قصة الحضارة - ول ديورانت - م 11 ك 4 ف 28
صفحة رقم : 14702
قصة الحضارة -> عصر نابليون -> ملوك أوروبا في مواجهة التحدي -> بيتهوفن -> شاب في بون
الفصل الثامن والعشرون
بيتهوفــن
0771 - 7281
تأثير إنجلترا في مسيرة الأحداث
1- شاب في بون
0771 - 2971
وُلد في 61 ديسمبر سنة 0771، وكانت بون هي مقر الناخب الأسقفي لكولوني Cologne التي كانت إحدى إمارات أراضي الراين (قبل أن يقضي نابليون على الحكم ذى الطابع الديني فيها) التي يحكمها رؤساء أساقفة كاثوليك يميلون إلى دعم الفنانين ذوي السلوك الحسن، ورغم أن حكمهم كان ذا طابع ديني إلا أنهم أيضا كانوا ذوي ميول علمانية فاتنة منها دعم الفنانين ذوي السلوك الحسن كما أسلفنا• وكان الجانب الأكبر من سكان بون البالغ عددهم 065،9 نفساً يعتمدون على المؤسسة التي أقامها الناخب الحاكم electoral establishment (أو مؤسسة الإمارة أو مؤسسة الدولة) وكان جد بيتهوفن مغنيا جهير الصوت عميقه في كورس (جوقة المنشدين) الناخب Elector (الناخب في هذا السياق هو من له حق انتخاب الإمبراطور والمعنى الأقرب لفهم القارئ العربي هو: الأمير) كما كان أبو بيتهوفن (جوهان فان بيتهوفن) صادحا tenor (مغن عالي الصوت يفوق صوته كل من يشترك معه في الغناء) في الفرقة نفسها• وترجع الأسرة إلى أصولٍ هولندية إذ كانت قد أتت من قرية بالقرب من لوفين Louvain• والكلمة الهولندية فان Van تشير إلى مكان الأصل ولا تشير كالكلمة الألمانية فون Von أو الفرنسية de إلى لقب نبالة أو حيازة ممتلكات تؤهل للنبالة• وكان جده وأبوه مسرفين في الشراب، وقد ورث عنهما شيئا من ذلك•
وفي سنة 7671 تزوج جوهان فان بيتهوفن من أرملة شابة هي ماريا ماجدالينا كيفيرتش لايم Laym ابنة طباخ في إيرنسبريتشتين Ehrensbreitstein وأصبحت ماريا أما يحبها بشدة ابنها المشهور لبساطتها، وقلبها الحنون• وقد أنجبت لزوجها سبعة أطفال مات أربعة منهم في مرحلة الطفولة، وتبقى لها الإخوة: لودفيج Ludwig وكاسبار كارل (4771 - 5181) ونيكولاوس جوهان (6771 - 8481)•
ولم يكن للأب فيما يبدو سوى راتبه مغنياً صادحاً في بلاط الناخب (الأمير) ومقداره ثلاثمائة فلورين florin فعاشت الأسرة في أحد أحياء الفقراء في بون Bonn، ولم يكن المحيطون ببيتهوفن والمرتبطون به من النوع الذي يجعل منه رجلا مهذبا (جنتلمان)، لذا فقد ظل متمردا فظا (غير مصقول) وقد حث والد بيتهوفن ابنه - أو أجبره - وهو في الرابعة من عمره على العزف على البيان أو الفيولين عدة ساعات نهارا وأحيانا ليلا، رغبة من الوالد في تحسين دخل الأسرة بتقديم ابنه كعازف معجزة• ومن الظاهر أن الطفل لم يكن لديه من نفسه وازع يحثه على عزف الموسيقا وسماعها(1)• وعلى وفق شهود عيان كثيرين أن الطفل (بيتهوفن) كان يجبر على العزف بطرق قاسية حتى إنه كان يبكي في بعض الأحيان• وأحب الطفل الموسيقا بعد أن تعرض لآلام كثيرة بسببها، وظهر بيتهوفن وهو في الثامنة من عمره مع تلميذ آخر في حفلة موسيقية عامة في 62 مارس سنة 8771 وحصل على عائد مادي لم تذكره المصادر• وحث الأصدقاء الأب على التعاقد مع معلمين لينموا مواهب لودفيج Ludwig بيتهوفن•
وبالإضافة لهذا تلقى بعض التعليم الرسمي• لقد علمنا أنه التحق بمدرسة حيث تعلم اللاتينية بقدر يكفي لأن يبث في بعض خطاباته بعض التلفيقات اللاتينية المضحكة• وتعلم قدرا من الفرنسية (التي كانت هي اللغة العالمية في هذا العصر) بقدر يمكنه من الكتابة بها بشكل مفهوم• ولم يتعلم أبداً كيف يكتب هجاء الكلمات في أي لغة بشكل صحيح وقلما كان يكلف نفسه عناء استخدام علاقات الترقيم، لكنه كان يقرأ بعض الكتب بشكل جيد، وكانت هذه الكتب التي قرأها تتراوح بين روايات سكوت Scott والشعر الفارسي Persian وكان ينقل في دفتر خاص به نتفاً من الحكمة التي يلتقطها من قراءاته• ولم يكن يمارس الرياضة إلا من خلال أصابعه (يقصد عزفه على الآلات الموسيقية) وكان يحب أن يرتجل to improvise ولم يكن يضارعه في هذا سوى أبت فوجلر Abt Vogler وفي 4871 تم تعيين ابن مارياتريزا الأصغر - ماكسمليان فرانسيس Maximilian Francis - ناخبا لكولوني (على وفق مصطلح العصر في هذه المنطقة، فإن الناخب يعني من له حق المشاركة في اختيار الإمبراطور الجديد، (ولعل كلمة أمير تقرب المعنى للقارئ العربي فهو إذن قد تم تعيينه أميراً لكولوني) فاتخذ بون مقرا لإقامته، وكان رجلا رحيما رفيقا مولعاً بالطعام والموسيقا وأصبح لفرط حبه للطعام أسمن رجل في أوربا(2) لكنه أيضا جمع أوركسترا من إحدى وثلاثين قطعة موسيقية• وعزف بيتهوفن وهو في الرابعة عشرة من عمره الفيولا (الكمان الأوسط) في هذه الأوركسترا• كما كان له جمهور مستمعين أيضا كعازف مساعد على الأرغن في البلاط (بلاط الناخب) والمعنى أنه كان يعزف على الأرغن إذا غاب العازف الرئيسي، وكان يتقاضى راتبا على هذه المهمة مقداره 051 جلدن gulden (نحو 057 دولاراً؟؟) في العام(3)، وكتب المسئولون عنه تقريرا للناخب (الأمير) في سنة 5871 بأنه كفء••• هادئ وسلوكه حسن، وفقير(4)•
ورغم بعض الشواهد على قيامه بمغامرات جنسية، فإن سلوكه الطيب ونمو كفاءته الموسيقية وتطورها جعلت الناخب (الأمير) يسمح له، برحلة إلى فينا على نفقته (أي نفقة الناخب) لدراسة التأليف الموسيقي• وسرعان ما استقبله موزارت Mozart بمجرد وصوله، وكان موزارت قد سمع عزفه فامتدحه امتداحا معتدلا بشكل مخيب للآمال ظنا منه أن مقدرة الشاب على العزف متوقفة على هذه القطعة التي عزفها والتي عزفها قبله كثيرون، فلما أحس بيتهوفن منه هذا الشك طلب منه (من موزارت Mozart) أن يقدم له مقطوعات مختلفة لعزفها على البيانو، فانبهر موزارت بخصوبة الشاب وتمكنه من العزف، فقال لأصدقائه راقبوه، فسيقدم في يوم من الأيام للعالم ما يجعله موضع حديث(6) لكن هذه القصة تبدو بغير أساس، فقد كان موزارت يعطي الفتى بعض الدروس، إلا أن موت والد موزارت - ليوبولد - في 82 مايو 7871، ووصول أخبار بأن أم بيتهوفن تحتضر قطعت هذه العلاقة التي لم تطل، إذ أسرع بيتهوفن عائداً إلى بون ليكون إلى جوار أمه وهي تموت (71 يوليو)•
وكتب والد بيتهوفن الذي كان صوته الصادح قد تدهور منذ مدة طويلة، كتب للناخب (الأمير) واصفاً فقره المدقع طالباً منه المساعدة• ولم يصل إلينا ما يفيد أنه تلقى ردا لكن مغنياً آخر في الخورس (جوقة العزف في بلاط الناخب) قدم له يد العون، وفي سنة 8871 أضاف لودفيج بيتهوفن نفسه للأسرة دخلاً إضافيا بتدريسه البيان لإليانور فون بروننج Eleonore Von Breuning وأخيها لورنز (لورنتس Lorenz) وقد استقبلته الأم الأرملة الثرية المثقفة كابن من أبنائها، وقد أثرت هذه الصداقة إلى حد ما في تهذيب شخصية بيتهوفن• ومن الذين قدموا لبيتهوفن يد العون الكونت فرديناند فون فالدشتين Count Ferdinand Von Waldstein (2971 - 3281) الذي كان هو نفسه موسيقياً وصديقا مقربا للناخب (الأمير) إذ إنه عندما علم بفقر بيتهوفن راح يرسل له بين الحين والحين أموالا زاعما أنها من الناخب نفسه (من الأمير) وقد أهدى إليه بيتهوفن في وقت لاحق سوناتا البيانو (Opus 53 in C Major) التي حملت اسمه •• وكان لودفيج بيتهوفن لا يزال في حاجة إلى مساعدة أكثر من تلك التي كان يتلقاها حتى الآن لأن والده المكتئب كان قد استسلم للكحول (أدمن معاقرة الخمر) وتم إنقاذه من الاحتجاز (أو القبض عليه) يشق النفس لما يسببه من إزعاج عام• وفي سنة 9871 أخذ بيتهوفن على عاتقه - ولم يكن قد تجاوز التاسعة عشرة من عمره - مسئولية إخوته الأصغرين سنا وأصبح هو رأس الأسرة من الناحية الرسمية، وفي 02 نوفمبر صدر مرسوم من الناخب (الأمير) بإنهاء خدمة جوهان (يوهان) فان بيتهوفن (والد لودفيج بيتهوفن) على أن يدفع نصف راتبه السنوي وقدره مائة ريخشالر reichsthalers لابنه لودفيج بيتهوفن ونصفه الآخر لأخيه الأكبر، واستمر بيتهوفن في كسب مبالغ بسيطة كعازف رئيسي للبيان وأرغني ثان (عازف ثان للأرغن) في أوركستر الناخب (الأمير)•
وفي سنة 0971 توقف فرانز (فرانتس) جوزيف هايدن Haydn - وهو عائد مكلل بالنصـر مـن لنـدن - فـي بـون وهـو فـي طريقـة إلى فينا، فقدم له بيتهوفن كنتاته Cantata كـان قـد ألفهاـ مؤخـرا فامتدحهـا هايـدن، وربمـا علــم الناخـب (الأمـير) بشـيء من هذا الثناء، فلبى اقتراحاً بإرسال الشاب إلى فينا للدراسة مع هايدن وأن يتلقى راتبه في الوقت نفسه كموسيقي عامل في بلاط الناخب (الأمير) وربما كان الكونت فون فالدشتين Waldstein وراء هذه المنحة التي تلقاها صديقه الموسيقي الشاب• لقد كتب في ألبوم لودفيج كلمة وداع كالتالي: عزيزي بيتهوفن، أنت راحل إلى فينا لإنجاز ما طالما تقت كثيراً لإنجازه• إن عبقرية موزارت (الذي كان قد مات في 5 ديسمبر 1971) لايزال ينعيها الناعون•• فلتعمل بجد ولتتلق روح موزارت من أيدي هايدن• صديقك المخلص فالدشتين Waldstein•
وغادر بيتهوفن بون وأباه وأسرته وأصدقاءه في أول نوفمبر سنة 2971 أو في يوم قريبا من هذا التاريخ• وسرعان ما احتلت قوات الثورة الفرنسية بون فهرب ناخبها (أميرها) إلى مينز (منتس Mainz) ولم ير بيتهوفن بون بعد ذلك أبداً•
صفحة رقم : 14703
قصة الحضارة -> عصر نابليون -> ملوك أوروبا في مواجهة التحدي -> بيتهوفن -> تقدم ومأساة
2- تقدم ومأساة
2971 - 2081
عندما وصل إلى فينا وجدها تعج بالموسيقيين المتنافسين على من يرعاهم وعلى جمهور المستمعين والناشرين، والذين ينظرون بازدراء لكل قادم جديد، فلم يجدوا في هذا القادم الجديد من بون جمالا يلطف وقع قدومه فقد كان لودفيج بيتهوفن قصير ا ممتلئ الجسم متجهم الملامح (أطلق عليه أنطون إيسترهيزي اسم البربري the Moor به آثار الجدري (بقايا بثور الجدري)، صف أسنانه الأمامي الأعلى بارز عن صف أسنانه الأمامي الأسفل، وأنفه عريض ممتلئ، وله عينان غائرتان متحديتان، أما رأسه فمثل كرة الرصاص يغطيه بشعر مستعار وحلية a wig & a van• لم تكن شخصيته مهيأة لتكون ذات بعد جماهيري سواء بين العامة أو بين منافسيه من الموسيقيين ومع ذلك فلم يعدم - إلا نادرا - صديقاً منقذاً (يسعفه وقت اللزوم) وسرعان ما وصلت الأخبار بوفاة والده (81 ديسمبر 2971) وظهرت بعض المشاكل فيما يتعلق بنصيب بيتهوفن في راتب أبيه السنوي إذ قدّم بيتهوفن التماساً للناخب [الأمير] طالباً استمرار هذا الدخل السنوي، فرد الناخب الأمير بمضاعفة هذا الدخل وأضاف: لابد من تقديم ثلاثة مكاييل من الحبوب له••• لتعليم أخويه (كارل وجوهان اللذين كانا قد انتقلا إلى فينا(7))• وكان بيتهوفن ممتنا إذ انتهى إلى حلول طيبة• لقد كتب في ألبوم أحد أصدقائه في 22 مايو 3971 مستخدما كلمات شيلر في مؤلفه دون كارلوس Don Carlos: إنني لست شريرا - فالدم الحار هو خطئي - إن جريمتي أنني شاب••• فرغم أن الانفعالات والعواطف الجياشة قد تخدع قلبي وتخرجه عن جادة السبيل، إلا أن قلبي طيب• وقرر أن يفعل كل ما يقدر عليه من الخير، وأن يحب الحرية قبل أي شيء آخر، وألا ينكر الحق حتى أمام العرش(8)•
وأخضع مصروفاته لتكون في الحد الأدنى خاضعا لأحكام الضروة: بالنسبة إلى شهر ديسمبر سنة 2971، 41 فلوريناً (نحو 53 دولاراً؟) للإيجار، ستة فلورينات لتأجير بيانو، الأكل، في كل وجبة 21 كروزر Kreuzer (ستة سنتات) وجبات مع نبيذ 5،6 فلورين (52و 61 دولار؟؟)، وثمة أوراق أخرى للتذكرة تدرج هايد Haydn (كتبها بيتهوفن Haiden) باعتبار أن تكاليف الدروس التي يتلقاها بيتهوفن على يديه في أوقات مختلفة تبلغ جروشين two groschen (بنسات قليلة)، ومن الواضح أن هايدن لم يكن يطلب إلا القليل لقاء دروسه• وقد قبل التلميذ (بيتهوفن) لفترة تصويبات أستاذه بتواضع لكن مع استمرار الدروس وجد هايدن أنه من المستحيل أن يقبل ابتعاد بيتهوفن عن قواعد التأليف الموسيقي التقليدية• وقرب نهاية سنة 3971 هجر بيتهوفن أستاذه العجوز وراح يتردد ثلاث مرات في الأسبوع لدراسة فن مزج الألحان (الكونتربوينت Counterpoint) على يد جوهان جورج البرختشبيرجر Albrechtsberger وهو رجل حقق شهرة معلماً أكثر منه مؤلفاً موسيقياً• وفي الوقت نفسه كان يدرس لثلاثة أيام في الأسبوع آلة الفيولين مع إجناز (إجناتس) شبانتزج وفي سنة 5971 كان قد أخذ كل ما يحتاجه من ألبرختشبيرجر Albrechtsberger فتردد على أنطونيو ساليري Salieri الذي كان وقتها مديرا لأوبرا فينا لدراسة التأليف الموسيقي للأصوات• ولم يكن ساليري يتلقى شيئا من التلاميذ الفقراء• وقدم بيتهوفن نفسه له كفقير فقبله• وقد وجده كل هؤلاء المدرسين الأربعة تلميذا صعب المراس تندفع منه أفكار خاصة به ويرفض أن يشكل نفسه على وفق النظرية الموسيقية التي يقدمها له معلموه• ويمكننا أن نتخيل الرعدات (الارتجافات) التي كانت تعتري بابا هايدن Papa Hayden (الذي عاش حتى سنة 9081) بسبب مؤلفات بيتهوفن بالجهورية (المصوتية الموسيقية Sonorities) وعدم الاتساق• ورغم انحراف بيتهوفن عن الطرق المألوفة المطروقة (وربما بسبب ذلك) فقد حققت إنجازات بيتهوفن له بحلول عام 4971 شهرة باعتباره أكثر عازفي البيانو (مؤلفي المقطوعات الموسيقية للبيان) تشويقا في فينا• لقد ربح البيانو الحديث معركته مع البيانو القيثاري (الذي يتخذ شكل قيثارة)• وكان جوهان (يوهان) كريستيان باخ Bach قد بدأ في سنة 8671 في إنجلترا عزف الألحان الصولو Solos (لحن معد ليعزف على آلة واحدة) على البيانو، وأخذ موزارت بهذا الأسلوب تبعهما هايدن في سنة 0871، وكان موزيو كليمنتى Muzio Clementi يؤلف الكونشرتات (الألحان التي تعزف بمصاحبة الأوركسترا) المخصصة للعزف على البيانو، والتي كانت لمرونتها عواناً بين البيانو والفورت forte (الشديد أي النغم الذي يعزف بشدة) وبين الستاكاتو Staccato (مقطع موسيقي متقطع) والسوستنوتو Sostenuto• لقد استخدم نابليون إمكانات البيانو استخداما كاملا، كما صب كل قدراته هو نفسه لإنتاج كل مايمكن من أعمال موسيقية للبيانو، خاصة في أعماله المرتجلة (غير المعدة سلفا) حيث لايعوق أسلوبه الموسيقي أية نوت موسيقية مطبوعة• وقد أعلن - في وقت لاحق - فرديناند ريس Ries تلميذ هايدن وتلميذ بيتهوفن أيضاً أنه: لا يوجد فنان أبداً فيمن أعرف من الفنانين أو سمعت عنهم يداني بيتهوفن في هذا الفرع من العزف• إن ثروة الأفكار التي تتزاحم فيه (في بيتهوفن)، والترددات والنزوات الفكرية التي يستسلم لها، وتغير المعالجة ومواجهة الصعاب اللحنية تمثل فيه طاقة لاتنفد(9)•
لقد رعاه رعاة الموسيقا في المقام الأول كعازف بيان، ففي حفلة موسيقية ليلية في بيت بارون فان سفيتن (شفيتن Sweiten) دعاه صاحب البيت للبقاء بعد انتهاء برنامج الحفل (كما يروي لنا سندلر كاتب سيرة حياة بيتهوفن) وحثه على أن يضيف قليلا من فجوات fugues باخ Bach ليختم بها السهرة(01) وكان الأمير كارل ليشنو فسكى Karl Lichnowsky الهاوي والموسيقي الكبير في فينا يحب أيضا بيتهوفن حتى إنه كان ليتعاقد معه بانتظام لإحياء حفلاته الموسيقية التي كان يعقدها كل يوم جمعة واستضافه في بيته فترة لكن بيتهوفن - على أية حال - لم يستطع أن يكيف نفسه مع ساعات تناول الأمير لوجباته، فكان يفضل التردد على فندق قريب• وكان الأمير لوبكوفتس lobkowit أكثر رعاة الموسيقى - ممن يحملون رتب النبالة - حماسا، وكان هذا الأمير نفسه عازف فيولين ممتاز، أنفق كل دخله تقريبا على الموسيقا والموسيقيين• وظل لسنوات يساعد بيتهوفن رغم ما حدث بينهما من نزاع، وكان هذا الأمير يتعامل بروح سمحة مع بيتهوفن وإصراره على أن يعامل كند مساو لذوي الرتب من ناحية المكانة الاجتماعية• وكانت زوجات هؤلاء النبلاء الذين يقدمون له يد العون يسعدن بكبريائه واستقلاله ويتلقون على يديه دروس الموسيقا ويتحملن توبيخه بل ويسمحن لهذا الفارس الأعزب الفقير بإقامة علاقات حب معهن من خلال الخطابات، وكن - وكذلك اللوردات - يقبلن إهداءاته ويكافئنه عليها بهدوء(11)•
لقد اقتصرت شهرته على تمكنه من عزف البيان، ووصلت هذه الشهرة إلى براغ prague وبرلين اللتين زارهما في سنة 6971• لكن في هذه الأثناء راح يؤلف الموسيقا، ففي 12 أكتوبر 5971 نشر مجموعة قطعه الموسيقية الأولى (من تأليفه) Opes (الثلاثية الكبيرة Three Grand Trios) التي أعلن جوهان كرامر Johann Cramer بعد عزفها إن هذا الرجل (يقصد بيتهوفن) قد عوضنا عن موت موزارت(21) وتأثر بيتهوفن بهذا المديح فكتب في دفتر مذكراته: ياللتشجيع! فرغم كل ما يعتري جسمي من وهن، فإن روحي هي التي ستحكم مسيرتي•• إن هذا العام سيجعل مني رجلا كاملا• سأنجز كل شيء ولن أؤجل عملا(31) وفي سنة 7971 دخل نابليون حياة بيتهوفن للمرة الأولى، ولم يكن له فيها وجود قبل ذلك• لقد طرد الجنرال الشاب النمساويين من لومبارديا وقاد جيوشه عبر جبال الألب وكان يقترب من فينا فراحت العاصمة (فينا) تعد دفاعاتها بشكل مرتجل بقدر ما تستطيع• لقد راحت تعد المدافع وتجهزها، وتؤلف الترانيم الدينية ليحفظ الله النمسا، وكتب هايدن الآن النشيد الوطني للنمسا: ليحفظ الله فرانتس Gott erhalte Franz den Kaiser, unsern guten kaiser Franz وألف بيتهوفن موسيقا لأغنية حرب أخرى تطالب كل الألمان بمساندة النمسا dertsch Volk sind wir Ein grosses وفي وقت لاحق اعتبر النمساويون هذه المؤلفات الموسيقية ككتائب كثيرة العدد لكنها لم تحرك مشاعر نابليون الذي أجبرهم على سلام مخزٍ•
وبعد ذلك بعام أتى الجنرال بيرنادوت (Bernadotte إلى فينا ليكون السفير الفرنسي الجديد وصدم المواطنين (أهل فينا) بأن رفع من شرفته علم الثورة الفرنسية ذا الألوان الثلاثة• وأعلن بيتهوفن صراحة - كان بالفعل معجبا بالأفكار الجمورية - إعجابه بنابليون، وغالبا ما كان يرى في حفلات الاستقبال التي يعدها السفير الفرنسي الجديد(41)• ويظهر أن بيرنادوت هو الذي اقترح على بيتهوفن فكره تأليف عمل موسيقي لتكريم نابليون وتشريفه(51)•
وأهدى بيتهوفن في سنة 9971 مجموعة ألحانه رقم 31 Opes والتي جعل لها عنواناً هو Grande Sonate Pathetiaqe للأمير ليشنوفسكي Lichnowsky اعترافاً بأفضاله أو أملا في أفضال تأتيه على يديه• لقد كان بإهدائه هذا يرنو لمصلحة قريبة• وكان رد الأمير (0081) هو أن وضع ستمائة جلدن gulden تحت تصرف بيتهوفن حتى أحصل (أي بيتهوفن) على تعيين مناسب(61)• لقد بدأت هذه السوناتا ببساطة وكأنها مقتبسة بتواضع من أعمال موزارت Mozart إلا أنها سرعان ما تشابكت وتعقدت لكنها اعتبرت في وقت لاحق بسيطة إلى جانب سوناتات الهمركلافير the Hammerklavier Sonatas أو الأباشيوناتا Appassionata وكانت السيمفونية الأولى (0081) وسيمفونية ضوء القمر في (C Sharp minor) سنة 1081 هما الأسهل سواء من ناحية العزف أو من ناحية القدرة على تذوقهما• ولم يعط بيتهوفن مقطوعته الأخيره اسمها المشهور لكنه أطلق عليها (Sonata quasi Fantazia) ويظهر أنه لم يكن ينوي تحويلها إلى أغنية محببة• حقيقة أنه أهداها إلى الكونيتسة جوليا جوشياردي Giulia Guicciardi التي كانت من بين ربات الجمال اللائي لم يمسهن واللائى أوحين له بألحانه الموسيقية الحالمة، لكنها (أي السوناتا) كتبت لمناسبة أخرى مختلفة(71)•
لقد شهد عام 2081 إحدى أغرب الوثائق في تاريخ الموسيقا التي طالما رجع إليها الباحثون، وهي جديرة بذلك• إنها الوثيقة السرية وثيقة هيليجنشتادت Heiligenstadt Testament التي لم يكشف عنا إلا عندما تم العثور عليها بين أوراق بيتهوفن بعد وفاته• إنها وثيقة لا يمكن فهمها إلا من خلال مواجهة صريحة مع شخصيته• لقد كان يتمتع بكثير من الصفات الطيبة في شبابه، روح مرحة، ميل للفكاهة، إخلاص في الدراسه، استعداد لتقديم العون للمحتاج، وظل كثيرون من أصدقائه في بون - مثل مدرسة كريستيان جوتلوب نيف Neefe وتلميذته إليانور فون بروننج Eleonore Von Breuning وراعيه الكونت فون فالدشتين Waldstein - أوفياءله رغم أن نظرته للحياة راحت - بشكل متزايد - تتسم بالمرارة• وعلى أية حال فقد راح يفقد صديقا إثر صديق في فينا حتى كاد يصبح وحيدا لكن أصدقاءه عندما علموا أنه على وشك الموت عادوا إليه وبذلوا كل ما في طاقتهم لتخفيف آلامه•
لقد تركت بيئته الباكرة فيه آثارا دائمة لاتمحى، فهو لم ينس أبدا الفقر المدقع والمقلق (ولم يغفر ذلك لبيئته ولم يكن متسامحاً إزاء هذه الظروف) ولم ينس الهوان لرؤية والده وهو يستسلم للفشل والخمر• بل إنه هو نفسه (بيتهوفن) بعد أن أتعسته الأيام راح يستسلم أكثر فاكثر لمعاقرة النبيذ طلبا للنسيان(81)• ويدعو تمثاله المقام في فينا (خمس أقدام وخمس بوصات) للتأمل، ولم يكن وجهه ينم عن حظ حسن أو ثراء، وكان شعره كثا مهوشا خشنا• وكانت لحيته تنتشر حتى قرب عينيه الغائرتين، وكان يتركها لتنمو فتصل إلى نصف بوصة قبل أن يحلقها(91)• لقد جأر بالشكوى في سنة 9181 آه ياربي، يالها من مصيبة (طاعون) أن يكون لشخص مثل هذا الوجه المهلك كوجهي(02) وربما كانت هذه العيوب الخلقية (بكسر الخاء) حافزاً على الإنجاز لكنها بعد الأعوام القليلة الأولى في فينا جعلته يهمل ثيابه وبدنه (صحته) ومسكنه وعاداته• لقد كتب في 22 أبريل سنة 1081 إنني رفيق مهمل (بفتح الميم الثانية)، وربما كان الملمح الوحيد لعبقريتي أن أشيائي ليست دائما في ترتيب جيد وكان يكسب أموالا تتيح له أن يكون له خدم لكنه كان سرعان مايتعارك معهم وقلما احتفظ بهم لفترة طويلة• لقد كان فظا مع من هم أدنى منه، وكان في بعض الأحيان ذلولا خانعا لمن كانوا نبلاء المحتد، لكنه كان غالبا معتزا بنفسه بل ومتكبرا• وكان يقلل من قيمة منافسيه بشكل لا يرحم فكادوا يجمعون على كراهيته• وكان قاسيا مع تلاميذه لكنه علم يعضهم دون مقابل(12)•
لقد كان كارها للناس، لكنه كان متسامحا مع ابن أخيه كارل Karl الذي كان يعاني المتاعب، وكان محبا له، كما كان يحب كل تلميذ ماهر• ولقد قدم للطبيعة عاطفة جياشة لم يستطع أن يكنها للبشر وكان مزاجه - تباعا - سوداويا، لكنه أيضا كان تباعا - ينخرط في حالات ابتهاج صاخبة سواء بنبيذ أو بدون نبيذ• (انظر على سبيل المثال الخطابات 41، 22، 52، 03)(22)، وكان كلامه ينطوي على تورية في كل مناسبة وكان أحيانا يخترع كنى عدائية لأصدقائه وكان أكثر استعداداً للقهقهة منه للابتسام•
وحاول خلال السنوات المزعجة أن يلغي الأحزان التي مررت حياته (جعلتها مريرة)، ففي خطاب بتاريخ 92 يونيو 1081 كتبه لأحد أصدقاء شبابه وهو فرانز (فرانتس) فيجلر Franz Wegeler:
طوال السنوات الثلاث الأخيرة أجد سمعي يضعف بالتدريج• وربما يرجع ذلك للآلام التي أعانيها في بطني•• والتي جعلت حياتي بائسة حتى قبل مغادرتي بون، لكنها غدت أسوأ في فينا حيث كنت مبتلى باستمرار بالإسهال وكنت أعاني من اعتلال غير عادي •• وظل هذا هو حالي حتى خريف آخر عام وأحيانا كنت أستسلم لليأس• يجب أن أعترف أنني حبيس حياة بائسة• فطوال عامين كدت لا أحضر أية مناسبة اجتماعية لأنني لم أكن قادرا على أن أقول للناس: إنني أصم• لو أن لدي مهنة أخرى لكنت قادرا على التغلب على عجزي (صممي)، لكن صممي هذا مصيبة بالنسبة إلي، وأنا عازف ومؤلف موسيقي• إن الله وحده يعلم ما ستأتي به الأيام بالنسبة لي• إنني بالفعل ألعن خالقي وألعن وجودي• أرجوك لاتذكر أي شيء عن ظروفي لأي أحد ولا حتى للورشين Lorchen [إليانور فون بروننج]•
وقضى بيتهوفن شطراً من عام 2081 في قرية هيليجنشتادت Heiligenstadt الصغيرة القريبة من جوتنجن Gottingen آملاً فيما يبدو الاستفادة من حماماتها الكبريتية• وفي أثناء تجوله في الغابات القريبة رأى على مسافة قريبة منه راعيا ينفخ في مزمار، ولكنه لم يسمع شيئا، فتحقق الآن فقط أنه لن يصل إلى سمعه سوى أصوات الأوركسترا العليا• وكان قد بدأ بالفعل قيادة الفرق الموسيقية كما كان قد بدأ التأليف الموسيقي لذا فقد سقط صريع اليأس عندما تحقق أنه لايسمع موسيقا مزمار الراعي، فذهب إلى غرفته وكتب في 6 أكتوبر 2081 ما عرف باسم وثيقة هيليجنشتادت كوثيقة روحية واعتذارية، ورغم أنه ذكر شيئا عنها لأخوية كارل و - بيتهوفن إلا أنه أخفاها بعناية عن كل العيون، ونحن هنا ننقل سطورها الأساسية:
أنتم أيها الناس الذين ظننتم (وقلتم) أنني حقود أو عنيد أو كاره للبشر، كم أنتم مخطئون في حقي، فأنتم لم تعلموا السر الكامن وراء ظهوري بهذا المظهر• لقد كان قلبي وعقلي منذ طفولتي ميالين للعمل الخيّر وكنت دوما تواقا لإنجاز الأعمال العظيمة لكنني أصبحت الآن منذ ست سنوات فاقد الأمل، وتفاقم هذا بسبب الأطباء الحمقى•• وأخيرا أجبرت على مواجهة ما هو متوقع من استمرار مرضي••• لقد ولدت صاحب مزاج متوهج حي بل وحساس لانحرافات المجتمع، فأجبرت منذ وقت باكر على العزلة وعلى أن أعيش وحيدا، وعندما حاولت في بعض الأوقات نسيان ذلك كله صدمت صدمة ما أقساها! لقد كانت صدمة مضاعفة إذ فقدت ما بقي من سمعي، وضاعف الحزن أنني لم أكن استطيع أن أقول للناس تحدثوا بصوت أعلى! اصرخوا، فأنا أصم • آه كيف أقر بصممي، ومن المفترض أنني كموسيقي، أكمل ما يكون في حاسة سمعه••• آه لا أستطيع أن أقر بذلك العجز، لذا سامحوني إذ رأيتموني أبتعد عنكم بينما كان المفروض أن أسعد بالاندماج معكم••• آه يا للخزي عندما يجلس بجواري شخص يسمع الفلوت flute على البعد بينما أنا لا أسمع شيئا• إن مثل هذه الأحداث أسلمتني لحافة اليأس، بل ولما هو أكثر قليلا من ذلك وهو أن أضع حداً لحياتي، ولم ينقذني سوى الفن• آه لقد بدا لي أنه من المحال أن أترك العالم إلا بعد أن أنتج كل ما شعرت أنه يطالب بإخراجه للناس••• آه أنت أيها الواحد القدوس Divine One الذي تعلم ما يخفيه صدري وما تكنه روحي• أنت تعلم أن حب البشر والرغبة في حياة صالحة كامنين في أعماقي• أيها الناس عندما تقرأون في يوم من الأيام كلماتي هذه ستدركون كم كنتم مخطئين في حقي••• وأنتم يا إخوتي كارل و- إذا مت فاسألوا الطبيب شمد Schmid إن كان لا يزال حيا، اسألوه نيابة عني ليصف مرضي وأضيفوا هذه الوثيقة لتاريخي المرضي، فلعل هذا يجعل العالم يتآلف معي بعد موتي ويلتمس لي العذر••• إنني أرغب أن تكون حيواتكم أفضل من حياتي، أوصوا أولادكم بالفضيلة فهي وحدها التي تتيح السعادة، هي وليس المال إنني أحدثكم عن خبرة وتجربة• إنها الفضيلة هي التي كانت سندي أيام بؤسي، فالفضيلة - بعد فني - هي منعتني من الانتحار• وداعا ولتتبادلوا الحب •••إنني أسرع إلى الموت سعيداً•
وفي الهامش كتب: تقرأ وتوضع موضع التنفيذ بعد موتي(32) إن هذه الوثيقة لم تكن وصية منتحر، وإنما تحوى في ثناياها اليأس والأمل (التصميم)• لقد وجد بيتهوفن ضرورة تقبل المشاق والمتاعت التي يمر بهما لينقل لآذان أخرى غير أذنيه الموسيقا القابعة - في صمت - داخل وجدانه• لقد ألف، وكان لايزال في هيلجنشتادت في نوفمبر 2081 سيمفونيته الثانية (in D)، ولم يكن فيها أثر لشكوى أو حزن، وبعد ذلك بعام واحد ألف سيمفونيته الثالثة (البطولة the Eroica) بعد صرخته النابعة من الأعماق، فدخل بهذه السيمفونية الثالثة مرحلته الثانية، وهي المرحلة الخلاقة الأكثر تميزا•
صفحة رقم : 14704
قصة الحضارة -> عصر نابليون -> ملوك أوروبا في مواجهة التحدي -> بيتهوفن -> أعوام سيمفونية البطولة
3- أعوام بطولية أو أعوام سيمفونية البطولة
3081 - 9081
قسم علماء الموسيقا الذين خاضوا هذه الصفحات المحيرة حياة بيتهوفن الفنية في ثلاث حقب: من 2971 إلى 2081، ومن 3081 إلى 6181، ومن 7181 إلى 4281• ففي الحقبة الأولى راح يعمل بشكل تجريبي على وفق أسلوب موزارت وهايدن، ذلك الأسلوب الهادئ الراسخ البسيط• وفي الحقبة الثانية ركز على مراقبة الأداء من حيث التمبو Tempo (درجة السرعة الواجب اعتمادها في العزف) وعلى البراعة في استخدام الأصابع، وعلى الفورس force (درجة القوة في العزف)• لقد اكتشف التناقض في المود mood بين الرقة والقوة• لقد أطلق العنان لقدرته على الإبداع في الألحان على نحو يخالف المألوف كما أطلق العنان لنزعته للارتجال، لكنه أخضع هذا لمنطق الدمج والتناسب والتطور (المقصود تطور اللحن)• لقد غير (جنس sex) السوناتا والسيمفونية فقد حولهما من الرقة والمشاعر الأنثوية إلى الإرادة الرجولية والحسم، وكما لو أن يبتهوفن أراد إبراز هذا التغير في مسيرته فقد أعاد - الآن - المينيوت minuet في الحركة الثالثة مع شرزو Scherzo (موسيقا مرحة مازحة) تضحك في وجه القدر• لقد وجد بيتهوفن الآن في الموسيقا ردا على سوء الحظ: لقد أصبح بمقدوره أن يذوب في الإبداع الموسيقي بشكل يجعل موت جسده مجرد حدث عابر في حياة ممتدة (خلود الذكر)• إنه يقول عندما أعزف أو أؤلف الموسيقا•• تخف أحزاني إلى أدنى درجة(42)• إنه لم يعد يسمع ألحانه الآن بأذنيه وإنما راح يسمعها بعينيه - بقدرة الموسيقى الباطنية على تحويل الأنغام التي يتخيلها إلى بقع وخطوط ثم يسمعها - بلا صوت - من الصفحات المكتوبة•
وتكاد كل أعماله الموسيقية في هذه المرحلة تصبح من الكلاسيات إذ ظهرت الأجيال المتعاقبة كذخائر (ريبورتوار) موسيقية أوركستزالية (المقصود أن الفرق المختلفة حفظتها وأتقنتها، وأصبحت على استعداد لأدائها في أي وقت)• لقد ألف سوناتا الكروتسر Kreutzer sonata (الكروتسر عملة معدنية نمساوية صغيرة)slashمجموعة ألحان 74 في سنة 3081 لعازف الفيولين (الكمان) جورج بردجتور Bridgetower وأهداها إلى رودولف كروتسر Rodolphe Kreutzer مدرس الفيولين (الكمان) في كونسرفتوار باريس، وكان بيتهوفن قد قابله في فينا في سنة 8971، لكن كروتسر حكم على اللحن بالغرابة عن أسلوبه ومزاحه ولم ير أبداً عزفها على مسامع الجمهور• واعتبر بيتهوفن أن أفضل سيمفونياته هي سيمفونية الأرويكا (البطولة)(52) the Eroica التي ألفها في عامي 3081slash4081• ونصف العالم يعرف قصة إهداء هذه السيمفونية - في الأساس - لنابليون• ورغم أن بيتهوفن كان له صداقات بين النبلاء وذوي المكانة، ورغم إهداءاته الحكيمة لأعماله، إلا أنه ظل إلى آخر حياته جمهوريا مصمما وقد هلل لنابليون لقبضه على زمام السلطة في فرنسا وإعادة تنظيم الحكم (9971 - 0081) واعتبر ذلك خطوة نحو الحكم المسؤول، لكن بيتهوفن - على أيه حال - عبر عن أسفه لتوقيع نابليون وفاقا (كونكوردات Concordat) مع الكنيسة• لقد كتب بيتهوفن: الآن انتكست الأمور(62) ويروي لنا شاهد عيان هو فرديناند ريس Ries قصة الإهداء الآنف ذكره، فلنتركه يروي لنا:
في هذه السيمفونية كان نابليون (وهو قنصل أول) موجوداً في عقل بيتهوفن الذي كان يقدره تقدير شديدا في هذا الوقت وشبهه بأعظم القناصل الرومان• وقد رأيت مع عديد من أصدقائه الحميمين نسخة من سيمفونيةالأرويكا Eroica على مكتبه وقد كتب في أعلاها بونابرت وفي أدناها لوجى Luigi فان بيتهوفن ولم نقرأ أي كلمة أخرى••• وكنت أول من حمل له خبر أن نابليون قد أعلن نفسه إمبرطورا، وعندها انفعل ساخطا (أي بيتهوفن) وصاح إنه إذن بشر كالبشر العاديين•إنه سيطأ كل حقوق الإنسان وسينشغل بطموحاته، وسيعلي نفسه فوق الآخرين ويصبح طاغية وتوجه بيتهوفن إلى المنضده فمزق اسم نابليون من فوق صفحة عنوان سيمفونية وقذفه إلى الأرض، وغير الصفحة الأولى وجعل عنوان السيمفونية إرويكا (البطولة) Sinfonia eroica(72)•
وعندما نشرت السيمفونية (5081) حملت العنوان التالي: Sinfonia eroica Per festeggiare il sovvenira d,un gran uomo ومعناها سيمفونية البطولة للاحتفاء بذكرى رجل عظيم(82)•
وفي 7 أبريل 5081 أدتها فرقة موسيقية للمرة الأولى على مسرح آن دير فين Theatre - an - der - wein بقيادة بيتهوفن رغم اعتلال سمعه• وكان أسلوبه في قيادة الفرقة مع شخصيته - مثيرا محكما بارعا، فعند الفقرات الموسيقية الرقيقة جدا (البيانيسيمو Pianissimo) نجده ينحني حتى يكاد الدسك (المكتب المرتفع الخيل) يخفيه، وكلما تصاعد النغم وازداد (كريسندو Crescendo) وجدناه يرفع قامته شيئا فشيئا بالتدريج مع تصاعد النغم، فإذا وصل الصوت للذروة فورتسيمو fortissimo انبثق قافزا في الهواء مادا ذراعيه إلى آخر مدى كما لو كان يريد التحليق فوق السحاب(92)• وتعرضت السيمفونية للنقد بسبب غرابة انتقالها النغمي أي غرابة الانتقال من أسلوب في الأنغام إلى أسلوب آخر (الموديولاشن modulation)، وعنف المقاطع الانتقاليه وصخبها Violent transitions••• ولما بها من حدّة غير مرغوبة• ولطولها المفرط• وقد نصح النقاد بيتهوفن بالعودة لأسلوبه الأول والأكثر بساطة• لكن بيتهوفن أرغى وأزبد وحال إقناعهم بأسلوبه(03)•
وحاول بيتهوفن دخول مجال الأوبرا لضمان نصر جديد، ففي 02 نوفمبر 5081 قاد العرض الأول لأوبرا ليونور Leonore لكن جيوش نابليون كانت قد احتلت فينا في 31 نوفمبر، فهرب الإمبراطور فرانسيس ورؤوس النبلاء، فلم يعد الناس ميالين للأوبرا أو بتعبير أوضح لم تعد أمزجتهم رائعة للاستمتاع بالأوبرا• لقد حقق الأداء فشلا مدويا رغم تصفيق الضباط الفرنسيين الموجودين وسط الجمهور قليل العدد• وقيل لبيتهوفن إن أوبراه his opera طويلة جدا وغير متقنة الترتيب، فاختصرها وراجعها وعرضها مرة ثانية في 92 مارس 6081 ففشلت مرة أخرى• وبعد ذلك بثماني سنوات عندما ازدحمت المدينة بوفود مؤتمرفينا، تم تغيير اسم الأوبرا ليصبح فيدليو Fidelio وتم عرضها للمرة الثالثة فلم تحقق إلا نجاحا متواضعا• لقد كان اتجاه بيتهوفن في التأليف الموسيقي يعتمد على التناغم بين الآلات أو المزاوجة بين أنغامها فقد كان يجد في ذلك رحابة ومرونة أكثر مما كان يجدها في الصوت البشري، لكن المغنين كانوا - على أية حال - تواقين لكسر حواجز جديدة، ولم يستطيعوا - ببساطة - القيام بالأداء الغنائي لبعض الفقرات المحلقة (المتسمة بالسمو) فتمردوا أخيرا• وهذه الأوبرا تعرض الآن في المناسبات بسبب شهرة مؤلفها (بيتهوفن) وبعد خضوعها لمراجعات كثيرة لا مجال لمزيد عليها•
وبعد هذه التجربة الصعبة راح ينتقل من تأليف عمل عظيم خالد إلى آخر• وفي سنة 5081 قدم كونشرتو البيانو (Opus 58 G, No 4,)، واحتفى بعام 6081 بسوناتا (F. Minor ,Opus 57) التي أطلق عليها في وقت لاحق (أباسيوناتا Appassionata) وأضاف ثلاثة أرباع، ومجموعة ألحان Opus 59 وأهداها إلى كونت أندرياس رازوموفسكى Razumovsky السفير الروسي في فينا• وفي مارس 7081 نظم أصدقاء بيتهوفن حفلاً خيريا له - ربما تعزية لفشل عمله الأوبرالي، وفي هذا الحفل أدار عزف سيمفونياته؟ الأولى والثانية والثالثة (إرويكا سيمفونية البطولة) وسمفونيته الجديدة (الرابعة ) (in B Flat,opus 60) ولا ندري كيف تحمل جمهور المستمعين هذا الكم الموسيقي المفرط إلى حد التخمة•
وفي سنة 6081 عهد الأمير ميكلوس نيكولاوس إيستر هيزي Miklos Nicolaus Ester ha,zy إلى بيتهوفن تأليف موسيقا قداس لعيد شفيعة زوجته (إحياء لذكرى القديسة التي تحمل الزوجة اسمها)، فذهب بيتهوفن إلى قصر ايسترهيزي في ايزنشتادت Eisenstadt في المجر وقدم هناك قداسه (C,opus 86) في 31 سبتمبر 7081• وبعد العزف سأله الأمير لكن يا عزيزي بيتهوفن، ما هو الذي فعلته مرة أخرى؟ وفسّر بيتهوفن هذا السؤال على أنه دال على عدم الرضا فغادر القصر قبل انتهاء مدة دعوته•
وأتحف عام 8081 بسيمفونيتين لا زالتا معروفتين حتى الآن في العالم كله: السيمفونية الخامسة (in C Minor) والسيمفونية السادسة (أو الرعوية) (in F.) ويبدو أنه ألفهما معا خلال عدة أعوام فقد تراوح المزاج العام فيهما ما بين الاكتئاب في الخامسة والبهجة في السادسة، وقد تم أداؤهما معا على مسمع من الجمهور للمرة الأولى في 22 ديسمبر 8081، وأدى تكرار أدائهما إلى أن فقدا جاذبيتهما حتى عند عشاق الموسيقا• فلم تعد مشاعرنا تتحرك لقدرٍ يطرق الباب أو طيور تغرد بين الأغصان، لكن ربما كان تلاشى انجذابنا إليهما راجعا لنقص التعليم الموسيقي الذي يمكننا من الاستمتاع بفن مزج الألحان وما فيها من تضاد وتطور واتساق، وتنافس الآلات في الأداء، والحوار بين آلات النفخ والآلات الوترية• وطبيعة كل حركة موسيقية والبناء العام للقطعة الموسيقية وتوجهها• فالعقول التي تتنازع فيها المشاعر والأفكار لابد أن تجد عناء في تتبع هذا تماما كما أن هيجل يجد صعوبة في فهم بيتهوفن، وكما يجد بيتهوفن - أو أي شخص آخر - صعوبة في فهم هيجل•
وفي عامي 8081 و 9081 ألف بيتهوفن كونشرتو البيان رقم 5 (in E Flat, Opus 73) المعروف باسم الإمبراطور• ومن بين كل أعماله، يعتبر هذا الكونشرتو هو الأكثر بقاء وجمالا• إنه عمل لا نمل سماعه أبدا• وعلى أية حال فإننا عندما نسمعه تهتز مشاعرنا اهتزازا يفوق اهتزاز مشاعرنا بالكلمات المصاحبة، فهو عمل موسيقي يتسم بالتألق والحيوية• إنه فيض من مشاعر وبهجة لا حد لهما• إنه عمل ينم عن قدرة إبداعية هائلة• ففي هذا الكونشرتو يسمو الإنسان منتصرا متجاوزا النكبات منشدا قصيدة تعج بالفرح، على نحو أكثر إقناعاً مما في الكورس الجهير في السيمفونية التاسعة•
وربما عكس كونشرتوالإمبراطور والسيمفونية الرعوية ما كان يمر به بيتهوفن من رخاء وازدهار• وفي سنة 4081 تعاقد مع الأرشدوق ردولف ابن الإمبراطور فرانسيس الأصغر - ليعلمه العزف على البيانو، وهكذا بدأ في تكوين صداقة، غالبا ما كانت سببا في زيادة كتمان بيتهوفن لميوله الجمهورية• وفي سنة 8081 تلقى عرضا مغريا من جيروم بونابرت، ملك وستفاليا ليأتي إلى كاسل Cassel ليعمل قائداً لأوركسترا في الفرقة الموسيقية الملكية فوافق بيتهوفن مقابل ستمائة دوكة ذهبية في العام ويبدو أنه كان لايزال مؤملا في أذنيه اللتين كانتا في مرحلة قريبة من الصمم، عندما شاعت الأخبار أنه يتفاوض مع كاسل Cassel اعترض عليه أصدقاؤه ذاكرين له أن في قبوله لهذا العرض نقضا لولائه لفينا فأجابهم إنه ظل يكدح في فينا ستة عشر عاما دون أن يؤمن وضعه• وفي 62 فبراير سنة 9081 تلقى بيتهوفن موافقة رسمية من الأرشيدوق بأنه إذا وافق بيتهوفن على البقاء في فينا، فسيتلقى 0004 فلورين Florin سنويا، يدفع منها ردولف 0051 ويدفع الأمير لوبكوفتس Lobkowitz 007، والكونت كينسكي Kinsky 0081، بالإضافة ما يكسبه بيتهوفن من أية أعمال يؤديها، ووافق بيتهوفن• وفي سنة 9081 وهو العام الذي قبل فيه هذا العرض، مات الموسيقار هايدن المعروف ببابا هايدن فورث بيتهوفن تاجه•
صفحة رقم : 14705
قصة الحضارة -> عصر نابليون -> ملوك أوروبا في مواجهة التحدي -> بيتهوفن -> العاشق
4- العاشق
بعد أن حقق بيتهوفن الاستقرار في أحواله الاقتصادية راح يرنو لزوجة، فطالما كان تواقا لذلك• لقد كان رجلاً حارا محبا للجنس، ومن المفترض أنه وجد متنفسات مختلفه لطاقته(13) لكنه شعر منذ فترة طويلة بحاجته إلى شريكة حياة دائمة• لقد كان في بون في حالة عشق دائمة على وفق ما ذكره صديقه فيجيلر Wegeler وفي سنة 1081 ذكر لصديقه هذا فتاة حلوة عزيزة تحبه ويحبها ويفترض بشكل عام أنه يقصد تلميذته ذات السبعة عشر ربيعا الكونتيسة جوليا جويشياردي Guilia Guicciardi إلا أنها - على أية حال - تزوجت الكونت جلنبرج Gallenberg• وفي سنة 5081 عقد بيتهوفن آماله على الكونتيسة الأرملة جوزفين فون ديم Jovephine Von Deym التي أرسل لها إعلانا عاطفيا كالتالي:
إنني هنا أعدك وعدا مقدسا أنه في غضون وقت قصير سأقف أمامك وأنا جدير بنفسي وبك - آه لو أنك - فقط - راعيت هذا الذي أعنيه، وهو أن أجد سعادتي في أساليب حب لم ترينها•• آه يا جوزفين الحبيبة إن رغبتي فيك ليست رغبة رجل في امرأة (ليست للجنس) وإنما رغبتي فيك أنت لشخصك، إنها فيك كلل متكامل، بكل صفاتك• إن هذا هو كل ما ستحوز على مشاعري نحوك، وكا ما يسترعي اهتمامي حيالك•• دعيني آمل أن يدق قلبك من أجلي، أما قلبي فلن يتوقف عن الدق حباً لك إلا إذا صمت للأبد ولم يعد يدق أبداً(23)•
ويظهر أن الليدي كان لها تطلعات أخرى، فبعد ذلك بعامين كان بيتهوفن لا يزال يرنو للقياها والتقدم لها فلم تجبه وفي مارس 7081 أحب بالعمق نفسه مدام ماري بيجوت Marie Bigot، فاعترض زوجها• فأرسل بيتهوفن خطاب اعتذار لها ولزوجها: عزيزتي ماري، عزيزي بيجوت• إن من مبادئي الأساسية ألا أدخل في أية علاقة - سوى علاقة الصداقة - مع زوجة رجل آخر(33)•
وفي 41 مارس 9081 كتب إلى بارون فون جليشنشتاين Gleichenstein:
الآن يمكنك مساعدتي بالبحث لي عن زوجة• حقيقة أنه يمكنك أن تجد بعض الفتيات الجميلات في فرايبورج Freiburg ربما يكن قد تنهدن لموسيقاي•••إن وجدت واحدة منهن فمن فضلك اعقد رباطا بيني وبينها سلفا (لحين وصولي) - لكن لابد أن تكون جميلة فمن غير الممكن أن أحب أي شيء غير جميل، وإلا لكنت قد أحببت نفسي(43)•
لكن يحتمل أن يكون هذا الخطاب أحد فكاهات (نكات) بيتهوفن•
وكان أمره مع تيريز مالفاتى Therese Malfatti أكثر جدية، وكانت هي الأخرى إحدى تلميذاته، وكانت ابنة طبيب مشهور• ويشير خطابه لها والمؤرخ في 8 مايو سنة 0181 أن حبه كان مقبولا منها• وفي 2 مايو أرسل بيتهوفن طلبا عاجلا إلى صديقه فيجلر - وكان وقتها في كوبلنز (كوبلنتس) - أن يذهب إلى بون ليستخرج له شهادة معمودية (التي يظهر فيها تاريخ الميلاد) لأنهم يقولون إنني أكبر سنا مما أنا عليه ونفذ فيجلر الطلب، لكن بيتهوفن لم يتابع الأمر، وفي شهر يوليو كتب ستيفان فون بروننج Bruning إلى فيجلر: أعتقد أن مشروع زواجه قد فشل، ولهذا السبب لم يعد يشعر برغبة في شكرك على ما بذلته من جهد لاستخراج هذه الشهادة• لقد ظل بيتهوفن حتى الأربعين من عمره يصر على أنه ولد في سنة 2771، بينما تشير شهادة المعمودية (التي يظهر فيها تاريخ الميلاد) أنه ولد في سنة 0771•
وبعد وفاته عثر على ثلاثة خطابات في درج مغلق، وكانت هذه الخطابات من بين أرق وأحر خطابات الحب التي عرفها التاريخ• لكنه لم يرسلها أبدا، ولم يذكر فيها اسما بعينه ولا عنوانا، فظلت خطابات غامضة•• الخطاب الأول يحمل تاريخ 6 يوليو صباحا، ويحكي عن قيامه (بيتهوفن) برحلة تواقة إلى مكان غير محدد في المجر للقاء امرأة، وفيما يلي بعض عبارات هذا الخطاب:
يا ملاكي، يا كلي، يا نفسي (ياروحي)•••• أيمكن أن يصمد حبنا إلا من خلال التضحيات - إلا بالكف عن طلب كل شيء - أيمكنك أن تغيريه فلا تكوني كلية لي، ولا أكون كلية لكِ - آه يا إلهي طالع جمال الطبيعة، ولتقر عينك بهذا الذي يجب أن يكون - الحب يحتاج لكل شيء - سنلتقي يقيناً في وقت أوشك حينه•• قلبي مليء بالكثير الذي أودّ قوله لك• آه إن هناك لحظات أشعر فيها مع ذلك أن الكلام ليس شيئا (لاقيمة له)، فلتبق حقيقتي، وكنزي الوحيد، وكلي (وكل كياني) تماما كما أنا بالنسبة لكِ فأنا حقيقتك وكنزك الوحيد وكلك (روحك)•••
والخطاب الثاني مختصر كثيرا وهو مؤرخ في مساء الأحد، 6يوليو وينتهي كالتالي: آه ياإلهي، كم أنت قريب وكم أنت متعال! أليس حبنا حقا صرحا سماويا - محكم كالقبة الزرقاء• أما الخطاب الثالث فنقرأ فيه مايلي:
صباح الخير - كتب في 7 يوليو رغم أنني في سريري إلا أن أفكاري تنطلق إليك ياحبي الخالد سعيدة طورا وحزينة طورا، في انتظار أن أعرف هل سيصغي لنا القدر أم لا• إن حياتي لاتكون كاملة إلا بك، فإما حياة أنت فيها بجانبي وإما لا حياة - نعم لقد قررت أن أتجول طويلا بعيدا عنك حتى أستطيع أن أطير إلى ذراعيك، لأقول ساعتها إنني أصبحت حقا في بيتي، وأرسل روحي لتستقر فيك في عالم الأرواح•••• آه ياإلهي، لم كان ضروريا أن أفارق من أحب لتصبح حياتي في فينا بائسة؟•
لقد جعلني حبك في وقت من الأوقات أسعد الرجال وأتعسهم - ففي مثل عمري أحتاج حياة ثابتة مستقرة•• كوني هادئة، فبالهدوء وحده يمكن أن نحقق هدفينا بالعيش معا - كوني هادئة - فلتحبيني - اليوم - الأمس - أشتاق إليك حتى البكاء - حياتي - كل كياني - وداعا - آه، واصلي حبك لي - لاتظلمي قلب حبيبك لودفيج وهو أكثر القلوب حبا لك• سأكون لك دوما• ستكونين دوما لي، سيكون كل منا للآخر دوما(53)•
من هي؟ لا أحد يعرف• لقد انقسم مؤرخو حياته فمنهم من قال إنها الكونتيسة Guicciardi - Gdllenberg ومنهم من قال إنها الكونتيسة تيريز فون برونسفيج Therese von Brunswig، ولم يلحق أي كونتيسة منهما ضرر• من الواضح أن الليدي كانت متزوجة، وإن كان الأمر كذلك يكون بيتهوفن بتودده لها قد نسي المبدأ الممتاز الذي اعترف به لآل بيجوت Bigots (والذي أشرنا إليه آنفا)• وعلى أية حال، فهو لم يرسل هذه الخطابات ولم يحدث ضرر لأي طرف من الأطراف وربما استفادت الموسيقا من هذا الحب•
صفحة رقم : 14706
قصة الحضارة -> عصر نابليون -> ملوك أوروبا في مواجهة التحدي -> بيتهوفن -> بيتهوفن وجوتة
5- بيتهوفن وجوته (جيتة)
9081 - 2181
وفي سنة 9081 كانت النمسا - مرة أخرى - تخوض حربا مع فرنسا• وفي شهر مايو كانت القذائف الفرنسية تدك فينا، فهرب النبلاء ورجال البلاط، ولجأ بيتهوفن إلى قبو يحتمي به، واستسلمت فينا وفرض المنتضرون ضرائب على طبقة العوام بلغت عشر دخولهم السنوية، وفرضت ثلث الدخول كضريبة على الأثرياء، ودفع بيتهوفن لكنه وهو آمن على البعد وجه لكمته للغال (الفرنسيين) وكتائبهم وصاح قائلا: إذا أنا - كجنرال - أعرف عن الإستراتيجية، قدر معرفتي - كمؤلف موسيقي• عن تناسب الأنغام، لاقترحت عليك شيئاً تفعله(63)•
ومن ناحية أخرى، شهدت الفترة من 9081 إلى 5181 بيتهوفن وهو في حالة نفسية طيبة نسبياً• ففي هذه الأعوام كان غالباً ما يزور بيت فرانز (فرانتس) برينتانو Fraz Brentano التاجر الثري وراعي الفن والموسيقا، والذي كان يساعد بيتهوفن - أحياناً - بتقديم القروض له• وكانت زوجة فرانز (فرانتس) أنطوني- تعكف في غرفتها لمرضها فكان بيتهوفن - أكثر من مرة يتسلل إليها بهدوء ليعزف على البيانو ثم يغادر دون أن ينطق بكلمة واحدة، فقد كان حديثه إليها بلغة الموسيقا• وفي إحدى مرّات عزفه لها فوجئ وهو يعزف بيدين على كتفه فلما التفت لتبيّن الأمر وجد امرأة شابة (كانت وقتها في الخامسة والعشرين) جميلة، تتألق عيونها سروراً لعزفه بل ولغنائه، لقد كان يعزف موسيقاه التي وضعها لقصيدة جوته (جيته) الشهيرة عن إيطاليا (Kennst du das Land)• لقد كانت هذه المرأة الجميلة هي إليزابث (بتينا Bettina) برينتانو أخت فرانز (فرانتس) وكليمنتس برينتانو الذي سنتناوله فيما بعد كمؤلف ألماني شهير، وهي نفسها أصبحت في وقت لاحق• مؤلفة لعددٍ من الكتب الناجحة تُزاوج فيها بين أدب السيرة الذاتية وأدب الرواية على نحو كان في ذلك الوقت سمة سائدة• إنها - أي هذه المؤلفة - هي مصدرنا الوحيد للقصة التي رويناها لتوّنا، كما أنها هي مصدرنا الوحيد للأحداث اللاحقة التي يظهر فيها أنها سمعت في حفلة في بيت فرانز (فرانتس مناقشات بيتهوفن وفهمتها بعمق بل وروتها بنظام وأناقة كانا يُعوزان أحاديثه بشكل عام، وإن كان هذا النظام وتلك الأناقة يظهران أحياناً في خطاباته• وفي 82 مايو 0181 كتبت - بحماس - عنه (عن بيتهوفن) إلى جوته (جيته) الذي لم تكن تعرفه من خلال علاقات الجوار مع أسرته في فرنكفورت فحسب وإنما وإنما من خلال زيارته في فيمار Weimar، وفيما يلي مقتطفات من خطابها الشهير هذا:
عندما رأيتُ من سأحدثك عنه الآن، نسيتُ العالم كله•• إنه بيتهوفن الذي أود أن أحدثك عنه والذي جعلني أنسى العالم وأنساك•• إنه يسير شامخاً في طليعة الحضارة البشرية•• هل سندركه أو نتخطاه أبداً؟ أشك في ذلك، لكن لنضمن أنه يعيش حتى•• يتطور السر الغامض الكامن في روحه تطوراً تاماً•• ساعتها فإنه بالتأكيد سيضع بين أيدينا مفتاح علمه السماوي (المقدس)•••
لقــد قـال هـو نفسـه: عندمـا أفتـح عينـي لابـد أن أتنهّـد، لأن مـا أراه يناقـض ما فـي ديني، ولابد أن أحتقر العالم الذي لا يدري أن الموسيقا وحي أرقى من الحكمة والفلسفة• إنها النبيذ الذي يوحي للمرء بعمليات تخليق وتوالد جديدة، وأنا عاصِرُ النبيذ the Bacchus الذي يستخلص هذا النبيذ العظيم للبشر لأجعلهم يثملون محلّقين في عالم الروح••
لا أخشى على موسيقاي، فلن يكون مصيرها شراً، فهؤلاء الذين يفهمونها لابد أن تحررهم من كل البؤس الذي يوقع الآخرين في شباكه•••
إن الموسيقا عوان بين الحياة الفكرية والحياة الحسّية• كم أود أن أتحدث إلى جوته (جيته) عن هذا - فهل سيفهمني؟ تحدثي إلى جوته عنّي•• قولي له ليسمع سيمفونياتي وسيجدُ أنني مصيب في قولي إن الموسيقا هي المدخل الروحي الوحيد لعالم معرفي أسمى•••
ونقلت بتينا Bettina إلى جوته (جيته) هذه الأقوال المبهجة التي قالها بيتهوفن، وأضافت: أسْعِدْني الآن برد عاجل يُظهر لبيتهوفن أنك تقدّره وأجاب جوته بخطاب مؤرخ في 6 يونيو 0181:
وصلني خطابك يا طفلتي الحبيبة إلى قلبي في وقت سعيد• لقد تكبدت عناء كبيراً لتصوّري لي طبيعة عظيمة وجميلة في إنجازها وكفاحها•• إنني لا أشعر برغبة في تكذيب ما استطعتُ الإلمام به من انفجارك السريع (حماسك الشديد)، بل العكس إنني أفضل في الوقت الحاضر أن أوفّق بين طبيعتي وما أمكن تمييزه في أقوالك المتعددة الأوجه• فالعقل البشري العادي ربما يجد تناقضا فيها، لكن قبل هذا القول الذي قاله شخص ملهم على هذا النحو، فإن الرجل العادي لابد أن يقف احتراماً له•• قدّمي لبيتهوفن أحر التحيات وأخبريه أنني سأضحي بكل شيء للتعرف به••• ويمكنك أن تحثيه للقيام برحلة إلى كارلسباد Karlsbad التي أذهب إليها كل عام تقريبا لأكون في الغاية من السعادة لسماع موسيقاه والتعلم منه(73)•
ولم يستطع بيتهوفن أن يذهب إلى كارلسباد، لكن أكبر فنّانين في ذلك العصر التقيا في تبليتس Teplitz (منتجع في بوهيميا) في يوليو سنة 2181• وزار جوته الموسيقار بيتهوفن في مقر إقامته هناك وكتب انطباعاته الأولى في خطاب أرسله لزوجته: إنه أكثر من رأيتُ من الفنانين تحلقا حول نفسه (أكثرهم ذاتية) وحيوية وإخلاصا لفنه• إنني أستطيع أن أفهم جيداً كيف أصبحت نظرته للعالم متفردة• إنها لابد أن تكون كذلك(83)• وفي 12 و 32 يوليو قضى أمسيتين مع بيتهوفن الذي عزف ببهجة، وثمة قصة مألوفة عن مرَّة سارا فيها معا:
هناك أقبل نحوهما كلّ أفراد الحاشية وأميرة النمسا والدوقات، فقال بيتهوفن: (أمسك ذراعي لابد أن يُتيحوا لنا مكاناً، لا نحن الذين نتيح لهم مكاناً)، وكان لجوته رأي مختلف وأصبح الموقف محرجاً له، فخلع ذراعه من ذراع بيتهوفن، واتخذ له مكاناً جانبياً وقد خلع قبعته (احتراماً) بينما ظل بيتهوفن طاوياً ذراعه وسار يميناً بين الدوقات ولم يخلع قبعته وإنما أمالها قليلاً، بينما تنحى الدوقات جانباً لإفساح الطريق له، وحيّوه جميعاً بسرور، وعند الطرف الآخر توقف منتظراً جوته (جيته) الذي سمح للدوقات ورجال الحاشية بالمرور به وهو واقف وقد أحنى رأسه، فقال بيتهوفن حسناً لقد انتظرك لأنني أكن لك التقدير والاحترام الجديرين بك، لكنك جعلت هؤلاء الواقفين هناك في مكانة أعلى بكثير(93)•
تلك هي رواية بيتهوفن على وفق ما ذكرته بتينا Bettina التي أضافت قائلة: وبعد ذلك أتانا بيتهوفن سعياً وأخبرنا بكل شيء وليس لدينا رواية بشأن هذه الواقعة عن جوته، وربما كان علينا أن نتشكك نحن بدورنا في هذه القصة التي اختلف الراوون وتضاربوا في تفاصيلها، ذلك أن جوته عندما عبَّر عن غيظه لقطع الحوار بينه وبين بيتهوفن بكثرة التحيات، أجابه بيتهوفن قائلاً: لا تدعهم يسببون لسعادتكم إزعاجاً، فربما كانت هذه التحيات موجهة لي(04)•
قد تكون الرواية مشكوكاً فيها، وقد تكون صحيحة، وفي كلا الروايتين وجدنا من يجعلها متسعة مع بعض التعبيرات التي ذكرها كل من العبقريين في معرض تلخيص مقابلاته، وفي 9 أغسطس كتب بيتهوفن إلى ناشريه في ليبزج (ليبسيج) - برتكروبف Bretkropf وهارتل Hartel: جوته مغرم غراماً شديد بأجواء البلاط أكثر من غرامه بأنه شاعر• وفي 2 سبتمبر كتب جوته لكارل زلتر (تسلتر):
لقد تعرفت على بيتهوفن في تيبليتز TEplitz• إن موهبته أذهلتني• لكنه لسوء الحظ ذو شخصية غير أليفة بالمرّة ليس فقط لنظراته الخاطئة للعالم، فهو يمقت ما حوله وإنما أيضاً لأنه لم يعمل على جعل هذا العالم مبهجاً له أو للآخرين• ومن ناحية أخرى فإنه رجل يمكن أن نسامحه وهو جدير تماماً بذلك فهو يدعو للشفقة فهو يفقد سمعه، وربما يشوّه هذا الجانب الموسيقي في طبيعته أكثر مما يسبب له مشاكل اجتماعية• إنه ذو طبيعة مقتضبة لا يحب الإطناب، وربما ضاعف اعتلال سمعه من ميله للإيجاز (عدم الإفراط في الكلام)(14)•
صفحة رقم : 14707
قصة الحضارة -> عصر نابليون -> ملوك أوروبا في مواجهة التحدي -> بيتهوفن -> الانتصارات الأخيرة
6- الانتصارات الأخيرة
1181 - 4281
أينما ذهب، ألّف الموسيقا، ففي سنة 1181 وضع المجموعة الموسيقية 79 في شكلها الأخير (in B Flat) (Opus 97) وهي ثلاثية للبيان والفيولين (الكمان) والفيولونسيل Violoncello وأهداها إلى الأرشدوق رودلف، فحملت اسمه• وهي المجموعة الأكثر بهجة ووضوحاً من بين أعماله إذ لا يعتريها الاضطراب إلا في أضيق الحدود، وهي متناسقة فيها تكامل عضوي يُضفي عليها الجمال الكلاسيَّ والمهابة• وكان ظهوره لآخر مرّة كمؤدٍ (عازف) على البيان عند تقديمه لهذا العمل الكلاسي في أبريل سنة 4181• لقد كان الآن (عند أداء هذا العمل) وقد بلغ به الصمم حدا يجعله يفقد الحكم الصائب على صحة الضرب على مفاتيح البيان، فبعض الأصوات الصارخة (الفورتيسيمي Fortissimi) كانت تخفت منه، وبعض الأصوات الواهنة (البيانيسِّيمي Pianissimi) كانت تتلاشى منه وتصبح غير مسموعة•
وفي مايو سنة 2181 بينما كان نابليون يسوق نصف مليون مقاتل إلى الموت في روسيا، أصدر بيتهوفن سيمفونيته السابعة التي قلما عزفها العازفون، وهي تبدو الآن أفضل من سيمفونيتيه الخامسة والسادسة• هنا (في السيمفونية السابعة) نجد ألحانا حزينة جنائزية مُعتمة لضياع العظمة وتحطم الآمال، وهنا أيضاً حنين، وهنا حزن لضياع الحب الباقي، وهنا تساؤل حول السلام ومحاولة للفهم•• وكما كان مارشه March الجنائزي مقدمة موسيقية عفوية (غير مقصودة) لهزيمة نابليون في موسكو فإن عرضه (أداءه) للمرة الأولى في 8 ديسمبر 3181 كان مُزامنا لانهيار قوات نابليون في ألمانيا وأسبانيا• وقد أسعد الاستقبال الحماسي الذي لقيته هذه السيمفونية المتشائم العجوز (بيتهوفن) الذي استمر في إنتاج أعمال خالدة التي لابد أن نعتبرها بالنسبة إليه كأعمال كيتس Keats في الجرّة الإغريقية Grecian Urn: أغان بسيطة بلا نغم•
ولم يستقبل مستعمو الموسيقا سيمفونيته الثامنة استقبالاً حسناً كسابقتها، وكان قد كتبها في أكتوبر سنة 2181• واسترخى الاستاذ وقرر ألاّ يعكف على الأعمال ثقيلة الوطأة، ولم يتوافق تمام الموافقة مع مزاج أمةٍ ترقب مصيرها (قدرها) يومياً وهو معلَّق على نتائج الحرب، وإنما كان من رأيه أن نبتهج الآن• لقد عكف على بندول الإيقاع (الميترونوم metronome) والسيرزاندو المرح المتبختر Scherzando، لقد كان هذا إبداعاً جديداً عامراً بالمرح والفكاهة•
وكانت أكثر تآليف بيتهوفن الموسيقية نجاحاً هي مقطوعة (Die Schlacht von Vittoria) التي عُزفت في فينا في 8 ديسمبر 3081 احتفاءً بالمعركة التي استطاع فيها ولنجتون Wellington تدمير القوة الفرنسية في إسبانيا• لقد فرحت فينا أخيراً بوصول هذه الأخبار إليها فلطالما كانت مُحبطة لما يبدو من أن هذا الكورسيكي (نابليون) لا يُقهر• والآن أصبح بيتهوفن بالفعل شهيراً في المدينة التي تبنّته (فينا)• لقد كان موضوع هذه المقطوعة وما حققته من نجاح سبباً في جَعْل بيتهوفن معروفاً ومشهوراً لدى أصحاب الجلالة والفخامة والسمّو الذين حضروا مؤتمر فينا المعروف• وانتهز بيتهوفن الفرصة لينظم حفلاً موسيقيا لصالحه فقدم له البلاط الإمبراطوري - انتشاء بالنصر - قاعته الواسعة (الريدوتنسال Redoutensual)، وأرسل بيتهوفن دعوات شخصية لأصحاب المقام الجليل ممن حضروا المؤتمر، فحضر ستة آلاف شخص، فأصبح نابليون ثرياً قادراً على ادخار مبلغ كبير لتأمين مستقبله ومستقبل ابن أخيه•
وفي 11 نوفمبر سنة 5181 مات أخوه كارل Karl بعد أن ورَّث (بوصيّة) مبلغاً بسيطاً لأخيه لودفيج (بيتهوفن)، كما عينه (أي عيّن أخاه لودفيج بيتهوفن) وأرملته وصييّن على ابنه كارل ذي الثمانية أعوام• وواصل بيتهوفن في الفترة من 5181 إلى 6281 في الأوساط الأدبية وفي المحاكم نضاله الذي راح يذوي شيئاً فشيئاً مع تيريزا أرملة أخيه للحصول على رعاية ابن أخيه كارل وتنشئته وتعليمه، وكانت تيريزا قد قدّمت لكارل الكبير دوطة Dowrg ومنزلاً، لكنها كانت قد غرقت في إثم الزّنا، وكانت قد اعترفت لزوجها بأنها زنت فسامحها، لكن بيتهوفن لم يسامحها أبداً لارتكابها فاحشة الزنا، واعتبرها غير جديرة برعاية ابن أخيه (واسمه أيضاً كارل) ولن نتتبّع تفاصيل هذه القصة بجزئياتها القذرة• وفي سنة 6281 حاول كارل (ابن أخي بيتهوفن) الانتحار بسبب تمزقه بين أمه (الزانية) وعمه (الموسيقار بيتهوفن) لكن أحواله صلحت أخيراً فالتحق بالجيش وراح يرعى أموره بشكل طيب•
ومع سنة 7181 كان بيتهوفن في المرحلة الأخيرة من حياته الإبداعية• لقد ظل بيتهوفن لفترة طويله ثائرا في سياساته الخاصة، أما الآن فقد أعلن هذه الثورة ضد القواعد الكلاسية ورحب بالحركة الرومانسية في الموسيقا، وخفف من وطأة البناء الكلاسي في السوناتا والسيمفونية لينطلق بها إلى رحاب العاطفة والتعبير عن الذات• لقد تأثر بيتهوفن بشيء من الروح المتمردة الحماسية التي كانت في فرنسا من خلال كتابات روسو وأحداث الثورة الفرنسية، والتي كانت في ألمانيا خلال فترة الغليان Sturm und Drag في كتابات جوته (جيته)(فيرتر ليدن Werthers Leiden) والشاب شيلر Schiller (دي راوبرت Die Raubert) ومن ثم في قصائد تيك Tieck ونوفاليس Noivalis، وفي الكتابات النثرية لشليجل Schlegels، وفي الكتابات الفلسفية لفيتشة Fichte وشلنج Schelling لقد وصل شيء من هذا كله لبيتهوفن فوجد تربة خصبة في نزوعه الفطري للاتجاه العاطفي وتميزه الفردي الفخور• لقد زوت قيود النظام القديم في الفن، كما زوت في القانون والمعاهدات، مخلية السبيل أمام الحرية الفردية المصممة على شق طريقها ضاربة عرض الحائط بالقواعد والقيود والأشكال القديمة• لقد سخر بيتهوفن من الجمهور كسوائم ومن النبلاء كمدعين• لقد هزأ من المعاهدات والاتفاقات باعتبارها بعيدة أولا صلة لها بالإبداع الفني ورفض أن يكون حبيس القوالب التي لا تليق إلا بالأموات، بل وحتى تلك التي كانت تليق بباخ Bach وهاندل Handel وهايدن Haydn وموزارت وجك Gluck• لقد أحدث ثورته الخاصة بل وحتى إرهابه Terror الخاص، وجعل مقطوعة أغنية فرحة Ode to Joy إعلانا للاستقلال حتى في توقعه للموت•
لقد شكلت سونتاته الصارخة (الهمركلافير Hammerklavier) جسراً بين مرحلته الفنية الثانية، ومرحلته الثالثة• حتى اسمها كان ثورة• وقد اقترح بعض التيوتون Teutons الذين سئموا هيمنة اللغة الإيطالية في الاقتصاد والموسيقا، استخدام اللغة (المقصود المصطلحات) الألمانية بدلا من الإيطالية في النوت الموسيقية والآلات الموسيقية، وعلى هذا كان من رأيهم ضــرورة أن يســتبدل الموســيقيون بمصطــلح منخفــض Low وعـال Strong المصطلح الألماني همركلافير Hammerklavier مادام النغم ينتج بالطرق الخفيف على الأوتار (بواسطة مفاتيـح البيـان بطبيعـة الحال) وقبل بيتهوفن الفكرة بالفعل وكتب إلى صانع الآلات الموسيقية سيجمون شتينر Sigmund Steiner في 31 يناير 7181 بدلا من مصطلح Pianforte اكتب همركلافير Hammerklavier فهذا سيجعل الأمر مستقراً إلى الأبد وللجميع(24)•
وكانت السوناتا الثانية (Opes 106 in B Flat) في مجموعة سونتاته الصارخة (الهمركلافير) هي الأكثر لفتاً للنظر• كتبها في عامي 8181 و 9181 باعتبارها السوناتا الكبيرة للهمركلافير Grosse Santa fur das Hammerklavier وأخبر زيرنى (تسيرنى) Czerny أنها ستظل أعظم مقطوعاته الموسيقية التي ألفها للبيان وأكد عازفو البيان في الأجيال المتعاقبة ذلك • وأنها تبدو معبرة عن استسلام بيتهوفن، ومع هذا فإنها تمثل انتصار الفن على اليأس• إنها أكثر من هذا فهي رفض للجزع والكآبة حتى إن بيتهوفن أتم بعدها سيمفونيته التاسعة• لقد بدأ في تأليفها في سنة 8181 في الوقت نفسه الذي يكتب فيه أيضا عمله (Missa Solemnis) الذي كان يعد ليتم أداؤه بمناسبة تنصيب (ترسيم) الأرشدوق ردولف رئيسا لأساقفة أولموتس Olmutz، وانتهى من موسيقا القداس أولا (قداس Missa Solemnis) وكان ذلك في سنة 3281 وبذلك تأخر عن ميعاد الترسيم (التنصيب) ثلاث سنوات•
ورغبة من بيتهوفن في إضافة القليل (من المال) لما لديه ليكون مفزعاً له في الشيخوخة، وليوصي منه لابن أخيه كارل - فكر في بيع اشتراكات في نسخ من موسيقا قداسه الآنف ذكره قبل نشرها، وأرسل دعوى بهذا الصدد لملوك أوربا وحكامها طالبا من كل منهم خمسين دوكات ذهبا(34)• وأتته الموافقة ببطء، لكن في سنة 5281 أتته عشرة ردود: من حكام روسيا وبروسيا وفرنسا وسكسونيا وتوسكانيا، وأمراء جوليتسين Golitsyn وراد زيفيل Radziwill ومن جمعية في فرانكفورت (هي جمعية Caecilia Association og Frankfort) وموسيقا القداس التي نتحدث عنها (Missa Solemnis) طال تدبره فيها قبل إخراجها للناس، واتسمت بغرابة بدائل شكلها النهائي، فكانت تلقى القبول بشكل عام• وليس فيها أثر لهرطقاته التي كانت تظهر في بعض المناسبات والتي شككت في عقيدته الكاثوليكية الموروثة، فكل نبضة في هذه الليتورجية (موسيقا القداس) تتفق مع موسيقا الكونكوردات (موسيقا التوافق مع الكنيسة الكاثوليكية) ومن خلال نغماتها كلها يمكن أن نسمع عقيدة يائسة لرجل يموت• لقد كتب في مستهل بيان عقيدته في مخطوطة قطعته الموسيقية: الله فوق الجميع - الله لم يتخل أبداَ عني(44) لقد كانت موسيقاه في موسيقا القداس هذه تعبيرا قويا جدا عن التواضع المسيحي لكن التركيز الشديد عل كل جزء وفقرة، ومايساند ذلك كله من جلال وفخامة جعلت هذه المقطوعة الموسيقية (Missa Solemnis) أضحية أخيرة ومناسبة لروح حائرة لله الذي لايسبر أغواره أحد incomprehensible وفي فبراير سنة 4281 أكمل سيمفونيته التاسعة التي ناضل فيها ليعبر عن فلسفته الأخيرة - أن يقبل الإنسان قدره بسعادة - وليكسر كل قيود النظام الكلاسي (في التأليف الموسيقي) ومضى الملك المتهور تاركا كبرياءه لتقوده لابتهاج كاسح للتضحية بالنظام الموسيقي القديم حتى الجيد منه للحرية الشابة الجيدة (أيضا)• لقد اختفت عن مسامع السامعين إلا سمعه الباطني (السري) أوبتعبير آخر إلا من دوي النغمات في أعماقه كل المذابح altars المتناثرة التي كان عليه أن يختار منها والتي كان يجب أن تقف شامخة كالأعمدة التي تحمل الصرح• لقد بدت الفقرات الموسيقية مفرطة في التكرار والإصرار، وفي بعض السياقات كانت تظهر لحظة من الرقة أو الهدوء ومن ثم ينطلق النغم الصارخ (الفورتيسيمو fortissimo) وكأنما ينبه عالما مجنونا غير مستجيب• لكن الدارس العظيم للموسيقا لايرى الأمر كذلك، وانما يرى في هذه الوفرة الموسيقية وهذا الثراء الموسيقي بساطة في الشكل لا حد لها، وإتقاناً للتفاصيل الموسيقية التي قد تبدو لأول وهلة مربكة حتى نتحقق أنها متسقة مع نتائجها المنطقية•••(54)•
وربما ألغى الأستاذ (بيتهوفن) بشكل غير معلن الجهود الكلاسية ليقدم لنا شكلا موسيقيا خالدا (دائما) لمعنى محجوب أو جمال هائل (لا حد له)• لقد اعترف باستسلامه وراح يمرح في ثروته غير النظامية - ثروة خياله ومنابع فنه السخية• وفي النهاية عاد أسير تحديات الشباب، وادخر للموسيقا أغنية شيلر Schiller التي لم تكن - حقيقة - مجرد أغنية مرحة، وإنما كانت حربا مرحة سعيدة ضد الحكم المطلق وضد البعد عن القيم الإنسانية:
- واجهوا الملوك بأرواح ملؤها الرجولة
- حتى لو كلفنا هذا ثرواتنا وأرواحنا
- ففي دمار التيجان حياة لما هو أجدر
- الموت لهم جميعا - إنهم ذوو دماء كاذبة
(أويسري لكذب فيها)
لقد راح بيتهوفن الآن بعد اكتمال أعماله الكبرى ووصوله لأوج اكتمال فنه الموسيقي يتطلع إلى فرصة لتقديمها للجمهور، لكن روسينى Rossini كان قد فتن النمسا في سنة 3281 بالإضافة إلى أن متذوقي الموسيقا البنادقة أصبحوا الآن مفتونين بالأنغام الإيطالية فأحجم مديرو الفرق الموسيقية المحليون عن المخاطرة بتقديم عملين موسيقيين يتسمان بالصعوبة مثل موسيقا القداس التي أسماها بيتهوفن (Missa Solemnis)، والسيمفونية الكورالية• وعرض منتج من برلين على بيتهوفن تقديمها فأوشك على قبول العرض، إلا أن مجموعة من عشاق الموسيقا على رأسها أسرة ليشنوفسكى Lichnowsky حذرت مؤلف فينا الموسيقي البارز من اللجوء إلى عاصمة منافسة لفينا لعزف آخر أعماله وأكثرها بهاء، وتعهدت بعزفها على مسرح كير نتنيرثور Karntnerthor، وبعد مساومات شاقة من كل الأطراف تحدد ميعاد الحفل الموسيقي في 7 مايو 4281 ببرنامج ثم تكييفه على وفق المتاح من الإمكانات: مستهل موسيقي، وأربعة أجزاء من موسيقا القداس Missa Solemnis والسيمفونية التاسعة مع كورس ألماني جهير، ولم يستطع المغنون الوصول إلى المستوى المرتفع للنوتة الموسيقية، فحذفوا ما لم يستطيعوا أداءه(64)، واستقبل الجمهور موسيقا القداس استقبالا وقورا، أما السيمفونية التاسعة فأثارت إعجابا حماسيا• وكان بيتهوفن يقف على المسرح وظهره للجمهور، ولم يكن يستطيع سماع التصفيق، فكان عليه أن يدير وجهه للجمهور ليراه (التصفيق) رأي العين(74)•
صفحة رقم : 14708
قصة الحضارة -> عصر نابليون -> ملوك أوروبا في مواجهة التحدي -> بيتهوفن -> انتهت الملهاة (كوميديا فينيتا)
7- انتهت الملهاة (كوميديا فينيتا)
4281 - 7281
لقد تشاجر بيتهوفن مع شيندلر Schindler وأصدقاء آخرين بسبب المبلغ القليل (024 فلورين) الذي تلقاه من عوائد الحفل الموسيقي البالغ 002،2 فلورين• لقد اتهمهم ببخس حقه، فتركوه وحيدا، ولم يكن يتردد عليه إلا ابن أخيه في المناسبات، وقد كانت محاولة ابن الأخ هذا الانتحار في سنة 6281 مما ضاعف أحزان بيتهوفن فطفح به كيل الحزن، وفي هذه الأعوام كتب بيتهوفن آخر خمسة كارتيتات quartets من كارتيتاته البالغة ستة عشر كارتيتاً (الكارتيت قطعة موسيقية تعزفها أربع آلات) وبدأ تأليفه لهذه الكارتيتات في سنة 3281 عندما عرض الأمير نيكولاي جوليتسين Nikolai Golitsyn أن يدفع أي مبلغ مقابل كارتيت واحد أو كارتيتين أو ثلاثة تهدى إليه، ووافق بيتهوفن أن يأخذ لقاء كل كارتيت خمسين دوكات (الكارتيت لحن موسيقي تعزفه أربع آلات)• وهذه الكارتيتات الثلاثة تحمــل الأرقــام التالية (opp. 127, 130 & 132) أما العملان اللذان يحمــلان أرقــام ( Opp. 131 & 135) فهما الكارتيتان النهائيان اللذان اتسمت موسيقاهما بالغموض الباطني والغرابة مما ضمن لهما الشهرة• وتم عزف الكارتيت رقم 031 بشكل خاص في سنة 6281 فجاهر المستمعون باستحسانهم إياه وبهجتهم به إلا أن العازفين وجدوا الحركة الرابعة فيه صعبة الأداء، فأعاد بيتهوفن كتابة هذه الحركة الأخيرة بشكل أبسط• وهذه الحركة التي كان قد تم رفضها يتم عزفها الآن في المجموعة اللحنية 331 Grosse Fugue,Opus 133 إذ فسرها أحد دارسي بيتهوفن بأنها تعبر عن فلسفته النهائية: الحياة والحقيقة تكونان نقيضين لاينفصلان - الخير والشر، والفرح والتعاسة، والصحة والمرض، المولد والوفاة، ولابد أن تتكيف الحكمة مع هذا، فهذا هو جوهر الحياة الذي لا مناص منه• وأعظم هذه الكارتيتات في نظر بيتهوفن، هي رقم 131 (inCSharp Minor) وقد انتهى من تأليفها في 7 أغسطس 6281، وقد حظي هذا الكارتيت بثناء المستحقين والنقاد أكثر مما حظيت به الكارتيتات الأخرى• لقد قيل أن في هذا الكارتيت نظرة باطنية (صوفية) معروضة بشكل تام(84) وقال السامعون لها مؤخراً أنها تبدو كعويل غامض، وأنين مرير لحيوان أصيب بجرح مميت• وآخر الكارتيت الخامس (Opus 135) يطرح سؤالاً في حركته الأخيرة: أكان هذا ضرورياً؟ (Muss es Sein?) وكانت الإجابة: نعم Es muss Sein•
وفي 2 ديسمبر سنة 6281 أصيب بيتهوفن بسعال حاد فاستدعى طبيباً، فرفض طبيبان من أطبائه الذين سبق أن عالجوه - الحضور إليه(94) وأتى إليه الطبيب الثالث فافروخ Wawruch وشخَّص حالته بأنه مصاب بداء الرّئة (نويمونيا Pneumonia) وعكف بيتهوفن في سريره وأتى أخوه جوهان Johann لرعايته، وغادر ابن أخيه كارل بناءً على استدعاء الجيش له، فباركه بيتهوفن (دعا له أن تصحبه السلامة)، وفي 11 يناير انضم الدكتور (الطبيب) مالفاتي Malfatti إلى الطبيب فافروخ لعلاج بيتهوفهن، فوصف تناول المريض شراب البنش المجمّد (البنش شراب مسكر به كحول وليمون وأعشاب أخرى) لمساعدته على النوم، فحسّن بيتهوفن من مذاقه بإضافة الكحول المقطر لقد أساء استخدام الوصفة الطبية(05) فتفاقم الاستسقاء Dropsy واليرقان Jaundice، ولم يستطع التبول فتراكم البول في جسمه، وثم سحب البول من جسمه مرتين فقارن نفسه بنبع ماء حار•
ورغم مرضه فقد قرر ألا ينفق من أسهمه البنكية (التي بلغت قيمتها الإجمالية عشرة آلاف فلورين) لأنه ادخرها لابن أخيه كارل، والآن فقد كان مضطراً لكثرة النفقات فكتب إلى السير جورج سمارت Smart في لندن في 6 مارس 7281:
ماذا سيحدث لي؟ هل سأعيش حتى أستعيد قوتي وأستطيع أن أكسب عيشي مرة أخرى عن طريق قلمي؟••أتوسل إليك أن تستخدم كل نفوذك لحث جمعية عشاق الموسيقا لتنفيذ قرارها الذي اتخذته في وقت سابق بإقامة حفل موسيقي لصالحي• ولا تساعدني صحتي على أن أقول المزيد(15)•
وأرسلت له الجمعية مائة جنيه مقدمة لعوائد الحفل الموسيقي المقترح•
وفي 61 مارس اتفق الأطباء على أن بيتهوفن لم يبق بينه وبين الموت وقت طويل، فطلبوا منه - وكذلك طلب أخوه جوهان (يوهان) أن يوافق على استدعاء قس، فوافق• إذ يبدو أنّه نسي الآن ملاحاته للرّب ففي خطاب أرسله في 41 مارس يذكر أنه، يقبل كل ما تقرّه حكمة الله سبحانه (25) وفي 32 مارس تلقى أسرار المسيحية المقدسة Sacrament لآخر مرة، ويظهر أنه قبلها بمزاج مرحّب، وقد ذكر أخوه في وقت لاحق أن الرجل المحتضر (بيتهوفن) قال له: شكراً على هذه الخدمة الأخيرة(35)، وقال بيتهوفن لصديقه شيندلر Schindler وهو يحتضر بعد انتهاء الطقوس الدينية (تلقين أسرار المسيحية): كوميديا فينيتا أي لقد انتهت الملهاة أو المهزلة وهو لا يقصد غالباً الطقوس الدينية وإنما الحياة نفسها(45)، وكانت هذه العبارة (كوميديا فينيتا) تستخدم في المسرح الروماني الكلاسي لإعلان نهاية المسرحية•
لقد أسلم بيتهوفن الروح في 62 مارس 7281 بعد ثلاثة أشهر من المعاناة، و قبل لحظات قليلة من إسلامه الروح غمر الغرفة ضوء أضاء الغرفة أعقبها رعد شديد، فرفع بيتهوفن ذراعه اليمنى ووجه قبضته (لكمته) إلى شيء ما، يبدو أنه وجهها للعاصفة، وبعدها مباشرة انتهت آلامه (حياته) ولن نعرف أبداً ما تعنيه هذه الإيماءة الأخيرة (توجيهه لكمة إلى شيء ماء)•
وأظهر فحص جثته اضطرابات داخلية معقدة هي التي كانت سوّدت حياته ومزاجه• لقد كان كبده متقلّصة سقيمة•
وكانت شرايين أذنيه قد سدتها جزئيات دهنية كما كان العصب السمعي تالفاً• إن آلام الرأس وعُسر الهضم والمغص واليرقان - تلك الأمراض التي كان يشكوا منها باستمرار، بالإضافة إلي الإحباط العميق الذي يُفسّر ما ورد في كثير من خطاباته - كل هذا كان نتيجة طبيعية لالتهاب الكبد المزمن وعسر الهضم(55)• وربما كان حبه للمشي والهواء الطلق قد خفّفا من آلامه، وأتاحا له ساعات في حياته لا يعاني فيها ألماً•
وحضر جنازته ثلاثون ألفاً، وكان هَميل Hummel عازف البيان، وكروتسر Kreutzer عازف الفيولين من بين حاملي بساط الرحمة في جنازته، وكان شوبرت Schubert وزيرني Czerny وجريلبارتسر Grillparzer من بين حاملي المشاعل فيها (في جنازته)، ولم يُكتَب على شاهد قبره سوى الاسم بيتهوفن، وتاريخ ميلاده وتاريخ وفاته•