قصة الحضارة - ول ديورانت - م 1 ج 2

من معرفة المصادر

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب الثاني: العناصر الاقتصادية في الحضارة

"الهمجي" هو أيضاً متمدن بمعنى هام من معاني المدنية، لأنه يُعنى بنقل تراث القبيلة إلى أبنائه- وما تراث القبيلة إلا مجموعة الأنظمة والعادات الاقتصادية والسياسية والعقلية والخلقية، التي هذبتها أثناء جهادها في سبيل الاحتفاظ بحياتها على هذه الأرض والاستمتاع بتلك الحياة، ومن المستحيل في هذا الصدد أن نلتزم حدود العلم، لأننا حين نطلق على غيرنا من الناس اسم "الهمج" أو "المتوحشين" فقد لا نعبر بمثل هذه الألفاظ عن حقيقة موضوعية قائمة، بل نعبر بها عن حبنا العارم لأنفسنا لا أكثر؛ وعن انقباض نفوسنا وانكماشها إذا ما ألقينا أنفسنا إزاء ضروب من السلوك تختلف عما ألفناه؛ فلا شك أننا نبخس من قيمة هاتيك الشعوب الساذجة التي تستطيع أن تعلمنا كثيراً جداً من الجود وحسن الخلق؛ فلو أننا أحصينا أسس المدنية ومقوماتها لوجدنا أن الأمم العُريانة قد أنشأتها أو أدركتها جميعاً إلا شيئاً واحداً، ولم تترك لنا شيئاً نضيفه سوى تهذيب تلك الأسس والمقومات لو استثنينا فن الكتابة، ومن يدري فلعلهم كذلك كانوا يوماً متحضرين ثم نفضوا عن أنفسهم تلك الحضارة لما لمسوه فيها من شقاء النفس؛ وعلى ذلك فينبغي أن نكون على حذر حين

تستعمل ألفاظاً مثل "همجي" و "متوحش" في إشارتنا إلى "أسلافنا الذين يعاصروننا اليوم"؛ ولقد آثرنا أن نستعمل كلمة "بدائي" لندل على كل القبائل التي لا تتخذ الحيطة، أو لا تكاد تتخذها، بحيث تدخر القوت للأيام العجاف، والتي لا تستخدم الكتابة أو لا تكاد تستخدمها؛ وفي مقابل ذلك، سنطلق لفظ التمدن على الأقوام التي في وسعها أن تكتب، وأن تدخر في أيام يسرها لأيام عسرها.


الفصل الأول: من الصيد إلى الحرث

ما للشعوب البدائية من قصر النظر - بداية الحيطة - الصيد والسمّاكة - الرعي - استئناس الحيوان - الزراعة - القوت - الطهي - أكل اللحوم البشرية


"إن نظام الوجبات الثلاث في كل يوم نظام اجتماعي غاية في الرقي، أما الأقوام الهمجية فهي إما أن تتخم نفسها دفعة واحدة أو تمسك عن الطعام"%=&Hayes, Sociology,494.& وإنك لترى أكثر القبائل توحشاً بين الهنود الأمريكيين يحكمون على من يدخر طعاماً لغده بضعف المراس وانعدام الذوق%=&Lippert J., Evolution of Culture, 38.& ، وكذلك ترى أهل استراليا الأصليين لا يستطيعون العمل كائنا ما كان ما دام جزاء العمل لا يجيئهم فور أدائه؛ وكل فرد من قبائل "الهوتنتوت" Hettentot هو بمثابة السيد الذي يعيش عيش الفراغ، والحياة عند قبيلة "البوشمن" Bushmen في إفريقية "إما وليمة وإما مجاعة"%=&Spencer, H., Principles of sociology, 1, 60& . وإن في قصر النظر هذا لحكمة صامتة، كما هو الحال في كثير من أساليب الحياة عند "الهمج"، ذلك أن الإنسان إذا ما بدأ يفكر في غده فقد خرج بذلك من جنة عدن إلى وادي الهموم، وحَلَّت به صُفرة الغم، وهاهنا يشتد فيه الجشع، وتبدأ الملكية، ويزول عنه البشر المتهلل الذي يعرفه الإنسان الأول "الخلي من كل تفكير"؛ إن الزنجي الأمريكي يمثل اليوم هذه المرحلة من مراحل الانتقال، فقد سأل "بيري" أحد أدلائه من الإسكيمو قائلاً "فيم تفكر؟" فكان جوابه: "ليس لدي ما يدعو إلى التفكير لأن لديّ مقداراً كافياً من اللحم" فكون الإنسان لا يفكر إلا إذا اضطر إلى ذلك، قد يكون جُماع الحكمة، وقد يكون لهذا الرأي سند قوي يدعمه.

ومع ذلك فتلك الحياة التي خلت من الهموم، كانت لها صعابها؛ والأحياء التي استطاعت أن تجتاز تلك المرحلة في تطورها، استفادت بذلك ميزة كبرى تساعدها في تنازع البقاء؛ فالكلب الذي اختزن تحت الثرى عظمة فاضت عن شهيته، وإنها لشهية الكلاب، والسنجاب الذي ادَّخَر البندق لوجبة أخرى في يوم مقبل، والنحل الذي ملأ خليته بالعسل، والنمل الذي خزن زاده أكداساً اتقاء يوم مطير- هذه جميعاً كانت أول منشئ للمدنية، فقد كانت هي وإضرابها من المخلوقات الراقية أول من علم أجدادنا فن ادخار ما نستغني عنه اليوم إلى الغد. أو اتخاذ الأهبة للشتاء في أيام الصيف الخصيبة بخيراتها.

فيالها من مهارة تلك التي استخرج بها أولئك الأجداد من البر والبحر طعاماً كان بمثابة الأساس لمجتمعاتهم الساذجة! لقد كانوا ينتزعون بأيديهم المجردة انتزاعاً ما يستطيعون أكله مما يبديه سطح الأرض من أشياء، وكنت تراهم يقلدون أو يستخدمون مخالب الحيوان وأنيابه، ويصنعون لأنفسهم آلات من العاج والعظم والصخر، وينسجون الشباك والمصائد والفخاخ من خيوط الحلفاء والليف، ويصطنعون من الوسائل عدداً لا يحصى لاصطياد فريستهم من يابس أو ماء؛ لقد كان لأهل بولينزيا شباك طولها ألف ذراع لا يستطيع استخدامها إلا مائة رجل مجتمعين، وبمثل هذا تطورت وسائل ادخار القوت جنباً إلى جنب مع النظم السياسية، وكان اتحاد الناس في تحصيلهم للقوت مما أعان على قيام الدولة، أنظر إلى السَّمَّاك من قبيلة "ثِلِنْجِتْ" Thlingit إذ كان يضع على رأسه غطاء يشبه رأس عجل البحر، ثم يخفي نفسه بين الصخور ويصرخ بمثل صوت ذلك الضرب من الحيتان، فتأتيه عجول البحر، فيطعنها بسنان رمحه، لا يجد في ذلك ما يؤنبه عليه ضميره، لأنه يتم على أوضاع يرضاها القتال في صورته البدائية، وكان من عادة كثير من القبائل أن يُلقى سماكوها مادة مخدرة في مجرى الماء ليهون عليهم استجلاب السمك بعد تخديره؛ فأهل تاهيتي- مثلاً- كانوا يلقون في الماء سائلاً مسكراً يصنعونه من صنف معين من البندق أو ضرب معروف لديهم من النبات، فتسكر الأسماك وتطفو على السطح مخمورة لا تحذر الخطر، فيمسك منها السَّمَّاك ما أراد؛ والأستراليون الوطنيون يسبحون تحت سطح الماء، ويتنفسون خلال قصبات من الغاب، فيتاح لهم أن يجذبوا البط السابح من سوقه إلى جوف الماء، ويظلون ممسكين به هناك في رفق حتى تسكن فيه حركة الحياة؛ وأبناء قبيلة "تاراهيومارا" كانوا يمسكون الطير بأن يلقوا لباب البندق على ألياف قوية ويربطوه بتلك الألياف التي يغرسونها إلى نصفها في التراب، فيقتات الطير من اللباب، ثم يقتات "التاراهيوماريون" من الطير%=&Summer and Keller, Science of society, i, 51; Summer, W. G., Folkways, 119-22; Renard, G., Life and work in prehistoric times, 36,; Mason O. T., Origins of invention, 298.& . إن الصيد عند كثرتنا الغالبة اليوم ضرب من اللهو، نستمد فيه اللذة- فيما أظن- من بعض الذكريات الغامضة الراسخة في دمائنا والتي تعيد لنا تلك الأيام القديمة حيث كان الصيد عند الصائد والمصيد كليهما أمراً تتعلق به الحياة أو الموت، ذلك لأن الصيد لم يكن سبيلاً إلى طلب القوت وكفى، بل كان كذلك حرباً يراد بها الطمأنينة والسيادة، حرباً لو قَرَنْتَ إليها كل ما عرفه التاريخ المدوَّن من حروب، ألفيت هذه الحروب بالقياس إليها بمثابة اللغَط اليسير. وما يزال الإنسان في الغابة يقاتل في سبيل الحياة، لأنه على الرغم من أن الحيوان هناك لا يكاد يهاجمه مختاراً إلا إذا اضطره إلى ذلك الجوع الشديد أو الخوف من الوقوع فريسة لا يجد لنفسه مهرباً يلوذ به، فليس في الغابة قوت يكفي الجميع، وأحياناً لا يظفر بطعامه إلا المقاتل أو الذي يستخدم لنفسه حيواناً مقاتلاً، وهاهي ذي متاحفنا تعرض أمام أبصارنا بقايا تلك الحرب التي نشبت بين الإنسان وسائر الأنواع الحيوانية، إذ تعرض أمامنا المُدى والهراوات والرماح والقسى وحبال الصيد والأفخاخ والمصائد والسهام والمقاليع التي استطاع بها الإنسان الأول أن يفرض سيادته على الأرض، ويمهد السبيل أمام خَلَفٍ لا يعترف بالجميل، ليحيا حياة آمنة من كل حيوان إلا الإنسان. وحتى في يومنا هذا، بعد كل ما نشب من حروب تستبعد العاجز عن الحياة لتبقي على القادر، انظر كم من صنوف الكائنات الحية ما يزال على وجه الأرض يسعى‍! لقد يحدث أحياناً إذا ما مشى الإنسان خلال الغابة متريضاً، أن تأخذه الدهشة العميقة لكثرة ما سمع هنالك من لغات، ولكثرة ما يرى من أنواع الحشرات والزواحف وآكلة اللحوم والطير. إن الإنسان ليحسُّ عندئذ أنه متطفل قد أقحم نفسه إقحاماً على هذا المشهد بما فيه من زحمة الأحياء، وأنه مخوف يخشاه الحيوان جميعاً ويمقته الحيوان جميعاً مقتاً لا ينتهي. ومن يدري فلعل يوماً يُقبل على الدنيا فإذا هذه الصنوف من ذوات الأربع في دمدمة أصواتها، وهذه الحشرات التي كأنما هي اليوم تستدر عليها عطف الإنسان، وهذه الجراثيم الضئيلة التي تنوه بما عساها أن تصنعه، لعل يوماً يقبل على الدنيا فإذا هذه الصنوف جميعاً تلتهم الإنسان التهاماً بكل ما صنعتهُ يداه وأنشأت، فتنقذ الكوكب الأرضي من هذا الحيوان ذي الساقين الذي لا يفتأ يجول ناهباً سالباً، وهذه الأسلحة العجيبة المصطنعة، وهذه الأقدام التي تجوس في غير حذر!

لم يكن الصيد والسماكة مرحلتين من مراحل التطور الاقتصادي، بل كانا وجهين من أوجه النشاط التي كتب لها أن تظل باقية في أعلى صور المجتمع المتحضر. لقد كانا ذات يوم مركز الحياة، وهما الآن بمثابة أساسيها الخبيئين، إذ يكمن وراء أولئك الصيادين الأشداء كل ما لنا من أدب وفلسفة وفن وشعائر عبادة، فكأنما نؤدي اليوم صيدنا بوساطة غيرنا نُنيبُه عنا، إذ تعوزنا جرأة القلب التي نقتل بها طرائدنا علناً في الفضاء المكشوف؛ لكن ذكريات الصيد القديم ما تزال تعاودنا حينما نغتبط بمطاردتنا للضعيف أو للذي يلوذ منا بالفرار، بل إنها تعاودنا في ألعاب أطفالنا- حتى الكلمة التي نطلقها اليوم على اللعب هي نفسها التي تدل على الصيد وإذن فآخر ما نصل إليه في تحليل المدنية هو أنها قائمة على تهيئة الإنسان لطعامه فإن رأيت فخامة الفن في الكاتدرائية أو مبنى الكابتول، وإن شهدت متحفاً للفن أو حفلة موسيقية، وإن صادفت مكتبة أو جامعة، فاعلم أن هذه كلها واجهة البناء التي تختفي وراءها أشلاء القتال.

ولم يكن الإنسان مبتكراً حين اصطنع الصيد وسيلة لعيشه، ولو حصر الإنسان جهده في نطاق الصيد لما كان أكثر من حيوان آكل للحم يضاف إلى قائمة أكلة الحيوان، وإنما بدأت إنسانيته حين تطورت حياته من مرحلة الصيد التي يسودها القلق، إلى مرحلة أكثر اطمئناناً وأوثق اتصالاً واطراداً، وأعني بها حياة الرعي، التي اقتضت ميزات عظيمة الخطر، إذ اقتضت استئناس الحيوان وتربية الماشية واستعمال اللبن. إننا لا نعرف كيف بدأ استئناس الحيوان ولا متى بدأ- فربما كان ذلك حين أبقى الصائدون على صغار الحيوان القتيل في حلبة الصيد، حين لم يروا لهاتيك الصغار حولاً ولا قوةً، فساقوها إلى مقر سكناهم ليتخذها أطفالهم لُعباً يلهون بها%=&Mason O. T., Origins of invention,316.& ، ولقد لبث الإنسان يأكل الحيوان الذي يمسك به على هذا النحو، ولكن بعد إمهاله فترة من الزمن؛ وأخذ يستخدمه أداة للنقل لكنه مع ذلك كاد أن يسلكه في مجتمعه الإنساني كأنما هو منهم، فهو زميل، وهو شريك في العمل والإقامة؛ ثم تلا ذلك أن أدرك الإنسان معجزة التناسل بين صنوف حيوانه، فأخضعها لإشرافه، استطاع بعدئذ من ذكر وأنثى يمسك بهما أن ينشئ لنفسه قطيعاً كاملاً، كذلك خف عن النساء حمل الرضاعة فترة طويلة، بأن استعملن لأطفالهن لبن الحيوان بعد سن معينة، وبهذا قلت نسبة الوفيات في الأطفال وظفر الإنسان بمورد جديد مضمون من موارد الطعام؛ أدى ذلك كله إلى تكاثر الناس وازدادت الحياة ثباتاً واطراداً، وأصبحت سيادة هذا الكائن المحدث الوجل، أعني الإنسان، أصبحت سيادته على الأرض أكثر اطمئناناً.

وكانت المرأة أثناء ذلك في طريقها إلى أكبر كشف اقتصادي بين تلك الكشوف جميعاً، وهو معرفة ما يمكن لتربة الأرض أن تخرجه من طيبات؛ فبينما كان الرجل في صيده كانت هي تنكت الأرض حول الخيمة أو الكوخ لتلتقط كل ما عساها أن تصادفه فوق الأرض من مأكول؛ ففي استراليا كان العرف القائم هو أنه إذا ما غاب الزوج في رحلات صيده، أخذت الزوجة تحفر الأرض بحثاً عن جذور تؤكل، وتقطف الثمار والبندق من الشجر، وتجمع العسل والفُطر والحبَّ والغلال التي تنبتها الطبيعة%=& Summer and Keller, Science of society, i, 132& ؛ ولا تزال بعض القبائل في استراليا حتى يومنا هذا تحصد الغلال التي تنبت بالطبيعة دون أن تحاول درس الحبوب وبذرها؛ ولبث هنود وادي نهر ساكرامنتو عند هذه المرحلة لا يجاوزونها أبداً%=&Roth, H. L., In Thomas, e.i., Source Book for Social origins, 111.& وهكذا لن يتاح لنا إلى آخر الدهر أن نعلم متى أدرك الإنسان لأول مرة وظيفة الحبوب بحيث يتحول من جمعها إلى بذرها في الأرض، فهذه البدايات هي أسرار التاريخ التي سنظل نضرب حولها بمجرد الإيمان والحدس، لكننا يستحيل أن نعلم عنها علم اليقين، فيجوز أنه حين أخذ الإنسان في جمع الحبوب النابتة بطبيعتها، كانت تسقط منه حبات وهو في طريقه من مكان النبات إلى حيث يقيم فنبهته أخيراً إلى السر العظيم الكامن في نمو النبات، فألقى الناسُ من قبيلة "جوانج" البذور في الأرض وتركوها تشق لنفسها طريقها إلى الفضاء، وأما أهالي "بورنيو" فكانوا يضعون الحبَّ في حفرات يحفرونها بعصاة مدببة إذ هم سائرون عبر الحقول%=&Roth, H. L., In Thomas, e.i., Source Book for Social origins, 111.; Mason O. T., Origins of invention, 190; Lippert J., Evolution of Culture, 165.& ، فكانت هذه العصاة أو "الحافرة" أبسط ما عرفه الإنسان من أدوات زراعة الأرض، وقد كان الرحالة في مدغشقر منذ خمسين عاماً يرون النساء وقد امتشقن هذه العصي المدببة، ووقفن في صف كأنهن الجنود، ثم تصدر لهن إشارة البدء فيأخذن في حفر الأرض بعصيهن، وقلب التربة ووضع البذور ثم تسوية التربة بأقدامهن من جديد، وبعدئذ يمضين إلى خط آخر من خطوط الحقل%=&Renard, G., Life and work in prehistoric times, 123.& ، والمرحلة التي تلت ذلك في تقدم الفلاحة وأدواتها مرحلة استُعملت فيها الفأس في الحرث، وذلك بأن ركّب الإنسان عظمة في طرف العصاة الحافرة، وربط فيها قطعة أخرى مستعرضة لتكون صالحة لضغطها بالقدم، فلما وصل "كونكوستادورس" إلى المكسيك وجدَ الأزاتقة لا يعرفون غير الفأس أداة لحرث الأرض حتى إذا ما استؤنس الحيوان وطُرقت المعادن أمكن استعمال أدوات أثقل، فكبرت الفأس حتى أصبحت محراثاً يضرب في الأرض أعمق مما كانت تضرب الفأس، فانكشفت بذلك خصوبة الأرض الدفينة، بحيث تغيرت سيرة الإنسان تغيراً كاملاً، فَزرعَ أنواعاً من النبات كانت تستعصي عليه من قبل، واستنبت أنواعاً أخرى، وأصلح الأنواع التي كان يزرعها قبل ذلك.

وأخيراً تعلم الإنسان عن الطبيعة فن التحوط للمستقبل، وفضيلة التبصر في العواقب كما تعلم فكرة الزمن؛ فلما لاحظ الإنسان الطيور النقارة تخزن البندق في الشجر ولاحظ النحل تخزن العسل في الخلايا، أدرك- وربما جاء إدراكه هذا بعد ألوف من سنين قضاها في همجية لا تعرف للحيطة معنى- أدرك فكرة اختزان الطعام للمستقبل؛ وكشف عن بعض السبل التي تمكنه من حفظ اللحم، بتدخينها وتمليحها وتبريدها، وخير من ذلك في سبيل التقدم ما بناه لنفسه من أهراء للغلال تحفظها من المطر والرطوبة والحشرات واللصوص، فكان يحتفظ في تلك الأهراء بطعام يأكله في أشهر السنة العجاف؛ وهكذا تبين على مر الأيام أن الزراعة يمكن أن تكون مورداً للقوت أجود نوعاً وأثبت اطراداً من الصيد، فلما أن تحقق الإنسان من هذا، خطا إلى الأمام إحدى الخطوات الثلاث التي نقلته من الحيوانية إلى المدنية- وتلك الخطوات هي الكلام والزراعة والكتابة. ولا يجوز لك أن تتصور الإنسان وقد قفز من الصيد إلى حرث الأرض بوثبة واحدة، فكثير من القبائل- مثل الهنود الأمريكيين- جمدوا في مرحلة الانتقال لا يتحولون عنها، فلبث الصيد مهنة الرجال والحرث مهنة النساء؛ لا بل لا يكفي أن نقول عن هذا التحول إنه تم بخطوات متدرجة، إنما ينبغي أن نضيف إلى ذلك أنه لم يكمل حتى تمامه، ولك أن تقول إن الإنسان بحرثه للأرض إنما أضاف طريقة جديدة لاختزان الطعام إلى جانب الطريقة القديمة، ثم ظل طوال عصور التاريخ يغلب عليه أن يؤثر لنفسه طعام المرحلة الأولى على طعام المرحلة الثانية، ويمكننا أن نصور لأنفسنا الإنسان الأول إذ هو يُجري التجارب على ألوف الأصناف التي تخرجها له الأرض من جوفها، حتى لقد عانى في سبيل ذلك ما عانى من ضيق ألم بجوفه، لعله واجد أي صنف من هاتيك المنتجات يمكن أكله بحيث يكون مأمون العواقب، ثم أخذ يجري التجارب تلو التجارب في مزج هذه الصنوف بالفاكهة والثمر وباللحم والسمك اللذين اعتادهما من قبل؛ لكنه خلال تلك التجارب كلها لم ينفك مشوقا لأكل غنائم الصيد؛ وإنك لترى الشعوب البدائية محبة للحم في طعامها إلى حد الافتراس، حتى وإن كان طعامهم الرئيسي في الواقع هو الغلال والخضر واللبن%=&Britfault, The Mothers, ii, 460.& فإذا ما صادفهم حيوان ميت لم يطل أمد موته، فالأرجح أن يهجموا عليه في نهم فظيع، وكثيراً ما يستغنون في ذلك عن عملية الطهي حتى لا يضيعوا من وقتهم شيئاً، فيأكلوا فريستهم نيئة، مسرعين في ذلك ما أسعفتهم أسنانهم القوية في تمزيقها والتهامها، وسرعان ما تنظر فإذا الباقي أمامهم كومة من عظام؛ وإننا نسمع عن قبائل بأسرها تمرح في طعامها أسبوعاً كاملاً على حوت يلقيه البحر على الشاطئ%=&Renard, G., Life and work in prehistoric times, 35.& ؛ وعلى الرغم من معرفة الفويجيين للطهي فإنهم يفضلون اللحم نيئاً، وإذا أمسكوا بسمكة قتلوها بعضها خلف خياشيمها، ثم أكلوها من رأسها إلى ذيلها لا يقومون إزاءها بشيء من الإعداد إطلاقا%=&Sutherland, G., A., ed, A System of Diet and Dietetics, 45.& : إن الشك في اطراد موارد الطعام جعل هذه الشعوب الفطرية تأكل كل ما يصادفها بمعنى الكلمة الحرفي تقريباً؛ يأكلون السمك وقنافذ البحر والضفادع البحرية والبرية والفئران كبيرها وصغيرها والعناكب والديدان والعقارب والعُثة والحشرات والجراد والأساريع والضب والثعابين بأنواعها والكلاب والخيل وجذور النبات والقمل واليرقات وبعض الزواحف والطير- ليس بين هذه الأنواع نوع إلا وكان في مكان ما لوناً من ألوان الطعام اللذيذ المشتهى عند الأقوام البدائية%=&Sutherland, G., A., ed, A System of Diet and Dietetics, 33- 4; Ratzel, F., History of Mankind, i, 90.& ؛ وبين القبائل فريق مَهَرَ في صيد النمل، وبينها فريق آخر يجفف الحشرات في الشمس ويخزنها لتؤكل في وليمة، وقوم آخرون يلتقطون القمل بعضهم من رءوس بعض ويأكلونه مستمتعين بما يأكلون، وإذا ما تجمع من القمل عدد كبير أقبلوا عليه يلتهمونه وهم يصيحون صيحات الفرح باعتباره عدواً للإنسان%=&%=&Sutherland, G., A., ed, A System of Diet and Dietetics, 43, 45, Muller Lyer. F., History of Social Development, 70.& ؛ إن قائمة الطعام عند القبائل الدنيا لا تكاد تختلف في شئ عنها عند القردة العليا%=& Muller Lyer. F., History of Social Development,68.& وجاء الكشف عن النار فحدد هذا النهم الذي لا يفرق بين طعام وطعام، وتعاونت النار والزراعة على تحرير الإنسان من اعتماده على الصيد؛ فطهيُ الطعام أذاب للإنسان مادتي "السليلوز" والنشاء الموجودتين في آلاف الأصناف من النبات فتجعلانها غير قابلة للهضم إذا ما تُركت فجة على حالتها، وأخذ الإنسان يزداد اعتماده على الغلال والخضر ويجعل منها غذاءه الرئيسي؛ ولو أن الطهي بتليينه لمواد الطعام الصلبة، قلل من الحاجة إلى المضغ، فبدأ فساد الأسنان الذي هو من وصمات المدنية.

ثم أضاف الإنسان إلى صنوف الطعام التي أسلفنا ذكرها صنفاً آخر كان ألذها وأشهاها- وهو زميله الإنسان، ذلك أن أكل اللحوم البشرية كان يومها شائعاً بين الناس جميعاً، فقد وجدناه في كل القبائل البدائية تقريباً، كما وجدناه بين الشعوب المتأخرة تاريخاً مثل سكان إيرلندة وإيبريا وجماعة البكت، بل بين أهل الدانماركه في القرن الحادي عشر%=& Sumner, W.G., Folkways,, 329; Ratzel, f., History of Mankind, 129; Renard, G., Life and Work in Prehistoric Times, 420-2; Westermarck, E., Origin and Development of the Moral & ؛ كان اللحم البشري من لوازم العيش بين قبائل كثيرة ولم يكن الناس يعرفون الجنائز؛ بل قد كان الأحياء في الكنغو الأعلى يُباعون ويُشترون رجالا ونساء وأطفالا، كانوا يباعون ويُشترون علنا على اعتبار أنهم من مواد الطعام(18)، وأما في جزيرة بريطانيا الجديدة فقد كان اللحم البشري يباع في دكاكين كما يبيع القصابون اللحم الحيواني اليوم؛ وكذلك في بعض جزر سليمان كانوا يسمنون من يقع في أيديهم من الضحايا البشرية- وخصوصاً النساء- ليولموا بلحومهم الولائم كأنهم الخنازير(19)؛ وكان الفويجيون ينزلون النساء منزلة أعلى من الكلاب لأن "الكلاب كان مذاقها رديئا" كما كانوا يقولون؛ ولما مر "بيير لوتي" بجزيرة تاهيتي، أخذ رئيس كهل من رؤساء البولينزيين يشرح له طعامه فقال: "إن مذاق الرجل الأبيض إذا ما أُحسن شواؤه كمذاق الموز الناضج" أما الفيجيون فلم يعجبهم لحم البيض زاعمين أنه زائد في ملحه عما ينبغي، وقوي الألياف، فالبحار الأوربي إذا ما وقع لهم كاد في رأيهم ألا يصلح للطعام، وعندهم أن الرجل من بولينزيا ألذ طعما(20).

فمـا أصل هذه العـادة؟ ليس هنالك مـا يثبت قطـعاً أنها نشأت- كمــا ظـن النـاس مـن قبل- بسبـب قلـة في أنـواع الطعـام الأخرى، ولو كان ذلك كذلك إذن فقد بقى التلذذ بمذاق اللحم البشري بعد زوال القحط في مواد الطعام الأخرى، لأن العادة قد تكونت وأصبحت مما يستميل الأكل(21) وهاهي ذي الطبيعة، أرسل فيها تَرَ الدم البشري طعاماً شهياً لا يُقدم عليه اللاعق في جزع قط، حتى النباتيون البدائيون كانوا سرعان ما يعتادونه بشغف عظيم؛ ولطالما شرب أهل القبائل دم الإنسان، مع أنهم يكونون في غير هذا الظرف رقيقي القلوب كرام النفوس- يشربونه تارة باعتباره دواء؛ وطوراً باعتباره شعيرة دينية أو وفاء بعهد، ويشربونه عادة على عقيدة منهم أنه سيضيف إلى الشارب القوة الحيوية التي كانت للمأكول(22). ولم يكن أحد ليشعر بشيء من الخجل في إيثاره للحم البشري، والظاهر أن البدائيين لم يكونوا يفرقون في حكمهم الأخلاق بين أكل الإنسان وأكل الحيوان، بل أنه لمدعاة للفخار في ميلانيزيا أن يدعو الرئيس أصدقاءه إلى أكلة يُقدم فيها إنسان مشوي، وفي ذلك قال رئيس برازيلي فيلسوف: "ما دمتُ قد قتلتُ عدوي، فلا شك أنه من الخير أن آكله بدل أن أتركه فيضيع خسارةً لا يفيد منه أحد . . . ليس أسوأ الحالات أن يؤكل الإنسان، لكن أسوأها أن يموت، فإذا ما قُتلتُ فسواء لدي أأكلني عدو القبيلة أم تركني؛ على أنني لا أجد بين صنوف الصيد جميعاً ما هو ألذ مذاقاً من طعم الإنسان. والحق أنكم أيها البيض قد بلغتم الغاية في حسن المذاق" (23). ومما لا ريب فيه أن هذه العادة قد كان لها حسنات اجتماعية معينة؛ فقد سبقت إلى الوجود الخطة التي اقترحها "سوفت" في شأن الانتفاع بالأطفال الزائدين عن الحاجة، ثم أفسحت أمام الكهول مجالا وهو أن يموتوا موتا فيه نفع للآخرين؛ أضف إلى ذلك وجهة النظر التي لا ترى في الجنائز إلا إسرافاً لا تدعو إليه ضرورة؛ ولقد كان من رأي "مونتيني" أن تعذيب الإنسان حتى يُسلم الروح تحت قناع من الورع والتقوى- كما كانت الحال في عصره- أفظع وحشية من طهيه وأكله بعد موته؛ إنه لواجب علينا أن يحترم كل منا أوهام الآخر.


الفصل الثاني: أسس الصناعة

النار - الآلات البدائية - النسج وصناعة الخزف - البناء والنقل - التجارة وشئون المال

لئن بدأت إنسانية الإنسان بالكلام، وبدأت المدنية بالزراعة، فقد بدأت الصناعة بالنار التي لم يخترعها الإنسان اختراعاً، بل الأرجح أن قد صنعت له الطبيعة هذه الأعجوبة باحتكاك أوراق الشجر أو غصونه، أو بلمعة من البرق أو باندماج شاءته المصادفة لبعض المواد الكيمياوية، ولم يكن لدى الإنسان في ذلك إلا ذكاء الذي يقلد به الطبيعة ويزيدها كمالاً؛ ولما أدرك الإنسان أعجوبة النار استخدمها على ألف صورة، أولها فيما نظن أن أتخذ منها شعلة يقهر بها عدوه المخيف، ألا وهو الظلام، ثم أستعملها بعد ذلك للتدفئة، وبذلك استطاع أن يتحرك مبعداً عن مناطقه الاستوائية إلى مناطق أقل منها إرهاقاً للقوى، وبهذا الانتقال أخذ شيئاً فشيئاً يعمر الكوكب الأرضي فيجعله مسكناً للإنسان، ثم بعد ذلك أخذ يستعمل النار في المعادن فيلينها ويطرقها ويمزجها في هيئة أشد صلابة وأكثر مرونة مما وجدها عليه أول ما وجدها؛ لقد بلغت النار في أعين البدائيين من الغرابة ومن النفع حداً جعلها لديه إحدى المعجزات التي تستحق أن تتخذ إلهاً وتُعبد، ولذلك أقام لها ما لا يحصى عدده من الحفلات التعبدية، وجعل منها مركزاً لحياته وبيته؛ وكان كلما انتقل من مكان إلى مكان، حملها معه معينا بها، لا يرضى لها قط أن تخمد؛ بل أن الرومان أنفسهم أعدموا العذراء الطاهرة عقاباً لها على إهمالها الذي كان من شأنه أن تنطفئ النار المقدسة. على أن الإنسان، إذ هو لم يزل في مراحل الصيد والرعي والزراعة، ما أنفك مخترعاً، فكان الإنسان البدائي يشحذ زناد عقله لعله يجيب لنفسه إجابات عملية عما تثيره الحياة الاقتصادية في وجهه من مسائل؛ فقد كان الإنسان بادئ ذي بدء راضياً - في ظاهر الأمر - بما تقدمه له الطبيعة - كان راضياً بثمار الأرض طعاماً، وبجلود الحيوان وفرائه لباساً، وبالكهوف في سفوح التلال مأوى، ثم تلا ذلك، فيما نظن (فمعظم التاريخ ظن وبقيته من إملاء الهوى) أن أخذ في تقليد آلات الحيوان وصناعته؛ فلقد رأى القرد وهو يقذف بالحجارة وثمار الفاكهة على أعدائه، أو يكسر الجوز والمحار بالحجر، ثم رأى كلاب الماء تبني لنفسها السدود والطيور تهيئ الأعشاش والعرائش، والشمبانزي تقيم بيوتاً شبيهة جداً بما يقيم الإنسان من أكواخ؛ فحسدها على ما لها من قوة في مخالبها وأسنانها وأنيابها وقرونها، وعلى صلابة جلودها، فأخذ من فورهُ يعد لنفسه آلات وأسلحة على غرار ما للحيوان منها، بل تفوقها، فالإنسان - كما قال فرانكلن - حيوان صانع للآلات(24) لكن هذه الميزة أيضاً - كسائر ما نُضفيه على الإنسان من ميزات نزهى بها ونفخر - إن هي إلا تفوق على الحيوان في الدرجة وحدها لا في النوع.

وكان النبات الذي يحيط بالإنسان البدائي مصدراً لكثير من الآلات، فمن الخيزران صنع الإنسان السهام والمدى والإبر والقوارير؛ ومن فروع الشجر صنع الملاقط والمماسك؛ ومن لحاء الشجر وأليافه صنع الحبال والثياب في صنوف شتى؛ وفوق هذا كله صنع الإنسان لنفسه العصا؛ ألا ما أبسطها اختراعاً لكنها من كثرة النفع بحيث لبث الإنسان ينظر إليها رمزاً للقوة والسلطان، من العصا السحرية عند عرائس الجن وعكازة الراعي إلى عصا موسى أو هارون، والعصا العاجية التي كان يمسك بها القنصل أيام دولة الرومان، والقضيب الذي يلوح به المنبئون بالغيب ثم الصولجان يمسك به القاضي أو الملك؛ ولقد انقلبت العصا في الزراعة فأساً، أما في الحروب فقد أصبحت حربة أو سهماً أو رمحاً أو سيفا أو سنكيا(25). وكذلك استغل الإنسان المعادن وصاغ الصخر أسلحة وأدوات هي اليوم تحفة المعارض، فصنع منها المطرقة والسندان والوعاء يغلي فيه الماء، والسكين، ورأس الرمح، والمنشار، والصفائح، والخوابير، والروافع، والفئوس، والمثاقب؛ وكذلك من دنيا الحيوان صنع أدواته، فصنع المغارف، والملاعق، والأواني، والأطباق، والأقداح، والمراسي، والمشابك؛ صنع هذا كله من قواقع الشاطئ، كما صنع غير ذلك من الأدوات الغليظة والدقيقة من قرون الحيوان وأنيابه وأسنانه وعظامه وشعره وجلده؛ وكان لمعظم هذه الأدوات المصنوعة مقابض من خشب شُدت إليها بطرق تدل على مهارة صانعيها، فقد كانوا يربطون هاتيك المقابض بضفائر من الألياف أو الحبال أو عصب الحيوان، وأحياناً كانوا يلصقونها بغراء مصنوع من مزيج عجيب من الدماء؛ إن مهارة الإنسان البدائي توازي على الأرجح - بل ربما تفوق - مهارة الإنسان المتوسط في عصرنا الحديث، فلئن كنا نختلف عن هؤلاء الأولين، فما ذاك إلا بفضل ما تجمع لدينا من معارف وأدوات ومواد، ولا يُعزى الفرق بيننا وبينهم إلى تفوق فكري امتازت به طبائعنا من دونهم؛ الحق أن أبناء الطبيعة أولئك يغتبطون أيما غبطة كلما سيطروا على موقف اعترضهم، سيطرة أعملوا فيها أذهانهم المبدعة؛ فبين وسائل اللهو المحببة إلى الإسكيمو أن يذهبوا إلى أماكن وعرة مهجورة، ثم يتسابقون هناك في ابتكار الوسائل التي يواجهون بها ضرورات الحياة التي ليس لديهم ما يستعينون عليها به من أدوات(26). وتبدّت مهارة الإنسان البدائي في فن النسيج على صورة جديرة منه بالفخر، وهاهنا أيضاً اهتدى الإنسان بالحيوان في طريق السير، فنسيج العنكبوت وعش الطائر، وتشابك الألياف والأوراق وتقاطعها في النسيج الطبيعي الذي تراه في الغابة، كل ذلك أقام للإنسان نموذجاً بارزاً يجتذبه، وإنه لنموذج بلغ من الوضوح حداً يجعلنا نرجح أن قد كان النسيج من أول الفنون التي اصطنعها الجنس البشري، فنسج اللحاء والأوراق والألياف والحشائش ليصنع منها ثياباً وبُسُطا وأغطية لجدرانه، ولقد أتقن صنعها في بعض المواضع بحيث لا تجد من صناعة اليوم ما يفوقها بكل ما للصناعة اليوم من مُعينات وآلات؛ فنساء "ألوشيا" قد ينفقن عاماً كاملا في نسج ثوب واحد؛ والهنود في أمريكا الشمالية يصنعون البطاطين والأردية فيزخرفونها بالهُداب ويوشونها بالشعر وخيوط القصب المصبوغة بناصع الألوان التي استقطروها من التوت، حتى لقد قال عنها "الأب ثيودى" Father Theodut: "إنها من النصوع بحيث لا أظن أن ألواننا تدنو منها" (27)؛ فقد بدأ الفن حيث انتهت الطبيعة؛ فهذه هي عظام الطيور والأسماك، وهذه هي قصبات الخيزران الدقيقة، قد تناولها الإنسان بالصقل حتى جعل منها إبراً، ثم هذه أعصاب الحيوان قد شُدت خيوطاً بلغت من الرقة حداً تنفذ به من سم الخياط مهما بلغ هذا من دقته وضيقه؛ وكذلك جعل الإنسان من اللحاء فراشاً وقماشاً، وجفف جلود الحيوان ليصنع منها رداء وحذاء، وضفر الألياف نسيجاً قوياً ونسج الغصون اللينة والألياف الملونة سلالا أجمل مما ينتجه العصر الحديث في هذا الباب(28).

وصناعة الخزف قريبة الشبه بصناعة السلال، بل ربما كانت مأخوذة عنها، فهم يصنعون العجينة على إطار من أغصان الصفصاف المجدولة حتى لا تحترق هذه الأغصان، وبذلك يتصلب الطين غلافاً لا يقبل الاشتعال، ويحتفظ بهيئته بعد أن يزال عنه إطار الصفصاف(29)، ربما كانت هذه أول مرحلة من مراحل طريق أخذ يتطور حتى بلغ القمة في الصناعة الخزفية المثلى المعروفة باسم "البورسلان" أو ربما جففت أشعة الشمس قطعاً من الطين ألقيت فيها، فكان ذلك منبها للإنسان إلى فن الخزف؛ فما عليه بعد ذلك إلا أن يخطو خطوة واحدة، وهي أن يستبدل بالشمس ناراً، ثم يصنع لنفسه من تربة الأرض آنية مختلفة الصور يستخدمها في شتى جوانب العيش - يستخدمها للطهي، وللخزن، وللنقل، وأخيراً يستخدمها للأبهة والزينة، والزخارف التي كان يطبعها بأظفاره أو بآلاته على الطينة وهي بعدُ عجينة طرية، كانت إحدى صور الفن في أول نشأته، وربما كانت كذلك في إحدى مصادر الكتابة الأولى.

ومن الطين الذي جففته الشمس صنعت القبائل البدائية الآجر وأقامت الدور، ثم سكنت فيما يصح أن نسميه بيوتا من خزف، لكن هذه البيوت الخزفية لم تكن أول صورة من صور البناء، التي أخذت تتطور في رقيها من الكوخ الطيني الذي سكنه "الهمجي" إلى أن بلغت أحجار البناء الراقية في مباني نينوى وبابل؛ ولقد تسلسل هذا التطور حلقة بعد حلقة بتماسك بعضها ببعض بحيث تؤدي الواحدة إلى التي تليها؛ فبعض الشعوب البدائية - مثل الفيداويين في جزيرة سيلان - لم يكن لهم دُور للسكنى، واكتفوا بالأرض وطاء، والسماء غطاء، وبعضها - مثل أهل تسمانيا - أووا إلى جذوع الشجر الخاوية؛ وبعضها - مثل سكان جنوب ويلز الجديدة - اتخذوا الكهوف مسكناً؛ وبعضها - مثل البوشمن - كانوا يتقون الريح بحواجز يقيمونها هنا وهناك من أغصان الشجر، وأحياناً نادرة كانوا يغرزون في الأرض أحجاراً ثم يغطونها بالطحلب وفروع الشجر؛ ومن هذه الحواجز التي أقيمت لاتقاء الريح، خرجت الأكواخ حين أضيفت إلى الحواجز جوانب عند أطرافها؛ وإنك لترى الكوخ في كل مراحل تطوره مائلا بين سكان استراليا الأصليين، تراه من بدايته حيث كان يقام صغيراً من الغصون والأعشاب والتراب، ولا يسع إلا شخصين أو ثلاثة، إلى الأكواخ الكبيرة التي تؤوى ثلاثين شخصاً أو يزيد. وأما البدوي، صائداً كان أو راعياً، فقد آثر لنفسه خيمة في مستطاعه حلها معه أينما انتهى به طرادُه لصيده، لكن الطبقات العليا من القبائل الفطرية، مثل الهنود الأمريكيين، استخدمت الخشب في بنائها؛ وكذلك كانت قبيلة "إراكوا" تبني من الحطب الذي لا يزال مغطى بقشوره، أبنية فسيحة طولها خمسمائة قدم، وتؤوى عدداً كبيراً من الأسر؛ وأخيراً ترى أهل "أوقيانوسيا" يشيدون دُوراً حقيقية من ألواح الخشب التي أتقن قطعها وبهذه الدور وصل التطور في المساكن الخشبية أكمل مراتبه(30).

لم يبقى أمام الإنسان البدائي إلا ثلاث خطوات في طريق التطور لتتم له ضرورات المدنية الاقتصادية كلها: آلات النقل، وعمليات التجارة، ووسائل التبادل، إنك إذا أبصرت بالحمّال يحمل المتاع من طيارة حديثة لينزله على الأرض، فقد رأيت صورة النقل في أول مراحله وفي آخر مراحله معا؛ فلاشك أن قد كان الرجل في بداية الأمر يحمل أثقال نفسه بنفسه، اللهم إلا إذا تزوج (فتكون الزوجة حاملة أثقاله) بل إن الإنسان إلى يومنا هذا، في آسيا الجنوبية والشرقية، تراه في الأعم الأغلب عربة وحمارا وكل شيء؛ ثم أخترع الإنسان الحبال والروافع وبكرات الجر؛ سيطر على الحيوان واستخدمه ناقلا لأحماله؛ ثم صنع أول ما شهد التاريخُ من جرارات حين جعل ماشيته تجر على الأرض غصوناً طويلة وضع عليها متاعه ؛ ثم وضع جذوعا من الشجر تحت الجرارة كأنها عجلات؛ ثم قطع الجذوع شرائح مستعرضة وابتكر بذلك أعظم اختراع آلي، وهو العجلة، لأنه وضع العجلات تحت الجرارة وصنع بذلك عربة؛ ومن جذوع الشجر كذلك صنع الأطواف بربط الجذوع بعضها ببعض، كما صنع الزوارق بحفر الجذوع وتفريغ أجوافها، ولما تم له ذلك أصبحت مجاري الماء أيسر طرق النقل؛ وأما على اليابس فقد شق لنفسه الطريق بادئ ذي بدء عبر المروج والتلال التي لم يكن فيها طريق؛ ثم عبَّد لنفسه سكةً ثم رصف آخر الأمر طريقاً، ودرس النجوم وأخذ بعدئذ يسير بقوافله عبر الجبال والصحراوات مهتدياً إلى طريقه بالنظر إلى السماء؛ وطفق الإنسان يسبح بزورقه دافعا إياه بالمجداف والشراع حتى عبر البحر في شجاعة من جزيرة إلى جزيرة، وأخيراً قطع المحيطات لينشر ثقافته المتواضعة من قارة إلى قارة؛ ففي هذا الصدد أيضا حُلت المشكلات الرئيسية قبل أن يبدأ التاريخ المدون.

ولما كانت الكفايات البشرية والموارد الطبيعية موزعة على الأرض في غير مساواة، فقد ترى شعباً من الشعوب قادراً بفضل ما تطور لديه من استعدادات خاصة، أو بفضل قُربه من المواد المطلوبة، تراه قادراً على إنتاج أشياء معينة لا يكلفه إنتاجها ما يكلف جيرانه؛ فيمضي في صنع هذه الأشياء حتى يصنع منها أكثر من حاجته، وعندئذ يقدم فائض إنتاجه لجيرانه في مقابل ما ينتجونه هم؛ وهذا التبادل هو أصل التجارة؛ فهنود شبشا في كولومبيا كانوا يصدرون صخور الملح التي تكثر في بلادهم، ويستوردون مقابل ذلك الغلال التي يستحيل استنباتها في أرضهم القاحلة؛ وبعض القرى التي يسكنها الهنود الأمريكيون كادت أن تتخصص في صناعة رءوس الرماح، بينما تتخصص بعض القرى في غانة الجديدة في صنع الأواني الخزفية؛ كذلك في إفريقية ترى من هذه القبائل ما يجعل الحدادة صناعته، ومنها ما يجعل صناعته الزوارق أو الرماح؛ ومثل هذا التخصيص في القبائل أو القرى كثيراً ما أكسبها اسم صناعتها، (فيطلق عليها الحدَّاد، أو السَّمَّاك أو الخزاف . . .)، ثم انتقلت هذه الأسماء مع الزمن إلى الأسر التي اختصت نفسها بهذه الصناعة أو تلك(30 أ)؛ والتجارة بفائض الإنتاج كانت في أول أمرها تبادلا بالهدايا، بل إنك لترى في أيامنا هذه التي تحسب كل شيء بالأرقام أنه قد تكون الهدية (حتى ولو كانت دعوة على الطعام) مقدمة لصفقة تجارية أو خاتمة لها؛ ومما يَسَّرَ التبادل الحروب والسرقات والجزية والغرامات والتعويض، فكل هذه وسائل عملت على انتقال السلع من مكان إلى مكان، إذ لم يكن للإنسان مندوحة عن ذلك؛ ثم أخذ نظام للتبادل ينشأ رويداً رويداً، فأقيمت مراكز التجارة والأسواق والمتاجر - أقيمت أول الأمر آناً بعد آن في غير نظام، ثم أقيمت على فترات معلومة، ثم أصبحت دائمة - وفي هذه الأماكن جَعلَ من يملك سلعة فائضة عن حاجته يعرضها مقابل سلعة هو بحاجة إليها(31).

لبثت التجارة أمداً طويلا وهي لا تزيد عن هذا التبادل، ومضت قرون قبل أن تخترع وسيلة متداولة ذات قيمة فتعمل على سرعة الحركة التجارية؛ فقد كان الرجل من قبيلة "دياك" يجوز له أن يظل جائلاً في أنحاء السوق ممسكاً بيده كرة من شمع العسل، وباحثاً عن زبون في مستطاعه أن يقبلها منه مقابل شيء يمكن أن يكون أنفع له(32)؛ وأول وسائل التبادل كانت سلعاً يطلبها كل إنسان ويقبلها كل بائع ثمناً لبضاعته: كالبلح والملح والجلود والفراء والحلي والآلات والأسلحة؛ وفي مثل هذا التبادل كانت المدُيتان تساويان زوجا من الجوارب، والثلاثة معاً تساوي بطانية، والأربعة كلها تساوي بندقية، والخمسة جميعاً تساوي جواداً؛ كذلك كان أيّلان صغيران يساويان مُهراً، وثمانية أمهُرٍ تساوي زوجة(33)؛ إنك لا تكاد تجد شيئاً لم يستعمله الناس استعمالهم للنقود هنا أو هناك، وفي هذا الزمن أو ذاك: الفول وشصُّ السمك والقواقع واللؤلؤ والخرز وجوز الهند والحبوب والشاي والفلفل، وأخيراً الأغنام والخنازير والأبقار والعبيد؛ وكانت الماشية معياراً مناسباً لقياس القيمة ووسيلة للتبادل بين الصائدين والرعاة، فهي تربح بالتربية وهي سهلة الحمل لأنها تنقل نفسها؛ فتجد الناس والأشياء حتى عهد هومر يقوَّمون بالماشية: فدرع "ديومديز" قيمتها تسعة رءوس من الماشية، وعبد ماهر يساوي أربعة؛ واللفظتان اللتان استعملهما الرومان للماشية وللمال متشابهتان، فللأولى استعملوا لفظة Pecus وللثانية Pecunia؛ وكذلك طبعوا صورة الثور على نقودهم القديمة؛ بل إن الكلمة التي تستعملها اللغة الإنجليزية لرأس المال وهي Capital ترتد في تاريخها عن طريق اللغة الفرنسية إلى الكلمة اللاتينية Capitale ومعناها مِلك، وهذه الكلمة بدورها مشتقة من Caput التي تعني "رأس" والمقصود رأس من الماشية، فلما أن استنجمت المعادن أخذت تحل شيئاً فشيئاً محل سائر الأشياء في استعمالها معياراً للقيمة، مثال ذلك النحاس والبرونز والحديد، وأخيراً الذهب والفضة لأنهما يمثلان قيمة كبيرة في حيز صغير ووزن قليل، فأصبحا وسيلة التعامل للإنسان كافة، وهذا الانتقال من السلع المعيارية في التبادل إلى العملة المعدنية لم يتم على أيدي البدائيين في أرجح الظن، إنما هي خطوة خطاها الناس إبان التاريخ المدّون، فاخترعوا العملة وابتكروا الدين، وهكذا زادوا ثروة الإنسان ورخاءه حين يسروا تبادل فيض ما ينتجون(34).


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث: التنظيم الاقتصادي

الشيوعية البدائية - أسباب زوالها - أصول الملكية الخاصة - الرق - الطبقات

كانت التجارة أعظم مثير للعالم البدائي، لأنه لم يكن هناك مِلك، وبالتالي لم يكن هناك من نظم الحكم إلا قليل، قبل أن تدخل في حياة الناس وتجر وراءها ذيولها من أموال وأرباح، ففي المراحل الأولى من التطور الاقتصادي كانت الملكية محصورة- في الأعم الأغلب- في حدود الأشياء التي يستخدمها المالك لشخصه، وكان معنى الملكية هذا من القوة بحيث لازمت الأشياء المملوكة مالكها، فغالباً ما دفنت معه في قبره (وانطبق هذا على الزوجة نفسها)، وأما الأشياء التي لا تتعلق بشخص المالك فلم تكن الملكية مفهومة بالنسبة إليها مثل هذا الفهم القوي، فلا يكفي أن نقول إن فكرة الملكية ليست فطرية في الإنسان، إنما يجب أن تضيف إلى ذلك أنها في مثل هذه الأشياء البعيدة عن شخصية المالك، كانت من الضعف في أذهان الناس بحيث تحتاج إلى تقوية مستمرة وتلقين مستمر.

فتكاد تجد الأرض في كل الشعوب البدائية ملكا للمجتمع بأسره، فالهنود في أمريكا الشمالية، وأهالي بيرو، وقبائل الهنود التي على تل تشيتاجونج، وأهل بورنيو، وسكان الجزر في البحر الجنوبي، مثل هؤلاء- فيما نرجح- كانوا يملكون الأرض جماعة ويحرثونها جماعة ويقتسمون الثمار جماعة، وفي ذلك قال هنود أوماها: "إن الأرض كالماء والهواء لا يمكن أن تباع"، وكذلك لم يكن بيع الأرض معروفا في سامُوا قبل قدوم الرجل الأبيض، ولقد وجد الأستاذ رِفرز شيوعية الأرض لا تزال قائمة في ميلانزيا وبولينزيا، ويمكنك أن تلحظها اليوم قائمة في داخل ليبريا(35).

وأما شيوعية القوت فقد كانت أقل من ذلك انتشاراً، فمن المألوف عند "الهمج" أن من يملك طعاماً يقتسمه مع من لا يملك منه شيئاً؛ كما كان من المألوف كذلك للمسافرين إذا ما أرادوا طعاماً أن يقفوا عند أي دار يشاءون في طريقهم، بل كان من المألوف أن تستعين الجماعات التي ينزل بها القحط بجيرانها(36)، وكان إذا ما جلس إنسان في الغابة ليأكل وجبته، توقع منه الناس أن يصيح لمن أراد أن يشاطره الطعام قبل أن يبدأ هو في تناوله، وبغير ذاك لا يكون الصواب في جانبه(37)؛ فلما قص "تيرنر" على رجل من "ساموا" قصة فقير في لندن، سأله "الهمجي" في دهشة: "وكيف هذا؟ أليس هناك طعام؟ أليس له أصدقاء؟ أليس في المكان بيت للسكنى؟ أين إذن نشأ هذا الفقير؟ أليس لأصدقائه منازل" (38)؟ والجائع من الهنود ما عليه ألا أن يسأل فيجاب سؤاله بالعطاء، فمهما يكن مورد الطعام ضئيلاً عند المعطي، فأنه لابد أن يعطي منه هذا السائل ما دام محتاجا؛ "فيستحيل أن تجد إنساناً يعوزه القوت ما دامت الغلال موجودة في مكان بالمدينة" (39)؛ وكانت العادة عند الهوتنتوت أن يقتسم من يملك أكثر من سواه هذه الزيادة حتى يتساوى الجميع؛ وقد لاحظ الرحالة البيض أثناء رحلاتهم في إفريقية قبل أن تدخلها المدنية، لاحظوا أن "الرجل الأسود" إذا ما قدمت له هدية من طعام أو غيره من الأشياء ذوات القيمة، فإنه يقسمها بين ذويه فوراً؛ وإذا ما أعطى المسافر بدلة لأحد هؤلاء السود، فسرعان ما يرى الموهوب يلبس من الهبة جزءاً كالقبعة مثلاً، ثم يرى صديقا له يلبس السراويل وصديقا آخر يرتدي السترة، وكذلك الإسكيمو لا يرون للصائد حقا شخصيا في امتلاك صيده، بل يلزم توزيعه على أهل القرية جميعاً، وكانت الآلات والمخزون من الطعام ملكا مشاعا بين الجميع وقد وصف "كابتن كارفر" Captain Carver هنود أمريكا الشمالية فقال "إنهم لا يعرفون من فوارق الملكية شيئا سوى الأدوات المنزلية ... وهم أسخياء بعضهم لبعض غاية السخاء، وإذا ما فاض عند أحدهم فيض ونَقص عند الآخر ما يحتاج إليه، فلابد أن يسد الأول بفيضه نقص زميله" وكذلك كتب مبشر ديني يقول: "إن ما يثير الدهشة العميقة أن تراهم يعاملون بعضهم بعضاً برقة ومجاملة قَلَّ أن تراهما عند أكثر الأمم تحضراً؛ وذلك بغير شك يرجع إلى لفظتي "ملكي" و "ملكك" اللتين قال عنهما القديس كريسوستم Chrysostom إنهما تخمدان في قلوبنا شعلة الإحسان وتشعلان نار الجشع، لا يعرفهما هؤلاء الهمج "ويقول شاهد آخر: " لقد رأيتهم يقتسمون الصيد إذا كان لديهم ما يقتسم، لكني لا أذكر مثلاً واحداً لتنازعهم أو لتوجيههم النقد لطريقة التقسيم كأن يقولوا إنه غير عادل أو غير ذلك من أوجه الاعتراض؛ إن الواحد منه ليؤثر أن يرقد على معدته الخاوية، على أن يُتَّهم بأنه أبى أن يعين المحتاج . . . إنهم يعدون أنفسهم أبناء أسرة واحدة كبيرة" (40). لماذا اختفت الشيوعية البدائية حين نهض الإنسان إلى ما نطلق عليه في شيء من التحيز اسم المدنية؟ يعتقد "سمنر" Sumner أنها دلت على أنها ليست بيولوجية في اتجاهها لأنها عقبة في سبيل تنازع البقاء، وأنها لم تحفز الناس بما يكفي لتشجيعهم على الاختراع والنشاط والاقتصاد، وأن عدم مكافأتها للأقدر وعقابها لمن هو أقل قدرة سوى بين الكفايات تسوية تعاند النمو وتعارض التنافس الناجح مع سائر الجماعات (41)، وكتب "لوسكيل" Loskiel عن بعض القبائل الهندية في الشمال الشرقي يقول: "إنهم من الكسل بحيث لا يزرعون شيئاً بأنفسهم، بل يعتمدون كل الاعتماد على احتمال أن غيرهم لن يرفض أن يقاسموه في إنتاجه؛ ولما كان النشيط لا يتمتع من ثمار الأرض بأكثر مما يتمتع الخامل، فإن إنتاجهم يقل عاما بعد عام" (42)؛ ومن رأى دارون أن المساواة التامة بين الفويجيين تقضي على كل أمل في تحضرهم (43) أو ربما قال الفويجيون في ذلك إن المدنية إذا ما أتتهم فإنها ستقضي على المساواة القائمة بينهم؛ نعم إن الشيوعية طمأنت هؤلاء الذين خلصوا بحياتهم من حوادث الفقر والجهل وما يترتب عليهما من مرض في المجتمع البدائي، لكنها لم تنتشلهم من ذلك الفقر انتشالا، وأما الفردية فقد جاءت بالثراء، لكنها كذلك جرَّت معها القلق والرق، نعم إن الفردية حركت في الممتازين من الرجال قواهم الكامنة، لكنها كذلك نفخت نار التنافس في الحياة فأشعلتها، وجعلت الناس يحسون الفقر إحساساً مريراً، مع أن هذا الفقر لم يكن ليؤذي أحداً حين استوى فيه الجميع .

تستطيع الشيوعية أن تعيش في سهولة أكثر في مجتمعات دائمة الانتقال، لا يزول عنها الخطر والعوز؛ فالصائدون والرعاة ليس بهم حاجة إلى مِلك يحتفظون به، لكن لمّا أصبحت الزراعة صورة الحياة المستقرة، لم يلبث الناس أن تبينوا أن العناية بالأرض تبلغ أقصاها من حيث غزارة الثمر إذا ما عاد جزاء تلك العناية إلى الأسرة التي قامت بها؛ فنتج عن ذلك بحكم الانتخاب الطبيعي الكائن بين النظم الاجتماعية والأفكار، كما هو كائن بين الأفراد والجماعات ينتج أن الانتقال من الصيد إلى الزراعة استتبع تحولا من الملكية القبلية إلى ملكية الأسرة وبذلك أصبحت أكثر الوحدات الاجتماعية اقتصادا في نفقات الإنتاج، هي كذلك وحدة الملكية؛ فلما أن أخذت الأسرة شيئاً فشيئاً تتخذ الصورة الأبوية التي تركز السلطة كلها في أكبر الذكور سنا، أخذت الملكية كذلك يزداد تركزها شيئاً فشيئاً في أيدي أفراد، ثم نشأ التوريث لشخص معين عن شخص معين؛ ولما كان كثيراً ما يحدث لفرد مغامر أن يغادر مرفأ الأسرة الآمن، ليضرب بمغامراته خارج الحدود التي وقف عندها ذووه، ثم ينتهي به العمل المتصل الشاق أن يستولي على قطعة أرض من الغابة أو الحَرج أو المستنقع؛ فإنه يحرص عليها حرصاً شديداً لا يسمح لغيره بانتزاعها لأنها ملكه الخاص، حتى لتضطر الجماعة في النهاية أن تعترف بحقه فيها، وبهذا نشأ ضرب آخر من ضروب الملكية الفردية (43 أ) ومثل هذا الاستيلاء على الأراضي أخذ يزداد اتساعاً حين ازداد السكان واستُنفِذَت قوة الأرض القديمة، حتى وصل الأمر في المجتمعات الأكثر تعقيدا من سواها، إلى أن باتت الملكية الفردية هي النظام السائد، ثم جاء اختراع المال فساعدته هذه العوامل بتيسيره لجمع الثروة ونقلها وتحويلها؛ واتخذت حقوق القبيلة القديمة وتقاليدها صورة الملكية بمعناها الدقيق، وأما المالك عندئذ فهو أهل القرية جماعةً أو الملك، ثم خضعت الملكية لإعادة التوزيع حيناً بعد حين؛ ومضى هذا العصر الذي جعل أمر الملكية يتذبذب فيه على هذا النحو من طرف إلى طرف، بين النظام القديم والنظام الجديد، وبعدئذ استقرت الملكية الفردية الخاصة استقراراً لا شبهة فيه، وأصبحت هي النظام الاقتصادي الأساسي الذي أخذت به المجتمعات في العصور التي دوَّن أخبارها التاريخ.

لكن بينما كانت الزراعة تنشئ المدنية إنشاءً، فإنها إلى جانب انتهائها إلى نظام الملكية، انتهت كذلك إلى نظام الرق الذي لم يكن معروفا في الجماعات التي كانت تقيم حياتها على الصيد الخالص. لأن زوجة الصائد وأبناءه كانوا يقومون بالأعمال الدَّنيَّة، وكان فيهم الكفاية لذلك، وأما الرجال فقد كانت تتعاقب في حياتهم مرحلة تضطرب بنشاط الصيد أو القتال يتلوها مرحلة من فتور الاسترخاء والدَّعة بعد الإجهاد والعناء؛ ولعل ما تنطبع به الشعوب البدائية من كسل قد بدأ- فيما نظن- من هذه العادة، عادة الاستجمام البطيء بعد عناء القتال والصيد؛ ولو أنها لم تكن عندئذ كسلا بمقدار ما كانت راحة واستجماماً؛ فلكي تحول هذا النشاط المتقطع إلى عمل مطرد، لا بد لك من شيئين: العناية بالأرض عناية تتكرر كل يوم، وتنظيم العمل.

وأما تنظيم العمل فيظل مُنحَلَّ العرى لَدُنّىَّ النشاط ما دام الناس يعملون لأنفسهم؛ لكنهم إذا كانوا يعملون لغيرهم فإن تنظيم العمل لا بد أن يعتمد في النهاية على القوة والإرغام؛ وذلك أن نشأة الزراعة وحدوث التفاوت بين الناس انتهيا إلى استخدام الضعفاء اجتماعياً بواسطة الأقوياء اجتماعياً، ولم يتنبه الظافر في القتال قبل ذلك إلى أن الأسير الذي ينفعه هو الأسير الحي، وبذلك قلت المجازر وقل أكل الناس بعضهم لحوم بعض، كلما زاد نظام الرق اتساعاً(44) وإذن فقد تقدم الإنسان من حيث الأخلاق تقدماً عظيماً حين أقلع عن قتل زميله الإنسان أو أكله، واكتفى من أعدائه باسترقاقهم؛ وإنك لترى تطورا كهذا يتم اليوم على نطاق واسع، إذا أقلعت الأمم الظافرة عن الفتك بالعدو المغلوب، واكتفت باسترقاقه عن طريق التعويض الذي تقتضيه إياه؛ ولما استقر نظام الرق على أسسه وبرهن على نفعه، أخذ يزداد نطاقه بأن أضيف إلى الرقيق طوائف أخرى غير الأسرى، فأضيف إليهم المَدِينون الذين لا يوفون الدَّين، والمجرمون الذين يعاودون الإجرام، هذا إلى إغارات تُشَنُّ عمداً لاجتلاب الرقيق؛ وهكذا كانت الحرب بادئ الأمر عاملا على نشأة الرق؛ ثم أصبح الرق عاملا على شن الحروب.

ولعل نظام الرق حين امتدت به القرون قد اكسب الجنس البشري تقاليده وعاداته من حيث العمل، فلن تجد بيننا أحداً يقدم على عمل شاق عسير إذا كان في مقدوره أن يتخلص منه بغير أن يتعرض لشيء من العقاب البدني أو الاقتصادي، وإذن فقد بات الرق جزءاً من النظام الذي استعد به الإنسان للقيام بالصناعة، هذا فضلاً عن أنه عمل على تقدم المدنية بطريق غير مباشر، بأن زاد من الثروة فَخَلق الفراغ لفئة قليلة من الناس، ولما مَضَت قرون على هذا النظام، جعل الناسُ ينظرون إليه كأنه نظام فطري لا غنى عنه، بهذا قال أرسطو وكذلك بارك القديس بولس هذا النظام الاجتماعي الذي لا بد أن يكون قد بدا لعينيه في عصره نظاماً قضى به الله.

هكذا أخذت الزراعة وأخذ نظام الرق، كما أخذ تقسيم العمل وما يقتضيه من اختلاف بين الناس، أخذ كل هذا يستبدل شيئاً فشيئاً بالمساواة التي كانت قائمة في الجماعة الطبيعية تفاوتاً وانقساماً إلى طبقات "ففي الجماعة البدائية لا ترى- على وجه العموم- فارقاً بين حرّ وعبد، ولا تجد فيها رقا ولا طبقات، ثم لا تدرك من الفوارق بين الرئيس وتابعيه إلا قدراً ضئيلاً" (45). وبالتدريج ازدادت الآلات والصناعات تعقداً، فعمل ذلك على إخضاع الضعيف العاجز إلى مشيئة القوي الماهر، وكان كلما ظهر اختراع جديد، أصبح سلاحاً جديداً في أيدي الأقوياء، فزاد من سلطانهم على الضعفاء واستغلالهم لهم ثم عمل نظام التوريث على اتساع الهوة بأن أضاف إلى الامتياز في الفُرَص السانحة امتيازاً في الأملاك، فقسمت المجتمعات التي كانت يوماً متجانسة إلى عدد لا يحصيه النظر من طبقات وأوساط؛ وأحس الأغنياء والفقراء بغناهم أو فقرهم إحساساً يؤدي إلى التشاحن، وأخذت حرب الطبقات تسري خلال عصور التاريخ كأنها خيط أحمر، فاقتضى هذا النزاع بين الطبقات قيام الدولة التي لم يعد عن قيامها محيص لتنظيم تلك الطبقات ولحماية الأملاك ولشن الحروب ولتنظيم السلام.