قصة الحضارة - ول ديورانت - م 11 ك 4 ف 35
صفحة رقم : 14748
قصة الحضارة -> عصر نابليون -> خاتمة المطاف -> إلى موسكو -> الحصار القارِّي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
خاتمةُ المَطَافِ 1811 - 1815
الفصل الخامس والثلاثون: إلى موسكو 1811 - 1812
الحصار القارِّي
كان السبب المباشر للحرب الفرنسية الروسية سنة 2181 هو رفض روسيا الاستمرار في الحصار القاري الذي نصَّ عليه مرسوم برلين الذي أصدره نابليون في 12 نوفمبر 6081. وكان هذا المرسوم ينطوي على خطة نابليون بإغلاق كلِّ موانئ وسواحل القارة الأوروبية في وجه البضائع البريطانية، وكانت هذه الخطة تهدف إلى إجبار بريطانيا العظمى على إنهاء حصارها - الذي كانت قد أعلنته في 61 مايو 6081 - على كل الموانئ الخاضعة لفرنسا من بريست Brest إلى إلبا the Elbe، ولإنهاء التدخل البريطاني في حركة التجارة الفرنسية البحرية ولاستعادة المستعمرات الفرنسية التي استولت عليها بريطانيا العظمى، ولإنهاء التمويل البريطاني لدول القارة الأوروبية التي تشن حرباً على فرنسا.
كيف كانت آلية الحصار القاري؟ بحلول عام 0181 أدى هذا الحصار النابليوني المضاد إلى تعرض إنجلترا لهبوط اقتصادي قاس. وفي العامن الأولين (6081 - 8081) بعد إصدار نابليون مرسوم برلين الآنف ذكره انخفضت الصادرات البريطانية من 000،008،04 جنيه إسترليني إلى 000،002،53 جنيه إسترليني، وانخفضت وارداتها من القطن بنسبة 59%. وكإحدى نتائج الحصار ارتفع سعر القمح (الحبوب بشكل عام) من 66 شلناً إلى 49 شلناً لكل ربع (كوارتر: وحدة وزن تساوي 82 باونداً) (ربع الهندريدويت الذي يساوي 211 باوند)، وفي غضون ما لا يزيد إلا قليلا عن عام (7081 - 8081). وفي هذه الأثناء أدى تدهور التجارة الخارجية إلى هبوط الأجور وانتشار البطالة وقيام الإضرابات المدمرة. لقد كانت بريطانيا تحتاج إلى الحديد السويدي لمصانعها وللأخشاب الروسية لسفنها، لكن الحرب مع السويد وتحالف روسيا مع فرنسا (7081) أديا إلى منعه هذين الموردين عنها. وناضلت بريطانيا لمواجهة هذا التقهقر بحماية من تبقّى لها من متنفسات لتجارتها، فارتفعت صادراتها إلى البرتغال وأسبانيا وتركيا (الدولة العثمانية) 004% بين عام 5081 و 1181 إلى أن أتى الغزو الفرنسي المكلِّف لشبه الجزيرة الأيبيرية.
وكانت الأمور تزداد سوءا في بريطانيا كلَّما استمر الحصار؛ لقد انخفضت صادراتها إلى شمال أوربا بما نسبته 02% في عامي 0181 - 1181. وأدى تراجع ميزانها التجاري إلى ارتفاع المبالغ المدفوعة بالذهب في أوربا، كما أدى إلى انهيار قيمة الجنيه في العالم إلى درجة دفعت المعارضة ممثلة في زعيميها جرينفيل وجراي Grenville & Grey إلى المطالبة بالسلام بأي ثمن(1). وفي سنة 1181 - أي قبل عام من حرب نابليون مع روسيا - وصل تأثير حصاره القاري ذروته في بريطانيا العظمى.
وكان الحصار البريطاني لفرنسا مفيداً بشكل جوهري لها (أي لفرنسا) فرغم أن موانئ فرنسا - لي هافر Le Havre ونانت Nantes وبوردو ومارسيليا - كانت قد تعرضت لخراب اقتصادي شديد حتى إن المدينتين الأخيرتين طالبتا بعودة حكم البوربون(2)، إلا أن التجارة الفرنسية الداخلية استفادت من إزاحة المنافسة البريطانية، واستفادت من تدفق الذهب ووفرة رأس المال، والإعانات المالية التي تقدمها حكومة رجل الأعمال التي أَثْرت خزانتها بغنائم الحرب. وكانت أرباح التجار ورجال الأعمال الفرنسيين لا تزال أكثر بسبب هذه العوامل وبسبب تحسن أحوال أسواق القارة وزيادة التيسيرات فيها في ظل سيادة نابليون. وتضاعفت صناعة النسيج أربع مرات في الفترة من 6081 إلى 0181 مما عجَّل بالثورة الصناعية - بعد ذلك - في فرنسا. وأعطى انعدام البطالة والاستقرار السياسي في نطاق الحدود الممتدة حافزاً للصناعة حتى إنه لو ربحت فرنسا الحروب النابليونية لكانت قد أدركت إنجلترا إنتاجاً وتجارة عالمية، وضارعتها.
وكان الحصار القاري (الذي فرضته فرنسا) مفيداً لصناعتها وتجارتها الداخلية، لكنه كان مُضراً بالتجارة الخارجية بالنسبة إلى دول النظام القاري التابعة لنابليون. فالمدن الهانسيتية - أمسترادم، وهامبورج، وبريمن ولوبك Lûbeck - كان من الطبيعي أن تعاني من الحصار القاري المزدوج (المقصود الحصار القاري الذي فرضه نابليون على البضائع البريطانية، والحصار الذي فرضته بريطانيا على الموانئ والسواحل الفرنسية والتابعة لفرنسا)، لكن سويسرا وشمال إيطاليا ومجتمعات الراين ازدهرت نتيجة امتداد المؤسسات النابليونية بشكل غير معوِّق. أما كلما اتجهنا إلى الشرق (في أوربا) حيث الصناعة أقل تطورا، فإن الحصار القاري - بمنعه بيع منتجات الإقليم لبريطانيا - كان عبئاً أدى إلى زيادة الاستياء. وبطبيعة الحال، كان هذا أكثر ما يكون وضوحاً على نحو خاص في روسيا.
وكانت نقطة الضعف الأساسية في الحصار القاري (الذي فرضه نابليون) هي أنه كان معاكسا للرغبة البشرية الطبيعية في طرق كل الأبواب المؤدية إلى الكسب. لقد كانت موانئ أوربا ومدنها الساحلية غاصة بأناس كان الواحد منهم راغباً في المخاطرة بحياته لتهريب البضائع البريطانية إلى القارة، فقد أصبحت هذه البضائع جذابة بسبب منعها، وكان أصحاب الصناعات داخل القارة الذين كانوا يجدون لبضائعهم أسواقاً أجنبية غير راضين بإجبارهم على التخلي عن الأسواق البريطانية. وأدى استياء الأسر التجارية الكبيرة في هولندا إلى حدٍ دفع الملك لويس بونابرت إلى الكتابة للقيصر الروسي إسكندر متجاوزاً الحد في انتقاد نابليون بمرارة لا ترحم(3).
وفي مواجهة المعارضة المتزايدة استخدم نابليون 000.002 دار جمارك وآلافاً من رجال الشرطة السرية أو المعروفين، وما لا يُحصى من الجنود لكشف أي خرق للحصار، والقبض على من يرتكب هذه المخالفة وعقابه ومصادرة البضائع المهربة. وفي سنة 2181 أصدرت محكمة الجمارك في هامبورج في ظرف ثمانية عشر يوماً، 721 حكماً كان بعضها بالإعدام، إلا أن الحكم بالإعدام كان على أية حال نادراً، بل وحتى أحكام الإعدام التي صدرت لم تكن تُنفَّذ. وكانت البضائع المصادرة تباع للخزانة الفرنسية، وكان بعضها يُحرق علناً مما كان ينفّر كل المشاهدين تقريبا ويسبّب استياءهم.
ولتخفيف العداء على نحو ما، ولزيادة الدخل ولسد العجز، بدأ نابليون في سنة 9081 في بيع التراخيص، وعادة ما كان الحصول على الترخيص مقابل ألف فرنك - وذلك لاستيراد البضائع البريطانية التي يثبت ضرورتها للصناعة الفرنسية أو ضرورتها لرفع الروح المعنوية للفرنسيين، أو تصدير بضائع إلى بريطانيا مقابل البن والسكر والذهب. ورغم أن نابليون بدأ رسمياً في إصدار هذه التراخيص علناً منذ سنة 9081 إلاَّ أنه فيما يُقال كان يصدرها قبل ذلك بمدة طويلة، وكانت بريطانيا قد سبق لها أن أصدرت تراخيص مشابهة - 643،44 منها بين 7081 و 2181 - لإلغاء الحظر على بضائعها(4). إن نابليون - بالمقارنة - لم يُصدر سوى 494 ترخيصاً بحلول 52 نوفمبر سنة 1181(5)، ومع هذا فإن إسكندر أشار إلى أنه بينما يطالب نابليون روسيا بحظر دخول البضائع البريطانية حظراً تاماً فإنه - أي نابليون يتغاضى عن دخولها إلى فرنسا.
وباختصار فإن الحصار القاري الذي فرضه نابليون كان رغم تدني جماهيريته بشكل واسع، ورغم الصعوبات والأخطاء التي قامت في سبيله - يبدو ناجحاً في سنة 0181. لقد أصبحت إنجلترا على حافة الإفلاس، بل وعلى حافة الثورة المطالبة بالسلام مع فرنسا، وكانت الدول المتحالفة مع فرنسا متذمرة لكنها كانت خاضعة مطيعة، وكانت فرنسا رغم الاستنزاف المالي والبشري الذي سبَّبته الحرب الأيبيرية، مزدهرة اقتصاديا ربما كما لم تكن في أي وقت آخر مضى. ولم يكن لدى الفرنسي سوى القليل من الحرية، لكن كان لديه فرنكاته، ونصيبه من عظمة فرنسا المنتصرة، وإمبراطورها الذي لا نظير له.
فرنسا في حالة ركود اقتصادي 1811
وفجأة - كما لو أن بعض القوى الشريرة كانت تُنسّق لإحداث كوارث - بدا كل الاقتصاد المتعدد الأوجه ينهار متمزقا إربا غارقاً في دوامات الفشل البنكي، والاضطرابات في الأسواق، وإغلاق المصانع والبطالة والإضرابات والتمرد بل وخطر المجاعة - كان كل هذا والإمبراطور الأعجوبة الذي لا يمل يخطط لجمع الأموال والجنود ورفع الروح المعنوية لخوض معركة حياة أو موت مع روسيا البعيدة المجهولة الواسعة.
إن أسباب ركود اقتصادي حديث يصعب تحديدها، فكيف سنحلِّل أسباب الركود الاقتصادي في فرنسا في سنة 1181؟ إنه لأمر أشد صعوبة، مما يظن أكبرنا سناً (ممن شهدوا الركود الاقتصادي الحديث)، وهناك مؤرخ نابه(6) أرجع الركود الاقتصادي الفرنسي الآنف ذكره إلى سببين: (1) فشل صناعة الغزل والنسيج في فرنسا في تدبير المواد الخام ورأس المال. (2) وفشل شركات الصرافة في لوبك Lûbeck. لقد كانت مصانع الغزل في فرنسا تعتمد على استيراد القطن الخام إلا أن سياسة حماية المنتجات المحلية التي اتخذتها الحكومة الفرنسية قضت بوضع تعريفة جمركية عالية على مثل هذه الواردات فقلَّ الوارد وارتفعت أثمان القطن، ولم يستطع أصحاب مصانع الغزل دفع المبالغ اللازمة لتشغيل كل أنوالهم، ولم يستطيعوا دفع نسبة الربح العالية التي تفرضها البنوك الفرنسية على القروض. وشعر أصحاب هذه المصانع بضرورة الاستغناء عن المزيد والمزيد من العاملين لديهم. وسرعان ما أعقب فشل بنك لوبك إفلاسات مماثلة في هامبورج وأمستردام أثرت في الشركات والمؤسسات الباريسية. لقد زاد عدد البنوك المفلسة في فرنسا من 71 بنكا في أكتوبر سنة 0181 إلى 14 في نوفمبر من السنة نفسها، إلى 16 في يناير 1181، وأدت ندرة القروض البنكية وارتفاع فوائدها إلى اضطرار الشركات شركة إثر أخرى إلى تقليص عدد العاملين فيها، بل وإيقاف أعمالها، وسرعان ما ازدحمت شوارع المدن الفرنسية بالعاطلين الذين راحوا يعرضون ممتلكاتهم للبيع أو راحوا يتسولون الخبز، بل وانتحر بعضهم(7). وتكوّنت عصابات من العاطلين في المناطق الشمالية أغارت على المزارع واستولت على الغلال، وفي المدن هاجم العاطلون الأسواق والمخازن واعترضوا حمولات الطعام في الطرق والأنهار ونهبوها. لقد بدت الفوضى التي سادت عام 3971 تعود من جديد.
وأصدر نابليون قرارات بعقوبات قاسية ضد جرائم الإخلال بالنظام العام، وأرسل الجنود لقمع المضربين، ونظم أمر توزيع الطعام مجانا. وأصدر قرارا في 82 أغسطس بإرسال 000،005 هندريدويت من القمح و 000،03 جوال من الدقيق للمراكز ذوات الوضع الحرج. وفي هذه الأثناء خرق هو نفسه الحصار القاري بالسماح باستيراد الغلال من الخارج، ورفع التعريفة الجمركية عن المنتجات الأجنبية التي تنافس الصناعات الفرنسية، ونظّم أمر القروض الحكومية لتمكين الشركات من مواصلة التعيين (التوظيف) والإنتاج، وفي مايو سنة 2181 وضع حدا أعلى لسعر القمح تأسِّياً بسوابق ثورية، لكن هذه المحاولة فشلت لأن الفلاحين منعوا منتجاتهم منه عن السوق حتى ترتفع الأسعار فيحصلوا على السعر الذي يطلبونه. وساعدت الأعمال الخيرية الخاصة الحكومة على تجنب هيجان على مستوى الأمة، فالكونت رمفورت Rumfort العالم الأمريكي البريطاني الذي كان يعيش آنئذ في فرنسا رتب نوعاً من الحساء هو (حساء رمفورت) مكوَّناً أساساً من اللوبيا أو الفاصوليا، والبسلَّة أو الفول، وهو حساء لا تقتصر فائدته على احتوائه على البروتينات النباتية وإنما تُقلل من الحاجة إلى الخبز.
وكانت الأزمة الاقتصادية التي أطلت في أثناء استعدادات نابليون لغزو روسيا اختباراً لقوة أعصابه وربما أسهمت في إضعاف ثقته في نفسه وإضعاف قراراته، ومع هذا فلم يتخل عنه حظه الطيب، فقد كانت البشائر تشير إلى محصول وفير في سنة 2181 وثبت هذا بالفعل، فأصبح الخبز أرخص سعراً، وأصبح يمكن العاطلين - على الأقل - من أن يجدوا ما يسد رمقهم. وفتحت البنوك أبوابها مرة أخرى أو حلت محلها بنوك أخرى وتدفقت القروض وواصلت العاصمة دورها في المصانع وكان لابد من هذا وأصبح من الممكن دفع الأجور بالعمل في إنتاج بضائع قد يستغرق وصولها إلى المشتري نصف عام. وأصبحت الأسواق عامرة مرة أخرى. والآن كان في مقدور نابليون أن يكرس نفسه لحرب لإحكام الحصار القاري الذي كان قد بدأ فعلاً في الإخفاق بسبب تصرفات الأمم وطبيعة البشر.
مقدّمات الحرب 1181 - 2181
استعدَّ الإمبراطوران المتخاصمان للمعركة بتحركات دبلوماسية، وتجمعات عسكرية، وتهيئة جماهيرية، وحاول كل منهما إقناع الآخر بأنه مُخلص للسلام. اختار نابليون كسفير له في روسيا أرمان دي كولينكور Armand de Caulaincourt وهو رجل تفوق قيمته مجرد أصله النبيل. وعندما وصل هذا السفير إلى سان بطرسبرج (نوفمبر 7081) تأثر بما لحق بإسكندر من تطور من حاكم شاب حَيِى - ذلك الحاكم الذي كان قد رآه في سنة 1081 إلى قيصر كان قد أصبح مثالاً للمظهر الطيب والعادات الرشيقة والأسلوب الودود في الحديث. واعترف إسكندر أنه مُحب لنابليون وأنه لايزال متمسكاً بالاتفاقات التي عُقِدَت في تيلسيت - وأبدى بعض التوافقات الخفيفة اعتبرها الإمبراطور الفرنسي الأريب معقولة.
لكن بولندا فرَّقت بينهما. لقد كان نابليون قد أسس دوقية وارسو (فرسافا) الكبيرة (7081) تحت الحماية الفرنسية لكن إسكندر واجه هذا بأن راح يتودَّد للنبلاء البولنديين بعرضه عليهم إعادة بولندا مملكة موحّدة كما كانت قبل التقسيم تحكم نفسها حكماً ذاتياً مع الاعتراف بقيصر روسيا كمليك لها مهيمن على علاقاتها الخارجية. ووقعت خطابات تحوي هذا العرض في يد نابليون فاستشاط غضباً(8)، واستدعى كولينكور (فبراير 1181) وعيّن بدلاً منه جاك لو Jaques Law (ماركيز لوريستور Lauriston مستقبلاً) سفيراً لفرنسا في روسيا.
وفي هذا الشهر حثَّ إسكندر النمسا على الانضمام إليه في شن هجوم على قوات نابليون في بلوندا مغرياً إيّاها بمكسب عرضي - نصف مولدافيا وكل فاليشيا(9)، ورفضت النمسا. وقد ألقى نابليون - بعد ذلك - وهو في سانت هيلانا بعض الضوء على سياسته في بولندا لم أكن أبداً لأشن الحرب على روسيا لأخدم - ببساطة - مصالح طبقة النبلاء البولنديين، أما بالنسبة إلى مسألة تحرير أقنان الأرض فإنني لا أستطيع أبداً أن أنسى أنني عندما تحدثت إلى أقنان الأرض في بولندا عن الحرية، أجابوني: بالتأكيد نحن نحب الحرية كثيراً جداً، لكن من سيُطعمنا ويكسونا ويدبّر لنا سكناً؟(01) وهذا يعني أنهم كانوا سيتعثرون في حالة حدوث أي تغيير مفاجئ.
ووصل كولينكور إلى باريس في 5 يونيو 1181 محملاً بالهدايا من القيصر، وحاول بكل جهده إقناع نابليون بنوايا إسكندر السلمية وحذّره من أن غزو فرنسا لروسيا قد ينتهي إلى هزيمة بسبب مناخها ومساحتها الشاسعة، وانتهى نابليون إلى أنّ كولينكور قد وقع في حب القيصر، فانتهك بذلك واجبات منصبه الدبلوماسي(11)، وعبّأ نابليون جيشه في بروسيا أو بالقرب منها بعد أن استبعد الأمل في حل سلمي وبعد أن ساوره الشك أن روسيا تحاول كسب بروسيا والنمسا إلى جانبها(21)، فأرهب - أي نابليون - فريدريك وليم الثالث لتوقيع تحالف مع فرنسا (5 مارس 2181) ألزم بروسيا بتقديم عشرين ألف جندي ينضمون إلى الجيش الفرنسي لغزو روسيا، كما ألزمها بإطعام الجيش الفرنسي عند مروره بالأراضي البروسية على أن تُخصم تكاليف الطعام من تعويض الحرب الذي كانت بروسيا لاتزال ملتزمة بدفعه لفرنسا(31). وفي 41 مارس دخلت النمسا في تحالف قَسْري مماثل مع فرنسا. وفي أبريل اقترح نابليون على السلطان (العثماني) تحالفاً يُتيح لتركيا تطوير صراعها مع روسيا في حرب مقدسة (جهاد) وأن نتعاون مع فرنسا في مسيرة متزامنة إلى موسكو، ويستعيد الباب العالي - في حالة نجاح الحملة - ولاياته الدانوبية مع ضمان سيطرته على القرم والبحر الأسود. لكن الباب العالي وقد تذكر أن نابليون قد حارب الترك (العثمانيين) في مصر والشام، وأنه عرض في تيلسيت على إسكندر أن يتصرف كما يحلو له ضد تركيا (الدولة العثمانية) - رفض عروض نابليون، ووقع - أي السلطان العثماني - اتفاق سلام مع روسيا (82 مايو 2181)، وفي 5 أبريل وقع إسكندر اتفاقية تعاون مشترك مع السويد، وفي 81 أبريل عرض على بريطانيا العظمى التحالف. وفي 92 مايو أعلن أن كل الموانئ الروسية مفتوحة لسفن كل الأمم. والحقيقة أن هذا الإعلان كان يعني الانسحاب من الحصار القاري (الذي فرضه نابليون) وإعلان الحرب على فرنسا.
ومع هذه المبارزة الدبلوماسية كانت تجري واحدة من أكثر الاستعدادات العسكرية في التاريخ ضخامة. وفي هذا المجال كانت مهمة إسكندر أبسط وأضيق من مهمة نابليون. لقد كان أمام إسكندر دولة واحدة كان عليه تعبئة قواتها ومشاعرها. أما تعبئة المشاعر فكادت تتم بدون مجهود منه: فروسيا الأم هبت بشكل تلقائي ضد جحافل البرابرة الذين نظموا أنفسهم وعلى رأسهم كافر وتوجهوا لغزو روسيا. وتحولت العاطفة الوطنية التي أدت فيما سبق إلى إدانة سلام تيلسيت إلى دعم ذي طابع ديني للقيصر، فحيثما ذهب تحلق حوله البسطاء رجالا ونساء يُقبّلون حصانه أو حذاءه. أما وقد وجد نفسه بهذه القوة فقد زاد من عدد جيوشه وأمرها بالاستعداد للحرب، ومرْكز 000،002 جندي على طوال الدفينا Dvina والدنيبر Dnieper وهما أطول نهرين يفصلان روسيا الروسية عن ليتوانيا والولايات البولندية التي حصلت عليها روسيا في أثناء تقسيم بولندا(41).
أما تعبئة نابليون فكانت أكثر تعقيداً. لقد واجه الصعوبة المبدئية المتمثلة في أن 000،03 جندي فرنسي واثنى عشر جنرالاً فرنسيا كانوا متورطين في إسبانيا والحاجة إليهم أكثر لمنع ويلنجتون من اجتياح شبه جزيرة أيبيريا واجتياز جبال البرانس إلى فرنسا. لقد كان نابليون يأمل العودة إلى إسبانيا ليكرر نصراً آخر كالذي كان قد أحرزه في سنة 9081، والآن كان على نابليون أن يختار بين فقد إسبانيا والبرتغال والحصار القاري من ناحية، وفقد التحالف الروسي والحصار إنني أعلم أكثر من أي شخص آخر أن إسبانيا كانت سرطاناً مزعجاً كان لابد من علاجه قبل أن نستطيع الدخول في مثل هذه الحرب المرعبة التي لابد أن تكون معركتها الأولى على بعد ألف وخمسمائة ميل من حدودي(51).
وكان نابليون قد بدأ استعداداته العسكرية في سنة 0181 بتقوية الحاميات الفرنسية في دانتسج (دانزج) وأوعز - بالإضافة لذلك - بحذر شديد، إلى تنظيم أمور العسكر الفرنسيين في بروسيا. وفي يناير 1181 استدعى للخدمة العسكرية الذين أتى عليهم الدور في هذا العام ووزَّعهم على طول الساحل الألماني من نهر إلبا Elbe إلى نهر أودر Oder تحسباً لهجوم بحري روسي. وفي الربيع أمر أمراء كونفدرالية الراين أن يجهزوا حصتهم من الجنود المفروض تقديمها لجيوش نابليون، للقيام بعمل عسكري فعلي. وفي أغسطس بدأ في دراسة الأراضي الروسية دراسة جادة متأنية، ووقع اختياره على شهر يونيو كأفضل شهر لغزوها(61). وفي ديسمبر نشر شبكة جواسيس للعمل في روسيا وما حولها(71).
وبحلول شهر فبراير سنة 2181 كان الطرفان قد أتما التعبئة العامة اللازمة للحرب. كانت عملية التجنيد في فرنسا تُوحي بهبوط حاد في شعبية الجيش: من بين 000،003 تم استدعاؤهم للخدمة اختفى 000،08 وتم البحث عن آلاف منهم باعتبارهم مجرمين(81) (هاربين من الخدمة العسكرية). وكثيرون من المجندين الجدد تركوا الخدمة العسكرية أو كانوا كارهين للجندية وأثبتوا - بشكل خطير - أنه لا يمكن الاعتماد عليهم في الأزمات. أما في المعارك السابقة فقد كان المجندون الجدد يجدون أمامهم القدوة والمثال الطيب الذي يدعو للفخر في التشجيع الأبوي من المحاربين المخضرمين القدماء في الحرس الإمبراطوري، أما الآن فقد كان معظم رفاق المعارك هؤلاء قد ماتوا أو كانوا في إسبانيا أو بلغ بهم العمر عتيا. فلم يعودوا قادرين على القيام بأدوار بطولية فعلية وكل ما كانوا يستطيعونه هو اجترار ذكريات بطولاتهم الماضية. بل إنه لم يكن للمجنَّدين الجُدد إلهام من أمة موحدة ومتحمسة تقف وراءهم. وقد ناشدهم نابليون كما ناشد رعاياه أن ينظروا إلى هذا المشروع كحرب مقدسة تشنها الحضارة الغربية ضد موجة غرور البربرية السلافية(91) لكن الفرنسيين المتشككين كانوا قد سمعوا مثل هذه الحكايات من قبل، وعلى أية حال فقد كانت روسيا بعيدة بعداً يكفي لعدم إرهابهم. وحاول نابليون إلهاب مشاعر جنرالاته إلا أنهم لم يكادوا يُصيخون إليه سمعاً لأنهم كانوا ضد الحرب الجديدة لأنها - في رأيهم - دعوة إلى مأساة. وكان كثيرون منهم قد غدوا أثرياء بفضل هباته وكانوا راغبين أن يتركهم لينعموا بها في سلام.
وكان بعض مساعديه من الشجاعة بمكان بحيث صارحوه بشكوكهم. بل إن كولينكور رغم ولائه له وبرغم أنه خدمه حتى سنة 4181 كقيِّم على إصطبله الإمبراطوري ومشرف على خيوله - حذّره من أن الحرب مع روسيا مدمرة، بل وجرؤ على أن يقول له إنه قد سبّب كل هذه المتاعب لإرضاء ولعه الشديد بالحرب(02). أما فوشيه Fouché الذي كان قد أُبعد عن الحضرة الإمبراطورية بسبب تآمره الشديد، كما هو مفترض فقد استدعاه نابليون مرة أخرى ليضعه تحت ناظريه أو ليتمكن من توجيهه. فوشيه Fouché هذا قال لنابليون إنه من الصعب هزيمة روسيا بسبب المناخ وإنه - أي نابليون - يفعل كل هذا بسبب حلمه المضلل بأن يحكم العالم كله - هذا إن جاز لنا أن نصدّق فوشيه هذا(12). وقد شرح نابليون أنه لا يحلم إلا بإيجاد ولايات متحدة أوربية وأن يقدم للقارة تشريعات قانونية واحدة وعُملة واحدة، ونظام مقاييس وموازين واحد ومحكمة استئناف واحدة - كل هذا تحت قبعة واحدة ذات زوايا ثلاث. وهذا الجيش الهائل الذي لم يسبق له مثيل الذي بذل جهودا كبيرة لجمعه وإعداده - كيف يُعيده إلى دياره الآن ليسير خلال ما بقي له من حياة وذيله بين سيقانه؟! لقد كان فعلاً جيشاً هائلاً: 000،086 مقاتل من بينهم 000،001 فارس وما لا يُحصى من المسؤولين السياسيين والخدم والنسوة المرافقات. وكان أقل من نصف هذا العدد من الفرنسيين، أما الباقون فكانوا كتائب عسكرية مطلوبة من كل من إيطاليا، وإيليريا Illyria والنمسا وألمانيا وبولاندا. وكان هناك خمسون جنرالاً: ليفبفر Lefebvre، دافو Davout، أودينو Oudinot، ني Ney، مورا Murat، فيكتور، أوجيرو Augereau، يوجين دي بوهارنيه، الأمير جوزيف أنتوني بونياتوفسكي ابن أخي آخر ملوك بولندا الفرسنان، وغيرهم. لقد تجمعت كل هذه القوى في جيوش منفصلة في نقاط مختلفة في الطريق إلى روسيا وتم تزويد كل جنرال بتعليمات محددة عن متى وأين يقود جيشه؟
لقد كانت مهمة إعداد وتمويل هذا العدد الكبير تحتاج إلى عبقرية وصبر ومال، ربما أكثر من مهمة جمعها (حشدها). حقيقة لقد كانت المرحلة الأولى من هذا المشروع وكذلك الأخيرة قد تأثرت بشكل حيوي بظروف نقل الجنود وتمويلهم، ولم يكن من الممكن بدء المعركة إلا بعد أن تكون التربة قد سمحت بنمو الحشائش بقدر كاف لإطعام الخيول. وكان دمار الحملة يكاد يكون تاماً باستيلاء الروس على المؤن التي كان الفرنسيون الجوعى العائدون يتوقعون وجودها في سمولنسك Smolensk. لقد حاول نابليون أن يحسب حساب كل شيء سوى الكارثة. لقد كان قد رتَّب أموره ليكون لديه مخازن للمواد وقطع الغيار الميكانيكية والطعام والملابس والأدوية في كل من وزل Wesel وكولوني Cologne وبون Bonn وكوبلنز (كوبلنتس Coblenz) ومينز (مينتس Mainz) وغيرها من النقاط في طرق جيوشه المتجمعة، وكان لابد من إمدادات شبيهة ممثلة في مئات من عربات النقل تتبعُ الغزاة إلى روسيا. وكان نابليون يعرف أين يشتري وماذا يدفع. لقد كان يعرف خداع المورِّدين، وكان مستعداً لإحراق أي تاجر يُحمِّل جيشه أكثر مما يطيق أو يبيعه بضائع رديئة أو مغشوشة.
كيف دفع تكاليف كل هذه المؤن ونقلها وخزنها وكيف دفع لجنده ومستخدميه؟ لقد فرض الضرائب وفرض على المقرضين إقراضه وأخذ القروض من بنك فرنسا ومن البنوك الخاصة، وأخذ الملايين من المبالغ الخاصة به والبالغة 083 مليون فرنك ذهباً والتي أودعها في أقبية التوليري، وراح يقاوم الإسراف أينما كان ووبَّخ مطلّقته الحبيبة جوزفين لأنها تنفق كإمبراطورة وامتدح الإمبراطورة ماري لويز لاقتصادها في النفقات(22). وباختصار فإنه قال في وقت لاحق: إن معركة روسيا... كانت هي الأفضل، والأكثر إتقاناً، والأكثر براعة في قيادتها، بل والأكثر منهجية (نظاماً) من بين كل المعارك التي قُدْتها(32). أكان كفؤاً لقيادتها؟ ربما كان أكثر معاصريه كفاءة لكنه كان أقل ملاءمة مما تحتاجه مثل هذه المعركة. لقد كان في الثالثة والأربعين، وكان في هذه السن قد أَلِفَ بالفعل حياة المعسكرات وواجبات المعارك، ويمكننا أن نفترض أنه ربما كان يعاني من آلام عوَّقته في بورودينو Borodino وواترلو Walerloo (بعد ذلك): آلام في المعدة، صعوبات متوالية في التبوّل، آلام البواسير. ومع هذا فقد كان لايزال رفيقاً عادلاً وزوجاً طيباً لماري لويز وأباً مولعاً بابنه منها. ولكنه كان قد أصبح بعد ثمانية أعوام من الحكم الإمبراطوري نافد الصبر دكتاتوراً سهل الاستثارة سريع الغضب مُغالياً في تقدير قدراته العقلية وإمكاناته السياسية. مع استثناءات كثيرة: لقد تحمل انتقادات كولينكور بفكاهة وصدر رحب. وغفر كثيراً من الأخطاء المكلّفة لإخوته وجنرالاته. وكانت تمر به لحظات ينظر فيها لنفسه نظرة واقعية: يخبرنا سكرتيره أنه في الحالات التي كان يستغرق فيها في التفكير والتأمل كنت أسمعه يشخّص وضعه وموقفه بعبارة يقول فيها لقد شددنا القوسَ إلى منتهاه(42) لكنه قلما كان يفقد الرؤية والإحساس بالقصور. لقد قال لناربون Narbonne وبعد كل هذا، فإن، فإن هذا الطريق الطويل [إلى موسكو] هو الطريق إلى الهند(52).
وعلى هذا ففي 9 مايو 2181 غادر سان كلود St. Clud قاصداً موسكو على الأقل، لقد كان كل شيء في حياته مقامرة، وكانت هذه (ذهابه بجيشه إلى موسكو) هي أكبرها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الطريق إلى موسكو 26 يونيو - 14 سبتمبر 1812
ألحت عليه ماري لويز أن تصحبه حتى درسدن Dresden وأن يدعو والديها للقائهما هناك لتكون مرة أخرى مع أسرتها لفترة، وستكون هذه الفترة وجيزة على أية حال. ووافق نابليون، ووجد من الحكمة أن يدعو أيضاً فريدريك الثالث البروسي وعدداً كبيراً من الشخصيات الملكية وذوي الحيثية. لقد أصبحت مسيرته من مينز (مينتس) مُشرِّقا عبر بلاد الراين موكب نصر، إذ كان الحكام المحليون يخرجون لاستقبال سيّدهم الأعلى، وكانوا ينضمون إلى موكبه طوال تقدمه في سكسونيا. وإلى الغرب من دريسدن بأميال قليلة التقى بالملك فريدريك أغسطس الذي صحبه ومن معه إلى العاصمة، فوصلوا المدينة قبل منتصف الليل بساعة في 61 مايو وازدحمت الشوارع التي مرّوا بها بالناس حاملين المشاعل وهاتفين مرحبين ودقت أجراس الكنائس ودوَّت المدافع بطلقات التحية(62).
وفي 81 مايو وصل ميترنيخ مع إمبراطور النمسا وإمبراطورتها، وعانقت ماري لويز أباها بعاطفة جياشة وكانت سعادتها قد قلّت بسبب هواجس اعترتها بأن هذا العام مليء بالنحس. وسرعان ما أتى ملك بروسيا وولي عهدها وربما لم يكونا سعيدين وسط هذا الجو من التوافق والود بين أعداء وطنهم التاريخيين، وعلى أية حال فقد كان القيصر إسكندر قد تلقّى تأكيدات سرية بأن بروسيا والنمسا تتمنيان هزيمة نابليون(72). وقام الملك فريدريك أغسطس كمضيف بتخفيف أمور السياسة بالأوبرا والدراما والصيد والألعاب النارية والرقص والاستقبالات التي كان حكام ألمانيا يقدمون فيها لنابليون فروض الولاء والطاعة (البيعة homage) وكان هذا مبهجاً له - رغم تواضعه - وبلغ ابتهاجه الذروة.
وفي 82 مايو انطلق نابليون لينضم إلى أحد جيوشه في ثورن Thorn على الفيستولا Vistula، وكانت الأوامر قد صدرت لجنرالاته للقائه عند شاطئ نهر نيمن Niemen الذي يفصل دوقية وارسو (فرسافا) الكبيرة عن روسيا. وركب هو نفسه في عربة مزوّدة بمصباح ومنضدة وأدوات كتابة وخرائط وكتب. وكانت هذه الأدوات تُنقل كل يوم في أثناء المسيرة إلى خيمته حيث كان يكتب الأوامر ويطلب من سكرتيريه نقلها لجنرالاته، وكانت هذه الأوامر تتعلق بالعمليات في صباح اليوم التالي. وقد صحبه سكرتيره العجوز مينيفال Méneval وسكرتيره الجديد نسبياً فرانسوا فا Fain وخادمه الخصوصي كونستانت طوال الطريق إلى موسكو وطوال رحلة العودة. ووصل نابليون إلى شاطئ نهر نيمن في 32 يوليو فاستطلع الأحوال ولم يجد أثراً لوجود العدو على الضفة الأخرى من النهر، فأقيمت ثلاثة جسور عائمة بسرعة، وفي 42 - 62 يونيو عبر 000،002 من جنوده إلى مدينة كوفنو Kovno (الآن كاوناس Kaunas) وفي الوقت نفسه تقريباً عبر جيش فرنسي آخر مكوّن من نحو 000،002 مقاتل النهر نفسه في أدنى المجرى عند تيلسيت (الآن سوفيتسيك Sovetsk)(82) حيث التقى نابليون وإسكندر منذ خمس سنوات خلت وأقسما على أن يظلاَّ صديقين حتى الممات.
لقد كان إسكندر الآن في فيلنا Vilna إلى الجنوب الشرقي من كوفنو Kovno بسبعة وخمسين ميلاً. وكانت هناك عدة جيوش في انتظار أوامره: في الشمال 000،051 مقاتل بقيادة الأمير ميخائيل بارسلي دي توللي Mikhail Barclay de Tolly (من أصول إسكتلندية) وفي الجنوب 000،06 بقيادة الأمير بيوتر باجراتيون Pyotr Bagration (من جورجيا)، وفي الشرق 000،04 بقيادة الجنرال إسكندر تورماسوف Aleksandr Tarmasov. ولم تكن هذه الجيوش نداً قوياً لجيوش نابليون البالغ عددها 000،004، لكن بالانسحاب المنظّم يمكنها أن تستهلك أو تدمّر كل المؤن وموارد الطعام أو تبعدها، ولا تترك إلاّ القليل لينهبه الغزاة. وكان هناك جيش روسي آخر مكون من 000،06 مقاتل شديد البأس أصبح متاحاً الآن بعد الاتفاق مع تركيا وتوقيع معاهدة سلام معها، وكان هذا الجيش في طريقه للشمال بقيادة الجنرال بول شيخاجوف Chichagov لكن هذا الجيش كان يبعد مسيرة سبعة أيام.
وفي 42 يونيو كان إسكندر هو ضيف الشرف في حفل راقص في مزارع الكونت ليفين بنيجسن Levin Bennigsen الذي سبق له أن حارب نابليون في إيلاو Eylau سنة 7081. وفي أثناء الحفل أفضى حامل الرسائل لقيصر بأن الفرنسيين عبروا النيمن إلى روسيا، فأخفى قيصر الخبر حتى انتهى الاحتفال. ولما عاد لمقره أصدر الأوامر لجيوشه المحلية بالانضمام معاً إن أمكن، وعليها في كل الأحوال أن تنسحب إلى المناطق الداخلية. لقد وصل الفرنسيون أسرع مما كان متوقعاً ولم تستطع القوات الروسية أن ينضم بعضها إلى بعضها الآخر لكنها راحت تتراجع (تنسحب) بنظام جيد.
وفي 62 يونيو أرسل قيصر إلى نابليون طالباً فتح باب المفاوضات شريطة مغادرة القوات الفرنسية للأراضي الروسية فوراً. ولم يكن هو نفسه مؤمناً بجدوى اقتراحه، فغادر فيلنا Vilna مع جيش باسلي دي تولي Barclay de Tolly قاصداً فيتبسك Vitebsk، وهنالك، ألح عليه ضباطه بأنه غير مؤهّل لوضع استراتيجية عسكرية، فغادر قاصداً موسكو وناشد المواطنين التضحية بالمال والدم للدفاع عن بلاد آبائهم وأجدادهم فتفاعلوا بحماس مع مناشداته فعاد إلى سان بطرسبرج وقد امتلأ شجاعة.
وفي 72 يونيو بدأ نابليون وجيشه الرئيس مسيرة طويلة - 005 ميل - من كوفنو إلى موسكو. وحتى هذه الأيام الأولى في روسيا كانت محنة؛ إذ بلّل المطر الثقيل كل شيء ونقعه في الماء. وكان كل جندي يحمل معه طعاماً يكفيه لخمسة أيام لكنهم راحوا ينهبون الحقول وأكواخ القرى دون مراعاة لأوامر الإمبراطور بالكف عن السلب والنهب، وكان هذا رغبة منهم في زيادة كميات الطعام لديهم أو تعزيزها بأنواع أخرى. ووصل الجيش إلى فيلنا Vilna في 82 يونيو ونهبها بقدر ما يستطيع قبل وصول نابليون، وأتى (أي نابليون) وهو يتوقع أن يستقبله أهلها كمحرر، وحياه بعض اللتوانيين والبولنديين لكن آخرين قابلوه بصمت مُتجهِّم مُمتعضين مما قام به جيشه من سلب ونهب(92) وأتته وفود طالبة منه أن يضمن عودة العرش البولندي، ولم يستطع أن يُلزم نفسه خوفاً من تحوّل البروس والنمساويين في حكومته عنه أو تمرد الجنود البروس والنمساويين في جيشه عليه، وطلب من الوفود تأجيل هذا الطلب إلى حين عودته منتصراً من موسكو.
وكان نابليون يأمل أن يُفاجئ في فيلنا Vilna أحد جيوش القيصر ويدمّره، لكن بارسلي Barclay وجنوده كانوا قد هربوا (انسحبوا) إلى فيتبسك Vitebsk وكانت قوات نابليون تخشى ملاحقته خشية شديدة، واستمر نابليون طوال أسبوعين يستعيد النظام ويرفع الروح المعنوية للجنود، وتعكّر مزاج الإمبراطور لأحداث متوالية غير مواتية، فقد كان قد أرسل أخاه جيروم Jérome بجيش مهم لملاحقة باجراتيون Bagration في الجنوب، وفشل جيروم في الإيقاع بفريسته فعاد إلى الجيش الفرنسي الرئيسي فوبَّخه نابليون لإجراءاته البطيئة وقيادته المتراخية فسلَّم القيادة وانسحب إلى بلاطه في وستفاليا(03).
وفي 16 يوليو قاد نابليون جيشه الذي أُعيد إنعاشه وتمويله خارج فيلنا Vilna في مسيرة بلغ طولها 250 ميلاً إلى فيتبسك Vitebsk. وكان يخطط أن يلحق هناك بجيش بارسلي دي تولي Barclay de Tolly لكن الإسكتلندي (المقصود: ذو الأصول الإسكتلندية) البارع كان بالفعل قد تقدم في الطريق إلى سمولينسك Smolensic ولم يستطع نابليون ملاحقته إلى أبعد من فيتبسك لأنه (أي نابليون) كان قد أمر بإرسال دعم ومؤن لجيشه في فيتبسك، فلا شيء يمكن به إجبار إسكندر على الإذعان لشروطه (شروط نابليون) سوى الاستيلاء على عاصمة روسيا المقدسة والعريقة.
وبعد أن قضى نابليون خمسة عشر يوماً في فيتبسك قاد جيشه في 31 أغسطس آملاً أن يلحق بجيش بارسلي Barclay في سمولنسك التي كانت مركزاً مزدحماً بالسكان وكانت المناطق المحيطة بها ذوات تربة خصبة وتقع على نهر الدنيبر Dnieper فازدهرت تجارتها وصناعتها وكانت محصنة بشكل جيد حتى إن بارسلي Barclay وباجراتيون Bagration بعد أن وحّدا جيشيهما قررا مواجهة نابليون فيها أو على الأقل إيقاف تقدمه.
ووصل الفرنسيون في 61 أغسطس مُنهكين بسبب مسيرتهم الطويلة وقل عددهم بسبب من مات منهم وبسبب فرار الجنود إذ بلغ عدد من مات أو فرّ 000،061 رجل(13). ومع هذا كان الهجوم الفرنسي عنيفاً وفعّالاً، وفي ليل 71 أغسطس اشتعلت المدينة بالنار سواء بسبب المدفعية الفرنسية، أو بفعل الروس أنفسهم يأساً منهم، وكان هذا مبعث بهجة لنابليون ولذوقه الجمالي إذ قال متسائلاً لمسؤول خيوله (كولينكور): ألا ترى هذا المشهد بهيجاً؟ فأجابه: هذا مرعب يا سيدي فقال له نابليون: ياه!! تذَّكر ما قاله إمبراطور روماني: رائحة جثة العدو رائحة زكية دائماً(23). وفي 81 أغسطس أرسل الإمبراطور إلى مار Moret وزير الشؤون الخارجية تقريرا لرفع الروح المعنوية في باريس: لقد استولينا على سمولنسك Smolensk ودون أن نخسر رجلاً واحداً(33) لكن تقريراً آخر لمؤرخ إنجليزي ذكر أن الفرنسيين خسروا في هذه المعركة ما بين 0008 و 0009 رجل أما الروس فخسروا 0006(43). وكان من المحال تعويض الخسارة الفرنسية (بقوات أخرى)، وتراجعت الجيوش الروسية إلى المدن. ومناطق تجمع المياه Pools الموالية للجيش الروسي حيث يمكن تجنيد مزيد من الرجال.
وفي 20 يوليو - بعد أن استاء القيصر من خلافات جنرالاته وتكتيكاتهم - قرر أن قواته المسلحة في حاجة إلى قيادة واحدة، فعين في منصب القائد العام ميخائيل إلارينوفيتش كوتوزوف Mikhail Ilarionovich Kutuzov (5471 - 3181) الذي كان قد حقَّق شهرة بسبب قيادته الناجحة في كثير من المعارك. لقد كان قد بلغ الثالثة والستين من عمره كسولاً قعيداً سميناً لدرجة أنه كان يتعين نقله إلى المعسكر أو ميدان المعركة في عربة، وكان قد فقد إحدى عينيه وكانت الأخرى معتلَّة وكان - شيئاً ما - داعراً، دُبّاً مع النساء، لكنه كان قد تعلّم فن الحرب خلال خمسين عاما من الممارسة الفعلية، واستاءت كل روسيا لهذا التعيين. لقد استاء كل الناس تقريباً بمن فيهم نابليون بسبب تجنبه المواجهة العسكرية وأمره بمزيد من الانسحاب (أمره بالانسحاب إلى مناطق داخلية أبعد)
وعالج نابليون التوقَّف عن المطاردة بأن جعل من سمولنسك Smolensk مركزاً حصيناً في وسط روسيا وقضى الشتاء هناك وحافظ على خطوط مواصلات - تحميها قواته - مع غرب أوربا، لكنه الآن قد وجد نفسه في موقف غير متوقع بالمرّة: جيشه عير منضبط بسبب الانقسامات العرقية (لم يكن جميع أفراده من الفرنسيين) وانهيار النظام فيه حتى أنه - أي نابليون - وجد أكثر أماناً أن يواصل المسيرة حيث يؤدي الخوف من هجوم العدو إلى تماسك جيشه. لقد قال للجنرال سيباستياني Sébastiani: هذا الجيش لا يمكن أن يتوقف الآن.. فالحركة وحدها هي التي تجعله على قلب رجل واحد. إن المرء يمكنه أن يتقدم على رأسه، لكن دون توقف أو تراجع(53) وعلى هذا فبعد منتصف ليلة 52 أغسطس بقليل - أي بعد أسبوع واحد من الاستيلاء على المدينة - غادرها بجنوده في طريق حار ومترب إلى فيازما Viazma وجازهاتسك Gazhatsk... وموسكو - التي تبعد مسيرة ثلاثة أسابيع. وكان مورا Murat على رأس قوات الخيّالة (الفرسان) قد راح يرفع الروح المعنوية لقواته بطيش مرح بأن راح - وقواته - يحاربون للخلف (يتراجعون) لمواجهة أي هجوم من مؤخرة الجيش الروسي المنسحب. وقد وصفه نابليون في وقت لاحق:
إنه لا يكون شجاعاً إلاّ في حضور العدو، وفي هذه الحال تجده أشجع رجل في العالم. لقد أدت به شجاعته الطائشة (المتهوّرة) إلى وضع نفسه وسط الأخطار. لقد كان وقتها مُثقلاً بالذهب والريش فوق رأسه فبدا كبرج الكنيسة. لقد نجا باستمرار - كما لو كان ذلك بفعل معجزة - لأنه كان معروفاً بلباسه. لقد كان هدفا دائماً للعدو، واعتاد القوزاق الإعجاب به بسبب شجاعته المدهشة(63).
وفي الخامس من سبتمبر، وبينما كان الجيش الفرنسي يقترب من بورودينو Borodino (لازال هناك خمسة وسبعون ميلاً للوصول إلى موسكو) وصلت طليعة الجيش إلى قمة تل فرأوا في السهل أمامهم منظراً أبهجهم وأحزنهم: مئات من المتاريس والحواجز الدفاعية المكتملة يمكن أن تختفي وراءها المدافع، وإلى الأبعد من السهل حيث يلتقي نهرا كالاشا Kalacha وموسكفا Moskva آلاف الجند. من الظاهر أن كوتوزوف Kutuzov قرر المواجهة.
وطوال السادس من سبتمبر ظل الجيشان يستعدان للمعركة. وفي هذا الليل البارد الرطب كان من الصعب أن ينام أحد. وفي الثانية صباحاً أرسل نابليون بياناً ليُقرأ على جنوده، مصحوباً بترجمة إلى اللغات التي يتحدث بها جنوده غير الفرنسيين: أيها الجنود! ها هي المعركة التي طال انتظاركم لها. الآن، النصر يعتمد عليكم إنه آتٍ لا ريب. إنه سيتيح لنا رخاء ومنتجعا شتوياً طيباً وعودة باكرة إلى بلاد آبائنا وأجدادنا(73) وفي هذه الليلة - وبناء على أوامر كوتوزوف Kutuzov - حمل القسسُ المصاحبون للجيش الروسي أيقونة العذراء السوداء Black Virgin وطافوا بها في المعسكرات وكانت هذه الأيقونة قد تم إنقاذها من حريق سمولنسك (الآنف ذكره) وركع الجنود ورسموا شارة الصليب وتجاوبوا مع القسس وراحوا يدعون الله رحيم وانحنى كوتوزوف ليقبِّل الأيقونة(83).
وفي نحو هذا الوقت أتى حامل الرسائل لنابليون بخطاب من ماري لويز مع صورة جانبية حديثة لابنهما البالغ من العمر عاما واحدا، كما وصلت إليه أخبار مفادها أن جيشه عانى هزيمة عصيبة على يد ويلنجتون Wellington في سالامانكا Salamanca، وقضى نابليون جانباً كبيراً من الليل يصدر التوجيهات لضباطه فيما يتعلق بتكتيكات الصباح. ولابد أنه كان من الصعب عليه أن ينام لأن عُسر البول كان يسبب له آلاماً، وكان لون بوله متغيراً بشكل ينذر بالخطر وكانت ساقاه متورمتين مع استسقاء وكان نبضه ضعيفا غير محسوس بشكل متتابع(93).
ورغم هذا فقد أرهق ثلاثة خيول في اليوم الأول من المعركة إذ راح يتنقل من جانب إلى آخر في جيشه(04). لقد كان نابليون يقود 000،031 رجل مرهق، أما كوتوزوف فكان على رأس 000،021، وكان مع الجيش الفرنسي 785 مدفعاً بينما كان مع الروس 046. وطوال السابع من سبتمبر راحت هذه الألوف المؤلفّة من الجيش تحارب بعناد وبطولة، يقتلون ويُقتلون وقد شملهم الخوف والكراهية، وكان كلا الطرفين يحاربان ببطولة وكأنما كانا يشعران أن مصير أوروبا سيتحدد بنتيجة المعركة. وضحّى باجراتيون Bagration بحياته، وفقد كولينكور في هذه الحرب التي سبق له أن عمل لمنعها أخاه الحبيب، وواجه يوجين ودافو Davaut ومورا الموت مئات المرّات، وفاز نَي Ney في ميدان المعركة من نابليون بلقب أمير موسكو Moskva هذا اللقب الأثير المغري، لقد كان النصر عواناً بين الجانبين المتقاتلين وعندما حلّ الليل انسحب الروس بهدوء وظل الفرنسيون سادة الميدان لكن نابليون اعتبر النصر أبعد ما يكون عن أن يكون أكيداً. وأرسل كوتوزوف إلى إسكندر تقريراً فخوراً حتى إن كاتدرائيات سان بطرسبرج وموسكو قدّمت ابتهالات الشكر للرب. لقد فقد الفرنسيون 000،03 ما بين قتيل وجريح أما الروس ففقدوا 000،05(14).
وفي البداية، في 8 سبتمبر فكر كوتوزوف في تجديد المعركة لكن عندما علم بعدد قتلاه وجرحاه شعر أنه لا يستطيع تعريض جنوده الباقين لمذبحة مماثلة ليوم آخر، فواصل سياسة التراجع ومن الآن فصاعدا سيواصل هذه السياسة حتى النهاية. وفي 31 سبتمبر أمر بإخلاء موسكو، وفي 41 من الشهر نفسه انطلق محزوناً إلى حيث لا يدري الخطوة التالية. وفي هذا اليوم وصل نابليون ومن تبقى معه (000،59 مقاتل)(24) إلى بوابات موسكو بعد مسيرة ثلاثة وثمانين يوماً من كوفنو Kovno ووصلته رسالة من الجنرال ميلورادوفتش Miloradovich قائد حامية موسكو بوقف إطلاق النار في أثناء خروجه ورجاله من المدينة فوافق نابليون، وانتظر نابليون قدوم ذوي الحيثيَّة في المدينة ليقدموا أنفسهم له ويطلبوا منه الحماية لكن أحداً منهم لم يأتِ. وعندما دخل المدينة (موسكو) لاحظ أن أحداً من ساكنيها لم يبق فيها خلا آلاف قليلة من الطبقات الدنيا(34). لقد بقي بعض البغايا طمعاً في الفرنكات وكن مستعدات لتقديم المطلوب مقابل المأوي والغذاء. وكان نابليون قد أحضر معه حملاً من أوراق البنكونت الروسية المزيَّفة ورفضها الروس فأحرقها نابليون(44). وجال المنتصرون في المدينة ونهبوا القصور ومزارع الريف المحيطة بالمدينة وحملوا النبيذ والأمتعة (خاصة الأعمال الفنية). وكان مقدراً لهذه الأعمال الفنية أن تُفقد (بالبيع أو خلافه) عملاً إثر عمل، في أثناء طريق العودة.
وفي 51 سبتمبر تحرك نابليون إلى الكرملين وراح ينتظر أن يطلب إسكندر السلام. وفي المساء بدأت موسكو تحترق.
موسكو تحترق 15-19 سبتمبر 1812
لقد أعجب نابليون بجمال المدينة المهجورة إذ أخبر لاكاس Las Cases: إنها من كل الزوايا يمكن مقارنتها بأي عاصمة أوروبية بل إنها تفوق في جمالها معظم هذه العواصم(54). إنها أضخم مدن روسيا. إنها المدينة المقدسة أو العاصمة الروحية للروس، وبها 043 كنيسة تزين السماء بقبابها الكبيرة. وقد نجت معظم هذه الكنائس من الحريق لأنها كانت مشيّدة بالحجارة، أما المساكن فكان معظمها من الخشب. لقد دمرت النيران 000،11 منزل كان بعضها (000،6 منزل) من مواد مقاومة للنيران.
وقد شاهد الفرنسيون الداخلون للمدينة بعض هذه النيران فهرعوا لإطفائها، لكن نيراناً أخرى سرعان ما كانت تشتعل، وانتشرت النيران بسرعة حتى أحالت ليل 51 سبتمبر إلى نهار ونبهت النيران خدم نابليون الذين كانوا يحرسونه في أثناء نومه، فأيقظوه، فأمر فرقة الإطفاء في جيشه بالعمل على إخمادها ثم عاد إلى سريره، وفي صباح 61 سبتمبر طلب يوجين مورا من نابليون مغادرة المدينة مخافة أن تُشعل إحدى شرارات الحريق مخازن البارود التي أقامها الجيش في الكرملين Kremlin فقاوم طلبهم كثيرا، لكنه رضخ أخيراً وركب معهم خارجاً من المدينة تتبعه عربات محملة بالسجلات والمواد. وخمدت النيران في 81 سبتمبر بعد أن دمرت ثلثي موسكو، فعاد نابليون إلى الكرملين.
من كان مسؤولاً عن هذا الحريق؟ لقد كانت سلطات المدينة قبل مغادرتها قد أطلقت سراح المسجونين(64) وقد يكون هؤلاء هم الذين أشعلوا النيران في المدينة في أثناء نهبهم لها، وربما كان بعض الفرنسيين غير مبالين في أثناء السلب والنهب مثلهم مثل السجناء المطلق سراحهم والآنف ذكرهم، فتسببوا هم أيضاً في إحداث حرائق(74). ووصلت تقارير كثيرة لنابليون في 61 سبتمبر تُفيد أن حملة مشاعل كانوا منتشرين في موسكو وكانوا يُشعلون النار عمداً، فأمر بأن من يُقبض عليه من هؤلاء المحرقين عمداً لابد من إطلاق النار عليه أو شنقه، وتم تنفيذ هذه الأوامر بالفعل. وتم القبض على أحد هؤلاء المحرقين - وكان رجلاً من الشرطة الحربية الروسية - وهو يشعل النيران في برج الكرملين فدافع عن نفسه بأنه كان ينفّذ الأوامر، فتم تحويله لمقابلة نابليون، وتم بعد ذلك قتله في الساحة(84). ودافع عدد من الروس المقبوض عليهم بتهمة الإحراق عن أنفسهم بأنهم تلقوا أوامر بذلك من حاكم موسكو الذي غادرها، الكونت روستوبشين Rostopchin(94). وفي 02 سبتمبر كتب نابليون لإسكندر:
لم يعد لمدينة موسكو الفخورة الجميلة وجود. لقد تسبب روستوبشين في إحراقها. لقد تم القبض على أربعمائة من المحرقين عمداً وقد أقروا جميعاً بأنهم تلقوا أوامر بذلك من الحاكم مدير الشرطة. وقد تم إطلاق النيران عليهم. لقد دُمرت ثلاثة أرباع المنازل. إنه عمل لا جدوى منه كما أنه عمل آثم شرير. هل المقصود حرماننا من المؤن؟ إنها في مخازن لم تطلها النيران. يا له من هدف تافه، أَنُدمِّر من أجل هذا جهود قرون خلت وإحدى أجمل المدن في العالم! لا يمكنني أن أصدّق هذا. أهذا يتفق مع مبادئكم ومشاعركم وأفكاركم عمّا هو حق؟! أهذا الاسفاف جدير بحاكم عادل وأمة عظيمة؟. لقد قمتُ بشن الحرب على عظمتكم دون أية مشاعر عدائية. لقد كان خطاب واحد منكم قبل هذه المعركة الأخيرة أو بعدها كفيل بإيقاف أي تقدّم للجيش الفرنسي، بل لقد كنت قد تخلّيتُ راغباً عن احتلال موسكو، لو كنتم عظمتكم مازلتم تحتفظون لي ببعض المشاعر التي كنتم تكنونها لي سابقاً، لفسّرتم هذا الخطاب تفسيراً حسنا. وعلى أية حال فإنه لا يمكنكم إلا الموافقة على أن ما ذكرته عن حَرْق موسكو صحيح(05). ولم يجبه إسكندر، لكنه أجاب الضابط الروسي المكلّف بإبلاغه خبر حرق موسكو إذ سأله عمّا إذا كان هذا الحدث (حرق موسكو) قد أثَّر في معنويات جيش كوتوزوف Kutuzov فكانت إجابة الضابط هو أن أخشى ما يخشونه أن يعقد القيصر اتفاق سلام مع نابليون. وقيل إن إسكندر أجابه قائلا: قل لرجالي الشجعان أنه عندما لا يبقى لدي إلاّ جندي واحد فسأضع نفسي على رأس نبلائي وفلاحي لأقاتله. وإذا قدّر القدر أن ينتهي حُكم أسرتي فسأترك لحيتي تنمو حتى صدري وسأتجه إلى سيبريا لآكل البطاطس، فهذا أفضل من إلحاق العار بوطني ورعاياي الطيبين(15).
ورحب الشعب الروسي بقراره لأن الاستيلاء على موسكو، وحرقها قد صدمهم ولمس أعمق أعماق مشاعرهم الدينية. لقد كانوا يوقِّرون موسكو كحصن لعقيدتهم الدينية، وكانوا ينظرون إلى نابليون كملحد عديم الضمير، واعتقدوا أن همجيّته الوافدة هي التي أحرقت المدينة المقدّسة. لقد اعتبروا إسكندر مذنباً لأنه قبل في وقت من الأوقات صداقة مثل هذا الرجل (نابليون)، وفي بعض الأوقات كانوا يخشون أن يستولي هذا الشيطان الحي على سان بطرسبرج أيضاً ليذبح ملايين من الروس. وكان بعض النبلاء يفضلون إبرام تسوية مع نابليون لإخراجه من روسيا مخافة أن يثير الأقنان (عبيد الأرض) ويحرّرهم في أي وقت، لكن معظم المحيطين بإسكندر كانوا يحثّونه على المقاومة. وكان الأجانب المحيطون: شتاين Stein، أرندت Arndt، مدام دي ستيل De Stael والعديد من المهاجرين الفرنسيين الذين تركوا فرنسا إثر أحداث الثورة الفرنسية - كانوا يرّددون معه أنه مع تطور المعركة سيجد نفسه (أي إسكندر) ليس قائداً لبلاده فقط وإنما أيضاً زعيما لأوربا والمسيحية والحضارة. ورفض إسكندر الإجابة عن ثلاث رسائل أرسلها له نابليون من موسكو عارضاً عليه السلام. ولما وجدت الأرستقراطية الروسية أن الأسابيع تمضي أسبوعا بعد أسبوع دون أن يحرك نابليون ساكنا ودون مزيد من العمليات، بدأوا يفهمون حكمة كوتوزف Kutuzov في عدم التحرك، ووطّنوا أنفسهم على حرب طويلة، ومرّةً أخرى راحت قصور العاصمة تتألق بالكونتيسات اللائي تزيّن ملابسهن المجوهرات، وبالضباط بحللهم الرسمية الفخورة يتحركون بثقة راقصين على أنغام الموسيقا التي لم تشعر أبداً بالثورة.
وبعد أن خمدت النيران في موسكو أمر نابليون رجاله بالعناية بالجرحى أو المعدمين (الذين لا يجدون قوتاً) بصرف النظر عن أعراقهم(25)، واتخذ الترتيبات لخزن المؤن التي تركها المواطنون الروس أو استهلاكها على وفق نظام خاص. وكان نابليون يجيب عن الرسائل والاستفسارات التي يحضرها حاملو الرسائل من بلاد رعاياه، وقد راح يفخر في وقت لاحق بأنه طوال إقامته في موسكو لم يقع واحد من حاملي الرسائل - وكانوا يصلون إليه يومياً - في أيدي الأعداء طوال مراحل الطريق(35). وأعاد نابليون تنظيم جيشه كما أعاد تجهيزه باللازم، وحاول أن يجعل جنوده في حالة قتالية جيدة بالمداومة على التدريبات. لكن جنود الجيش الفرنسي ملّوا هذه العروض. لقد كانت الحفلات الموسيقية والمسرحيات يقدمها الموسيقيون الفرنسيون الذين كانوا مستقرين في موسكو (قبل الغزو الفرنسي)(45)، ووجد نابليون الوقت الذي يجعله يصدر أمراً مفصّلاً بإعادة تنظيم مسرح الكوميدي فرانسيز Comédie Francaise في باريس.
ومضى شهر ولم تصل لنابليون كلمة واحدة من إسكندر. وتذمّر نابليون قائلا: إنني أضرب (أهزم) الروس كل يوم، لكن هذا لم يحدث لي في أي مكان(55) سبتمبر بارد ويأتي بعده أكتوبر وسرعان ما يحلّ الشتاء الروسي. وأخيراً وبعد أن يئس من رد يأتيه من القيصر، أو تحدٍ من كوتوزوف Kutuzov، وبعد أن تحقق من أن كل يوم يمضي يكون موقفه فيه أسوأ - استسلم لقرار أشد مرارة: أن يعود بخفّي حنين (خاوي الوفاض) أو ببعض الأشياء التذكارية القليلة.. لقد قرر العودة إلى سمولنسك، ففيلنا Vilna فوارسو (فرسافا)... وأخيراً ليصل إلى باريس. أي نصر هذا؟ أيمكن لمثل هذا النصر أن يُزيل عار الهزيمة؟!
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
طريق العودة 19 أكتوبر - 28 نوفمبر 1812
لم يبق إلاّ أمل واحد. لقد كان كوتزوف Kutuzov قد جمّع مؤناً في كالوجا Kaluga إلى الجنوب الغربي من موسكو بتسعين ميلاً. وفكر نابليون في التوجه إلى هناك وأن يجبر الجنرال الماكر للدفاع عن هذه المخازن، فإن انتصر الفرنسيون نصراً حاسماً فقد يُجبر النبلاء الروس القيصر إسكندر على التوسّل لاتفاق سلام. وأكثر من هذا فإن كالوجا Kaluga كانت على طريق آخر مؤد إلى سمولنسك غير الطريق الذي كان الغزاة قد أتوا منه، وفي اتخاذ هذا الطريق تجنب للذكريات الأليمة عند المرور ببورودينو Borodino حيث كان قد مات كثير من رفاق الحرب. وصدرت الأوامر بالاستعداد لإخلاء موسكو.
وعلى هذا ففي 91 أكتوبر بدأ جيش نابليون (000،05 جندي و 000،05 من غير المقاتلين) في الخروج من موسكو. وكانت عربات التحميل تحوي مؤناً لعشرين يوماً، وهو وقت يكفي للوصول إلى سمولنسك حيث صدرت الأوامر بتجهيز مؤن طازجة لهم فيها(65). وكانت هناك عربات أخرى تضم المرضى أو الجرحى وبعض الأشياء التذكارية الثقيلة وذهب نابليون المتناقص. وفي مالورياروسلافتش Maloyarosalvets - على بعد خمسة وعشرين ميلاً من كالوجا Kaluga اتصل الفرنسيون اتصالاً مباشراً بجيش كوتوزوف، وأعقب ذلك حركة (عملية) حادة (42 أكتوبر) مما أجبر الروس على الانسحاب خلف دفاعاتهم في كالوجا Kaluga. وقرر نابليون أن جيشه ليس مجهزاً لحصار طويل، فأمر رجاله - وهو كاره - باتخاذ طريقهم عبر بوروفسك Borovsk وموزهايسك Moshaisk إلى بورودينو Borodino، وليتخذوا بعد ذلك الطريق الذي كانوا قد اتبعوه في فصل الصيف حيث كانوا مفعمين بالأمل. وعلى أية حال فإن شيطان كوتوزوف قد جعله الآن يحث جيشه على المسير في طريق مواز لطريق عدوّه مراعيا - بشكل مراوغ - أن يكون بعيداً عن نظره عدوّه، لكنه راح بين الحين والآخر يرسل فصائل من الفرسان القوزاق الأشداء لإزعاج جناحي الجيش الفرنسي وراح الفلاحون السعداء يطلقون النار على الفرنسيين المنتشرين في غير نظام والذين غامروا بالابتعاد عن خط سير الجيش البالغ ستين ميلاً(75).
وكان نابليون محميّاً بشكل جيد اللهم إلاّ من خطر طارئ.. وكان حاملو الرسائل يجلبون إليه في أثناء مسيرته أخباراً عن نزاعات شديدة تهدّد حكومته في باريس وثورات في الأراضي (البلاد) التابعة له. وفي 62 أكتوبر بعد خروجه من موسكو بأسبوع سأل كولينكور عما إذا كان يجب عليه (أي يجب على نابليون) أن يتجه مباشرة إلى باريس ليواجه السخط الناجم عن هزيمته ويسيطر عليه، وليقيم جيشاً جديداً للدفاع عن القوات الفرنسية التي تركها في بروسيا والنمسا، فنصحه كولينكور بالذهاب(85). وفي 6 نوفمبر وصلت أخبار مُفادها أن كلود - فرانسوا دي مال de Malet - وهو جنرال في الجيش الفرنسي - قد أطاح بالحكومة الفرنسية في 22 أكتوبر وأنه لقي دعما من أشخاص بارزين لكنه خُلِع وتمّ إطلاق النار عليه (92 أكتوبر) فتأكد العزم لدى نابليون بضرورة التوجه إلى باريس.
وكلما أوغل الفرنسيون في طريق العودة كان الطقس يزداد سوءاً. لقد تساقط الثلج في 92 أكتوبر وسرعان ما كوَّن غطاء دائماً - جميلاً وممتعاً، وتحول في الليل البارد إلى جليد انزلقت فوقه الخيول التي تجر العربات وسقطت، وكان بعض هذه الخيول منهكا بدرجة استحال معها قيامها من جديد وكان لابد من تركها، ومع طول مسافة المسيرة راح الجنود يأكلون مثل هذه الضحايا (الخيول الساقطة أو النافقة) لكن معظم الضباط حافظوا على حياة خيولهم برعايتها وتغطيتها. وكان الإمبراطور (نابليون) يركب بعض الوقت في عربته مع المارشال بيرثييه Berthier لكنه كان يسير مع الباقين مرتين أو ثلاثاً في اليوم أو أكثر من هذا على وفق رواية مينيفال Méneval(95).
وفي 31 نوفمبر بدأ الجيش الذي تقلّص عدده الآن إلى رقم إجمالي هو 000.05 - في دخول سمولنسك، وانتابهم الرعب عندما وجدوا أن معظم الطعام والكساء الذي كان نابليون قد أمر بتجهيزهما قد فقدا نتيجة غارات القوزاق والاختلاس، ومن ثمَّ تم عرض ألف ثور مخصصة للجيش لبيعها للتجار الذين قاموا بدورهم بعرضها على أي مشتر(06)، وحارب الجنود للحصول على ما تبقى من التموينات واستولوا بالقوة على كل ما وجدوه في الأسواق.
وكان نابليون راغباً في إتاحة فترة راحة طويلة لجنوده في سمولنسك لكن أخباراً وصلته باقتراب كوتوزوف على رأس 000،08 روسي لم يعودوا راغبين - بعد - في الانسحاب، ولم يكن مع نابليون من الصالحين للقتال سوى 000،52(16). وفي 41 نوفمبر قاد جزءا من قواته في الطريق إلى كراسنو Krasnoe مستخدماً طريقاً إلى فيلنا Vilna غير الطريق الذي سبق له استخدامه في الصيف. وكان على دافو Davout أن يتبعه في 51 نوفمبر، وني Ney في 61 من الشهر نفسه. وكان الطريق جبلياً ومغطى بالجليد، ولم تكن الخيول ذوات حدوات (جمع حدوة) تمكنها من التقدم في هذا الشتاء الروسي فانزلجت فوق التلال وفشلت كل الجهود لإقامة مئات منها، وفضلت الموت باعتباره رحمة في ظل هذه الظروف بل إن رجالاً كثيرين فضلوا هذا الحل تخلصاً من المتاعب. وذكر جندي بعد ذلك أنه طوال الطريق كنا مضطرين للخطو فوق ميّت أو محتضر(26) فعند المنحدرات الجليدية لهذه التلال لم يكن أحد يجرؤ على الركوب أو السير على قدميه، فالجميع بمن فيهم الإمبراطور (نابليون) كان يتزلج وهو جالس، كما سبق لقلّة منهم أن فعلت عند عبور جبال الألب إلى مارنجو Marengo منذ اثنتي عشرة سنة خلت. لقد كانت أياماً تعادل سنوات من عمر القائد ورجاله. ويبدو أنه عند هذه النقطة حثّ نابليون الدكتور يفان Yvan على أن يعطيه قِنّينة سم يحتفظ بها معه ليستخدم سمّها إذا أسره العدو أو لأي سبب آخر يجعله يود إنهاء حياته. ووصل الفرنسيون كراسنو Krasnoe في 51 نوفمبر لكنهم لم يستطيعو أن ينالوا قسطاً من الراحة، فقد كان كوتوزوف Kutuzov يقترب بقوات يفوق عددها قوات نابليون بشكل كبير، فأمر نابليون رجاله بمواصلة الطريق إلى أورشا Orsha، وقاد يوجين المسيرة ليحارب بين الحين والحين العصابات المسلحة التي تعترض الطريق، وتبعه الإمبراطور (نابليون) ودافو Davout. ووصلوا أورشا Orsha بعد ثلاثة أيام أخرى من المشي على الجليد، وانتظروا هناك بقلق وصول ني Ney بالجزء الثالث من القوات الفرنسية.
وكان ني Ney هو نجم الجيش المتألق في هذا الوقت، كما كان في بورودينو Borodino. لقد قاد رجاله البالغ عددهم 0007 رجل باعتباره حارساً لمؤخرة الجيش الفرنسي، وخاض اثنتي عشرة معركة لحماية الجيش الفرنسي في أثناء انسحابه من هجوم المغيرين من رجال كوتوزوف، ودخل هو ورجاله سمولنسك أخيراً في 51 نوفمبر وصُدِموا لاكتشافهم قلة الطعام الذي تركه نابليون وديفو عند مغادرة المدينة، فأسرع برجاله رغبة في البقاء على قيد الحياة إلى كراسنو Krasnoe، فلم يجدوا نابليون كما سبق أن وعدهم وإنما وجدوا كوتوزوف الذي سد طريقهم بنيران مدفعيته المهلكة، وفي جُنح الليل (81 - 91 نوفمبر) قاد ني Ney جنوده على طول مجرى متجمد إلى نهر دنيبر Dnieper وعبره وتكبد في أثناء عبوره خسارة في بعض رجاله وخيوله وراح يحارب في أثناء مسيرته القوزاق كما حاربهم فوق المستنقعات المتجمدة ليصل إلى أورشا Orsha في 02 نوفمبر، وهنالك رحَّب نابليون والجيشان المنتظران بالأبطال الجائعين بالمديح وبالطعام. وعانق نابليون جنراله ني Ney وأطلق عليه (أشجع الشجعان) وفي وقت لاحق قال نابليون: إن لدي أربعمائة مليون قطعة ذهبية في أقبية التوليري، ويسعدني أن أعطيها جميعاً لمن يمكنني من رؤية المارشال ني Ney مرة أخرى(36).
وليُبعد الفرنسيون عنهم جموع كوتوزوف الأبطأ، أسرعوا طوال أربعة أيام ليواجهوا العقبة التالية - نهر بيريزينا Berezina. وعندما وصلوه (52 نوفمبر) وجدوا أن الجنرال الروسي شيخاجوف Chichagov كان قد وصل من الجنوب على رأس 000،42 مقاتل كما علموا أن قوة روسية أخرى مؤلفة من 000،43 من الجنود الأشداء بقيادة المارشال لودفيج وتجنشتين Wittgenstein كانت تسرع قادمة من الشمال لحصر الفرنسيين بين نارين عندما يكونون - أي الفرنسيون - في حالة فوضى فييأس قائدهم من إنقاذهم من الدمار.
لكن الأخبار لم تكن كلها سيئة إذ سرعان ما علم نابليون أن قوتين مواليتين له قد هبتا لنجدته. فرقة عسكرية بولندية بقيادة الجنرال جان هنريك دومبروفسكو Dombrowski استطاعت - رغم أن عدد جنودها ثلث قوات شيخاجوف Chichagov - مواجهة هذه القوات وتأخير التقدم الروسي، وفي 32 نوفمبر فاجأت قوات فرنسية من 0008 رجل بقيادة المارشال أودينو Oudinot - الجنرال الروسي شيخاجوف واستولت على إحدى كتائبه وأجبروا الباقين على الفرار عبر جسر على بوريسوف Borisov ناحية الشاطئ الأيمن (الغربي) لنهر بيريزينا Berezina. وعلى أية حال فقد حطّم الروس الجسر وهو الجسر الوحيد الذي يمكن بواسطته اجتياز النهر في هذا الموقع.
ووصلت أخبار هذه العمليات إلى نابليون بينما جيشه الخائف يقترب من المجرى الذي يأملون أن يؤخّر ملاحقة كوتوزوف Kutuzov لهم (كانت قوات نابليون الآن 000،52 جندي و 000،42 من غير المقاتلين) كما كان نابليون قد فقد أيضاً عدداً من رجاله هربوا أو مرضوا أو ماتوا. لم يبق معه سوى 000،72 من 000،79 كانوا معه عند خروجه من كالوجا، والآن بقي أربعون ميلا خلف مؤخرة جيش نابليون. لازال هناك وقت لعبور النهر إذا كان من الممكن عبوره.
واستعاد نابليون الأمل فأرسل فصيلا بقيادة المارشال فيكتور Victor للاتجاه شمالاً وإيقاف ويتجنشتين Wittgenstein وفصيلاً آخر بقيادة ني Ney للانضمام إلى أودينو Oudiont في منع شيخاروف من معاودة عبور النهر. وكان نابليون منذ عبور النيمن Nemen قد احتفظ معه بالمهندسين الذين كانوا قد أقاموا الجسور هناك في شهر يونيو، والآن طلب منهم أن يجدوا بقعة على نهر بيريزينا يمكن أن يقيموا عليها جسرين طوّافين، فأخبروه بوجود هذه البعقة المناسبة في ستدنكي Studenki إلى الشمال من بوريسوف Borisov بتسعة أميال. وراح المهندسون ومساعدوهم يعملون طوال يومين في مياه متجمّدة، وغرق عدد منهم بسب انخداعهم بالجليد الطافي فوق مياه غير متجمدة، لكن في الساعة الواحدة بعد الظهر في 62 نوفمبر اكتمل إنشاء أحد الجسرين وبدأ الجيش في العبور فوقه، وبحلول الساعة الرابعة كان الجسر الثاني يحمل فوقه المدفعية والأحمال الثقيلة، وانتظر نابليون وجنرالاته حتى وصل معظم الجنود للشاطئ الغربي ومن ثم عبروا تاركين قوة بقيادة فيكتور Victor لحماية نحو 0008 من غير المقاتلين سيعبرون بعد ذلك. وقبل تمام نجاح هذه العملية الأخيرة خطط الروس لهجوم على طول جانبي النهر لكن قوات فيكتور وأودينو Oudinot وني Ney تصدّت لهم. لقد راح نابليون ينظم العبور والمقاومة في آن واحد وسط آلاف الرجال الذين يناضلون ليبقوا على قيد الحياة. وانكسر الجسر مرتين، وغرق مئات وفي هذه الأثناء كانت مدفعية ويتجنشتاين تمطر قذائف على الآلاف الأخيرة التي تزاحمت للعبور، وفي 92 نوفمبر أمر نابليون المهندسين العسكريين بتدمير الجسرين، تاركاً مئات من غير المقاتلين يبحثون عن فرصة للعبور. وكان هدف نابليون من تدمير الجسرين تعويق قوات وينتجنشتاين عن ملاحقته ومنع وصول قوات كوتوزوف. وباختصار كان عبور بيريزينا Berezina هو أكثر ذرى البطولة طوال ستة أشهر أساء فيها أحد أعظم الجنرالات في التاريخ - تقدير الأمور على حقيقتها. واستمرت المأساة طوال مسيرة من بقي على قيد الحياة من الجنود الفرنسيين نحو الغرب، لقد هبطت درجة الحرارة ثانية إلى ما دون درجة التجمّد، لكن كان لهذا ميزة واحدة إذ سمح بالانتقال فوق المستنقعات المتجمدة فقصّر المسافة إلى فيلنا Vilna. ولأن الخوف من القوزاق والفلاحين المعادين قلّ، فقد تضاعف عدد الهاربين واختفى النظام.
ورأى نابليون أن من تبقى معه لم يعودوا في حاجة ماسة له، فوافق على نصيحة مورا Murat بالعودة إلى باريس مخافة أن تستسلم فرنسا لثورة أخرى، وعند توقفه في مولودشنو Molodechno وهي محطة التوقف الرئيسية التالية تلقّى مزيداً من التفاصيل عن أمور مال Malet. لقد انتهى هذا المغتصب لكن السهولة التي خدع بها المسؤولين دلّت على استرخاء الحكومة التي لم تعد مؤمنة بنابليون الذي غاب غياباً طويلا وربما انتهت حياته السياسية بل وربما مات. لقد راح اليعاقبة والملكيون، فوشيه وتاليران يتآمرون لخلعه.
وكي يعيد ترسيخ نفسه ويبعث اليقين في الشعب الفرنسي من جديد أرسل من سمورجوني Smorgonie في 5 ديسمبر النشرة رقم 92 التي كانت تختلف عن سابقاتها إذ كان غالبها يحوي حقائق صادقة. تقول النشرة إن الفرنسيين قد انتصروا في كل معركة واستولوا على كل مدينة مروا بها وحكموا موسكو إلاّ أن قسوة الشتاء الروسي التي لا ترحم قد دمّرت هذا المشروع العظيم وألحقت الألم والموت بالفرنسيين المتحضرين الذين اعتادوا العيش في مناخ متحضر. وأشارت النشرة إلى خسارة في الرجال بلغت 000،05 لكنها أشارت بفخر لقصَّة تخلص ني Ney من ملاحقة كوتوزوف وقدَّمت عبور نهر بيريزينا من جانبها البطولي لا المأسوي وانتهت النشرة بعبارة ذات مغزى وكأنها تحذير لأعداء نابليون: إن صحّة عظمته لم تكن في يوم من الأيام أفضل مما هي عليه الآن. ومع هذا فقد كان هو منزعجاً. لقد قال لكولينكور إنني استطيع أن أحكم قبضتي على أوربا من التوليري وحده(46) واتفق معه يوجين ومورا Murat ودافو Davout. ونقل قيادة الجيش المتحرك إلى الملك مورا وأخبره أن يتوقع مؤناً وتعزيزات من فيلنا Vilna. وفي وقت متأخر من مساء الخامس من ديسمبر غادر (أي نابليون) سمورجوني Smorgonie قاصداً باريس.
لقد تقلّصت القافلة إلى 000،53 وغادرت في اليوم التالي قاصدة فيلنا التي تبعد ستة وأربعين ميلاً. الآن انخفضت الحرارة إلى 03 درجة فهرنهيت تحت الصفر وكانت الرياح على حد تعبير جندي بقي على قيد الحياة تمزق اللحم والعظم(56). وعندما وصلوا إلى فيلنا (8 ديسمبر) اندفع الجنود الجياع في فوضى لا حدَّ لها نحو المؤن التي تنتظرهم وضاع طعام كثير وسط الفوضى. وواصلوا مسيرتهم وفي 31 ديسمبر وعند كوفنو Kovno عبروا نهر النيمن نفسه وكان عددهم 000،03، بينما شهدهم النهر وقد بلغ عددهم 000،004 يعبرون في شهر يونيو، هنا وعند تيلسيت وعند بوزن Posen سلّم مورا القيادة ليوجين (61 يناير 3181) خائفاً - هو بدوره - على عرشه وأسرع عبر أوربا إلى نابلي. أما يوجين البالغ من العمر ثلاثين عاماً فكان ذا خبرة رغم شبابه، فتولى مسؤولية ما تبقى من الجنود وقادهم بصبر يوماً بعد يوم إلى ضفاف نهر الألب Elbe وراح ينتظر أوامر متبنيه (نابليون).
ركب نابليون من سمورجوني Smorgonie في أوّل عربة من عربات ثلاث، وكانت كل عربة منها موضوعة على مركبة جليد يجرها حصانان، وكانت إحدى العربات تحمل أصدقاء الإمبراطور ومساعديه وأخرى تحمل حرسا بولنديا من حملة الرماح. لقد ركب نابليون مع كولينكور الذي كان ينظم مسألة تبديل الخيل، ومع الجنرال فونسوفيتش Wonsowicz المترجم الذي عَهِد إليه نابليون بمسدَّسيه قائلاً: إن حدث خطر حقيقي اقتلني ولا تجعل العدو يأسرني(66) ومخافة أن يتعرّض للاغتيال أو الأسر، تنكرَّ في لباس كولينكور، بينما ارتدى كولينكور ملابس نابليون. وقد تذكر كولينكور في وقت لاحق ما حدث، إذ قال: في أثناء مرورنا ببولندا، كنت أنا دائماً المسافر المميّز، وكان الإمبراطور - ببساطة - هو سكرتيري(76).
لقد واصل الركب طريقه إلى باريس دون توقف ليلاً أو نهاراً، وكانت أطول فترة توقَّف فيها نابليون ومن معه هي فترة التوقف في وارسو (فرسافا) حيث أدهش نابليون الممثل الفرنسي في بولندا بقوله الذي صار مثلاً: بين الذروة والقاع خطوة واحدة(86). وأراد أن يقوم بزيارة أخرى للكونتيسة فالفسكا Walewska لكن كولينكور نصحه بالعدول عن هذه الزيارة(96)، ربما بتذكيره أن حماه هو أيضاً إمبراطور. وفي أثناء الركوب من وراسو إلى دريسدن راح الإمبراطور (نابليون) فيما يقول كولينكور يمتدح الإمبراطورة ماري لويز باستمرار متحدثاً عن حياته الأسرية بمشاعر طيبة وبساطة يسعدُ المرءُ بسماعها.
وفي دريسدن أراح نابليون وكولينكور مركبة الجليد والحرس البولندي، وانتقلا إلى عربة السفير الفرنسي المغلقة. ووصلوا إلى باريس في وقت متأخر من يوم 81 ديسمبر بعد ثلاثة عشر يوماً من سفر كاد يكون بلا توقف. وذهب نابليون مباشرة إلى قصر التوليري وعرَّف حرس القصر بنفسه وأرسل يُعلم زوجته بوصوله وقبل منتصف الليل تماما اندفع إلى غرفة نوم الإمبراطورة وضمها بين ذراعيه(07). وأرسل حامل الرسائل إلى جوزفين يطمئنها أن ابنها بخير وأدفأ قلبه بنظرة إلى ابنه ذي الشعر الجَعْد الذي كان قد أسماه ملك روما.