان، وبصياحهم وهذيانهم وتصفيقهم بالأيدي، و "الشخشخة" بالصفائح وامتصاص الشيطان من الجسم المريض بواسطة أنبوبة مجوفة؛ فكما كان يقول المثل السائر: "الطبيعة تشفى المريض، والعلاج يسرُّ المريض" وأما قبائل "بورورو" Bororos البرازيلية فقد تقدمت بالعلم خطوة حين كانت تطلب إلى الوالد شرب الدواء ليشفى بذلك طفله المريض، ولقد كان الطفل يشفى في اطّراد كاد أن يكون شاملا كاملاًا(30).

وإلى جانب الأعشاب الطبية نجد بين الأساليب الصيدلية الكثيرة التي كان يلجأ إليها الإنسان البدائي، صوفاً من المخدرات المنومة التي أريد بها أن تخفف الألم وتهوّن الجراحات؛ فسموم مثل Curare الذي كثيراً ما يضعونه على أطراف سهامهم؛ ومخدرات مثل نبات القنَّب والأفيون والكافور، هي أقدم تاريخاً من التاريخ؛ حتى ليرجع أحد المخدرات الشائعة بيننا اليوم إلى استخدام سكان بيرو لنبات الكوكا لهذه الغاية؛ ويحدثنا "كارتييه" Cartier كيف كان أهل "إراكوا" يشفون مرض الإسقربوط بلحاء أشجار التنّوب والشوكران وأوراقها(31) وكذلك عرف الجراحون البدائيون طائفة مختلفة من الجراحات والأدوات، فالولادة كانت تتم على نحو مُرضٍ، والكسور والجروح كانت تُضَمَّدُ وتُلَفُّ بمهارة(32)؛ وبواسطة مُدى من الحجر الزجاجي الأسود، أو من الصّوَّان المرهف، أو أسنان السمك، كانوا يستخرجون الدم من "الخُرَّاجات" ويجففونها، كما كانوا يشرطون الأنسجة؛ وقد مارس البدائيون "تَربَنَةً" الجمجمة منذ أيام هنود بيرو الأقدمين إلى أهل ملينزيا المحدثين؛ وكان الملنيزيون ينجحون في تسع حالات من كل عشر حالات بينما كانت الجراحة نفسها عام 1786 تنتهي بالموت في كل الحالات بغير استثناء في مستشفى "أوتيل دييه" Hotel- Dieu في باريس(33).

إننا نبتسم لجهل البدائيين، بينما نستسلم جادّين للأساليب الطبّية الكثيرة التكاليف في أيامنا؛ يقول "الدكتور أولفر وندل هولمز" Oliver Wendell Holms بعد حياة طويلة قضاها في شفاء المرضى: "لن يتردد الناس في أداء شيء، بل ليس هناك شيء لم يؤدوه فعلا، في سبيل استعادة العافية وإنقاذ الحياة؛ فقد رضوا أن يغُرَقوا في الماء نصف إغراق، ويختنقوا بالغاز نصف اختناق؛ ورضوا أن يدفنوا في الأرض إلى أذقانهم، وأن يوصموا بالحديد المُحَمَّى مثل عبيد قادس؛ ورضوا أن يُقصَبُوا بالُمدَى كأنهم سمك القُدّ، وأن تثقب لحومهم بالإبرَ، وأن تُشعَلَ المشاعل على جلودهم، ورضوا أن يجرعوا كل صنوف المقززات، وأن يدفعوا لذلك كله أجراً كأنما سَلقُ الجسم وإحراقه ميزةّ ثمينة، وكأنما "الفقافيق" نعمة، ودُودُ العَلَق ضرب من الترف" (34).


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث: الفن

معنى الجمال - معنى الفن - إحساس البدائي بالجمال - صبغ الجسم - دهان الوجه للتجميل - الوشم - الوصم - الثياب - الحلي - الخزف - التصوير - النحت - فن البناء - الرقص - الموسيقى - تلخيص للخطوات البدائية التي مهدت للمدنية


بعد أن أنفق الفن من عمره خمسين ألف سنة، لا يزال الناس يتنازعون على تحديد مصادره من غريزة الإنسان، ومبادئه في عصور التاريخ، فما الجمال؟ - لماذا تُفتَنُ به؟ لماذا نحاول أن نبدعه؟ لما لم يكن هذا مجال المناقشة النفسية، فسنكتفي بالردّ مختصراً وفي غير قَطعٍ باليقين، بأن الجمال هو أية صفة تجعل شيئاً أو شكلا ممتعاً لمن يشهده؛ ولم يكن الشيء - من حيث الأصل والبداية - ليمتع الناظر إليه لأنه جميل، لكن الأقرب إلى الصواب هو أن الرائي يسمى الشيء جميلا لأنه يمتعه؛ وكل ما من شأنه أن يشبع رغبة عند الإنسان، يبدو لعينيه جميلا؛ وعلى ذلك فالطعام جميل لمن يتضور جوعاً، بينما "تاييس" ليست عنده حينئذ بذات جمال، وقد يكون الشيء الممتع هو المشاهِدُ نفسه، وقد لا يكون - كلا الفرضين على درجة واحدة من قوة الاحتمال؛ ففي أعماق قلوبنا لسنا نرى شيئاً أجمل من أشكالنا، ويبدأ الفن من تمجيد الإنسان لجسمه الرائع؛ أو قد يكون الشيء الممتع هو العشير من الجنس الآخر الذي يرغب فيه الرائي، وعندئذ يصطنع إحساسنا بالجمالِ شدَّةً وقوةَ إبداعٍ هما شدةُ الشهوة الجنسية وقوةُ إبداعها؛ ثم يوسّع من هالة الجمال حتى تشمل كل شيء يمس الحبيب من بعيد أو قريب - فتشمل كل صورة جاءت شبيهة بصورتها، وكل الألوان التي تزينها أو تسرهّا أو تتحدث عنها، وكل الحلي والثياب التي تلائمها؛ وكل الأشكال والحركات التي تذكر بما لها من تناسق ورشاقة؛ أو قد يكون الشكل الممتع هو صورة الذكر المطلوب؛ ومن الجاذبية التي تجذب ضعف الإنسان نحو عبادة القوة يأتي إحساسنا بروعة الفخامة - فتطمئن نفوسنا في حضرة القوة - وهو إحساس يخلق أرفع آيات الفن جميعاً؛ وأخيراً قد تصبح الطبيعة نفسها - بمعونة منا - فخمة وجميلة في آن معاً، لا لأنها تشبه وتوحي برقة المرأة كلها وقوة الرجل كلها فحسب، بل لأننا نخلع عليها مشاعرنا وما أصبناه من حظوظ، وحبنا لأنفسنا ولغيرنا - فنحن نستمتع فيها بمدارج صبانا، ونستمتع فيها بالعزلة الهادئة لأنها مهرب من عاصفة الحياة؛ ونحيا معها في تقلّب فصولها الذي يكاد أن يكون إنساني المراحل: فيفاعة نضيرة، ونضج متّقد، وإثمار يانع، ثم انحلال بارد؛ ونرى فيها على نحو غامض أما وهبتنا الحياة، وستتقبلنا عند الموت.

الفن هو إبداع الجمال، هو التعبير عن الفكر أو الشعور في صورة تبدو جميلة أو فخمة، فتثير فينا هزة هي هزة الفرح الفطريّ التي تثيرها المرأة في الرجل، أو الرجل في المرأة؛ وقد يكون الفكر إدراكا لمعنى من معاني الحياة كائناً ما كان، وقد يكون الشعور إثارة أو استرخاء لوتر مشدود من أوتار الحياة كائناً ما كان؛ وقد تبعث الصورة الفنية في أنفسنا الرضى لما فيها من تناسق دَورِىّ يسرنا لأنه يتجاوب في طبائعنا مع نوبات الأنفاس، ونبضات الدم؛ وتداول الشتاء والصيف على نحو يبعث على الإجلال، وتعاقب الجزر والمد والليل والنهار؛ أو قد تبعث الصورة الفنية في أنفسنا الرضى لما فيها من تماثل هو بمثابة الوزن في الشعر قد تمجد، يمثّل القوة أمام أبصارنا، ويصوّر لنا التناسب المنتظم في النبات والحيوان، وفي النساء والرجال؛ أو قد تحدث الصورة الفنية في أنفسنا الرضى لألوانها التي تضيء الروح بضيائها أو تعمق بالحياة من السطح إلى الغزير؛ وأخيراً قد تبعث الصورة الفنية في أنفسنا الرضى لما فيها من صدق، إذ ترى فيها محاكاة واضحة ناصعة للطبيعة أو للواقع الخارجي، حين تلقف لمحة من جمال النبات أو الحيوان كان قمينا أن يزول، أو تلمح معنى عابراً لظرف قائم لكنه وشيك الزوال، ثم تعرضه ساكناً ثابتاً أمام حسّ يتلكأ في استمتاعه بما يرى، أو أمام عقل يحبُّ أن يتأمل على مهل؛ من هذه المصادر الكثيرة يأتي ما في الحياة من ألوان الكماليات السامية - الغناء والرقص، الموسيقى والمسرحية، الخزف والتصوير، النحت والعمارة، الأدب والفلسفة؛ فما الفلسفة إن لم تكن فنا؟ ما الفلسفة إن لم تكن محاولة أخرى تضاف إلى محاولات سائر الفنون في أن تُفيض على فوضى ما يقع لنا في دنيا التجربة "صورة لها معنى"؟.

فإذا كان الإحساس بالجمال ضعيفاً في الجماعة البدائية فقد يكون ذلك بسبب انعدام الفارق الزمني بين الشعور بالشهوة الجنسية وبين تحقيقها، لأن ذلك لا يتيح الفرصة للخيال أن يضفي على موضوع الشهوة ألواناً من عنده، تزيد من جماله زيادة كبيرة؛ إن الإنسان البدائي قلما يفكر في اختيار النساء على أساس ما نسميه نحن فيهن بالجمال، بل هو أدنى إلى التفكير فيهن على أساس نفعي، ويستحيل أن يدور في خلده أن يرفض عروساً مفتولة العضلات بسبب قبحها؛ فرئيس القبيلة من الهنود حين سئل أيّ زوجاته أروع جمالا، اعتذر عن عدم الجواب لأنه لم يفكر قط في هذا الموضوع، وقال في حكمة ناضجة تشبه حكمة فرانكلين: "قد تكون الوجوه أكثر جمالا أو أقل جمالا؛ لكن النساء في جوانبهن الأخرى لا يختلف بعضهن عن بعض في شيء"؛ وحتى إن كان للإنسان البدائي إحساس بالجمال، فهو أحياناً يُفلت منا فلا نراه، لشدة اختلافه عن إحساسنا نحن بالجمال؛ يقول "رتشارد": "كل مَن أعرف من أجناس الزنوج، يعدُّون المرأة جميلة إذا لم تكن نحيلة عند خصرها، وإذا ما كان جذعها من الإبطين إلى الردفين ذا عَرض واحد - حتى يقول عنها زنجي الساحل: إنها كالسُّلم" والآذان المطروقة كآذان الفيل، والبطن المتثنّى هما من مفاتن المرأة عند الرجال في إفريقية وفي أرجاء إفريقية كلها، أجمل النساء هي المرأة السمينة؛ فيقول "منجوبارك" Mango Park عن نيجيريا: "يظهر أن لفظتي السَّمنة والجمال تكادان تكونان مترادفتين؛ فالمرأة التي تزعم لنفسها ولو قليلا من جمال، لا بد أن تكون ممن يتعذر عليهن المشي إلا إذا سار إلى جانبيها عَبدَان، يسير كل منهما تحت ذراع ليكون لها دعامة؛ والجمال الكامل تبلغه المرأة إن ساوت بوزنها حِمل الجمل" ويقول "بريفو" Briffault : "إن معظم الهمج يؤثرون ما نظنه نحن من أقبح ما تتصف به المرأة، وأعني به الأثداء الطويلة المتدلية" (35)؛ ويقول "دارون": "إنه من المعلوم لنا جميعاً أن العَجز عند كثيرات من نساء الهوتنتوت يبرز بروزاً عجيباً ولا يشك "سير أندرو سمث" أبداً في أن هذه الخصيصة للعجيبة موضع إعجاب من الرجال، فلقد رأى ذات يوم امرأة هي عندهم من ربات الجمال، كانت من الضخامة في أردافها بحيث إذا ما أجلسوها على أرض منبسطة استحال عليها الوقوف إلا إذا زحفت زحفاً حتى دَنَت من سفح مائل.... ويروي لنا "بيرتُن" Burton عن أهل الصومال أن الرجال إذا ما أرادوا اختيار الزوجات، صفّوا النساء صفاً واختاروا من بينهن أكثرهن بروزاً في العجز؛ وليس أقبح في عيني الزنجي من المرأة النحيلة" (36).

لكن الرجل الطبيعي في أرجح الظن - يقيس الجمال بمقياس نفسه هو أكثر مما يقيسه بمعيار شكل المرأة، "فالأقربون - في الفن - أولى بالمعروف"؛ وقد لا يُصَدّقُ النساء ما نزعمه لهن من أن الرجال البدائيين والمحدثين يأخذهم العُجبُ بأنفسهم سواء بسواء؛ فالذكر لا الأنثى في الشعوب الساذجة - كما هو الحال في الحيوان - هو الذي يتزين ويُنزل بجسده الجروح؛ سعياً وراء الجمال، فيقول "بُنوِك" Bonwick: "إن التَزين في استراليا يكاد يكون كله احتكاراً للرجل" وهكذا قُل في مالنيزيا وغينا الجديدة وكالدونيا الجديدة وبريطانيا الجديدة، وهانوفر الجديدة وهنود أمريكا الشمالية(37) وفي بعض القبائل يستنفذ تجميل الجسم وقتاً أكثر مما تستهلكه أية مهمة أخرى من مهام النهار(38) وواضح أن أول صورة للفن هي صبغ الجسم صبغة صناعية وهم يصبغون الجسم ليجذبوا النساء حيناً وليخيفوا الأعداء حيناً آخر؛ والرجل من أهل استراليا الوطنيين - كأحدث فاتنة من فاتنات أمريكا اليوم - كان دائماً يحمل معه مقداراً من الصبغة البيضاء والحمراء والصفراء، ليُصلح من جماله حيناً بعد حين، فإذا ما أوشكت أصباغه على النفاذ، قام برحلات بعيدة خطرة ليزود نفسه منها بمقدار جديد؛ وهو يكتفي في الأيام العادية ببقع من اللون على خديه وكتفيه وصدره، ولكن كان في مناسبات الأعياد، يُحِسُّ ما يحسّه العُريان من خجل إذا لم يصبغ جسده كله من أعلاه إلى أسفله(39).

في بعض القبائل يحتكر الرجال لأنفسهم حق صبغ الجسم، وفي قبائل أخرى يحَّرم على النساء المتزوجات أن يصبغن أعناقهن(40)؛ لكن ما لبث النساء أن ظفرن لأنفسهن بفن التجمل بالأصباغ، وهو أقدم الفنون جميعاً؛ فلما وقف "كابتن كوك" Captain Cook في زيلندة الجديدة حيناً، لاحظ أن بحارته حين عادوا إليه من جولاتهم على الشاطئ، كانوا حُمرَ الأنوف أو صُفرها بأصباغ صناعية، ذلك لأن أنوفهم قد لصقت بها الأصباغ التي كانت الجميلات من أهل ذلك الإقليم قد طلين بها أجسادهن(41)؛ ونساء "الفَلاّتة" Fellatah في إفريقية الوسطى ينفقن عدة ساعات كل يوم في تجميل أنفسهن: فهن يصبغن أصابع أيديهن وأرجلهن صبغة أرجوانية بأن يلففنها طوال الليل في أوراق الحناء، ويصبغن أسنانهن بالأزرق والأصفر والأرجواني على هذا التوالي؛ ويطلين شعرهِن طلاء أزرق، ويخططن جفونهن بالكحل(42) وكل سيدة من قبيلة "بُنجو" تحمل في حقيبة أدوات التجميل، ملقطاً تنزع به الرموش والحواجب، ومشابك شعر على هيئة الرماح، وخواتم وأجراساً، وأزراراً ومشابك(43). لكن السُّذج الأولين - مثل الإغريق أيام بركليز - ضاقوا صدراً لسرعة زوال هذه الأصباغ، فابتكروا الوشم والوصم والثيابَ أدواتٍ للتزين أدوم بقاء، ففي كثير من القبائل أسلم الرجال والنساء معاً أنفسهم للإبرة الصابغة وتحملوا في غير تململ حتى وشم الشفاه؛ ففي جريلنده تَشِمُ الأمهات بناتهن في سن مبكرة ليمهدن لهن الزواج عاجلا(44)؛ لكن الوشم في أغلب الحالات لم يكن له ما أراده الناس من وضوح وتأثير؛ لذلك طفق عدد من القبائل في كل قارة يَصِمُ الجسمَ بوصمات عميقة ليكونوا أجمل منظراً في أعين زملائهم، أو أبشع هيئة في أعين أعدائهم؛ فكما قال عنهم "ثيوفيل جوتييه" Theophil Gautier : "إنهم لما عزت عليهم الثياب ووسائل الزينة، زينوا جلودهم" (45)، فكانوا يجرحون أجسامهم بحجر الصوّان أو بقواقع المحار، ثم كثيراً ما يضعون في الجرح كرةً من الطين لتوسع من الوصمة؛ فأهالي "مضيق تورس" كانوا يجعلون بصماتهم شبيهة بشكل الضب أو التمساح أو السلحفاة(46)، ويقول "جيورج" Georg: "لست تجد من أجزاء الجسم جزءاً لم يجملوه أو يزينوه أو يشوهوه أو يصبغوه أو يحرقوه أو يشموه أو يصلحوه أو يبسطوه أو يقبضوه، مدفوعين إلى ذلك بالعجب بأنفسهم والرغبة في التجميل(47) فقبيلة "بوتوكودو" Butocudos استمدت اسمها هذا من خابور يغرزونه في الشفة السفلى وفي الأذنين حينما يكون الناشئ في سنته الثامنة، ثم ما ينفكون يستبدلون به خابوراً أكبر حتى تبلغ الفتحة اتساعاً طول قطره أربع بوصات(48)؛ والنساء الهوتنتوت يعملن على إطالة الشفرتين الصغيرتين حتى تبلغا طولا عظيما، بحيث يتكون منها ما يسمّى بـ "فوطة الهوتنتوت" التي تلقى عند رجالهم إعجاباً عظيما(49)، وكانت أقراط الآذان وأقراط الأنوف ضرورات لا غنى عنها؛ حتى لقد ذهب سكان "جبِسلندة" Gippsland إلى أن من يموت بغير قرط في أنفه سيلاقي في الآخرة عذاباً أليماً(50)؛ وكأني بالسيدة العصرية تقول عن ذلك كله إنه وحشية فظيعة، تقول هذا إذ هي تثقب أذنيها للأقراط، وتصبغ شفتيها وخديها، وتلقط شعرات حاجبيها، وتقيم أهداب جفنيها و "تُبَدرُ" وجهها وعنقها وذراعها وتضغط قدميها؛ إن بَحّارنا الموشوم ليتحدث عن "الهمج" الذين رآهم في رحلاته حديث الرجل الرفيع يعطف على هؤلاء الأذنين؛ والطالب من أهل أوربا، يفزعه ما يحدثه البدائيون في أجسامهم من تشويه، لكنه مع ذلك يزهى بما عليه هو من وصمات يعدها علائم الشرف.

والغالب أن تكون الثياب في بدايتها ضرباً من الزينة، فهي عامل يعوق الاتصال الجنسي أو يشجع عليه، أكثر منها وقاية نافعة من البرد أو ستراً للعورة(51)؛ فقد كانت العادة عند قبيلة "كمبري" Cimbri أن يزحفوا على الثلج بأجسامهم عارية(52)، ولما أشفق "دارِون" على الفويجيين من عُريهم، أعطى أحدهم قطعة من القماش الأحمر ليتقي بها البرد لكن الرجل مزقها أشرطة، ووزعها على زملائه، فاستعملوها للزينة؛ فهم كما قال عنهم "كوك" إنهم منذ الأزل "قد رضوا لأنفسهم العُرى لكنهم ما زالوا يطمعون في الجمال" (53)، وكذلك حدث أن مزق نساء أورينوكو ما أعطاهن إياه الآباء الجزويت من ثياب، ولبستها أشرطة حول أعناقهن، قائلات في غير تردد "إنهن يستحين أن يلبسن الملابس" (54) ويصف كاتب قديم أهل البرازيل الأصليين بأنهم عراة الأجسام عادة، ثم يضيف إلى ذلك قوله: "وبعضهم الآن يلبس الثياب، لكنهم لا يقدرونها كثيراً حتى إنهم ليرتدونها على سبيل البدع أكثر مما يرتدونها التزاماً للاحتشام، أو يلبسونها لأنهم مأمورون بذلك... وإنك لتشهد ذلك فيمن يخرجون أحياناً من ديارهم، لا يرتدون من الثياب ما يغطي أجسامهم أبعد من سُرَّة البطن، أو هم يضيفون إلى ذلك طاقية على رءوسهم، مخلفين سائر الثياب في دُورهم" (55)؛ فلما زادت الثياب على كونها أداة للزينة، أصبحت علامة تدل على أن المرأة متزوجة ومخلصة لزوجها، أو استخدمت لإبراز قوام المرأة وجمالها؛ وفي معظم الحالات، ترى النساء البدائيات يتطلبن من الثياب ما تتطلبه النساء في العصور التي تَلَت، وهو ألا تكون الغاية تغطية العُرى، بل أن تزيد من فتنة أجسامهن أو توحي بها؛ إن كل شيء في تغير إلا المرأة والرجل.

وكلا الجنسين منذ البداية آثرا الزينة على الثياب؛ فالتجارة البدائية قلما تعنى بالضرورات، إنما هي تحصر نفسها عادة في مواد الزينة واللعب(56)؛ والأحجار الكريمة هي من أقدم عناصر المدنيَّة؛ فلقد وُجدت أصداف القواقع والأسنان معقودة في عقود للزينة، وُجدت في مقابر لبثت على وجه الدهر عشرين ألف عام"(57) ثم من البدايات الساذجة، سرعان ما تتطور أمثال هذه الحلي حتى تبلغ من ضخامة الحجم حداً بعيداً، وتلعب في الحياة دورا عظيما؛ فنساء قبيلة "غالا" كن يلبس خواتم بلغ وزنها ستة أرطال للمرأة الواحدة، وبعض نساء "الدنكا" يحملن نصف قنطار من الزينة؛ وحدث لجميلة من جميلات إفريقية أن لبست خواتم نحاسية حميت في حرارة الشمس بحيث اضطرت أن تستخدم خادماً خاصاً يظللها أو يُروّح عليها؛ وكانت ملكة "الوابونيا" Wabunias على نهر الكونغو تلبس حول عنقها إطار نحاسيا يزن عشرين رطلا؛ فكان لزاماً عليها إن ترقد حينا بعد حين لتستريح؛ أما النساء الفقيرات اللائى لم يسعفهن الحظ إلا بمقدار خفيف من المعادن الكريمة، فقد كن يحاكين في دقة مشية أولئك اللائى يحملن من تلك الزينة البشعة حملا ثقيلاً(58). إذن فأول مصادر الفن قريب الشبه بزهو الحيوان الذكر بألوانه وريشه أيام التزاوج؛ والدافع إليها هو الرغبة في تجميل الجسم وتزيينه؛ وكما أن حب الإنسان لنفسه وحبه لعشيره من الجنس الآخر؛ إذا فاض عن القدر المطلوب، صَبَّ فيضه من الحب على الطبيعة، فكذلك الدوافع إلى التجميل ينتقل من العالم الخاص إلى الدنيا الخارجية؛ فتحاول النفس أن تعبر عن نفسها في أشياء موضوعية؛ متخذة في ذلك وسيلتي اللون والشكل؛ ولذا فالفن يبدأ حقيقة حين يبدأ الناس في تجميل الأشياء؛ ولعل أول ما تعلق به فن التجميل هو الخزف، فعجلة الخزَّاف - مثل الكتابة ومثل الدولة - هي وليدة العصور التاريخية؛ لكن البدائيين - أو على الأصح النساء البدائيات - حتى قبل هذه العجلة التي يستعملها الخزَّاف، استطعن أن يرتفعن بهذه الصناعة القديمة إلى مرحلة الفن، وأخرجن من الطين والماء وأصابعهن الماهرة صوراً لها اتساق يبعث على الدهشة؛ وإن أردت شاهدا فانظر إلى الخزف الذي صنعته قبيلة "بارونجا" Baronga في إفريقية الجنوبية(59) أو الذي صنعته قبيلة "بُويبلُو" من الهنود(60) Pueblo Indians.

والخزَّاف حين يزخرف سطح الآنية التي صنعها بزخارف ملونة، إنما هو بذلك يخلق فن التصوير، فالتصوير في أيدي البدائيين لم يكن بعد قد أصبح فنا مستقلا، بل كان وجوده متوقفاً على فن الخزف وصناعة التماثيل؛ والفطريون إنما يصنعون ألوانهم من الطين، وأهل "أندامان" Andamanes يصنعون الألوان بخلط المغرة "تراب حديدي" بالزيوت أو الشحوم(61)؛ واستخدموا مثل هذه الألوان في زخرفة الأسلحة والآلات والآنية والمباني؛ وكثير من القبائل الصائدة في إفريقية وأوقيانوسيا، كانت تصوّر على جدران كهوفها أو على الصخور المجاورة لها، تصاوير ناصعة لصنوف الحيوان التي أرادت صيدها(62).

ويجوز كذلك أن يكون الخزف وصناعته أصل النحت كما كان أصل التصوير؛ فتبيّن للخَّزاف أنه لا يستطيع فقط أن يصنع الأواني النافعة، بل في مقدوره كذلك أن يصور الأشخاص في تماثيل يستفاد منها تمائم للسحر، ثم بعدئذ أراد أن يصنع هذه الأشياء لتكون جمَالا في ذاتها؛ لقد نَحَتَ الإسكيمو قرون الوعل وعاج فيلة البحر تماثيل صغيرة للحيوان والإنسان(63)؛ وكذلك أراد البدائي أن يميز كوخه بعلامة، أو يميّز عمود الطوطم أو قبراً من القبور بتمثال صغير يدل على معبوده أو على مَيّته؛ فكان أول ما نحت من ذلك وجه على عمود، ثم نحت رأسا، ثم نحت العمود كله؛ ومن هذا التميز لقبور الآباء بتماثيل تصور الموتى، أصبح النحت فنا(64)؛ وعلى هذا النحو أقام سكان جزيرة إيستر القدامى تماثيل هائلة على قبور موتاهم، كل تمثال من حجر واحد، ولقد وجدنا عشرات من هذه التماثيل يبلغ كثير منها عشرين قدماً في ارتفاعه، وبعضها تراه الآن سطيح الأرض مهشما، كان ارتفاعه لا يقل عن ستين قدماً.

لكن كيف بدأ فن العمارة؟ إننا لا نكاد نستطيع إطلاق هذا الاسم الضخم على بناء الكوخ البدائي، لأن العمارة ليست مجرد بناء، لكنها بناء جميل؛ وإنما بدأت العمارة فناً حين فكّر رجل أو فكّرت امرأة لأول مرة أن تقيم بناء للمظهر وللنفع معاً: وربما اتجه الإنسان بهذه الرغبة في خلع الجمال والفخامة على البناء، إلى المقابر قبل أن يتجه بها إلى الدُّور؛ وبينما تطور العمود التذكاري الذي أقيم عند المقبرة إلى فن التماثيل، فقد تطور القبر نفسه إلى المعبد، ذلك لأن الموتى عند البدائيين كانوا أهم وأقوى من الأحياء، هذا فضلاً عن أن الموتى مستقرون في مكان واحد، بينما الأحياء يتجولون هنا وهناك بحيث لا تنفعهم الدُّور الدائمة.

ولقد وجد الإنسان لذة في الإيقاع منذ زمان بعيد، وربما كان ذلك قبل أن يفكر في نحت الأشياء أو بناء المقابر بزمن طويل؛ وأخذ يُطَوّرُ صياح الحيوان وتغريده؛ وقفزه ونَقرَه، حتى جعل منه غناء ورقصاً؛ وربما أنشد - مثل الحيوان - قبل أن يتعلم الكلام(65) ورقص حين أنشد الغناء؛ والواقع أنك لن تجد فنا يميز البدائيين ويعبر عن نفوسهم كما يميزهم الرقص ويعبّر، ولقد طَوَّرَه من سذاجة أولّية إلى تركيب وتعقيد أين منهما رقص المتحضرين؛ ونَوَّعَهُ صوراً شتى تُعَدُّ بالمئات؛ فالأعياد الكبرى عند القبائل، كانت تحتفل أولاً بالرقص في صورتيه: الجمعي والفردي؛ وكذلك كانت الحروب الكبرى تبدأ بخطوات وأناشيد عسكرية؛ والمحافل الكبرى في الدين كانت مزيجاً من غناء ومسرحية ورقص؛ إنما يبدو لنا ضرباً من اللعب، قد كان على الأرجح أموراً جدية للإنسان الأول؛ فهم حين كانوا يرقصون، لم يريدوا بذلك أن يعبروا عن أنفسهم وكفى بل قصدوا إلى الإيحاء إلى الطبيعة وإلى الآلهة، مثال ذلك استحثاث الطبيعة على وفرة النسل كانوا يؤدونه أساساً بالتنويم الذي ينتج عن الرقص؛ ويرى "سبنسر" أن الرقص يرجع في أصله إلى ترحيب ذي طقوس برئيس عاد من الحروب ظافراً؛ أما "فرويد" فرأيه أن الرقص أصله التعبير الطبيعي عن الشهوة الحسية، وفن الجماعة في إثارة الرغبة الجنسية؛ فلو كان لنا أن نقول - غير متجاوزين هذه الآراء من حيث ضيق النظر - بأن الرقص إنما نشأ من الطقوس المقدسة وألوان العربدة، ثم جمعنا النظريات الثلاث التي أسلفنا ذكرها في نظرية واحدة؛ كان لنا بذلك فكرة عن أصل الرقص هي أدق ما يمكننا الوصول إليه اليوم.

ولنا أن نقول بأنه عن الرقص نشأ العزف الموسيقي على الآلات كما نشأت المسرحية؛ فالعزف الموسيقي - فيما يبدو - قد نشأ عن رغبة الإنسان في توقيع الرقص توقيعاً له فواصل تحدده، وتصاحبه أصوات تقويّة؛ وعن رغبته كذلك في زيادة التهيج اللازم للشعور الوطني أو الجنسي بفعل صرخات أو نغمات موزونة؛ وكانت آلات العزف محدودة المدى والأداء، ولكنها من حيث الأنواع لا تكاد تقع تحت الحصر؛ فقد بذل الإنسان كل ما وهبته الطبيعة من نبوغ في صناعة الأبواق بأنواعها والطبول والشخاشيخ والمصفقات والنايات وغيرها من آلات الموسيقى، صنعها من قرون الحيوان وجلودها وأصدافها وعاجها، ومن النحاس والخيزران والخشب؛ ثم زخرف الإنسان هذه الآلات بالألوان والنقوش الدقيقة؛ ومن وتر القوس قديماً نشأت عشرات الآلات، ومن القيثارة البدائية إلى الكمان والبِيان الحديثين؛ ونشأ بين القبائل منشدون محترفون كما نشأ بينهم الراقصون المحترفون، وتطور السُّلَّم الموسيقي من غموض وخفوت حتى أصبح على ما هو عليه الآن(66).

ومن الموسيقى والغناء والرقص مجتمعة، خَلَقَ لنا "الهمجي" المسرحية والأوبرا، ذلك لأن الرقص البدائي كان في كثير من الأحيان يختص بالمحاكاة، فقد كان يحاكي حركات الحيوان والإنسان ولا يجاوز هذه المرحلة، ثم انتقل إلى أداء يحاكي به الأفعال والحوادث؛ فمثلا بعض القبائل الأسترالية كانت تقوم برقصة جنسية حول فجوة في الأرض يوشّون حوافيها بالشجيرات ليمثلوا بها فرج المرأة وبعد أن يحركوا أجسامهم حركات نشوانة غَزِلَة، يطعنون برماحهم طعنات رمزية في الفجوة؛ وقبائل استراليا الشمالية الغربية، كانت تمثل مسرحية الموت والبعث لا تختلف إلا في درجة البساطة عن مسرحية اللغز في القرون الوسطى والمسرحية العاطفية في العصر الحديث؛ فكنت ترى الراقصين يهبطون إلى الأرض في حركة بطيئة، ثم يغطون وجوههم بغصون يحملونها، تمثيلاً للموت؛ حتى إذا ما أشار لهم الرئيس، نهضوا نهوضاً مباغتاً وهم يرقصون ويغنون رقصا وغناء عنيفين يَدُلون بهما على فوزهم الذي أحرزوه، ويعلنون بعث الروح(67) وعلى هذا النحو أو ما يشبهه، كانوا يقومون بمئات الأوضاع في التمثيل الصامت، ليصفوا بها أهم الأحداث في تاريخ القبيلة، أو أهم الأفعال في حياة الفرد؛ فلما اختفى التوقيع من هذا التمثيل، تحول الرقص إلى مسرحية، وبهذا وُلدَت لنا صورة من أعظم صور الفنون.

بهذه الوسائل خلق لنا البدائيون السابقون لعصر الحضارة صور الحضارة وأسسها؛ فإذا ما نظرنا إلى الوراء نستعرض هذا الوصف الموجز للثقافة البدائية، وجدنا هناك كل عنصر من عناصر المدنية إلا عنصرين: هما الكتابة والدولة، فكل أوضاع الحياة الاقتصادية وُضعت لنا أصولهُا في هذه المرحلة: الصيد والسّماكة، الرعي والزراعة، النقل والبناء، الصناعة والتجارة وشئون المال؛ وكذلك كل الأنظمة السياسية البسيطة نبتت جذورها في هذه المرحلة: العشيرة والأسرة، القرية والجماعة والقبيلة؛ وكذلك ترى الحرية والنظام - هذان المحوران المتضادان اللذان تدور حولهما المدنيَّة كلها - قد تلاءما وتوافقا لأول مرة في هذه المرحلة، فبدأ حينئذ القانون وبدأت العدالة؛ وقامت أسس الأخلاق:

تدريب الأطفال وتنظيم الجنسين: وتلقين الشرف والحشمة وقواعد السلوك والولاء؛ وكذلك وضعت أسس الدين؛ واستخدمت آماله ومخاوفه في تأييد الأخلاق وتدعيم المجتمع؛ وتطور الكلام إلى لغات معقدة، وظهرت الجراحة وظهر الطب، وبَدَت بوادر متواضعة للعلم والأدب والفن؛ وفوق هذا كله كانت هذه المرحلة صورة لعهد تم فيه إبداع عجيب، فنظام يُخلق من فوضى، وطريق بعد طريق يُشَقُّ من حياة الحيوان لينتهي إلى الإنسان الحكيم؛ فبغير هؤلاء "الهمج" وما أنفقوه من مائة ألف عام في تجريب وتحسُّس، لما كتُب للمدنيَّة النهوض؛ فنحن مَدِينون لهم بكل شيء تقريباً - كما يرث اليافع المحظوظ، أو إن شئت فقل كذلك إنه اليافع المتحلّل، كما يرث هذا اليافع سبيله إلى الثقافة والأمن والدّعة، من أسلاف أمّيّين وَرَّثوه ما ورَّثوه بكدحهم الطويل.