قصة الحضارة - ول ديورانت - م 11 ك 4 ف 29
صفحة رقم : 14709
قصة الحضارة -> عصر نابليون -> ملوك أوروبا في مواجهة التحدي -> ألمانيا ونابليون -> الإمبراطورية الرومانية المقدسة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل التاسع والعشرون: ألمانيا ونابليون 1786- 1811
1- الإمبراطورية الرومانية المقدسة 1800
يرى هاينرش فون تريتشكه Heinrich Von Treitschke، وهو بروسي وطني متحمس لبروسيا، ومع ذلك فهو مؤرخ عظيم (لم تُبعده وطنيته عن النظرة الموضوعية اللازمة للمؤرخ) أنه: لم يحدث أبداً منذ أيام لوثر Luther أن أصبحت ألمانيا في هذه المكانة المرموقة في أوروبا كما هي عليه الآن (0081) حيث أصبح أعظم أبطال العصر وأعظم شعرائه من أُمّتنا (ألمانيا)(1).
قد نصنّف فريدريك Frederick كمنتصر في درجة أدنى من نابليون، ولكن الذي لا شك فيه أن السَّناء المنبعث من جوته (جيته) Goethe وشيلر Schiller كان لا يُضارعه سناء في مضمار الشعر والنثر من إدنبره إلى روما. وقد اهتز العقل الأوروبي من لندن إلى سان بطرسبرج St. Petersburg بفكر الفلاسفة الألمان من كانط Kant ومروراً بفيشته Fichte وشلنج Shelling وهيجل إلى شوبنهور Schopenhauer. لقد كانت ألمانيا تشهد عصر نهضتها الثاني Second Renaissance. لقد كانت ألمانيا - مثل إيطاليا في القرن السادس عشر - ليست أمة إن كان المقصود بالأمة مجموعة من الناس يعيشون في ظل قوانين واحدة وحكومة واحدة. لقد كانت ألمانيا في سنة 0081 سلسلة غير محكمة (غير متماسكة) من نحو 052 دولة لكل منها قوانينها الخاصة وضرائبها الخاصة، وكثير من هذه الدول كان لكل منها جيشها الخاص، وعملتها الخاصة، ودينها الخاص بل وعاداتها الخاصة ولباسها، وكان بعضها يتحدث لغة (ألمانية) غير مفهومة لنصف العالم الألماني. إلا أن اللغة الألمانية المكتوبة كانت على أية حال لغةً واحدة مما أتاح لكتاب ألمانيا قرَّاءً من ثلث القارة الأوروبية.
ويجب أن ننوِّه في هذا الصَّدد أن الاستقلال النسبي لهذه الدول الفُرادى كان يسمح باختلاف الأشكال والأنماط، ويُثير المنافسة، ويتيح حرية التجريب والتفكير بقدر قد يفوق ما هو موجود في عاصمة مركزية لدولة كبيرة. لقد كان الوضع بالنسبة إلى هذه الدويلات الألمانية في هذه الفترة شبيهاً بما كان في إيطاليا في عصر النهضة (الرينيسانس). ألم تكن مدن ألمانيا القديمة - التي كانت لاتزال متفردة على هذا النحو الجذاب، لتفقد حيويتها وطبيعتها إذا ما تم إلحاقها ببرلين سياسياً وثقافياً، كما حدث بالنسبة لمدن فرنسا عندما أصبحت تابعة لباريس؟ وهل لو كونت كل أجزاء ألمانيا كياناً واحداً مشكِّلةً أمة موحّدة - صارت قلباً لأوروبا غنياً بالسكان والمواد يبزّ كل ما بقي من أوروبا على نحوٍ لا يُقاوم؟
لقد كانت الدول الألمانية بمعنى واحد ناقصة الاستقلال: لقد قبلت هذه الدول أن تكون أعضاء في الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي كانت قد بدأت - أي هذه الإمبراطورية - في سنة 008 بتتويج البابا لشارلمان الذي يشير إليه الألمان بأنه their own Frankish Karl der Grosse، وكان أهم هذه الدول الألمانية المكوّنة للإمبراطورية الرومانية المقدسة هي تسعة دول ناخبة electoral أي دول تنتخب الإمبراطور: النمسا، وبروسيا، وبافاريا، وسكسونيا، وبرونزفيك - لوينبورج Brunswick - Luneburg، وكولوني Cologne ومينز (مينتس) Mainz وهانوفر وترير Trier (تريفز Treves)، ويأتي في المقام الثاني سبعة وعشرون كياناً ذو طابع روحي أو ديني Spiritual Lands يحكم كل منها أسقف (مطران) كاثوليكي على نحو يذكِّر بالحكم الأسقفي للمدن في الإمبراطورية الرومانية الغربية التي انتهت منذ ألف عام، وهذه الكيانات الروحية (ذوات الصبغة الدينية) هي: أرشبيشوبية سالزبورج (سالتسبورج) Sazburg (لفظ الأرشبيشوب يعني كبير الأساقفة - والأرشبيشوبيَّة هي مقر كبير الأساقفة) وفي سالزبورج هذه عاش موزارت. أما الأسقفيات (حيث في كل منها أسقف بيشوب) فهي: مينستر Munster وليج Lige وفيرتسبورج Wurzburg وبامبرج Bamberg وأوسنابروك Osnabruck وبادر بورن Paderborn وأوجسبرج Augsburg وهايلدشيم Hildesheim وفولدا Fulda وسبير Speyer وريجنسبرج Regensburg (راتيسبورن Ratisborn) وكونستانس Constance وفورمز Worms ولوبك Lubeck. وكان هناك أمراء علمانيون (غير إكليريكيين) يحكمون سبعاً وثلاثين دولة، بما فيها هِس - كاسل Hesse - Cassel وهيس دارمشتادت Hesse - Darmstadt وهولشتين Holstein وفيرتمبرج Wuritemberg (مع شتوتجارت Stuttgart) وساشن (زاخن) Sachsen (ساكس - Saxe) فيمار Weimar (وكان بها جوته) وساشن جوتا Sachsen - Gotha (وكان فيها الدوق إرنست الثاني - المستبد المتنوّر) وبراونشفيج فولفنبوتل Braunschweig Walfenbuttel (براونشفيج تُكتب أيضاً برونسفيك Brunswick) وبادن ( Baden - With Baden Baden Karlsruhe) وكانت هناك خمسون مدينة حُرّة (رايخشتادت Reichstadte) كانت كذلك زمن الإمبراطورية: هامبورج وكولوني، وفرانكفورت - آم - مين Frankfurt. am. Main وبريمن Bremen وفورمز (فورمس Worms) وسبير Speyer ونورمبرج Nuremberg (تكتب أيضاً Nurnberg نورنبرج) وأولم ulm... و من كل تلك الكيانات الألمانية وغيرها كان يأتي الناخبون Eleclors (أو الفرسان الإمبراطوريون) وغيرهم من الممثلين إلى الرايخستاج Reichstag أو الدايت الإمبراطوري Imperial Diet الذي يجتمع في ريجينسبورج Regensburg بدعوة من إمبراطورهم (إمبراطور كل هذه الكيانات أي إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة). وفي سنة 2971 اختار الناخبون Electors (الناخب بالمفهوم الذي شرحناه آنفاً أكثر من مرة) فرانسيس الثاني النمساوي إمبراطوراً للإمبراطوريـة الرومانيـــة المقدســة وتوَّجـوه فـي حفـل تتويــج فخــم اتســم بالإسـراف الشديد، فغصَّت فرانكفورت - آم - مين بالنبلاء وذوي المكانة من مختلف أنحاء ألمانيا. وكان فرانسـيس الثانـي هـو الأخيـر فـي سـلسلة طويلة من أباطرة هذه الإمبراطورية الرومانية المقدسة.
وبحلول عام 0081 فقدت هذه المؤسسة (الإمبراطورية) - التي كانت يوماً ما مؤثرة ومفيدة بشكل عام - فقدت تقريبا كل فعاليتها وفائدتها. لقد أصبحت أثراً من آثار النظام الإقطاعي. لقد كانت كل قطعة segment (لنقل قرية أو عزبة) يحكمها سيد (لورد) إداري manorial lord (لنقل عمدة فهو أقرب للمفهوم العربي) تابع لسلطة مركزية في المدينة)، إلا أن هذه السلطة المركزية اعتراها الضعف بسبب ازدياد عدد سكان هذه الوحدات وزيادة ثرواتها وقوتها العسكرية، وانتحائها نحواً علمانيا أما الوحدة الدينية في هذه الإمبراطورية المقدسة فكانت قد انتهت بظهور حركة الإصلاح الديني (الحركة البروتستنطية) وحرب الثلاثين عاما، وحرب السنوات السبع 6571 - 3671. فكان شمال ألمانيا في سنة 0081 على المذهب البروتستنطي بينما كان جنوب ألمانيا على الكاثوليكية أما غرب ألمانيا فتخلى عن شيء من تدينه نتجة حركة التنوير الفرنسية، التنوير Aufkarung الذي انتشر على يد الكاتب المسرحي الألماني لسنج Lessing. وكلما مالت شمس الدين للأفول، ازدهرت الروح الوطنية على نحو قل أم كثر، فإن عقيدة ما (سياسية أو اجتماعية) كان لابد من وجودها لتمسك أجزاء المجمتمع وتضمها معا وتوثق عراها في مواجهة الاندفاع بعيداً عن المركز أو بتعبير آخر في مواجهة الرغبة في مزيد من التفكك. وقد أدى استقطاب ألمانيا بين الشمال البروتستنطي بقيادة بروسيا، والجنوب الكاثوليكي بقيادة النمسا إلى نتائج رهيبة ممثلة في فشل القطبين (الشمال البروتستنطي والجنوب الكاثوليكي) في توحيد جهودهما ضد نابليون في معركة أوسترليتس Austerlits في سنة 5081 ومعركة ينا في سنة 6081. وقبل هاتين اللطمتين بفترة طويلة كانت النمسا نفسها قد بدأت تتجاهل الدايت الإمبراطوري (المجلس التشريعي الإمبراطوري) وتبعتها في ذلك دول ألمانية كثيرة(2) (دول بالمعنى الوارد في صدر هذا الفصل)، وفي سنة 8871 لم يستجب للدعوة لحضور هذا الدايت سوى 41 أميراً من بين مائة لهم حق انتخاب (الأمبراطور) وثمانية من بين خمسين من رؤساء المدن (عمد المدن(3)) فكان محالا أن يستطيع الدابت إصدار قرارات. وفي معاهدة كومبوفورميو Compoformio (7971) ولونيفيل Luneville (1081) أجبر نابليون النمسا على الاعتراف بالحكم الفرنسي على المناطق الواقعة غرب الراين، وهكذا أصبح الجزء الثري من الإمبراطورية الرومانية المقدسة - بما في ذلك مدن: سبير Speyer ومنهيم Mannheim وفورمز Worms ومينز (مينتس Mainz) وبنجن Bingen وتريير Trier وكوبلتر (كوبلنتس Coblenz)، وآخن Aachen وبون Bonn وكولوني Cologne - تحت الحكم الفرنسي. وبحلول عام 1081 كان هناك قبول عام بأن الإمبراطورية الرومانية المقدسة أصبحت - كما قال فولتير - لا هي مقدسة، ولا هي رومانية ولا هي إمبراطورية، فلم تكن هناك دولة ألمانية مهمة تعترف بسلطانها أو سلطان البابا فكان لا بد من ظهور شكل جديد من التعاون والنظام - وسط هذه الفوضى - يلقى القبول ، وقد أخذ نابليون على عاتقه مواجهة هذا التحدي.
2- كونفدرالية الراين 1806
كان نهر الراين العظيم كمتحف للمناظر الخلابة الرائعة، والذكريات التاريخية التي خلدتها - في بعض الأحيان - الأعمال المعمارية. وكان بالإضافة إلى ذلك ذا فضل حيوي على الاقتصاد؛ يروي التربة الصالحة للزراعة، ويربط كل مدينة يمربها بالكثير من المدن الأخرى التي تضارعها ثقافة وتجارة، وفقد النظام الإقطاعي أنيابه وأساليبه مع توطن التجارة والصناعة على جانب النهر. لكن هذا الازدهار المنساب كانت تفسده أربع قضايا: كسل الحكام وانغماسهم في الملذات، شيوع الرشوة بين الجهاز الإداري، تركز الثروة بشكل حاد، تمزق أوتفتّت عسكري يحرض الغزاة على الغزو.
وقد فتح الطريق إلى التنظيم الجديد لدول الراين بوعد قدمته كل من فرنسا والنمسا لتعويض ذوي الحيثية الألمان الذين فقدوا ممتلكاتهم بسبب اعتراف النمسا بالسيادة الفرنسية على غرب الراين - تعويضهم بممتلكات جديدة، وأدى تذمر الذين نزعت ملكيتهم واعتراضهم على ما عُوضوا به إلى انعقاد مؤتمر رشتات Rastatt بين فرنسا والنمسا (61 ديسمبر 7971)، واقترح بعض الأمراء من غير أولي المصلحة ضرورة تحويل الولايات (الإمارات) الإكليريكية إلى ولايات (أوإمارات) علمانية، وبتعبير أوضح تحويلها من حكم الأساقفة إلى حكم سواد الناس (غير الإكليريك)، ولم يكن المؤتمر قادرا على الموافقة على هذا الاقتراح فأحال الأمر للدايت التالي للإمبراطورية الرومانية المقدسة. وظل الأمر معطلاً معلقاً حتى عاد نابليون من مصر وأحكم القبضة على السلطة في فرنسا وهزم النمسا في معركة مارنجو Marengo، وعقد اتفاقاً معها (النمسا) وبروسيا وروسيا أصدر بمقتضاه الدايت الإمبراطوري في 52 فبراير 3081 مرسوما شاملا يحدد خريطة غرب ألمانيا ونظم الحكم فيها وهو المرسوم الذي يطلق عليه بالألمانية Reichsdeputationshauptschluss وبناء عليه تم عزل كل الأساقفة تقريبا (من حكم وحداتهم) ووافقت بروسيا باعتدال على تقليص الحكم الأسقفى، وكانت النمسا بلا حول ولا قوة فلم يجدها سخطها فتيلا.
وتحقق الحكام الجدد أن النمسا قد تكون غير راغبة في تقديم حماية عسكرية لهم - بل إنها غير قادرة. كما لم يكونوا يتوقعون - وهم كاثوليك في غالبهم - حماية بروسيا البروتستنطية لهم. فلجأت الدول التي أعيد تشكيلها - المرة تلو المرة - إلى نابليون فهو الأقوى عسكريا، كما أنه من الناحية الرسمية - كاثوليكي. ففي ميونخ Munich (03 ديسمبر 5081) قابل كارل تيودور فون دالبرج Karl Theodor Von Dalberg ناخب منز (مينتس Mainz) الإكليريكي (رئيس الأساقفة) - قابل نابليون العائد منتعشا لانتصاره في معركة أو ستر ليتز Austerlitz، ودعاه لقبول قيادة الولايات ( الإمارات) التي أعيد تنظيمها. وظل الإمبراطور (نابليون) المشغول يفكر في الأمر مدة نصف عام، فوجد أن فرض الأمة الفرنسية لحمايتها على ألمانيا (جعلها محمية فرنسية) سيؤدي إلى عداء بقية الألمان، كما سيزيد عداء كل من إنجلترا وروسيا حدة. وفي 21 يوليو 6081 دخلت بافاريا، وفيرتمبرج Wurttemberg وبادن Baden وهس - دارمشتادت Darmstadt - Hesse ونساو Nassau وبيرج Berg ودول ألمانية أخرى كثيرة - في اتحاد كونفدرالي هو كونفدرالية الراين Rheinbond، وفي أول أغسطس وافق نابليون أن يأخذ على عاتقه حماية هذا الاتحاد الكونفدرالي وافق أن يجعله محمية فرنسية، واحتفظ الكيان باستقلاله في الأمور الداخلية لكن المتحدين وافقوا على أن يرسم لهم السياسة الخارجية ووافقوا على أن يضعوا قوة عسكرية كبيرة تحت أمره يطلبها متى شاء(4). وأرسلوا إلى فرانسيس الثاني والدايت الإمبراطورية بما يفيد أن دول الكونفدرالية لم تعد أعضاء في الرايخ. وفي 6 أغسطس أعلن فرانسيس رسميا حل الإمبراطوريه الرومانية المقدسة وتخلى عن لقبه الإمبراطوري المرتبط بها (كإمبراطور للإمبراطورية الرومانية المقدسة) واحتفظ بمنصبه ولقبه كإمبراطور للنمسا. لقد زوت عظمة الهبسبرج وأصبح شارلمان الجديد (المقصود نابليون) يحكم من فرنسا ماداً سلطانه على غرب ألمانيا. وحققت كونفدرالية الراين فوائد حيوية، كما عانت من كوارث لامفرمنها. لقد أدخلت مدونةنابليون القانونية (بما فيها من إلغاء العوائد أو الرسوم الإقطاعية والأعشار الكنسية) وأخذت بحرية العبادة الدينية والمساواة أمام القانون والنظام الفرنسي في الإدارة (تولى محافظ أو مدير أو وال لمنطقة بعينها) وهو نظام مركزي ولكنه يتسم بالكفاءة، بالإضافة لتعيين قضاة مدربين أكثر استعصاء على الرشوة. وكان الخلل الأساسي في هذا البناء هو قيامه على أكتاف قوى أجنبية (فرنسية) ولايمكنه الاستمرار إلا إذا وازنت الحماية الأجنبية تكاليفه الداخلية. وعندما أخذ نابليون آلافاً من أبناء الألمان ليحاربوا النمسا في سنة 2181 بدت محمية الراين متوترة، وعندما أخذ آلافا من أبناء الألمان لمحاربة ورسيا في سنة 2181 وطلب دعما ماليا ثقيل الوطأة لتمويل معركته، بدت المحمية وكأنها حمل كبير ينزع منه نابليون ويستنزفه شيئا فشيئا، وعندما جند المان كونفدرالية الراين ليحارب بهم ألمان بروسيا في سنة 3181 راح ألمان الكونفدراليه ينتظرون تراجع الفرنسيين لينقضوا البناء كله على رأس الكورسيكي الذي أنهكته الحروب (نابليون).
وفي هذه الأثناء كان نصراً لنابليون أنه كان قد رتب حدودا جديدة آمنة لفرنسا ذات ميزة أمنية مزدوجة. لقد كان قد أدمج أراضي غرب الراين في فرنسا، وأصبحت المناطق الغنية على الشاطئ الشرقي التي تصل حتى الألب متحالفة مع فرنسا ومعتمدة عليها. ورغم أن كونفدرالية الراين قد تفككت عقب هزيمة نابليون في ليبزج (ليبسيج Leipsig) في سنة 3181، فقد كان هذا التوحيد حيا في ذاكرة بسمارك بعد ذلك كما أن توحيدنابليون لإيطاليا كان بعد ذلك إلهاماً ألهم مازيني Mazzini وغاريبالدي Garibaldi وكافور Cavour.
3- مقاطعات نابليون الألمانية
كانت هناك إلى الشمال من كولوني Cologne منطقتان كانتا رغم عضويتهما في كونفدرالية الراين (الراينبوند Rheenbund) تابعتين كلية لنابليون لاستيلائه عليهما عنوة عن طريق الحرب، وقد حكمهما هو نفسه أو بواسطة أقربائه: دوقيه بيرج Berg الكبيرة التي حكمها قريبه جواشيم مورا Joachim Murat ومملكة وستفاليا Westphalia التي حكمها أخوه جيروم Jerome. وعندما رقى نابليون أخاه جيروم فكلفه بحكم نابلي (8081) راح نابليون يحكم دوقية بيرج عن طريق مفوضين يرسلهم إليها، وراح عاما بعد عام يدخل فيهما الأساليب الفرنسية في الإدارة والضرائب والقانون. وكان النظام الإقطاعي فيهما قد غدا أثراً بعد عين إذ تطورت التجارة والصناعة حتى أصبحت الدوقية مركزا مزدهرا لاستخراج المعادن وصناعتها.
أماوستفاليا فكانت أكثر تنوعا واتساعا، فطرفها الغربي هو دوقية كليفز Cleves (التي ترجع إليها أصول الزوجة الرابعة لهنري الثامن) ومن ثم تتخذ اتجاها شرقيا عبر مينستر Munster وهايلدشيم Hildesheim وبرونسفيك Brunswick وفولفن بوتل Wolfenbuttel إلى ماجدنبورج Magdenburg، وعبر بادربورن Paderborn إلى كاسل Cassell(العاصمة) وعبر أنهار الرور (الروهر Ruhr) وإمز Ems وليب Lippe إلى السال Saale والإلب Elbe. وعندما أصبح جيروم بونابرت ملكا عليها في سنة 7081 كان في الثالثة والعشرين من عمره وكان أكثر اهتماماً بالمسرات منه بالسلطة. وراح نابليون - آملا أن تحوله المسئولية إلى شخص ناضج مستقر - يرسل له خطابات غاصة بالنصائح والتوجيهات الممتازة، بل وكانت ذات لمسة إنسانية حقا، لكنها كانت مصحوبة بمطالب مالية كبيرة، ووجد جيروم أنه من الصعب إشباع مطالب أخيه مقارنة بالموارد المالية المتاحة، بالإضافة إلى ميله (أي جيروم) للحاشية المسرفة وحياة الترف. وقد تعاون بشكل فعال تماما في إدخال الإصلاحات المبدعة الخلاقة التي عادة ما كان نابليون يجلبها معه في فترة فتوحاته وكان من مبادئ نابليون الأساسية أن الناس لا قدرة لهم على تحديد مستقبلهم، فالمؤسسات وحدها هي التي تحدد قدر الأمم(5) لذا فقد قدم لوستفاليا مجموعة قوانين (مدونة قانونية) وإدارة تتسم بالكفاءة، كما كانت تتسم بالأمانة النسبية، وحرية دينية ونظاما قضائيا كفؤا وأدخل نظام المحلفين، والمساواة أمام القانون، وتوحيد الضرائب، ونظام المراجعة المحاسبية الدورية لكل الأنشطة الحكومية. وكانت جمعية وستفاليا الوطنية يتم انتخابها من خلال حق اقتراح محدود: 51 من بين 001 مندوب (نائب أومفوض) يتم اختيارهم من التجار ورجال الصناعة، و 51 من بين العلماء وغيرهم من ذوي المكانة. ولم يكن لهذه الجمعية الوطنية حق المبادرة بإصدار التشريعات، لكن كان كان من حقها انتقاد الإجراءات التي يقدمها مجلس الدولة، وغالبا ما كان يؤخذ بنصائحها.
وكانت الإصلاحات الاقتصادية أساسية. لقد انتهى النظام الإقطاعي الآن، فالاقتصاد الحر لا بد أن يفتح كل المجالات أمام كل الطموحين. وكان لا بد من صيانة المجاري المائية والطرق وتحسينها، وتم إلغاء تعريفة الانتقال في نطاق وستفاليا وتم توحيد الموازين والمقاييس في كل أنحاء المملكة (وستفاليا). وصدر مرسوم في 42 مارس 9081 يحمل كل كُمْيون مسئولية الفقراء في نطاقه سواء بتوظيفهم أو تقديم مساعدات الإعاشة لهم(6). واشتكى دافعو الضرائب.
ومن الناحية الثقافية كانت وستفاليا أكثر الدول الألمانية تطورا لقد احتضنت بين جنباتها حياة فكرية منذ غذت مكتبة فودا Fuda الديرية عصر النهضة (الريتيسانس) بالمخطوطات الكلاسية، بل وقبل ذلك. لقد كان في هايلدشيم Hildesheim الفيلسوف والرياضي ليبنيتس (ليبنتز Leibniz) وكان في فولفنبوتل Wolfenbuttel الناقد والكاتب المسرحي ليسنج Lessing، والآن فإن لدى الملك جيروم أمين مكتبة ماهر هو جاكوب جريم Jacob Grimm سنتناوله بعد ذلك كمؤسس لعلم فيلولوجيا (علم فقه اللغة التاريخي والمقارن) اللغات التيوتونية. وفي سنة 7071 - بناء على دعوة نابليون - ترك جوهان فون ملر Muller كبير مؤرخي عصره - منصبه في برلين كمؤرخ ملكي (مؤرخ رسمي) ليأتي إلى وستفاليا وزيراً وليتولى (8081 - 9081) أمر التعليم العام. وكان في وستفاليا آنئذ خمس جامعات، كان معترفا بثلاث منها في ظل حكم جيروم: جوتنجن Gottingen وهيل Halle وماربوج Marburg، وحققت جامعتان منها شهرة عبر أوربا. لقد رأينا الشاعر كولردج Coleridge يتجه مباشرة من نذر ستوي Nether Stowey إلى جوتنجن، ويعود لإنجلترا بعد عام وقد اعترته الدهشة والإعجاب بسبب الأفكار الألمانية.
وفي مقابل هذه الأمور الطيبة كان هناك شران شديدا الوطأة: الضرائب والتجنيد الإلزامي. لقد كان نابليون يطلب من كل الكيانات التابعة له مساهمة مالية فعالة لحكمه، ولبلاطه الذي راح إسرافه يزداد يوما بعد يوم، ولنفقات جيوشه. وكانت حجته بسيطة: إذا حدث أن استطاعت النمسا أو أي قوى معادية أن تلحق به الهزيمة أو تطيح به، فإن الأمور الطيبة التي جلبها معه ستنزع من رعاياه. ولهذا السبب نفسه لا بد للدول الواقعة تحت حمايته من مشاركة فرنسا التزاماتها بتقديم أبنائها القادرين للخدمة العسكرية ليضحوا عند الضرورة بحياتهم. وحتى سنة 3181 كان رعايا جيروم يتحملون برجولة هذا الاستنزاف. والأهم أن الجلد لم يكن معروفا في جيوش نابليون، كما كانت الترقية بالجدارة والاستحقاق، فكان يمكن لأي جندي أن يصبح ضابطا، بل ومارشالاً، لكن بحلول عام 3181 كان على وستفاليا أن ترسل 0008 من شبابها للاشتراك في حرب نابليون في أسبانيا، و 000،61 للمشاركة في حربه في روسيا، ولم يعد منهم من إسبانيا سوى 008، أمامن عادوا من روسيا فلم يزيدوا على 000،2.
وكانت ناخبية (إمارة) هانوفر تقع في شمال شرق وستفاليا. وفي سنة 4171 كان ناخبها قد أصبح هو ملك إنجلترا جورج الأول، فأصبحت هانوفر تابعة لإنجلترا. أما الناخب الذي تولى أمرها تباعا فهو جورج الثالث الذي جعل منها منطقة موالية لبريطانيا وعمل على عدم ابتعادها عنها (عن بريطانيا) ولهذا الغرض ترك ملاك الأراضي الكبار فيها (في هانوفر) يحكمون الإمارة (المقاطعة) لصالح الأرستقراطية الألمانية - وهي من أكثر الأرستقراطيات تمسكا وانغلاقا بمعنى أن من الصعب أن ينضم إليها غيرهم. لقد كانت كل المناصب المهمة يحتكرها النبلاء الذين كانوا حريصين ألا يقع على كاهلهم شيء من عبء الضرائب. وعلى أن يتحمل غالبها الفلاحون وأهل المدينة. وظل النظام الإقطاعي قائما وإن خفف من وطأته العلاقات الأسرية وكانت الحكومة المحلية أمينة أمانة فوق التصور(7). وفي سنة 3081 - عند بداية الحرب مع إنجلترا - أمر نابليون قواته وجهازه الإداري بالسيطرة على هانوفر لضمان عدم نزول قوات برية بريطانية فيها ولمنع أي بضائع إنجليزية، ولم يلق الفرنسيون سوى مقاومة بسيطة، وفي سنة 7081 - وكان نابليون مشغولاً باهتمامات أكبر - أمر بإلحاق (ضم) هانوفر إلى وستفاليا وأتاحها (أي هانوفر) لجهاز جمع الضرائب التابع للملك جيروم. وراح أهل هانوفر يندبون حظهم متضرعين إلى الرب ليعودوا تابعين لإنجلترا كما كانوا. وعلى النقيض من هانوفر، كانت المدن الهانسيتية - هامبورج ، وبريمن Bremen ولوبك Lubeck - موطناً للازدهار والرخاء والكبرياء (الاعتزاز بالانتماء). لكن العُصبة (التحالف المكوَّن من هذه المدن) كانت قد انحلّت منذ مدة طويلة، غير أن انهيار أنتورب Antwerp وأمستردام تحت الإدارة الفرنسية أدّى إلى تحويل كثير من تجارتيهما إلى هامبورج وبدت المدينة الواقعة على مصب نهر إلب the Elbe والتي كان سكانها في سنة 0081: 000،511 نفس، وكأنما صُمِّمَت لخدمة التجارة البحرية ولإعادة شحن السفن بشكل ناشط. لقد كان يحكمها التجار الكبار والماليون، وكان احتكارهم محتملاً نظراً لمهارتهم ووضعهم كل الأمور في الاعتبار. وتلهّف نابليون لضم هذه المدن التجارية لحكمه ليضمها للحظر الذي فرضه على الواردات البريطانية وليستفيد بأموالها والقروض التي يحصلها منها على حروبه فأرسل بورين Borrienne وآخرين لوقف تدفق البضائع البريطانية إلى هامبورج، وقد أصبح هذا الوزير السابق (بورين) ثرياً بفضل تغاضيه (إغلاقه عينيه الاثنتين) وأخيراً ضم نابليون المدينة الكبيرة إلى حكمه (0181) فانزعج أهلها انزعاجاً شديداً حتى إنهم شكَّلوا جمعيات سرية لاغتياله (اغتيال نابليون) وراحوا يتآمرون كل يوم لإسقاطه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
4- سكسونيا
إلى الشرق من وستفاليا وإلى الجنوب من بروسيا وُجِدت دولة ألمانية عرفها أهلها باسم Sachsen وعرفها الفرنسيون باسم ساكس Saxe كانت ذات يوم تمتد من بوهيميا إلى البلطيق، وقد تركت هذه الدولة آثارها في الأسماء المختلفة في بريطانيا التي تنتهي بالمقطع (Sexes) هذه الدولة قد لحقها الخراب في وقت لاحق بسبب حروب الأعوام السبعة لكنها الآن (من هذه الفترة) تنعم بناخبية (إمارة: بالمعنى السابق شرحه) مزدهرة تمتد على جانبي نهر الإلب Elbe من فيتنبرج Wittenberg (التي شهدت شطراً من حياة لوثر) حتى درسدن Dresden (باريس ألمانيا).
وفي ظل حكم فريدريك أوغسطس الثالث كناخب (له حق المشاركة في اختيار إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة) (في الفترة من 1768 - 1806) وكملك (فريدريك أوغسطس الأول) في الفترة من 1806 إلى 1827 سرعان ما استعادت سكسونيا ازدهارها خاصة وهي تنعم بنهر الإلب الذي يرويها وكأنه أم رؤوم. ونعمت دريسدن Dresdn مرة أخرى بعمائرها المشيدة على وفق طراز الروكوكو rococo وشوارعها الفسيحة وجسورها الجميلة، وتماثيل العذراء، وفخارها المنقوش. وأدار الحاكم الشاب - رغم عدم تفوقه كرجل دولة - مملكته بشكل حكيم وأنفق موارده بعناية وسدد الدَّيْن الوطني وطوّر مدرسة مشهورة للتعدين في فريبرج Freiberg.
وواصلت ليبزج (ليبتسيج Leipzig) تنظيم معرض الكتاب الذي يُعقد فيها سنوياً الذي كان ناشرو أوروبا يعرضون فيه آخر إصداراتهم فنافست بذلك درسدن. وأدى انتعاش الأدب الألماني إلى التفوق الفكري.
وانضم فريدريك أغسطس العادل أو المستقيم إلى بروسيا والنمسا في محاولة تهذيب الثورة الفرنسية وأسهم في معركة فالمي في سنة 1792، وكانت قواته مع الجيش البروسي المنسحب. لقد انزعج كثيراً لإعدام ابن عمه لويس السادس عشر لكنه انضم راغباً إلى جهود السلام مع فرنسا في سنة 1795. وعندما وصل نابليون إلى السلطة حافظ فريدريك على علاقات طيبة معه، وكان نابليون يحترمه كمستبد عادل (متنوّر) يحب شعبه. وعلى أية حال، فعندما كانت جيوش نابليون تقترب في سنة 1806 من ينا وقع فريدريك بين المطرقة والسندان: حذَّره نابليون ألا يترك الجيش البروسي يمر في أراضي سكسونيا، لكن بروسيا أصرَّت على مرور جيشها وغزت سكسونيا، فاستسلم الناخب وترك جيشه الصغير ينضم للجيش البروسي. و عامل المنتصرُ (نابليون) فريدريك أغسطس بتساهل نسبي فعرض عليه أن يدفع لفرنسا تعويضاً مقداره 25 مليون فرنك وأمره أن يغير لقبه ليُصبح (ملك سكسونيا) وجعله على رأس دوقية وارسو (فرسافا) Warsaw الكبيرة وأجبر بروسيا على التنازل لسكسونيا عن مناطق Circle of Cattbus على الشاطئ الغربي لنهر سبري Spree. وهكذا أصبحت بروسيا محصورة بين بولندا من الشمال والشرق، ووستفاليا من الغرب وسكسونيا من الجنوب - وكلها مُعاهِدَة لنابليون. لقد بدا وكأن المسألة مسألة وقت لتتبع بروسيا بقية ألمانيا في خضوعها لفرنسا النابليونية (فرنسا في ظل حكم نابليون).
5- بروسيا: تراث فريدريك 1786 - 1787
عند موت فريدريك الثاني كانت مملكة بروسيا الكبيرة تتكوّن من ناخبية (إمارة بالمعنى الآنف شرحه) براندنبورج Brandenburg، ودوقيتي سيلزيا Silesia وبومرانيا القصوى Farther Pomerania، وولايات (مقاطعات) بروسيا الشرقية - بما فيها كونيجسبرج Konigsberg وفريدلاند Friedland وممل Memel - وبروسيا الغربية التي تم الاستيلاء عليها من بولندا في سنة 1772 ومقاطعات مختلفة من قلب غرب ألمانيا تشمل فريدلاند الشرقية ومينستر Munster وإسّن Essen وبعد موت فريدريك أضافت بروسيا إليها منطقة ثورن Thorn ودانزج (دانتسِج Danzig) في التقسيم الثاني لبولندا (1792) ووارسو (فرسافا) وقلب بولندا في التقسيم الثالث (لبولندا) في سنة 1795 وأنسباخ Ansbach وبايرويث Bayreuth ومانسفيلد Mansfeld في سنة 1971 ونيوشاتل Neuchatel في سويسرا في سنة 1797. لقد بدت بروسيا وكأنها قررت ابتلاع شمال ألمانيا عندما تقدم نابليون ليعفيها من هذه المهمة.
لقد كان والد فريدريك العظيم هو الذي جعل هذا التوسّع البروسي ممكناً، ذلك أن فريدريك الأول كان قد علَّم ابنه وشعبه تحمّل المشاق بصمت، بالإضافة إلى أنه ترك له أفضل جيش في العالم المسيحي، وترك له شعباً منظّماً بإحكام يخضع لنظام تعليمي واحد ونظام ضرائبي واحد، ونظام خدمة عسكرية يسري على الجميع. لقد كانت بروسيا قد أصبحت لقمة سائغة لملك ذي ميول عسكرية، وارتعدت أوروبا كلها وألمانيا كلها وبروسيا كلها لرؤية هذا الرجل وهو يلتهم المُلك (العرش) بضباطه الأرستقراطيين (اليونكر Junker) المستبدّين ورماة القنابل ذوي الأقدام الثمانية. لقد حذّرت الأم ابنها قائلة:
Do not get tall, or the recruiters will get you(8)
وقد أضاف فريدريك العظيم (حكم من 1740 إلى 1786) لهذا الجيش وهذه الدولة عبقريته الخاصة التي شحنها بقراءة فولتير، وتكيفاً مع الواقع (رواقية عميقة) من مورِّثاته (جيناته)، لقد رفع من شأن بروسيا من مملكة صغيرة تضارعها سكسونيا وبافاريا إلى قوّة تُضاهي النمسا في العالم الألماني تقف كحاجز قوي في وجه الضغط الدائم للسلاف الذين يتكاثر عددهم بسرعة، ليصل بها (بروسيا) مرة أخرى إلى حدودها القديمة على نهر الإلب Elbe. وفي الداخل أسس نظاماً قضائياً مشهوراً بتكامله وجهازاً من الإداريين حل بالتدريج محل النبلاء لتسيير أمور الدولة. وأرسى دعائم حرية الحديث والصحافة والعبادة وتحت حمايته أصبح نظام المدارس في ألمانيا هو البديل للتعليم الكنسي الذي جعل البروسي في سُبات روحي عميق(9). لقد كان هو الرجل الوحيد في عصره الذي يستطيع أن يفوق فولتير ويعلّم نابليون. قال نابليون في سنة 1797 إن فريدريك العظيم بطل أحب أن أناقشه في كل شيء؛ في الحرب وفي الإدارة. لقد درستُ مبادئه في الميدان، وخطاباته المألوفة كانت بالنسبة لي دروساً فلسفية(01).
وكان هناك نقص في إنجازه، فهو لم يجد الوقت الكافي بسبب المعارك التي خاضها - لتهذيب النظام الإقطاعي البروسي فيعطيه طابعاً أكثر إنسانية كما هو الحال في دول الراين Rhineland States، وأدت حروبه إلى فقر أصاب شعبه، فكانت هذه الحروب إلى حد ما مسؤولة عن انحدار بروسيا بعد وفاته.
أما فريدريك وليم الثاني (حكم من 1786 إلى 1797) فكان كعمه الذي لم ينعم بطفولته مولعاً بالنساء والفنون أكثر من ولعه بالحكم والحرب، فقد ألحق بزوجته الأولى خليلة أنجبت له خمسة أبناء، وطلق زوجته في سنة 1769 وتزوّج من فريدريكه لويزه Friedrike Louise (من هسه-دارمشتادت Hesse-Darmstadt) التي أنجبت له سبعة أبناء، وفي أثناء زواجه الأخير هذا حث رجال الدين في بلاطه على السماح له بارتباط مورجانتي (أي السماح له بالزواج ممن هي أدنى منه منزلة ودرجة على أن يظل كل طرف من الطرفين في درجته نفسها وطبقته نفسها، وليس للأولاد المولودين من هذا الزواج حق الإرث أو حق وراثة ألقاب النبالة) مع جولي فون فوس (1787) التي ماتت بعد الزواج بعامين، ومن ثم تزوّج الكونتيسة صوفي دونهوف Sophie Donhoff (1790) التي أنجبت له ولداً. وكان لديه من الوقت ما يسمح له بعزف الفيولونشلو Violoncello وباستقبال موزارت وبيتهوفن، وبتأسيس أكاديمية للموسيقى ومسرح للدولة. وموّل (وأعلن) في سنة 1794 مدوّنه قانونية جديدة تحوي كثيراً من العناصر الليبرالية.
وسمح ليوهان فون فولنر Johann Von Wollner وهو إصلاحي أخذ بالمذهب العقلي، وكان أثيراً لديه - سمح له في سنة 1788 بإصدار قانون إيمان ديني(11) Religionsedikt أنهى التسامح الديني وأحكم الرقابة حتى إن كثيراً من الكتاب هجروا برلين بسببه.
وقامت سياسته الخارجية على الدفاع، فقد رفض الموقف الهجومي لسلفه، وهزأ بقرن سبق من الأحداث، فخطب ود النمسا، باعتبار ذلك خطوة كبرى نحو وحدة ألمانيا وأمنها. ولم يكن يحب الثورة الفرنسية، فبقي راضياً عن النظام الملكي (وكذلك كان شعبه راضياً عن الملكية) وأرسل بعض القوّات للمشاركة في معركة فالمي (1792) ولكنه كان سعيداً بعودة من بقي من جنوده لمساعدته في التقسيم الثاني لبولندا، وفي سنة 1795 وقّع اتفاق سلام بازل Basel مع فرنسا التي سمحت له بالاستيلاء على وارسو (فرسافا) في التقسيم الثالث لبولندا.
ورغم ما حصل عليه وضمه لبلاده فقد سمح بتدهور أحوالها مالياً وعسكرياً. ومنذ وقت باكر يرجع إلى سنة 1789 كتب ميرابو Mirabeau بعد إقامة طويلة في برلين - وكأنه يتنبّأ: العرش البروسي أصبح في وضع لا يتمكن فيه من التغلب على أية كارثة(21). لقد أصبح الجيش في حالة استرخاء وفقد حماسه، وأصبح الجهاز الإداري هشاً يشيع فيه الغش والخداع والرشوة. وأصبحت ميزانية الدولة مضطربة وقريبة من الإفلاس(31). ولم تكن سوى الحرب هي التي تستطيع بشكل حاسم أن تُوضِّح لهذا الجيل الأعمى ما وصلت إليه بلادهم من تدهور. ذلك التدهور الذي أصاب بالشلل كل النشاطات بعد أن ركن الناس لسحر شهرة بلادهم في الماضي(41).
6- انهيار بروسيا 1797 - 1807
وهكذا مات الملك الطيّب ووقع عبء العناية بالدولة المريضة على عاتق ابنه فريدريك وليم الثالث في فترة شهدت فيها أوروبا توسعات نابليون، وجهود ميترنيخ النمساوي، وظل فريدريك الثالث يحمل هذا العبء حتى سنة 1840. ويدهش الجميع لاستمراره في الحكم طوال هذه المدّة مع أنه كان ضعيف الإرادة رقيق المشاعر. لقد كان يتحلَّى بكل الفضائل التي يمكن أن تمكن المواطن الصالح من التطوير والعمل: تعاون، عدالة، رقة، تواضع، إخلاص لزوجته وحب للسلام. لقد حرر الأقنان (عبيد الأرض) في الأراضي التي تمتلكها الأسرة المالكة. تزوّج في سنة 1793 لويزا Luise (Louise) من مكلنبورج ستريليز Luise (Louise) of Mecklenburg وهي في السابعة عشر من عمرها، جميلة وعاطفية ومخلصة ووطنية، وسرعان ما أصبحت محبوبة الشعب. وظلت المصدر الأساسي للسعادة التي غرق فيها متناسياً كل النكبات والكوارث.
لقد راح القرن الجديد يجلب له الأزمة تلو الأزمة. ففي سنة 1803 استولى الفرنسيون على هانوفر التي كانت بروسيا قد ضمنت حيادها، فطالب الضباط الشبان في الجيش البروسي بقطع العلاقات - على الأقل - مع فرنسا، إن لم يكن الحرب. لكن فريدريك وليم عقد معها سلاماً. وأحكمت القوات الفرنسية قبضتها على مصب نهر الإلب Elbe ونهر فستر (وستر Wester) فأضرت - بفعلها هذا - بالتجارة البروسية، فتذرّع فريدريك بالصبر.
ودعت الملكة لويزا للحرب، وارتدت الزيّ العسكري الخاص بالفوْج العسكري الذي يحمل اسمها، وظهرت في عرض عسكري وهي تمتطي صهوة جواد، وراحت تبثُّ الحماس في الجيش الذي لا يُقهر. أما الأمير لويس فرديناند - ابن عم الملك - فكان يتطلع إلى فرصة لإظهار همته ونشاطه، أما دوق برونسفك (برونسويك Brunswick) العجوز فعرض أن يقود هو بنفسه الجيش البروسي.
أما الجنرال بلوشر (بلوخر) Blucher - الذي أصبح بعد ذلك بطلاً من واترلو - فقد أيده (أي أيد دوق برونسفيك). ومع هذا فقد راح فريدريك وليم يقاوم رغبات كل هؤلاء بهدوء. وفي سنة 1805 حثَّت النمسا - التي قررت أن تتحدّى نابليون - بروسيا على تقديم المساعدة لها، لكن الملك البروسي لم يستجب.
غير أن صبر فريدريك وليم نفد عندما توغلت القوات الفرنسية - وهي في طريقها إلى أوسترليتز Austerlitz في منطقة بيروث Bayreuth البروسية، فدعا الملكُ إلى مؤتمر في بوتسدام Potsdam يحضره ملك روسيا إسكندر، وأقسم الملكان عند قبر فريدريك الكبير أن يقفا معاً في مواجهة نابليون وأن يهبّا معاً لنجدة النمسا. وسارت قوات إسكندر الروسية جنوباً فلاقت الهزيمة وفي الوقت نفسه تشتت الجيش البروسي في الوقت الذي ولّى فيه إسكندر هارباً إلى بلاده روسيا. وأعطى نابليون سلاماً سهلاً - لكنه مشروط - لفريدريك وليم (15 ديسمبر 1805، 15 فبراير 1806): تتنازل بروسيا لفرنسا عن نيوشاتل Neuchatel وكليفز Cleves وأنسباخ (أنسباش Ansbach) لفرنسا، في مقابل أن تأخذ (أي بروسيا) هانوفر، ووافق فريدريك وليم على إغلاق الموانئ البروسية في وجه البضائع البريطانية بعد أن حصل على هانوفر وضمها لملكه - تلك الجائزة الثمينة التي طالما اشتهاها - ووقع مع فرنسا معاهدة تحالف دفاعية هجومية، فأعلنت إنجلترا الحرب على بروسيا. وتوجه نابليون لتكوين فدرالية الراين التي كانت تحيط ببعض المقاطعات البروسية في غرب ألمانيا، وعندما سمع فريدريك وليم أن نابليون يعرض هانوفر على انجلترا سرا - دخل في تحالف سري مع روسيا (يوليو 1809)، وفي أول أغسطس استولى نابليون على كل غرب ألمانيا وجعلها تحت حمايته، وفي 9 أغسطس عبأ فريدريك وليم جانباً من جيشه، وفي الرابع من سبتمبر أعاد فتح الموانئ الروسية أمام البضائع الإنجليزية، وفي 13 سبتمبر أمر قواته بدخول سكسونيا Saxony وانضمت قواته إلى القوات السكسونية، فأصبح جنرالاته وعلى رأسهم دوق برونسفيك (برونسويك) يقودون 20.000 مقاتل. وغضب نابليون غضبا شديدا لما اعتبره انتهاكا لاتفاقيتين وتحالف، فأمر جيوشه التي كانت متمركزة بالفعل في ألمانيا أن تنقض على مقدمة وجناح جيوش الحلفاء، وأسرع هو نفسه إلى الجبهة وأشرف على هزيمة البروس والسكسون هزيمة منكرة في جينا (يينا) وأورشتدت (أورشتاد Auersted) في اليوم نفسه - 14 أكتوبر 1806.
ماذكرناه آنفا هو وجهة النظر الفرنسية. أما على الجانب البروسي فقد كان ما حدث واحدا من أظلم المآسي وأقساها في تاريخها. لقد هرب فريدريك وليم بحكومته وأسرته إلى شرق بروسيا وحاول أن يباشر مهامه من ممل Memel، وأصدرنابليون - من مقر البلاط الملكي في برلين - أوامر لقارة (بأكملها) بفرض الحصار القاري (على البضائع البريطانية) وأخرجت القوات الفرنسية الجيوش البروسية من بولندا، وهزم نابليون الروس في فريدلاند Friedland وصحبته قواته إلى تيلسيت Tilsit حيث عقد سلاما مع إسكندر. وهنا علم فريدريك وليم الشروط الأخيرة (النهائية) التي بمقتضاها يمكن أن تظل بروسيا كيانا موجودا على الخريطة. لابد أن تتنازل بروسيا لفرنسا عن كل الأراضي البروسية الواقعة غرب نهر الإلب وأن تعيد إلى بولندا كل أراضيها التي استولت عليها في التقسيمات الثلاثة. ولا بد أن تقبل دفع تعويض حرب بدفع رواتب الجنود الفرنسيين الذين احتلوا بروسيا حتى يصل إجمالي ما تدفعه إلى 190 مليون فرنك. وبهذه المعاهدة التي وقعتها بروسيا في 9 بوليو 1807 فقدت 94% من الأراضي التي كانت تحكمها وصار عدد سكانها 5.250.00 بعد أن كان 000،0057،9 (المقصود أنها بفقدها المناطق التي تنازلت عنها نتيجة الهزيمة فقدت حكم سكانها، وليس المقصود أن كل هذا النقص ضحايا حرب) وفي الفترة بين 1806 و1808 كانت تكاليف القوات الفرنسية والتعويضات تستنفد كل دخل بروسيا. ومع هذا فقد كان هناك بعض الألمان يظنون - وهم يرون الدمار الذي حاق ببروسيا - أنها لن تقوم لها قائمة بعد ذلك ولن تلعب دوراً مهما في التاريخ الألماني.
7- بروسيا تنهض من جديد 1807 - 1812
هناك نواة صلبة في الطبيعة الألمانية - أكدتها قرون من الحياة الشاقة بين شعوب محاربة وأجنبية - وهي أن الألمان شعب يمكنه تحمل الهزيمة مرفوع الرأس وينتظر الوقت المناسب للرد. وكان هناك آنئذ (الفترة التي نتحدث عنها) رجال على شاكلة شتاين Stein وهاردنبرج Hardenberg وشارنهورست Scharnhorst وجنيشيناو Gneisenau، ولم يتركوا يوما واحدا يمرّ دون أن يكون شغلهم الشاغل هو كيف يتم خلاص بروسيا أو بتعبير آخر كيف تبعث من جديد. فهؤلاء الملايين من الأقنان (عبيد الأرض) الذين لا أمل لهم في ظل عبوديتهم القديمة - كم هي الطاقة التي سيصبونها في الاقتصاد البروسي وكم هي الحيوية التي سينعشونه بها لوأنهم تحرروا من أعبائهم المهنية وراحوا - وسط الترحاب - يعملون في مشروعات حرة في الريف أو المدن؟ وهذه المدن التي هي الآن كسولة فاترة الهمة في ظل حكم النبلاء الذين يحتقرون التجارة، ويمارسون مهامهم في حكم الأمة من عاصمة مركزية بعيدة - ما هي المبادرات النشيطة التي قد يطورونها في مجالات الصناعة وإدارة الأعمال، والمالية، في ظل حافز الحرية والتجريب؟ إن فرنسا في عهد الثورة الفرنسية قد حررت أقنان الأرض وانتعشت، بل إنها أبقت المدن تحت نفوذ باريس، فلم لا نحرر المدن والأقنان (عبيد الأرض) في آن، قاطعين الطريق على الغازي؟ على هذا النحو فكر فرايهر هنريش. فريدريش كارل فوم أوند تسوم شتاين Freiherr Heinrich Friedrich Karl Vom und zum Stein والمقطع الأخير من اسمه Vom und zum steinيعني أبو صخر عند الصخرة of and at Rock نسبة إلى مدينة أسلاف أسرته على نهر لاهن Lahn الذي يلتقي بنهر الراين فوق كوبلنز (كوبلنتس Coblenz)، ولم يكن الرجل بارونا وإنما فرايهر Freiherr - والكلمة تعني رجلا حرا - من الفرسان الإمبراطوريين (الرايخسترترشافت Reichstrittershaft)، وقد دعا للدفاع عن الأراضي التابعة له، وعن المملكة. لقد ولد (62 أكتوبر 7571) ليس في مدينة Vom Und zum Stein (مدينة أبو صخر عند الصخرة) وإنما بالقرب القريب من مدينة نساو Nassau، وكان أبوه حاجباً لناخب (أمير) مينز (منتس Mainz)، والتحق الابن عند بلوغه السادسة عشرة من عمره بمدرسة القانون والسياسة في جامعة جوتنجن Gottingen. وهناك قرأ منتسكيو Montesquieu وأخذ عنه إعجابه بالدستور الإنجليزي، وقرر أن يكون عظيما (أي بتعبير آخر قرر أن يلعب أدوارا مهمة) ومارس مهنته القانونية في محاكم الإمبراطوية الرومانية المقدسة في فتسلر Wetzler وفي الدايت الإمبراطوري في ريجنسبورج Regensburg.
وفي سنة 0871 دخل الخدمة المدنية في بروسيا فعمل في الإدارة الوستفالية للصناعة والتعدين. وفي سنة 6971 تولى منصبا قياديا في الإدارة الاقتصادية لكل المقاطعات البروسية على طول الراين، واستدعى إلى برلين في سنة 4081 ليشغل منصب وزير الدولة للتجارة بسبب نشاطه البالغ ونجاح مقترحاته. وفي غضون شهر من توليه منصب وزير الدولة للتجارة عهد إليه بتقديم العون لوزارة المالية. وعندما وصلت أخبار للعاصمة مفادها تشتيت نابليون للجيش البروسي في يينا (جينا Jena) نجح شتين Stein في نقل محتويات الخزانة البروسية إلى ممل Memel وبأموالها استطاع فريدريك وليم الثالث تمويل حكمه في المنفى (المقصود بعيدا عن العاصمة)، وربما أدت كوارث الحرب وماصاحبها من توتر إلى توتر أعصاب الملك والوزراء، ففي 3 يناير 7081 طرد فريدريك وليم الثالث وزيره شتاين Stein لأنه عنيد متغطرس لاعلاج له وغير مطيع، وهو - لإعجابه بعبقريته ومواهبه... يعمل انطلاقا من عواطفه وكراهيته الشخصية وعلى وفق ما تمليه عليه ضغائنه(61). وعاد شتاين إلى بيته في نساو Nassau، وبعد ذلك بستة أشهر دعاه الملك - بعد أن علم أن نابليون طلبه كمدير - ليتولى وزارة الداخلية.
وكان منصب وزير الداخلية هو بالضبط الموقع المناسب الذي يمكن شتاين (ذلك الهر herr أي السيد المتحرر الغضوب) من تقديم أفضل الإصلاحات لإطلاق طاقات الشعب البروسي. وفي 4 أكتوبر 7081 تولى مهام منصبه الجديد بالفعل، وفي 9 أكتوبر كان يعد للملك إعلانا طالما تطلع إليه ملايين الفلاحين ومئات الليبراليين، وكانت المادة الأولى في مشروعه هذا معتدلة إذ تعلن حق كل ساكن من سكان ولاياتنا أن يشتري أرضا ويتملكها وكان هذا الحق - حتى الآن - غير متاح للفلاحين. والمادة الثانية تسمح لأي بروسي أن يعمل في أي استثمار مشروع، وعلى هذا فستفتح كل المجالات أمام المواهب - كما هو الحال في ظل حكم نابليون - بصرف النظر عن الانتماء لأسرة أو طبقة، وستصبح الحواجز الطبقية لا مكان لها في المجال الاقتصادي، والمادة العاشرة تمنع أي قنانة (عبودية للأرض) أما المادة 21 فتعلن ابتداء من 11 نوفمبر (المارتنماس أي عيد القديس مارتن) لا يصبح في كل ولاياتنا فلاح نصف حر.. سنكون جميعاً أحرارا(71) وقاوم نبلاء كثيرون هذا المرسوم، ولم يصبح ساريا بكل بنوده حتى سنة 1181.
وعمل شتاين Stein والليبراليون المؤيدون له خلال عام 8081 على تحرير المدن البروسية من حكم البارونات الإقطاعيين أو ضباط الجيش المتقاعدين أو متعهدي الضرائب الذين كانت سلطتهم - في الغالب - بلا حدود. وفي 91 نوفمبر سنة 8081 أصدر الملك - الذي أصبح مرة أخرى راغباً في الإصلاح - القانون المحلي للبلديات، يحكم المدن بمقتضاه مجلس محلي (جمعية محلية) تختار موظفيها بنفسها، باستثناء المدن الكبيرة فالملك هو الذي يعين عمدة burgomaster كل منها من بين ثلاثة رجال يختارهم المجلس المحلي. وهكذا بدأت الحياة السياسية الصحيحة على المستوى المحلي وتطورت إلى نظام إداري بلدي ألماني ممتاز. ولم يكن شتاين Stein وحده في رعاية أمور بروسيا. فقد عمل جير هارد (جيراد) فون شارنهورست Gerhard Von Scharnhorst (5571 - 3181) والكونت أوجست نيتهاردت فون جنيسناو Count August Neithardt Von Gneisenau (0671 - 1381) والأمير كارل فون هاردنبرج Karl Von Hardenberg (0571 - 2281) عملوا معا على إعادة بناء الجيش البروسي مستخدمين مختلف الحيل لتحاشي القيود التي فرضها نابليون. وكان تطور هذه العملية (إعادة بناء الجيش البروسي) من التقدم بمكان كما يتضح من خطاب أرسله شتاين في 51 أغسطس سنة 8081 إلى أحد الضباط البروس، ووقع في أيدي الفرنسيين الذين نشروه في جريدة المونيتير Moniteur في 8 سبتمبر وفيما يلي جانب من هذا الخطاب:
السخط يزداد كل يوم في ألمانيا. لا بد أن نطعم الناس ونعمل من أجلهم. إنني شديد الرغبة في إقامة روابط بين هيس Hesse ووستفاليا ومن الضروري أن نعد أنفسنا لأحداث معينة تتطلب منا مواصلة الاتصال بالرجال ذوي الطاقة والقدرة على العمل وذوي النوايا الحسنة. لابد أن نجعل هؤلاء الرجال يلتقون (لتدارس الأمر)... لقد تركت أحداث إسبانيا أثرا حيوياً، لقد أثبتت ما كنّا نتوقعه ومن المفيد أن ننشر هذه الأنباء بحذر. إننا نظن أن الحرب بين فرنسا والنمسا أمر لامناص منه. وهذا الصراع سيقرر مصير أوربا(81). وكان نابليون على وشك الاتجاه إلى إسبانيا لخوض معركة كبرى، فأمر فريدريك وليم بطرد شتاين Stein من منصبه فتوانى الملك في الإذعان إلى أن حذر من أن الجيش الفرنسي سيبقى في الأراضي البروسية إلى أن يذعن لأمر لنابليون. وفي 42 نوفمبر سنة 8081 طرد شتاين مرة أخرى من منصبه، وفي 61 ديسمبر أصدر نابليون من مدريد مرسوما يجعله بعيدا عن حماية القانون (مرسوما بإهدار دمه) ومصادرة كل ممتلكاته والقبض عليه في أي مكان يوجد فيه داخل المناطق التي تسيطر عليها فرنسا. وهرب شتاين في بوهيميا. وسدت بروسيا النقص بتعيين هاردنبرج Hardenberg (0181) مستشارا للدولة - وهو منصب يعني في الواقع (رياسة الوزراء) وكان هاردنبرج عضوا في الحكومة السابقة، وكان قد أعاد تنظيم وزارة المالية وتفاوض في اتفاق السلام في سنة 5971، وتحمل جانبا من المسئولية في كارثة 6081 وطرد من الحكومة بإصرار من نابليون (7081)، والآن فقد بلغ الرجل الستين من عمره، وبينما كان نابليون غارقا في حب إمبراطورته الجديدة، راح هاردنبرج يحرك الملك نحو النظام الملكي الدستوري بحثه دعوة أول جمعية للنبلاء (1181) تم دعوة جمعية لممثلي الأمة (2181) ذات مهام استشارية، ولأن هاردنبرج كان معجبا بالمفكرين الفرنسيين فقد جعل ممتلكات الكنيسة علمانية وأصر على أن ينعم اليهود بالمساواة (11 مارس 2181) وفرض ضريبة ممتلكات على النبلاء وضريبة كسب على رجال الأعمال. وأنهى احتكار الطوائف (نقابات الصناع والتجار ذات الطابع الوسيط - أي العائد للقصور الوسطى) ذلك النظام المعوق ورسخ مبدأ حرية الاستثمار والتجارة.
لقد كانت حركة إعادة بناء بروسيا فيما بين عام 7081 وعام 2181 موحية بالقوة المختزنة في طيات الشخصية الألمانية. فتحت نواظر العيون الفرنسية المعادية، وفي ظل حكم واحد من أضعف الملوك في بروسيا استطاع رجال مثل شتاين Stein وهاردنبرج Hardenberg - ولم يكن أي منهما نبيلا - أن يأخذوا على عاتقهم إعادة بناء أمة مهزومة ومحتلة ومفلسة، واستطاعوا في غضون ستة أعوام أن يسموا بها إلى سنام السلطة والفخر مما جعلها في سنة 3181 القائد الطبيعي في حرب التحرير (المقصود حرب التخلص من السيادة الفرنسية) وأسهمت كل الطبقات في هذا الجهد، فقاد النبلاء الجيش وقبل الفلاحون التجنيد الإجباري وتنازل التجار عن كثير من أرباحهم للدولة وناضل الرجال والنساء من أهل الأدب والفكر في طول ألمانيا وعرضها من أجل حرية الصحافة والفكر والعبادة، وفي سنة 7081، وفي برلين المحشودة بالقوات الفرنسية ألقى فيشته Fichte خطاباته الشهيرة التي وجهها للأمة الألمانية دعا فيها إلى أقليه منظمة لتقود الشعب البروسي إلى طهارة خلقية (معنوية) وبعث وطني جديد وفي كونيجسبرج Konigsberg في سنة 8081 نظم بعض أساتذة الجامعات اتحاد الأخلاق والعلوم عرف فيما بعد باسم عصبة الفضيلة (توجنبوند Tugenbund) وكان هدفه تحرير بروسيا.
وفي هذه الأثناء كان شتاين Stein حائرا خارج بلاده يعاني النفي والفقر، والخوف الدائم من أن يقبض عليه أو تطلق عليه النار، وفي مايو سنة 2181 دعاه إسكندر للانضمام لبلاطه في سان بطرسبرج، وظل هناك مع مضيفه (إسكندر) في انتظار قدوم نابليون.