قصة الحضارة - ول ديورانت - م 1 ج 13
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> قيام دولة الميديين وسقوطها
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الكتاب الأول: الشرق الأدنى
الباب الثالث عشر: فارس
الفصل الأول: قيام دولة الميديين وسقوطها
أصولهم - حكامهم - معاهدة سرديس الدموية - انحطاطهم
ترى من هم الميديون الذين كان لهم شأن أيما شأن في تحطيم دولة أشور؟ أما معرفة أصلهم فأمر معجز الدرك عزيز المطلب، ذلك أن التاريخ كتاب يجب أن يبدأه الإنسان من وسطه. وأول ما وصل إلينا من أخبارهم في لوحة تسجل حملة بعث بها شلما نصّر الثالث إلى بلد يسمى بارسوا في جبال كردستان (837 ق. م). ويلوح أنه كان في ذلك البلد سبعة وعشرون من الرؤساء- الملوك، يحكمون سبعاً وعشرين ولاية قليلة السكان يسمى أهلها أماداي أو ماداي أو ميديين. وهم أقوام من الجنس الهندوربّي يرجح أنهم جاءوا من شواطئ بحر الخزر إلى غرب آسية قبل المسيح بنحو ألف عام، ويشيد الزند- أبستاق وهو كتاب الفرس المقدس بذكر هذا الموطن القديم ويصفه بأنه جنة من الجنان.
ذلك أن الأرض التي نقضي فيها شبابنا، وأيام هذا الشباب نفسه، جميلة على الدوام على شريطة ألا نضطر إلى الحياة من جديد في تلك الأرض أو في تلك الأيام.
ويلوح أن الميديين كانوا يضربون في إقليم بخارى وسمرقند، وأنهم توغلوا منه نحو الجنوب شيئاً فشيئاً، حتى وصلوا آخر الأمر إلى بلاد فارس(1)، فوجدوا النحاس والحديد والرصاص والذهب والفضة والرخام والحجارة الكريمة في الجبال التي اتخذوها موطناً لهم جديداً(2)، ولما كانوا قوماً أشداء بسطاء في معيشتهم، فقد أخذوا يفلحون أرض السيول وسفوح التلال وعاشوا عيشة رخية.
وفي إكباتانا أي "ملتقى الطرق الكثيرة" الواقعة في واد جميل المنظر أخصبته المياه الذائبة من الثلوج المغطية لقمم الجبال أنشأ ديوسيس أول ملوكهم عاصمته الأولى، وزينها بقصر ملكي يشرف عليها ويغطي ثلثي ميل مربع من الأرض. ويقول هيرودوت في فقرة من كتابه لم تجد ما يؤيدها: إن ديوسيس هذا قد وصل إلى ما وصل إليه من القوة بما اشتهر به من العدالة. فلما أن بلغ ما بلغ طغى وتجبر وأصدر أوامر تقضي "بأن لا يسمح لإنسان بالمثول بين يديه، بل عليه أن بعرض أمره على يد رسله، وأن يعد من سوء الأدب أن يضحك إنسان أو يبصق أمامه. وقد أراد بهذه المراسم التي فرضها حوله... أن يبدو لمن لا يرونه أنه من طبيعة غير طبيعتهم"(3). واشتد ساعد الميديين في أيامه بفضل حياتهم الطبيعية الاقتصادية، وأصبحوا بتأثير عاداتهم وبيئتهم ذوي جلد وصبر على ضرورات الحروب، فكانوا بزعامته خطراً يهدد أشور، فأغارت هذه على بلاد ميديا مرة بعد مرة. وظنت أنها قد هزمتها هزيمة منكرة لا تجرؤ معها على مناوئتها ولكنها وجدتها لا تمل الكفاح لنيل حريتها. واستطاع سياخار (سيساكزارس) أعظم ملوك الميديين أن يحسم هذا النزاع بتدمير نينوى. وأوحى هذا النصر آمالاً كباراً فاجتاحت جيوشه بلاد آسية الغربية حتى وصلت إلى أبواب سرديس، ولم يَرُدّ هذه الجيوش عنها إلا كسوف الشمس. فقد ارتاع القائدان المتقاتلان لهذا الذي ظناه نذيراً لهما من السماء، فوقّعا معاهدة للصلح أبرماها بأن شرب كل منهما جرعة من دماء عدوه (4). ومات كيخسرو في السنة التالية بعد أن وسع رقعة دولته في خلال حكمه وحده فأصبحت إمبراطورية تشمل أشور وميديا وفارس بعد أن كانت خاضعة لسلطان غيرها. لكن هذه الإمبراطورية قضي عليها ولم يمض على وفاة هذا الملك جيل واحد.
وقد كانت هذه الدولة قصيرة الأجل، فلم تستطع لهذا السبب أن تسهم في الحضارة بقسط كبير، إذا ما استثنينا ما قامت به من تمهيد السبيل إلى ثقافة بلاد الفرس. فقد أخذ الفرس عن الميديين لغتهم الآرية، وحروفهم الهجائية التي تبلغ عدتها ستة وثلاثين، وهم الذين جعلوا الفرس يستبدلون في الكتابة الرق والأقلام بألواح الطين(5)، ويستخدمون في العمارة العمد على نطاق واسع. وعنهم أخذوا قانونهم الأخلاقي الذي يوصيهم بالاقتصاد وحسن التدبير ما أمكنهم في وقت السلم، وبالشجاعة التي لا حد لها في زمن الحرب؛ ودين زردشت وإلهيه أهورا- مزدا، وأهرمان، ونظام الأسرة الأبوي، وتعدد الزوجات، وطائفة من القوانين بينها وبين قوانينهم في عهد إمبراطوريتهم المتأخر من تماثل ما جعل دانيال يجمع بينهما في قوله المأثور عن "شريعة ميدي وفارس التي لا تنسخ"(6). أما أدبهم وفنهم فلم يبق منهما لا حرف ولا حجر.
على أن انحطاط الميديين كان أسرع من نهضتهم نفسياً. فقد أثبت استياجس، الذي خلف أباه سياخار، ما أثبته التاريخ من قبل، وهو أن الملكية مغامرة لا تؤمن مغبتها، وأن الذكاء المفرط والجنون يتقاربان كل القرب في وراثة المُلك.
لقد ورث المُلك مطمئن القلب هادئ البال، وأخذ يستمتع بما ورث، وحذت الأمة حذو مليكها فنسيت أخلاقها الجافة الشديدة وأساليب حياتها الخشنة الصارمة، ذلك أن الثروة قد أسرعت إليها إسراعاً لم يستطع أهلها معه أن يحسنوا استخدامها، وأصبحت الطبقات العليا أسيرة الأنماط الحديثة والحياة المترفة، فلبس الرجال السراويل المطرزة الموشاة، وتجملت النساء بالأصباغ والحلي، بل إن الخيل نفسها كثيراً ما كانت تزين بالذهب(7). وبعد أن كان هؤلاء الرعاة البسطاء يجدون السرور كل السرور في أن تحملهم مركبات بدائية ذات دواليب خشنة غليظة قطعت من سوق الأشجار(8)، أصبحوا الآن يركبون عربات فاخرة عظيمة الكلفة ينتقلون بها من وليمة إلى وليمة.
وبعد أن كان الملوك الأولون يفخرون بعدالتهم جاء استياجس فغضب يوماً على هرباجس فقدم له أشلاء ابنه بعد أن قطع رأسه وأرغمه على أن يأكل لحمه(9)، فأكله هرباجس وهو يقول إن كل ما يفعله المليك يسره، ولكنه انتقم لنفسه بأن أعان قورش على خلع استياجس؛ ذلك أن قورش الشاب النابه حاكم ولاية أنشان الفارسية التي كانت تابعة للميديين خرج على طاغية إكتابانا المخنث، وابتهج الميديون أنفسهم بانتصاره على ذلك الطاغية وارتضوه ملكاً عليهم، ولم يكد يرتفع من بينهم صوت واحد للاحتجاج عليه. وما هي إلا واقعة واحدة حتى انقلبت الآية فلم تعد ميديا سيدة فارس بل أصبحت فارس سيدة ميديا وأخذت تعد العدة لتكون سيدة عالم الشرق الأدنى كله.
الفصل الثاني: عظماء الملوك
قورش صاحب الشخصية الروائية - خططه السياسية المستنيرة - قمبيز - دار الأكبر - غزو بلاد اليونان
وكان قورش من الحكام الذين خُلقوا ليكونوا حكاما والذين يقول فيهم إمرسن أن الناس كلهم يبتهجون حين يتوجون. فلقد كان ملكاً بحق في روحه وأعماله، قديراً في الأعمال الإدارية والفتوح الخاطفة المسرحية، كريماً في معاملة المغلوبين، محبوباً من أعدائه السابقين- فلا عجب والحالة هذه أن يتخذ اليونان منه موضوعاً لعدة روايات، وأن يصفوه بأنه أكبر أبطال العالم قبل الإسكندر.
ومما يؤسفنا أننا لا نستطيع أن نرسم له صورة موثوقاً بصحتها مما نقرئه عنه في هيرودوت أو زينوفون. ذلك بأن أول الرجلين قد خلط تاريخه بكثير من القصص الخرافية(10)، وأن الثاني قد جعل السيروبيديا (سيرته) مقالة عن فنون الحرب تتخللها في بعض المواضيع محاضرات في التربية والفلسفة؛ ونرى زينوفون أحياناً يخلط بين قورش وسقراط. فإذا ما أخرجنا هذه الأقاصيص لم يبق لنا من شخصية قورش إلا أنه طيف خيال ممتع جذاب. وكل ما نستطيع أن نقوله عنه واثقين أنه كان وسيماً بهي الطلعة- لأن الفرس اتخذوه نموذجاً لجمال الجسم حتى آخر أيام فنهم القديم(11)؛ وأنه أسس الأسرة الأكمينية أسرة "الملوك العظام" التي حكمت بلاد الفرس في أزهى أيامها وأعظمها شهرة، وأنه نظم قوات ليديا وفارس الحربية فجعل منها جيشاً قوياً لا يقهر، وأنه استولى على سرديس وبابل، وقضى على حكم الساميين في غرب آسية فلم تقم له بعدئذ قائمة، مدى ألف عام كاملة، وضم إلى الدولة كل البلاد التي كانت من قبل تحت سلطان أشور، وبابل، وليديا، وآسية الصغرى، حتى أصبحت تلك الإمبراطورية أوسع المنظمات السياسية في العالم القديم قبل الدولة الرومانية، ومن أحسنها حكماً في جميع عصور التاريخ.
ويبدو- على ما نستطيع أن نتصوره فيما يحيط به من سُدُم الأساطير والأوهام- أنه كان أحب الفاتحين إلى النفوس، وأنه أقام دولته على قواعد من النبل وكريم السجايا؛ وأن أعداءه كانوا يعرفون عنه لين الجانب فلم يحاربوه بتلك القوة المستيئسة التي يحارب بها الرجال حين لا يجدون بداً من أن يَقتلوا أو يُقتلوا. ولقد مر بنا من قبل- على ما يرويه هيرودوت- كيف أنجى كروسس من الحطب المحروق الذي وضع عليه في سرديس، وكيف أكرمه وجعله من أعظم مستشاريه، ومر بنا كذلك كرمه وحسن معاملته اليهود. وكانت أولى القواعد السياسية التي تقوم عليها دولته أن يترك للشعوب المختلفة التي تتألف منها حرية العبادة والعقيدة الدينية، لأنه كان عليماً كل العلم بالمبدأ الأول الذي يبني عليه حكم الشعوب، وهو أن الدين أقوى من الدولة؛ ومن أجل ذلك لا نراه ينهب المدن ويخرب المعابد، بل نراه يبدي كثيراً من الإكبار والمجاملة لآلهة الشعوب المغلوبة، ويساهم بماله في المحافظة على أضرحتها؛ بل إن البابليين أنفسهم، وهم الذين قاوموا طويلاً، قد التفوا حوله وتحمسوا له حين رأوه يحافظ على هياكلهم ويعظم آلهتهم. وكان أينما سار في فتوحه التي لم يسبقه إليها فاتح من قبله قرب القرابين إلى الآلهة المحلية في تقى وورع. وكان كنابليون يعترف بالأديان كلها على السواء، ويفوقه فيما يظهره من بشاشة وكياسة وهو يكرم جميع الآلهة. وهو يشبه نابليون من ناحية أخرى، وهو أنه مات ضحية الإسراف في المطامع. ذلك أنه لما فرغ من فتح الشرق الأدنى بأجمعه وضمه إلى ملكه، أراد أن يحرر ميديا وفارس من غزو البدو الهمج الضاربين في أواسط آسية. ويلوح أنه أوغل في حملاته حتى وصل إلى ضفاف نهر جيحون شمالاً وإلى الهند شرقاً؛ فلما وصل إلى ذروة مجده قتل فجأة وهو يحارب المسجيتة إحدى القبائل المجهولة التي كانت نازلة على السواحل الجنوبية لبحر الخزر، فكان كالإسكندر افتتح إمبراطورية متسعة الرقعة ولكن المنية عاجلته قبل أن ينظمها. لكن أخلاق قورش قد شابتها شائبة كبيرة، تلك هي قسوته المفرطة في بعض الأحيان. وجاء بعده ابنه قمبيز وكان به شِبْهُ جِنّة، فورث عن أبيه قوته وإن لم يرث عنه شيئاً من كرمه. وبدأ قمبيز حكمه بأن قتل أخاه سمرديس منافسه في المُلك، ثم أغوته ثروة مصر الطائلة فزحف عليها ليمد حدود الإمبراطورية الفارسية إلى نهر النيل. وأفلح فيما كان يبتغيه، ولكنه على ما يظهر أضاع في سبيل ذلك رشده. ولم يكلفه الاستيلاء على منف كبير مشقة، ولكن الجيش الذي أرسله للاستيلاء على واحة أمون هلك في الصحراء، كما أخفقت حملة سيرها إلى قرطاجنة لأن بحارة الأسطول الفارسي الفينيقيين أبوا أن يهاجموا مستعمرة فينيقية؛ وجن جنون قمبيز، فذهبت عنه حكمة أبيه، وما كان يتصف به من رحمة وتسامح، فأخذ يسخر من دين المصريين، وطعن بخنجره العجل أبيس معبودهم وموضع إجلالهم وتقديسهم وهو يستهزئ به. ولم يكفه هذا، بل أخرج الجثث المحنطة من مدافنها ونبش قبور الملوك ولم يبال في ذلك بما كان عليها من لعنات قديمة، ودنس الهياكل وأمر بإحراق ما فيها من الأصنام، ظناً منه أن عمله هذا سوف يشفي المصريين من خرافاتهم وأوهامهم، فلما انتابه المرض- ويلوح أن مرضه كان نوبات مرض تشنجية- لم يبق لدى المصريين شك في أن مرضه إنما هو عقاب حل به من قبل آلهتهم وأن دينهم لم يبق فيه بعدئذ ريبة لمرتاب. وكأن قمبيز قد أراد أن يبرهن مرة أخرى على مساوئ الملكية المطلقة، ففعل ما فعله نابليون في بعض ساعات امتعاضه، إذ أعدم ركسانا أخته وزوجته، وقتل ابنه بركسبيس بسهم من قوسه، ودفن اثني عشر من أعيان الفرس أحياء، وقضى بإعدام كروسس، ثم ندم على ما فعل، وسر حين علم أن حكمه لم ينفذ، ثم عاقب الموظفين الذين تأخروا عن تنفيذه(12). وعلم وهو عائد إلى بلاده أن مغتصباً قد استولى على عرش فارس وأن ثورة صماء اندلع لهيبها في طول البلاد وعرضها لتأييده. ومن هذه اللحظة يختفي قمبيز من التاريخ، وفي بعض الروايات أنه انتحر(13). وكان المغتصب قد ادعى أنه سمرديس وأنه نجا بإحدى المعجزات من حسد أخيه قمبيز واعتزامه قتله. أما الحقيقة فإنه كان أحد رجال الدين المتعصبين من أتباع المذهب المجوسي القديم، وكان يعمل جاهداً للقضاء على الزردشتية دين الدولة الفارسية الرسمي. ثم شبت في البلاد ثورة أخرى أطاحت بعرشه، وكان الذين نظموها سبعة من أشراف البلاد اختاروا بعدئذ واحداً منهم هو دارا بن هشتسبش ورفعوه على العرش. وبهذه الوسيلة الدموية بدأ أعظم ملوك الفرس حكمه.
وكانت وراثة العرش في الممالك الشرقية تقترن بالفتن في القصور الملكية تقوم بين المتنازعين على أزمة الحكم، كما تقترن بالثورات في المستعمرات الخاضعة لحكمها، فقد كانت هذه المستعمرات تنتهز فرصة ما ينشأ عن الفتن الداخلية من فوضى واضطراب، أو عن تولي المُلك حاكم غير مجرب فتعمل لاسترداد حريتها. وكان اغتصاب المُلك في هذه المرة واغتيال سمرديس فرصة ثمينة انتهزتها الولايات الخاضعة لفارس، فخرج عليها حكام مصر وليديا، وثارت عليها في وقت واحد سوزانه، وبابل وميديا، وأشور ، وأرمينية، وساكيا، وغيرها من الولايات. ولكن دارا أخضعها جميعا واستخدم في إخضاعها منتهى القسوة. من ذلك أنه لما استولى على مدينة بابل بعد حصار طويل أمر بصلب ثلاثة آلاف من أعيانها ليرهب بذلك بقية الأهلين ويرغمهم على طاعته، ثم أتبع ذلك بسلسلة من الوقائع الحربية السريعة "هدأ" بها الولايات الثائرة واحدة بعد واحدة.
ولما رأى أن هذه الإمبراطورية الواسعة قد تتقطع أوصالها إذا حلت بها أزمة من الأزمات، خلع دروع الحرب وأصبح من أعظم الحكام الإداريين وأعلمهم كعباً في التاريخ كله، وأخذ يعيد تنظيم ملكه على نسق أصبح مثالاً يحتذى في جميع الإمبراطوريات القديمة إلى سقوط الدولة الرومانية. وبفضل هذا النظام نعمت بلاد غربي آسية بفترة من الطمأنينة والرخاء لم ينعم هذا الصفح المضطرب بمثلها من قبل. وكان يرجو بعدئذ أن يحكم بلاده في ظل السلام، ولكن سنة الأقدار قد جرت على ألا تنقطع الحروب في الإمبراطوريات، ذلك بأن الشعوب المقهورة يجب أن يعاد قهرها من آن إلى آن، وأن الغالبين يجب أن يحافظوا في شعوبهم على فنون الحرب وعادات المعسكرات وميادين القتال، وأن الأقدار التي لا تترك شيئاً على حاله قد تتمخض عن إمبراطورية جديدة تتحدى الإمبراطورية القديمة؛ وتلك ظروف تحتم خلق الحروب إن لم تشتعل نارها من تلقاء نفسها؛ ولابد إذن من أن يعود كل جيل على احتمال مشاق القتال، وأن يعلم بالمران كيف يستسيغ الموت في سبيل الأوطان. ولعل هذا كان من الأسباب التي حدت بدارا إلى أن يزحف بجيوشه إلى جنوب الروسيا مجتازاً مضيق البسفور ونهر الدانوب إلى الفلجا ليؤدب السكوذيين الذين كانوا لا ينفكون يغيرون على أطراف الإمبراطورية الفارسية، وأن يقودها مرة أخري مخترقاً أفغانستان، ويجتاز العشرات من سلاسل الجبال حتى يصل إلى وادي نهر السند، وأن يضم بذلك إلى مملكته أقاليم واسعة الرقعة وآلاف من الأنفس والكثير من الأموال. أما حملته على بلاد اليونان فيجب أن نبحث لها عن سبب أقوى من هذا. ويريد هيرودوت أن يحملنا على الاعتقاد بأنه خطا هذه الخطوة التاريخية الموفقة لأن أتوسا إحدى زوجاته كايدته بها في فراشه(14). لكن أكرم من هذا أن نعتقد أن الملك أدرك ما تتمخض عنه دويلات المدن اليونانية ومستعمراتها من إمبراطورية أو من حلف يهدد سيادة الفرس على غربي آسية. فلما ثارت أيونا وتلقت العون من إسبارطة وأثينا رضي دارا أن يخوض غمار الحرب وهو كاره لها. والعالم كله يعرف قصة اجتيازه بحر إيجه، وهزيمة جيشه في سهل مراثون، وعودته كسير القلب إلى فارس. وهناك أخذ يستعد استعداداً عظيماً ليحاول ضرب اليونان ضربة أخرى، ولكنه أصيب في هذه الأثناء بمرض مفاجئ أضعفه وقضى على حياته.
الفصل الثالث: الحياة الفارسية والصناعات
الإمبراطورية - الشعب - اللغة - الزراع - الطرق الإمبراطورية - التجارة والشئون المالية
كانت الدولة الفارسية حين بلغت أعظم اتساعها في أيام دارا تشمل عشرين ولاية أو "إمارة" (ستربية) تضم: مصر، وفلسطين، وسوريا، وفينيقية، وليديا، وفريجية، وأيونيا، وقبادوش، وقليقية، وأرمينية، وأشور، وقفقاسية، وبابل، وميديا، وفارس، والبلاد المعروفة في هذه الأيام باسم أفغانستان، وبلوخستان، والقسم الممتد من الهند غرب نهر السند، وسيمديانا، وبكتريا(بلخ)، وأقاليم المسجينة وغيرهم من قبائل آسية الوسطى. ولم يسجل التاريخ قبل هذه الإمبراطورية أن حكومة واحدة حكمت مثل هذه الرقعة الواسعة من البلاد.
ولم تكن بلاد الفرس في تلك الأيام، وهي البلاد التي قدر لها أن تحكم هذه الأربعين مليوناً من الأنفس مدى مائتي عام، هي بعينها البلاد المعروفة الآن باسم بلاد فارس، والتي يسميها بلاد إيران، بل كانت هي الإقليم الأصغر المصاحب للخليج الفارسي مباشرة من جهة الشرق، والمعروفة لدى الفرس الأقدمين باسم بارش والفرس المحدثين باسم فارس أو فارستان(15). وهذا الإقليم يكاد يكون كله صحراوات وجبالاً، أنهاره قليلة، معرضة للبرد القارس والحر الجاف اللافح ، ولذلك فإنه لم يكن فيه من الخيرات ما يكفي سكانه البالغ عددهم مليونين من الأنفس(17)، إلا إذا استعانوا بما قد يأتيهم من خارج بلادهم عن طريق التجارة والفتح. وأهل البلاد الجبليون الأشداء ينتمون كما ينتمي الميديون إلى الجنس الهندوربي، ولعلهم جاءوا إلى تلك البلاد من جنوب الروسيا؛ وتكشف لغتهم وديانتهم المبكرة عن صلة نسب وثيقة بينهم وبين الآريين الذين عبروا أفغانستان، وأصبحوا الطبقة الحاكمة في شمال الهند. ولقد وصف دارا الأول نفسه في نقش- رستم بأنه: "فارسي ابن فارسي، آرى من سلالة آرية" . ويسمي الزردشتيون وطنهم الأول: إيريانا فيجو أي "موطن الآريين" ، ويطلق استرابون لفظ أريانا على البلاد التي يطلق عليها الآن هذا اللفظ الذي لا يكاد يختلف عن اللفظ الأول وهو إيران(18).
ويلوح أن الفرس كانوا أجمل شعوب الشرق الأدنى في الزمن القديم. فالآثار الباقية في عهدهم تصورهم شعباً معتدل القامات، قوي الأجسام، قد وهبته حياة الجبال شدة وصلابة، ولكن ثروتهم الطائلة رققت طباعهم، وهم ذوو ملامح متناسبة متناسقة، شم الأنوف لا يكادون يفترقون في ذلك عن اليونان، تبدو على وجوههم سمات النبل والروعة؛ ولبس معظمهم الملابس الميدية ثم تحلوا فيما بعد بالحلي الميدية. وكانوا يعدون من سوء الأدب كشف أي جزء من أجزاء الجسم خلا الوجه، ولذلك كان كل جسمهم مغطى من عمامة الرأس أو عصابته أو قلنسوته إلى خفي القدمين أو حذاءيهما. فكان لباسهم سروالاً مثلث الطيات، وقميصاً أبيض من التيل، ومئزراً من طبقتين، ذا كُمّين يغطيان اليدين، ومنطقة في وسط الجسم. وكانت هذه الملابس تحفظ أجسامهم ، دفئة في الشتاء، حارة في الصيف. أما الملك فكان يمتاز بلبس سروال مطرز قرمزي، وحذاءين ذوي أزرار زعفرانية اللون. ولم تكن ملابس النساء تختلف عن ملابس الرجال إلا بفتحة عند الصدر. وكان الرجال يطيلون لحاهم ويتركون شعر رأسهم ينساب في غدائر، ثم استبدلوا بهما فيما بعد شعراً مستعاراً(19). ولما زادت الثروة في عهد الإمبراطورية أكثر الأهلون رجالهم ونساؤهم من استعمال أدوات التجميل، فاستعملوا الأدهان لتجميل الوجه، والأصباغ الملونة لدهن الجفون، لكي يزيدوا بذلك من سعة العينين وبريقهما الظاهر. ومن ثم نشأت عندهم طبقة من"المزينين" سماهم اليونان "الكزمتاي" كانوا خبراء في فن التجميل، وعملهم تجميل الأثرياء. وكان الفرس خبراء في عمل الروائح العطرية، وكان القدماء يعتقدون أنهم هم الذين اخترعوا أدهان التجميل. ولم يكن مليكهم يخرج إلى الحرب إلا ومعه علبة ثمينة من الزيوت العطرية، يتعطر بها في حالتي النصر والهزيمة(20).
وتكلم الفرس عدة لغات في أثناء تاريخهم الطويل. فكانت الفارسية القديمة لغة البلاط وأعيان البلاد في عهد دارا الأول، وهذه اللغة وثيقة الارتباط باللغة السنسكريتية حتى ليبدو لنا جلياً أن اللغتين كانتا في وقت من الأوقات لهجتين من لغة أقدم منهما عهداً، وأنهما هما واللغة الإنكليزية فروع من أصل واحد . وتطورت اللغة الفارسية القديمة وتفرعت إلى فرعين هما الزندية- لغة الزند- أبستاق. والبهلوية وهي لغة هندية اشتقت منها اللغة الفارسية الحالية(22). ولما مارس الفرس الكتابة استخدموا في نقوشهم الخط المسماري واستخدموا الحروف الهجائية الآرامية لكتابة وثائقهم(23). وبسطوا مقاطع اللغة البابلية الثقيلة الصعبة، فأنقصوها من ثلاثمائة رمز إلى ست وثلاثين علامة، تبدلت شيئاً فشيئاً من مقاطع إلى حروف حتى صارت حروفاً هجائية مسمارية(24). على أن الكتابة كانت تبدو للفرس لهواً خليقاً بالنساء لا يكادون يقتطعون له وقتاً من بين مشاغلهم الكثيرة في الحب والحرب والصيد، ولم ينزلوا من عليائهم فينشئوا أدباً.
وكان الرجل العادي أمياً راضياً عن أميته، يبذل جهده كله في فلاحة الأرض. ومجدت الزند- أبستاق الأعمال الزراعية وعدتها أهم أعمال الجنس البشري وأشرفها، يبتهج لها أهور- مزدا الإله الأعلى أكثر مما يبتهج بغيرها من الأعمال. وكانت بعض الأراضي يزرعها ملاكها المزارعون. وكان هؤلاء الملاك في بعض الأحيان يؤلفون جماعات زراعية تعاونية مكونة من عدة أسر لتزرع مجتمعة مساحات واسعة من الأراضي(25). والبعض يمتلكه الأشراف الإقطاعيون ويزرعه مستأجروه نظير جزء من غلته؛ وبعضها الآخر يزرعه الأرقاء الأجانب ( ولم يكونوا قط فرساً). وكانوا يستخدمون محاريث من الخشب ذات أطراف من حديد تجرها الثيران. وكانوا يجرون الماء من الجبال إلى الحقول بطرق الري الصناعية. وكان الشعير والقمح أهم محاصيل الأرض وأهم مواد الغذاء، ولكنهم كانوا يأكلون كثيراً من اللحم ويتجرعون كثيراً من الخمر. وقد أمر قورش بتقديم الخمر لجيوشه(26). ولم تكن مناقشة جدية في الشئون السياسية تدور في مجالس الفرس إلا وهم سكارى وإن كانوا يحرصون على أن يعيدوا النظر في قراراتهم في صباح اليوم التالي. وكان من مشروباتهم مشروب مسكر يسمى الهوما يقدمونه قرباناً محبباً لآلهتهم؛ وكانوا يعتقدون أنه لا يبعث في مدمنه الهياج والغضب، بل يبعث فيه التقى والاستقامة(28).
ولم يكن للصناعة شأن في فارس؛ فقد رضيت أن تترك لأمم الشرق الأدنى ممارسة الحرف والصناعات اليدوية، واكتفت بأن تحمل هذه الأمم إليها منتجاتها مع ما يأتيها من الخراج. أما في شئون النقل والاتصال فكانت أكثر ابتكاراً منها في شئون الصناعة. فقد انشأ المهندسون إطاعة لأمر دارا الأول طرقاً عظيمة تربط حواضر الدولة بعضها ببعض. وكان طول إحدى هذه الطرق وهي الممتدة من السوس إلى سرديس ألفاً وخمسمائة ميل. وكان طولها يقدر تقديراً دقيقاً بالفراسخ ( وكان الفرسخ 3.4 ميل) ويقول هيرودوت: "إنه كان عند نهاية كل أربعة فراسخ محاط ملكية ونُزل فخمة، وكان الطريق كله يخترق أقاليم آمنة عامرة بالسكان"(29). وكان في كل محطة خيول بديلة متأهبة لمواصلة السير بالبريد، ولهذا فإن البريد الملكي كان يجتاز المسافة من السوس إلى سرديس بالسرعة التي يجتازها بها الآن رتل من السيارات الحديثة، أي في أقل قليلاً من أسبوع، مع أن المسافر العادي في تلك الأيام الغابرة كان يجتاز تلك المسافة في تسعين يوماً. وكانوا يعبرون الأنهار الكبيرة في قوارب، ولكن المهندسين كانوا يستطيعون متى شاءوا أن يقيموا على الفرات أو على الدردنيل نفسه قناطر متينة تمر عليها مئات الفيلة الوجلة وهي آمنة. وكان ثمة طرق تصل فارس بالهند مجتازة ممرات جبال أف انستان، وقد جعلت هذه الطرق مدينة السوس مستودعاً وسطاً لثروة الشرق التي كانت حتى في ذلك العهد البعيد ثروة عظيمة لا يكاد يصدقها العقل. وقد أنشأت هذه الطرق في الأصل لأغراض حربية وحكومية، وذلك لتسيير سيطرة الحكومة المركزية وأعمالها الإدارية؛ ولكنها أفادت أيضاً في تنشيط التجارة وانتقال العادات والأفكار، كما أفادت في تبادل خرافات الجنس البشري وهي من مستلزماته التي لا غنى له عنها. من ذلك أن الملائكة والشياطين قد انتقلت على هذه الطرق من الأساطير الفارسية إلى الأساطير اليهودية والمسيحية.
ولم تبلغ الملاحة في فارس ما بلغه النقل البري من رقي عظيم. فلم يكن للفرس أسطول خاص بهم، بل كانوا يكتفون باستئجار سفن الفينيقيين أو الاستيلاء عليها لاستخدامها في الأغراض الحربية، وقد احتفر دارا الأول قناة عظيمة تصل فارس بالبحر الأبيض المتوسط عن طريق البحر الأحمر والنيل، ولكن إهمال خلفائه ترك هذا العمل العظيم تبعث به الرمال السافية. وأصدر خشيارشاي أمره الملكي إلى قسم من قواته البحرية بأن يطوف حول إفريقية، ولكنه لم يكد يجتاز أعمدة هرقل (مضيق جبل طارق الحالي) حتى عاد من رحلته يجلله الخزي والعار(30). وكانت الأعمال التجارية تترك في الغالب لغير أبناء البلاد- للبابليين والفينيقيين واليهود؛ ذلك أن الفرس كانوا يحتقرون التجارة ويرون أن الأسواق بؤرة للكذب والخداع. وكانت الطبقات الموسرة تفخر باستطاعتها الحصول على معظم حاجاتها من حقولها وحوانيتها بغير واسطة، دون أن تدنس أصابعها بأعمال البيع والشراء(31). وكانت الأجور والقروض وفوائد الأموال تؤدى في بادئ الأمر سلعاً، وأكثر ما كانت تؤدى به الماشية والحبوب؛ ثم جاءتهم النقود من ليديا، وسكّ دارا "الداريق" من الذهب والفضة وطبع عليه صورته . ، وكانت نسبة قيمة الدريق الذهبي إلى الدريق الفضي كنسبة 13.5 إلى 1 . وكان هذا بداية وضع نسبة بين النقدين في الوقت الحاضر(33).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الرابع: تجربة في نظام الحكم
الملك - الأشراف - الجيش - القانون - عقاب وحشي - الحواضر - الولايات - عمل جليل في الإدارة
كانت حياة فارس حياة سياسية وحربية أكثر منها اقتصادية؛ عماد ثروتها القوة لا الصناعة؛ ومن أجل ذلك كانت مزعزعة الكيان أشبه ما تكون بجزيرة حاكمة وسط بحر واسع خاضع لسلطانها خضوعاً غير قائم على أساس طبيعي. وكان النظام الإمبراطوري الذي يمسك هذا الكيان المصطنع من أقدر الأنظمة ولا يكاد يوجد له شبيه؛ فقد كان على رأسه الملك أوخشترا أي المحارب ، وهو لقب يدل على منشأ الملكية الفارسية العسكري وصبغتها العسكرية. وإذا كان تحت سلطانه ملوك يأتمرون بأمره فقد كان الفرس يلقبونه "ملك الملوك" ولم يعترض العالم القديم على هذه الدعوة، غير أن اليونان لم يكونوا يسمونه بأكثر من باسليوس أي الملك(34).
وكان له من الوجهة النظرية سلطة مطلقة؛ فكانت كلمة تصدر من فمه تكفي لإعدام من يشاء من غير محاكمة ولا بيان للأسباب، على الطريقة التي يتبعها أحد الحكام الطغاة في هذه الأيام. وكان في بعض الأحيان يمنح أمه أو كبيرة زوجاته حق القتل القائم على النزعات والأهواء(35). وقلما كان أحد من الأهلين، ومن بينهم كبار الأعيان، يجرؤ على انتقاد الملك أو لومه، كما كان الرأي العام عاجزاً عجزاً مصدره الحيطة والحذر، فكان ما يفعله الذي يرى الملك يقتل ابنه البريء أمام عينيه رمياً بالسهام أن يثني على مهارة الملك العظيمة في الرماية، وكان المذنبون الذين يلهب السياط أجسادهم بأمر الملك يشكرون له تفضله بأنه لم يغفل عن ذكرهم(36). ولو أن ملوك الفرس كان لهم من النشاط ما لقورش ودارا الأول لكان لهم أن يملكوا ويحكموا؛ ولكن الملوك المتأخرين كانوا يعهدون بأكثر شئون الحكم إلى الأشراف الخاضعين لسلطانهم، أو إلى خصيان قصورهم. أما هم فكانوا يقضون أوقاتهم في الحب أو لعب النرد أو الصيد(37). وكان القصر يموج بالخصيان يسرحون فيه ويمرحون، يحرسون النساء ويعلمون الأمراء، وقد استخدموا ما تخولهم هذه الأعمال من ميزة وسلطان في حبك الدسائس وتدبير المؤامرات في عهد كل ملك من الملوك . وكان من حق الملك أن يختار خلفه من بين أبنائه، ولكن وراثة العرش كانت تقرر في العادة بالاغتيال والثورة. غير أن سلطة الملك كانت تقيدها من الوجهة العملية قوة الأعيان، وكانوا هم الواسطة بين الشعب والعرش. وقد جرت العادة أن يكون لأسر الرجال الستة الذين تعرضوا مع دارا الأول لأخطار الثورة التي قامت على سمرديس الزائف ميزات استثنائية. وأن يستشاروا في مهام الدولة الحيوية ، وكان كثير من الأشراف يحضرون إلى القصر ويؤلفون مجلساً يولي الملك مشورته في أكثر الأحيان أعظم رعاية. وكان يربط معظم أفراد الطبقة الموسرة بالعرش أن الملك هو الذي يهبهم ضياعهم؛ وكانوا في مقابل هذا يمدونه بالرجال والعتاد إذا نفر إلى القتال. وكان لهؤلاء الأشراف في إقطاعاتهم سلطان لا يكاد يحده شيء- فكانوا يجبون الضرائب، ويسنون القوانين، وينفذون أحكام القضاء ويحتفظون بقواتهم المسلحة.
وكان الجيش العماد الحقيقي لسلطان الملك والحكومة الإمبراطورية، ذلك أن الإمبراطوريات إنما تدوم ما دامت محتفظة بقدرتها على التقتيل. وكان يفرض على كل رجل صحيح الجسم بين الخامسة عشرة والخمسين من عمره أن ينضم إلى القوات العسكرية كلما أعلنت الحرب(41). وحدث مرة أن طلب والد ثلاثة أبناء أن يُعفى واحد منهم من الخدمة العسكرية فما كان من الملك إلا أن أمر بقتلهم هم الثلاثة؛ وأرسل والد آخر أربعة من أبنائه إلى ميدان القتال، ثم رجا خشيارشاي أن يسمح ببقاء أخيهم الخامس ليشرف على ضيعة الأسرة فقطع جسم هذا الابن نصفين بأمر من الملك، ووضع كل نصف على أحد جانبي الطريق الذي سيمر منه الجيش(42). وكان الجنود يسيرون إلى الحرب وسط دوي الموسيقى العسكرية وهتاف الجماهير التي تجاوزت سن التجنيد. وكانت أهم فرق الجيش فرقة الحرس الملكي المؤلفة من ألفين من الفوارس وألفين من المشاة وكانت مهمتهم حراسة الملك. وكان الجيش العامل كله بلا استثناء من الفرس والميديين، وكان يؤخذ من هذه القوات الدائمة معظم الحاميات القائمة في النقط العسكرية الهامة في الإمبراطورية لترهيب من تحدثه نفسه بالخروج عليها. أما القوات الحربية الكاملة فكانت تتألف من فرق تجند من جميع الأمم الخاضعة لسلطان الفرس، وكانت كل فرقة تتكلم بلغتها، وتقاتل بأسلحتها وتتبع أساليبها الحربية الخاصة، ولم يكن عتادها وأتباعها أقل اختلافا من أصولها: فهناك القسي والسهام، والسيوف والحراب، والخناجر والرماح، والمقاليع والمدي، والتروس والخوذ، والمجنات المتخذة من الجلد، والزرد. وكانوا يركبون الجياد والفيلة، ويصحبهم المنادون، والكتبة، والخصيان، والعاهرات، والسراري، ومعهم العربات التي سلح كل جزء من عجلاتها بمناجل الصلب الكبيرة. وهذه الجحافل الجرارة التي بلغت عدتها في حملة خشيارشاي 000ر800ر1 مقاتل لم تتألف منها قط وحدة كاملة، ومن أجل ذلك فإن أول بادرة من بوادر الهزيمة كانت تحيلها إلى جموع من الغوغاء العديمة النظام. وكانت تهزم أعداءها بقوة عددها لا غير، وبمقدرته على استيعاب قتلاها، فإذا ما لاقاها جيش حسن التنظيم يتكلم أفراده لغة واحدة ويخضعون لنظام واحد حاقت بها الهزيمة. وهذا هو السر فيما أصابها عند مرثون وبلاتية.
ولم يكن يوجد في مثل هذه الدولة قانون غير إرادة الملك وقوة الجيش. ولم تكن فيها حقوق مقدسة تستطيع الوقوف أمام هاتين القوتين، كما أن التقاليد والسوابق لم تجد نفعاً إلا إذا كانت مستمدة من أمر ملكي سابق؛ ذلك أن الفرس كانوا يفتخرون بأن قوانينهم لا تبديل لها، وأن الوعد أو المرسوم الملكي لا ينقض بحال من الأحوال، فقد كان اعتقادهم أن قرارات الملك وأحكامه إنما يوحيها إليهم الإله أهورا- مزدا نفسه.
وعلى هذا الأساس كان قانون المملكة مستمداً من الإرادة الإلهية، وكان كل خروج على هذا القانون يعد خروجاً على إرادة الإله. فكان الملك صاحب السلطة القضائية العليا، ولكنه كان في العادة يعهد هذا العمل إلى أحد العلماء الشيوخ من أتباعه. ثم يأتي من بعده المحكمة العليا المؤلفة من سبعة قضاة، ومن تحتها محاكم محلية منتشرة في أنحاء المملكة. وكان الكهنة هم الذين يضعون القوانين، وظلوا زمناً طويلاً ينظرون في المظالم، ثم كان النظر فيها في العهود المتأخرة رجال بل نساء من غير رجال الدين ونسائه، وكانت الكفالة تقبل من المتهم في جميع القضايا إلا ما كان منها خطير الشأن، وكانوا يتبعون في المحاكمات إجراءات منتظمة. وكانت المحاكم تأمر أحياناً بمنح المكافآت كما كانت تأمر بتوقيع العقوبات، وكانت وهي تنظر في الجرائم تقدر ما للمتهم من حسنات وما أداه من خدمات. ولكي يحولوا بين إطالة الإجراءات القضائية كانوا يحددون زمناً معيناً تنتهي فيه كل قضية، ويعرضون على الخصوم أن يختاروا لهم حَكماً يحاول فض ما بينهم من نزاع بالطرق السلمية.
ولما تكاثرت السوابق القانونية وتعقدت القوانين نشأت طائفة من الناس يسمون "المتحدثين في القانون" كانوا يعرضون على المتخاصمين أن يفسروا لهم القانون ويساعدوهم على السير في قضاياهم(43). وكان يطلب إلى المتقاضين أن يقسموا الأيمان، وكانوا في بعض الأحيان يلجأون إلى الحكم الإلهي(44)، (فيفوضون أمر المتهم إلى الآلهة تقضي له أو عليه بوسائلها الخاصة، بأن تنجيه من النار أو الغرق إن كان بريئاً وتقضي عليه بهما إن كان مذنباً) ، وكانوا يقاومون الرشوة بجعل عرضها أو قبولها جريمة كبرى يعاقب مرتكبها بالإعدام. وكان مما عمله قمبيز لضمان القضاة أن أمر بأن يسلخ جلد القاضي الظالم حياً وأن يستخدم جلده لتنجيد مقاعد القضاة، ثم كان يعين ابن القاضي القتيل بدلاً منه(45).
وكانت الجرائم الصغرى يعاقب عليها بالجلد- من خمس جلدات إلى مائتي جلدة- بسوط من سياط الخيل، وكان عقاب من يسمم كلب راع مائتي جلدة، ومن يقتل آخر خطأ كان عقابه تسعين جلدة(46). وكانت الدولة تحصل على بعض المال اللازم للشؤون القضائية من استبدال الغرامة بالجلد باحتساب كل ست روبيات للجلدة الواحدة(47). أما الجرائم التي هي أشد من هذه فكان يعاقب عليها بالوسم بالنار أو بتشويه الأعضاء أو بتر بعض الأطراف، أو سمل العين أو السجن أو الإعدام. وكان نص القانون يحرم على أي إنسان حتى الملك نفسه أن يحكم على إنسان بالقتل عقاباً على جريمة صغرى، ولكنه يحل القتل عقاباً على خيانة الوطن، أو هتك العرض، أو اللواط، أو القتل، أو الاستمناء، أو حرق الموتى، أو دفنهم سراً، أو الاعتداء على حرمة القصر الملكي، أو الاتصال بإحدى سراريه، أو الجلوس مصادفة على عرشه، أو الإساءة إلى أحد أفراد البيت المالك(48).
وكان المذنب في هذه الحالات يعدم إما بإرغامه على تجرع السم، أو خزقه أو صلبه، أو شنقه (وكان المجرم يشنق ورأسه عادة إلى الأسفل)، أو رجمه بالحجارة أو دفن الجسم إلى ما دون الرأس، أو تهشيم رأسه بين حجرين كبيرين، أو خنقه في رماد ساخن، أو بتوقيع ذلك العقاب الذي لا يصدقه العقل والمعروف باسم عقاب "الزورقين" . وقد ورث الأتراك الذين أغاروا على البلاد فيما بعد بعض هذه العقوبات الهمجية، وأورثوها العالم من بعدهم. واستعان الملك هذه القوانين وهذا الجيش على حكم الولايات العشرين التابعة لدولته من عواصمه الكثيرة. وكانت العاصمة الأصلية بزارجادة، ولكنه كان ينتقل منها أحياناً إلى برسبوليس، وكانت إكباتانا عاصمته الصيفية. أما معظم إقامته فكانت في مدينة السوس عاصمة عيلام القديمة التي يجتمع فيها تاريخ الشرق القديم برمته ويرتبط أوله بآخره. وكان من مميزات هذه المدينة صعوبة الوصول إليها، كما كان من عيوبها بُعدها عن سائر عواصم الإمبراطورية، فلما أراد الإسكندر أن يستولي عليها كان لابد له أن يجتاز لها طريقاً طوله ألفا ميل؛ ولكنها كان عليها أن ترسل جيوشها ألفاً وخمسمائة ميل لتخضع الثروات التي تقوم في ليديا أو مصر. ولما أنشئت الطرق العظيمة في آخر الأمر كانت كل فائدتها أن مهدت السبل لليونان والرومان الذين غزوا بجيوشهم غرب آسية، كما ساعدت غرب آسية على أن يغزو اليونان ورومة بعقائده الدينية.
وكانت الإمبراطورية مقسمة إلى ستريبات أو ولايات لتسهل بذلك إدارتها وجباية خراجها. وكان في كل ولاية نائب "لملك الملوك" قد يكون أحياناً أميراً خاضعاً لسلطانه، ولكنه في العادة "سترب" (حاكم) يعينه الملك ويبقى في منصبه ما دام حائزاً لرضا البلاط الملكي.
وأراد دارا أن يضمن خضوع الوالي لسلطانه فبعث إلى كل ولاية بقائد من قواد جيشه ليشرف على ما فيها من قوى مسلحة مستقلاً عن الوالي؛ ولكي يضمن خضوع هذا وذاك عين لكل ولاية أميناً من قبله مستقلاً عن الوالي والقائد جميعاً، مهمته أن يبلغ عن مسلكهما. وزيادة في الاحتياط كان للملك إدارة للمخابرات السرية تعرف باسم "عيون الملك وآذانه" يفاجئ موظفوها الولايات ليفحصوا عن سجلاتها وشئونها الإدارية والمالية. وكان الوالي يعزل أحياناً بلا محاكمة، وأحياناً يتخلص منه بهدوء، وذلك بأن يسمه خدمه بأمر الملك نفسه. وكان تحت إمرة الوالي والأمين حشد من الكتبة يصرفون من شئون الحكم ما ليس في حاجة مباشرة إلى القوة. وكان هؤلاء يستمرون في عملهم وإن تغيرت الإدارات، بل وإن تغير الملوك، فالملك يموت ولكن البيروقراطية الحكومية باقية مخلدة.
ولم يكن موظفو الولايات يتناولون رواتبهم من الملك، بل كانوا يتناولونها من أهل الولاية التي يحكمونها. وكانت هذه الرواتب عالية تكفي لأن يكون لهؤلاء الولاة قصور وحريم. وبساتين للصيد، كان الفرس يسمونها بذلك الاسم التاريخي المأثور وهو الفردوس أي "الجنة". وكان على كل والٍ فضلاً عن هذا أن يبعث إلى الملك في كل عام قدراً معلوماً من المال والبضائع ضريبة مقررة على ولايته. فكانت الهند ترسل 680ر4 تالنتا، وأشور وبابل ألفاً، ومصر سبعمائة، وولايات آسية الصغرى الأربع ترسل مجتمعة 1760 الخ. فكان مجموع ما ترسله الولايات كلها 560ر14 في السنة، قدرت قيمتها تقديراً يختلف من000ر000ر160 ريال أمريكي إلى 000ر000ر218 ريال؛ وفوق هذا فقد كان ينتظر من كل ولاية أن تمد الملك بحاجته من السلع والمؤن: فقد كان على مصر مثلاً أن تمده في كل عام بما يحتاجه 000ر120 رجل من الغلال، وكان الميديون يمدونه بمائة ألف من الضأن، والأرمن بثلاثين ألف من الأمهار، والبابليون بخمسمائة من الغلمان الخصيان. وكانت هناك مصادر أخرى تستمد منها الخزانة المركزية الأموال الطائلة. وحسبنا دليلاً على مقدار هذه الثروة أن الإسكندر حين استولى على عاصمة الفرس وجد في الخزائن الملكية 000ر180 تالنت (وزنة) تبلغ قيمتها بحساب هذه الأيام 000ر000ر700ر2 ريال أمريكي، وذلك بعد مائة وخمسين عاماً من إسراف الفرس وتبديدهم، وبعد مائة حرب وثورة باهظة النفقات، وبعد أن حمل دارا الثالث معه في فراره 000ر8 تالنت(51). ومع هذا كله فقد كانت الإمبراطورية الفارسية على الرغم من نفقاتها الإدارية الطائلة أنجح تجربة في نظام الحكم الإمبراطوري شهدتها بلاد البحر الأبيض المتوسط قبل الإمبراطورية الرومانية التي قدر لها أن ترث قسطاً كبيراً من النظم السياسية والإدارية لتلك الإمبراطورية القديمة. وإذا كانت هذه الإمبراطورية قد شهدت ما كانت عليه ملوكها المتأخرين من قسوة وبذخ، وما كان في بعض شرائعها من همجية، وما كان ينوء به كاهل الأهلين من ضرائب فادحة، فقد كان يقابل هذه المساوئ ما كان يسود البلاد بفضل حكومتها من نظام وأمن أثرت في ظله الولايات على الرغم من هذه الأكلاف الباهظة، وما كانت تستمتع به تلك الولايات من حرية لم تستمتع بها الولايات الخاضعة لأكثر الإمبراطوريات رقياً واستنارة. ذلك أن كل إقليم كان يحتفظ بلغته، وشرائعه، وعاداته، وأخلاقه، ودينه، وعملته، كما كان يحتفظ في بعض الأحيان بالأسرة الحاكمة من أهله. وكانت بعض الأمم التي تؤدى إليها الجزية كبابل وفينيقية وفلسطين راضية كل الرضا بالوضع الذي وضعت فيه، ظناً منها أن قوادها وجباتها من أهلها لو وكل إليهم أمرها لكانوا أكثر من حكامها الفرس قسوة وأشد بطشاً. لقد بلغت الإمبراطورية الفارسية في عهد دارا الأول من حيث النظام السياسي مبلغاً لم يصل إليه غيرها من الإمبراطوريات إذا استثنينا الإمبراطورية الرومانية في عهد دراجان، وهدريان، والأنطونيين.
الفصل الخامس: زردشت
رسالة النبي - الديانة الفارسية قبل زردشت - كتاب الفرس المقدس - أهورا مزدا - الأرواح الطبية والخبيثة - كفاحها للاستيلاء على العالم
تروي الأقاصيص الفارسية أن نبياً عظيماً ظهر في إيريانا- فيجو، "موطن الآريين" القديم قبل ظهور المسيح بمئات السنين، وكان شعبه يسميه زرثسترا. ولكن اليونان لم يكونوا يطيقون هجاء "البرابرة" أسموه زروسترز. وقد حملت به أمه حملاً إلهياً قدسياً: ذلك أن الملاك الذي كان يرعاه تسرب إلى نبات الهَوْما، وانتقل مع عصارته إلى جسم كاهن حين كان يقرب القرابين المقدسة. وفي ذلك الوقت نفسه دخل شعاع من أشعة العظمة السماوية إلى صدر فتاة راسخة النسب متناسقة في الشرف. وتزوج الكاهن بالفتاة، وامتزج الحبيسان الملاك والشعاع، فنشأ زرثسترا من هذا المزيج(53). فلما ولد قهقه عالياً من أول يوم ولد فيه، ففرت من حوله الأرواح الخبيثة التي تجتمع حول كل كائن، وهي مضطربة وجلة(54). وأحب الوليد الحكمة والصلاح فاعتزل الناس وآثر أن يعيش في برية جبلية، وأن يكون طعامه الجبن وثمار الأرض. وأراد الشيطان أن يغويه ولكنه أخفق. وشق صدره بطعنة سيف وملئت أحشاؤها بالرصاص المنصهر، فلم يشك أو يتململ بل ظل مستمسكا بإيمانه بأهورا- مزدا (رب النور) الإله الأعظم. وتجلى له أهورا- مزدا ووضع في يديه الأبستاق أي كتاب العلم والحكمة، وأمره أن يعظ الناس بما جاء فيه. وظل العالم كله زمناً طويلاً يسخر منه ويضطهده، حتى سمعه أخيراً أمير إيراني عظيم يدعى فشتشبا أو هستسبس، فأعجبه ما سمع، ووعده أن ينشر الدين الجديد بين شعبه، وهكذا ولد الدين الزردشتي. وعمر زرثسترا نفسه طويلاً، حتى أحرقه وميض برق وصعد إلى السماء(55).
ولسنا نعرف ما في هذه القصة من حق وما فيها من باطل. ولعل يوشع كيوشع بنى إسرائيل هو الذي كشف هذا النبي، ولكن اليونان صدقوا أن زرثسترا هذا كان شخصية تاريخية حقة وشرفوه بأن حددوا له تاريخاً يسبق تاريخهم بخمسة آلاف وخمسمائة عام(56). ويقرب بروس البابلي هذا التاريخ إلى عام 2000 ق. م(57). أما من يؤمن بوجوده من المؤرخين المحدثين فيحددون تاريخه فيما بين القرن العاشر والقرن السادس قبل الميلاد . ولما ظهر بين أسلاف الميديين والفرس، وجد بني وطنه يعبدون الحيوانات كما يعبدون أسلافهم(60)، ويعبدون الأرض والشمس، وأن لهم دينا يتفق في كثير من عناصره وآلهته مع دين الهندوس في العهد الفيدي.
وكان أكبر الآلهة في الدين السابق للدين الزردشتي مثرا إله الشمس، وأنيتا إلهة الخصب والأرض، وهَوْما الثور المقدس الذي مات ثم بعث حياً، ووهب الجنس البشري دمه شراباً ليسبغ عليه نعمة الخلود. وكان الإيرانيون الأولون يعبدونه بشرب عصير الهَوْما المسكر وهو عشب ينمو على سفوح جبالهم(61). وهال زردشت ما رأى من هذه الآلهة البدائية، وهذه الطقوس الخمرية، فثار على المجوس أي الكهنة الذين يصلون لتلك الآلهة ويقربون لها القرابين، وأعلن في شجاعة لا تقل عن شجاعة معاصريه عاموس وإشعيا أن ليس في العالم إلا إله واحد هو في بلاده أهورا- مزدا إله النور والسماء، وأن غيره من الآلهة ليست إلا مظاهر له وصفات من صفاته. ولعل دارا الأول حينما اعتنق الدين الجديد رأى فيه ديناً ملهماً لشعبه، ودعامة لحكومته، فشرع منذ تولى الملك يثير حرباً شعواء على العبادات القديمة وعلى الكهنة المجوس، وجعل الزردشتية دين الدولة. وكان الكتاب المقدس للدين الجديد هو مجموعة الكتب التي جمع فيها أصحاب النبي ومريدوه أقواله وأدعيته. وسمى أتباعه المتأخرين هذه الكتب الأبستا (الأبستاق)، وهي المعروفة عند العالم الغربي باسم الزند- أبستا، بناء على خطأ وقع فيه أحد العلماء المحدثين . ومما يروع القارئ غير الفارسي في هذه الأيام أن يعرف أن المجلدات الضخمة الباقية- وإن كانت أقل كثيراً من كتاب التوراة- ليست إلا جزءاً صغيراً مما أوحاه إلى زرثسترا إلهه .
وهذا الجزء الباقي يبدو للأجنبي الضيق الفكر كأنه خليط مهوش من الأدعية، والأناشيد، والأقاصيص، والوصفات، والطقوس الدينية، والقواعد الخلقية، تجلوها في بعض المواضع لغة ذات روعة، وإخلاص حار، وسمو خلقي، أو أغان تنم عن رقي وصلاح. وهي تشبه العهد القديم من الكتاب المقدس فيما تثيره في النفس من نشوة قوية. وفي وسع الدارس أن يجد في بعض أجزائها ما يجده في الرج- فدا من آلهة وآراء، ومن كلمات وتراكيب في بعض الأحيان. وتبلغ هذه من الكثرة حداً جعل بعض علماء الهنود يعتقدون أن الأبستاق ليست وحياً من عند أهورا- مزدا، بل هي مأخوذة من كتب الفِدا. ويعثر الإنسان في مواضع أخرى منها على فقرات من أصل بابلي قديم، كالفقرات التي تصف خلق الدنيا على ست مراحل ( السماوات، فالماء، فالأرض، فالنبات، فالحيوان، فالإنسان)، وتسلسل الناس جميعاً من أبوين أولين، وإنشاء جنة على الأرض(66)، وغضب الخالق على خلقه، واعتزامه أن يسلط عليهم طوفاناً يهلكهم جميعا إلا قلة صغيرة منهم(67). ولكن ما فيها من عناصر إيرانية خالصة يشتمل على كثير من الشواهد التي تكفي لصبغ الكتاب كله بالصبغة الفارسية العامة. فالفكرة السائدة فيه هي ثنائية العالم الذي يقوم على مسرحه صراع يدوم اثني عشر ألف عام بين الإله أهور- مزدا والشيطان أهرمان؛ وأن أفضل الفضائل
صفحة رقم : 630
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> زردشت
هما الطهر والأمانة وهما يؤديان إلى الحياة الخالدة؛ وأن الموتى يجب أن لا يدفنوا أو يحرقوا، كما كان يفعل اليونان أو الهنود القذرون، بل يجب أن تلقى أجسامهم إلى الكلاب أو الطيور الجارحة(68).
وكان إله زردشت في بادئ الأمر هو: "دائرة السماوات كلها" نفسها. فأهورا مزدا "يكتسي بقبة السماوات الصلبة يتخذها لباساً له؛ ... وجسمه هو الضوء والمجد الأعلى، وعيناه هما الشمس والقمر". ولما أن انتقل الدين في الأيام الأخيرة من الأنبياء إلى الساسة صُوّر الإله الأعظم في صورة ملك ضخم ذي جلال مهيب. وكان بوصفه خالق العالم وحاكمه يستعين بطائفة من الأرباب الصغار، كانت تصور أولا كأنها أشكال وقوى من أشكال الطبيعة وقواها- كالنار، والماء، والشمس، والقمر، والريح، والمطر. ولكن أكبر فخر لزردشت أن الصورة التي تصورها لإلهه هي أنه يسمو على كل شيء. وأنه عبَّر عن هذه الفكرة بعبارات لا تقل جلالاً عما جاء في سفر أيوب:
هذا ما أسألك عنه فاصدقني الخبر يا أهورا مزدا: من ذا الذي رسم مسار الشموس والنجوم؟- ومن ذا الذي يجعل القمر يتزايد ويتضاءل؟ ... ومن ذا الذي رفع الأرض والسماء من تحتها وأمسك السماء أن تقع؟- من ذا الذي حفظ المياه والنباتات- ومن ذا الذي سخر للرياح والسحب سرعتها- ومن ذا الذي أخرج العقل الخيّر يا أهورا مزدا؟(69)
وليس المقصود "بالعقل الخير" عقلاً إنسانياً ما، بل المقصود به حكمة إلهية لا تكاد تفترق في شيء عن "كلمة الله" يستخدمها أهورا مزدا واسطة لخلق الكائنات. وكان أهورا مزدا كما وصفه زردشت سبعة مظاهر أو سبع صفات
هي: النور، والعقل الطيب، والحق، والسلطان، والتقوى، والخير، والخلود. ولما كان أتباعه قد اعتادوا أن يعبدوا أرباباً متعددة فقد فسروا هذه الصفات على أنها أشخاص (سموهم أميشا اسبننا أو القديسين الخالدين) الذين خلقوا العالم ويسيطرون عليه بإشراف أهورا مزدا وإرشاده. وبذلك حدث في هذا الدين ما حدث في المسيحية فانقلبت الوحدانية الرائعة التي جاء بها مؤسسه شركا لدى عامة الشعب. وكان لديهم فضلاً عن هذه الأرواح المقدسة كائنات أخرى هي الملائكة الحرّاس. وقد اختص كل رجل وكل امرأة وكل طفل- حسب أصول اللاهوت الفارسي- بواحد منها، وكان الفارسي التقي يعتقد (ولعله كان في هذا الاعتقاد متأثراً بعقيدة البابليين في الشياطين) أنه يوجد إلى جانب هؤلاء الملائكة والقديسين الخالدين الذين يعينون الناس على التحلي بالفضيلة سبعة شياطين (ديو) أو أرواح خبيثة تحوم في الهواء، وتغوي الناس على الدوام بارتكاب الجرائم والخطايا، وتشتبك أبد الدهر في حرب مع أهورا- مزدا ومع كل مظهر من مظاهر الحق والصلاح. وكان كبير هذه الزمرة من الشياطين أنكرا- مينبوما أو أهرمان أمير الظلمة وحاكم العالم السفلي. وهو الطراز الأسبق للشيطان الذي لا ينقطع عن فعل الشر، والذي يلوح أن اليهود أخذوا فكرته عن الفرس ثم أخذتها عنهم المسيحية. مثال ذلك أن أهرمان أمير الظلمة وحاكم العالم السفلي. وهو الطراز الأسبق للشيطان الذي لا ينقطع عن فعل الشر، والذي يلوح أن اليهود أخذوا فكرته عن الفرس ثم أخذتها عنهم المسيحية. مثال ذلك أن أهرمان هو الذي خلق الأفاعي، والحشرات المؤذية، والجراد، والنمل، والشتاء، والظلمة، والجريمة، والخطيئة، واللواط، والحيض، وغيرها من مصائب الحياة. وهذه الآثام التي أوجدها الشيطان هي التي خربت الجنة حيث وضع أهورا مزدا الجدين الأعليين للجنس البشري(71).
ويبدو أن زردشت كان يعد هذه الأرواح الخبيثة آلهة زائفة، وأنها تجسيد خرافي من فعل العامة للقوى المعنوية المجردة التي تعترض رقى الإنسان. ولكن أتباعه رأوا أنه أيسر لهم أن يتصوروها كائنات حية فجسدوها وجعلوا
صفحة رقم : 632
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> زردشت
لها صوراً مازالوا يضاعفونها حتى بلغت جملة الشياطين في الديانة الفارسية عدة ملايين(72).
ولقد كانت هذه العقائد وقت أن جاء بها زردشت قريبة كل القرب من عقيدة التوحيد، بل إنها حتى بعد أن أقحموا فيها أهرمان والأرواح ظل فيها من التوحيد بقدر ما في المسيحية بإبليسها وشياطينها وملائكتها. والحق أن الإنسان ليسمع في الديانة المسيحية الأولى أصداء كثيرة للثنائية الفارسية، لا تقل عما يسمع فيها من أصداء التزمت العبراني، أو الفلسفة اليونانية. ولعل الفكرة الزردشتية عن الإله كانت ترضى عقلاً يهتم بدقائق الأشياء وتفاصيلها كعقل ماثيو آرنلد. ذلك أن أهورا مزدا، كان جماع قوى العالم التي تعمل للحق؛ والأخلاق الفاضلة لا تكون إلا بالتعاون مع هذه القوى. هذا إلا أن في فكرة الثنائية بعض ما يبرر ما تراه في العالم من تناقض والتواء وانحراف عن طريق الحق لم تفسره قط فكرة التوحيد وإذا كان رجال الدين الزردشتيون يحاجون أحياناً كما يحُاجّ متصوفة الهنود والفلاسفة المدرسيون، بأن الشر لا وجود له في حقيقة الأمر(73)، فإنهم في الواقع يعرضون على الناس ديناً يصلح كل الصلاحية لأن يمثل لأوساط الناس ما يصادفهم في الحياة من مشاكل خلقية تمثيلاً يقربها إلى عقولهم وتنطبع فيها انطباع الرواية المسرحية، وقد وعدوا أتباعهم بأن آخر فصل من هذه المسرحية سيكون خاتمة سعيدة- للرجل العادل. ذلك أن قوى الشر ستُغلب آخر الأمر ويكون مصيرها الفناء بعد أن يمر العالم بأربعة عهود طول كل منها ثلاثة آلاف عام يسيطر عليه فيها على التوالي أهورا مزدا وأهرمان. ويومئذ ينتصر الحق في كل مكان وينعدم الشر فلا يكون له من بعد وجود. ثم ينضم الصالحون إلى أهورا مزدا في الجنة ويسقط الخبيثون في هوة من الظلمة في خارجها يطعمون فيها أبد الدهر سُمَّاً زعافاً(74).
صفحة رقم : 633
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> الفلسفة الأخلاقية في الديانة الزردشتية
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل السادس: الفلسفة الأخلاقية في الديانة الزردشتية
الإنسان ميدان قتال - النار المخلدة - الجحيم والمطهر والجنة - عبادة مثرا - المجوس - البارسيين
لمّا صوّر الزردشتيون العالم في صورة ميدان يصطرع فيه الخير والشر، أيقظوا بعملهم هذا في خيال الشعب حافزاً قوياً مبعثه قوة خارجة عن القوى البشرية، يحض على الأخلاق الفاضلة ويصونها. وكانوا يمثلون النفس البشرية، كما يمثلون الكون، في صورة ميدان كفاح بين الأرواح الخيّرة والأرواح الشريرة؛ وبذلك كان كل إنسان مقاتلاً، أراد ذلك أو لم يرده، في جيش الله أو في جيش الشيطان، وكان كل عمل يقوم به أو يغفله يرجح قضية أهورا مزدا أو قضية أهرمان. وتلك فلسفة فيها من المبادئ الأخلاقية ما يعجب به المرء أكثر مما يعجب بما فيها من مبادئ الدين- إذا سلمنا بأن الناس في حاجة إلى قوة غير القوى الطبيعية تهديهم إلى طريقهم الخُلق الكريم. فهي فلسفة تضفي على الحياة الإنسانية من المعنى ومن الكرامة ما لا تضفيه عليه النظرة العالمية القائلة بأن الإنسان ليس إلا حشرة دنيئة لا حول لها ولا طول (كما كان يقول أهل العصور الوسطى)، أو آلة تتحرك بنفسها كما يقول أهل هذه الأيام. ذلك أن بني الإنسان حسب تعاليم زردشت ليسوا مجرد بيادق تتحرك بغير إرادتها في هذه الحرب العالمية؛ بل كانت لهم إرادة حرة، لأن أهورا مزدا، كان يريدهم شخصيات تتمتع بكامل حقوقها، وفي مقدورهم أن يختاروا طريق النور أو طريق الكذب. فقد كان أهرمان هو الكذبة المخلدة، وكان كل كذاب خادماً له.
ونشأ من هذه الفكرة قانون أخلاقي مفصل رغم بساطته يدور كله حول القاعدة الذهبية وهي أن "الطبيعة لا تكون خيّرة إلا إذا منعت صاحبها أن يفعل بغيره ما ليس خيراً له هو نفسه" . وتقول الأبستاق أن على الإنسان واجبات ثلاثة. "أن يجعل العدو صديقاً وأن يجعل الخبيث طيباً، وأن يجعل الجاهل عالماً"(76). وأعظم الفضائل عنده هي التقوى، ويأتي بعدها مباشرة الشرف والأمانة عملاً وقولاً. وحرّم أخذ الربا من الفرس، ولكنه جعل الوفاء بالدين واجباً يكاد أن يكون مقدساً(77). ورأس الخطايا كلها (في الشريعة الأبستاقية كما هي في الشريعة الموسوية) هو الكفر. ولنا أن نحكم من العقوبات الصارمة التي كانت توقع على الملحدين بأن الإلحاد كان له وجود بين الفرس، وكان المرتدون عن الدين يعاقبون بالإعدام من غير توان(78). لكن ما أمر به السيد من إكرام ورحمة لم يكن يطبق من الوجهة العملية على الكفار، أي على الأجانب، لأن هؤلاء كانوا صنفاً منحطاً من الناس أظلهم أهورا- مزدا فلم يحبوا إلا بلادهم وحدها لكي لا يغزو بلاد الفرس، ويقول هيرودوت أن الفرس: "يرون أنهم خير الناس جميعاً من جميع الوجوه ". وهم يعتقدون أن غيرهم من الأمم تدنوا من الكمال بقدر ما يقرب موقعها الجغرافي من بلاد فارس، وأن " شر الناس أبعدهم عنها"(79). إن لهذه الألفاظ نغمة حديثة وإنها لتنطبق على جميع الأمم في هذه الأيام. ولما كانت التقوى أعظم الفضائل على الإطلاق فإن أول ما يجب على الإنسان في هذه الحياة أن يعبد الله بالطهر والتضحية والصلاة. ولم تك فارس الزردشتية تسمح بإقامة الهياكل أو الأصنام، بل كانوا ينشئون المذابح المقدسة على قمم الجبال، وفي القصور، أو في قلب المدن، وكانوا يوقدون النار فوقها تكريماً لأهورا- مزدا
صفحة رقم : 635
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> الفلسفة الأخلاقية في الديانة الزردشتية
أو لغيره من صغار الآلهة. وكانوا يتخذون النار نفسها إلهاً يعبدونه ويسمونها أنار، ويعتقدون أنها ابن إله النور. وكانت كل أسرة تجتمع حول موقدها، تعمل على أن تظل نار بيتها متقدة لا تنطفئ أبدا، لأن ذلك من الطقوس المقررة في الدين. وكانت الشمس نار السماوات الخالدة تعبد بوصفها أقصى ما يتمثل فيها أهورا- مزدا أو مثرا كما عبدها إخناتون في مصر. وقد جاء في كتابهم المقدس: "يجب أن تعظم شمس الصباح إلى وقت الظهيرة وشمس الظهيرة يجب أن تعظم إلى العصر، وشمس العصر يجب أن تعظم حتى المساء... والذين لا يعظمون الشمس لا تحسب لهم أعمالهم الطيبة في ذلك اليوم"(80)، وكانوا يقربون إلى الشمس ، والى النار، والى أهورا- مزدا القرابين من الأزهار، والخبز، والفاكهة، والعطور، والثيران، والضأن، والجمال، والخيل، والحمير، وذكور الوعول. وكانوا في أقدم الأزمنة يقربون إليها الضحايا البشرية شأن غيرهم من الأمم(81). ولم يكن ينال الآلهة من هذه القرابين إلا رائحتها، أما ما يؤكل منها فقد كان يبقى للكهنة والمتعبدين، لأن الآلهة- على حد قول الكهنة- ليست في حاجة إلى أكثر من روح الضحية(82). وظلت العادة الآرية القديمة عادة تقديم عصير الهوما المسكر قرباناً إلى الآلهة باقية بعد انتشار الدين الزردشتي بزمن طويل، وإن كان زردشت نفسه جهر بسخطه على هذه العادة، وإن لم يرد لها ذكر في الأبستاق. وكان الكهنة يحتسون بعض هذا العصير المقدس، ويوزعون ما بقي منه على المؤمنين المجتمعين للصلاة(83).فإذا حال الفقر بين الناس وبين تقديم هذه القرابين الشهية، استعاضوا عنها بالزلفى إلى الآلهة بالأدعية والصلوات. وكان أهورا مزدا كما كان يهوه يحب الثناء ويتقبله، ومن ثم فقد وضع للمتقين من عباده طائفة رائعة من صفاته أضحت من الأوراد المحببة عند الفرس(84).
فإذا ما وهب الفارسي حياة التقى والصدق كان في وسعه أن يلقى الموت في
صفحة رقم : 636
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> الفلسفة الأخلاقية في الديانة الزردشتية
غير خوف؛ ومهما يكن من الأغراض التي يهدف إليها الدين فإن هذا المطلب كان أحد مطالبه الخفية. وكان من العقائد المقررة أن أستواد إله الموت يعثر على كل إنسان أيا كان مقره؛ فهو الباحث الواثق، الذي لا يستطيع الإفلات منه آدمي ولو كان من أولئك الذين يغوصون في باطن الأرض. كما فعل أفرسياب التركي الذي شاد له تحت أطباق الثرى قصراً من الحديد يبلغ ارتفاعه قدر قامة الإنسان ألف مرة، وأقام فيه مائة من الأعمدة، تدور في سمائه النجوم والقمر والشمس تغمره بأشعة النهار. وكان في هذا القصر يفعل كل ما يحلو له ويحيا أسعد حياة. ولكن لم يستطع رغم قوته وسحره أن يفر من أستواد ... كذلك لم يستطع النجاة منه من حفر الأرض الواسعة المستديرة التي تمتد أطرافها إلى أبعد الحدود كما فعل دهاق إذ طاف بالأرض شرقاً وغرباً يبحث عن الخلود فلم يعثر عليه. ولم يفده بأسه وقوته في النجاة من أستواد...ذلك أن أستواد المخاتل يأتي متخفياً إلى كل إنسان، لا يعظّم شخصاً، ولا يتقبل الثناء ولا الارتشاء، بل يهلك الناس بلا رحمة(85).
ولما كان من طبيعة الأديان أن ترهب وتنذر، كما تأسو وتبشر، فإن الفارسي رغم هذا كله لم يكن ينظر إلى الموت في غير رهبة إلا إذا كان جندياً يدافع عن قضية أهورا مزدا. فقد كان من وراء الموت، وهو أشد الخفايا كلها رهبة، وجحيم، وأعراف، وجنة. وكان لا بد لأرواح الموتى بأجمعها أن تجتاز قنطرة تصفى فيها، تجتازها الأرواح الطيبة فتصل في جانبها الثاني إلى "مسكن الفناء" حيث تلقاها وترحب بها "فتاة عذراء، ذات قوة وبهاء، وصدر ناهد، مليء" ؛ وهناك تعيش مع أهورا- مزدا سعيدة منعمة إلى أبد الدهر.
أما الروح الخبيثة فلا تستطيع أن تجتاز القنطرة فتتردى في درك من الجحيم يتناسب عمقه مع ما اقترفت من ذنوب(86). ولم يكن هذا الجحيم مجرد دار سفلى تذهب إليها كل الأرواح طيبة كانت أو خبيثة كما تصفها الأديان الأقدم عهداً
صفحة رقم : 637
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> الفلسفة الأخلاقية في الديانة الزردشتية
من الدين الزردشتي، بل كانت هاوية مظلمة مرعبة تعذب فيها الأرواح المذنبة أبد الآبدين(87). فإذا كانت حسنات الإنسان ترجح على سيئاته قاسى عذاباً مؤقتاً يطهره من الذنوب، وإذا كان قد ارتكب كثيراً من الخطايا ولكنه فعل الخير، لم يلبث في العذاب إلا اثني عشر ألف عام يرفع بعدها إلى السماء(88).
ويحدثنا الزردشتيون الصالحون بأن العالم يقترب من نهايته المحتومة؛ ذلك بأن مولد زردشت كان بداية الحقبة العالمية التي طولها ثلاثة آلاف سنة، وبعد أن يخرج من صلبه في فترات مختلفة ثلاثة من النبيين ينشرون تعاليمه في أطراف العالم، يحلّ يوم الحساب الأخير، وتقوم مملكة أهورا- مزدا، ويهلك أهرمان هو وجميع قوى الشر هلاكاً لا قيام لها بعده. ويومئذ تبدأ الأرواح الطيبة جميعها حياة جديدة في عالم خال من الشرور والظلام والآلام(89): "فيُبعث الموتى، وتعود الحياة إلى الأجسام، وتترد فيها الأنفاس ... ويخلو العالم المادي كله إلى أبد الدهر من الشيخوخة والموت والفساد والانحلال"(90).
وهنا أيضاً نستمع، كما نستمع في كتاب الموتى المصري، إلى التهديد بيوم الحساب الرهيب، وهو تهديد يلوح أنه انتقل من فلسفة الحشر الفارسية إلى الفلسفة اليهودية أيام أن كانت للفرس السيادة على فلسطين- ألا ما أروعه من وصف خليق بأن يرهب الأطفال فيصدعوا أوامر آبائهم!
ولما كان من أغراض الدين أن ييسر ذلك الواجب الصعب الضروري، واجب تذليل الصغار على يد الكبار، فإن من حق الكهنة الزردشتيين أن نقرّ لهم بما كانوا عليه من مهارة في وضع قواعد الدين. وإذا ما نظرنا إلى هذا الدين في مجموعهِ ألفيناه ديناً رائعاً أقل وحشية ونزعة حربية، وأقل وثنية وتخريفاً من الأديان المعاصرة له، وكان خليقاً بألا يُقضى عليه هذا القضاء العاجل.
وأتى على هذا الدين حين من الدهر في عهد دارا الأول كان فيه المظهر الروحي لأمة في أوج عزها. ولكن بني الإنسان يولعون بالشعر أكثر من ولعهم
بالمنطق، والناس يهلكون إذا خلت عقائدهم من بعض الأساطير. ومن أجل هذا ظلت عبادة مثرا وأنيتا- إله الشمس وإلهة الإنبات والخصب والتوالد والأنوثة- ظلت هذه العبادة قائمة إلى جانب دين أهورا- مزدا الرسمي تجد لها أتباعاً مخلصين، وعاد إسماهما إلى الظهور من جديد في النقوش الملكية أيام أرت خشتر الثاني، وأخذ اسم مثرا بعدئذ يعظم ويقوى، كما أخذ أهورا- مزدا يضمحل. وما أن وافت القرون الأولى من التاريخ الميلادي حتى انتشرت عبادة مثرا الإله الشاب ذو الوجه الوسيم- الذي تعلو وجهه هالة من نور ترمز إلى الوحدة القديمة بينه وبين الشمس- في جميع أنحاء الدولة الرومانية، وكان انتشارها هذا من أسباب الاحتفال بعيد الميلاد عند المسيحيين . ولو أن زردشت كان من المخلدين لتوارى خجلاً حين يرى تماثيل أنيتا أفرديتي الفرس، تقام في كثير من مدن الإمبراطورية الفارسية بعد بضعة قرون من وفاته(91). وما من شك في أنه كان يسوئه أن يجد صحفاً كثيرة من صحف وحيه قد خصها المجوس بطلاسم لشفاء المرضى والتنبؤ بالغيب والسحر(92) وذلك أن "الرجال العقلاء" أي كهنة المجوس قد غلبوا زردشت على أمره، كما يغلب الكهنة في آخر الأمر كل عاتٍ عاصياً كان أو زنديقاً، وذلك بأن يضموه إلى دينهم أو يستوعبوه فيه؛ فسلكوا أولاً في عداد المجوس، ثم لم يلبثوا أن نسوا ذكره(93). وما لبث هؤلاء المجوس بزهدهم وتقشفهم، واقتصارهم على زوجة واحدة، ومراعاتهم لمئات من الطقوس المقدسة، ومن تطهرهم بمئات الأساليب اتباعا لأوامر الدين وطقوسه، وبامتناعهم عن أكل اللحوم، وبملبسهم البسيط الذي لا تكلف ولا تظاهر فيه، ما لبث هؤلاء أن اشتهروا بالحكمة بين الشعوب الأجنبية،
ومنهم اليونان أنفسهم، كما أصبح لهم على مواطنيهم سلطان لا تكاد تعرف له حدود. لقد أصبح ملوك الفرس أنفسهم من تلاميذهم، لا يقدمون على أمر ذي بال إلا بعد استشارتهم فيه، فقد كانت الطبقات العليا منهم حكماء، والسفلي متنبئين وسحرة، ينظرون في النجوم ويفسرون الأحلام(94)؛ وهل ثمة شاهد على كعبهم اكبر من أن اللفظ الإنكليزي المقابل لكلمة "السحر" Magic مشتق من اسمهم. وأخذت العناصر الزردشتية في الديانة الفارسية تتضاءل عاماً بعد عام؛ نعم إنها انتعشت وقتاً ما أيام الأسرة الساسانية (226- 651 ب. م)، ولكن الفتح الإسلامي وغزو التتار قضيا عليها القضاء الأخير. ولا يوجد أثر للديانة الزردشتية في هذه الأيام إلا بين عشائر قليلة العدد في ولاية فارس، وبين البارسيين من الهنود الذين يبلغ عددهم تسعين ألفاً. ولا تزال هذه الجماعة حفيظة على كتبها المقدسة، تخلص لها وتدرسها، وتعبد النار والتراب، والأرض والماء، وتقدسها، وتعرض موتاها في "أبراج الصمت" للطيور الجارحة كي لا تدنس العناصر المقدسة بدفنها في الأرض أو حرقها في الهواء. وهم قوم ذوو أخلاق سامية وآداب رفيعة، وهم شاهد حي على فضل الدين الزردشتي وما له من أثر عظيم في تهذيب بني الإنسان وتمدينهم.
الفصل السابع: آداب الفرس وأخلاقهم
العنف والشرف - قانون النظافة - خطايا الجسد - العذارى والأعزب - الزواج - النساء- الأطفال - آراء الفرس في التربية والتعليم
إن الذي يدهشنا بحق هو ما بقي لدى الميديين والفرس من وحشية رغم دينهم هذا. انظر إلى ما كتبه دارا الأول أعظم ملوكهم في نقش بهستون: "وقبض على فرافارتش وجيء به إليَّ. فجدعت أنفه، وصلمت أذنيه، وقطّع لسانه، وفقأت عينيه، وأبقيته في بلاطي مقيداً بالأغلال يراه كل الناس. ثم صلبته بعدئذ في إكباتانا...وكان أهورا- مزدا أكبر معين لي، فقد بطش جيشي برعاية أهورا- مزدا بالجيش الثائر، وقبضوا على سترنكخارا وجاءوا به إليَّ، فجدعت أنفه، وصلمت أذنيه، وفقأت عينيه. وبقى مقيداً بالأغلال في بلاطي يراه الناس جميعاً، ثم صلبته"(95). وإن في حوادث الإعدام التي يقصها أفلوطرخس في سيرة أرت خشتر لصورة مروعة لما كانت عليه أخلاق ملوك الفرس في العهد الأخير. لقد كان الخونة يقضى عليهم بلا شفقة ولا رحمة: فكانوا يصلبون هم وزعمائهم، ثم يباع أتباعهم بيع الرقيق، وتنهب مدنهم، ويخصي غلمانهم، وتسبى بناتهم(96)ويبعن. ولكن ليس من العدالة في شيء أن يحكم الإنسان على شعب بأسره من سيرة ملوكه. ذلك أن الفضيلة لا ترويها الأخبار، وأفاضل الناس لا تاريخ لهم، شأنهم في هذا شأن الأمم الهنيئة السعيدة. بل إن الملوك أنفسهم كانوا يبدون في بعض المناسبات شيئاً من مكارم الأخلاق، وكانوا يشتهرون بين اليونان الغادرين بوفائهم. فإذا عاهدوا أوفوا بعهدهم، وكان من دواعي فخرهم
أنهم لا ينقضون كلمتهم(97). ومما يجب أن نذكره للفرس مقروناً بالثناء والتقدير، أن من العسير علينا أن نجد في تاريخهم فارسياً قد استؤجر ليحارب الفرس، على حين أن أي إنسان كان يسعه أن يستأجر اليونان ليحارب اليونان .
وخليق بنا أن نذكر أن خلافهم لم تبلغ من القسوة ذلك الحد الذي يتبادر إلى أذهاننا من قراءة تاريخهم الحافل بالدم والحديد. لقد كان الفرس يتحلون بالصراحة والكرم وحفظ الود وسخاء اليد(99). يراعون آداب المجالس ويحرصون عليها حرصاً لا يكاد يقل عن حرص الصينيين. وكانوا إذا تقابل منهم شخصان متساويان في المرتبة تعانقا وقبل كل منهما الآخر في شفتيه؛ فإذا قابل الواحد منهم من هو أعلى منه منزلة انحنى له انحناءة كبيرة تشعر بالخضوع والاحترام، وإذا التقى بمن هو أقل منه قدّم له خده ليقبله، فإذا قابل أحد السوقة اكتفى بإحناء رأسه(100). وكانوا يستنكرون تناول شيء من الطعام أو الشراب على قارعة الطريق، كما يسوؤهم أن يبصق الإنسان أو يتمخط أمام الناس(101). وقد ظلوا أيام خشيرشا مقتصدين في مأكلهم ومشربهم، لا يطعمون إلا وجبة واحدة في اليوم، ولا يشربون إلا الماء القراح(102). وكانوا يعدون النظافة أكبر النعم لا تفضلها إلا الحياة نفسها، وأن الأعمال الطيبة إذا صدرت عن أيد قذرة كانت لا قيمة لها، "لأن الإنسان إذا لم يقض على الفساد (ولعله يريد "الجراثيم")فإن الملائكة لا تسكن جسمه"(103). وكانوا يفرضون أشد العقوبات على من يتسببون في نشر الأمراض المعدية. وكان الأهلون يجتمعون في الأعياد وكلهم يرتدون الملابس البيضاء(104). وكانت الشريعة الأبستاقية كالشريعتين البرهمية والموسوية مليئة بمراسم التطهير والحذر من القذارة. وفي كتاب الزردشتيين المقدس فقرات طويلة مملة خصت كلها بشرح القواعد الواجب اتباعها لطهارة الجسد والروح(105). وقد جاء فيها أن قلامة الأظفار، وقصاصات الشعر، وإخراج النفس من الفم كلها أقذار يجب على الفارسي العاقل أن يتجنبها إلا إذا كانت قد طهرت من قبل(106).
كذلك كانت الشرائع الفارسية صارمة في عقاب خطايا الجسد صرامة الشرائع اليهودية، فكان الاستمناء باليد يعاقب عليه بالجلد، وكان عقاب من يرتكب جريمة الزنا واللواط والسحاق من الرجال والنساء "أن يقتلوا لأنهم أحق بالقتل من الأفاعي الزاحفة والذئاب العاوية"(107). لكن في مقدورنا أن نستدل من الفقرة الآتية التي أوردها هيرودوت على وجود الخلف المعتاد بين القول والعمل: "يرى الفرس أن خطف النساء قوة واقتداراً عمل لا يأتيه إلا الأشرار، ولكن اشتغال الإنسان بالثأر لهن إذا اختطفن من أعمال الحمقى؛ أما إهمالهن إذا اختطفن فمن أعمال الحكماء؛ فغير خاف أنهن لو لم يكن راغبات لما اختطفن"(108). ويقول في موضع آخر إن الفرس "قد أخذوا عن اليونان اشتهاء الغلمان"(109)، وإنا وإن كنا لا نستطيع أن نثق بكل ما يقوله هذا الراوية العظيم لنستشف ما يؤيد قوله هذا في العبارات القاسية التي تشنع بها الأبستاق على اللواط. فهي تقول في مواضع كثيرة إن هذا الذنب لا يغتفر وإنه " لا شيء يمحوه قط"(110).
ولم يكن القانون يشجع البنات على أن يظللن عذارى ولا العزاب على أن يبقوا بلا زواج، ولكنه كان يبيح التسري وتعدد الزوجات، ذلك بأن المجتمعات الحربية في حاجة ماسة إلى كثرة الأبناء. وفي ذلك تقول الأبستاق: "إن الرجل الذي له زوجة يفضل كثيراً من لا زوجة له، والرجل الذي يعول أسرة يفضل كثيراً من لا أسرة له، والذي له أبناء يفضل من لا أبناء له، والرجل ذو الثراء أفضل كثيراً ممن لا ثروة له"(111)، وتلك كلها معايير للمركز الاجتماعي شائعة بين مختلف الأمم، وكانت الأسرة لديهم أقدس النظم الاجتماعية.
وكان من الأسئلة التي ألقاها زردشت على أهورا- مزدا: "أي إلهي خالق العالم المادي- إلهي القدوس! ما هو المكان الثاني الذي تحس الأرض فيه أنها أسعد ما تكون؟". ويجيبه أهورا- مزدا عن سؤاله هذا بقوله : "إنه المكان الذي يشيد فيه أحد المؤمنين بيتا في داخله كاهن، وفيه ماشية، وفيه زوجة، وفيه أطفال، وفيه أنعام طيبة، والذي تكثر فيه الماشية بعدئذ من النتاج، وتكثر فيه الزوجة من الأبناء، وينمو فيه الطفل، وتشتعل فيه النار، وتزداد فيه جميع نعم الحياة"(112). وكان الحيوان- خاصة الكلب- جزءاً أساسياً من الأسرة، كما كان شأنه في الوصية الأخيرة التي أنزلت على موسى، وكان واجبا مفروضاً على أقرب الأسر إلى أنثى الحيوان الحامل الضالة أن تعنى بها(113)، وفرضت أشد العقوبات على من يطعمون الكلاب طعاماً فاسداً، أو طعاماً شديد الحرارة؛ وكان عقاب من "يضرب كلبة علتها ثلاث كلاب "أن يجلد أربعمائة وألف جلدة(114). وكانوا يعظمون الثور لما له من قدرة عظيمة على الإخصاب. كما كانوا يصلون للبقرة ويقربون لها القربان(115). وكان الآباء ينظمون شئون الزواج لمن يبلغ الحُلُم من أبنائهم. وكان مجال الاختيار لديهم واسعاً، فقد قيل لنا إن الأخ كان يتزوج أخته، والأب ابنته، والأم ولدها(116). وكان التسريّ من المتع التي اختص بها الأغنياء، ولم يكن الأشراف يخرجون للحرب إلا ومعه سراريهم(117). وكان عدد السراري في قصر الملك في العصور المتأخرة من تاريخ الإمبراطورية يتراوح بين 360ر329، فقد أصبحت العادة في تلك الأيام ألا يضاجع الملك امرأة مرتين إلا إذا كانت رائعة الجمال(118). وكان للمرأة في بلاد الفرس مقام سام في أيام زردشت كما هي عادة القدماء؛ فقد كانت تسير بين الناس بكامل حريتها سافرة الوجه، وكانت تمتلك العقار وتصرف شئونه، وكان في وسعها أن تدير شئون زوجها باسمه أو بتوكيل منه. ثم انحطت منزلتها بعد دارا، وخاصة بين الأغنياء، فأما المرأة الفقيرة فقد احتفظت بحريته في التنقل لاضطرارها إلى العمل، وأما غير الفقيرات فقد كانت العزلة المفروضة عليهن في أيام حيضهن على الدوام تمتد حتى تشمل جميع حياتهن الاجتماعية، وكان ذلك أساس نظام البردة عند المسلمين. ولم تكن نساء الطبقات العليا يجرؤن على الخروج من بيوتهن إلا في هوادج مسجفة، ولم يكن يسمح لهن بالاختلاط بالرجال علناً. وحرم على المتزوجات منهن أن يرين أحداً من الرجال ولو كانوا أقرب الناس إليهن كآبائهن أو إخوانهن. ولم تذكر النساء قط أو يرسمن في النقوش أو التماثيل العامة في بلاد الفرس القديمة. أما السراري فكن أكثر من غيرهن حرية، إذ كان للنساء في جميع الأوقات سلطان قوى في بلاط الملوك حتى في العهود الأخيرة، وكن ينافسن الخصيان في تدبير المؤامرات، والملوك في تمحيص وسائل التعذيب . وكان الأبناء كما كان الزواج من الشروط الأساسية للإجلال والإكبار. فالذكور منهم ذوو فائدة اقتصادية لآبائهم وحربية لملوكهم؛ أما البنات فلم يكن يرغب فيهن، لأنهن كن ينشأن لغير بيوتهن، وليستفيد منهن غير آبائهن. ومن أقوال الفرس في هذا المعنى: "إن الرجال لا يدعون الله أن يرزقهم بنات، والملائكة لا تحسبهن من النعم التي أنعم بها على بني الإنسان"(120).
وكان الملك في كل عام يرسل الهدايا إلى الآباء الكثيري الأبناء، كأن هذه الهدايا ثمناً لدمائهم يدفع مقدماً(121). وكان الحمل سفاحاً سواء ممن لم يتزوجن من البنات أو ممن تزوجن منهن يغتفر أحياناً إذا لم تجهض الحامل، ذلك أن الإجهاض كان في تقديرهم أشد جرماً من سائر الجرائم، وكان عقابه الإعدام(122). وقد ورد في أحد الشروح القديمة المسماة بالبندهش وصف لجملة وسائل لمنع الحمل، ولكنها تحذر الناس من الالتجاء إليها. ومما جاء فيها: "وفيما يختص بالتناسل قيل في الكتاب المنزل إن المرأة إذا خرجت من الحيض تظل عشر ليال وعشرة أيام عرضة للحمل إذا اقترب منها الرجال"(123). وكان الوليد يبقى في أحضان أمه حتى السنة الخامسة من عمره ثم يحتضنه أبوه حتى السابعة، وفي هذه السنة يدخل المدرسة. وكان التعليم يقصر في الغالب على أبناء الأغنياء، ويتولاه الكهنة عادة. فكان التلاميذ يجتمعون في الهيكل أو في بيت الكاهن؛ وكان من المبادئ المقررة ألا تقوم مدرسة بالقرب من السوق حتى لا يكون ما يسودها من كذب وسباب وغش سبباً في إفساد الصغار(124). وكانت الكتب الدراسية هي الأبستاق وشروحها، وكانت مواد الدراسة تشمل الدين، والطب أو القانون، أما طريقة الدرس فكانت الحفظ عن ظهر قلب، وتكرار الفقرات الطويلة غيباً(125). أما أبناء الطبقات غير الموسرة فلم يكونوا يفسدون بتلقي ذلك النوع من التعليم، بل كان تعليمهم مقصوراً على ثلاثة أشياء- ركوب الخيل، والرمي بالقوس، وقول الحق(126). وكان التعليم العالي عند أبناء الأثرياء يمتد إلى السنة العشرين أو الرابعة والعشرين، وكان من يعد إعداداً خاصا لتولي المناصب العامة أو حكم الولايات؛ وكانوا كلهم بلا استثناء يدربون على القتال. وكانت حياة الطلاب في هذه المدارس العليا حياة شاقة. فكان التلاميذ يستيقظون مبكرين، ويدربون على الجري مسافات طويلة، وعلى ركوب الخيل الجامحة وهي تركض بأقصى سرعتها، والسباحة، وصيد الحيوان، ومطاردة اللصوص، وفلاحة الأرض، وغرس الأشجار، والمشي مسافات طويلة في حر الشمس اللافح أو البرد القارس؛ وكانوا يدربون على تحمل جميع تقلبات الجو القاسية، وأن يعيشوا على الطعام الخشن البسيط، وأن يعبروا الأنهار دون أن تبتل ملابسهم أو دروعهم(127). لقد كان هذا في الحق تعليماً ينشرح له صدر فردرك نتشة في اللحظات التي يستطيع فيها نسيان ثقافة اليونان الأقدمين وما فيها من تنوع وبريق.
الفصل الثامن: العلوم والفنون
الطب - الفنون الصغرى - قبرا قورش ودارا - قصور برسبوليس - نقش الرماة - قيمة الفن الفارسي
يلوح أن الفرس قد تعلموا ألا يعلموا أبناءهم أي فن من الفنون عدا فن الحياة. فأما الأدب فقد كان في رأيهم ترفاً قل أن يحتاجوا إليه، وأما العلوم فقد كانت سلعاً يستطيعون أن يستوردوها من بابل. نعم إنهم كانوا يستسيغون بعض الاستساغة الشعر والروايات الخيالية، ولكنهم تركوا هذين الفنين للمستأجرين وذوي المنزلة الدنيا منهم، وآثروا متعة الحديث الفكه على لذة السكون والوحدة في البحث والقراءة.
وكان الشعر عندهم ُيغنى أكثر مما يقرأ، فلما مات المغنون مات الشعر معهم. وكان الطب في بادئ الأمر من أعمال الكهنة، وكانوا يمارسونه على أساس أن الشيطان خلق 99999 مرضاً يجب أن تعالج بمزيج من السحر ومراعاة قواعد الصحة العامة. وكانوا يعتمدون في علاج المرضى على الرقى أكثر من اعتمادهم على العقاقير، وحجتهم في هذا أن الرقى، إن لم تشف من المرض، لا تقتل المريض، وهو ما لا يستطاع قوله عن العقاقير(128). إلا أن الطب مع ذلك قد نشأ بين غير رجال الدين حينما زادت ثروة الفرس زيادة مطردة، حتى إذا كان عهد أرت خشتر الثاني تكونت في البلاد نقابة للأطباء والجراحين وحدد القانون أجورهم- كما حددها قانون حمورابي- وفقاً لمنزلة المريض الاجتماعية(129).
وقد نص القانون على أن يعالج الكهنة من غير أجر، وكان يطلب إلى الطبيب الناشئ عند الفرس أن يبدأ حياته الطبية بعلاج الكفرة والأجانب، كما نفعل نحن هذه الأيام، إذ يقضي الطبيب المقيم سنة أو سنتين في المران على أجسام المهاجرين والفقراء. بذلك قضى ربُّ النور نفسه إذ قال:
"يا خالق الكون يا قدوس، إذا شاء عبد من عباد الله أن يمارس فن العلاج، فأي الناس يجب أن يجرب فيهم حذقه؟ أيجربه في عباد أهورا- مزدا أم في عبدة الشياطين؟. فأجاب أهورا- مزدا بقوله: يجب أن يجرب نفسه في عبدة الشياطين لا في عباد الله؛ فإذا عالج بالمبضع عبداً من عبدة الشياطين فمات؛ وإذا عالج بالمبضع عبداً ثانياً من عبدة الشياطين فمات؛ وإذا عالج بالمبضع عبداً ثالثاً من عبدة الشياطين فمات، كان غير صالح أبد الدهر؛ ويجب أن يمتنع عن علاج أي عبد من عباد الله...وإذا عالج بالمبضع عبداً من عبدة الشياطين وشفى؛ وإذا عالج بالمبضع عبداً ثانيا من عبدة الشياطين وشفى؛ فإذا عالج بالمبضع عبداً ثالثا من عبدة الشياطين وشفى، كان صالحا أبد الدهر؛ وكان له إذا أراد أن يعالج عباد الله، ويشفيهم من أمراضهم بالمبضع"(130).
ولما كان الفرس قد وهبوا أنفسهم لإقامة صرح الإمبراطورية، فإن وقتهم لم يتسع لغير الحرب والقتال، ولذلك كان جل اعتمادهم في الفنون على ما يأتيهم من البلاد الأجنبية، شأنهم في هذا شأن الرومان سواء بسواء. نعم إنهم كانوا يتذوقون جمال الأشياء، ولكنهم كانوا يكلون إلى الفنانين الأجانب أو إلى من في بلادهم من الفنانين أبناء الأجانب صنع هذه الأشياء، ويحصلون من الولايات التابعة لهم على المال الذي يؤدون منه أجور أولئك الفنانين. وكانت لهم بيوت جميلة وحدائق غنّاء، تستحيل في بعض الأحيان بساتين للصيد ومسارح للحيوان؛ وكان لهم أثاث قّيم غالي الثمن: من نضد مصفحة برقائق الفضة والذهب أو مطعمة بها، وسرر فرشت عليها أغطية جاءوا بها من غير بلادهم، وطنافس لينة جمعت كل ألوان الأرض والسماء يفرشون بها أرض حجراتهم(131). وكانوا يشربون في كؤوس من الذهب، ويزينون نضدهم ورفوفهم بمزهريات من صنع الأجانب . وكانوا مولعين بالعزف والغناء وبأنغام الناي والقيثار والنقر على الطبول والدفوف.
وكانت الجواهر كثيرة لديهم من تيجان وأقراط، إلى خلاخيل وأحذية مذهبة. وحتى الرجال أنفسهم كانوا يتباهون بحليهم يزينون بها أعناقهم وآذانهم وأذرعهم. وكانوا يستوردون اللؤلؤ، والياقوت، والزمرد، واللازورد من خارج بلادهم؛ أما الفيروز فكانوا يستخرجونه من المناجم الفارسية، وكان هو المادة التي تصنع منها الطبقة الموسرة أختامها. وكانت لهم حليّ ذات أشكال رهيبة غريبة تمثل في ظنهم ملامح الشياطين المعروفة لديهم. وكان ملكهم يجلس على عرش من ذهب تغطيه أكنان ذهبية مرفوعة على قوائم من الذهب(133). ولم يكن للفرس طراز فني خاص إلا في العمارة. فقد شادوا في أيام قورش، ودارا الأول، وخشيارشاى الأول مقابر وقصوراً، كشف علماء الآثار القليل منها، وقد يستطيع المعول والمجرف- وهما المؤرخان اللذان لا ينقطعان عن البحث والتنقيب- أن يكشفا لنا في المستقبل القريب ما يعلي من تقديرنا للفن الفارسي . ولقد أبقى لنا الإسكندر بفضل ما أثر عنه من كريم الشيم قبر قورش في بازار جادة، فأصبح طريق القوافل في هذه الأيام يمر بالطوار العاري الذي كان يقوم عليه من قبل قصر قورش وقصر ابنه المخبول. ولم يبق الآن من هذين القصرين غير عمد قليلة محطمة في مواضع متفرقة، أو كتف باب أو نافذة عليها نقوش تمثل ملامح قورش. وعلى مقربة من هذا الطوار في السهل المجاور له يشاهد القبر وقد عدا عليه الزمان في خلال القرون الأربعة والعشرين، التي مرت به؛ فهو الآن ضريح حجري بسيط، يوناني في شكله وتحرج صانعه، يرتفع إلى ما يقرب من خمس وثلاثين قدماً فوق قاعدة مدرجة. وما من شك في أن هذا الأثر كان أعلى مما هو الآن وأنه كانت له قاعدة تتناسب مع ضخامته. أما الآن فإنه يبدو عارياً عطلاً من الزينة مهجوراً، توحي صورته بالجمال الذي لا يكاد يبقى منه أثر فيه؛ وكل ما يبعثه في النفس هو الأسى والحزن، لأن الجماد أبقى على الزمان من سواه. وإلى أقصى الجنوب عند نقش رستم غير بعيد من برسبوليس يقوم قبر دارا الأول منحوتاً في واجهة صخرة في الجبل كأنه ضريح هندوسي، وقد نقش مدخله ليمثل لمن يراه واجهة قصر لا قبر، وأقيمت عند هذا المدخل أربعة عمد دقيقة حول باب غير شامخ. ومن فوق هذا الباب شخوص قائمة كأنها فوق سقف يمثل أهل البلاد الخاضعة للفرس تحمل منصة رسم عليها الملك كأنه يعبد أهورا- مزدا والقمر. والفكرة التي أوحت بهذا الرسم وطريقة تنفيذها تسري فيهما روح البساطة والرقة الأرستقراطية.
والمباني الفارسية الأخرى التي نجت من الحروب والغارات والسرقات وفعل الأجواء مدى ألفين من الأعوام، هي خرائب القصور. فقد شاد ملوك الفرس الأولون في إكباتانا مسكناً لهم من خشب الأرز والسرو المصفح بالمعادن، كان لا يزال قائماً في أيام يوليبويس (حوالي 150 ق.م)، أما الآن فلم يبق له اثر. أما أروع الآثار الفارسية القديمة التي تنفرج عنها الأرض الكتوم يوماً بعد يوم فهي الدرج الحجرية والأرصفة والأعمدة التي كشفت في برسبوليس. ذلك أن دارا ومن جاء بعده من ملوك الفرس قد أقاموا لهم فيها قصوراً يحاولون بها أن يرجئوا الوقت الذي تنسى فيه أسمائهم. ولسنا نجد في تاريخ العمائر كلها ما يشبه الدرج الخارجية العظيمة التي كان القادم من السهل يرقاها إلى الربوة التي شيدت عليها القصور.
وأكبر الظن أن الفرس أخذوا هذا الطراز عن الدرج التي كانت توصل إلى الزجورات، أي أبراج أرض الجزيرة، وتلتف حولها، ولكنها كان لها مع ذلك خصائص لا يشاركها فيها غيرها من المباني. ذلك أنها كانت سهلة المرتقى واسعة يستطيع عشرة من ركاب الخيل أن يصعدوها جنبا إلى جنب . وما من شك في أن هذه الدرج كانت مدخلا بديعاً إلى الطور الفسيح الذي يعلو عن الأرض المجاورة له علواً يتراوح بين عشرين وخمسين قدماً، والذي يبلغ طوله خمسمائة وألف قدم، وعرضه ألفاً، والذي شيدت عليه القصور الملكية . وكان عند ملتقى الدرج الصاعدة من الجانبين مدخل أمامي كبير نصبت على جانبيه تماثيل ثيران مجنحة ذات رؤوس بشرية كأبشع ما خلفه الفن الآشوري. وكانت في الجهة اليمنى بعد هذا المدخل آية العمائر الفارسية على الإطلاق، ونعنى بها الجهل- منار أو الردهة العظمى التي شادها خشيارشاى الأول، والتي كانت هي وغرفات الانتظار المتصلة بها تشغل رقعة من الأرض تربى مساحتها على مائة ألف قدم مربع، فهي أوسع- إذا كان للسعة قيمة- من معبد الكرنك الفسيح ومن أية كنيسة أوربية عدا كنيسة ميلان(138).
وكانت هناك مجموعة أخرى من الدرج تؤدي إلى هذه الردهة الكبرى، وتحف بها من كلا الجانبين جدر لزينتها قليلة الارتفاع، وعلى جوانبها نقوش بارزة قليلاً هي أجمل ما كشف من النقوش الفارسية القليلة البروز إلى هذا اليوم(139).ولا يزال ثلاثة عشر عموداً من الاثنين والسبعين التي كانت قائمة في قصر خشيارشاى باقية إلى اليوم بين خربات القصر، كأنها جذوع نخل في واحة مقفرة موحشة. وتعد هذه الأعمدة المبتورة من الأعمال البشرية القريبة من الكمال، وهي أرفع من مثيلاتها في مصر القديمة أو اليونان، وتعلو في الجو علواً لا تصل إليه معظم الأعمدة الأخرى، إذ يبلغ ارتفاعها أربعة وستين قدماً، وقد خطت في جذوعها ستة وأربعون محزاً، وتشبه قواعدها أجراساً تغطيها أوراق أشجار مقلوبة الوضع، ومعظم تيجانها في صورة لفائف من الأزهار تكاد تشبه اللفائف "الأيونية"، يعلوها صدرا ثورين أو حصانين مقرنين يتصل عنقاهما من الخلف وترتكز عليهما عوارض السقف. ولسنا نشك في أن هذه العوارض كانت من الخشب، لأن أمثال هذه العمد المتباعدة السريعة العطب لا تقوى على تحمل الدعامات الحجرية الثقيلة. وكانت أكتاف الأبواب وكفافات النوافذ من حجارة سود مزخرفة براقة كالأبنوس. أما الجدران فكانت من الآجر يغطيها القرميد المصقول رسمت عليه صور زاهية تمثل حيوانات وأزهاراً. وكانت العمد والفصوص والدرج من حجر الجير الجميل أو الرخام الأزرق الصلد. وقام من خلف الجهل- منار، أي من شرقيها "بهو العمد المائة" ولم يبق من هذا البهو سوى عمود واحد والحدود الخارجة لتصميمه العام. ولعل هذين القصرين كانا أجمل ما شاده الإنسان في العالم القديم والحديث على السواء.
وأقام أرت خشتر الأول والثاني في مدينة السوس قصرين لم يبق منهما إلا أساسهما. ذلك أنهما شُيّدا من الآجر المكسو بأجمل ما عرف من القرميد ذي الطلاء الزجاجي. وفي السوس عثر المنقبون على "نقش الرماة" وهم في أكبر الظن "المخلدون" الأمناء حراس الملك. ويبدو للناظر إلى هؤلاء الرماة ذوي الطلعة المهيبة أنهم قد ازينوا لحضور حفلة في القصر وليسوا خارجين لقتال أو حرب. فجلابيبهم تخطف الأبصار بألوانها الزاهية، وشعورهم ولحاهم مجعدة تجعيداً عجيباً، وهم يمسكون بأيديهم في قوة وخيلاء رماحهم رمز مناصبهم الرسمية. ولم يكن التصوير والنحت في السوس وفي غيرها من العواصم فنين مستقلين، بل كانا تابعين لفن العمارة، كذلك كانت الكثرة الغالبة من التماثيل من صنع
فنانين جيء بهم من أشور وبابل وبلاد اليونان(140).
وفي وسع الإنسان أن يقول عن الفن الفارسي ما يستطيع أن يقوله عن الفنون كلها تقريباً، وهو أن عناصره كلها مستعارة من خارج البلاد. فقبر قورش استعير شكله الخارجي من ليديا، وعمده الحجرية الرفيعة منقولة عن مثيلاتها من العمد الآشورية مع شيء من التحسين، وبهو الأعمدة الضخمة والنقوش القليلة البروز تشهد بأنها قد أوحت بها أبهاء مصر ونقوشها، وتيجان الأعمدة التي على صورة الحيوان عدوى تسربت إليهم من نينوى وبابل. أما الذي جعل فن العمارة الفارسي فناً قائماً بذاته مختلفاً عن غيره من فنون العمارة فهو اجتماع هذه العناصر كلها والمواءمة بينها، وهو الذوق الأرستقراطي الذي رقق العمد المصرية المهولة وكتل أرض الجزيرة الثقيلة فأحالها بريقاً ورشاقة، وتناسباً وتناغماً، يطالعنا في برسبوليس.
وكان اليونان يستمعون إلى وصف هذه الأبهاء وقصورهم وهم أشد ما يكونون دهشة منها وإعجابا بها، لأن تجارهم المجدين العاملين وساساتهم المطلعين كانوا يحدثونهم عن فنون الفرس وترفهم بما يثير عواطفهم ويحفزهم على منافستهم. وسرعان ما استبدلوا برؤوس العمد المزدوجة وبالحيوانات ذوات الأعناق الجامدة المتصلبة القائمة فوق العمد الرشيقة، نقول سرعان ما استبدلوا بها الفصوص الملساء التي نراها في تيجان العمد الأيونية؛ ثم قصروا سوقها، وزادوها قوة لكي تتحمل أي عارضة ترتكز عليها سواء أكانت من الخشب أو الحجر. والحق أنه لم يكن بين فني العمارة في برسبوليس وأثينا إلا خطوة واحدة، فقد كان عالم الشرق الأدنى على بكرة أبيه، وقد أوشك أن يستغرق في سبات عميق كأنه الموت إلا أنه موت لا يدوم إلا ألف عام، كان عالم الشرق يتأهب ليستودع اليونان تراثه القديم.
الفصل التاسع: الانحطاط
كيف تموت الأمم - خشيارشاي - فقرة عن التقتيل - أرت خشتر الثاني - قورش الأصغر - دار الصغير - أسباب الانحطاط السياسية والحربية والخلقية - الإسكندر - فتح فارس والزحف على الهند
لم تكن الإمبراطورية التي أقامها دارا تعمر إلا قرناً من الزمان. ذلك أن قواها الطبيعية المادية والأدبية قد تصدعت على أثر الهزائم التي منيت بها في مراثون، وسلاميس، وبلاتية. وأهمل الأباطرة شئون الحرب، وانغمسوا في الشهوات، وتردت الأمة في مهاوي الجمود والفساد. ويكاد اضمحلال فارس أن يكون في جملته وتفاصيله صورة معجلة من سقوط روما؛ فقد اقترن فيه عنف الأباطرة وإهمالهم بفساد أخلاق الشعب وانحلالهم، وحل بالفرس ما حل بالميديين قبلهم، إذ استحال ما كانوا يتصفون به من تقشف وزهد منذ أجيال قليلة إلى استمتاع طليق، وأصبح أكبر ما تهتم به الطبقات الأرستقراطية بملء بطونها بلذيذ المأكل والمشرب؛ وشرع هؤلاء الرجال الذين فرضوا على أنفسهم من قبل ألا يتناولوا إلا وجبة واحدة من الطعام في اليوم يفسرون معنى الوجبة الواحدة بأنها وجبة تمتد من الظهر إلى غسق الليل، فامتلأت مخازن مؤنهم بكل ما لذ وطاب، وكثيراً ما كانوا يقدمون الذبائح كاملة لضيوفهم، وملئوا بطونهم باللحوم السمينة النادرة، وتفننوا في ابتكار أنواع المُشَهّيات والحلوى(140أ). وغُصّت بيوت الأثرياء بالخدم الفاسدين المفسدين، وأصبح السُّكْر الرذيلة الشائعة بين كل الطبقات(140ب). وملاك القول أن قورش ودارا قد خلقا بلاد الفرس وأن خشيارشاي ورثها عنهما ثم جاء من خَلَفَهُم من الملوك فدمروها تدميرا.
وكان خشيارشاي الأول ملكاً اجتمعت فيه كل صفات الملوك- الجسمية -؛ كان طويل القامة، قوي الجسم، يقر له الملوك بأنه أجمل إنسان في الإمبراطورية كلها(141). ولكن الرجل الوسيم غير المغتر لم يخلق بعد في هذا العالم، كما لم يخلق فيه بعد الرجل المغتر الذي لم تَقُدْهُ امرأة من أنفه. لقد كان خشيارشاي َنهِباً لسراريه، وما كان أكثرهن، وضرب أسوأ الأمثال لشعبه في الفسق والفجور. ولقد كانت هزيمته في سلاميس هزيمة طبيعية متوقعة؛ ذلك أن كل ما كان له من أسباب العظمة هو حب التعاظم لا قدرته على مغالبة الخطوب، والتحلي بصفات الملوك الحقة إذا دعا الداعي وتأزمت الأمور. وبعد أن قضى هذا الملك عشرين عاماً في غمرة الدسائس الشهوانية، والتراخي والإهمال في شئون الحكم، اغتاله أرتيان أحد رجال حاشيته، ووري في قبره باحتفال ملكي مهيب واغتباط شامل.
وليس في التاريخ كله ما يماثل المجازر المروعة والدم المراق اللذين تطالعنا بهما سجلات الفرس الملكية إلا سجلات رومة بعد تيبيريوس. لقد اغتال أرت خشتر الأول مغتال خشيارشاي، وبعد أن حكم أرت خشتر حكماً طويلاً خلفه خشيارشاي الثاني، ثم اغتاله بعد بضعة أسابيع من حكمه أخ له غير شقيق يدعى سجديانوس، ثم قتله دارا الثاني بعد ستة أشهر كما أمر بقتل تريتتشميس فأخمد بقتله فتنة أثار عجاجها في البلاد، ثم أمر بتقطيع زوجته إربا ودفن أمه وأخوته وأخواته أحياء. وخلف دارا الثاني على العرش ابنه أرت خشتر الثاني، واضطر هذا الملك أن يقاتل في واقعة كونسكا أخاه قورش الأصغر قتالاً مريراً، لأن هذا الشاب حاول أن يغتصب الملك. وحكم أرت خشتر حكماً طويلاً، وقتل ابنه دارا لأنه ائتمر به، ثم مات بائساً حزيناً إذ وجد أن ابناً آخر له يدعى أوكوس يأتمر به ليقتله. وحكم أوكوس عشرين سنة ثم مات مسموماً على يد قائده بجواس، وأجلس هذا القائد السفاح "صانع الملوك" ابناً لأوكوس يسمى أرسيس على العرش، واغتال أخاً لأرسيس ليثبت بذلك مركز صنيعته، ثم اغتال أرسيس وابناه الصغار، ورفع على العرش كودومانوس، وهو صديق له مخنث مطواع. وحكم كودومانوس ثماني سنين، وتسمى باسم دارا الثالث ثم مات وهو يحارب الإسكندر في واقعة إربل حين كانت بلاده تلفظ آخر أنفاسها. ولسنا نعرف في دولة من الدول حتى الدول الديمقراطية في هذه الأيام قائداً أقل كفاية وجدارة بقيادة الجيوش من هذا القائد.
أن الإمبراطوريات بطبيعة تكوينها سريعة الانحلال، وإن الذين يرثونها تعوزهم جهود الذين ينشئونها، وذلك في الوقت الذي تهب فيه الشعوب الخاضعة لسلطانها وتستجمع قواها لتناضل في سبيل ما فقدته من حريتها. كذلك ليس من طبيعة الأشياء أن تبقي الأمم التي تختلف لغاتها وأديانها وأخلاقها وتقاليدها متحدة متماسكة زمناً طويلاً. ذلك أن هذه الوحدة لا تقوم على أساس متماسك يحفظها من التصدع، ولا بد من الالتجاء إلى القوة مرة بعد مرة للاحتفاظ بهذه الرابطة المصطنعة. ولم يعمل الفرس في عهد إمبراطوريتهم التي دامت مائتي عام شيئاَ يخفف ما بين الشعوب الخاضعة لحكمهم من تباين، أو يضعف من أثر القوى الطاردة التي تعمل على تفكيك دولتهم، بل قنعت هذه الإمبراطورية بأن تحكم خليطاً من الأمم، ولم تفكر في يوم من الأيام في أن تنشئ منها دولة حقيقية. لذلك أخذ الاحتفاظ بوحدة الإمبراطورية يزداد صعوبة عاماً بعد عام، وكلما تراخى عزم الأباطرة قويت أطماع الولاة وزادوا جرأة، وأخذوا يرهبون أو يبتاعون بالمال قواد الجيش وأمناء الإمبراطور الذين أرسلوا إلى الولايات ليشتركوا مع الولاة في الحكم ويحدوا من سلطانهم. ثم أخذ الولاة يقودون مواردهم كما يحلو لهم، ويأتمرون بالملك المرة بعد المرة. وأوهنت الثورات والحروب المتكررة حيوية فارس الصغيرة، ذلك أن الحروب قد قضت على زهرة شبابها القوى حتى لم يبق من أبنائها إلا كل حذر محتاط. فلما أن جند هؤلاء لمواجهة الإسكندر تبين أنهم لا يكاد يوجد فيهم إلا كل منخوب القلب جبان. ولم يكن شئ من التحسين قد أدخل على تدريب الجنود أو على عتادهم الحربي، ولم يكن قوادهم على علم بما يستجد من فنون القتال. فلما دارت رحى الحرب ارتكب هؤلاء القواد أشنع الأغلاط، وكانت عساكرهم المختلة النظام، والتي كان معظمها مسلحاً بالسهام، أهدافاً صالحة لرماح المقدونيين الطويلة وفيالقهم المتراصة(142). لقد كان الإسكندر يلهو ويعبث، ولكنه لم يكن يفعل ذلك إلا بعد أن يتم له النصر، أما قواد الفرس فقد جاءوا معهم بسراريهم، ولم يكن منهم من هو راغب في القتال، ولم يكن في الجيش الفارسي جنود جديرون بهذا الاسم إلا مرتزقة اليونان. ولقد تبين منذ اليوم الذي فر فيه خشيارشاي بعد هزيمته في سلاميس أن اليونان سيتحدون الدولة الفارسية في يوم من الأيام. ذلك أن فارس كانت تسيطر على أحد طرفي الطريق التجاري العظيم الذي يربط غرب آسية بالبحر الأبيض المتوسط، وأن بلاد اليونان تسيطر على طرفه الثاني، وكان ما ركب من طباع الناس من أقدم الأزمنة من طمع وحرص على الكسب مما يجعل هذه الحال مثارا للحرب بين الأمتين، ولم يكن اليونان ينتظرون لبدء الهجوم إلا أن يقوم بينهم سيد منهم يضم شتاتهم ويؤلف بين قلوبهم.
واجتاز الإسكندر مضيق الدردنيل دون أن يلقى مقاومة، ومعه قوة من رجاله، خالها الآسيويون ضئيلة، إذ كانت مؤلفة من ثلاثين ألفاً من المشاة وخمسة آلاف من الفرسان . وحاول جيش فارسي مؤلف من أربعين ألف مقاتل أن يصد جيش الإسكندر عند نهر غرانيقوس، فخسر الفرس في الواقعة عشرين ألف مقاتل، ولم يخسر الجيش اليوناني إلا 115 رجلاً(144). واتجه الإسكندر جنوباً وشرقاً، يخضع بعض المدائن، ويستسلم له البعض الآخر؛ ودام على ذلك عاماً كاملاً. وجمع دارا الثالث في هذه الأثناء خليطاً من 000ر600 رجل بين جندي ومغامر. وتطلَّب عبورهم نهر الفرات على جسر من القوارب خمسة أيام، كما تطلَّب حمل أموال الملك ستمائة بغل وثلاثمائة جمل(145). ولما تقابل الجيشان عند أسوس، لم يكن مع الإسكندر إلا ثلاثون ألفاً من رجاله، ولكن دارا كان يتصف بكل ما تتطلبه تصاريف الأقدار من غباء، فاختار للقتال ميداناً لا يتسع إلا لجزء صغير من جيشه أن يقاتل اليونان على حين يبقى سائره معطلاً. فلما انتهت المجزرة وجد أن اليونان قد خسروا نحو 450 رجلاً، وخسر الفرس 000ر110 رجل، قتل معظمهم وهم يفرون مذعورين. وطارد الإسكندر الجيوش المهزومة مطاردة طائشة عبر في أثنائها مجرى مائياً على جسر من جثث الفرس(146). وفر دارا من الميدان فرار الأنذال، وترك فيه أمه وزوجة من أزواجه وابنتين وعربة وخيمة مترفة. وعامل الإسكندر السيدات الفارسيات بشهامة أدهشت مؤرخين اليونان، واكتفى بأن تزوج إحدى ابنتي دارا. وإذا جاز لنا أن نصدق ما قاله كونتس كورتيس، فإن أم دارا أحبت الإسكندر حباً لم تر معه بدَّا من أن تقضي على حياتها بالامتناع عن الطعام حين علمت بوفاته(147).
وواصل الشاب الفاتح بعدئذ سيره في بطئ، يخيل إلى الإنسان أنه بطئ المستهتر، يريد أن يبسط سلطانه على غرب آسية بأجمعه. غير أن بطأه هذا لم يكن إلا ناشئاً من رغبته في ألا يتقدم قبل أن ينظم فتوحه، ويؤمن مواصلاته. وخرج سكان مدينة بابل على بكرة أبيهم، كما خرج أهل بيت المقدس من قبل، للترحيب به، وقدموا له مدينتهم وما فيها من ذهب؛ فتقبل منهم ما عرضوه في لطف وبشاشة، وسرّهم بأن أمر بإصلاح هياكلهم التي هدمها خشيارشاي من قبل دون تدبر وروية. وأرسل إليه دارا يعرض عليه الصلح، وكان مما عرضه أن يقدم للإسكندر عشرة آلاف تالنت من الذهب ، إذا رد إليه أمه وزوجته وابنتيه، وأن يزوجه ابنته، وأن يعترف له بالسيادة على جميع بلاد آسية الواقعة في غرب الفرات، وأنه لا يطلب إليه في نظير هذا كله إلا أن يأمر الإسكندر بوقف القتال وأن يتخذه صديقاً له. وقال بارمنيو القائد الثاني لجيوش اليونان أنه لو كان الإسكندر لقبل هذه العروض الطيبة مسروراً بشرفه من شر هزيمة قد تكون ساحقة. فما كان جواب الإسكندر إلا أنه لو كان هو برمنيو لقبل هذه العروض، أما وهو الإسكندر فقد رد على دارا بأن عروضه لا معنى لها، لأنه (أي الإسكندر) يمتلك بالفعل ما يعرضه عليه من بلاد آسية، ولأن في وسعه أن يتزوج ابنة الإمبراطور متى شاء. ووجد دارا أن لا أمل له في عقد الصلح مع هذا المنطق المستهتر، فوجّه همه على كره منه لجمع جيش آخر أكبر من جيشه الأول. وكان الإسكندر في أثناء ذلك قد استولى على صور، وضم مصر إلى أملاكه، ثم اخترق إمبراطوريته العظيمة متجهاً نحو حواضرها النائية. وبعد مسيرة عشرين يوماً بعد بابل وصل جيشه إلى مدينة السوس، واستولى عليها دون أن يلقى مقاومة، ثم تقدم إلى برسبوليس بسرعة لم تمكن حراس الخزائن الملكية من إخفاء ما فيها من أموال. وفيها أتى الإسكندر عملاً يعد وصمة عار في حياته الحافلة بجلائل الأعمال، وأتاه رغم نصيحة برمنيو ليكسب بذلك- كما يقول مؤرخوه- رضاء تييس إحدى سراريه . ذلك أنه أحرق قصور برسبوليس عن آخرها، وأباح لجنوده نهب المدينة. فلما أن رفع روح جنوده المعنوية بما أباح لهم من السلب، وبما أغدقه عليهم من العطايا، اتجه نحو الشمال ليلقى دارا لآخر مرة.
وكان دارا قد جمع من الولايات الفارسية- وخاصة من ولاياته الشرقية- جيشاً جديداً عدته ألف ألف مقاتل(148)- يتألف من فرس، وميديين، وبابليين، وسوريين، وأرمن، وكبادوشيين، وبلخيين، وأرخزيان، وساكى، وهنود. ولم يسلحهم بالقسى والسهام، بل جهزهم بالحراب، والرماح والدروع، وأركبهم الخيل والفيلة والعربات ذات الدواليب التي ركبت فيها المناجل لكي يحصد بها أعدائه حصد الحنطة في الحقول. حشدت آسية العجوز هذه القوة الهائلة لتحاول بها مرة أخرى أن تدفع عن نفسها أوربا الناهضة الفتية. والتقى الإسكندر ومعه سبعة آلاف من الفرسان، وأربعون ألفا من المشاة بهذا الخليط المختل النظام غير المتجانس، ودارت رحى القتال عند كواكميلا . واستطاع بتفوق أسلحته وحسن قيادته وشجاعته أن يبدد شمله في يوم واحد- واختار دارا مرة أخرى أن يفر من الميدان، ولكن قواده ساءهم هذا الفرار المزري للمرة الثانية، فقتلوه غيلة في خيمته. وأعدم الإسكندر من استطاع أن يقبض عليهم من قاتليه، وأرسل جثة دارا مكرمة إلى برسبوليس في موكب حافل، وأمر أن تدفن كما تدفن أجسام الملوك الأكمينيين وسرعان ما انضوى الشعب الفارسي تحت راية الإسكندر إعجابا منه بكرم أخلاقه ونضرة شبابه. ونظم شئون فارس وجعلها ولاية من ولايات الدولة المقدونية، وترك فيها حامية قوية لحراستها، ثم واصل زحفه إلى الهند.