قصة الحضارة - ول ديورانت - م 11 ك 4 ف 31
صفحة رقم : 14726
قصة الحضارة -> عصر نابليون -> ملوك أوروبا في مواجهة التحدي -> الأدب الألماني -> ثورة واستجابة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الواحد والثلاثون: الأدب الألماني 1789 - 1815
ثورة واستجابة
تأثر الأدب الألماني في عصر نابليون بتمرد الشباب الطبيعي وبالرغبة في كسر الروابط الأسرية والخروج على المألوف، وأصداء الشعر الرومانسي الإنجليزي وروايات ريشارد سون Richardsn، والتراث الكلاسي للسنج Lessing وبعد ذلك جوته والثورات الناحجة في المستعمرات الأمريكية والهرطقات التي صاحبت حركة التنوير الفرنسية، والأهم من كل هذا التأثير اليومي للثورة الفرنسية، وأخير بدراما صعود نابليون وسقوطه• لقد كان كثيرون من المتعلمين الألمان قد قرأوا أعمال فولتير وديدرو Diderot وروسو، بل إن بعضهم قرأها في لغتها الفرنسية الأصلية، وكان عدد أقل من الألمان قد أحس بلسعات هلفيتيوس Helvetius ودولباش d, Holbach ولا متري La Mettrie• وكان للمفكرين والمثقفين الفرنسيين دور في صياغة (تكوين أو تشكيل) حكام على شاكلة فريدريك الكبير، وجوزيف الثاني النمساوي، والدوق شارلز وليم فرديناند البرونسفيكي، والدوق شارلز أو جستس (في ساكسي فيمار Saxe - Weimar) ولو لم يكن للكتاب والمفكرين الفرنسيين سوى هذا (أي سوى تأثيرهم في هؤلاء الحكام وصياغة فكرهم) لكفى بهذا دليلا على تأثيرهم في الحضارة الألمانية• لقد بدت الثورة الفرنسية في البداية تطورا منطقيا لفلسفة التنوير Enlightenment Philosohy: النهاية - التي أسعدت الناس - للإقطاع والامتيازات الطبقية والأسرية والإعلان الذي طال انتظاره لحقوق الانسان، والدعوة النشيطة لحرية الكلام والصحافة والتصرف والعبادة والفكر• هذه الأفكار (وكان كثير منها قد تطور داخل ألمانيا ذاتها) عبرت الراين على جناحي أخبار الثورة الفرنسية أو مصاحبة لجيوشها المندفعة لقلب أوربا واصلة حتى إلى كونجسبرج Konigsberg البعيدة•
وعلى هذا فإن مشكلي العقل الألماني وصانعي أدبه رحبوا بالثورة الفرنسية في أعوامها الثلاثة الأولى• لقد رحب بها البناؤون الأحرار Freemasons والروزيكروشيون أصحاب الاتجاه الباطني Rosicrucians ودعاة التنوير المعتزون بفكرهم Illuminati، واعتبروها فجر عصر ذهبي طال انتظارهم له وشوقهم إليه• لقد أيد الفلاحون الثوار ضد السادة الإقطاعيين (الفرسان الإمبراطوريين) والحكام الأسقفيين في ترير Trier وسبير Speyer(1)• وبورجوازيو هامبورج هللوا للثورة باعتبارها إعلاء لشأن رجال الأعمال ضد الأرستقراطيين المتغطرسين، وراح الشاعر العجوز كلوبستوك Klopstockالذي يقيم في هامبورج، يقرأ قصائده في مهرجان الحرية ويصيح بفرح وهو يترنم بأبيات قصائده، وراح العلماء والصحفيون والشعراء والفلاسفة يترنمون مادحين in a Capell-a hymnes (والكابلا قاموسياً هي العَيّوق)، وراح جوهان (يوهان) فوص Voss مترحم أعمال هوميروس، ويوهان فون ميلر Muller المؤرخ، فريدريش فون جنتس Genz الدبلوماسي (خاج الخدمة) والفلاسفة من كانط إلى هيجل - راحوا جميعا يتغنون باسم الثورة ويدعون لها بالنجاح• كتب جورج فوستر Foster (الذي كان يصحب كوك Cook في رحلة حول العالم): إنه لشيء عظيم أن يرى المرء الفلسفة قد نضجت في العقول وأصبحت واقعاً في الدولة(2) لقد ظلت ألمانيا منتشية لفترة بأخبار الثورة الفرنسية ففي كل مكان فيها (حتى في الأوساط الملكية كما في حالة الأمير هنري أخو فريدريك الكبير الباقي على قيد الحياة) كان الناس يرفعون أيديهم بالدعاء لفرنسا الثورة• في ظل هذه النشوة أضاف الأدب الألماني الثورة إلى انتصارات فريدريك، واتفع (أي الأدب) في غضون ثلاثين عام (0771 - 0081) ليكون أدبا ناشطاً فعالا متنوعا متألقا يضارع الأدب الناضج في كل من إنجلترا وفرنسا - لقد أصبح هذا هو حال الأدب في ألمانيا بعد أن ظل في حالة سبات طويل منذ فترة النزاع الديني، وهذا الأدب نفسه (المتأثر بالثورة الفرنسية) هو الذي أدهش الناس بتقدمه، فراح يلعب دوره في النهوض بألمانيا لإزاحة النير الفرنسي لتدخل (أي ألمانيا) في أزهى قرونها من النواحي السياسية والصناعية والعلمية والفلسفية•
وبطبيعة الحال لم يدم هذا المزاج السعيد، فقد أتت الأخبار بالهجوم على التوليري Tuileries، ومذابح سبتمبر وعهد الإرهاب وسجن الملك (الفرنسي) والملكة ثم إعدامهما ثم أتى الاحتلال الفرنسي لدول ألمانيا، والضرائب الباهظة والتجنيد الإجباري لشباب ألمانيا لدفع ثمن الحماية الإمبريالية والتكالف الحربية لنشر الحرية• وعاما بعد عام راح حماس الألمان للثورج الفرنسية يخبو ويهمد وراح الذين دافعوا عن الثورج الفرنسية بالأمس ينسلون واحدا إثر واحد من مواقفهم السابقة (عدا كانط) وخاب أملهم فيها وتشككوا في أهداف فرنسا، بل وتحول بعضهم إلى معادين لها غاضبين عليها•
فيمار
كان الرجال الذين شكلوا كوكبة من العباقرة في بلاط فيمار كالملجأ الفكري للمفكرين الألمان خلال فترة التأثير غير المستقر للثورة الفرنسية ونابليون• لقد كان الدوق شارلز أوغسطس (أوجستس) هو نفسه متقلب المزاج متعدد المواهب• لقد ورث الدوقية وهو ابن عام واحد وأصبح حاكمها الفعلي وهو في الثامنة عشرة من عمره (5771) واستمد تعليمه العام من أستاذ خاص، واكتسب مزيدا من المعارف والخبرات من خلال مسئولياته في الإدارة، ومن خلال نزوات خليلة ومن خلال أخطار الحرب والصيد، ولم يكن صالون أمه أقل شأناً فقد تعلم منه الكثير، ففي هذا الصالون كان يلتقي الشعراء والجنرالات والعلماء والفلاسفة ورجال الدين والمهتمون بالأمور العامة مع بعض نسوة ألمانيا الأكثر ثقافة واستواء فطرة يتبلون أحاديثهم المفعمة بالحكمة المتوارثة باللباقة والذكاء ولا يحسبون من أعمارهم يوما يمر دون أن يشهد الواحد منهم علاقة غرامية مكتومة (لا يعرف بها أحد)• لقد ذكر جان بول ريشته Jean Paul Richter آه هنا لدينا نساء!•• كل شيء هنا يتم بجرأة ثورية، حتى إن المرأة المتزوجة لا تعني شيئا(3) وفي سنة 2771 دعت الدوقة (التي كانت هي نفسها نمودجا للفضيلة البهيجة) العالم والشاعر والروائي كريستوف فيلاند ليأتي كي يشرف على تعليم ابنيها شالز أو جستس (أغسطس) وكونستنتين (قسطنطين) فأدى مهمته بتواضع وكفاءة وظل في فيمار حتى مات• وكان في السادسة والخمسين من عمره عندما قامت الثورة الفرنسية فرحب بها، لكنه طلب من الجمعية الوطنية في فرنسا أن تأخذ حذرها من حكم الغوغاء: وكان هذا في خطاب عالمي وجهه في أكتوبر 9871: الأمة تعاني من حمى الحرية التي جعلت أهل باريس - وهم الأكثر أدباً وتهذيبا في العالم - ظمأى لدماء الأرستقراطية••• عندما يعود الشعب لنفسه - عاجلا أم آجلا - ألن يدرك أنه أصبح يقاد رغم أنفه من 0021 طاغية صغير، بعد أن كان يحكمه ملك؟••• ولا يمكن أن تكونوا أكثر اقتناعا - وبعمق - مني بأن أمتكم كانت مخطئة لتحمل مثل هذا الحكم السيء لفترة على هذا القدر من الطول، ذلك أن أفضل شكل من أشكال الحكومات هو الذي يفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية ويوازن بينها، بحيث، بحيث يكون لكل شيء حق لازب لايمكن إلغاؤه، حق في الحرية بحيث لاتتعارض مع النظام، وأن الضرائب لا بد أن تكون متناسبة مع الدخل، وأن يدفع الجميع الضرائب على وفق المبدأ السابق دون استثناء(4)• وفي سنة 1971 كتب أنه لم يكن يتوقع أبدا أن يتحقق حلمه بالعدالة السياسية هكذا سريعا بإعدام لويس السادس عشر(5) لقد حول إعدام الملك في يناير 2971 من مشاعره المؤيدة للثورة إلى مشاعر عداء لها• لقد عادى الثورة، وساءه كثيرا عهد الإرهاب، ونشر بعد ذلك في العام نفسه (كلمات في أوانها) وصل فيها إلى بعض النتائج المعتدلة: لا بد أن يواصل المرء دعوته حتى يستمع الناس ويقنعوا بأن البشر يمكن أن يصبحوا أسعد حالا إذا أصبحوا أكثر تحكيما للعقل وأكثر مراعاة للأخلاق•• بهذا فقط يمكن أن يتقدموا•• فالإصلاح لا يجب أن يبدأ بالدساتير وإنما بالأفراد• إن كل الظروف اللازمة للسعادة موجودة فعلا في بلادنا (ألمانيا)(6)•
وكان جوهان (يوهان) جوتفرايد فون هيردر Gottfreid Von Herder هو آخر من استقر من الأربعة في فيمار وأول من مات منهم، وقد أدان الثورة الفرنسية بعد أن كان يطريها عندما قام الثوار بإعدام الملكة بالمقصلة• لقد أدان الثورة عندها باعتبارها - أي الثورة - انتهاكا وحشيا للمثل الإنسانية• وفي آخر سني عمره عاد إليه الأمل فرغم أن الثورة الفرنسية قد أصابها الجنون المبكر، فإنها قد أحرزت تقدما في أوربا هو التقدم الثاني بعد ذلك الذي أحرزته حركة الإصلاح الديني (حركة لوثر ورفاقه)• لقد أنهت الثورة الفرنسية تحكم الإقطاعيين في الناس، كما أنهت حركة الإصلاح الديني هيمنة الباباوية على عقول الخلق، فأصبح الناس الآن أقل خضوعا للظروف التي أملاها عليهم مولدهم وانتماؤهم الطبقي، وتحررت الموهبة ففتحت لها الأبواب للتطور والإبداع بصرف النظر عن ظروف الميلاد، وإلا أن التقدم على أية حال يمكن أن يكلف أوربا غاليا، وكان هيردر Herder سعيدا لأن هذه التجربة جرت في فرنسا وليس في ألمانيا الحبيبة إلى قلبه حيث لا يسارع الناس إلى التدمير والإحراق، وإنما هم عمال هادئون يعملون بدأب وعلماء صبورون يمكنهم أن يقودوا الشباب النامي باعتدال وحكمة وثبات، وينشرون بينهم الضياء (التنوير)•
وكان فريدريش شيلر - الروح الرومانسي الذي حرسه بشغف الثلاثة الكلاسيون - قد أتى إلى فيمار (5971) بعد مغامرات شائقة في الدراما والشعر والتاريخ والفلسفة• وكان خياليا رومانسيا وحسّاساً بدرجة شديدة فلم يجد إلا القليل يحبه في مرتع شبابه فيرتمبرج Wurttemberg• وقد رد على الظلم والاضطهاد بتوقيره روسو إلى حد العبادة، وبكتابة مسرحية ثورية• لقد أدان كارل مور Karl Moor (بطل مسرحيته اللص Die Rauber) (1871) استغلال الإنسان للإنسان فلم يترك شيئا لكارل ماركس غير أن هذا الأخير صاغ الأفكار نفسها بشكل ذي طابع أكاديمي• وتظل مسرحية شيلر الثالثة (كابال والحب Kabal und Liebe) (4871) هي الأكثر ثورية، فقد امتدح فيها استقامة البورجوازية الألمانية وصبر ها وحياتها المنتجة وكشف الغش والخداع والرشوة والغلو (التبذير) والمزايا التي يحصل عليها من لا ينتجون• وفي أفضل المسرحياته التي كتبها شيلر قبل الثورة وهي مسرحية دون كارلوس (7871) وكان وقتها في الثامنة والعشرين من عمره، نجده أكثر حرصا على عدم اغضاب نبلاء السلطة منه على عدم إغضاب الفقراء• لقد وضع على لسان الماركيز بوزا Posa عبارة مفادها أن فيليب الثاني هو أبو الشعب الذي يترك السعادة تنساب من مجدك ولتدع العقول تنضج (وتثمر) في أرجاء مملكتك الواسعة، لتكون أنت بين آلاف الملوك، ملكاً حقا(7)•
وعندما انتقل شيلر من مرحلة الشباب إلى مرحلة منتصف العمر انتقل بشكل طبيعي من الراد يكالية إلى الليبر الية• لقد اكتشف بلاد الإغريق القديمة وتعمق بدراسة مسرحييها (مؤلفي المسرح فيها)• وقرأ كانط وأشاع الغموض في شعره بمزجه بالفلسفة• وفي سنة 7871 زار فيمار وفتن بنسائها فبث فيه فيلاند Wieland وهيردرHerder الهدوء• (كان جوته في هذا الوقت في إيطاليا)• وفي سنة 7871 نشر كتابه (تاريخ ثورة الأرضي المنخفضة المتحدة Geschichte des Abfalls der vereinigten Niederlande) وتخلى عن فلسفته إلى التاريخ• وفي سنة 9871 تم تعيين شيلر أستاذاً للتاريخ في يينا Jena بناء على توصية قدمها جوته لدوق ساكسي فيمار Saxe - Weimar وفي أكتوبر من العام نفسه كتب إلى أحد أصدقائه: إنه لهدف صغير أن أكتب لأمة واحدة، فبالنسبة إلى فيلسوف يعتبر هذا الحد سجنا لا يطاق•• فالمؤرخ لايمكن أن يوهج أمة ويثير فيها حماسا إلا إذا جعلها (أو نظر إليها) كعنصر في مسيرة الحضارة وتقدمها(8)•
وعندما وصلت أخبار الثورة الفرنسية إلى يينا Jena كان شيلر في منتصف العمر ينعم بدخل جيد وقبول عام وفهم مقبول• وساعدت مراسلاته مع جوته عبر مسافة بلغت اثني عشر ميلا (وكان الفارق العمري بينهما عشر سنوات) الشاعر الكامن في جوته على أن تظل واقعية العمل الإداري حية عنده، وكذلك محاذير الرخاء، كما ساعدت شيلر على التحقق من أن الطبيعة البشرية لم تتغير إلا قليلا عبر التاريخ تغيرا لا يجعل الثورات السياسية مفيدة للفقراء• وتعاطف مع الملك الفرنسي وزوجته عندما قبض عليهما الثوار في فرساي في سنة 9871، وفي فارن Varennes في سنة 1971 وعند إخراجهما من القصر (الذي كان سجناً لهما) في سنة 2971 وبعد ذلك بوقت قصير أضفت حكومة المؤتمر الثورية على السيد المغفل Le Sieur Gilles لقب المواطن الفرنسي وبعد ذلك بأسبوع دلت مذابح سبتمبر على سلطة العوام المسلحين، وفي ديسمبر حوكم لويس السادس عشر، وبدأ شيلر في كتابة نشرة للدفاع عنه لكن المقصلة هوت على رقبة الملك الفرنسي قبل أن يكملها (يكمل نشرته) وابتسم جوته لتقلب اتجاهات صديقه السياسية، لكنه هو أيضا كان قد ابتعد كثيرا عن المسلمات التي آمن بها في شبابه• لقد كان لديه علاقات جنسية عابرة كثيرة بنسوة جميلات فاسدات قبل أن يدعى في سنة 5771 وهو في السادسة والعشرين من عمره لمغادرة فرانكفورت ليعيش في فيمار كشاعر للدوق شارلز أوجستس (أوغسطس) في وظيفة ثابتة وكرفيق له يمارسان معا الرذيلة بوجهيها (اللذه الجنسية بوجهيها أو بنوعيها in both formsّ)، وخلال الاثني عشر عاما التالية استوعب الحقائق الاقتصادية والسياسية وأحرز تقدما سريعا• لقد اختفى المؤلف الرومانسي الذي ألف في سنة 4771 Die Leiden des Jungen Werth ers وغاص في عمله الجديد كمستشار فرأى في انتصار فرنسا في معركة فالمي في سنة 2971 عصراً جديدا يتشكل في التاريخ الأوربي• إلا أن التدهور والفوضى اللذين عما الثورة الفرنسية في هذا العام نفسه (2971) جعله يخلص إلى أن الإصلاحات البطيئة في ظل مستبدين متنورين هذبتهم الفلسفة، وفي ظل حكام محليين متعلمين وحسني النوايا مثل دوق فيمار الذي يعمل معه - قد تكلف الشعب معاناة أقل من المعاناة التي يسببها التغيير السريع المفاجئ الذي قد يسبب انهيار القاعدة الأساسية للنظام الاجتماعي خلال عقد من الانفعال والعنف• وقد عبر في إحدى قصائد المنطوية على الحكمة Venetian Epigramsعن هذا الخوف في وقت مبكر يرجع إلى سنة 0971:
- ليحذر حكامنا قبل قوات الأوان مما أصاب فرنسا، - لكن أيها الناس يا من أنتم في الدرك الأسفل، فلتحذروا أنتم أيضا• - إذا ذهب الرجال العظماء بغير عودة فمن يحمي الشعب - عندها سيصبح الغوغاء القساة طغاة يحكموننا جميعا• لقد هلل سعيدا عندما أنهى نابليون فوضى الثورة بقبضه على زمام السلطة واعتماده دستورا يسمح للناس بإدلاء أصواتهم في استفتاء في بعض المناسبات دون تدخل كثيرفي أمور حكومة حاسمة متسمة بالكفاءة• ولا يقلل من تقديره للكورسيكي (نابليون) استقبال نابليون له بشكل مجامل في فرانكفورت في سنة 7081 وما قيل من أن هذا اللقاء أسهم كثيرا في شهرة هذا الشاعر المستشار شهرة عالمية•
وتغلغلت بعض اللمسات الرومانسية خلال تطوره الكلاسي الراسخ، حكماً وذوقا، فالجزء الأول من فاوست Faust (8081) عبارة عن قصة حب كما أنها تركز على أخلاق العصور الوسطى، كما أن عمله الذي أصدره سنة 9081 (Elective affinities) يبدو مؤيداً لصيحة الجيل الجديد، تلك الصيحة الصارخة المطالبة بأن يكون الانجذاب المتبادل هو أساس الارتباط لا أن يكون الأساس هو الارتباط الشرعي أو الدعم المالي للآباء• واستمر المستشار الذي أصبح فيلسوفا يرفرف حول النسوة الشابات حتى بعد أن بلغ من العمر عتيا، لكن دراسته للفن القديم في إيطاليا وتطور اهتمامه بالعلوم وقراءته للفياسوف سبينوزا Spinosa وتدهور نشاطه البدني - كل ذلك جعله واسع الأفق غير عجول في الحكم على الأمور• وقد أعلن عن هذا التغير في سيرته الذاتية (1181) التي تعرض فيها لحياته بشكل موضوعي• وكانت ألمانيا الرومانسية - التي أثرت فيها عواطف فاكنرودر Wackenroder ونوفاليز Novalis، والحب المتحرر الذي دعا إليه الكاتبان شليجل Schlegels، وخبل هولدرلين Holderlin وقتل الرحمة (انتحار كلايست) - قد امتعضت لنقده الثورة الفرنسية، نقداً عالي النبرة، ولم تلحظ إلا بالكاد أنه كان أيضا يسخر من الطبقة الحاكمة• والحقيقة أنه حتى في أثناء حرب التحرير الألمانية كان يجد صعوبة في كراهية نابليون والفرنسيين وقد شرح لإكرمان Eckermann قلائلاً:
كيف أستطيع أن أكره أمة من بين أكثر أمم الأرض ثقافة؟ كيف أستطيع أن أكرهها وأنا مدين لها بقدر كبير جدا مما لدي؟ أتستوي عندي الثقافة والبربرية!؟ هناك مرحلة يختفي فيها العداء بين الأمم تماما حيث يقف المرء وقد تسامى فوق الأممية ليشعر أن آلام شعب مجاور وسعادته هي نفسها آلامه هو وسعادته(9)• ولم يسامحه أبناء جيله أبداً وقلما كانوا يقرأونه واعتبروا شيلر أفضل منه(01) وقلما كانت مسرحياته تعرض في فيمار، واشتكى الناشرون من قلة مبيعات (أعماله الكاملة المجمعة) ومع هذا فإن رجلا إنجليزيا هو اللورد بايرون أهدى إليه في سنة 0281 في صدر مؤلفه (Marino Faliero) كتابه لأنه إلى حد بعيد أول شخصية أدبية في أوربا منذ وفاة فولتير(21) ولم يكن يطيق قراءة كانط، لكنه كان أحكم رجال عصره•
الساحة الأدبية
لقد كانت ألمانيا مشغولة انشغالاً لم تعهده أبداً من قبل كانت مشغولة بالكتابة وبالرسم ونشر الصحف والدوريات والكتب• ففي سنة 6971 توصل ألويز سينفلدر Aloys Senefelder في ميونخ لما عرف فيما بعد بالطباعة الحجرية (الطباعة على الحجر) ذلك أنه حك (فرك) حلي أمه المثبتة في ملابسها المغسولة بحجر، فترك هذا الحك أثراً فتراءى له أن الكلمات والصور والألوان المختلفة يمكن بالحفر الغائر أو الحفر البارز على حجر ناعم أو لوح معدني، طباعتها والحصول على ما لايحصى من النسخ منها (على أن يتم النقش بطريقة عكسية لتكون الكلمات المطبوعة في وضعها الصحيح - أي كتابتها معكوسة لتبدو سوية كما في حالة المرآة) ومن هنا ظهر طوفان من الصور والرسوم المطبوعة بدءا من جويا Goya وهيروشيج Hiroshige إلى كورييه Currier وإيفز Ives وبيكاسو Picasso.
وكانت الصحف كثيرة وصغيرة الحجم وموالية وخاضعة للرقابة• فصحيفة أليماني تسايتونج Allgemeine Zeitung (الوقائع الألمانية) أسست في توبنجن Tubingen في سنة 8971 ثم انتقلت إلى شتوتجارت ثم إلى أولم Ulm ثم إلى أوجسبورج Augusburg ثم إلى ميونخ لتتحاشى البوليس المحلي• وصحيفة كولنيش تسايتونج Kolnische Zeitung تم تأسيسها في سنة 4081 وكانت مقالاتها وأخبارها أكثر هدوءا، وكانت وطنية كاثوليكية ثم أصبحت نابليونية• وكان في كل من فينا وبرلين وليبزج (ليبتسج) وفرانكفورت ونورمبرج صحف ظهرت في وقت سابق على قيام الثورة الفرنسية وظلت تؤدي عملها حتى الفترة التي نتحدث عنها• أما الدوريات والمجلات فكانت كثيرة، من أجملها دورية الموسيقا الألمانية Allgemeine Musikalische (أليماني موزيكاليشي) التي نشرتها في ليدن شركة برايتكوبف وهارتل Breitkopf und Hartel، وظلت تصدر من 5971 إلى 9481 أي من ثورة إلى أخرى• أما أكثرها تألقا فهي دورية أثيناوم Athenaum التي أسسها الأخوان شليجل في سنة 8971• وكان الناشرون كثيرين• كما كان المعرض الدولي للكتاب في ليبزج (ليبسج) حدثا أدبيا سنويا•
وكان لطائفة خاصة من الكتاب - تم تصنيفهم تصنيفا مرنا باعتبارهم (الخبراء في الشؤون العامة) - تأثير واسع لانحيازهم الشديد لقضاياهم وإن كانوا رغم انحيازهم يمتلكون ناصية المعلومات لمناقشة قضايا العصر الأساسية• لقد هلل فريدريش فون جينتس Von Gentz (4671 - 2381) لسقوط الباستبل، لكنه قلل من حماسه عندما التقى بفيلهيلم فون همبولدت Wilhelm Von Humboldt ذي العقلية المتشككة، وقد قرأ كتاب بروك Bruke عن الثورة الفرنسية (Reflections on the French Revolution) وترجمه• وبعد أن ترقى في الخدمة المدنية البروسية إلى درجة مستشار في وزارة الصناعة قاد معركة أدبية ضد أفكار مثل حقوق الإنسان والحرية والمساواة وسيادة الشعب وحرية الصحافة• ولم يرض عن الثورة الفرنسية حتى بعد أن خفف نابليون من غلوائها• وهاجم نابليون كعسكري أدت غزواته إلى الإخلال بتورازن القوى الذي كان يقوم عليه سلام أوربا ونظامها وسلامتها - وكان هذا هو رأي معظم الدبلوماسيين• وأصبح أفصح الأصوات وأكثرها بلاغة حاثّاً فريدريك وليم الثالث على شن حرب لاهوادة فيها (النص صليبية Crusado) ضد نابليون، فلما تردد الملك البروسي، ترك جينتس Gentz خدمته وراح يقدم خدماته للنمسا (2081)• وعندما اجتاح نابليون النمساويين في معركة أوسترليتز Austerlitz لجأ جنتس Gentz إلى بوهيميا لكنه عاد إلى فينا في سنة 9081 وراح يدعو لشن حرب جديدة ضد نابليون• وكان سكرتيرا ومساعداً لميترنيخ في مؤتمر فينا وأيده في سياسة ما بعد الحرب التي تبناها ميترنيخ بإبعاد كل تأثير ليبرالي ومنعه من التطور• وكان وقت ثورة 0381 عجوزا مريضا ومات وهو مقتنع أنه خدم مصالح البشرية بشكل جيد•
أما جوزيف فون جورز Gorres فكان ذا روح أكثر حساسية، وكان نصف إيطالي، ومفعماً بالعواطف ولايكاد يصلح للصراع الحاد وخوض المعارك الأدبية الشرسة• ولد كاثوليكيا، فترك مهمة دعم الثورة للكنيسة (!) وعاون الفرنسيين في فتح مناطق غرب الراين وهلل تحويل نابليون الإمبراطورية الرومانية المقدسة إلى رابطة الراين (الراينبوند Rheinbund) وهلل لفتح الفرنسيين لروما تحت شعار روما حرة، لكن تكبر عسكر الجيش الفرنسي وابتزاز الإداريين الفرنسيين أثار سخط الشاب الثوري• وفي سنة 8971 أسس صحيفة ضعيفة هي (صحيفة الورقة الحمراء Das rothes Blatt) كصوت جمهوري يحب الثورة الفرنسية لكنه لا يثق في الفرنسيين• ورأى في استيلاء نابليون على السلطة في فرنسا نهاية للثورة الفرنسية، كما رأى في نابليون نفسه شخصا تواقا للسلطة بشكل خطر، وعندما هبت ألمانيا لتحارب من أجل التحرير انضم جورز Gorres للمعركة بإصدار صحيفة راينيشي ميركور Rheinische Merkur، لكن عندما فرض المنتصرون - بعد إزاحة نابليون - ردة سياسية (حركة رجعية سياسية) في كل المجالات التي استطاعوا فرض إراداتهم فيها، هاجمهم جورز Gorres بحده شديدة وضراوة حتى إنهم اضطروه للجوء إلى سويسرا حيث عاش في فقر مدقع• ولم يعد محط النظر فعاد نادما حزينا لحض الكنيسة الكاثوليكية (4281) وانتشله لودفيج الأول البافاري من الفقر والعوز بتعيينه أستاذاً للتاريخ في ميونيخ• هناك كتب كتابه ذا المجلدات الأربعة (أسرار المسيحية Chrisliche Mystik) (6381 - 2481) وراح يسلي أيامه بالخيالات، ويسود لياليه بالرؤى الشيطانية• وبعد موته بأربعة وثلاثين عاما تم تأسيس جمعية أحباء جورز Gorres Gesellschaft (6781) لمواصلة أبحاثه في تاريخ الكنيسة• وساد الرومانسيون النثر، لكن كاتباً واحدا ظل متفردا وتملص منهم، إنه جين (جان) بول ريشتر (ريختر) الذي بدأ حياته في بيروث Bayreuth في سنة 3671• ويرجع اسمه المسيحي إلى جده جوهان (يوهان) بول كوهن (كون) Kuhn وحتى سنة 3971 كان يطلق عليه ببساطة هانز Hans• وكان أبوه معلما في مدرسة وعازف أرغن وأصبح قسا في كنيسة في جوديتس Joditz على نهر سال Saale، وهناك قضى هانز أعوامه الثلاثة عشر الأولى في سعادة وشكل هذا المحيط الريفي البسيط مزاجه خلال المتاعب الاقتصادية والعواصف اللاهوتية•
وعندما انتقلت الأسرة إلى شفارتسنباخ Schwarzenbach الواقعة على هذا النهر الهادئ نفسه (سال Saale) نعم بمكتبة رجل دين من الجيران، واعترف رجل الدين هذا بإمكانيات هذا الصبي ولكنه لم يعترف بما يراود الفتى من شكوك• ومات والد ريشتر (ريختر) في هذا المكان (977) تاركا ذرية ضعافا قليلة الموارد)، وعندما بلغ هانز Hans العشرين من عمره دخل مدرسة اللاهوت في ليبزج (ليبسج) لكن قراءاته أضعفت عقيدته، فسرعان ما انسحب من الدراسة وراهن على أن يعيش من قلمه، واستطاع أن ينشر في سنة 3871 وهو في العشرين من عمره، ولكنه لم يستطيع ذلك مرة أخرى إلا في سنة 9871 وفي كلتا الحالتين تعرضت كتاباته لهجاء ساخر مما جعل المثقفين الساخرين يشفقون عليه• وفي سنة 3971 أصدر (الكوخ الخفي Die unsichtbre Loge) باسم مستعار هو جين (جان) بول، وقد اختار الاسم (جان) حباً منه في جان روسو، وحظي الكتاب بعدد قليل من القراء زادوا بعد ذلك بالنسبة لروايته الوجدانية التالية (هيسبيروس Hesperus) (5971)، فدعت شارلوت فون كالب kalb صديقة شيلر المؤلفَ الصاعد إلى فيمار وسعدت به حتى إنها أصبحت خليلته(31)• وبدأ في فيمار تأليف روايته ذات الأربعة مجلدات تيتان Titan (0081 - 3081)، وكان البطل الحقيقي لهذه الرواية هو الثورة الفرنسية• ودافع المؤلف بعاطفة جياشة عن الثورة الفرنسية في سن تكوينها لكنه أدان مارا Marat لإفسادها بحكم الغوغاء، وامتدح شارلوت كورداي Corday باعتبارها جان دارك الثانية• ورحب باستيلاء نابليون على السلطة كأمر ضروري لاستعادة النظام، وبعد ذلك بثمانية أعوام كان ريشتر (ريختر) راغباً تماماً في أن يرى أوروبا كلها وقد توحّدت على يد هذا الرجل (نابليون) الذي يستطيع أن يمسك بها بعقله ويده وقوانينه التي تسري من فرنسا إلى برلين وموسكو• لكن جين (جان) بول كان في قرارة نفسه جمهورياً يرى في كل انتصار عسكري مقدمة لحرب أخرى• وأشفق على الشباب الذين جندهم نابليون، وعلى الأسر الحزينة لفقد أبنائها•
وساق الأدلّة على أن الشعب وحده هو الذي يجب أن يتخذ قرار الحرب، لأنه هو وحده الذي يعاني ويلاتها ونتائجها وأطلق من جرابه أقسى رماحه على الحكام الذين يبيعون جيوشهم للحكام (أو الملوك) الأجانب• وطالب بإلغاء الرقابة حتى تستطيع بعض القوى خارج الحكومة أن تكون حرّة في كشف أخطاء الحكومة وعَرْض إمكانات التقدم(41)• وتزوج جين (جان) بول Jean Paul وهو في الثامنة والثلاثين وفي سنة 4081 استقر في بيروث Bayreuth، وبعد أن خاض تجارب حية كتب كتاباً عن التعليم (Lavana) وهو واحد من كلاسيات البيداجوجا الليبرالية (علم أصول التدريس الليبرالي، وتوسع علم التربية الليبرالي) وأصدر عدداً كبيراً من الروايات والمقالات، ترجم بعضها كارليل Carlyle لإعجابه بها• وكان مزجه بين النقد الواقعي والمشاعر الرومانسية قد جعل قراءة أكثر من قراء جوته (جيته) أو شيلر• ومات في سنة 5281 تاركاً مقالاً لم يكتمل عن خلود الروح• لقد شهد عصره بداية اكتشاف المادة، وظلت شهرته كأحد المؤلفين الألمان الروّاد تطبق آفاق أوروبا حتى منتصف القرن التاسع عشر، وبعد أن خمدت شهرته في أوروبا انتقلت محلِّقة في أمريكا حيث كان لونجفلو Longfellow واحداً من المتحمسين له• ولا نكاد نجد أحداً يقرأه الآن في ألمانيا لكن المؤكد أنَّ كلَّ ألماني يتذكر قوله المنطوي على الحكمة، والذي كان يقصد به توجيه طعنة إلى الفلسفة الألمانية، وتلخيص عصر نابليون على نحو يفوق كتابنا هذا: إن الله قد أعطى الإنجليز إمبراطورية البحر، وأعطى الفرنسيين إمبراطورية البر، وأعطى الألمان إمبراطورية الهواء()(51)•
وهناك كاتبان آخران من كتّات القصة كان لها جمهور عريض كان إرنست تيودور فيلهلم هوفمان Hoffmann (6771-2281) واحداً من أكثر الألمان تعدداً للمواهب والاهتمامات بشكل غير عادي، وقد غيَّر الاسم فيلهلم Wilhelm إلى أماديوس Amadeus في سنة 3181: لقد كان رساما ومؤلفاً للموسيقا وعازفاً لها ومخرجاً للأوبرا وممارساً قانونياً وكتب قصصاً بوليسية ورواية ألهمت جاك أوفنباج Offenbach في مؤلفه (حكايات هوفمان) (1881)• أما أدلبرت فون كاميسو Adelbert Von Chamisso (1871 - 8381) فكان متفردا في حياته وأدبه• لقد كان بحكم الميلاد نبيلاً فرنسياً، ترك فرنسا إثر أحداث الثورة الفرنسية وتلقى معظم تعليمه في مدارس ألمانيا وتم تجنيده في كتيبة عسكرية بروسيّة وحارب فرنسا في معركة يينا Jena وفي سنة 3181 كتب قصة رمزية هي Peter Schlemihls Wundersame Geschichle يبث فيها فيها تَمزُّق ولائه وحنينه لبلاد آبائه وأجداده• لقد كانت حكاية غريبة عن رجل باع ظلّه للشيطان• وكان عالم نبات راسخاً ذا شهرة، فصحب أوتو فون كوتسبو Otto Von Kotzebue في رحلته العلمية حول العالم (5181-8181) وسجل اكتشافاته في مؤلّف حقّق شهرة في وقت من الأوقات يحمل عنوان (رحلة حول العالم Reise um die Welt) وقسّم ما بقي من عمره بين عمله كمسؤول عن حديقة برلين للنباتات، وكتابة الشعر الرومانسي، وقد امتدح هينريش (هينرخ) هاين Heine قصائده ووضع روبرت شومان Schumann موسيقا لسلسلة أشعاره عن الحب والنساء• وكان عدد الشعراء كبيراً ولا يزال كثير منهم في ذاكرة الشعب الألماني، لكن من الصعب نقل أشعارهم إلى لغة أخرى أو بلاد أخرى أو زمن آخر غير الزمن الذي قيلت فيه هذه الأشعار، لارتباط كلماتها بالموسيقا وبمشاعر خاصة• وكان فريدريش (فريدريخ) هولندرلين Holderlin (0771 - 3481) هو الأكثر مدعاة للشفقة منهم، فقد ثبت أن حاسيته الشعرية كانت حادة جداً بالنسبة إلى صحته النفسية والعقلية، ذهب إلى توبنجن Tubingen للدراسة ليصبح واحداً من رجال الدين فكون علاقة صداقة حافزة مع جورج هيجل Hegel الذي كان وقتها قد وضع المسيحية موضع الشك، وراح الفتى يحلم بسعادة البشرية عندما وصلته أخبار الثورة الفرنسية• لقد قرأ روسّو وألف ترانيم الحرية وفي سنة 2971 وكان في آخر قرن يحتضر (القرن 81) راح يظن أنه رأى فجراً رائعاً لعصر من العدالة والنبالة• وعندما اندلعت الحرب كتب لأخته صَلِّ من أجل الفرنسيين، نَصِيري حقوق الإنسان وعندما غرقت الثورة الفرنسية في الدم تعلّق بحلمه يائساً:
حُبِّي هو الجنس البشري - ولست أقصر بطبيعة الحال هذا الجنس الفاسد المرتشي الذليل التافه الذي غالباً ما نلتقي بأفراده• إنني أحب العظمة والكفاءة حتى لو وُجدت بين شعوب فاسدة• إنني أحب الجنس الذي لم أره بعد، أحب جنس البشر الآتي من القرون القادمة•• إننا نعيش في زمان يتجه فيه كل شيء إلى التحسّن• إنها بذور التنوير حيث تلك الرغبة الصامتة والنضال لتعليم الجنس البشري••
إن هذا سيكون له ثمار عظيمة• هذا هو الهدف المقدس لرغباتي ونشاطي (عملي) - هو أن أزرع البذور التي ستثمر شجرتها ثماراً ناضجة من جيل آخر غير جيلي(61)•
حتى الماضي كان يسمح له بالحلم، فقد وقع في حب أبطال اليونان الكلاسية (القديمة) مثله في ذلك مثل معاصره كيتس Keats ، فبدأ ملحمة نثرية عن الثوار الإغريق هي ملحمة (هيبريون Hyperion)• وأخذ طريقه إلى يينا Jena فدرس على يد فيشه Fichte وتعلم كيف يحترم كانط وقابل أرباب فيمار عندما كانوا هم أيضاً معجبين بالثقافة الهيلينية• ودبّر له شيلر وظيفة معلّم ومرشد لأحد أبناء شارلوت فون كالب Kalb، وفي سنة 6971 وجد في بيت المالي banker جوتهارد J.F. Gotthard في فرانكفورت - آم - مين Frankfurt - am - Main وظيفة ذات عائد مالي أعلى، وكانت وظيفة مرتبطة أيضاً بتعلم الأبناء ووقع في حب زوجة هذا المالي Banker وقد قدّرت الزوجة أشعاره كثيراً، وأدى هذا إلى طرده من الوظيفة وإجباره على مغادرة المدينة• وأدَّى به الشوق والنفي إلى شيء من الهوس، ومع هذا ففي هذا الوقت (9971) كتب قصيدة (Der Tod des Empedokies) التي تعد من بين روائع الشعر الألماني• وظل لعدة سنوات يجول المدن بحثاً عن مورد رزق وإلهامات لأشعاره• وطلب من شيلر أن يوصي به ليكون محاضراً في الأدب اليوناني لكن شيلر وجده لا يصلح لكرس الأستاذية فلم يوص به وبينما هو يعمل معلما خصوصيا في بوردو Borseaux تلقى (هولدرلين) خبر وفاة مدام جوتهارد Gotthard فترك وظيفته وعاد سيرا على الأقدام عبر فرنسا إلى ألمانيا حيث اعتنى به أصدقاؤه (2081) عندما وجدوه وقد اختل عقله بدرجة كبيرة، وعاش حتى سنة 3481 وظلت قصائده مهملة منسية لفترة طويلة، حتى هو نفسه كان قد نسيها لكن رينر ماريا ريلكه Rainer Maria Rilke وستيفان جورج امتدحاه، وتضعه المجامع الأدبية الآن في مرتبة بعد جوته وشيلر مباشرة• وهناك شعراء آخرون كثيرون، منهم كارل تيودور كورنر Korner (1971 - 3181) وهو ابن كريستيان جوتفريد كورنر الذي كان قد عاون شيلر كثيرا(71)، وقد خاض بسيفه وبقلمه (أي كارل تيودور كورنر) حرب التحرير ضد نابليون وأنهض همم الألمان بدعوتهم للسلاح ومات في المعركة (62 أغسطس 3181)• أما إرنست موريتس (موريس) أرندت Arndt (9671 - 0681) فشهد خلال عمره البالغ واحداً وتسعين عاما ثلاث ثورات• لقد عمل على إلغاء النظام الإقطاعي في بوميرانيا بوصفه - بشكل واقعي في مبحثه (مقالات نحو التاريخ Versuche einer Geschichte) (3081) وفي مبحثه Die Geist der Zeit (6081) وأطلق صرخة مدوية ضد نابليون حتى إنه اضطر إلى اللجوء إلى السويد بعد انتصار نابليون في يينا Jena• وفي سنة 2181 دعاخ شتاين Stein إلى سان بطرسبورج ليساعد في تحريض الشعب الروسي على طرد الغزاة الفرنسيين• وبعد سنة 5181 كافح في بروسيا لمقاومة الإجراءات المحافظة فسجن• وفي سنة 8481 تم انتخابه عضوا في الجمعية الوطنية في فرانكفورت وعندما اضطربت هذه الثورة أيضا (ثورة 8481) وجه قريحته الشعرية بشكل نهائي إلى التقوى (المقصود الدين)• وكتب جوزيف فون أيشندورف Eichendorff (8871 - 7581) النبيل الكاثوليكي قصائد بسيطة لازالت تحرك مشاعرنا، ومنها قصيدة (عند موت طفلي Auf meines Kindes Tod)، فهنا يمكن حتــى للغريــب المتشــكك أن يشعــر بالموســيقا الشــعرية ويشــارك في المشاعــر ويحســد الأمل:
الساعات تدق من بعيد؛
سنصبح حالاً في جوف الليل؛
ضوء ذبالة المصباح صار خافتا؛
لقد تم إعداد مخدعك الصغير؛
الرياح وحدها هي التي لاتزال تتحرك
تنتحب حول البيت
الذي نجلس فيه ولا أنيس
وغالبا مانصغي لما يجري خارجه
آه، كما لو أنك تحاول برفق
أن تطرق الباب
آه، كما لو أنك ضللت طريقك مع أنك تعرفه
فعدت راجعا حزيناً
إننا بؤساء• إننا مغفلون بؤساء
نعم فنحن نجول في الظلمة المخيفة
حتى اليأس
لقد كنت تجد بيتك (لا تضل عنه) في الأيام الخوالي•
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الوجد الرومانسي
كان أكثر الكتاب تألقا في هذا الأوج الألماني هم أولئك الذين روعوا عصرهم بصيحات الغرائز وانفلاتها من قيود العقل، وانفلات المشاعر من أحكام الفكر وانفلات الشباب من حكم كبار السن وانفلات الفرد من ضوابط الأسرة والدولة• إن القليلين منّا هم الذين يقرأونهم هذه الأيام لكنهم كانوا في جيلهم ألسنة لهب تشعل النار في المفكرين والمثقفين الذين كانوا مهيئين لها، وفي الروابط الاجتماعية التي تحبس النفس - المحلقة بطبعها - داخل قيود العادات والمحرمات taboo والأوامر والقانون•
وكان مصدر هذه الثورة هو الاستياء الطبيعي الذي ينظر من خلاله أي مراهق للقيود التي يفرضها الوالدان والإخوة والأخوات والمعلمون والدعاة ورجال الشرطة والنحاة والمناطقة وعلماء الأخلاق• ألم يثبت الفيلسوف الذائع فيشته Fichte أن الحقيقة الأساسية لكل منا هي وعيه الفردي بنفسه؟ وإن كان الأمر كذلك، فإن الكون لا يعني لأي منا شيئا سوى ما يتعلق بتأثيره في الشخص نفسه، وقد يحق لأي منا أن يتوقف أمام التراث والتقاليد والمحاذير والقوانين والعقائد ليطلب السبب الذي يجعل طاعتها لازمة أو بتعبير آخر من حق الفرد أن يتساءل لم يجب عليه احترام التقاليد والموروثات والمحاذير والقوانين والعقائد• إن المرء قد يرضخ لوصايا الله خوفاً منه، أو لوصايا أحد رجال الله الذين اكتسوا بالقداسة، لكن كيف يكون الأمر وقد تحول الله عند ديدرو Diderot ودلمربير d, Alembert وهيلفيتيوس Helvetius ودولباش d, Holbach ولامتري Lo Mettrie إلى مجرد قوانين موضوعية تسيّر الكون؟
وقد أضيفت الآن الثورة إلى حركة التنوير الفخورة المتحررة لقد ذابت التقسيمات الطبقية، فأولئك اللوردات الذين كانوا ذات يوم يصدرون القوانين وينتزعون الطاعة أصبحوا الآن يسارعون إلى الهرب• فلم يعد هناك حاجز بين الطبقات، ولم يعد هناك غول من الموروثات والتقاليد يساند القوانين• الآن أصبح في استطاعة أي فرد أن يكمل طريقه ليصل إلى أي وضع وأي سلطة، وله أن يختار الطريق إلى المقصلة• لقد فتح الطريق أمام أصحاب المواهب وأصحاب المخالب• لم يحدث أبدا في تاريخ الحضارة المعروف أن كان الإنسان على هذا القدر من الحرية - حرية أن يختار عمله ومشروعه ورفيقه وزوجه (أو زوجته) ودينه وحكومته ونظامه الأخلاقي• وإذا خلت الساحة إلا من كيانات الأفراد فماذا بقي للدولة (ككيان) والكنيسة والجيش والجامعة؟ لن يبقى إذن سوى مؤامرات أفراد يتمتعون بمزايا خاصة للإرهاب والهمجية، ولتشكيل الأمور وفسخها، ولفرض الضرائب وتسيير أمور الحكم، وليسوقوا الباقين إلى المذابح؟ وقلما تستطيع عبقرية أن تحقق إنجازاً في ظل هذه القيود، ثم أليست عبقرية واحدة عدل عدد كبير من المعلمين والجنرالات والباباوات والملوك أو مئات التيجان؟
وعلى أية حال فقد كان هناك إلى جانب هذا الاتجاه الجديد الداعي إلى التحرر من كل شيء، كثير من الأرواح الحساسة التي شعرت أن العقل قد انتزع الكثير في طريقه إلى التحرر• فالعقل هو الذي هاجم الدين القديم بما فيه من حكايات القديسين وطقوس عطرة، وموسيقاً محركة للمشاعر، ومريم العذراء الشفيعة والمسيح المخلص (بتشديد اللام وكسرها)• وكان العقل هو الذي أحل محلّ هذه الرؤى السامية عمليات مادية كئيبة تتحرك بلا هدف نحو الدمار، وكان العقل هو الذي أحل محل صورة امرأة ورجل يعيشان في تواصل يومي مع المعبود، صورة رجل وامرأة مجسدين يقتربان كل يوم أكثر فأكثر بشكل تلقائي (أوتوماتيكي) على نحو مؤلم منحط، حتى يأتي موت لا قيامة بعده (موت أبدي)• إن للخيال حقه حتى ولو لم يكن متسقا مع القياس المنطقي، وإننا لأكثر استعداداً للتفكير في أنفسنا كأرواح تتحكم في المادة أكثر من استعدادنا للتفكير في أنفسنا كآلات تتحكم في الأرواح• وللمشاعر حقها، وهي تترك آثارا أعمق من الفكر والعقل• فالمتجول البائس وجان جاك المندهش قد يشعر بالحكمة ويحس بها أكثر من العفريت المؤذي (الولد الشقي) في فكر فرني Ferney thought.•
لقد كانت ألمانيا قد عرفت روسو وفولتير وسمعت عنهما لكنها اختارت روسو• لقد قرأت - وأحست - بكتابيه أميل Emile وهيلويس Heloise، وفضلتهما على (القاموس الفلسفي Philosophical Dictionary) و (كانديد Candide) وقد تبعت ألمانيا ليسنج في تفضيله رومانسيات شكسبيكر على كلاسيات راسين Racine• لقد كانت ألمانيا أكثر استعداداً لتقبل (كلاريسا هارلو Clarissa Harlowe) و (تريسترام شاندى Tristram Shandy) وشخصية (أوسيان Ossian) في كتابات مكفرسون Macpherson عن مفكري باريس وأصحاب صالوناتها• لقد رفضت (ألمانيا) القواعد التي وضعها بوالو Boileau كقوانين للأسلوب الكلاسي• لقد امتعضت (ألمانيا) من التركيز على الوضوح والاعتدال، فهما لايتسقان مع الحماسة والوصول إلى الخلود، ومطلع النور• لقد كانت الرومانسية الألمانية تحترم الحقيقة إن كان لها وجود، لكنها (أي الرومانسية الألمانية) كانت تشك في الحقيقة العلمية التي جعلت وجه الحياة كئيبا• لقد ظلت ألمانيا تحتفظ - بحب - في ذاكرتها بالحكايات الخيالية وحكايات الجنيات التي قام كليمنز برينتانو Clemens Brentano (8771 - 2481) وأشيم فون أرنيم Achim Von Arnim (1871 - 1381) بجمعها في مؤلف بعنوان Des Knaben Wunderborn (5081 - 8081)، وقام أيضا الأخوان جريم Grim (جاكوب، 5871 - 3681، وفيلهلم، 6871 - 9581) بتجميع آخر بعنوان Kinder - und Hausmarchen (2181)• لقد كانت هذه الحكايات هي صدى لطفولة الأمة وطفولة الأفراد، وكانت جزءاً من روح الألماني الطيب وربما كانت انعكاساً لما وراء الوعي عنده• وإذا كان لا بد لهذا التراث الخيالي الذي يعود إلى ما قبل الثورة؛ إلى كاثوليكية العصور الوسطى وإلى روح القصة الشعرية أن يعود فإنه يقود ألمانيا إلى الكاتدرائيات القديمة التي كستها الطحالب لفرط قدمها وإلى العقيدة الراسخة التي لا تحتمل الشك والحرفيين المهرة الذين يغمرهم النشاط والمرح، ولا بد أن يقود ألمانيا إلى الصلوات والدعوات والترانيم الدينية وأجراس والكنائس مما يجعل الرب حاضرا في الحياة اليومية للناس، ويمزج الأفراد المرهقين بمجموعة القديسين والصالحين الذين كانت حياتهم ملحمة مقدسة في التاريخ المسيحي• وبالأم العذراء Virgin Mother التي نذرت بتولتها وعذريتها للأسرة المقدسة والأمة والجنس البشري• وكان كل هذا بطبيعة الحال بقايا ذوات طابع حماسي من العقائد الوسيطة (العقائد التي سادت في العصور الوسطى) وما صاحبها من مخاوف، وهراطقة لابد من تجريمهم وأرواح حائرة، ومع هذا فقد بلغت بكثيرين من الرومانسيين الألمان ذروة التوهج والحماس وراح بعضهم - ندماً وتوبة - يلقون بأنفسهم على أعتاب المذابح الكنسية في أحضان الكنيسة الأم•
أصوات المشاعر
لقد كادت الرومانسية الألمانية تؤثر في كل مناحي حياة الأمة: لقد أثرت في موسيقا بيتهوفن وفيبر Weber وفيلكس مندلسون Felix Mendelssohn، وفي روايات هوفمان وتيك Tieck وفي فلسفة فشته وشيلنج Schelling، كما كان لها تأثيرها في الدين كما وجدنا عند شلايرماشر Schleiermacher ومئات من المتحولين للمسيحية مثل فريدريش شليجل، ودوروثيا مندلسون Dorothea Mendelssohn• لقد قاد خمسة رجال - على نحو خاص - هذه الحركة في الأدب الألماني، ولا بد أن نذكر من بينهم امرأة رومانسية شاركتهم الحب المنطلق أو المقيد كما شاركتهم الاهتمامات الفكرية مما صدم العقيلات المحتشمات من فرانكفورت إلى الأودر•
وكان بالقرب من منابع الحركة طائر يحرك جناحيه ونعني به فيلهلم هينريش فاكنرودر Vackenroder (3771 - 8971) وهو كاتب خجول سهل الانقياد غير مرتاح للحقيقة (الواقع) والعقل، إنما كان يجد راحته في الدين، وكان يجد سعادته في الفن• لقد رأى في قدرة الفنان على التصور والتنفيذ شبها قريبا بعملية الخلق• وقد صاغ دينه الجديد هذا في مقالات ذات طابع ديني تعبدي تناول فيها ليوناردو، ورافائيل، وميكل (ميشيل) أنجلو، ودوتر Dutter••• ووجد دعما لاتجاهه هذا في جامعتي جوتنجن وإرلانجن Erlangn، إذ أيده لودفيج تيك Tieck وتحمس له واقترح لكتابات صديقه عنواناً طريفاً هو: (فيوضات قلبية لأخ مسيحي عاشق للفن Hrzensergiessungen eines Kunstlibenden Klosterbruders) ولأن هذه المقالات أخذت طابعا مسيحيا فقد وجدت لها ناشرا في سنة 7971• لقد سخر فاكنرودر من المذهب العقلي الذي أخذ به ليسنج ومن المذهب الكلاسي الذي أخذ به فنكلمان Winckelmann، وكانت سخريته هذه تكاد تكون بالحدة نفسها التي تجنح إليها البورجوازية الألمانية لإعلاء الفن والسموّ به، وراح فاكنردور يعمل في عصره على إعادة أخويات الفنانين والعمال التي كانت سائدة في العصور الوسطى• وأصيب فاكنردور بالتيفود فمات وهو في الرابعة والعشرين من عمره•
وظل صديقه تيك Tieck (3771 - 3581) طوال ثمانين عاما يلعب مباراة خطرة (فيها مخاطرة) إذ راح يؤيد المشاعر في مواجهة العقل، ويؤيد الخيال في مواجهة الواقع reality• لقد كان هو وفاكنرودر Wackenroder قد درسا الدراما في العصر الإليزابيثي والفن في العصور الوسطى، وابتهجا لسقوط الباستيل• إلا أن تيك كان يختلف عن فاكنرودر في عدة أمور منها أنه كان يتمتع بروح الفكاهة ونزعة للعب• لقد شعر أن الحياة مباراة يلعبها الأرباب مع الملوك والملكات والأساقفة والفرسان والحصون والكاتدرائيات، والرهانات متواضعة (بسيطة)، أو بتعبير آخر جائزة الفائز في المباراة بسيطة• وعندما عاد لمسقط رأسه برلين بعد أن قضى أيام الجامعة نشر في الفترة من 5971 إلى 6971 رواية في ثلاثة مجلدات نشر في الفترة من 5971 إلى 6971 رواية في ثلاثة مجلدات (Die Geschichte des Herrn William Lovell) كتبها على نمط أسلوب رتيشاردسون، ووصف فيها بتفاصيل حساسة العلاقات الجنسية والانتقالات بين ربوع الفكر لشاب تخلى عن الأخلاق المسيحية واللاهوت المسيحي وانتهى إلى أنه ما دامت النفس - على وفق نظرية المعرفة عند فشته - هي الحقيقة الوحيدة التي يمكننا معرفتها بشكل مباشر، فلتكن إذن هذه النفس (الذات) هي معيار الأخلاق وواضع القوانين:
لا توجد كل الأشياء إلا لأنني أفكر فيها، ولا وجود للفضيلة إلا لأنني أظن وجودها (أفكر فيها) •••• الحق أقول لكم إن الرغبة الجنسية هي السر الكبير لوجودنا• فالشعر والفن، بل وحتى الدين، هي مجرد شهوة جنسية مقنّعة• وأعمال النحاتين وشخوص الشعراء ورسوم الفنانين التي نركع أمامها ليست سوى مقدمة للمباهج الحسية••
إنني أشفق على الأغبياء الذين يثرثرون ثرثرة المعتوهين عن الإثم والفسوق اللذين ترتكبهما حواسنا• وإنهم بائسون مصابون بالعمى• إنهم يقدمون الأضاحي لرب عنين (عاجز جنسيا) لا يمكن أن تسعد عطاياه قلب الإنسان••• لا، إنني وهبت نفسي لخدمة إله أعلى تنحني أمامه كل الخلائق، إله يوحّد في طياته كل مشاعر الطرب والنشوة والحب وكل شيء••• ففي أحضان لويزا فقط عرفت ما هو الحب، وذكرى أميليا Amelia تبدو لي الآن على البعد باهتة قليلا يغلفها الضباب(81) هنا وقبل (الإخوة كرامازوف The brothers Karamazov) (0881) بخمسة وثمانين عاما نجد نبوءة إيفان كرامازوف بأن قرنا من التسيب الأخلاقي سيأتي بعده: إذا لم يكن الله موجودا فكل شيء مباح وعلى أية حال فإن لوفيل Lovell (بطل رواية تيك الآنف ذكرها) عاد للدين قبل أن يموت• لقد قال إن أكثر المفكرين الأحرار طيشا ولا مبالاة أصبح أخيرا متعبدا(91) وكان هذا الاعتراف مناسبا تماما وفي وقته ذلك أنه قتل بعد ذلك بفترة وجيزة في مبارزة•
وكان الكتاب مفخرة لشاب تحرر قبل أن يصل لسن (العقل)• وفي سنة 7971 نشر قصة قصيرة (إكهرت الشقراء Der blonde Eckhert) حازت إعجاب الأخوين شليجل• وذهب إلى يينا Jena بناء على دعوتهما، كانت يينا وقتها معقلاً للرومانسية• وعلى أية حال فإن تيك Tick غادرها في سنة 1081ليعيش في عزبة أحد أصدقائه في فرانكفورت - آن دير - أودر• Frankfort - an - der Oder، وتفرغ لفترة لترجمة مسرحيات العصر الإليزابيثي، ثم لتحرير أعمال معاصريه نوفاليز Novalis وكلايست Kleist وكتب عنها كتابات نقدية متألقة• وسار على خطى ليسنج فشغل طوال سبعة عشر عاما منصب الدراماتورج Dramaturg (المدير والناقد الدرامي) في مسرح دريسدن Dresden وجلبت له مقالاته الصريحة بعض الأعداء لكنها أيضا حققت له الشهرة على مستوى الأمة كناقد أدبي لايسبقه في هذا المضمار (النقد الأدبي) سوى جوته، وأوجست فون شليجل• وفي سنة 2481 دعاه إلى برلين الملك فريدريك وليم الرابع (الذي لم يكن قد سمع مطلقا بروايته (لفل Lovell) وقبل تيك الدعوة (وكان قد تجاوز لفل منذ زمن) وعاش أعوامه الباقية كأحد عمد الأدب في العاصمة البروسية• أما نوفاليز Novalis (2771 - 1081) فلم يعش طويلا ليتمكن من التخلص من أفكار شبابه• وقد تمتع بمزايا غير مؤكدة - كأديب - لنبالة مولده، فقد كان أبوه مديرا لإنتاج الملح في سكسونيا، وكان - أي أبوه - ابن عم الأمير كارل فون هارنبرج الوزير البروسي• وكان الاسم الحقيقي لشاعرنا هو فرايهر فريدريش فيليب فون هاردنبرج ، لكنه استخدم الاسم نوفاليز Novalis كاسم مستعار، لكنه (أي هذا الاسم) كان هو الاسم الفعلي لأحد أجداده في القرن 91• وكانت أسرته تنتمي إلى جماعة هيرنهت Herrnhut التقوية (جماعة دينية بروتستنطية) وكان كأسرته ذا ميول دينية قوية لكنه عمل أخيرا على التوفيق بين الكاثوليكية والبروتستنطية كخطوة نحو توحيد أوربا•
والتحق وهو في التاسعة عشرة من عمره بجامعة يينا Jena وكون علاقات صداقة حميمة مع تيك Tick وشيلر وفريدريش فون شليجل وربما حضر بعض محاضرات فيشته التي كان لها ثأثيرها في يينا وفيمار• وبعد أن قضى عاما في جامعة فيتمبرج تبع أباه إلى أرنشتادت Arnstadt في ثورينجيا Thuringia• وبالقرب من جروننجن Gruningen التقى بصوفي فون كوهن Sophie Von Kuhn فاهتز لقوامها الجميل وشخصيتها الفاتنة لدرجة أنه طلب يدها من والديها• وفي سنة 5971 كان هو وصوفي قد خطبا رسميا رغم أنها لم تكن قد تجاوزت الرابعة عشرة من عمرها• وسرعان ما سقطت مريضة بداء الكبد، فأجريت لها عملتيان أنهكتاها فماتت في سنة 7971، ولم يفق نوفاليز أبدا من هول موت حبيبة قلبه فكانت أشهر قصائده هي ستة ترنيمات (0081) Hymenenen an die Nacht كذكرى حزينة لحبيبته صوفي•
وفي سنة 8971 خطب جولي فون كاربنتير لكن الخطبة فشلت فلم ترس السفينة على شاطئ الزواج• وشارك السل (ذات الرئة) الحزن في إنهاك الشاعر فمات في 52 مارس 1081 وهو الثامنة والعشرين• وترك لنا رواية هي (هنريش فون أوفتردنجن Heinrich Von Ofterdingen (8971 - 0081) تقدم لقرائها تعبيرا مكثفا عن التطلع للسلام الديني (التوق الشديد إ ليه، والمقصود التطلع لنهاية الخلاف بين الكاثوليكية والبروتستنطية)• وكان قد امتدح في وقت من الأوقات (فيلهلم ميستر Wilhelm Meister) التي ألفها جوتة كعمل واقعي يقدم وصفا مفيدا لتطور الإنسان، لكنه عاد الآن يدينها باعتبارها تضفي المثالية على الأعمال الدنيوية• وكان البطل في روايته كشخصية تاريخية، فهو المؤلف الحقيقي لرواية (Nibelungenlied)، فجالاهاد Galahad كرس نفسه لتتبع وردة زرقاء رمزا لتحول الموت إلى فهم لا حد له (خالد) ولا نهاية• يقول هنريش: إنها الوردة الزرقاء التي طالما تقت لرؤيتها، إنها دوماً في عقلي ولا أستطيع أن أتخيل سواها(02)• إننا نجد هنا، كما نجد في مقاله الذي حقق شهرة في وقت من الأوقات (الدولة المسيحية في أوربا) دفاعا عن العصور الوسطى كعصر مثالي (بل إنه دافع عن محاكم التفتيش) شهدت فيها أوربا وحدة سياسية ووحدة في عقيدتها الدينية، وكان من رأيه أن الكنيسة على حق في مقاومتها للعلم المادي والفلسفة العلمانية (غير الدينية)• ومن هذا المنظور يمكننا القول إن التنوير كان يتراجع حزينا• ولما كان الموت يدعوه إليه راح نوفاليزي يرفض كل الأهداف الدنيوية والمباهج الأرضية وراح يحكم بحياة أخرى (في العالم الآخر) لا مرض فيها ولا نصب ولا حزن، بل لا نهاية له•
الأخوان شلجل
كان الأخوان أوجست (أغسطس) فيلهلم فون شليجل (7671 - 5481)، وفريدريش فون شليجل، أخوين جديرين بالتأمل: إنهما مختلفان في الطباع والعشق والدراسات والعقائد، لكن يجمعهما في النهاية السنسكريتية والفيلولوجيا (فقه اللغة)• ولدا في هانوفر لقس بروتستنطي، وأصبحا لاهوتيين عندما بلغا الحلم ومهرطقين (شاكين في المسيحية) عندما بلغ الواحد منهم العشرين• واستمتع أوجست فيلهلم في جوتينجن Gottingen بدراسة انتقال الكلمات من خلال محاضرات كريستيان هين Heyne ذي الشخصية الجذابة الذي ترجم أعمال فرجيل Virgil كما استمتع بدراسة التراث الفكري في العصر الإليزابيثي من خلال المحاضرات التي كان يلقيها جوتفرايد بيرجر Gottfried Burger مترجم أعمال شكسبير ومؤلف أغنية لينور(12) Lenore• واستقبلت الجامعة نفسها فريدريش فون شليجل بعد استقبالها لأخيه بخمس سنوات، وبدأ كدارس للقانون كما راح يتنقل بين دراسة الأدب والفن والفلسفة، ونضج سريعا فلحق بأخيه في يينا Jena في سنة 6971 وشاركه تأسيس الأثيناوم Athenaum التي أصبحت طوال عامين (8971 - 0081) متحدثا باسم الحركة الرومانسية الألمانية ومرشدا لها• وساهم نوفاليز وشليرماشر Schleiermacher بالكتابة فيها، وأتى تيك Tieck وأضاف فيشته وشلنج فلسفتيهما، وكان يأتلف إلى هذه الدائرة الحية بعض النسوة الموهوبات، والمتحررات على نحو رومانسي•
وكان فريدريش فون شليجل هو ضابط السرعة الفكرية - إن صح هذا التعبير - لهذه المجموعة، ويكفي لهذا أنه كان أسرعهم في اعتناق الأفكار وأسرعهم أيضا في التخلي عنها•
وفي سنة 9971 أصدر رواية (لوسينده Lucinde) وهي التي أصبحت علماً أحمر يقود الهجوم ضد المعتقدات القديمة والمحرمات taboos المزعجة• وكان هذا الهجوم نظرياً دفاعا عن حق الشعر كمفسر للحياة ومرشد لها• فالصناعة والاتجاه النفعي هما ملائكة الموت، فلم هذا الاندفاع المستمر والعمل الدائب بلا راحة ولا استرخاء؟ ويعلن بطل الرواية أيضا إن إنجيلنا هو إنجيل المرح والحب(22) وهو يعني مرح الحب وبهجته دون زواج• وعندما حاول فريدريش زيارة أخيه الذي كان في ذلك الوقت معلما في جوتنجن (0081) أرسلت السلطات في هانوفر أمرا حاسما لرئيس الجامعة: إذا أتى فريدريش شليجل وهو أخو أستاذ عندكم، إلى جوتنجن بغرض الإقاقه لأي فترة فلن يسمح له بذلك، وسيكون أمراً طيبا إذا طلبتم منه مغادرة المدينة، ذلك لأن كتاباته تنحو نحواً غير أخلاقي(32) والمرأة التي ألهمت شليجل في روايته (لوسينده Lucinde) هي كارولين ميشاليز (ميكاليز Michaelis) ولدت كارولين في سنة 3671 وتزوجت أستاذا جامعيا (4871) ولم تكن سعيدة معه، فتحررت عندما مات، وراحت لعدة سنوات تمرح مستمتعة بمباهج الحياة كأرملة جميلة ومفكرة• وقد أحبها أوجست فون شليجل عندما كان طالبا في جوتنجن، واقترح عليها الزواج فرفضت لأنه أصغر منها بأربع سنوات• وعندما غادر ليدرس في أمستردام (1971) راحت تدخل في سلسلة من المغامرات الجنسية ففوجئت بأنها حامل وانضمت إلى مجموعة ثورية في مينز (مينتس) وقبض عليها، وعمل والداها على إطلاق سراحها فذهبت إلى ليبزج (ليبتسج) لتضع حملها، وهنا ظهر أوجست فون شليجل وعرض عليها الزواج مجددا فقبلت فتزوجها (6971) وتبنى طفلها، واتجهوا جميعا (الزواج والزوجة وابنها) إلى يينا Jena•
وفي يينا أصبحت المضيفة الأثيرة لليبراليين لتعلمها وحيويتها ومناقشاتها الذكية وقال عنها فيلهلم فون همبولدت Von Humboldt إنها أكثر من عرف من النساء مهارة ونشاطا(42)• وأتى جوته وهيردر Herder من فيمار ليجلسوا إلى مائدتها ويسعدوا بصحبتها(52)• ووقع فريدريش فون شليجل الذي كان يقيم مع أخيه في هذا الوقت - وقع هو الآخر في حبها، فجعل منها (لوسينده) في روايته وراح ينشد لها أناشيد الحب ويرفع من شأنها حتى ضاقت الكلمات عن عاطفته• وفي هذه الأثناء ذهب أوجست شليجل الذي كانت عاطفته إزاءها قد بردت - ليحاضر في برلين (1081) حيث كون علاقة مع صوفي برنهاردي Sophie Bernhardi التي طلقت زوجها لتعيش مع حبيبها الجديد• وعندما عاد أوجست شليجل إلى يينا وجد كارولين مفتونة بشيلنج (4081) وعاشت معه حتى ماتت (9081)، ورغم أن شيلنج تزوج بعد موتها إلا أنه ظل يذكرها لأعوام عديدة حتى لو لم تكن لي ما كانت (زوجة) فلابد أن انعى الجنس البشري لفقدها فقد كانت أنموذجا للكمال العقلي لم يعد موجودا• إنها امرأة نادرة ذات روح قوي وعقل حاد اجتمعا معا في جسد أنثى فاتنة تضم قلبا عاشقا(62)•
وكانت دوروثيا فون شليجل مثل سابقتها ذات أهمية وتأثير في حياة هذه المجموعة• كان اسمها قبل الزواج برندل مندلسون (مندلسهوهن)• ورغبة منها في إسعاد والدها المشهور تزوجت في ستة 3871 من البنكي (المالي) سيمون فايت Veit وأنجبت له ابنا (فيليب فايت) الذي أصبح رساما شهيرا في الجيل التالي• وكان مالها وفيرا فزهدت فيه لكثرته وراحت تغامر في مجال الفلسفة، ذلك المجال الذي كان لايزال غير أكيد (كانت المباراة فيه غير مضمونة النتائج) وأصبحت نجما بارزا في مجال الفكر في صالون راشيل فارنهاجن Rachel Varnhagen في برلين، وهناك التقى بها فريدريش فون شليجل ووقع في حبها مباشرة أما هي فكانت مفتونة بأفكاره ووجدته يسبح فيها (في أفكاره) ففتنت به فتنها بأفكاره، وكان وقتها في الخامسة والعشرين من عمره، وكانت هي في الثانية والثلاثين، لكن المؤلف كان مفتونا بأمور جذابة كثيرة في هذه الأنثى ذات الثلاثين ربيعا femme de trente ans• لم يكن جمالها صارخا لكنها قدرت مواهبه العقلية وكانت تستطيع أن تصحبه متفهمة اكتشافاته الفلسفية والفيلولوجية (في علم فقه اللغة)، وأحس زوجها أنه فقدها فطلقها (أي تحولت للمسيحية وتركت ديانتها اليهودية) وتسمت باسم دورثيا، وأصبحت زوجة رسمية لفريدريش في سنة 4081•
نعود إلى أوجست شليجل، فقد أصبح في هذا الوقت أشهر محاضر في أوربا، وأدت ترجمته لأعمال شكسبير إلى إحرازه مكانة عالية وأصبح شكسبير (هذا الإليزابيثي العظيم) يكاد يكون ذا شعبية في ألمانيا كشعبية في إنجلترا• ورغم أن أوجست شليجل يدعى مؤسس المدرسة الرومانسية في ألمانيا(72) إلا أنه كانت فيه كثير من صفات العقل الكلاسي: النظام والوضوح والتناسب والاعتدال، والتقدم الثابت الوئيد للوصول إلى هدف محدد• وقد تجلت هذه الصفات بشكل أقوى في محاضراته عن الأدب الدرامي التي ألقاها في مدن مختلفة وأعوام مختلفة، وكذلك محاضراته عن شكسبير العامرة بالتعليقات والملاحظات التنويرية، والتي كان ينقذ فيها بشجاعة في بعض الأحيان - شاعره المحبوب (شكسبير)• لقد كتب وليم وهازلت W. Hazlitt في سنة 7181: لقد قدم إلى حد بعيد أحسن عرض ظهر لمسرحيات شكسبير •••• إننا نعترف - مع قليل من الغيرة - •• أننا يجب أن نذكر لناقد غير إنجليزي تقديمه للمبررات التي تؤكد نظرتنا نحن الإنجليز إلى شكسبير(82)•
وعندما كانت مدام دي ستيل تطوف ألمانيا بحثا عن مادة لكتابها حثت أوجست شليجل (4081) على أن يذهب معها إلى كوبت Coppet ليدرِّس لأبنائها وليعاونها في إعداد موسوعتها مقابل 000،21 فرنك في السنة، فسافر معها أخيرا إلى إيطاليا وفرنسا والنمسا وعاد معها إلى كوبت وظل معها هناك حتى سنة 1181 عندما رضخت السلطات السويسرية لأوامر نابليون فأمرته بمغادرة سويسرا، فذهب إلى فينا واعترته الدهشة إذ وجد أخاه يحاضر فيها مدافعا عن العصور الوسطى باعتبارها العصر الذهبي الذي شهد وحدة أوربا سياسة وعقيدة•
لقد كانت فينا هي العاصمة الكاثوليكية لألمانيا وكان فريدريش ودوروثيا قد تحولا للكاثوليكية في سنة 8081• وكانت دوروثيا قد قالت منذ أعوام خلت: إن صور القديسين والموسيقا الكاثوليكية تهز مشاعري فقررت أنني لو تحولت للمسيحية فسأصبح كاثوليكية(92) أما فريدريش فون شليجل فعزا تحوله إلى الكاثوليكية إلى ميله للفن a predilection d,artiste وعلى أية حال، فإن الكاثوليكية من نـواح كثيرة - باعتبارها مثيرة للخيال والمشاعر والجمال - تبدو ملائمة للمشاعر الرومانسية•
لقد ضجر الرجل العقلاني من العقل بعد أن تأثر بالأسرار الدينية (الكاثوليكية)، وأحس بهوان الإنسان أمام الموت• لقد لجأ هذا الفَرْدِي individualist - بعد أن وجد نفسه وحيدا غير آمن مع نفسه - إلى الكنيسة يرتمي في أحضانها لتكون له بيتا مريحا• لقد تخلى فريدريش شليجل أمهر أنصار الاتجاه العقلي وأكثر الشباب تحمسا للفردية (الاتجاه الفردي) ودعوة إليه، وأكثر الثوار تطرفا - تخلى الآن عن كل هذا موليا ظهره لفولتير، وموليا ظهره للوثر وكالفن ليرتمي في أحضان أوربا في العصور الوسطى يأخذ عنها ويستلهم منها ويتحرق شوقا لكنيستها القابضة على زمام كل الأمور• لقد حزن للتخلي عن الميثولوجيا الملهمة (الحكايات الأسطورية) وإحلال العلم البائس محلها وأعلن أوضح عجز وأكبر نقص تعانيه كل الفنون الحديثه تتمثل في الحقيقة التي مؤداها أن الفنانين لم يعد أمامهم ميثولوجبا يستلهمون منها(03)•
وربما كانت أبحاثه في آداب الهند القديمة وميثولوجيتها قد عمقت احترامه للميثولوجيا• وكان قد بدأ في باريس سنة 2081 هذه الدراسات التي بلغت ذروتها، ووضعت أساسا لتطور هذا النوع من الدراسات فيما بعد تجلت في كتابه (لغة الهند وحكمتها Uber die Sparche und Weisheit der Inder) الذي ساهم في تأسيس علم فقه اللغة المقارن في نطاق اللغات الهندو أوربية• وناقش فريدريش هذا الجانب من حياته مع أخيه الذي انضم إليه لفترة في فينا في سنة 1181، واستحضر أوجست في ذهنه عمله مع كريستيان هاين Heyne في مجال فقه اللغة (الفيلولوجيا)، فواصل عمله في هذا المجال وانضم إلى أخيه في دراسة اللغة السنسكريتية، فأثمر هذا الاشتراك أفضل النتائج التي تمخضت عنه حياتهما، وأرسخها وأكثرها دواما• لقد حقق فريدريش لنفسه مكانة في الحياة الثقافية والسياسية في فينا، ووصل إلى منصب أمانة السرفي الحكومة النمساوية، وساعد في كتابة هجوم عنيف على نابليون أصدره الأرشدوق كارل لودفيج كجزء من معركة سنة 9081، وفي سنة 0181 وسنة 2181 ألقى في فينا محاضرات شهيرة متميزة في التاريخ الأوربي والأدب في أوربا، وفي هذه المحاضرات عرض نظرياته في النقد الأدبي وقدم تحليلا كلاسيا للرومانسية• وفي سنة 0281 أصبح محرراً لصحيفة الجناح اليميني الكاثوليكية وهي صحيفة كونكورديا Concordia وراح في هذه الصحيفة يهاجم الأفكار والمعتقدات التي طالما كان قد دافع عنها بحماس في أثناء الأيام التي قضاها في يينا Jena مما أدى إلى فرقة بلاعودة بينه وبين أخيه• وكانت آخر محاضراته في دريسدن في سنة 8281 ومات في العام التالي، واحتفظت دوروثيا بذكراه واحتفت بها وظلت مخلصة لأفكاره وأعماله حتى ماتت في سنة 9391•
وعاش أوجست فون شليجل بعدها• وفي سنة 2181 انضم إلى مدام دي ستيل مرة أخرى، وأرشدها خلال ترحالها في النمسا وروسيا إلى سان بطرسبورج، وذهب معها إلى ستوكهولم، حيث تم تعيينه - بوساطة من مدام دي ستيل - سكرتيرا لبيرنادوت Bernadotte ولي عهد السويد، وصحبه في معركة 3181 ضد نابليون•
ومنحته الحكومة السويدية رتبة النبالة لخدماته• وفي سنة 4181 انضم مرة أخرى إلى مدام دي ستيل في كوبت Coppet وظل معها حتى ماتت• وعند هذا الحد يكون قد أنجز ما وعدها به، فقبل منصب أستاذ الأدب في جامعة بون (8181) فواصل دراساته للسنسكريتية وأنشأ مطبعة سنسكريتية ونشر - وحرر - نص الباجافاد جينتا Bhagavad - Gita والرامايانا Ramayana، وظل طوال عشر سنوات يعمل في مكتبة الأدب الهندي Indische Bibliothek، ومات في سنة 5481 وهو في الثامنة والأربعين بعد أن ترك لنا كنوزا: نقل التراث الشكسبيري إلى ألمانيا، وقد بذل في هذا العمل جهدا مضنيا، وقدم لنا - من خلال محاضراته - حصاد ذكريات كولردج وأفكاره ليلتقط منها للفلسفة الألمانية• لقد كانت حياته (أوجست فون شليجل) حياة مثمرة•