قصة الحضارة - ول ديورانت - م 1 ج 3
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الباب الثالث: العناصر السياسية في الحضارة
الفصل الأول: أصول الحكومة
الغريزة الاجتماعية - الفوضى البدائية -القبيلة والعشيرة - الملك - الحرب
ليس الإنسان حيوانا سياسيا عن رضى وطواعية، فالرجل من الناس لا يتحد مع زملائه مدفوعا برغبته بقدر ما يتحد معهم بحكم العادة والتقليد والظروف القاهرة؛ فهو لا يحب المجتمع بقدر ما يخشى العزلة، ولذلك تراه يتحد مع غيره من الناس لأن اعتزاله يعرضه للخطر، ولأن ثمة أشياء كثيرة يمكن أن يجود أداؤها بالتعاون أكثر مما يجود بالانفراد، وعلى ذلك فالرجل من الناس وحشي في صميمه يتصدى للعالم كله تصدي العدو لأعدائه بكل ما يتطلب ذلك من بطولة؛ فلو قد جرت الأمور على ما يشتهي الإنسان المتوسط لكان الأرجح ألا تقوم للدولة قائمة؛ بل إنك لتراه في يومنا هذا يمقت الدولة مقتا، ولا يفرق بين الموت وجباية الضرائب، ويتحرق شوقا لحكومة لا تحكم من أموره إلا أقلها؛ ولو رأيته يطالب بزيادة في القوانين فما ذاك إلا لأنه يعتقد أن جاره لابد له من تلك القوانين أما هو إذا ما ترك لهواه، فينزع إلى الفوضى التي لا يضبطها تفكير فلسفي، ويظن أن القوانين - فيما يختص بحالته - زائدة لا حاجة إليها.
ولو نظرت إلى أبسط المجتمعات تكوينا لأوشكت ألا ترى فيها حكومة على أية صورة من الصور، فالصائدون البدائيون لا يميلون إلى قبول التقنين إلا حين ينضمون إلى جماعة الصيد ويستعدون لدور النشاط؛ أما في غير هذا فترى قبيلة البوشمن تعيش عادة في أسرات معتزل بعضها عن بعض؛ وكذلك أقزام إفريقية وأهل استراليا الفطريين لا يقبلون التنظيم السياسي إلا مؤقتا، حتى إذا ما فرغت مهمته انتشروا من جديد في أسرات كل منها قائم بذاته؛ وليس لأهل تسمانيا رؤساء ولا قوانين ولا حكومة دائمة، والفديون من سكان سيلان انقسموا جماعات على أساس الروابط العائلية، لكن لم يكن عليهم حكومة، والكوبيون في سومطرة "يعيشون بغير سلطان" وتحكم كل أسرة نفسها؛ وقلما تجد الفويجيين في جماعات تزيد عن اثني عشر؛ وكذلك التنجيون يجتمعون اجتماعات متفرقة لا تزيد الجماعة منها عن عشر خيمات أو ما يقرب من ذلك، ولا يزيد "الحشد" من الاستراليين عن ستين شخصا إلا في القليل النادر(1)، ولا تلتئم هذه الجماعة ولا تتعاون إلا لأغراض خاصة مثل الصيد، دون أن تتحد في نظام سياسي دائم.
كانت القبيلة أول صورة للنظام الاجتماعي الدائم - ونقصد بالقبيلة جماعة من أسرات ترتبط بأواصر القربى، وتشغل بقعة من الأرض على سبيل الشيوع ولها طوطم مشترك وتحكمها حكومة بعينها وفق قوانين معينة؛ فإذا ما اتحدت عدة قبائل تحت رئيس واحد تكونت بذلك العشيرة؛ فالعشيرة هي الخطوة الثانية نحو تكوين الدولة؛ لكن التطور في هذه السبيل كان بطيئا إذ كان كثير من الجماعات بغير رؤساء(2) وجماعات أخرى كثيرة لن تقبل نظام الرئاسة - فيما نظن - إلا في وقت الحرب(3) فالديمقراطية ليست من مزايا عصرنا التي يُزهى بها على العصور السوالف، لأنها تظهر على خير وجوهها في كثير من الجماعات البدائية حيث لا تكون الحكومة القائمة عليها سوى ما يشير به رؤساء الأسر في العشيرة - ولم يسمح قط بقيام السلطة جزافا(4) فالهنود من قبائل "إراكو" و "دلاوير" لم يعترفوا بشيء من القوانين أو الضوابط خارج نطاق النظام الطبيعي الذي تقضي به الأسرة أو العشيرة؛ ولم يتمتع رؤسائهم إلا بسلطة متواضعة في مقدور شموخ العشيرة أن ينسخوها في أي وقت شاءوا؛ وكان يقوم على هنود "أوماها" "مجلس السبعة" الذي يظل أعضائه يتشاورون في الأمر حتى يصلوا إلى إجماع في الرأي؛ فإذا أضفت إلى هذا جمعية الإراكوا المشهورة، التي تم فيها الاتفاق بين قبائل كثيرة، فارتبطت القبائل بما اتفقت عليه من عهود في حفظ السلام، لم تجد هوة سحيقة تفصل بين هؤلاء "الهمج" وبين الدول الحديثة التي تتعهد بنشر السلام في جمعية الأمم تعهدا قد يُخلّون به.
لكنها الحروب هي التي تخلق الرئيس وتخلق الملك وتخلق الدولة؛ كما أن هؤلاء جميعا هم الذين يعودون فيخلقون الحروب؛ ففي "ساموا" كانت للرئيس سلطة إبان الحرب، أما في غير ذلك فلم يكن يأبه له الناس كثيرا؛ وقبيلة "دياك" لم تكن تعرف من الحكومة إلا ما لرأس الأسرة على أسرته من سلطان، فإن نشب القتال كانوا يختارون أشجع مقاتليهم فيولونه القيادة ويطيعونه طاعة عمياء، حتى إذا ما فرغوا من قتالهم، نزعوه وأرجعوه إلى عمله السابق بمعنى هذه العبارة الحرفي(5)؛ وأما في فترات السلم فقد كان أكثر السلطة والنفوذ للكاهن أو رئيس السحرة؛ فلما تطور نظام الحكم، وأصبحت الملكية هي الصورة المألوفة لدى أغلب القبائل، اشتقت الملكية وظائفها من وظائف هؤلاء، وجمعت تلك الوظائف كلها في يدها: وظائف المقاتل والشيخ الوالد والكاهن؛ وإنك لترى الجماعات تحكمها قوتان: تحكمها الكلمة في وقت السلم، ويحكمها السيف إبان الشدائد؛ وإذن فالقوة لا تستعمل إلا حيثما يفشل الإرشاد بالقول؛ وقد سار القانون والعقائد الأسطورية جنبا إلى جنب خلال العصور، يتعاونان معا على حكم البشر، أو يتعاقبان الواحد بعد الآخر، ولم تجرؤ دولة من الدول حتى يومنا هذا أن تفصل بينهما، ومن يدري لعلهما يعودان فيتحدان غدا.
ولكن كيف انتهت الحرب إلى قيام الدولة؟ لم يكن ذلك لأن الإنسان ميال بفطرته للحروب، فبعض الشعوب المتأخرة غاية في حب السلام، ولم يستطع الإسكيمو أن يفهموا لماذا يطارد الأوربيون بعضهم بعضا كأنهم الحيتان - مع أنهم يدينون جميعا بعقيدة مسالمة واحدة - ولماذا يسرق بعضهم أرض بعض، ولذا قالوا في تمجيد أرضهم: "ألا ما أجمل أن يكون غطاؤنا ثلجا وجليدا! ما أجمل أن يكون الذهب والفضة اللذين إن كانا كامنين في صخورنا - الذهب والفضة اللذين يتكالب عليها المسيحيون تكالبا جشعا - فإنهما يكونونان تحت غطاء كثيف من الثلج بحيث لا يستطيعون الوصول إليهما! إن عقم أرضنا عن الإثمار مؤد إلى سعادتنا ومنقذنا من اعتداء المعتدين" (6) ومع ذلك فحياة البدائيين قد تخللتها حروب لا تنقطع؛ فالصائدون كانوا يقاتلون من أجل المصائد التي لم تزل عامرة بصيدها، كما كان الرعاة يقاتلون في سبيل المراعي الجديد من أجل قطعانهم، والزارعون يقاتلون ليستولوا على التربة العذراء؛ وكل هؤلاء وأولئك كانوا يقاتلون حينا بعد حين ليثأروا لقتل، أو لينشئوا ناشئتهم على الصلابة والنظام، أو ليجددوا الحياة الرتيبة المملولة، أو ليظفروا بغنيمة يسلبونها أو أسيرة يخطفونها، وقليلا ما حارب هؤلاء وأولئك من أجل الدين؛ نعم لقد كان بينهم أنظمة وعادات تحدد القتل، كما هي الحال بيننا - فعينوا ساعات بعينها أو أياما أو أسابيع أو أشهرا لا يجوز للهمجي الكريم النفس أن يقتل أحدا خلالها؛ وكذلك حددوا بعض القواعد لا يجوز عصيانها، وبعض الطرق لا ينبغي أن يعتدي عليها، وبعض الأسواق والمستشفيات لا ينشب فيها قتال؛ ومن هذا القبيل عملت "جمعية الإراكوا" على قيام "السلم الأعظم" مدى ثلاثمائة عام(7)، لكن الحرب مع هذا كله كانت هي الأداة المختارة للانتخاب الطبيعي بين الأمم والجماعات البدائية.
ولم يكن للنتائج المترتبة على الحروب نهاية تقف عندها فقد كانت عاملاُ لا يرحم في اقتلاع الشعوب الضعيفة والقضاء عليها، ورفعت مستوى الإنسان من حيث الشجاعة والعنف والقسوة والذكاء والمهارة؛ وحفزت الإنسان على الاختراع، وأدت إلى صنع آلات أصبحت فيما بعد أدوات نافعة، وإلى اصطناع فنون للحرب سرعان ما انقلبت فنونا للسلم؛ "فكم من السكك الحديدية اليوم تبدأ على أنها جزء من خطة القتال، ثم تنتهي وسيلة من وسائل التجارة! " وفوق هذا كله عملت الحرب على انحلال الشيوعية والفوضى اللذين سادا الجماعات البدائية وأدخلت في الحياة نظاما وقانونا، وأدت إلى استرقاق الأسرى وإخضاع الطبقات وقيام الحكومات؛ فالدولة أمها الملكية وأبوها القتال.
الفصل الثاني: الدولة
باعتبارها تنظيما للقوة - المجتمع القروي - الأركان النفسية للدولة
يقول نيتشه: "أن جماعة من الوحوش الكواسر شقراء البشرة، جماعة من الغزاة السادة، بكل ما لها من أنظمة حربية وقوة منظمة، تنقض بمخالبها المخيفة على طائفة كبيرة من الناس، ربما فاقتها من حيث العدد إلى حد بعيد، لكنها لم تخذ بعد نظاما يحدد أوضاعها... ذلك هو أصل الدولة" (8)، ويقول "لستر وورد" Lester Ward: "تبدأ الدولة - باعتبارها مختلفة عن النظام القبلي - بأن يغزو جنس من الناس جنسا آخر" (9)؛ ويقول "أوبنهيمر" Oppenheimer : "إنك لترى أينما وجهت البصر قبيلة مقاتلة تعتدي على حدود قبيلة أخرى أقل منها استعدادا للقتال، ثم تستقر في أرضها مكونة جماعة الأشراف فيها، ومؤسسة لها الدولة" (10)؛ ويقول "تاتسنهوفر" Tatzenhofer "العنف هو الأداة التي خلقت الدولة" (11) ويقول "جمبلوفتش" Gumplawiez إن الدولة نتيجة الغزو، هي قيام الظافرين طبقة حاكمة على المهزومين(12). ويقول "سمنر" Sumner "إن الدولة نتيجة القوة وهي تظل قائمة بسند من القوة" (13).
وهذا الإخضاع العنيف إنما يقع عادة على جماعة زراعية مستقرة، من قبيلة من الصائدين والرعاة(14) لأن الزراعة تعلم الناس الأساليب المسالمة، وتروضهم على حياة رتيبة لا يختلف يومها عن أمسها، وتنهكهم بيوم طويل من عمل مجهد؛ مثل هؤلاء الناس يجمعون ثروة، لكنهم ينسون فنون الحرب ومشاعرها؛ أما الصائد وأما الراعي، وقد ألفا الخطر ومهرا في القتل، فإنهما ينظران إلى الحرب كأنها ضرب آخر من مطاردة الصيد، لا تكاد تزيد عن مطاردة في خطرها؛ فإذا نضب معين الغابات ولم يعد يمدهم بما يشتهون من صيد، أو إذا ما قلت قطعانهم بسبب اضمحلال المراعي: فإن رجال الصيد والرعي عندئذ ينظرون بعين الحسد إلى حقول القرية بما تحوى من ثمار، وسرعان ما ينتحلون تبريرا للهجوم شأنهم في ذلك شأن المحدثين في استسهال هذا الانتحال؛ ثم يغزون فيغلبون فيسترقون فيحكمون الدولة مرحلة متأخرة في سلم التطور لم تكد تظهر قبل عهد التاريخ المدون، لأن قيام الدولة يقتضي تغيرا في مبدأ التنظيم الاجتماعي من أساسه فيكون المبدأ هو أن يكون الحكم لمن يسيطر بدل أن يكون لذوي القربى كما كانت القاعدة السائدة في المجتمعات البدائية، وإنما يكون نظام السيطرة في أنجح حالاته إذا ما ربط عدة جماعات طبيعية مختلفة، بعضها ببعض برباط يفيدها من نظام وتجارة؛ وحتى وهو في هذه الحالة تراه لا يدوم طويلا إلا في القليل النادر، اللهم إلا إن كان تقدم في الاختراع قد زاد من قوة القوى بأن وضع في يديه أدوات وأسلحة تمكنه من كبت الثورة إذا اشتعلت؛ وفي حالة السيطرة الدائمة ترى مبدأ التسلط يميل إلى إخفاء نفسه حتى لا يكاد يدس نفسه في ثنايا اللاشعور؛ فلما ثار الفرنسيون سنة 1789م أوشكوا ألا يتبينوا - حتى ذكرهم بالحقيقة كاميل ديمولان Camille-Desmolins أن طبقة الأشراف كانت تحكمهم منذ ألف عام جاءتهم من ألمانيا وأخضعتهم لسلطانها بالقوة؛ حقا إن الزمن ليخلع على كل شيء مسحة من قدسية، حتى أخبث السرقات قمين أن يبدو في أيدي أحفاد اللص الذي سرق، مِلْكاَ مقدسا لا يجوز عليه
اعتداء؛ إن كل دولة تبدأ بالقهر لكن سرعان ما تصبح عادات الطاعة هي مضمون الضمير ثم سرعان ما يهتز كل مواطن بشعور الولاء للعلم.
والمواطن في ذلك على صواب، فمهما تكن بداية الدولة فسرعان ما تصبح دعامة لا غنى عنها للنظام، لأنه إذا ما ربطت التجارة طائفة من القبائل والعشائر، نشأت بين الناس علاقات لا تعتمد على القرابة بل تعتمد على ما بين الناس من اتصال، وإذن فلابد لمثل هذه العلاقة من أساس للتنظيم يصطنع لها اصطناعا، ونستطيع أن نسوق مجتمع القرية مثلا لذلك: فالقرية هي التي حلت محل القبيلة والعشيرة وأصبحت هي صورة التنظيم الاجتماعي المحلي؛ فأقامت لنفسها حكومة بسيطة تكاد تكون ديمقراطية، حكومة قوامها مناطق صغيرة يجتمع عنها رؤساء الأسر؛ لكن مجرد وجود هذه الجماعات وكثرة عددها، استلزم تدخل قوة خارجية تنظم ما بينها من علاقات، وتنسجها جزءا من شبكة اقتصادية أوسع، والدولة هي التي سدت هذه الحاجة مهما يكن فيها مما يخيف ويفزع أول أمرها؛ أنها لم تَعُد قوة منظمة وكفى، بل أصبحت كذلك أداة توائم بين مصالح مئات الجماعات المتضاربة التي منها يتألف المجتمع في صورته المركبة، ولما تم للدولة ذلك مَدَّت حبائلها من سلطان وقانون وأخذت توسع نطاقها شيئا فشيئا؛ وعلى الرغم من أنها صيَّرَت الحرب الخارجية أكثر تخريبا مما كانت قبل تكوينها، إلا أنها استطاعت أن توسع السلام الداخلي وتثبت أركانه؛ ولك أن تعرف الدولة بأنها سلام في الداخل استعدادا للحرب في الخارج؛ ولم يلبث الناس أن يتبينوا أن دفع الضرائب للدولة خير لهم من التقاتل بعضهم مع بعض، خير لهم أن يدفعوا الجزية للص واحد عظيم من أن يدفعوا الرشوة للجميع، وإذا أردت أن تعلم ماذا عسى أن يقع في مثل هذا المجتمع إذا خلا من الحاكم لفترة من الزمن؛ فانظر ماذا تصنع جماعة "الباجندا" التي اضطر كل رجل فيها حين مات الملك أن يسلح نفسه، لأن الخارجين عن القانون أنشبوا أظفار الفوضى والقتل والنهب أرجاء البلاد جميعا(15)؛ وقد صدق "سبنسر" حين قال: "إنه بغير حكم أوتوقراطي كان يستحيل على تطور المجتمع أن يبدأ مراحله" (16).
على أن الدولة التي تعتمد على القوة وحدها سرعان ما يتقوض بناؤها، لأن الناس وإن يكونوا بطبعهم أغرارا، فهم كذلك لطبعهم ذوو عناد؛ والقوة مثل الضرائب تبلغ أكثر نجاح لها إذا ما كانت خفية غير مباشرة؛ ومن هنا لجأت الدولة - لكي تبقي على نفسها - إلى أدوات كثيرة تستخدمها وتصطنعها في بث تعاليمها - كالأسرة والكنيسة والمدرسة - حتى تبني في نفس المواطن عادة الولاء للوطن والفخر به؛ ولقد أغناها هذا التنشيء عن مئات من رجال الشرطة، وهيأ الرأي العام للتماسك في طاعة وانصياع، فمثل هذا التماسك لابد منه في حالة الحرب؛ وفوق هذا كله فإن الأقلية الحاكمة حاولت أن تحولّ سيادتها التي فرضتها على الناس فرضا بقوتها إلى مجموعة من القوانين من شانها أن تُبَلور سلطانها من جهة، وإن تقدم للناس ما يرحبون به من أمن ونظام من جهة أخرى وهي تعترف بحقوق "الرعية" اعترافا تستميلها به إلى قبول القانون ومناصرة الدولة.
الفصل الثالث: القانون
انعدام القانون - القانون والعادة - الثأر - الغرامات - المحاكم - المحنة - المبارزة - العقاب الحرية البدائية
يأتي القانون مصاحبا للملكية والزواج والحكومة؛ فأحط المجتمعات تدبر أمرها بغير قانون؛ يقول "ألفرد رسل ولاس": "لقد عشت مع جماعات الهمج في أمريكا الجنوبية وفي الشرق، ولم أجد بينهم قانون ولا محاكم سوى الرأي العام الذي يعبر عنه أهل القرية تعبيرا حرا، فكل إنسان يحترم حقوق زملائه احتراما دقيقا، فالاعتداء على هذه الحقوق يندر وقوعه أو يستحيل، إن الناس جميعا في مثل هذه الجماعة متساوون تقريبا" (17)؛ وكذلك كتب "هرمان ملفيل" Herman Melville شيئا كهذا عن أهل جزيرة ماركساس Marqusas فقال: "أثناء وجودي بين قبيلة "التايبي" Typees لم يُقَدّم أحد قط للمحاكمة بتهمة الاعتداء على غيره من الناس؛ وسار كل شيء في الوادي سيرا هادئا متسقا على صورة لا تجد لها مثيلا في الجماعات المسيحية مهما انتقيت منها خيرها وأصفاها وأنقاها؛ وإن في هذا القول مني لجرأة أستبيحها لأنه قول الصدق" (18)؛ ولقد أقامت حكومة الروسيا القديمة دورا للمحاكم في جزر ألوشيا لكنها لم تصنع شيئا قط مدى خمسين عاما، ويقول "برِنتُنْ" Printon : "كانت الجرائم والاعتداءات في قبيلة إراكوا من القلة في ظل نظامهم الاجتماعي بحيث تكاد لا تجد ما يبرر أن نقول أن لهم قانونا للعقوبات" (19)، هذه هي الظروف المثالية أو ربما كانت صورتها المثالية من خلفنا نحن - التي يتمنى الفوضويون عودتها لكن هذه الصورة يجب أن تعدل بعض التعديل؛ فالجماعات الفطرية تتمتع بحرية نسبية من قيود القانون؛ أولاً لأنها محكومة بعادات هي في صرامتها وفي استحالة الخروج عليها كأي قانون، وثانياً لأن جرائم العنف في أول الأمر تعتبر مسائل خاصة يقضى فيها بالثأر الشخصي الذي تُسفح فيه الدماء.
إن التقاليد لتكوّن أساسا ثابتا مكينا تراه مستقرا تحت الظواهر الاجتماعية كلها؛ فهي بمثابة الصخرة الراسخة في أسفل البناء، وقوامها ألوان الفكر وضروب الفعل التي خلع عليها مر الزمان هالة من تقديس، وهي تُمِدُّ المجتمع بشيء من الثبات والنظام إذا ما انتفى القانون أو تغير أو اضطرب؛ فالتقاليد فيما تعطيه للجماعة من استقرار تشبه الوراثة والغرائز فيما تعطيانه من استقرار للنوع البشري، كما تشبه العادات بالقياس إلى الفرد الواحد؛ والتقاليد هي الاطراد المكرور الذي يحفظ للناس عقولهم في رءوسهم لأنه إذا لم تكن لدى الإنسان هذه القنوات التي ينزلق فيها التفكير والعمل انزلاقا لا شعوريا يسيرا، لاضطر العقل أن يتردد إزاء كل شيء وسرعان ما يلوذ بالجنون مهربا؛ والغرائز والعادات والتقاليد والأوضاع الاجتماعية كلها تتحدد وفق قانون اقتصادي يستغني بالقليل عن الكثير، لأن العمل الآلي هو أنسب طريقة يستجيب بها الإنسان للمثير الخارجي إذا تكرر، أو للموقف المعين إذا تجدد حدوثه؛ أما التفكير الأصيل والتشديد في السلوك فهو اضطراب في مجرى الاطراد، ولا يستطيعه الإنسان إلا في الحالات التي يريد فيها أن يغير من سلوكه المألوف بحيث يلائم الموقف الذي يحيط به، أو في الحالات التي يأمل فيها أن يكافأ على تشديده وتفكيره كسبا موفوراً.
فإذا أضيف إلى هذا الأساس الطبيعي وهو التقاليد، تأمين يأتيه من السماء عن طريق الدين، وأصبحت تقاليد آبائنا هي كذلك ما تريده لنا الآلهة من سلوك، عندئذ تصبح التقاليد أقوى من القانون، ويبعد الإنسان عن حريته البدائية بعدا جوهرياً؛ إنك إذا جاوزت حدود القانون فقد كسبت إعجاب نصف الناس الذين يحسدون في أعماق نفوسهم كل من يستطيع أن يتغلب بذكائه على هذا العدو القديم؛ أما إذا جاوزت حدود التقاليد فأنت قمين أن تصطدم بمقت الجميع لأن التقاليد تنشأ من الناس أنفسهم، بينما يفرض عليهم القانون فرضا من أعلى؛ القانون عادة مرسوم قضى به السلطان، أما التقاليد فهي الانتخاب الطبيعي لألوان السلوك التي ثبتت صلاحيتها في خبرة المجتمع، والقانون يأخذ في حلوله محل التقاليد حين تحل الدولة محل الأسرة والقبيلة والعشيرة والمجتمع القروي، وكلها أنظمة طبيعية؛ ثم يتم حلول القانون محل التقاليد حين تظهر الكتابة، وتتدرج القوانين في انتقالها من تشريع يهبط إلى الخلف عن طريق ذاكرات الشيوخ والكهنة، إلى نظام تشريعي صريح مكتوب على ألواح، لكن حلول القانون محل التقاليد لم يكمل في يوم من الأيام؛ وستظل التقاليد حتى النهاية هي القوة الكامنة من وراء القانون حين يقرر الإنسان أي نوع من السلوك ينبغي أن يسلك، وحين يحكم على أنواع السلوك بالخير والشر؛ ستظل التقاليد حتى النهاية هي القوة الكامنة وراء العرش، "هي الحكم الأخير الذي يقضى في حياة الإنسان".
وأول المراحل في تطور القانون أخذ الإنسان لنفسه بالثأر فيقول الرجل من البدائيين: "إن الثأر ثأري وسأرد عن نفسي ما لَحِقَ بي"، وكل فرد من القبائل الهندية التي تسكن "كاليفورنيا السفلى" هو لنفسه الشرطي وهو الذي يقيم لنفسه ميزان العدل بما تسعفه قوته من الثأر؛ ففي مجتمعات بدائية كثيرة إذا حدث لشخص "أ" أن اغتال شخصا آخر هو "ب" كانت النتيجة أن يقتل "أ" على يد ابن "ب" أو صديقه. ولنرمز له بالحرف "جـ"، ثم يقتل هذا الابن أو الصديق على يد شخص رابع هو "د" يكون ابن "أ" أو صديقه وهكذا حتى تنتهي أحرف الهجاء، وإنك لترى أمثلة للثأر في أنقى العائلات الأمريكية دماً في يومنا هذا، ولقد امتد الثأر ما امتد القانون نفسه في عصور التاريخ، وهو يظهر في "القصاص" المذكور في القانون الروماني؛ والقصاص يلعب دورا كبيرا في تشريع حمورابي، وتراه في أمر "موسى" بأن تكون "العين بالعين والسن بالسن" وهو ما يزال كامناً وراء الكثرة الغالبة من العقوبات القضائية حتى اليوم.
والخطوة الثانية نحو القانون والمدنية من حيث التصرف إزاء الجريمة هي الأخذ بالتعويض بدل الثأر، فكثيرا جداً ما استعمل الرئيس سلطته أو نفوذه لكي يحافظ على حسن العلاقات بين أفراد جماعته - ليحمل الأسرة الراغبة في الأخذ بالثأر على أن تستبدل بالدم المطلوب ذهباً أو متاعاً؛ ثم ما هو إلا أن نشأت "تَعْرِيفة" قانونية، تحدد كم من المال ينبغي أن يدفع ثمناً للعين وكم للسن وكم للذراع وكم للحياة، وقد توسع حمورابي في تشريعه على هذا الأساس؛ وقد كان أهل الحبشة غاية في الدقة في العقوبة بالقصاص بحيث إذا سقط صبي من أعلى الشجرة على زميله وقتله، فإن القاضي يحكم بأن ترسِلَ الأم الثكلى ابناً آخر من أبنائها ليسقط من أعلى الشجرة على عنق الصبي الذي اقترف الذنب أول مرة (20)، والعقوبات التي تُقَدَّر في حالات التعويض، قد تختلف باختلاف جنس المعتدي والمعتدى عليه، وعمره ومنزلته، فالفيجيون - مثلاً - يعتبرون السرقة الطفيفة يأتيها إنسان من سواد الناس، أشنع إجراما من القتل يقترفه الرئيس(21) وهذا ما حدث طوال تاريخ القانون، ففداحة الجريمة كانت دائماً تقل بعلو منزلة المجرم ولما كانت هذه الغرامات أو التعويضات التي تدفع اجتناباً للثأر، تتطلب تقديراً للجريمة وللتعويض بحيث يتلاءمان، اتخذت خطوة ثالثة نحو القانون وهي قيام المحاكم، حيث كان الرؤساء أو الكهنة أو الشيوخ يجلسون مجلس القضاة ليقضوا فيما ينشب بين الناس من خلاف، ولم تكن هذه المحاكم دائماً مجالس تقضي كما يقضي القضاة، بل كثيرا ما كانت مجالس لإصلاح ذات البين، فكانت تصل بالمتخاصمين إلى حل يرضيهما معاً بصورة ودية ؛ ولبث الالتجاء إلى المحاكم اختيارياً لدى كثير من الشعوب مدى قرون طوال، وكان المعتدى عليه إذا لم يُرْضه الحكم الصادر في شأنه، يباح له أن يأخذ ثأره بيده(22).
وفي حالات كثيرة كان البت في أمر الخصومات يتم في صورة عراك يجري على مرأى من الناس بين المتخاصمين، وكان هذا العراك يختلف في مدى إراقته للدماء، من مباراة في الملاكمة لا يترتب عليها شيء من الأذى - كما هو الحال بين الإسكيمو الحكماء - إلى مبارزة تنتهي بالموت؛ وكثيراً ما لجأ البدائيون إلى اصطناع المحنة في فض مشكلاتهم، غير أنهم لم يقيموها على أساس النظرية التي سادت في القرون الوسطى بأن الله سيكشف عن المجرم عن طريق المحنة بقدر ما أقاموها على أساس من أمل بأن المحنة مهما بلغت من بعدها عن العدل، ستختم نزاعاً قد تضطرب له القبيلة أجيالا عدة إذا لم يلجأ في فضه إلى المحنة ومن أمثلة ذلك أن المتَّهِمَ والمتَهَمَ كليهما يطلب إليهما أن يختار كل منهما صحفة طعام من بين صحفتين إحداهما مسمومة، وقد ينتهي هذا الاختيار بأن يأخذ الصحفة المسمومة من هو بريء (والعادة ألا يكون أثر السم مما يستحيل الخلاص منه) لكن الخصومة تنتهي بهذا، ما دام الفريقان يعتقدان في غير إرغام بعدالة مبدأ المحنة؛ وقد كانت العادة عند بعض القبائل أن المذنب إذا اعترف بذنبه مد ساقه للمعتدى عليه ليطعنها برمحه؛ أو يُطْلب إلى المتهم أن يصمد للرماح يقذفه بها متهموه، فإذا أخطأته الرماح جميعاً، أعلنت براءته، أما إذا أصابه ولو رمح واحد، حكم بإدانته وفُضَّ الخلاف(23).
وهكذا هبط مبدأ المحنة خلال العصور، بادئاً من تلك الصور البدائية إلى قوانين موسى وحمورابي ثم إلى العصور الوسطى؛ والمبارزة ضرب من ضروب المحنة، وقد ظن المؤرخون أنها قد انقضى عهدها، لكنها في طريقها إلى العودة من جديد في أيامنا هذه، وهكذا ترى الفارق بين الإنسان البدائي والإنسان الحديث ضيقاً صغيراً في بعض جوانب الحياة، وإن تاريخ المدنية لقصير.
ورابع الخطوات التي خطاها القانون في تطوره، هي أن تعهد الرئيس أو تعهدت الدولة أن يحول دون الاعتداء وان يُنزل العقاب بالمعتدي؛ وليس بين فض النزاع وإنزال العقاب بالمعتدين وبين محاولة اتقاء وقوع النزاع إلا خطوة واحدة؛ بهذا لم يَعُد الرئيس قاضياً وكفى، بل أصبح إلى جانب ذلك مشرعاً يسنُّ القوانين، وأضيفت إلى مجموعة القوانين العامة الشائعة بين الناس، والتي استمدوها من تقاليدهم مجموعة أخرى من "القوانين الوضعية" التي مصدرها مراسيم الحكومة؛ ففي الحالة الأولى تصعد القوانين من أسفل، وفي الحالة الثانية تهبط على الناس من أعلى؛ وفي كلتا الحالين ترى القوانين مصطبغة بمسحة السلف الغابر، وتشم فيها رائحة الأخذ بالثأر الذي جاءت تلك القوانين بديلاً له؛ لقد كان العقاب في الجماعات البدائية قاسياً(24) لأن تلك الجماعات لم تكن آمنة على حياتها، ولذلك ترى صرامة العقاب تقل كلما ازداد النظام الاجتماعي استقراراً. وتستطيع القول بصفة عامة أن "حقوق" الفرد في المجتمع الفطري أقل منها في حالة المدنية؛ فأينما وجَّهت النظر وجدت الإنسان يولد مكبلا بالأغلال: أغلال الوراثة والبيئة والتقاليد والقانون؛ والفرد في الجماعة البدائية يتحرك في شبكة من القوانين التي تبلغ بصرامتها وتفصيلاتها حداً يجاوز المعقول، فألف تحريم يحدد سلوكه وألف إرهاب يشل إرادته؛ أن أهل زيلندة الجديدة كانوا فيما يبدو للعين يعيشون بغير قانون، لكنهم في حقيقة أمرهم كانت التقاليد تتحكم في كل مظهر من مظاهر حياتهم؛ كذلك أهل البنغال تسيرهم التقاليد التي لا قِبَل لهم بتغيرها أو معارضتها، فتحدد لهم طريقة الجلوس والقيام والوقوف والمشي والأكل والشرب والنوم؛ فالفرد أوشك ألا يكون في عرفهم كائناً مستقلاً بذاته في البيئة الفطرية، ولم يكن يتمتع بالوجود الحق إلا الأسرة وإلا القبيلة والعشيرة والمجتمع القروي، فهذه الهيئات هي التي تملك الأرض أو تباشر السلطان، ولم يصبح للفرد وجود واقعي متميز من وجود مجموعته إلا بعد أن ظهرت الملكية الخاصة التي هيأت له سلطاناً اقتصادياً، وبعد أن ظهرت الدولة التي اعترفت له بوجود قانوني وحقوق محددة (25)؛ إن الحقوق لا تأتينا من الطبيعة، لأن الطبيعة لا تعرف من الحقوق إلا الدهاء والقوة؛ إنما الحقوق مزايا منحتها الجماعة للأفراد على اعتبار أنها تؤدي إلى الخير العام؛ ولذا فالحرية ترف اقتضاه اطمئنان الحياة، والفرد الحر ثمرة أنتجتها المدنية، وعلامة تُمَيّزُها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الرابع: الأسرة
وظيفتها في المدنية - موازنة القبيلة والأسرة - نمو العناية الأبوية - عدم أهمية الوالد - انفصال الجنسين - حق الأمومة - منزلة المرأة- وظائفها - أعمالها الاقتصادية - الأسرة الأبوية - إخضاع المرأة
لما كانت الحاجات الأساسية للإنسان هي الجوع والحب، كانت الوظائف الرئيسية للتنظيم الاجتماعي هي تهيئة الموارد الاقتصادية ودوام البقاء من الوجهة البيولوجية؛ فاتصال النسل في سلسلة من الأبناء حيوي كاتصال الطعام؛ لهذا ترى المجتمع يضيف دائماً إلى الأنظمة الاجتماعية التي من شأنها أن تهيئ الراحة المادية والنظام السياسي، أنظمة أخرى من شأنها أن تديم بقاء الإنسان في نسله؛ ولقد لبثت القبيلة - حتى قيام الدولة قُرب بداية المدنية التاريخية بحيث أصبحت للنظام الاجتماعي مركزاً رئيسياً دائماً - لبثت القبيلة حتى ذلك العهد تتولى هذه المهمة الدقيقة، مهمة تنظيم العلاقة بين الجنسين وبين الأجيال المتعاقبة، بل أنه حتى قيام الدولة، ظلت مقاليد حكومة الإنسان مستقرة في تلك الجماعة التي هي أعمق الأنظمة التاريخية جذوراً - وهي الأسرة، إنه لبعيد الاحتمال أن يكون الإنسان الأول قد عاش في أسرات متفرقة، حتى في مرحلة الصيد؛ لأن ضعف الإنسان في أعضائه الفسيولوجية التي يدافع بها عن نفسه، كان قمينا أن يجعل منه فريسة للكواسر التي لم تزل تجوس في مناكب الأرض؛ فالعادة في الطبيعة أنه إذا ما كان الكائن العضوي ضعيف الإعداد للدفاع عن نفسه وهو فرد، لجأ إلى الاعتصام بأفراد من نوعه، لتعيش الأفراد جماعة تستعين بالتعاون على البقاء في عالم تمتلئ جنباته بالأنياب والمخالب والجلود التي يستحيل ثَقِبها، وأغلب الظن أن قد كانت هذه هي حالة الإنسان أول أمره، فأنقذ نفسه بالتماسك في جماعة الصيد أولاً فالقبيلة ثانياً؛ فلما حلت العلاقات الاقتصادية والسيادة السياسية محل القربى كمبدأ للتنظيم الاجتماعي، فقدت القبيلة مكانتها التي كانت تجعل منها قوام المجتمع؛ وحل محلها في أسفل البناء الأسرة، كما حلت الدولة محلها في قمته؛ وعندئذ تولت الحكومة مشكلة استتباب النظام، بينما أخذت الأسرة على نفسها أن تعيد تنظيم الصناعة وأن تعمل على بقاء الجنس.
ليس من طبيعة الحيوانات الدنيا أن تعنى بنسلها، لذلك كانت إناثها تقذف بيضها في كميات كبيرة، فيعيش بعضها وينمو، بينما كثرتها الغالبة تُلتَهم أو يصيبها الفساد؛ إن معظم السمك يبيض مليون بيضة في العام؛ وليس بين السمك إلا أنواع قليلة تبدي شيئاً من العطف على صغارها، وترى في خمسين بيضة تبيضها الواحدة منها في العام عدداً يكفي أغراضها؛ والطيور أكثر من السمك عناية بالصغار، فيفقس الطائر كل عام من خمسة بيضات إلى اثنتي عشرة كل عام؛ وأما الحيوانات الثديية التي تدل باسمها على عنايتها بأبنائها، فهي تسود الأرض بنسل لا يزيد عن ثلاثة أبناء في المتوسط لكل أنثى في العام الواحد(26)؛ إن القاعدة العامة في عالم الحيوان كله هي أن خصوبة النسل وفناءه يقلان معاً كلما ازدادت عناية الأبوين بالصغار؛ والقاعدة العامة في عالم الإنسان من أول نشأته هي أن متوسط المواليد ومتوسط الوفيات يهبطان معاً كلما ازدادت المدنية صعوداً؛ إن عناية الأسرة بأبنائها إذا ما حسُنت، مكنت النشء من مدة أطول يقيمونها تحت جناح الأسرة فيكمل تدريبهم ونموهم إلى درجة أكبر، قبل أن يُقذف بهم ليعتمدوا على أنفسهم، وكذلك قلة المواليد تصرف المجهود البشري إلى اوجه أخرى من النشاط بدل استنفاذه كله في عملية النسل. ولما كان يُعهد إلى الأم بأداء معظم ما تقتضيه العناية بالأبناء من خدمات، فقد كان تنظيم الأسرة في أول أمرها (ما استطعنا أن ننفذ بأبصارنا خلال ضباب التاريخ) قائماً على أساس أن منزلة الرجل في الأسرة كانت تافه وعارضه، بينما مهمة الأم فيها أساسية لا تعلوها مهمة أخرى؛ والدور الفسيولوجي الذي يقوم به الذكر في التناسل، لا يكاد يستوقف النظر في بعض القبائل الموجودة اليوم، وربما كان الأمر كذلك في الجماعات البشرية الأولى، شأن الرجل من الإنسان في ذلك شأن الذكر من صنوف الحيوان التي تناديها الطبيعة للتناسل فيطلب العشير عشيره ويتكاثر النسل دون أن يؤرق وَعْيَهم أن يحللوا هذه العملية إلى أسباب ونتائج؛ فسكان جزائر "تروبرياند" Trobriand لا يعزون حمل النساء إلى الاتصال بين الجنسين بل يعللونه بدخول شبح في جوف المرأة، وأن هذا الشبح ليدخل جوفها عادة إذ هي تستحم؛ فتقول الفتاة في ذلك "لقد عضتني سمكة" ويقول مالينوفسكي Malinowski: وسألت من يكون والد طفلِ وُلِدَ سفاحاً، أجابوني كلهم بجواب واحد: إنه طفل بغير والد لأن الفتاة لم تتزوج؛ فلما سألتُ في تعبير أصرح: "من ذا اتصل بالمرأة اتصالاً فسيولوجياً فأنْسَلَت، لم يفهموا سؤالي . . . ولو أجابوا كان الجواب: إنه الشبح هو الذي وهبها طفلها"؛ وكان لسكان تلك الجزيرة عقيدة غريبة وهي أن الشبح أسرع إلى دخوله امرأة أسلمت نفسها لكثير من الرجال في غير تحفظ؛ ومع ذلك فإذا ما أراد النساء أن يجتنبن الحمل، آثرن ألا يستحممن في البحر إذا علا مَدُّه، على أن يمتنعن عن اتصالهن بالرجال(27) وأنها لعقيدة ممتعة لا بد أن قد أراحت الناس من عناء كبير كلما أعقب استسلام المرأة للرجل نتيجةً تسبب شيئاً من الحيرة، وما كان ألذها عقيدة لو أنها أنتُحلتْ للأزواج كما انتحلت لعلماء الأجناس البشرية.
وأما أهل ملانيزيا فقد عرفوا أن الحمل نتيجة الاتصال بين الجنسين، لكن الفتيات اللائي لم يتزوجن يُصْرِرْن على أن حملهن قد سبّبه لهن لون من الطعام أكلنه(28) وحتى بعد أن أدركوا وظيفة الذكر في التناسل، كانت العلاقات الجنسية من الاضطراب بحيث لم يكن يسيراً عليهم أن يحددوا لكل طفل أباه؛ ونتيجة ذلك هي أن المرأة البدائية الأولى قلما كانت تعنى بالبحث عمن يكون والد طفلها؛ أن الطفل طفلها هي، وهي لا تنتمي إلى زوج بل إلى أبيها - أو أخيها - وإلى القبيلة، لأنها إنما تعيش مع هؤلاء، وهؤلاء هم كل الأقارب الذكور الذين يعرفهم الطفل(29) على أنهم ذوو قرباه، لهذا كانت روابط العاطفة بين الأخ وأخته أقوى منها بين الزوج وزوجته، وفي كثير من الحالات كان الزوج يقيم مع أسرة أمه وقبيلتها، لا يرى زوجته إلا زائراً متستراً، وحتى في المدنية القديمة كان الأخ أعز عند المرأة من زوجها، فزوجة "انتافرنيز" أنقذت أخاها لا زوجها من غضبة "دارا" كذلك "انتجونا" ضحت بنفسها من أجل أخيها لا من أجل زوجها(30) "فالفكرة القائلة بأن زوجة الرجل هي أقرب إنسان في الدنيا إلى قلبه، فكرة حديثة نسبياً، ثم هي فكرة لا تراها إلا في جزء صغير نسبياً من أجزاء الجنس البشري" (31).
إن العلاقة بين الوالد والأبناء في المجتمع البدائي هي من الضعف بحيث يعيش الجنسان منفصلين في عدد كبير من القبائل؛ ففي استراليا وغيانة البريطانية الجديدة، وفي إفريقية وميكرونيزنا، وفي أسام وبورما، وبين الألوشيين والإسكيمو والساموديين، وهنا وهناك من أرجاء الأرض، قد ترى إلى اليوم قبائل لا تجد فيها للحياة العائلية أثراً فالرجال يعيشون معتزلين النساء، ولا يزورونهن إلا لماما، حتى الطعام ترى كلا من الفريقين يأكل بعيداً عن الأخر؛ وفي شمالي بابوا لا يجوز للرجل أن يرى مجتمعاً بامرأة أمام الناس حتى وإن كانت تلك المرأة أم أبنائه؛ والحياة العائلية ليست معروفة في "تاهيتي" على الإطلاق، ومن انفصال الجنسين على هذا النحو تنشأ العلاقات السرية - عادة الاتصال بين الرجال والرجال - التي تراها في كل الأجناس البدائية، وهي مَهْرب يلوذ به الرجال في كثير من الحالات فراراً من المرأة(32)؛ وهذه العلاقات السرية لها شبيه في حياتنا الحاضرة وإن اختلفت في وجهها فهذه وليدة تلك.
إذن فابسط صور العائلة هي الأم وأبناؤها تعيش بهم في كنف أمهم أو أخيها في القبيلة؛ وهذا النظام نتيجة طبيعية للأسرة عند الحيوان، التي تتكون من الأم وصغارها، وهو كذلك نتيجة طبيعية للجهل البيولوجي الذي يتصف به الإنسان البدائي؛ وكان لهذا النظام العائلي بديل آخر في العهد الأول، وهو "الزواج الذي يضيف الزوج إلى أسرة زوجته"، إذ يقضي هذا النظام أن يهجر الزوج قبيلته ليعيش مع قبيلة زوجته وأسرتها ويعمل من أجلها أو معها في خدمة والديها؛ فالأنساب في هذه الحالة يُقتَفَى أثرها في جانب الإناث، والتوريث يكون عن طريق الأم؛ حتى حق العرش أحياناً كان يهبط إلى الوارث عن طريق الأم لا عن طريق الزوج(33)؛ على أن هذا الحق الذي للأمومة ليس معناه سيطرة المرأة على الرجل(34)؛ لأنه حتى إن وَرَّثَت الأم أبناءها فليس لها على ملكها هذا الذي تُورثه إلا قليل من السلطان؛ وكل ما في الأمر أن الأم كانت وسيلة تَعَقُّب الأنساب، لأنه لولا ذلك لأدى إهمال الناس عندئذ في العلاقات الجنسية وإباحيتهم إلى انبهام معالم القُربى(35)، نعم إن للمرأة نفوذاً في أي نظام اجتماعي كائناً ما كان ولو إلى حد محدود، هو نتيجة طبيعية لخطر مكانتها في المنزل، ولأهمية وظيفتها في التصرف في الطعام ولاحتياج الرجل إليها وقدرتها على رفضه؛ ولقد شهد التاريخ أحياناً حاكمات من النساء بين بعض قبائل إفريقية الجنوبية، ولم يكن في مستطاع الرئيس في جزر "بليو" أن ينجز شيئاً هاماً إلا إذا استشار مجلساً من عجائز النساء، وكان للنساء في قبيلة "إراكوا" حق يعادل حق الرجال في إبداء الرأي وفي التصويت إذا اجتمع مجلس القبيلة(36)؛ وكان للنساء بين هنود سنكا قوة عظيمة قد تبلغ بهن حق اختيار الرئيس، هذا كله صحيح، لكنها حالات نادرة لا تقع إلا قليلاً، أما في أكثر الحالات فمنزلة المرأة في المجتمعات البدائية كانت منزلة الخاضع التي تدنو من الرق؛ فعجزها الذي يعاودها مع الحيض، وعدم تدريبها على حمل السلاح، واستنفاذ قواها من الوجهة البيولوجية بسبب الحمل والرضاعة وتربية الأطفال، كل ذلك عاقها في حربها مع الرجال، وقضى عليها أن تنزل منزلة دنيا في كل الجماعات إلا أدناها وأرقاها؛ ولم يستتبع تقدم المدنية بالضرورة أن ترفع مكانة المرأة، ففي اليونان أيام بركليز كتب عليها أن تكون مكانتها أقل من مكانتها بين هنود أمريكا الشمالية؛ إن مكانة المرأة ترتفع أو تهبط تبعاً لاختلاف أهمية الرجل في القتال، أكبر منها تبعاً لازدياد ثقافة الرجال وتقدم أخلاقهم.
كانت المرأة في مرحلة الصيد تكاد تؤدي الأعمال كلها ما عدا عملية الصيد نفسها؛ وأما الرجل فكان يسترخي مستريحاً معظم العام في شيء من الزهو بنفسه، لقاء ما عرض نفسه لمصاعب الطراد وأخطاره، كانت المرأة تلد الأطفال بكثرة وتربيهم وتحفظ الكوخ أو الدار في حالة جيدة، وتجمع الطعام من الغابات والحقول وتطهي وتنظف وتصنع الثياب والأحذية(37)؛ فإذا انتقلت القبيلة من مكان لم يكن الرجل ليحمل سوى أسلحته لأنه كان مضطرا أن يكون على أهبة الاستعداد لملاقاة العدو إذا هجم، وإذن فقد كان على النساء أن يحملن كل ما بقى من متاع، والنساء من قبيلة "البوشمن" كن يُستخدمن خادمات وحاملات للأثقال، فإذا تبين أنهن أضعف من أن يسايرن الركب في رحلته، تُركن في الطريق(38)، ويروي أن سكان نهر مَرِى الأدنى حين رأوا قطيعاً من الثيران ظنوا أنهم زوجات الرجال البيض(39)، وإن ما تراه بين الرجال والنساء اليوم من تفاوت في قوة البدن لم يكد يكون له وجود فيما مضى، وهو الآن نتيجة البيئة وحدها أكثر منه أصيلا في طبيعة المرأة والرجل: كانت المرأة إذ ذاك - لو استثنيت ما يقعدها أحياناً من عوامل بيولوجية - مساوية للرجل تقريباً في طول قامته، وفي القدرة على الاحتمال وفي سعة الحيلة والشجاعة؛ ولم تكن بعد قد أصبحت مجرد زينة وتحفة، أو مجرد لعبة جنسية، بل كانت حيواناً قوي البنية قادراً على أداء العمل الشاق مدى ساعات طويلة، بل كانت لها القدرة - إذا دعت الضرورة - على المقاتلة حتى الموت في سبيل أبنائها وعشيرتها؛ قال رئيس من رؤساء قبيلة "تشبوا" Chippewas "خلق النساء للعمل، فالواحدة منهن في وسعها أن تجر من الأثقال أو تحمل منها ما لا يستطيعه إلا رجلان، وهن كذلك يقمن لنا الخيام ويصنعن الملابس ويصلحنها ويدفئننا في الليل.. . إنه ليستحيل علينا أن نرحل بغيرهم، فهن يعملن كل شيء ولا يكلفن إلا قليلاً؛ لأنهن ما دمن يقمن بالطهي دائماً، فأنهن يقنعن في السنين العجاف بلعق أصابعهن" (40)
إن معظم التقدم الذي أصاب الحياة الاقتصادية في المجتمع البدائي كان يعزى للمرأة أكثر مما يعزى للرجل، فبينما ظل الرجل قروناً مستمسكاً بأساليبه القديمة من صيد ورعي، كانت هي تطور الزراعة على مقربة من محال السكنى، وتباشر تلك الفنون المنزلية التي أصبحت فيما بعد أهم ما يعرف الإنسان من صناعات؛ ومن "شجرة الصوف" - كما كان الإغريق يسمون نبات القطن - جعلت المرأة تغزل الخيط وتنسج الثياب القطنية(41)؛ وهي التي - على أرجح الظن - تقدمت بفنون الحياكة والنسج وصناعة السلال والخزف وأشغال الخشب والبناء، بل هي التي قامت بالتجارة في حالات كثيرة(42)؛ والمرأة هي التي طورت الدار، واستطاعت بالتدريج أن تضيف الرجل إلى قائمة ما استأنسه من حيوان، ودربته على أوضاع المجتمع وضروراته التي هي من المدنية أساسها النفسي وملاطها الذي يمسك أجزاء البناء؛ لكن لمّا تقدمت الزراعة وزاد طرحها، أخذ الجنس الأقوى يستولي على زمامها شيئاً فشيئاً(43)؛ وكذلك وجد الرجل في ازدياد تربية الماشية مصدراً جديداً للقوة والثروة والاستقرار؛ حتى الزراعة التي لابد أن تكون قد بدت لعمالقة العصر القديم الأشداء عملاً بارداً، أقبل عليها الرجل آخر الأمر بعد أن كان يضرب جوالاً في مناكب الأرض، وبذلك انتزع الرجال من أيدي النساء زعامتهن الاقتصادية التي توفرت لهن حيناً من الدهر بسبب الزراعة؛ وكانت المرأة قد استأنست بعض الحيوان؛ فجاء الرجل واستخدم هذا الحيوان نفسه في الزراعة، وبذلك تمكن من أن يحل محلها في الإشراف على زراعة الأرض؛ هذا إلا أن استبدال المحراث بالمعزقة قد تطلب شيئاً من القوة البدنية، وبذلك مكن للرجل أن يؤكد سيطرته على المرأة؛ أضف إلى ذلك أن ازدياد ما يملكه الإنسان مما يمكن تحويله من مالك إلى مالك، كالماشية ومنتجات الأرض، أدى إلى إخضاع المرأة للرجل إخضاعاً جنسياً، لأن الرجل طالبها بالإخلاص له إخلاصاً يبرر له أن يورث ثروته المتجمعة إلى أبناء تزعم له المرأة أنهم أبناؤه؛ وهكذا نفذ الرجل بالتدريج خطته، واعترف للأبوة في الأسرة، وبدأت الملكية تهبط في التوريث عن طريق الرجل، واندحر حق الأمومة أمام حق الأبوة، وأصبحت الأسرة الأبوية - أي التي يكون أكبر الرجال سناً على رأسها - هي الوحدة الاقتصادية والشرعية والسياسية والخلقية في المجتمع؛ وانقلب الآلهة وقد كانوا قبل ذلك نساء في أغلبهم، انقلبوا رجالاً ذوي لحى هم للناس بمثابة الآباء، يحيط بهم من النساء "حريم" كالذي كان يحلم به ذوو الطموح من الرجال في عزلتهم .
كان هذا الانتقال إلى الأسرة الأبوية - الأسرة التي يحكمها الوالد - ضربة قاضية على منزلة المرأة؛ فقد باتت هي وأبناؤها، في أوجه الحياة الهامة جميعاً، ملكاً لأبيها أو لأخيها الأكبر، ثم ملكاً لزوجها، إنها اشتُريت في الزواج كما كان العبد يشرى في الأسواق سواء بسواء؛ وهبطت ميراثاً كما يهبط سائر الملك عند وفاة الزوج، وفي بعض البلاد "مثل غانة الجديدة، وهبرديز الجديدة، وجزر سليمان، وفيجي، والهند وغيرها" كانت تشنق وتدفن مع زوجها الميت، أو كان يطلب أليها أن تنتحر، لكي تقوم على خدمته في الحياة الآخرة(44) وأصبح للوالد الحق في أن يعامل زوجاته وبناته كما يشاء ويهوى إلى حد كبير جداً؛ فيهبهن، ويبيعهن، ويعيرهن، لا يحده في استعمال حقه هذا إلا الظروف الاجتماعية التي تفسح المجال لآباء غيره في استعمال حقوق مثل حقه، وبينما احتفظ الرجل بحقه في الاتصال الجنسي خارج داره، طولبت المرأة - في ظل الأنظمة الأبوية - بالعفة التامة قبل الزواج، وبالإخلاص التام بعد الزواج، وهكذا نشأ لكل جنس معيار خاص يحكم به على عمله.
إن خضوع المرأة بصفة عامة، وقد كان موجوداً في مرحلة الصيد، ثم ظل موجوداً - في صورة أخف - خلال الفترة التي ساد فيها حق الأمومة في الأسرة ازداد الآن صراحة وغلظة؛ ففي الروسيا القديمة، كان الوالد عند زواج ابنته يضربها ضرباً رقيقا بسوط، ثم يعطي السوط للزوج(45) ليدل على أن ضربها قد أنيطت به منذ اليوم يد لا يزال الشباب يجري في عروقها؛ وحتى الهنود الأمريكيون الذين ظل حق الأمومة سائداً فيهم لم يرتفع عنهم قط، كانوا يعاملون نساءهم معاملة خشنة ويكلفونهن بأقذر الأعمال، وغالباً ما ينادونهن بلفظ الكلاب(46) وحياة المرأة في كل مكان على وجه الأرض كانت تقوم بثمن أرخص من ثمن الرجل، وإذا ولد الأمهات بنات، فلا تقام الأفراح التي تقام عند ولادة البنين حتى أن الأمهات أحياناً ليقتلن بناتهن الوليدات ليخلصنهن من الشقاء؛ والزوجات في فيجي يشتريهن الرجال كما يشاءون، وغالباً ما يكون الثمن المدفوع بندقية(47)، وفي بعض القبائل لا ينام الرجل وزوجته في مكان واحد خشية أن يضعف نفس المرأة من قوة الرجل، بل إن أهل فيجي لا يرون من المناسب أن ينام الرجل في بيته كل ليلة، وفي كالدونيا الجديدة تنام المرأة في حظيرة بينما ينام الرجل في الدار، وفي فيجي كذلك يسمح للكلاب بالدخول في بعض المعابد، أما النساء فحرام عليهن دخول المعابد إطلاقاً(48) وهذا الإقصاء للمرأة عن المجتمعات الدينية موجود في الإسلام حتى يومنا هذا، نعم إن المرأة بغير شك قد تمتعت في كل العصور بهذا الضرب من السيادة الذي ينشأ عن استمرار الحديث، وقد تفلح المرأة في إخجال الرجل أو إرباكه أو هزيمته أحياناً(49) لكن الرجل مع ذلك هو السيد والمرأة هي الخادمة، فكان الرجل من قبيلة "الكفير" يشتري النساء كما يشتري الرقيق، وإنما يشتريهن ليكن له ضمان الحياة حتى مماته، لأنه إذا حاز عدداً من الزوجات كافياً، فسيظل ما بقى له في الحياة من سنين مستريحاً من عناء العمل، وعليهن العمل كله، ويعتبر بعض القبائل في الهند القديمة نساء الأسرة جزءاً من الأملاك التي تورث جنباً إلى جنب مع الحيوان الداجن(50)؛ حتى الوصية الأخيرة من وصايا "موسى" لم توضح الفرق في هذا الصدد توضيحاً ظاهراً، وفي بلاد الزنوج الأفريقية كلها، لا يكاد النساء يختلفن عن الرقيق إلا في كونهن مصدراً للمتعة الجنسية إلى جانب النفع الاقتصادي؛ ولقد كان الزواج في بدايته صورة من صور القوانين التي تضبط الملكية، وجزءاً من التنظيم الاجتماعي الذي يدبّر أمر العبيد(51).