قصة الحضارة - ول ديورانت - م 11 ك 4 ف 38

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 14766

قصة الحضارة -> عصر نابليون -> خاتمة المطاف -> إلى سانت هيلانا -> التنازل الثاني عن العرش

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثامن والثلاثون: إلى سانت هيلانا

التنازل الثاني عن العرش، 22 يونيو 1815

وصل نابليون إلى باريس في نحو الساعة الثامنة صباح يوم 21 يونيه. وذكر في وقت لاحق لقد كنُت منهكاً تماما، لأنني لم آكل شيئا ولم أنم منذ ثلاثة أيام(1) وذهب إلى قصر الإليزيه، وقال لكو لينكور ملتمساً: أريد أن أستريح ساعتين(2). وفي هذه الأثناء اجتمع مجلس النوّاب، وكان الشعور العام يميل بشدّة لعزله. ولما علم بهذا الاتجاه، اقترح على أصدقائه أن الأمر يتطلب دكتاتورية مؤقته نظراً لاضطراب الآراء في البلاد، والحاجة إلى عمل موحّد للدفاع عن فرنسا وعاصمتها في مواجهة الحلفاء، وذلك لضبط الأمة وحكومتها.

وعندما علم أهل باريس بالنكسة العسكرية تجمع عدد كبير منهم أمام قصر الإليزيه مؤكّدين استمرار ثقتهم في نابليون بهتافهم: عاش الإمبراطور وراحوا يطالبون بالسلاح للدفاع عن مدينهتم. ولما سمعهم نابليون قال لبنيامين كونستانت: أنت ترى! ليس هؤلاء هم الرجال الذين أغدقت عليهم التشريف والأموال. بماذا هم مدينون لي؟ إنني أراهم بؤساء، وقد تركتهم بؤساء... إنني لو أردتُ لأنهيتُ وجود هذا المجلس Chamber المتمردّ في ظرف ساعة... لكن حياة شخص واحد لا تستحق هذا الثمن. إنني لا أريد أن أكون ملك الفلاّحين Jacqueries. إنني لم آت من إلبا لأُغرق باريس في الدماء(3).

لقد كان نابليون حتى في أثناء فراره من واترلو يخطط لإقامة جيش جديد من 300.000 مقاتل(4). وفي الفترة من 22 إلى 24 يونيو كانت بقايا جيشه المهزوم تتجمع في لون Loan وكان هناك من يُعيد تنظيمها تقع لون Loan على بعد ستة وسبعين ميلا إلى الشمال الشرقي من باريس)، وهناك - في 26 يونيو - انضم إلى هذه البقايا جروشي على رأس 30.000 من رجاله بعد انسحاب عبقري. وعلى أية حال، ففي هذه الأثناء، كان بلوخر قد جمّع قواته المنتصرة وكان يقودها نحو باريس متجنبا - بعناية - المرور بلون Laon. وتردّد ويلنجتون الذي أُضير جيشه ضررا شديدا في الانضمام إلى البروسي المندفع لكنه سرعان ما كان على الطريق نفسه (إلى باريس) متجنبا المرور بلون Loan، وفي الفترة نفسها (22 - 52 يونيو) كانت جيوش النمسا وبافاريا وفيرتمبرج تعبر نهر الراين في طريقها إلى باريس. إن التاريخ يُعيد نفسه.

وقرر مجلس النواب بعد مناقشات حامية أن مقاومة القوات المتحالفة مسألة غير عملية وأن الأعضاء سيصرّون على اعتزال نابليون. وعمل Fouche بأساليبه الحاذقة على ضمان هذا الاعتزال، وكان فوشيه وكان فوشيه قد تنبأ قبل واترلو أن الامبراطور سينتصر في معركة أو معركتين لكنه سيُهزم في الثالثة وعندها سيبدأ دورنا(5) لكن فوشيه لم ينتظر طويلا، لقد اندفع لوسيا Lucien - أخو نابليون - إلى المجلس Chamber طالبا التريّث فعارضه فوشيه وتساءل لافَايِت ألم يستهلك نابليون ما يكفي من الحيوات؟ (جمع حياة). لقد فشل لوسيا Lucienالآن فيما كان قد نجح فيه في سنة 1799، ولكنه نصح نابليون أن يُطيح بالمجلسين بالقوة، فرفض نابليون. لقد كانت المعركة قد استنفدت قواه، وكانت الهزيمة قد أضعفت من إرادته لكنها أنارت بصيرته، وبينما كانت الجماهير تهتف حول القصر عاش الإمبراطور، راح يُملي على أخيه لوسيا Lucien صيغة اعتزاله للمرة الثانيه موجها إيّاه للمجلسين:

لقد عملت على إعادة توحيد كل الجهود.. وموافقه كل الأجهزة في الحكم في بداية الحرب التي كان هدفها تحقيق استقلال الأمة، لكن الظروف تبدو لي وقد تغيرت... إنني أقدم نفسي فداء (أضحية) لمواجهة كراهية أعداء فرنسا. ربما كانوا صادقين في إعلاناتهم من أنهم حقيقة لا يريدون إلاّ الخلاص منّي. اتحدوا جميعا لتحقيق السلامة العامة ومن أجل ما بقي من استقلال إرادتنا.. إنني أعلن تنصيب ابني باسم نابليون الثاني(6). ووافق كل الوزراء على هذا التنازل ما عدا كارنو Carnot فقد بكى، أما فوشيه فقد غمرته السعادة.

وقبل المجلسان هذا التنازل متجاهلين تعيين ابنه ذي الأعوام الأربعة (وكان وقتها في فينا) كخَلَف له، واختار المجلسان خمسة من أعضائها (( فوشيه وكارنو، وكولينكور، وجرينييه (الجنرال الغامض) وأونيت Ouinette عضو الجمعية الوطنية الثورية القديمة))، ليكونوا مجلسا تنفيذيا Commission Executive وحكومة مؤقتة. وتم اختيار فوشيه Fouche رئيسا للمجلس التنفيذي وشرع مباشرة في التفاوض مع الحلفاء ونابليون. ومخافة القيام باضطرابات شعبية لصالح نابليون. حثَّ دافو Davout القائد العسكري في باريس على إقناع نابليون بمغادرة باريس والإقامة في مالميزو Malmaison. وفي 25 يونيو غادر نابليون قاصدا مالميزو بصحبة برتران Bertrand وجورجو Gourgaud وكونت دي لا كاس de Las Cas وكونت دي مونثولو Montholon، فرحبت به هورتنس Hortense بدعوته إلى بيت أمها الراحلة. وراح يمشي مع هورتنس في الحديقة ويتحدث برقة عن جوزفين. لقد قال: حقا لقد كانت أفضل امرأة عرفتها(7). إنه يفكّر الآن في البحث عن الملجأ والأمان في أمريكا. لقد طلب من بيرتران Bertrand أن يدبّر له مجموعة كتب عن الولايات المتحدة(8). وكان قد قرأ كتاب إسكندر فون همبولدت Humboldt رحلات إلى القارة الجديدة، وقد اعتزم أن يكرّس ما بقي من حياته للعلم. انه يود الآن الذهاب إلى أمريكا لاكتشاف أرضها وغطائها النباتي وحيواناتها من كندا إلى رأس هورن Horn، وفي 26 يوليو أرسل إلى الحكومة المؤقته طلباً للانتقال إلى روشفور Rochefort ليُبحر إلى أمريكا(9). فأمر فوشيه على الفور وزير البحرية بتجهيز فرقاطتين في روشفور لنقل نابليون إلى الولايات المتحدة(10) وفي اليوم نفسه زار نابليونَ أخوه جوزيف وأخوه لوسيا وأخوه جيروم، وكانوا جميعا قد قرروا مغادرة فرنسا، وكان جوزيف يريد الهجرة إلى أمريكا مع أخيه نابليون. وربما يكونون هم الذين أحضروا له خطابا من أمهم تعرض عليه فيه كل ما تملك فأرسل لها شاكرا ولم يأخذ منها شيئا. فلازال معه قدر كبير من المال مع البنكيِّ جال لافيت Jacques Lafitte الذي أتي بنفسه إلى مالميزو ليرتب أمور نابليون المالية.

وفي 28 يونيو أتاه ضابط يحذره من اقتراب البروس من مالميزو قُربا يكفي لإرسالهم فصيلاً عسكريا للقبض عليه، وبالفعل فقد كان بلوخر قد أرسل رتلاً سريعا آمراً وإيّاه بإحضار نابليون حيا أو ميتا وعبر عن نيته بإطلاق النار عليه كمجرم خارج على القانون(11). وعندما سمع جورجو بهذه النية أقسم لئن رأى الإمبراطور وقد سقط في أيدي البروس لأطلق النار عليه، ومع هذا كان نابليون كارها لمغادرة مالميزو الذي حفلت كل غرفة وممراته بذكريات سعيدة. وفي 29 يونيو كلّف فوشيه الجنرال بكه (بكر Becker) بالتوجه بفرقة من الجنود لإجبار نابليون على الاتجاه إلى روشفور.

ووافق نابليون، وأقنعته هورتنس بقبول قلادتها الألماسية الموضوعة في حزام والتي تساوي 200.000 فرنك. وودع نابليون الجنود القلائل الذين كانوا في حمايته. وفي الخامسة مساء (29يونيو) ركب عربة ذات غطاء تجرها أربعة خيول مصحوبا بحرس عسكري قليل العدد وغادر مالميزو، وبعد ساعات قليلة من مغادرته وصلت خيّالة بلوخر.

البوربون يستعيدون العرش للمرة الثانية، 7 يوليو 1815

راح المجلسان والحكومة المؤقتة يتناقشون هل يحاربون الحلفاء الذين اقتربوا أم يتفاوضون للوصول لأفضل الشروط المتاحة. وعرض دافو Davout أن يقود الميليشيا الموجودة بالمدينة (باريس) ضد ويلنجتون وبلوخر إن أصرّا على إعادة لويس 81 إلى العرش. وخاف النوَّاب أن تؤدي المقاومة والهزيمة إلى تمزيق فرنسا وما يعقب ذلك بوقت وجيز، من فضّ المجلسين معا. ولم تكن بقايا جيش نابليون المعروف بجيش الشمال في حالة نفسيه تسمح بهزيمة أخرى (واترلو أخرى) بالإضافة إلى نقص المؤن، بينما كانت قوات الأعداء موحَّدة بين لون Loan وباريس.

وعندما علم لويس الثامن عشر أن فريقاً من الحلفاء كان يعمل على إحلال لويس فيليب (دوق دورليان Duc d Orleans) مكانه كملك لفرنسا انتقل وهو في حالة قلق من جنت Ghent إلى شاتو كمبريزي Chateau - Cambresis وأصدر من هناك (في 25 يونيو) بيانا يعد فيه بالترضية (التسوية) ونظام الحكم الليبرالي. وأدى هذا إلى ابتهاج المجلسين، وفي 30 يونيو وقَّعت الحكومة الفرنسية المؤقتة والحلفاء شروط تسليم العاصمة. كان على كل القوات الفرنسية أن تنسحب فيما وراء نهر اللوار مع ضمان أمن المواطنين وممتلكاتهم. وفي السابع من يوليو دخل الحلفاء باريس وفي الثامن من يوليو أصبح لويس 18 مرة أخرى ملكاً لفرنسا. واستخدم مدير شرطة دائرة (محافظة) السين Seine عند الترحيب به عبارة المائة اليوم Cent Jours للمرّة الأولى ليصف بها الفترة الواقعة بين اغتصاب نابليون الملك للمرة الثانية (02 مارس) واستعادة لويس 81 عرشَه.

وقبل معظم الفرنسيين وَقْف المقاومة باعتباره الحل العملي الوحيد للمشاكل الناجمة عن انهيار حكم نابليون المفاجئ. وعلى أية حال فإن بلوخر قد أطلق صيحة احتجاج مؤدّاها أنه سيطلب من مهندسيه نسف جسر بونت دينا Pont d Iena وذلك الجسر الذي يُذكّر بانتصار الفرنسيين على البروس في سنة 1806، واقترح تدمير كل ما يذكّر بنابليون (المقصود الآثار والنصب التذكارية... الخ)، وانضم ويلنجتون مع لويس 18 في حث بلوخر على الكف عن كل ذلك، لكنه أصر، غير أن وصول القيصر إسكندر والملك فريدريك وليم والإمبراطور فرانسيس الثاني على رأس قوات ورسية ونمساوية وبيدمونتية أدى إلى إجبار الوطني العجوز (بلوخر) على التهدئة من حدة غضبه(12). لقد بلغ إجمالي القوات الأجنبية الآن نحو 800.000 لابد أن يُطعمها الشعب الفرنسي لقاء حمايتها له policing (أي قيامها بدور رجال الشرطة)، وعلى وفق حساب كاسلريه Castlereagh فإن هذا كان يكلّف فرنسا 1.750.000 فرنك في اليوم (لإطعام الذين يحتلّون بلاده)، وبالإضافة إلى هذا كان على كل ولاية أو منطقة أو محافظة أن تدفع للحلفاء تعويضات حرب، وكانت هذه التعويضات باهظة. وأخبر لويس 18 قادةَ الحلفاء أنهم إذا لم يلتزموا بإعلان 25 مارس واستمروا في معاملة رعاياه كأعداء، فإنه سيترك فرنسا باحثاً عن ملجأ له في إسبانيا. فوافق الحلفاء على تخفيض تعويضات الحرب إلى خمسين مليون فرنك متذرّعين بأنهم راضون تماما بقوانين الحرب وبالسوابق التي رسخّها نابليون عندما غزا بروسيا والنمسا.

ووجدنا أيضا الملكيّين في بعض المدن الفرنسيّة منهمكين في إرهاب أبيض White Terror ثأرا من الإرهاب الأحمر الذي أدى إلى مقتل عدد كبير من الملكيّين في عامي 1793 - 1794 . ولم يكن هذا الإرهاب الأبيض دائما بغير إعدام عاجل، فعندما تظاهر فريق من الملكيّين في مارسيليا مطالبين بعودة لويس الثامن عشر إلى العرش قام بعض جنود الحامية المحلية ممن لا زالوا موالين لنابليون بإطلاق النار عليهم . وسرعان ما أوقف القائدُ إطلاق النيران وحاول أن يقود جنوده خارج المدينة المعادية لكن في أثناء خروجهم تعرَّض مئات منهم لقذائف النيران التي أُطلقت عليهم من النوافذ ومن فوق الأسطح (25 يونيو) وفي هذا اليوم واليوم الذي تلاه راح الملكيون المسلحون يجرون حول المدينة مطلقين النار على البونابرتييِّن واليعاقبة فسقط منهم مئة ضحيّة، وكان كثيرون من هؤلاء الضحايا لا يزالون يهتفون حتى وهم يحتضرون عاش الإمبراطور وراحت النسوة الملكيات يرقصن حول جثت البونابرتييِّن واليعاقبة(13). وفي أفينون Avignon سجن الملكيون البونابرتيِّين وقتلوهم. وثمّة شخص كان الملكيون يبحثون عنه على نحو خاص، إنه جولوم برونيه Guillaume Brune الذي كان متهماً بحمل رأس الأمير لامبل Lamballe على سن رمحه في سنة 1792. لقد اختبأ في فندق أفينون وعثرت عليه الجماهير فأطلقت عليه النار وجرّت جثته في شوارع المدينة وراحوا يضربون جثة بنشوة حانقة، ثم ألقوها في الرون Rhone وراح الرجال والنساء يرقصون بنشوة وسعادة (2 أغسطس 1815). وشهدت مُدن نيم Nimes ومونتبلييه Montpellier وتولوز Toulouse مشاهد مماثلة. لقد كان لويس 18 رجلا متسامحا لا يمكن عَزو هذه البريرية له، لكنه لم يكن قادرا على التسامح مع ني Ney الذي سبق أن تعهد له (تعهد للويس 18) بإحضار نابليون حيا أو ميتا لكنه تخلّى عن وعده وانضم إلى نابليون وتسبب في موت كثيرين في واترلو. لقد فرّ ني Ney من باريس في 6 يوليو وراح يتنقل متخفيا من مدينة إلى أخرى لكن تم التعرف عليه فقُبض عليه وقُدّم إلى محكمة مكونة من 161 عضوا (نبيلا) Peers أصدرت حكمها بأنه متهم بالخيانة فتم إعدامه بإطلاق النار عليه في 7 ديسمبر سنة 1815 بعد أن رفض أي خدمات دينية من القسس (رفض أن يُلقنه القسس أصول المسيحية الكاثوليكية كما رفض الطقوس الكنسية المرتبطة بالموت).

لقد أصبح فوشيه وتاليران الآن في خدمة (وزارة) لويس 18 لقد انتصرا لكنهما لم يكونا سعيدين. لقد وصم الملكيون في مجلس الوزراء فوشيه بأنه ضالع في قتل لويس 16 ونصحوا الملك بطرده، وسوّى الملك الأمر بتعيينه وزيرا له (سفيرا) في سكسونيا (15 سبتمبر) لكنه استدعاه بعد ثلاثة أشهر ونفاه من فرنسا، فراح فوشيه يتنقل من براغ إلى لينز (لينتس Lins ) إلى تريست حيث مات في سنة 1820 عن عمر يناهز الواحد والستين عاما مارس فيها كثيرا جدا من الشرور والسلوك الطائش.

وكان تاليران يضارعه مكرا ودهاء ويفوقه تحملا وصمودا. لقد وصفه لويس 18 بسطور من كورنيل Corneille: لقد فعل معي كثيرا من الأمور الطيبة تمنعني من ذكره بشر، وألحق بي كثيرا من الأذى مما يمنعني من ذكره بخير(14) ويبدو أن تاليران هو الذي قال (في سنة 1796) عن البوربون: إنهم لم يتعلموا شيئا ولم ينسوا شيئا(15). لكن هذا القول لا يكاد ينطبق على لويس الثامن عشر الذي تعلّم كيف يتعامل مع المجالس المنتخبة وكيف يُرحِّب بجنرالات نابليون وكيف يُبقي على كثير من التشريعات النابليونيّة. وكان الوزراء الملكيون يكرهون تاليران ليس لأنه كان شريكا في المؤامرة على قتل الملك (لويس 16) فحسب وإنما أيضا باعتباره خائنا لطبقته، وأذعن لويس 18 لهم فطرده (24 سبتمبر 1815)، ولكن تاليَران عاد إلى منصبه، وعاش بعد لويس 18 بل وعاش بعد تنازل شارل العاشر (1830) وتم تعيينه سفيرا لفرنسا لدى بريطانيا العظمى (1830 - 1834) وهو في السادسة والسبعين من عمره. وعندما انتقد مركِز لوندوندري Londonderry السفيرَ تاليران في مجلس اللوردات دافع عنه ويلنجتون الذي كان قد تعامل مع السيد تاليران في مواقف كثيره فوجده على حد تعبير دوق ويلنجتون أكثر من عرف من الرجال حماسا ومهارة في حماية مصالح بلاده (فرنسا) وأكثر من عرف من الرجال استقامة وشرفا في تعامله مع الدول الأخرى. وعندما قرأ تاليران هذه الكلمات كاد يبكي، فلا شيء أفضل له من هذه الكلمات: إنني ممتن شديد الامتنان لدوق ويلنجتون فهو رجل الدولة الوحيد في العالم الذي تحدث عني حديثا طيبا(16) أَمَا وقد عاون في تنظيم التحالف الرباعي في سنة 1834 ومات في سنة 1838 عن عمر يناهز الرابعة والثمانين، وفاق الجميع حدة ذهن ودهاء، فإنه كاد يخدع الموتَ نفسه.

وفي 20 نوفمبر 1815 وقّع لويس الثامن عشر مع الحلفاء معاهدة باريس الثانية التي صاغت العقوبات التي كان على فرنسا أن تتحمّلها لسماحها لنابليون بمواصلة الحكم (بعد عودته من إلبا) لقد كان على فرنسا أن تتنازل عن السار Saar وسافوي وأربع مدن حدودية بما في ذلك فيليبفيل Philippeville ومارينبورج Marlenburg، وأن يعيد الأعمال الفنية التي استولى عليها جنرالاتها الغازون، وأن تدفع تعويضات حرب مقدارها 700 مليون فرنك بالإضافة إلى 240 مليون فرنك على وفق دعاوٍ (مطالبات) خاصة، وأن تظل قوات الحلفاء في الأراضي الفرنسية مدة تتراوح بين ثلاث سنوات وخمس وأن تدفع فرنسا تكاليف هذه القوات(17). ورفض تاليران توقيع هذه الوثيقة لكن وزير الخارجية الذي خلفه - أرمان إمانويل دي بلسِّ Plessis دوق ريشيليو Duc de Richelieu وقعها محتجّا (وقعها معلنا احتجاجه عليها) وبعدها صاح: لقد لوّثتُ شرفي(18).


التسليم، 4 يوليو - 8 أغسطس 1815

لقد ركب نابليون من مالميزو متجها جنوبا فلحق به عند نيور Niort أخوه جوزيف، ورفيقه في السلاح جورجو. ووصلوا إلى روشفور Rochefort (جنوب شرق لا روشيل La Rochelle بثلاثة عشر ميلا) في وقت متأخر من الثالث من يوليو فوجدوا الفرقاطتين اللتين توقعوا وجودهما (الفرقاطة سال Saale والفرقاطة ميدوز Meduse) في الميناء، لكن خلف هاتين الفوقاطتين كان يوجد أسطول حربي بريطاني صغير يحاصر الميناء ويمنع فيما يبدو أي خروج منه دون تصريح. وفي 4 يوليو أرسل نابليون استفسارا إلى قبطان الفرقاطة سال Saale - هل تم احتجاز مكان له ولبعض أصدقائه لرحلة إلى أمريكا، وهل يمكن للفرقاطة سال Saale اختراق الحصار؟ فأتته الإجابة بأن الفرقاطة جاهزة ومستعدة للإبحار وستحاول أن تروغ من السفن الحربية (المحاصِرة - بكسر الصاد) ليلا مع احتمال أن تتعرَّض للتوقيف أو القصف لكن إن أفلتت فإن سرعتها الفائقة لن تمكن السفن الحربية من اللحاق بها. إن نابليون الآن في مِحَن راح يقلِّبها فظل تسعة أيام مترددا يقلّب الخطط - خطط هربه، وراح يطلب النصيحة من رفيق بعد رفيق، فعرض عليه جوزيف الذي كان يشبهه في المظهر أن يتنكر هو (أي جوزيف) متقمصا شخصية نابليون وأن يترك نفسه ليحتجزه البريطانيون، بينما قد يُسمح لنابليون بملابسه المدنيّة بمواصلة رحلة تبدو روتينية على متن إحدى الفرقاطتين، ورفض نابليون تعريض أخيه للخطر. وقد أبحر جوزيف نفسه في وقت لاحق على إحدى الفرقاطتين إلى أمريكا. لقد نسي نابليون خمسة عشر عاما من الحرب، وراح الآن يعزف على أنغام الهوى مع إنجلترا مؤمّلا أنه إذا سلّم نفسه لها فقد تعامله كأسير مُميّز وتسمح له بقطعة أرض متواضعة ليعيش فيها كمالك - بسلام. وفي 10 يوليو أرسل لا كاس Las Cases وسافاري Savary (دوق روفيجو Rovigo) ليطلب من القبطان فريدريك ميتلاند Maitland على ظهر السفينة بيلروفون Bellerophon التابعة للتاج البريطاني عما إذا كان قد تلقى أية جوازات سفر (تصاريح سفر) باسم نابليون يتوجه بمقتضاها إلى أمريكا. ولم يكن لدي القبطان بطبيعة الحال مثل هذه الجوازات. عندئذٍ سأله لا كاس عما إذا سلّم نابليون نفسه للبريطانيين فهل يتوقع أن يعامله الإنجليز بالكرم المعروف عنهم، فأجاب ميتلاند أنه يسعده أن يستقبل نابليون ويأخذه إلى إنجلترا لكنه - أي ميتلاند - غير مخوّل بتقديم أية وعود عن كيفية استقباله هناك. وقبل هذا الحوار أو في أثنائه أو بعده تلقى القبطان ميتلاند من رئيسه - السير هنري هوتام Hotham نائب الأدميرال (الذي كان يطوف وقتها إزاء الساحل الشمالي الغربي لفرنسا) رسالة يُخبره فيها أن نابليون موجود في روشفور Rochefort أو بالقرب منها وأنه ينوي العبور إلى أمريكا، وأضاف الأدميرال: عليك أن تبذل قصارى جهدك لمنعه من الإبحار فوق الفرقاطات،... وإن أسعدك الحظ بالقبض عليه، ضعه تحت حراسة جيدة وتوجه به بأقصى سرعة إلى ميناء بريطاني(19).

وفي 14 يوليو أَوْ نحو هذا التاريخ تلقى نابليون تحذيرا من أن لويس الثامن عشر كان قد أمر الجنرال بونفور Bonnefours بالتوجه إلى روشفور للقبض عليه (على نابليون)(20) وتحرك بونفور ببطء. لقد أصبح نابليون الآن ملزما بخيار من خيارات ثلاثة: إما أن يسلم نفسه للويس الثامن عشر الذي لديه كل الأسباب التي تجعله كارهاله، أو أن يخاطر بالهرب محاولا الإفلات من الحصار البريطاني أو أن يسلم نفسه للقبطان ميتلاند على أمل أن يحظى بمعاملة كريمة من بريطانيا. واختار نابليون الطريق الثالث، ففي 14 يوليو كتب للوصي على العرش الذي كان يحكم بريطانيا آنئذ:

يا صاحب السمو الملكي نظراً للفُرقة (الشقاق) التي استنزفت بلادي، واختلاف القوى الكبرى في أوربا قررت أن أنهي كل عمل لي في مجال السياسة وإنني آت - مثل تيميستوكل Themistoches - لأقيم في بيت الشعب البريطاني لأنعم بالدفء بينه. إنني أضع نفسي تحت حماية قوانينكم التي أناشد سموكم الملكي باعتباركم أكثر أعدائي قوة وعزما وكرما أن تمنحوني حمايتها. نابليون(21). وعَهِد نابليون إلى جورجو بتسليم هذا الخطاب وطلب منه أن يحصل على إذن لتوصيل الخطاب في القارب التالي. وقد وافق ميتلاند لكن القارب الذي استقل جورجو قد تم احتجازه طويلا في الحجر الصحي، وليس هناك ما يشير إلى أن هذا الخطاب قد وصل إلى الوصي على العرش.

وفي 51 يوليو وُضع نابليون ورفاقه على متن السفينة البريطانية بيلروفون Bellerophon، واستسلموا طائعين لبريطانيا العظمى. قال نابليون لميتلاند: لقد أتيتُ على متن سفينتك لأضع نفسي تحت حماية القوانين الإنجليزية(22). وقد استقبلهم القبطان بمودّة ووافق على نقلهم إلى إنجلترا ولم يقل لهم شيئا عن رسالة الأدميرال هوثام Hotham لكنه حذّر نابليون من أنه لا يضمن أن يتم استقباله بود في إنجلترا. وفي 16 يوليو أبحرت السفينة بيلروفون قاصدة إنجلترا وفي وقت لاحق أبدى ميتلاند ملاحظة طيبه عن أسيره الكبير: لقد كانت طباعة دَمثة تماما. لقد كان يشارك في كل مناقشة، ويروي كثيرا من النوادر، ويسلك كل السبل ليجعل الجوّ فَكِهاً مِرَحا. وكان مؤتلفاً بشكل كبير جدا مع كل من معه.. رغم أنهم كانوا يعاملونه بكثير من الاحترام. وكان يملك - بشكل مدهش - القدرة على إحداث تأثير محبّب على من يناقشونه.

وكان طاقم السفينة مبتهجاً وعامله بأقصى درجات الاحترام. وفي 4 يوليو وصلت السفينة تيلروفون إلى خليج تور Tor Bay وهو خليج صغير في القنال الإنجليزي على ساحل ديفونشير Devonshire وسرعان ما تمركزت فرقاطتان مسلحتان عند الجانب الآخر للسفينة. لقد أصبح من الواضح أن نابليون قد غدا أسيرا، وأتى الأدميرال الفيسكونت (النبيل) كيث Viscount Keith فوق سطح السفينة وحيّاه بمودّة متسمة بالبساطة: وبعد ذلك قال جورجو لنابليون إنه لم يستطع تسليم خطابه (خطاب نابليون) للوصي البريطاني على العرش، لكنه كان مضطراً لتسليمه إلى كيث الذي لم يعره اهتماما(24). وأمر كيث القبطانَ ميتلاند أن يتجه بسفينته إلى بليموث Plymouth على بعد ثلاثين ميلا حيث ظلت السفينة هناك حتى الخامس من أغسطس. وفي هذه الفترة أصبحت محط حب استطلاع البريطانيين. لقد ركب الرجال والنساء من كل أنحاء جنوب إنجلترا إلى بلايموث وازدحموا في القوارب ليروا الغول الإمبراطوري وهو يمشي الفترة المقررة له يوميا فوق متن السفينة.

وأمضت الحكومة البريطانية أياما لتقرر ما تصنعه معه. وكان الرأي السّائد هو معاملته كشخص خارج على القانون على وفق ما سبق للحلفاء أن أعلنوه رسميا وباعتباره شخصا خرق اتفاق فونتينبلو المتساهِل معه، فأجبر أوربا على حرب أخرى معه كلفتها كثيرا من الأرواح والأموال. من الواضح أنه يستحق الموت، فإن سُجن فقط لكان ممتنا، لكن إن كان لا مناص من سجنه فليكن بحيث لا يهرب ليحارب مرة أخرى. وربما كان يستحق بعض الرحمة لتسليم نفسه طوعا فوقى الحلفاء مزيدا من المتاعب، لكن هذه الرحمة لا يجب أن تدع له طريقاً للهرب، وعلى هذا أمرت الحكومة البريطانية الأدميرال كيث أن يخبر الأسير (السجين) أنه عليه أن يقيم من الآن فصاعدا في جزيرة سانت هيلانا (هيلانه) على بعد نحو 1200 ميل من غرب إفريقية. إنها جزيرة بعيدة، لكن كان لابد أن يختاروا له مكانا بعيدا، كما أن بُعدها قد يُريح السجين (نابليون) والمتحفّظين عليه مما تتطلبه المراقبة عن قرب من صرامة. وتناقش حلفاء بريطانيا ووافقوا على هذا الحكم مع احتفاظهم بحق إرسال مندوبين عنهم للجزيرة للمشاركة في الإشراف عليه (مراقبته) وكاد نابليون ينهار عندما علم أنه قد حُكم عليه بما اعتبره موتا رغم أنه يتنفّس، فاعترض بشدة لكنه استسلم عندما رأى أنه لا جدوى من ذلك. ومُنِح عدة مزايا، فقد سُمِح له باختيار من يرغب من أصدقائه ليصحبوه، فذكر الجنرال بيرتران المارشال الكبير في القصر والكونت دي مونثولو، والكونتيسه دي مونثولو Montholon (كان هذا الكونت هو معاونه في معركة واترلو) والجنرال جورجو المدافع المخلص عنه، كما اختار واحدا من اثنين: الكونت دي لا كاس وابنه. وسمحت السلطات لكل واحد منهم (نابليون وصحبه) أن يصحب معه خدما ومبلغ 1600 فرنك. لقد أخذ نابليون معه عديدا من الخدم ودبّر ليأخذ معه مبلغا كبيرا من المال، فقد أخفى قلادة هورتنس الألماسية الثمينة في حزام لا كاس، وخبّأ 350.000 فرنك في عباءات خدمه. وكان مطلوبا من كل منهم تسليم سيفه، لكن عندما تقدم الأدميرال كيث ليأخذ سيف نابليون هدده نابليون بسلّه دفاعا عن نفسه، ولم يصر كيث(25). وفي الرابع من أغسطس أبحرت السفينة بيلروفون من بلايموث قاصدة بورتسموث Portsmouth وهناك سلّمت أسيرها (نابليون) وحاشيته ومتعلّقاتهم لسفينة أكبر (نورثمبرلاند Northumberland) التي أبحرت في 8 أغسطس قاصدة سانت هيلانا.