قصة الحضارة - ول ديورانت - م 11 ك 4 ف 33

صفحة رقم : 14735 قصة الحضارة -> عصر نابليون -> ملوك أوروبا في مواجهة التحدي -> حول القلب -> سويسرا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث والثلاثون: حــول القلــب 1789 - 1812

سويسـرا

شعرت هذه الأرض المباركة بنبص الثورة الفرنسية بكل مودة الجار. لقد رحب الليبراليون السويسريون بالثورة الفرنسية كدعوة للحرية، وأعلن جوهان (يوهان) فون ميلر Muller (2571 - 9081) أشهر المؤرخين المعاصرين في 41 يوليو 9871 أن يوم قيام الثورة الفرنسية هو أفضل يوم في تاريخ أوربا منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية، وعندما تولى اليعاقبة زمام الأمر، كتب لأحد أصدقائه الذي لا شك فيه أنك تشاركني أسفي أنه في الجمعية الوطنية (الفرنسية) نجد الفصاحة والبلاغة تطغى على الفهم الصحيح، وربما تفهم أنه نظراً لرغبتهم في أن يكونوا أحرارا إلى أقصى درجة فلن يكونوا أحرارا أبداً. ومع هذا لابد أن تتمخض الأيام عن شيء لأن هذه الأفكار تسكن في كل قلب(1).

فريدريك - سيزار دي لاهارب Frederic - cesar desa Harpe - الذي كان قد عاد في سنة 6971 إلى موطنه سويسرا - بعد أن أشرب عقل زارفتش إسكندر Czarevich Alexander بالليبرالية - انضم مع بيتر (بطرس) أوكس Peter Ochs وغيره من الثوار السويسريين ليكونوا النادي السويسري (الهلفيتي Helvetic) الذي عمل على الإطاحة بحكم الأوليجاركيات Oligarchies (الأوليجاركية نظام يقوم على حكم الأقلية) التي تحكم الكانتونات (الولايات) السويسرية. وعندما كان نابليون يمر عبر سويسرا بعد غزوته الأولى لإيطاليا، لاحظ هذه الومضات فلفت نظر حكومة الإدارة في فرنسا أنها ستجد أعوانا كثيرين إذا اختارت مواجهة النشاطات المعادية للثورة الفرنسية التي يقوم بها المهاجرون الفرنسيون الذين تركوا فرنسا إثر أحداث الثورة فيها، والذين - أي هؤلاء المهاجرون - يجدون ملجأ عند الأرستقراطية السويسرية التي لهم العون. وأدركت حكومة الإدارة في فرنسا القيمة الاسترايتجية لسويسرا في الصراع بين فرنسا والأمراء الألمان، فأرسلت جيشا إلى الكانتونات (الولايات السويسرية) وضمت جنيف وقضت على حكم الأوليجاركات، وأقامت - بعون متحمس من الثوريين السويسريين - الجمهورية السويسرية (الهلفتية Helvetic) تحت الحماية الفرنسية (8971).

وانقسمت الحكومة السويسرية الجديدة إلى يعاقبة (وطنيين) ومعتدلين، وفيدراليين. وقد تعاركوا وحبك كل منهم انقلابا، ولما خشوا مغبة الفوضى والحرب الداخلية طلبوا من نابليون (كان في منصب القنصل الأول في هذا الحين) أن يعطيهم دستورا جديدا. وفي سنة 1081 أرسل لهم دستورا Constitution of Mailmaison كان رغم ما به من قصور أفضل دستور كانت تأمل فيه سويسرا(2) رغم أنه - أي هذا الدستور - احتفظ بسويسرا تحت الوصاية الفرنسية. وبعد مزيد من المعارك الداخلية أطاح الفيدراليون بالحكومة الجمهورية ونظموا جيشا جديدا واقترحوا تجديد حكم الأوليجاركية (حكم الأقلية) فتدخل نابليون وأرسل جيشا من ثلاثين ألف مقاتل لإعادة السيطرة الفرنسية على سويسرا. وطلبت الفرق المتنازعة من نابليون مرة أخرى أن يتوسط بينها. فصاغ مرسوم الوساطة الذي قبلته كل الفرق الكبيرة المتنازعة. لقد أنهى هذا المرسوم الجمهورية السويسرية (الهيلفتية) وأقام الفيدرالية السويسرية التي تشبه في خطوطها الأساسية ما عليه سويسرا الآن فيما عدا التزام سويسرا بالاستمرار في تقديم عدد من بنيها كل سنة للجيش الفرنسي. ورغم هذا العبء فقد كان مرسوم الوساطة هذا دستورا جيدا(3) وأطلقت الكانتونات (الولايات) السويسرية على نابليون (معيد الحرية).

وعلى أية حال فقد كانت سويسرا رغم بهاء مناظرها تعتبر مجالاً ضيقا ليس به إلا مرح صغير وعدد قليل من القراء والمستمعين مما لا يرضي طموح المؤلفين والفنانين والعلماء الذين راحوا يبحثون عن بلاد أوسع ذوات ميدان أرحب وفرص أكبر. فذهب جوهان (يوهان) فوسلى Fussli إلى إنجلترا ليرسم، وذهب أوجسطين دي كاندول de Candolle (8771 - 4181) إلى فرنسا وقدم هناك وصفا للنباتات وتصنيفا لها. أما جوهان (يوهان) بستالوزى Pestalozzi (6471 - 7281) فبقي في سويسرا ولفت انتباه أوربا بتجاربه في حقل التعليم. وفي سنة 5081 أسس في فيردون Yverdun مدرسة داخلية أدارها على وفق مبدأ أنه - على الأقل بالنسبة إلى الناشئة - لا يكون للأفكار معنى إلا إذا ارتبطت بأشياء حسية، وأن تعليم الأطفال يكون أفضل أي ذا ثمار أحسن إن كان من خلال أنشطة جماعية. وقد جذبت المدرسة انتباه المدرسين فقدموا إليها من اثنتي عشرة دولة وأثرت في التعليم في المرحلة الابتدائية في أوربا والولايات المتحدة. ووضعها فيشته في خطته لإعادة تربية الشباب وتعليمهم.

وقضى جوهان (يوهان) فون ميلر Muller اثنين وعشرين عاما (6871 - 8081) في تأليف كتابه متعدد الأجزاء (تاريخ الاتحاد الكونفدرالي السويسري Geschichten (Schweitzerischer Eidgenossenschaft ولم يتابع السرد التاريخي إلا إلى سنة 9841 ولكنه ظل كلاسيا في جوهره وأسلوبه. ولأنه كتاب ممتاز فقد أضفى على مؤلفه لقب تاسيتوس السويسري Swiss Tacitus وقد كان لوصفه الكانتونات (الولايات) السويسرية في العصور الوسطى بشكل يجعلها مثالية، بالإضافة إلى الانتصارات العسكرية أثر كبير في رفع الروح المعنوية للسويسريين. وقد استوحى شيلر Schiller من قصته ذات الطابع الأسطوري (وليم تل) الخطوط العريضة لمسرحيته الشهيرة. وفي سنة 0181 وكان قد بلغ الثامنة والخمسين بدأ ميلر Muler كتابة تاريخ عام (Vier und Zwanzig Bucher allgemeiner Geschichten). وانجذب إلى ألمانيا بسبب قرائه فعمل في خدمة الناخب (الأمير) الكاثوليكي في مينز (مينتس Mainz) وانتقل إلى العمل في خدمة المستشار الإمبراطوري في النمسا وانتهى به الأمر مديراً للتعليم في وستفاليا التي كان يحكمها وقتئذ جيروم بونابرت. وعندما مات كتبت مدام دي ستيل عنه: لا نستطيع أن ندرك كيف يمكن لرأس رجل واحد أن يحوي مثل هذا الكم الهائل من الحقائق والتواريخ dates.. إننا إذ نفتقده نبدو وكأننا افتقدنا أكثر من واحد(4). ولا يليه في فن كتابة التاريخ سوى جان - شارلز - ليونارد دي سيسموندي de Sismondi (3771 - 2481) الذي كان أحد مرافقي (وعشاق) المدام. ولد في جنيف وهرب إلى إنجلترا تخلصا من العنف الثوري ومنها إلى إيطاليا، ثم عاد إلى جنيف بعد استتباب الأمر فيها، وقابل جرمين Germaine في سنة 3081 وصحبها إلى إيطاليا وراح في وقت لاحق يتردد على صالونها بالقرب من كوبت Coppet. وفي هذه الأثناء راح يكتب بشكل مدهش ومتواصل وأسهمت مجلدات كتابه تاريخ الجمهوريات الإيطالية في العصور الوسطى Histeire des republiques italienne on Moyenage (9081 - 8181) البالغة ستة عشر مجلدا في إلهام مانزوني Manzoni ومازيني Massini وكافور Cavour وغيرهم من زعماء توحيد إيطاليا. وظل طوال ثلاث وعشرين سنة (1281 - 4481) يعمل في تأليف كتابه ذي الواحد والثلاثين مجلدا (تاريخ الفرنسيين الذي ظل لفترة ينافس كتابات ميشيل Michelet فيما ناله من تقريظ.

وزار إنجلترا مرة أخرى في سنة 8181 وتأثر كثيراً بقوة اقتصادها حتى إنه كتب ونشر في سنة 9181 كتابا جديرا بالملاحظة ذا طابع تنبئي (مبادئ جديدة للاقتصادي السياسي Nouveaux Principes dصconomie Poiltique). لقد ساق الأدلة على أن القضية الأساسية في الكساد الاقتصادي في إنجلترا كانت في فتور القوى الشرائية العامة مع زيادة الإنتاج زيادة سريعة نتيجة المخترعات (الحديثة)، ودلل على أن هذا الفتور في القوى الشرائية يرجع في الأساس إلى نقص الأجور، وقد تتكرر أزمات مشابهة بسبب قلة الاستهلاك طالما بقي النظام الاقتصادي دون تغيير.

وكانت اقتراحات سيسموندي Sismondi راديكالية بشكل يثير المخاوف. فرفاهية السكان لابد أن تكون هي الهدف الرئيسي للحكومة. ولابد من إلغاء القوانين المناهضة لاتحادات العمال. ولابد من تأمين العمال ضد البطالة، وحمايتهم من الاستغلال. ولايجب التضحية بمصالح الأمة أو الإنسان لصالح الجشع... إذ يجب حماية الأثرياء من جشعهم ورغم هذه الماركسية التي سبقت الماركسية، فقد رفض سيسموندي Sismondi الاشتراكية (التي كانت تسمي وقتئذ بالشيوعية) لأنها قد تضع السلطة السياسية الهيمنة الاقتصادية في مطال الأيدي نفسها، وقد تضحي بالحرية الفردية لصالح هيمنة الدولة فيصبح سلطانها مطلقا(5).

السويد

كان من الممكن أن ترحب السويد بالثورة الفرنسية على الأقل في مراحلها الأولى، لأنه خلال حركة التنوير السويدية في القرن الثامن عشر كان الفكر السويدي منسجماً مع الفكر الفرنسي، وكان الملك السويدي نفسه - جوستاف الثالث III Gustavus (حكم من 1771 إلى 2971) أحد أبناء التنوير الفرنسي وكان معجبا بفولتير. لكن الملك جوستاف لم يكن يحترم الديمقراطية وإنما كان يرى في الملكية القوية الطريق الوحيد لحكم قوي تقبض على زمامه أرستقراطية ملاك الأراضي الحريصة حرصا شديدا على امتيازاتها التقليدية. لقد نظر إلى مجلس طبقات الأمة (مايو 9871) كاجتماع مرتبط بملاك الأراضي والعقارات وعندما تطور الصراع بين هذا المجلس ولويس السادس عشر شعر بتهديد قوي لكل الملوك وليس للويس السادس عشر وحده فعرض وهو الليبرالي المتنور أن يكون على رأس تحالف ضد الثورة الفرنسية، وبينما كان منشغلا بوضع الخطط لإنقاذ لويس السادس عشر دبر بعض النبلاء السويديين مؤامرة لاغتياله. وفي 61 مارس 2971 تم إطلاق النار عليه، ومات في 62 مارس وعمت الفوضى السياسية في السويد حتى سنة 0181.

وكان حكم جوستاف الرابع (2971 - 9081) حكما تعساً. لقد انضم للتحالف الثالث ضد فرنسا (5081) مما أعطى نابليون مبررا للاستيلاء على بوميرانيا Pomerania وسترالسوند Stralsund - وهي آخر الممتلكات السويدية على البر الأوربي المقابل لها. وفي سنة 8081 عبر جيش روسي خليج بوثنيا Bothnia على الجليد وهدد ستوكهولم فاضطرت السويد إلى التخلي عن فنلندا مقابل السلام، وعزل الريكسداج Riksdag، جوستاف الرابع وأعاد سلطان الأرستقراطية واختار عم الملك المعزول، وكان في الواحدة والستين من عمره سهلا طيعا. إنه شارل الثالث عشر Cherlex Xlll (حكم من 9081 - 8181)، ولأنه لم ينجب فكان لابد من اختيار وريث لعرشه، فطلب الريكسداج Riksdag من نابليون أن يسمح لأحد أبرز مارشالاته وهو جان - بابتست بيرنادوت Jean - Baptiste Bernadotte بقبول ولاية العهد. ووافق نابليون، ربما أملاً في أن يكون لزوجة بيرنادوت التي كانت ذات مرة خطيبة نابليون وكانت أخت جوزيف بونابرت - نفوذ في السويد. وعلى هذا أصبح بيرنادوت في سنة 0181 هو ولي عهد السويد وأصبح اسمه شارل جون Charles John. وفي ظل حكومة هذا تكوينها واصل العقل السويدي جهوده في مضمار التعليم والعلم والأدب والفن، فكانت جامعات أبسالا Uppsala وأبو Abo ولوند Lund من بين أفضل الجامعات في أوربا. وكان جون جاكوب بيرزيليوس Jons Jakob Berzelius (9771 - 8481) أحد مؤسس الكيمياء المعاصرة. إذ استطاع بدراسته المتأنية الدقيقة لنحو ألفي مركب أن يصل إلى قائمة بالأوزان الذرية أكثر دقة بكثير من قائمة دالتون Dalton ولا تختلف إلا قليلا جدا من حيث دقتها عن القائمة التي استقر عليها العلم في سنة 7191(6). وعزل كثيرا من العناصر الكيميائية للمرة الأولى. وراجع نظام الرموز الكيميائية الذي وضعه لافوازيه Lavoisier وقام بدراسات كلاسية في الأثر الكيميائي للكهرباء وطور نظاما ثنائيا لدراسة عناصر في التفاعل الكيميائي كموجبة أو سالبة كهربيا. وأصبح كتابه الموجز الذي نشره في سنة 8081 وتقريره السنوي Jahresbericht الذي بدأ صدوره سنة 0181 إنجيلا للكيميائيين طوال جيل. وكذلك كان في السويد كثير من الشعراء انقسموا إلى مدرستين شعريتين متنافستين: الفوسفوريون Phosphorists الذين ترجع تسميتهم بهذا الاسم إلى مجلتهم التي أصدروها بعنوان (الفوسفوري Phosphorous) وكانوا متأثرين بالرومانسية الألمانية الوافدة وتحوي أشعارهم الكثير من العناصر الباطنية (الصوفية) أكثر من سواهم من الشعراء، والقوطيون (المدرسة الشعرية القوطية) Gothics الذين راحوا يعزفون في أشعارهم على أنغام البطولة.

وبدأ تجنر Esaias Tegner كقوطي (من المدرسة الشعرية القوطية الآنف ذكرها) لكنه كان كلَّما سار قدما في مضمار الشعر راح يوسع مجالات تناوله الشعري حتى بدا وكأنه يضم بين جنبيه كل مدارس الشعر السويدية. ولد تجنر في سنة 2871 ولم يكن قد بلغ السابعة من عمره عندما نشرت الثورة الفرنسية - وكانت كأعظم الفوسفوريين - نورها وحرارتها خلال أوربا، وما كاد يبلغ الثالثة والثلاثين حتى نفي نابليون إلى سانت هيلانه. وعـاش تجنر إحـدى وثلاثين سنة أخرى لكنه كان قد حقق بالفعل تفوقه وشهرته عندما منحته الأكاديمية الملكية السويدية في سنة 1181 جائزة لقصيدته (Svea) التي وبّخ فيها كـل معاصريـه لفشلهم في الحفـاظ على عادات أسلافهم. وانضم (إلى الاتحاد القوطي Gothic Union) وسخر من الفوسفوريين (أتباع المدرسة الشعرية الفوسفورية الآنف ذكرها) متهما إياهم بالضعف الرومانسي. وأصبح وهو في الثلاثين من عمره أستاذا للغة اليونانية في جامعة لوند Lund وأصبح وهو في الثانية والأربعين (أسقف فيكسجو VaxJo) وفي الثالثة والأربعين (5281) نشر أشهر قصيدة في الأدب السويدي. لقد كانت هذه القصيدة الطويلة (Frithjofs Saga) سلسلة من الحكايات الأسطورية مستوحاة من التراث الشعري الأسكندنافي القديم وظن بعض النقاد(7) أن الملحمة مغرقة جدا في الاتجاه الخطابي (ذات نبرة عالية) - فالشاعر لم يستطع استبعاد مزاجه الأسقفي، لكن بهاء قصائده وروحها الغنائية جعلتها تحظى بقبول حماسي حتى خارج السويد فبحلول عام 8881 ترجمت إلى الإنجليزية إحدى وعشرين مرة وإلى الألمانية تسع عشرة مرة.

وبدا وكأن تجنر قد استنفد قواه في عمله الشعري هذا فبعد أن أنهاه تدهورت صحته لكنه ظل يكتب الشعر في المناسبات وأهدى إحدى قصائده لامرأة متزوجة من فكسجو Vaxjo. لقد كان ليبراليا في الأساس لكنه تحول إلى متحفظ متمسك بالاتجاه المحافظ ودخل في خلافات ساخنة مع الأقلية الليبرالية في الركسداج Riksdag. وأعقب اضطرابات 0481 اضطراب فكري لكن واصل كتابة شعره الجيد حتى مات في سنة 6481 في فكسجو Vaxjo وفي هذه الأثناء أصبح الملك شارل الثالث عشر مريضا بشكل مستمر، فتولى ولي العهد شارل جون الوصاية على العرش وتولى مسئولية الحكم. وسرعان ما واجه خيارا صعباً بين ولائه لوطنه الأصلي (فرنسا) والبلاد التي احتضنته (السويد)، ومادامت الدول تكون مولعة بضم بلاد أخرى تماما كمواطنيها، فإنها ترسل زوائدها الكاذبة كزوائد الأميبا المعدة للإمساك - تلك الزوائد المسماة بالجيوش - للإمساك بما يعد وجبات شهية، فقد راحت الحكومة السويدية تتطلع بنهم لامتلاك جارتها النرويج التي كانت الدنمرك منذ سنة 7931 تدعي حق ملكيتها. واقترح ولي عهد السويد على نابليون أن تضم السويد النرويج إليها فبهذا تتوثق عرى العلاقات بين السويد وفرنسا فرفضه نابليون لأن الدنمرك كانت من أخلص حلفائه، وفي يناير سنة 2181 استولى نابليون مرة أخرى على بوميرانيا Pomerania السويديه بحجة أنها سمحت باستيراد البضائع البريطانية وهذا إخلال بالحصار القاري الذي فرضه نابليون، فاتجه الأمير شارل جون إلى روسيا التي كانت هي بدورها تتجاهل الحصار القاري فوافقت روسيا على أن تبتلع السويد النرويج مقابل أن تؤيد السويد بما قامت به روسيا من ضم فنلندا إليها. وفي أبريل سنة 2181 وقعت السويد تحالفاً مع روسيا وفتحت موانئها للتجارة البريطانية. هذا هو الوضع في السويد عندما كان نابليون يحتفي بملوك أوربا في دريسدن Dresden في طريقه إلى موسكو.


الدنمارك

لم تثر أخبار سقوط الباستيل دهشة كبيرة لدى الدنمركيين الذين كانوا بالفعل منذ سنة 2771 قد ألغوا القنانة (عبودية الأرض) والتعذيب في أثناء المحاكمة وأصلحوا القانون والمحاكم والشرطة وطهروا مجال الخدمة المدينة من الرشوة واستغلال النفوذ وأعلنوا حرية العبادة لكل الأديان وشجعوا الأدب والفن. وكان الدنمركيون ينظرون إلى أسرتهم المالكة كأساس استقرار وسط صراع الطبقات وتقلبات السياسة. وعندما هاجم الجمهور الباريسي الملك لويس السادس عشر، وبعد الحكم عليه بالإعدام - رغم أنه أي لويس السادس عشر كان كالملك الدنمركي مؤيداً لاتخاذ إجراءات ليبرالية، كان الدنمركيون متفقين مع مليكهم على أنهم ليسوا في حاجة إلى هذا الانفعال (العنف). وسرعان مانظر الدنمركيون بتسامح إلى نابليون لتهدئته الثورة وإعادته النظام في فرنسا، فرفضت الدنمرك الانضمام لتحالف مضادٍ له.

بل على العكس فقد تحدت الحكومة الدنمركية دعاوي الأدميرالية البريطانية بحق قباطنتها في الصعود إلى أي سفينة متجهة إلى فرنسا والبحث عن البضائع المهربة فيها. وفي مناسبات عديدة في سنتي 9971 و 0081 اعتلى القباطنة البريطانيون سفنا دنمركية وقبض أحدهم على سبعة تجار دنمركيين ممن قاوموه واحتجزهم في ميناء بريطاني. وفي أغسطس سنة 0081 دعا القيصر بول الأول Czar paul I ملوك بروسيا والسويد والدنمرك للانضمام إليه في العصبة الثانية للحياد المسلح بهدف مقاومة تفتيش البريطانيين للسفن المحايدة. وفي 61 و 81 ديسمبر سنة 0081 وقعت القوى البلطيقية الأربع إعلان مبادئ وافقوا بمقتضاه على الدفاع عن الآتي:

(1)لكل سفينة محايدة الحق في الإبحار بحرية من ميناء إلى ميناء على سواحل الدول المتحاربة. (2) البضائع التي تخص رعايا القوى المتحاربة - باستثناء المهربة - لا يجوز التفتيش عليها إذا كانت على متون سفن تمتلكها دول محامدة....(5) إعلان قائد السفينة (المحايدة) أن السفينة أو السفن التابع للبحرية الملكية أو الإمبراطورية.. ليس في حمولتها بضائع مهربة - يكفي لمنع أي تفتيش(8).

أعرب نابليون عن اغتباطه بهذا الإعلان، ودعا بول الأول فرنسا للانضمام إلى روسيا في غزو الهند للقضاء على السيطرة البريطانية هناك(9). وأحست إنجلترا أن النزاع وصل إلى نقطة حرجة لأن الأساطيل المشتركة للقوى المحايدة وفرنسا يمكن أن تنهي السيطرة البريطانية على البحار التي هي - أي هذه السيطرة - المانع الوحيد الذي يمنع نابليون من غزو إنجلترا، فانتهت الحكومة البريطانية إلى أن الحل الوحيد هو الاستيلاء على الأسطوال الدنمركي أو الروسي أو تدميره. ومن الأفضل أن يلحقوا هذا بالأسطول الدنمركي لأن الهجوم على روسيا قد يتيح للأسطول الدنمركي الهجوم على مؤخرة الأسطول البريطاني.

وفي 21 مارس 1081 غادر أسطول بريطاني بقيادة السير هايد باركر Hyde Parker، ميناء يارموث Yarmouth مزودًا بتعليمات للتوجه إلى كوبنهاجن ومطالبة الدنمرك بالانسحاب من عصبة الحياد المسلح وفي حالة الرفض يقوم الأسطول الإنجليزي بالاستيلاء على الأسطول الدنمركي أو تدميره. وكان الأدميرال المساعد هو هوراتيو نيلسون Horatio Nelson وكان في الثانية والأربعين من عمره، وكان هو القائد الثاني، وكان مستاء من تبعيته للأدميرال باركر البالغ من العمر اثنين وستين عاما والذي أظهر ميلا للحذر من ميل نيلسون للخروج عن قيادته.

ووصلا إلى الساحل الغربي لجوتلاند Jutland في 71 مارس وأبحرا بحذر شمالا وحول رأس شجيراك Shaggerak لشبه الجزيرة ثم جنوباً في خليج كتيجات Kattegat الكبير إلى جزيرة سجالاند Sjaelland ومن ثم عبرا المضيق الضيق بين هالسنجبورج Halsingborg السويدية وهلسنجور Helsingor الدنمركية فأطلق عليهم حصن كرونبورج Kronborg مدافعه، فاتجه الأسطول البريطاني جنوبا في المضيق حيث مضيق آخر هو أضيق المضايق جميعا فبدت كوبنهاجن منيعة يحميها الأسطول الدنمركي والحصون - لقد كان هناك سبع عشرة سفينة مصفوفة في خط من الشمال إلى الجنوب، وكان كل منها مسلحا بمدافع يتراوح عددها بين عشرين وأربعة وستين مدفعا. وقرر الأدميرال باركر أن سفنه الكبرى حجما ذوات الغاطس الأعمق من سفن نلسون لا يمكنها دخول هذا المضيق ذي المياه الضحلة، دون خطر الارتطام بالأرض أو التعرض للتدمير فانتقل نلسون بعلم قيادته من السفينة سانت جورج إلى السفينة إليفانت (الفيل Elephant) وقاد إحدى وعشرين سفينة أصغر من سواها في المضيق ركزها في مواجهة السفن والحصون الدنمركية مباشرة. لقد دارت المعركة (2 أبريل 1081) وكل طرف منهما عى مقربة من الطرف الآخر حتى كادت كل طلقة أو قذيفة تحمل معها الدمار أو الموت وقد حارب الدنماركيون بشجاعتهم المألوفة، وحارب الإنجليز بنظامهم المعهود ومهارتهم في التصويب. وكادت كل سفينة من السفن المشتركة في القتال تتعرض لخطر شديد، وبدا موقف نيلسون حرجاً جداً حتى إن الأدميرال باركر أشار إليه بالإشارة رقم 93 الشهيرة والتي تعني التراجع. وثمة رواية إنجليزية تذكر أن نيلسون راح ينظر للإشارة بإمعان بعينه المصابة بالعمى، وعلى أيه حال فقد أقسم في وقت لاحق أنه لم ير أبدا الإشارة التي تأمر بالتراجع، فواصل القتال. ونجح المغامر الكبير(01) فراحت السفن الدنماركية تهوي غارقة أو تصبح غير صالحة للقتال. وعرض نيلسون وقف إطلاق النار فقبل طلبه، وكان نيلسون - كنابليون - يستخدم الدبلوماسية إلى جانب الحرب لتحقيق غرضه، فاتجه إلى الساحل لمناقشة شروط السلام مع فريدريك الوصي على العــرش الدنمركــي وولــي العهــد. وكــان الأميــر قــد تلقى أخبارا مفادها أن القيصر بول الأول قد اغتيل (32 مارس 1081) وأن عصبة الحياد المسلح قد انهارت، فوافق على الانسحاب منها. وأكدت الحكومة البريطانية الاتفاق الذي وقعه نلسون، وعاد إلى نصر آخر، فقد دعته الأمة (5081) لينقذ السيادة البريطانية على البحار في معركة الطرف الأغر.

ونجت الدنمرك واحترمتها إنجلترا كما كانت تحترمها سائر دول أوروبا، وظلت هذه المملكة الصغيرة طوال الست سنوات التالية تُناضل للحفاظ على حيادها بين بريطانيا العظمى وروسيا اللتين تسيطران على البحار المجاورة، والجيوش الفرنسية التي تَعِسّ في الأراضي المجاورة لهذه الشبه جزيرة التي يعمها الاضطراب. وكان الدنمركيون بشكل عام يميلون لنابليون لكنهم امتعضوا بسبب إلحاحه عليهم لمزيد من الانحياز له. وبعد سلام تيليسيت Tilsit أرسل نابليون رسالة إلى الحكومة الدنمركية ملحاً على ضرورة منع أي بضائع إنجليزية، ومطالباً بتعاون أسطول الدنمرك الجديد مع الفرنسيين.

والآن - كما كان الأمر في سنة 1081 - أخذت الحكومة البريطانية بزمام المبادرة وأرسلت أسطولاً كبيراً على متون سفنه 000،72 مقاتل إلى المياه الدنمركية (62 يوليو 7081) متذرعة بأن عملها هذا لا هدف له إلا تحقيق السلام، وحذَّر وزير الخارجية البريطاني جورج كاننج حكومته من أن نابليون كان يخطط لضم الأسطول الدنمركي إلى أسطول آخر في محاولة لإنزال جنود في سكوتلندا أو إيرلندا(11)، وفي 82 يوليو أصدر كاننج تعليمات لممثلي الحكومة البريطانية في الدنمرك بإعلام ولي العهد الدنمركي أنه من الضروري لأمن بريطانيا العظمى أن تتحالف معها (أي الدنمرك) وأن تضع أسطولها تحت تصرف الحكومة الإنجليزية. ورفض ولي العهد الدنمركي واستعد للمقاومة، فحاصرت السفن البريطانية سجالاند Sjaeland وأحكم الجند البريطانيون الحصار حول كوبنهاجن، وتعرضت المدينة لقذف بالمدفعية من البر والبحر (2-5 سبتمبر 7081) وكان القصف عنيفاً لدرجة أن الدنمركيين سلَّموا لإنجلترا كل أسطولهم: 81 سفينة كبيرة وعشر فرقاطات وأربع وعشرين سفينة صغيرة(21). ومع هذا فقد واصلت الدنمرك الحرب وظلت منحازة لفرنسا حتى سنة 3181.

وفي أثناء الحروب، بل وبإلهام منها في غالب الأحيان - قدم الدنمركيون إسهامات مهمة في العلوم والآداب والفنون. لقد اكتشف هانز كريستيان أورستد Oersted (7771 - 1581) أن إبرة ممغنطة (على محور) ستعود عند الزوايا القائمة إلى الطرف الآخر حاملة تياراً كهربيا. ودخلت الكلمة (أورستد Oersted) إلى كل اللغات الأوروبية والأمريكية لتعني وحدة القوَّة في مجال مغناطيسي (وحدة شدّة المجال المغناطيسي). لقد أسس أورستد علم الكهرباء المغناطيسية خلال ثلاثين عاماً من التجارب. وكان نيكولاي جرندتفج طوال عمره البالغ ثمانية وتسعين عاماً يبذل كل جهده ليكون لاهوتياً متحرراً وأسقفاً وفيلسوفاً ومؤرخاً ومربّيا مبدعا ورائداً في دراسة الحكايات الشعبية والتراثية من الآداب الأنجلوسكسونية وآداب سكندنافيا، وألَّف بعض القصائد الملحمية والأغاني والترانيم الدينية التي مازالت محبوبة في سكندنافيا. وكان للدنمرك في هذا العصر المفعم بالأحداث مسرح ناشط، عملت كوميدياته على وخز مظاهر الادعاء على المستوى الاجتماعي، فسخر بيتر أندرياس هايبرج Heiberg (8571-1481) من التمييز الطبقي في مسرحيته (de vanner Og De vonner) فكثر أعداؤه بسبب ذلك حتى إنه لجأ إلى باريس طلباً للأمان فعمل في وزارة الخارجية الفرنسية مع تاليران، وقد أنجب ابنا هو جوهان (يوهان) لودفيج هايبرج (1971-0681) الذي كان له شأن كبير في المسرح الدنمركي في الفترة التالية.

وظهر في الأدب الدنمركي شاعران على الأقل تخطت شهرتهما حدود الدنمرك واللغة الدنمركية، ولا شك أن جينز إيمانويل (عمانويل) باجسن Jens Immannel Baggesen (4671-6281) كان ذا شخصية جذابة وأسلوب رشيق. ولقد افتتن دوق أوجستنبورج Augustenburg بأشعاره الأولى، فدفع للشاعر الشاب تكاليف زيارته لألمانيا وسويسرا. وقابل جينز كلاً من فيلاند، وشيلر، وهيردر وكلوبستوك، وأحس بتطلعات روسّو الرومانسية، وسعد بالثورة الفرنسية وابتهج لقيامها.

ودرس فلسفة كانط وسار في تيارها، ذلك التيار الذي أنعش الفلسفة الألمانية، وأضاف اسم كانط إلى اسمه وكتب حصاد رحلاته وتأملاته في كتاب متاهة شاعر جوّال Labyrinthen eller Digtervandringer (2971) كاد يضارع فيه لورنس ستيرن Laurence Stern فكاهةً وفيضَ مشاعر. ولما عاد للدنمرك تخلّى عن إثارة فيمار وباريس، وعاش في فرنسا في الفترة من 0081 إلى 1181 يراقب نابليون وهو يصوغ النظام من الحرية ويحول الجمهورية إلى إمبراطورية (المقصود يحول النظام الجمهوري إلى نظام إمبراطوري أو ملكي). وفي سنة 7081 ألف قصيدة حيوية (الشبح ونفسه Gjengengeren og ban Slev) عرض فيها بذكاء وعمق تأرجحه بين المُثل الكلاسية من نظام وانضباط وحقيقة من ناحية، والاعتدال والتطلع الرومانسي إلى الحرية والخيال والرغبة من ناحية أخرى. وفي سنة 1181 أصبح أستاذاً في جامعة كيل Kiel، وبعد ذلك بعامين دخل في معركة حامية مع أعظم شعراء الدنمرك. لقد عاش آدم جوتلوب أولنشليجر Adam Gottlob Oehlenschlager(9771-0581) حياة سعيدة - بشكل غير عادي - في فترة شبابه. كان والده ناظراً لأحد قصور الضواحي التي تحيط بها الحدائق والحقول، فاستمتع ابنه بحديقة يلعب فيها ومكتبة يقرأ فيها وصالة يعرض فيها الأعمال الفنية، وحلق به خياله وتطلّع للعمل في مهنة التمثيل لكن صديقه هانز كريستيان أورستد Oersted جذبه إلى جامعة كوبنهاجن. لقد عاش خلال الفترة التي قذف فيها البريطانيون بمدافعهم الأسطول الدنمركي والعاصمة الدنمركية في سنة 1081، وأحس بتأثير الفيلسوف النرويجي هنريك ستيفنز Steffens، وأخيراً وصل إلى مكانته من الشهرة بإصداره مجموعة قصائد في سنة 2081 رسَّخت الاتجاه الرومانسي في الأدب الدنمركي.

وواصل معركته فأصدر مجموعة أشعار (3081) يوازن فيها بين حياة المسيح والتغييرات السنوية الحادثة في الطبيعة فأدانته الكنيسة الرسمية كحلولي (قائل بوحدة الوجود) مهرطق، لكن الحكومة الدنمركية كافأته بمنحة للسفر إلى ألمانيا وإيطاليا وفرنسا. وقابل جوته، وربما تعلم منه أن يراجع ذاتيته الرومانسية. وفي ديوانه 0قصائد شمالية، 7081 (Nordiske Digte) استوحى الميثولوجيا الأسكندنافية بملحمة تحتفي برحلات الرب تور Thor، ودراما عن هاكون جارل Haakon Jarl الذي حكم النرويج من سنة 097 إلى سنة 599 وخاض معركة خاسرة لمواجهة انتشار المسيحية. وعندما عاد أولنشليجر إلى كوبنهاجن (9081) استقبلته الدوائر الأدبية كأعظم شاعر دنمركي.

وانتهز فرضة شهرته وشعبيته فنشر سلسلة من الأعمال المتعجلة، فانتقده جينز بجسن Beggesen علناً ذاكراً أن أعماله تتسم بتدني المستوى والإهمال. واستعر الخلاف، ولم يدافع فيه أولنشليجر عن نفسه كثيرا، إلا أن أصدقاءه - على أية حال - تولوا هذه المهمة عنه وتحدوا بجسن Baggesen بدخول مبارزة في شكل نقاش أو مناظرة باللغة اللاتينية. وفي هذه الأثناء نشر أولنشليجر عمله (Helge and Den Lille Hyrdedreng) فرحب بجسن Baggesen به لأنه عودة آدم القديم(31) وفي سنة 9281 توّج أولينشليجر في لوند كأمير للشعراء، وقام بتتويجه تجنر Esaias Tegner وفي 4 نوفمبر 9481 امتدحه الشعراء المعاصرون في عيد ميلاده السبعين واصفينه بأنه آدم جبلنا المقدس (The Adam of our Parnassus) وفي مضمار الفن قدمت الدنمرك لأوربا نحاتا لم يكن هناك من يضارعه عندما بلغ أوجه سوى كانوفا Canova. إنه بيرتل ثوروالدسن Thorwaldsen (0771 - 4481) الذي فاز بمنحة لدراسة الفن بأكاديمية كوبنهاجن واستقرفي سنة 7971 في روما التي كانت لاتزال راضخة لإنجيل فينكلمان Winckelmann في الفن الهيليني باعتباره هو الفن الذي يجب احتذاؤه (النموذج الأمثل). لقد لفت انتباه كانوفا، وحذا حذوه في نحت تماثيل لأرباب المعتقدات الوثنية، كما نحت تماثيل للمشاهير المعاصرين له في أوضاع وملابس إغريقية أو رومانية، وعلى هذا فقد وجدناه في سنة 7181 يقيم تمثالا نصفيا لبايرون على نسق أنطونيوس الوقور. وكان يلي كانوفا من حيث المكان كزعيم للمدرسة الكلاسية الجديدة في النحت وانتشر أسلوبه النحتي انتشارا كبيرا حتى إنه عندما غادر روما في سنة 9181 ليقيم في كوبنهاجن كان يلقى ترحيباً كبيرا في أثناء مروره بفينا وبرلين ووارسو (فرسافا(41)). والآن (9181) وجدنا يصنع النموذج الذي احتذاه لوكاس أهورن Lucas Ahorn ونحته من حجر رملي (Lion of Lucerne) تخليدا لذكرى الحرس السويسري الذي مات أفراده دفاعا عن لويس السادس عشر في سنة 2971. وتألمت كوبنهاجن عندما وجدته يغادرها مرة أخرى إلى روما. لكنها - في سنة 8381 - احتفت مفتخرة بعودته. وكان في هذا الوقت قد حقق ثروة وهب جزءا منها لإقامة متحف لعرض أعماله التي كان من أشهرها تمثال له شخصيا ليس كلاسيا إذ أظهر فيه بدانته بأمانة. وتوفي في سنة 4481 ودفن في حديقة متحفه.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بولندا

لم تكن بولندا قادرة على مقاومة روسيا وبروسيا والنمسا تلك القوى التي قسمتها مرات ثلاث (2771 و 3971 و 5971 - 6971) فيما بينها، وبهذا التقسيم لم تعد بولندا دولة لها وجود سياسي، لكنها استمرت كثقافة غنية أدباً وفنا وكشعب تواق للحرية. وكان كل البولنديين تقريبا من السلاف فيما عدا جيب ألماني في الغرب وقلة يهودية في وارسو (فرسافا) وفي شرقي البلاد. وكان البولنديون كاثوليكاً متحمسين لأن هذه العقيدة (الكاثوليكية) كانت تواسيهم في أحزانهم وتعطيهم الأمل في الخلاص وتحفظ النظام الاجتماعي في ظل دولة محطمة، لذا فقد أدانوا الهرطقة واعتبروها خيانة (المقصود بالهرطقة هنا الخروج على الكاثوليكية) فكان نزوعهم الوطني غير متسم بالتسامح ولم يكن أحد من البولنديين - خلا الذين تلقوا قسطا وافرا من التعليم - بقادر على الشعور بالتآخي مع اليهود الذين تفوقوا في مضمار التجارة والمهن، أما اليهود الفقراء الذين يحملون سمات العزلة (الجيتو) وبؤسها فكان التعاطف معهم أقل بكثير.

وقد تعجب المسيحيون واليهود البولنديون للإهانة التي ألحقها نابليون بالنمسا وروسيا في أوسترليتز Austerlitz وزاد عجبهم وإعجابهم بانتصاراته على البروسيين في يينا Jena وأورشتدت Auerstedt، والآن (6081) فإن (نابليون) متمركز في برلين يصدر الأوامر لنصف أوربا. لقد طارد نابليون مغتصبي بولندا، وكان في طريقه لمحاربة روسيا. فإذا لم يعلن في طريقه إلى روسيا أن بولندا دولة حرة فإنه على الأقل سيقيم عليها ملكا ويمنحها دستورا ويعدها بالحماية. والزعماء البولنديون إليه فردهم بأدب مؤكدا لهم أنه سياعدهم الآن بقدر طاقته، لكن تحرير بولندا متوقف على نتيجة مواجهة التالية مع الروس. وحذر كوزكيو سكو Kosciusko أكثر الزعماء البولنديين تحفظا أهل بولندا من تعليق الآمال على نابليون. فهو - أي نابليون - لا يفكر إلا في نفسه، وهو يكره كل أمة عظيمة، وهو طاغية ولا هم له إلا إرضاء طموحه وعندما أرسل نابليون ليسأل كوزكيو سكو عن طلباته أجاب: حكومة كحكومة إنجلترا وإلغاء القنانة (عبودية الأرض)، وأن تحكم بولندا من داترج (دانتسج) إلى المجر، من ريجا Riga إلى أوديسا Odessa(51).

وفي هذه الأثناء نظم البولنديون جيشا صغيرا وطردوا البروس من وارسو (فرسافا)، وعندما دخل نابليون العاصمة في 91 ديسمبر 6081 استقبلة الجماهير بحفاوة بالغة وانضم الجنود البولنديون إلى جيشه راغبين في محاربة روسيا تحت قيادته، تماما كما كان فيلق بولندي يحارب باسمه (باسم نابليون) في إيطاليا. وربما كان نابليون يقدر جمال النسوة البولنديات وسحرهن أكثر من تقديره لعروض قادتهم. لقد وجدنا مدام فالفسكا Walewska التي وهبت نفسها له في البداية كنوع من التضحية أملاً في حثه على إنقاذ وطنها، وجدناها تحبه الآن بعمق وظلت معه خلال فصل الشتاء القارس الذي دمر - تقريبا - كل جيشه في إيلاو Elau، ثم عادت إلى وارسو (فرسافا)، بينما واصل هو طريقه ليهزم الروس في فريدلاند Friedland. وفي معاهدة تيلسيت Tilsit (9 يوليو 7081) أجبر فريدريك وليم الثالث على التخلي عن مزاعمه في وسط بولندا (بولندا الوسطى) واعترفت المادة الرابعة من المعاهدة بدوقية وارسو الكبيرة (والجديدة) كدولة مستقلة يحكمها ملك سكسونيا. وفي 22 يوليو قدم نابليون للدوقية دستوراً مستقى من الدستور الفرنسي، والمساواة أمام القانون والتسامح الديني والتجنيد الإجباري، ورفع قيمة الضرائب وفرض رقابة على الصحف. ووضع الكنيسة الكاثوليكية تحت سلطة الدولة لكن كان يجب على الدولة أن تقبل بالعقيدة الكاثوليكية وتحميها. وأعطى الدستور لليهود الحقوق الكاملة لكنه اشترط توثيق الدولة لزواجهم وممتلكاتهم من الأراضي(61). وكان نابليون يتوقع حربا حتى الموت مع إسكندر Alexander فأوعز أن يحوي الدستور البولندي تأكيدا بدعم بولندا لفرنسا. وبالفعل فقد ظلت كل الطبقات تؤيد نابليون حتى عام 4181 أي عندما أصبح - أي نابليون - غير قادر على حمايتها. وظلت الفيالق البولندية في جيوشه تحارب معه بإخلاص حتى النفس الأخير. لقد راح كثيرون من البو لنديين يهتفون في أثناء غرقهم عند انهيار جسر فوق البيريزينا Berezina: عاش الإمبراطور، رغم أنه كان عائدا من روسيا بعد أن حاقت به أكبر نكبة عسكرية في التاريخ.


تركيا (الدولة العثمانية) في أوروبا

كانت أيام الإنجاز العثماني في مجال الحكم والأدب والفن قد ولت، لكن الأتراك (العثمانيين) كانوا مايزالون في سنة 9871 يمسكون بأيد غير ثابتة زمام الأمر في مصر والشرق الأدنى إلى الفرات وآسيا الصغرى وأرمينيا واليونان وبلغاريا وألبانيا وصربيا والمقاطعتين الدانوبيتين فاليشيا ومولدافيا (الأفلاق والبغدان) (الآن رومانيا) اللتين كانتا من بين مناطق متنازع عليها تركها نابليون لإسكندر Alexander في اتفاقية تيلسيت Peace of Tilsit وكان السلاطين العثمانيون قد ضعفوا بسبب الجمود الاقتصادي والتفسخ الأخلاقي، فسمحوا للباشاوات بحكم الولايات، واستنزافها دون تدخل من إسطنبول Constantinpole إلا قليلا. وسبق أن لاحظنا مع بايرون حكم علي باشا القوي في ألبانيا (8871 - 2281) وكيف أن (علي باشا) تجاوز حده وراح يتآمر على الباب العالي، فدبر السلطان أمر قتله.

لقد حارب الصرب من أجل الاستقلال. وعندما أعدم الإنكشارية الباشا ذا الشعبية حاول الوطني الصربي قره جورج Karageorge (4081) أن يؤسس جمهورية بجمعية وطنية تختار بدورها مجلس شيوخ (سينات Senate) وفي سنة 8081 انتخب مجلس الشيوخ هذا قره جورج أميرا تتوارث ذريته الحكم، فأرسل السلطان محمود جيشا كبيرا إلى بلجراد للقضاء على هذه الجمهورية الجديدة (3181) فهرب قره جورج وآلاف من أتباعه إلى النمسا. وقامت ثورة أخرى بقيادة الأمير ميلوسي أوبرينوفتش Milos Obrenovich فاضطر السلطان محمود لقبول تسوية (5181) يمنح الصرب بمقتضاها حرية الاعتقاد (الحرية الدينية) والتجارة وأن يكون لهم نظامهم التعليمي الخاص. ودعم ميلوسي أوبرينوفتش حكمه بالأساليب السياسية والاغتيالات إذ عمل على إعدام منافسه قره جورج، وحصل من السلطان على اعتراف بأن يكون الحكم متوارثا في ذريته. وفي سنة 0381 كانت صربيا من الناحية الفعلية دولة مستقلة. وكانت اليونان قد سقطت في أيدي الأتراك (العثمانيين) في سنة 2541 وظلت طوال هذه الفترة خاضعة لهم حتى كادت تنسى كبرياءها القديم. واختلطت الدماء في اليونان بعد أن غزاها الروم (المقصود: الأتراك العثمانيين) وهاجر إليها الصرب، وكما اختلطت الدماء اختلطت أيضا الذكريات الوطنية (العرقية) واللهجات حتى لم تعد لغة الحديث العامة وثيقة الصلة باللغة اليونانية التي كانت سائدة أيام أفلاطون. ومع هذا احتفظ العلماء والشعراء والوطنيون بشيء من بلاء الإغريق الكلاسية وبذكرى أحد عشر قرنا (593 - 2541) كان اليونانيون خلالها يحكمون الإمبراطورية البيزنطية (الدولة الرومانية الشرقية) واستمروا طوال هذه القرون يثرون العلم والفلسفة والفن. لقد ألهبت أخبار الثورة الفرنسية هذه الذكريات وجعلت اليونانيين يندهشون مع لورد بايرون (في ديوانه شايلد هارولد Childe Harold) ويتساءلون لم لا تعود اليونان حرة كما كانت؟ وأعاد ريجاس فيروس Rhigas Pheraios (7571؟ - 8971) كتابة نشيد المارسليز باليونانية وحوره بما يناسب أوضاع اليونان، ونشره على نطاق واسع، وكون جمعية تهدف إلى ربط اليونانيين والأتراك معا على أساس من الحرية والمساواة وكان ريجاس قد وُلد في فاليشيا (في رومانيا الحالية) في مدينة تيسالي Thessaly وعاش في فينا. وذهب قاصدا اليونان في سنة 7971 ومعه صندوق مليئ بالمنشورات(71) فتم القبض عليه في تريست وأعدم في بلجراد. وتم تكوين جمعية betairia أخرى في أوديسا Odessa امتدت في سائر بلاد اليونان وشاركت في تهيئة اليونان للثورة. وكرس كوريز Koraes (8471 - 3381) العنيد نفسه لتنقية لغة الحديث اليونانية ليجعلها أقرب ما تكون إلى اليونانية القديمة. وكوريز هذا يوناني من سميرنا Smyrna استقر في باريس في سنة 8871، وقد ابتهج لقيام الثورة الفرنسية وراح ينشر المنشورات وينشد القصائد التي لم يكن يعزوها لنفسه (جعلها مجهولة المؤلف) كماراح يطبع التراث اليوناني الكلاسي، فنشر بذلك الأفكار الجمهورية والأفكار المناهضة للكنيسة - رغم أنه حذر من أن الثورة قد تكون مبتسرة (أي أتت قبل الأوان). كانت جهوده هذه في سنة 1281 ولم تأت سنة 0381 إلا وكانت اليونان حرة.

ولم تكن الحكومة التركية في ظل ظروف العصر والموقع أكثر جورا بشكل واضح - من حكومات أوربا قبل سنة 0081. لقد صدم بايرون وهو يرى رؤوس المجرمين المجذوذة معلقة على جانبي بوابة سيراجليو Seraglio لكن لابد أن نسلم بأن، ما جزته مقصلة الحكومة الثورية الفرنسية من رؤوس الرجال والنساء كان أكثر من الرؤوس التي أمر السلاطين العثمانيون بقطعها في أي فترةرمنية مساوية لفترة الحكومة الثورية الفرنسية. وكانت الثروة مركزة في يد قلة كما هو عليه الحال في كل مكان (أي أن ذلك لم يكن قصرا على الدولة العثمانية) وكان الأتراك (العثمانيون) أهل فلسفة وشعر كما كانوا أهل حرب، وهم يؤمنون بالقضاء والقدر خيره وشره من الله، لن يغيره تذمرهم، ويعتبرون المرأة المهذبة المعطرة أثمن من أي شيء خلا الذهب، ويؤثرون تعدد الزوجات إن استطاعوا مؤونة ذلك، فلم لا يكونون أقدر سلالة؟ ولم يكونوا في حاجة للمومسات (العاهرات) إلا قليلا، وإنما كانت مواخيرهم يرتادها المسيحيون، وكان الترك (العثمانيون) لايزالون ينتجون أدباً وفنا، فكثر الشعراء وتألقت المساجد وربما كانت إسطنبول هي أجمل مدن أوربا في سنة 0081. لقد كان وضع تركيا من الناحية السياسية محفوفاً بالمخاطر فقد كان اقتصادها وجيشها في حالة مضطربة بينما كانت موارد أعدائها وقواتهم العسكرية في حالة نمو. وكانت عاصمتها (إسطنبول) هي أكثر النقاط إستراتيجية على الخريطة فكانت أوربا المسيحية كلها تتحرق شوقا للاستيلاء على هذه اللؤلؤة. ومدت الإمبراطورة كاترين قبضة روسيا للبحر الأسود، فاستولت على القرم Crimea من التتار Tatars وراحت - بمباركة فولتير - تحلم بتتويج حفيدها - قسطنطين - في إسطنبول (القسطنطينية) - كان هذا هو الوضع عند تولي السلطنة سليم الثالث (9871) وهو في السابعة والعشرين من عمره، وكان قد تلقى تعليما جيدا وكون صداقة حميمة مع السفير الفرنسي، وأرسل ممثلا عنه إلى فرنسا ليكتب له تقارير عن غرب أوربا، سياسة وفكرا وأساليب حياة، وقرر السلطان أنه إذا لم يتم إصلاح المؤسسات التركية إصلاحا جوهريا فلن تستطيع تركيا التصدي لأعدائها، فعقد سلاما مع كاترين في جسي Jassy (2971) واعترف بالسيادة الروسية على القرم ونهري دنيستر Dniester وبج Bug ثم كرس نفسه لاستحداث نظام جديد في الإمبراطورية العثمانية، قائم على انتخاب النواب والولاة (المحافظين)، وبمساعدة ضباط وخبراء من غرب أوربا أقام مدارس للملاحة والهندسة وكون بالتدريج جيشا جديدا. ووضع الخطط لنقض عهوده مع روسيا لكن استيلاء نابليون على مصر ومهاجمته عكا عرقلا خططه، وانضم السلطان إلى إنجلترا وروسيا لشن حرب على فرنسا (8971) واستتب السلام في سنة 2081 لكن الحرب كلفت كثيرا وتمرد الولاة والرسميون الفاسدون ضد الدستور الجديد فاعتزل سليم الثالث (7081) ومع ذلك فقد قتلوه (بعد ذلك)، وبعد عام من الفوضى ساد المناصرون له وتولى محمود الثاني (ابن أخيه) السلطنة في سنة 8081 وهو في الواحد والثلاثين من عمره. وحولت القوى المتصارعة في العالم المسيحي التحكم في سياسات الباب العالي (الحكومة العثمانية) باستخدام المال والتهديد. ولم تبق الدولة العثمانية على قيد الحياة إلا لأن واحدة من القوى الأوربية المتصارعة لم تكن لتسمح للقوى الأخرى بالتحكم في مضيق البوسفور. وفي سنة 6081 أرسل إسكندر الأول جيشا إلى مولدافيا وفاليشيا (الأفلاق والبغدان) لضمهما إلى روسيا فحث سفير نابليون السلطان سليما على المقاومة، فأعلنت تركيا (الدولة العثمانية) الحرب على روسيا، وفي معاهدة تيلسيت Tilsit (7081) رتب نابليون أمر السلام لكن الهدنة كانت تخرق مرارا إلى أن قرر إسكندر سحب جيوشه من الجبهة الجنوبية تحسبا للحرب ضد نابليون، وفي 82 مايو 2181 قبل مغادرة نابليون - بيوم واحد - لدريسدن Dresden لينضم إلى قواته المتجمعة في بولندا، تخلت روسيا عن كل دعاويها في الولايتين الدانوبيتين (الأفلاق والبغدان). لقد أصبح في مقدور إسكندر الآن تجميع كل قواته ومدافعه لمواجهة 000،04 مقاتل من الفرنسيين وحلفائهم كانوا يستعدون لعبور النيمن Niemen إلى روسيا.