قصة الحضارة - ول ديورانت - م 11 ك 4 ف 26

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 14690



قصة الحضارة -> عصر نابليون -> ملوك أوروبا في مواجهة التحدي -> إيطاليا وغُزاتُها -> خريطة إيطاليا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل السادس والعشرون: إيطاليا وغُزاتُها 1789 - 1813

خريطة إيطاليا في سنة 1789

في هذه الفترة لم تكن إيطاليا أمة وإنما كانت ساحة قتال. لقد كانت ممزقة إلى مناطق منفصلة متناحرة، وإلى لهجات متباينة لقد كانت ممزقة بشكل يصعب معه أن تتحد في وجه هجوم أجنبي وكانت المنطقة شمال نابلي تنعم بالشمس والتربة المثمرة التي توفر لها ريٌ جيد ومجار مائية تهبط إليها من جبال الألب أو الأبينين Apennines، مما حمل أهلها مرارا على حمل السلاح بسبب الخلافات بينهم وبين الأجانب من جامعي الضرائب. وكان معظم إيطاليا قد وقع تحت حكم - أو نفوذ - أسرة الهبسبرج النمساوية على وفق بنود معاهدة أوتريشت (أوترخت) الموقعة في سنة 3171، تلك المعاهدة التي جعلت ميلان، ومانتوا Mantua ونابلي وسردينيا وما يتبعها جميعا للإمبراطور شارل السادس Charles VI - وفي الركن الشمالي الغربي من شبه الجزيرة الإيطالية، كانت سافوي وبيدمونت يحكمهما ملوك سردينيا. وفي سنة 4371 كانت مملكة الصقليتين بمركزيها: نابلي، وباليرمو، قد انتقلت من الهبسبرج إلى البوربون بفضل المقاتل المقتدر، والحاكم القدير الذي أصبح مليكا لأسبانيا ونعني به شارلز الثالث III Charles، وقبل أن يتجه إلى أسبانيا ورث مملكة نابلي لابنه فرديناند الرابع IV Ferdinand الذي تزوج الأرشدوقة ماريا كارولينا Maria Carolina التي أدت سيطرتها على زوجها إلى وقوع مملكة نابلي بكاملها تحت النفوذ النمساوي. وعندما ماتت الإمبراطوة ماريا تيريزا Maria Theresa (1780) حكم أبناؤها لومبارديا Lombardy وتسكانيا Tuscany ومادينا Modena وتزوجت ابنتاها من حاكمي نابلي وبارما Parma وأصبحت سافوي Savoy وبيدمونت Piedmot وسردينيا Sardinia تحت الحماية النمساوية. وكانت المنطقة الإيطالية الوحيدة التي تحظى بالاستقلال آنئذ هي البندقية (فينيسيا Venice) ولوسا Lucca وسان مارينو وجنوة Geneo. وكان في القسم الإيطالي الواقع بين المناطق التي يسيطر عليها هبسبرج النمسا في الشمال، والمناطق التي يسيطر عليها بوربون أسبانيا في الجنوب - الولايات الباباوية Papal states، ولم تبق هذه الولايات باباوية (أي تابعة للبابا) إلا بسبب التنافس بين الأسرتين، وبسبب كون الإيمان الكاثوليكي هو وحده الذي يربط إيطاليا ليجعل منها كيانا واحدا.

وكان الحكم النمساوي في الشمال الإيطالي ممتازا بمقاييس العصر، فقد كانت الضرائب تفرض على الملاك الإقطاعيين والإكليريكيين (الملاك من رجال الدين)، وكانت امتيازات هؤلاء الإقطاعيين والإكليريكيين قد جرى تقليصها، وتم إغلاق مائة دير، وجرى تخصيص عوائدها لأغراض التعليم والإحسان، وجري إصلاح إجراءات التقاضي، ومنع التعذيب وأصبح القانون الجنائي أكثر إنسانية (أكثر مراعاة للبعد الإنساني)، وفي تسكانيا في الفترة من 5671 إلى 0971 قدم الدوق الكبير ليوبولد لمناطق آل ميديتشي سابقا، ربما أفضل حكومة في أوربا(1) وظلت عاصمتها فلورنسا حصنا للحضارة خلال كل الفترات التي تماوجت فيها القوى والأفكار.

والبندقية الثرية الفاسدة المرتشية الجميلة أصبحت الآن (9871) تقترب -بشكل واضح - من نهايتها كدولة ذات سيادة. فإمبراطوريتها الشرقية وقعت منذ زمن طويل في أيدي الأتراك (العثمانيين)، لكن حكمها (أي البندقية) ظل معترفاً به فيما بين جبال الألب Alps وبدوا Padua وما بين تريست Trieste وبريسكيا Brescia. وكانت البندقية من الناحية الرسمية جمهورية، لكنها كانت من الناحية الفعلية أرستقراطية مغلقة، وأصبحت حكومتها فاترة الهمة مستبدة لا تتسم بالكفاءة. لقد كان لدى البندقية أفضل التوابل في العالم المسيحي لكنها لم تكن تمتلك جيشا. لقد كانت قد أصبحت ملعباً لأوربا تضمن لأهلها المسرات وتوفر لهم البغايا حتى تضمن أن يعاملها الأعداء بود. لقد كانت واقعة بين النمسا في الشمال ولمبارديا النمساوية في الغرب، وكان من الجلي أن قدرها سيؤول بها إلى الوقوع فريسة للنمسا بمجرد توقف فرنسا عن حمايتها.

وإلى الجنوب من تسكانيا والبو the Po بدأت الولايات الباباوية أساليبها المتعرجة (غير المباشرة) مع منطقتها في روما، Romagna ومفوضياتها: فرارا Ferrara وبولونيا Bologna (ليس المقصود بطبيعية الحال كيان أو دولة بولونيا المعروفة حاليا) ورافنا Rarvenna، وكان كل منها يديره مفوض باباوي (مفوض من قبل البابا)، ومن ثم إلى الجنوب مع الحدود marches أو الأراضي الحدودية بالقرب من الأدرياتي: ريمينى Rimini، وأنكونا Ancona وأوربينو Urbino، ومن ثم عبر جبال الأبينين Apennines خلال بيروجيا Perugia التابعة لأومبريا Umbria وسبوليتو Spoleto، وعبر أورفيتو لاتيوم Latium,s Orvieto وفيتربو Viterbo إلى روما Rome. كل هذه المنطقة التاريخية كانت تحت حكم الباباوات على وفق هبات donations قدمها للكنيسة الكاثوليكية بيبن Pepin ملك الفرنجة Franks في سنة 457، وشارلمان في سنة 477. وبعد انتصار حاسم في مجمع ترنت Council of Trent (5451 - 3651) وسع الباباوات سلطاتهم على الأساقفة تماما كما فعل الشيء نفسه الملوك المعاصرون بتوسيع سلطانهم على اللوردات الإقطاعيين. لقد بدأت السلطة تتمركز أو بتعبير آخر بدأت تتمحور حول مركز.

لكن سرعان ما بدأت الباباوية تنهار ببطء وبالتدريج كلما تقدم العلم وتعمقت الفلسفة مما أفقد الكنيسة - بشكل خطير - تأييد الطبقات المؤثرة في أوربا الغربية، ومما عرضها لتحديات صريحة ليس فقط من الحكام البروتستنط، وإنما أيضا من الحكام الكاثوليك من جوزيف الثاني في النمسا وفرديناند الرابع في نابلي. بل كان تزايد الأقلية المتشككة في الكاثوليكية في ولايات الكنيسة نفسها (الولايات الباباوية) والتي كانت تشكل روابط سرية، إلى إضعاف قبضة الإكليروس (رجال الدين) على الناس. لقد كتب جوزيف الثاني في سنة 8671 إن المحكمة الباباوية Curia كادت تصبح محتقرة، فمن الداخل كان سكان الولايات الباباوية في الغاية من البؤس والانحطاط، وكانت ميزانية هذه الولايات في فوضى كاملة بدرجة لا تصدق وكان جوزيف غير مؤمن بالكاثوليكية، لذا فقد نعتبره مبالغا، لكن سفير البندقية كتب في تقرير له في سنة 3871 أن الأمور الداخلية في ولايات الحبر الجليل (البابا) في أقصى درجات الفوضى، إنها في حالة انهيار تدريجي، والحكومة الباباوية تخسر كل يوم قوتها ومصداقيتها ومشروعيتها(2). ورغم فقر الولايات الباباوية وعدوى المالاريا في جو الصيف، فقد جعل أهل روما الحياة مستساغة باهتبال كل المزايا المتمثلة في تسامح الكنيسة مع علاقاتهم الغرامية وبالاستمتاع بالكارنفالات، بل لقد كان رجال الدين أنفسهم ينعمون باسترخائهم في دفء الشمس في إيطاليا.

وكان الباباوات في هذه الفترة الحرجة على تقوى وشرف فبيوس السادس VI Pius (تولى الباباوية في الفترة من 5771 إلى 9971) - رغم رحلته الشاقة إلى البندقية فشل في إعادة جوزيف الثاني النمساوي للطاعة (المقصودة الطاعة للكاثوليكية والباباوية) ولم تنفعه ثقافته وكياسته من منع فرنسا من ضم أفينون Avignon إليها، ومات وهو في سجنه في ظل حكومة الإدارة (في فرنسا)، وبيوس السابع VII Pius (تولى الباباوية في الفترة 0081 - 3281) بذل كل ما في وسعه لإعادة الكاثوليكية لفرنسا، وعانى السجن لفترة طويلة في ظل حكم نابليون وعاش لينتصر بتواضع على الإمبراطور المخلوع (4181).

وإلى الجنوب من الولايات الباباوية ازدهر البوربون الأسبان بازدهاركل من جيتا Gaeta وكابوا Capua وكاسرتا Caserta ونابلي وكابري Capri وسورنتو Sorrento. لكن الازدهار الإيطالي توقف هناك (لم يعد له وجود) فمدن مثل بسكارا (بسكره Pescara) وأكويلا Aquila وفوجيا Foggia وباري Bari وبرينديسي Brindisi وتارانتو Taranto وكرتون Crotone تذكرت ميلو Milo وقيصر وفريدريك الثاني (إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة)، بل وحتى فيثاغورس، لكن أهل هذه المدن كانوا عرضة للشمس الحارقة، منهكين بالضرائب وليس من سلوى لهم سوى في عقيدتهم الدينية. ثم يأتي جامعو الضرائب عابرين من رجيو كالابريا Reggio Calabria إلى مسينا Messina في صقلية، وهناك أيضا توقر المدن فقرها إذا ما تذكرت الفينيقيين، والإغريق، والقرطاجنيين والرومان والفندال والمسلمين والنورمان والأسبان حتى يتوقف جامعو الضرائب في بالرمو Palermo ليكونوا في خدمة احتياجات الملوك والملكات والأمراء التجار واللصوص والقديسين Saints. تلك هي المملكة التي ورثها في سنة 9571 فرديناند الرابع ذو الثمانية أعوام. لقد نشأ رياضياً وسيماً يفضل المسرات والألعاب الرياضية على أعباء السلطة فكان غالبا ما يترك أمور الحكم لزوجته ماريا Maria Carolina. وبتوجيه من رئيس وزرائها (وزيرها الأول) وعشيقها السير جون أكتون John Acton أدارت ماريا سياسة نابلي من مناصرة الحكم الأسباني ألى مناصرة الحكم النمساوي، إلى مناصرة إنجلترا في سنة 1971. وفي هذه الأثناء كان البارونات الإقطاعيون يستقطعون كل عائد من الفلاحين المنهكين، وسادت الرشوة، وساد الفساد في البلاط وفي طبقة الموظفين والقضاة وكانت الضرائب باهظة وكانت تقع في الأساس على كاهل الطبقات الدنيا، وأصبح سكان المدينة يتصرفون كالبرابرة بسبب الفقر، لقد اعتادوا الفوضى والجريمة لا يكبحهم سوى العدد الوافر من رجال الشرطة ورجال الدين الظلاميين الماهرين في إظهار المعجزات. (في كنيسة الكائدرائية، كانت رفات القديس جنيوار يوس Januarius تنزف دما في كل عام). وجرت العادة أن تتسامح الكنيسة مع خطايا الجسد، فهذه الخطايا هي الرفاهية الوحيدة المسموح بها للفقراء. وفي أيام الكرنفالات ينظر الناس للوصية السادسة من الوصايا العشر باعتبارها قيدا لالزوم له يتنافى مع الطبيعة البشرية.

ومع هذا فقد كانت الملكة تغار من كاترين الثانية الروسية التي كان حولها كثير من الفلاسفة رهن إشارتها، لذا فقد رعت الفنانين والدارسين وأساتذة الحكمة حتى لو لم تكن تعرف شيئا عن الفن والبحث والحكمة. وهو احتمال وارد، لذا فقد كان في نابلي كثير من الرجال النساء الذين يؤمنون بالأفكار العصرية، وربما فاق عددهم ما هو موجود في أية مدينة إيطالية أخرى(3) وقد تابع كثيرون منهم بأمل صامت الأخبار التي أتت من باريس والتي تفيد أن الفرنسيين قد اجتاحوا سجن الباستيل واستولوا عليه.


إيطاليا والثورة الفرنسية

لقد هيأت أفكار الليبراليين ذوات التأثير، الطبقات المتعلمة في إيطاليا لاستيعاب بعض التحولات الأساسية في فرنسا. لقد كان بكاريا Beccaria وباريني Parini في ميلان، وتانوسي Tanucci وجينوفيسي Genovesi وفيلانجيري Filangieri في نابلي، وكاراكيولي Caraccioli في صقلية قد مارسوا بالفعل كتابة النثر والشعر، وكتبوا بالفعل في مجال التشريع والفلسفة وكانت الأفكار التي طرحوها هي نفسها - إلى حدما - الأفكار التي تقرها الآن حكومة الجمعية الوطنية (الفرنسية)، أفكار تؤيد العقل وتعتمد عليه وتميل إلى الحداثة. وفي توسكانيا Tuscany رحب الدوق الكبير ليوبولد نفسه بالثورة الفرنسية باعتبارها إصلاحا عظيما واعداً في كل أنحاء أوربا(4).

وعندمــا اندفــغ نابليــون ابن الثــورة وجنرالهــا فـــي إيطاليــا (6971)، وكأنــه ريـــح غربية عاصفة، وأخرج الجيوش السردينية (جيوش سردينيا) والنمساوية من بيدمونت ولومبارديــا، رحــب به كل الإيطاليين تقريبا باعتباره قائداً إيطاليا يقود جنودا فرنسيين لتحريــر إيطاليا. ورغــم ما واجهــه من عصــيان مسلــح فــي بافيا Pavia وجنـوة Genoa وفيرونا Verona فقد كان في مقدوره - لفترة - أن يتصرف في الدول والإمارات الإيطالية كما لو كانت قد استسلمت له بغير شروط، وعلى هذا ففي شهري يوليو وأغسطس سنة 7971 دمج كلا من ميلان ومودينا Modena وريجيو إيميليا Reggio Emilia وبولونيا Bologna وجانبا من سويسرا، ليجعل منها كيانا مختلطا هو الجمهورية السيزالبية Cisalpine Republic (الجمهورية القريبة من جبال الألب والمحيطة بها)، وقدم لها دستورا كدستور فرنسا الثورة.

وقد أبهجت ليبراليته في فترة حكمه الأولى في شمال إيطاليا أحلام السكان المحليين بالحرية. وقد اعترف الزعماء المحليون بعد أن لانت عريكتهم بالوظائف الشرفية، وألقاب الفخامة التي وزعها عليهم نابليون، بأنه في قارة يقتسمها الذئاب لا بد من ذئب أو آخر كحامٍ لإيطاليا، وإن أفضل ذئب يمكن اختياره هو الذي يتحدث الإيطالية بطلاقة، ويخفف أعباء الضرائب، ويضبط الأمن بقوانين متنورة. لكن زيادة التشريعات الثورية ضد الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا صدمت عواطف الإيطاليين، فقد ثبت لهم أن دينهم أغلى بالنسبة إليهم من التحرر السياسي الذي يضطهد في ظله قسسهم، ويتشمم المرء في ثناياه مذابح سبتمبر. وفي 31 يناير 2971 هاجمت الجماهير في روما ممثلاً دبلوماسياً للحكومة الفرنسية، مات في اليوم التالي من فرط ما أصابه على أيدي هذه الجماهير. وقد خلق هذا أزمة جديدة للبابا بيوس السادس الذي كان يعاني بالفعل من مرسوم التسامح (1871) الذي أصدرة جوزيف الثاني في النمسا. لقد وجد البابا نفسه الآن في مواجهة مصادرة الثورة الفرنسية لممتلكات الكنيسة وفي مواجهة الدستور المدني للإكليروس (رجال الدين) الصادر في 21 يولبو سنة 0971. ولأن هذا البابا كان قد نشأ على الاحترام الكامل للتراث الكنسي فقد أعلن إدانته للثورة وأيد الملوك الذين يتصدون لها لمحقها. لكنه أجبر في صلح تولينتينو Peace of Tolentino (91 فبراير 7971) على التخلي لفرنسا عن المقاطعات الباباوية:

أفينون Avignon وفيناسين Venaissin كما أجبر في الصلح نفسه على التخلي عن المدن الدول City - states: فرارا Ferrara وبولونيا Bologna ورافنا Ravenna للجمهورية السيزالبية.

وفي ديسمبر سنة 7971 قتلت الجماهير الإيطالية الجنرال الفرنسي ليونار دوفو Leonard Duphot، وانتهز الجنرال الفرنسي لوي (لويس) بيرثييه Berthier الذي خلف نابليون في قيادة جيش إيطاليا (كان نابليون وقتها في مصر) الفرصة لغزو روما وإقامة جمهورية روما تحت الحماية الفرنسية، واعترض البابا بيوس السادس فتم القبض عليه وتم نقله من مكان إلى آخر حتى مات في فالنسي Valence في 92 أغسطس 9971 في عهد حكومة الإدارة. وراح المراقبون غير الواعين بالتاريخ يتساءلون عما إذا كان في موته موت للباباوية أو بتعبير آخر هل انتهى الآن عصر الباباوية بغير رجعة(5)؟ وأتاح هذا الموقف لفرديناند الرابع النابلي (نسبة إلى نابلي) فرصاً ثلاث: أن يجرّب الجيش الجديد الذي كان جهزه له السير جون أكتون Acton، وأن يثبت للكنيسة الكاثوليكية أنه ابن مخلص لها، وأن يستولي على جانب من الولايات الباباوية مكافأة تشريفية له. ووافق الأدميرال (أمير البحر)نيلسون الذي كان في هذا الوقت يتلكأ في نابلي لقضاء اكبر وقت ممكن مع إما هاملتون Emma Hamilton - وافق على تقديم المساعدة بإنزال قوة بحرية في ليجورن Leghorn، وجعل الملك على رأس جيشه الجنرال النمساوي كارل ماك Karl Mack وركب معه لفتح روما (92 نوفمبر 8971) وقررت الحاميات الفرنسية التي بقيت في روما أنه لا قبل لها بمواجهة كل جيش نابلي فأبدت استعدادها لإخلاء المدينة (روما).

وبينما كان الكاردينالات المتفوقون يختارون بابا جديدا في البندقية (فينيسيا) كان جنود فرديناند يختبرون أجراس روما ويستعرضون فنونها، وفي هذه الأثناء هبط الجنرال الفرنسي اللامع جان - إتين شامبيون Etienne Championnet Jean - من الشمال على رأس جيش فرنسي منتعش (لم تنهكه الحروب) فحقق نصرا على جيش ماك Mack غير المنظم في سيفيتا كاستيلانا Civita Castellana (51 ديسمبر 8971) وتعقبه طوال انسحابه إلى نابلي واستولى على المدينة وسط فرحة طبقة المثقفين، وأقام الجمهورية البارثينوبية Parthenopean (32 يناير 9971) وهرب فرديناند والملكة وكذلك السير وليم هاملتون (من Bovary) إلى بالرمو في سفينة القيادة التابعة لنيلسون (كان اسم السفينة هو فانجارد Vanguard ومعناها الطليعة).

ولم تستمر هذه الجمهورية الجديدة سوى أقل من خمسة أشهر فقد تم استدعاء شامبيون وكثير من رجاله للاتجاه شمالا لطرد النمساويين، ومات شامبيون في هذه المعركة ضد النمساويين. وجهز الكاردينال فابريزيورفو Fabrizzio Ruffo جيشا جديدا لفرديناند، وعــاون القائـد الإنجليزي إدوارد فــوت Foote فــي إعــداد هـذا الجيش، فاستعاد فرديناند نابلي بمسـاعدة الجماهير فيهـا، فقد كانت الجماهير في نابلي تنظر للحملة الفرنسية على أنهـا مكونـة مـن مقاتلين ملحديـن ملعونـين، ولجـأ الفرنسـيون بمساعـدة أدميــرال من نابلي هو فرانسسكو كاراكيولو Caracciolo إلى حصنين من حصون الميناء. وعرض عليهم الكاردينال رفو Ruffo والقائد فوت Foote المغادرة إلى فرنسا دون عوائق إن استسلموا لكن قبـل تنفيــذ الاتفـاق وصـل نيلســون بأسطوله حاملاً مجموعة ملكية، قادما من بالرمو، فتولى هو (نلسون) القيادة ووجه مدافعه إلى الحصون رغم اعتراض الكاردينال(6)، فاستسلم الفرنسيون بلا شرط، وقبض على كاراكيولو (الذي ساعد الفرنسيين) بينما كان يحاول الإبحار بعيدا وحوكم محاكمة سريعة أمام محكمة عسكرية عقدت على سفينة نيلسون وشنق في 92 يونيو 9971 على سفينته. (لامينيرفا La Minerva) وتدلى جسده من عارضة شراع هذه السفينة، واستعاد الملك والملكة العرش فسجنوا مئات الليبراليين وأعدموا قادتهم.


إيطاليا تحت حكم نابليون 1800 - 1812

ظل نابليون طوال تسعة أشهر بعد عودته من مصر يعمل على إقناع الأمة الفرنسية بتعريفه للحرية السياسية عن طريق استفتاءات دورية كان يتوقع أن تسفر نتائجها عن كون الحرية السياسية تتفق مع الاستبداد المتنور (حكم المستبد العادل). لقد كانت فرنسا قد تعبت من الحرية الديمقراطية في الوقت الذي كان فيه الليبراليون الإيطاليون يتوقون إليها بعد أن أثار حفيظتهم عودة الحكم النمساوي. فمتى يعود هذا الإيطالي اللامع الذي أصبح فرنسيا (نابليون) إلى إيطاليا ليخرج هؤلاء النمساويين وليجعل لإيطاليا حاكما إيطاليا؟

واستغرق القنصل البارع (نابليون) وقتا مناسبا للإعداد المتقن - وكان الإتقان أول مبادئ استراتيجيته. وعندما تبلورت الأمور أمامه أخيرا كانت خطته أكثر كفاءة بكثير من هجوم سنة 6971: تسلق جبال الألب، ومن ثم الهبوط عليها من الجانب الآخر، وشق القوات النمساوية لتصبح في قسمين، وقيادة الجيش الفرنسي الرئيسي لمهاجمة مؤخرة القوات النمساوية وتطويقها وحجزها مع قائدها العجوز حتى يستسلم الذئب النمساوي للثعلب الغالي (الفرنسي) ويترك له كل الممتلكات الإيطالية غرب فينيزيا Venezia (1081) لقد كانت خطته أقرب ماتكون إلى خطة سبق أن وضعها ونفذها في سنة 7971. وأعطى نابليون للجمهورية السيزالبية المتمحورة حول ميلان والجمهورية الليجورية في جنوا استقلالاً نسبيا، وجعل على رأس كليهما حكاما إيطاليين تحت الحماية الفرنسية. وحتى الآن فإن نابليون لم يقدم على عمل يسبب الإزعاج للولايات الباباوية إذ عقد اتفاقات وفاق مع الكنيسة وارتد عن الإسلام (لم يصبح محمديا Mohammedan) ووافـق فردينانـد الرابـع ملك نابلـي علـى إغلاق موانئها في وجه السفن البريطانية ولم يستطيع نيلسون تقديم يد العون لبلاده لأنه كان مشغولا بمهاجمة كوبنهاجن (2 أبريل 1081) وأحس الإيطاليون بيد إيطالية رفيقة كامنة وراء هذا الإنجاز (المقصود يد نابليون) فابتهجوا.

والآن لقد قبضت هذه اليد على زمام السلطة، ففي يناير سنة 2081 تقابل 454 مندوبا مفوضا من الجمهورية السيزالبية في ليون Lyons وأقروا دستورا جديدا وضعه نابليون وقبلوا اقتراح تاليران بانتخاب نابليون رئيسا للجمهورية الإيطالية الجديدة Republica Italiana. . وبعد أن نصب نابليون نفسه إمبراطورا على فرنسا (4081) بدا منصب (رئيس إيطاليا) متواضعا بالنسبة إليه، لذا، ففي 62 مايو سنة 5081 تلقى نابليون في ميلان تاج الملوك اللومبارديين الموقر والعريق، وكان تاجا من حديد وأصبح بذلك حاكما لشمال إيطاليا وقدم لأهل البلاد المدونة القانونية النابليونية، وساوى بين الجميع في فرص التعليم بأن فرض على الدوائر (المقاطعات) الأكثر ثراء مساعدة الدوائر الأفقر، ووعد بأن يجعل شعبي في إيطاليا... لا يتحمل ضرائب باهظة بل ستكون وطأة الضرائب هنا أخف منها في أي أمة أخرى في أوربا وعندما غادرهم ترك معهم ابن زوجته الحبيب إلى نفسه يوجين دي بوهارنيه Eugen de Beauharnais نائباً له (نائب ملك) دلالة على اهتمامه بأمرهم.

وطوال الأعوام الثمانية التالية نعمت المملكة الجديدة (خاصة لومبارديا) برخاء عام وحياة سياسية نشيطة ظل الإيطاليون يذكرونهما بخير لفترة طويلة. ولم تتظاهر الحكومة بالديمقراطية، فقد كان نابليون غير مؤمن بقدرة الجماهير في أي مكان على الاختيار الحكيم للقادة أو السياسات، لكنه بدلاً من ذلك نصح يوجين أن يجمع حوله أكثر المديرين خبرة وكفاءة. وبالفعل فإن هؤلاء الأكفاء قد خدموه بحماسة ومهارة، لقد نظموا جهازاً إدارياً يتسم بالكفاءة، ونفذوا كثيرا من الإنشاءات العامة - طرق، وقنوات وحدائق عامة ومشروعات إسكان ومدارس، وأصلحوا وسائل الصرف واتخذوا إجراءات للمحافظة على الصحة العامة وأصلحوا السجون وقانون العقوبات وأقاموا مشاريع محو الأمية ونهضوا بالموسيقا والفنون، وارتفعت عوائد الضرائب من 28 مليون فرنك في سنة 5081 إلى 441 مليون فرنك في سنة 2181، لكن جزءاً من هذه الزيادة كان يعكس التضخم (وفرة العملة اللازمة لتمويل الحرب) كما كان في جانب آخر منها نتيجة إعادة توزيع الثروات المتركزة في أيدي القلّة للقيام بمشروعات للصالح العام.

وفي هذه الأثناء واصل نابليون جهوده لصبغ إيطاليا بالصبغة النابليونية، ففي سبتمبر 2081 ألحق بيدمونت بفرنسا، وفي يونيو سنة 5081 حث حكومة جنوة على طلب إدماج الجمهورية الليجورية في الإمبراطورية الفرنسية. وفي سبتمبر 5081 ضم دوقيات بارما Parma وبياسنزا Piacenza وجواستالا Guastalla. وفي ديسمبر 5081 - بعد محق الجيش النمساوي في معركة أوسترليتز - حث الإمبراطور فرانسيس الثاني على تسليم فينيزيا (فينيتسيا Venezia) لمملكة يوجين الجديدة. وكانت البندقية Venice شديدة الامتنان لهذا التعويض الجزئي عن المقايضة غير العادلة التي عقدها نابليون مع البنادقة في سنة 7971، وعبرت عن امتنانها هذا بإقامة مهرجانات الترحيب به(بنابليون) عندما زار مدينتهم في سنة 7081(7). وفي مايوسنة 8081 تولى أمر دوقية تسكانيا Tuscany الكبيرة في وقت كانت الإدارة النمساوية بها في أحسن حالاتها. وحكمت ليزا أخته (أخت نابليون) لوسا Lucca حكما طيبا حتى إن نابليون حولها إلى تسكانيا وبفضل حكمتها وسياسة الاسترضاء التي اتبعتها أصبحت فلورنسا ملاذا للآداب والفنون يعيد إلى الأذهان ذكرايات أيام آل ميدتشي.

وفي 03 مارس سنة 6081 أعلن نابليون تعيين أخيه جوزيف ملكا على نابلي وأرسله على رأس جيش فرنسي ليعيد للطاعة فريدريك الرابع غير المنضبط وزوجته الملكة كثيرة المطالب. لقد بدا الإمبراطور (نابليون) قد ادخر أكثر المهام صعوبة لجوزيف الكريم وأنه - أي نابليون - لم يضع في اعتباره كثيرا المخاطر والصعوبات التي تنطوي عليها هذه المهام. لقد كان جوزيف رجل ثقافة يحب صحبة المتعلمين وصحبة النسوة اللائي لم يطغ علمهنّ على جاذبيتهنّ(8). وقد شعر بونابرت أن هذه الصفات لا تكفي ليحكم المرء مملكة حكما ناجحا. فلم عينه إذن؟ لقد عينه لأنه كانت لديه من الممالك التي فتحها مايفوق عدد إخوته، ولم يكن نابليون يثق في أحد ثقته في أقاربه المقربين.

لقد كان جوزيف قد حظي معلا - كملك لنابلي - بتأييد زعماء الطبقة الوسطى الذين لم يكونوا مرتاحين في ظل النظام الإقطاعي، لكن العامة رفضته كمغتصب وكافر، وكان على جوزيف أن يتخذ إجراءات صارمة لقمع مقاومتهم. وكانت الملكة قد أخذت معها إلى صقليةكل الأموال المودعة في بنك الدولة. وكان الأسطول البريطاني يحاصر الميناء ويعوق حركة التجارة، وكان الجنود الفرنسيون قد شرعوا في حركة عصيان خطيرة، فرغم جهودهم الحربية الممتازة كانت رواتبهم قليلة جدا، وطلب جوزيف من أخيه أن يحول إليه بعض الأموال، فوجهه أخوه إلى جمع الأموال من نابلي لقاء قيام الفرنسيين بتحريرها وتفاوض جوزيف مع رجال المال الهولنديين للحصول على قرض، وفرض ضريبة على كل الدخول (جمع دخل)، على النبلاء والعوام ورجال الدين على سواء. واستدعى من باريس الكونت بيير - لويس روديريه Comte Pierre - Louis Roederer وهو أحد الاقتصاديين الذين يفضلهم نابليون ليتولى أمر خزانة الدولة فسرعان ماضبطها، وقام إداريون آخرون ذوو خبرة بتأسيس مدارس مجانية في كل كميونات المملكة، وكلية في كل مقاطعة وتم إبطال الإقطاع، وتم تأميم أراضي الكنيسة وبيعها للفلاحين ولأفراد الطبقة الوسطى النامية، وتمت مواءمة القوانين مع مدونة نابليون القانونية، وتم تطهير النظام القضائي، وتسهيل الإجراءات القضائية، وتم إصلاح السجون ونظام العقوبات(9).

لقد كان جوزيف يقترب من النجاح الكامل وكاد يصبح مقبولا من العامة عندما دعي فجأة ليتبوأ عرشا يتعرض شاغله لخطر أشد، وليقوم بمهام أصعب - لقد دعي ليكون ملكا على أسبانيا(01 يونيو 8081)، وعين نابليون بدلاً منه على عرش نابلي جوشيم مورا Joachim Murat زوج أخته كارولين بونابرت، ولم يلجأ نابليون لهذا (تعيين زوج أخته) إلا لأنه لم يكن لديه أخ آخر يمكن تعيينه على عرش نابلي- وإذا ذكرمورا Murat ارتبط اسمه بأناقة ملبسه وجرأته في المعارك، كما أنه يفرض علينا تكريم ذكراه لأنه أعاد تشكيل حكومة نابلي. لقد كان رجلا يتحلى بكل فضائل الفلاحين خلا الصبر. لقد كان أكثر ملاءمة للأعمال والمهام الشاقة (الهرقلية) منه للدبلوماسية الماكرة ودور رجل الدولة المتسم ببعد النظر، وكان زوجاً محبا ممزقا بين الخلافات مع أخي زوجته، والإخلاص له، حتى ظنه مجنونا، ونستطيع أن نفهم شكواه (أسباب تبرمه) من حقيقة أن الحصار القاري الذي طلبه نابليون (منع دخول البضائع الإنجليزية إلى دول أوربا) كان يدمر الحياة الاقتصادة في نابلي. ومع هذا فقدنجح هو ومساعدوه - ربما بسبب عدم صبره - إنجاز الكثير في فترة حكمه التي دامت أربع سنوات. لقد أكمل مع مساعديه إصلاح نظام الضرائب ودفع ديون البلاد بكاملها (وكان هذا في معظمه نتيجة بيع الممتلكات الكنسية) وألغى رسوم المرور الداخلية، ومول المشروعات العامة الأساسية. لقد حولت إدارة جوزيف وإدارة مورا Murat اللتان استمرتا أقل من ثماني سنوات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في نابلي تحولاً أساسيا حتى إنه عندما استعاد فرديناند الرابع عرشه في سنة 5181 قبل تقريبا كل الإصلاحات التي قام بها الفرنسيون. وكان أعز هذه الإنجازات إلى قلب جوشيم Joachim هو الجيش ذا الستين ألف مقاتل الذي نظمه ودربه، وكان يأمل أن يستطيـع بــه توحيـد إيطاليـا ليكـون هـو أول مليـك لإيطاليـا الموحـدة، لكنـه اسـتيقظ مـن هذا الحلم ونزع من شمس إيطاليا باستدعاء أخي زوجته سنة 2181 لينضم إليه في غزو روسيا.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إمبراطور وبابا

شعر نابليون أنه خطا خطوات أساسية في تحويل إيطاليا من مجرد تعبير جغرافي إلى أمة، وذلك بتنظيمه الجمهورية السيزالبية (جمهورية جنوب الألب) في الشمال، ومملكة نابلي في الجنوب، لكن النمساويين كانوا قد استطاعوا - في أثناء غياب نابليون في مصر - وضع نهايه لجمهورية روما التي أسسها الفرنسيون قبل ذلك بعام واحد فقط، واستعادت الباباوية عاصمتها التاريخية (روما) ومعظم الولايات الباباوية، وفي 31 مارس 0081 عقد الكرادلة اجتماعا لانتخاب بابا جديد، فوقع الاختيار على بيوس السابع VII Pius الذي كان كل الكاثوليك تقريبا يتطلعون إليه ليدافع عن ممتلكات الكنيسة وعن السلطة الزمنية للباباوات.

ووجد نابليون أن بيوس السابع معقول بما فيه الكفاية عند التفاوض لعقد اتفاقات (كونكوردات) مع الحكومة الفرنسية سواء جرت هذه المفاوضات في باريس أو روما، كما وجده معقولاً في مباركته للصلاحيات الإمبراطورية، لكن هذه الولايات الباباوية (رغم أنها لم تكن منحة من قستنطين كما جرى الادعاء في وقت من الأوقات) قد قدمها بيبن القصير Pepin the Short للبابا ستيفن الثاني Stephen في سنة 457. وقد أكد شارلمان في سنة 477 منحة بيبن Pepin هذه، وإن كان قد تدخل في شؤون الحكم في الولايات الباباوية واعتبر نفسه رأس العالم المسيحي لا بد أن يصغي البابا إليه حتى في أمور اللاهوت(01). وقد طور نابليون أفكاراً مشابهة لأفكار شارلمان. لقد كان نابليون قد عقد العزم على مواجهة حصار إنجلترا لفرنسا بحصار مضاد (الحصار القاري المضاد) بمنع دخول البضائع البريطانية إلى الأسواق الأوربية لكن المجلس الإداري التابع للبابا أصر على أن تظل الموانئ التابعة للولايات الباباوية مفتوحة للجميع. وأكثر من هذا فقد كانت هذه الولايات الباباوية تقف حاجزا (بحكم موقعها) بين شمال إيطاليا وجنوبها، فما الحل وقد أصبح نابليون تواقاً لتوحيد إيطاليا وضمها لتكون تحت قبعته. لقد قال لأخيه جوزيف إن هذا هو هدف سياستي الذي لا أبغي عنه حولا(11) واتساقا مع هذه السياسة استولى الجيش الفرنسي على أنكونا Ancona (7971) وهي ميناء إستراتيجي في البحر الأدرياتي يتحكم في الاتصال بين شمال إيطاليا وجنوبها والآن (31 نوفمبر 5081)كان نابليون يستعد لخوض معركة ضد النمسا وروسيا، فانتهز البابا بيوس السابع هذه الفرصة واستجاب لتحريض مجلسه الإداري وحثه المتهور، فأرسل إلى نابليون تحديا خطيرا: لقد أخذنا على عاتقنا أن نطلب من عظمتكم إخلاء أنكونا Ancona، فإن ووجهنا بالرفض فلا ندري كيف نكون على علاقة صداقة مع وزير عظمتكم(21) وقد أجاب نابليون على هذا التحدي بتحدٍ مضاد إن كان قدا ستكم تحكمون روما، فإنني إمبراطورها(31) لقد امتعض نابليون كثيرا من إرسال البابا تحديه هذا قبيل معركة أوسترليتز Austerlitz. لقد تحدث نابليون كشارلمان لكنه تقدم كقيصر وهزم النمساويين والروس في معركة أوسترليتز.

وبعد ذلك بعام (21 نوفمبر 6081) وكان قد دمر الجيش البروسي في يينا Jena - أرسل نابليون من برلين للبابا يطلب منه طرد الإنجليز من روما وأن تدخل الولايات الباباوية في الكونفدرالية الإيطالية أي تنضم إليها في وحدة كونفدرالية لأنه - أي نابليون - لا يستطيع أن يتسامح بشأن وجود موانئ وحصون تقع بين مملكة إيطاليا ( في الشمال) ومملكة نابلي (في الجنوب) يمكن أن يحتلها الإنجليز زمن الحرب مما يعرض ولاياته وأهلها للخطر (41). وأعطى نابليون للبابا بيوس فرصة حتى فبراير 7081 للانصياع لهذا الأمر، ورفض البابا وسمح للوزير البريطاني بالبقاء في روما، وأعاد نابليون طلبه بطرد المفوضيين الإنجليز من روما عند عودته المظفرة من تيلسيت Tilsit ورفض البابا مرة أخرى، وفي 03 أغسطس هدد نابليون بالاستيلاء على الولايات الباباوية، فوافق البابا - خوفاً وهلعاً - على إغلاق موانئه في وجه البريطانيين، وطلب نابليون الآن من البابا الانضمام إليه لمواجهة أعداء فرنسا، فرفض بيوس، وفي العاشر من شهر يناير 8081 أمر نابليون جنراله ميولي Miollis الذي كان وقتها على رأس كتيبة فرنسية في فلورنسا، بالاستيلاء على روما.

ومنذ ذلك اليوم تحركت الأحداث لتشهد صراعا تاريخيا متصاعدا بين الكنيسة والدولة. وفي 2 فبراير استولى جيش ميولي Miollis على سيفيتا فيشيا Civitavecchia ودخل روما في اليوم التالي وطوق الكويرينال Quirinal وهو التل الذي يقع عليه قصر البابا ومقر مجلسه الإداري. ومنذ هذا الوقت حتى مارس سنة 4181 أصبح بيوس السابع سجين فرنسا وفي 2 أبريل 8081 أمر نابليون بضم الولايات الباباوية إلى مملكة إيطاليا. لقد أصبح هناك الآن منطقة مفتوحة بين مملكة نابلي ومملكة إيطاليا أي بين جوزيف ويوجين.

ثم كان عام انشغل فيه نابليون بأسبانيا. وفي 71 مايو 9081 ومن فينا التي فتحها نابليون للمرة الثانية، أعلن ضم الولايات الباباوية للإمبراطورية الفرنسية، وأعلن بذلك نهاية السلطة الزمنية (غير الدينية) للباباوات، وفي العاشر من يونيو أعلن البابا حرمان نابليون من رحمة الكنيسة، وفي 6 يوليو قاد الجنرال راد Radet بعض الجنود في قاعة الاستقبال الخاصة بالبابا وخيّره بين التنازل (عن حكم الولايات الباباوية) أو النفي، ولم يأخذ بيوس معه سوى كتاب الصلوات اليومية الخاص به وصليبه وتبع آسريه إلى عربة كانت في الانتظار حملته على طول الساحل الإيطالي مارة بجنوا إلى سافونا Savona وهناك ظل سجينا يعامل بلطف إلى أن أمر نابليون بنقله إلى فونتينبلو Fontaine bleau (يناير 2181) بعد نشر تفاصيل مؤامرة مزعومة لخطفه إلى إنجلترا.

وفي 31 فبراير 3181 وقع بيوس اتفاقا جديدا مع نابليون وفي 42 مارس سحب توقيعه، وكان يعيش في سجنه الفخم Palatial عيشة بسيطة لدرجة أنه كان يخيط (أو يرفو) قميصه بنفسه(51). وظل في سجنه هذا خلال كل أحداث 2181 و 3181 حتى واجه نابليون نفسه السجن في 12 يناير سنة 4181، فأعيد إلى سافونا. وفي أبريل أرسل الحلفاء - بعد استيلائهم على باريس - إلى البابا بما يفيد أنه أصبح حرا وفي 52 مايو دخل البابا بيوس السابع روما ثانية، وكان في حالة يرثى لها بدنيا ونفسيا، ورحب به كل السكان تقريبا، وتنافس شباب روما في جر عربته (بدلا من ترك الخيول تجرها) إلى الكورينال(61) Quirinal (حيث قصره).

لقد استطاعت إدارة نابليون الفرنسية للولايات الباباوية في فترة حكمها القصيرة بمساعدة من الليبراليين من أهلها إحداث نقلة مهمة في الحياة الاقتصادية والسياسية، كانت نقلة سريعة ونشيطة، وربما سببت هذه السرعة وهذا النشاط بعض الآلام. لقد أنهت الإدارة الفرنسية الإقطاع ومحاكم التفتيش وأغلقت ما يزيد على مائة كنيسة ودير وسرحت 258،5 راهباً وراهبة. وطردت الموظفين المرتشين الفاسدين، وأخضعت الجهات المختلفة لنظم محاسبية. وأصلحت الطرق وزادت فيها من قوات الشرطة، وكادت تقضي تماما على اللصوصية وقطع الطرق. وجعلت الشوارع نظيفة مضاءة ليلا، وجففت مستنقعات بونتين Pontine وأتاحتها للراغبين في زراعتها، وأعلنت حرية الاعتقاد (الحرية الدينية)، وسمحت لليهود بالانتقال بحرية من معازلهم their ghetto وانتعشت وحسنت من أوضاع السجون، وبنت المدارس وزودتها بالمعلمين، وتم افتتاح جامعة جديدة في بيروجيا Perugia، واستمرت أعمال الكشف عن الآثار الكلاسية وعين كانوفا Canova للإشراف على متحف يضم ما يعثر عليه من آثار، لكن الإدارة الفرنسية كانت تجمع الضرائب بدأب كما كانت تجند المواطنين إلزاميا في الجيش. واشتكي التجار من القيود التي فرضتها الإدارة الفرنسية على التعامل مع إنجلترا. وشعر غالب السكان بالتعاسة لتغيير مؤسساتهم التقليدية، وللمعاملة المخزية التي لاقاها البابا الذي كانت له شعبية، وبدأ الناس - حتى الملحدون - يحبونه وراح الناس يتطلعون إلى الماضي بحسرة، متمنين عودة حكم البابا، ذلك الحكم المتسم بالنعومة والهدوء والتراخي(71).

لقد كان إقدام نابليون على سجن البابا بيوس السابع خطأ فاحشا من حاكم عرف بدهائه وحنكته. لقد كانت اتفاقات الوفاق التي عقدها مع الكنيسة الكاثوليكية في روما وكذلك تتويجه إمبراطوراً قد جعلته مؤتلفاً مع الكاثوليك في أنحاء أوربا بل وجعلت كل ملوك أوربا تقريبا يقبلونه من الناحية الرسمية لكن معاملته السيئة للبابا في الفترة الأخيرة جعلت كل الكاثوليك تقريبا وكثيرا من البروتستنط ينفرون منه. لقد كانت الباباوية قد قويت بسبب محاولة نابليون استخدامها كأداة سياسية، فالكنيسة الكاثوليكية الفرنسية التي كانت حتى ذلك الوقت غالية Gallican أي مناهضة لبابا روما، أصبحت الآن توقر الباباوية وتبدي ولاءها لها. والجزويت (طائفة اليسوعيين) الذين سبق أن طردهم بابا خائف مرتعد، عادوا مرة أخرى يمارسون نشاطهم في مختلف أنحاء العالم المسيحي في ظل البابا بيوس السابع المهذب والمصمم في الوقت نفسه، وقد حدث هذا في سنة 4181. وفي هذا العام نفسة استعادت الباوباوية سلطانها الزمني، بل وازداد سلطانها الروحي بسبب المقاومة الهادئة التي أبداها البابا السجين. وقد اعترف نابليون نفسه بسوء حكمه على البابا بيوس السابع وكان هذا الاعتراف بعد تنازله عن العرش للمرة الأولى لقد كنت دائما أعتقد أن البابا شخص ذو شخصية ضعيفة جدا.. لقد عاملته بقسوة. لقد كنت مخطئا. لقـد كنـت أعمى(81). ومن ناحيـة أخـرى فإن البابـا بيوس لم يقلل أبدا من شأن نابليون ولم يبخسه أبداً حقه، فقد أبدى إعجابه به كثيرا، بل لقد أظهر تعاطفا معه عندما سجن مع أنه (أي نابليون) كان سجانه. وعندما شكت أم نابليون للبابا من أن الإنجليز يسيئون معاملة ابنها في سانت هيلينا، توسل بيوس للكاردينال كونسالفي Consalvi طالبا منه التدخل لصالح عدوه السابق الذي هوى(91). وعاش البابا بعد موت الإمبراطور بعامين. إذ مات في سنة 3281 وهو يهذي هذيان المحموم سافونا، فونتينبلو Savona , Fontainebleau.


ما وراء المعارك

المعارك هي الألعاب النارية في دراما التاريخ، فخلفها يكمن الحب والكراهية بين الرجال والنساء، والكفاح والمقامرة في مضمار الاقتصاد، والهزائم والانتصارات في مجالات العلوم والآداب والفنون والتطلع اليائس لعقيدة دينية.

وقد يكون الإيطالي عاشقا متعجلا، لكنه يعمل بحيوية على زيادة أفراد الجنس البشري (المعنى أنه كثير الجماع) كما أنه يريد أن يملأ شبه الجزيرة الإيطالية الذهبية بأمثاله، حتى إن المهمة الوحيدة للمعارك والحروب هي تقليص عدد السكان المزدحمين، ولم تكن الكنيسة الكاثوليكية تشجع عدم الإنجاب بل كانت ترفضه أكثر من رفضها للزنا، لذا فلم تكن الكنيسة تعمل على تحديد النسل وما كانت تستطيع وقف تضاعف عدد السكان.

لقد كانت الكنيسة تشجع العلاقات الغرامية مبتسمة لإيروس Eros (إله العشق عند الإغريق) ولم تفرض المحاذير على الشهوات المنطلقة في الكرنفالات. وكانت البنات غالبا ما يحتفظن بعذريتهن لأنهن كن يتزوجن في سن مبكرة، وكن يخضعن لمراقبة قاسية قبل الزواج، لكن بعد الزواج كان يمكن للمرأة أن يكون لها تابع يقوم بأمرها غير زوجها Cacvalier Servente أو حتى عشيق (لأن الزواج يعني عادة ضم ممتلكات الزوجين) ولا يجد الإيطالي غضاضة في اتخاذ زوجته عشيقا، إذ يظل الزواج رغم هذا محترما في نظره، وإذا اتخذت المرأة عشيقين أو ثلاثة اعتبرت (شبقة على نحو ما Little Wild). وهذه على أية حال شهادة اللورد بايرون(12) الذي كان يميل إلى أن كل النساء يمكن الوصول إليهن. وربما كان حديثه منصرفا إلى نساء البندقية فقط حيث استقرت فيها فينوس (إلهة الحب عند الرومان) على نحو خاص، لكننا وجدنا ستندهال Stendhal يقول الشيء نفسه عن نساء ميلان في مؤلفه Chartreuse de Parme.

ورغم هذا التساهل والتسيب الخلقي، فالحياة في ميلان بدت كئيبة في نظر مدام دي ريموزا de Re,musat التي حزنت لغياب الحياة الأسرية، فالأزواج غرباء بالنسبة إلى زوجاتهم إذ يتركونهن ليرعى أمورهن العشاقServente Cavaliere(22). ولم تكن مدام دي ستيل de Stael سعيدة لما اعتبرته سطحية تبدو واضحة في مناقشات الرجال في إيطاليا، وكانت مدام دي ستيل متألقة في المناقشات التي أجرتها مع الجنسين. لقد كانت ترى أن الإيطاليين يرهقهم التفكير(32). لقد ذكرها الإيطالييون بأن الكنيسة لاترتاح إلى التفكير بصوت مسموع. لقد كان غالب الإيطاليين متفقين مع البابا في أن الدين مع العقيدة المستقرة والعوائد المالية التي تدرها مناطق ما وراء الألب أكثر فائدة لإيطاليا ومع هذا كان هناك الكثير من الفكر الحر الهادئ بين الأقلية المتعلمة(42) بل وقدر غير قليل من الهرطقة السياسية. لقد كان باستطاعةألفيري Alfieri أن يكتب بحماس عن الثورة الفرنسية وصفق مئات الإيطاليين لسقوط الباستيل، وكان في إيطاليا مؤسسات مختلطة (تضم رجالاونساء) وتقدم تعليما مهذبا مثل أكاديمية أركاديا the Accademia della Arcadia التي كانت في وقت من الأوقات تجمعا مشهورا للرجال المتعلمين والنساء المتعلمات، وتم تأسيس أكاديمية كروسكا Crusca في سنة 2181. وفي سنة 0081كانت هناك امرأة هي كلوتيدا تامبروني Coltida Tambroni تقوم بتدريس اليونانية في جامعة بولونيا Bologna في إيطاليا.

وانتعشت دراسة العلوم والطب في جامعات إيطالية أخرى ففي سنة 1971 وضح لويجي جالفاني Luigi Galvani (7371 - 8971) في جامعة بولونيا الايطالية أنه إذا تم توصيل عضلة ساق الضفدعة بقطعة من الحديد، وتم توصيل عصبها (عصب الضفدعة) بقطعة من النحاس ، نشأ عن ذلك تيار كهربائي وسيسبب هذا التيار تقلص العضلة. وفي سنة 5971 اخترع أليساندرو فولتا Alessandro Volta (5471 - 7281) في جامعة بافيا Pavia البطارية الجافة Voltaic Pile التي أدهشت أوربا حتى إنه استدعى إلى باريس في سنة 1081 لعرضها في المعهد العلمي الفرنسي، وفي 7 نوفمبر، قرأ ورقة بحثية أمام جمهور ضم نابليون نفسه عن (تطابق الموائع الكهربائية مع الموائع الجلفانية) وفي سنة 7081 نشر لويجى رولاندو Luigi Rolando أبحاثه التي مازت هذه الفترة عن تشريح المخ. إن إيطاليا عديمة الفكر كانت تعلم أوربا ثورة أعظم من الثورة الفرنسية.

وضعف المسرح الإيطالي لأن الإيطاليين وجدوا أنه من الطبيعي تماماً أن يحولوا الحديث العادي إلى أغان، والدراما إلى أوبرا، وكانت الجماهير تميل كثيرا إلى المسرحيات البسيطة ذات الطابع الكوميدي، أما الأفراد الأكثر نضجا فكانوا يؤثرون المسرحيات من نوع ما يكتبه فيتوريو ألفيري Vittorio Alfieri (9471 - 3081) التي أعلن فيها كرهه للطغيان وتطلعه لتحرير إيطاليا من الحكم الأجنبي، فكل مسرحياته تقريبا سبقت الثورة الفرنسية(52) لكن مبحثه الانفعالي المفعم حماسا لم ينشر إلاسنة 7871 في بادن Baden مع أنه كتبه في سنة 7771، ولم ينشر في إيطاليا إلا سنة 0081 وأصبح بعد نشره من كلاسيات الفلسفة الإيطالية وفن الكتابة بالإيطالية. وأخيرا وجدناه في عمله الذي يحمل عنوان Misogallo (9971) الذي كتبه في أواخر حياته المضطربة - يدعو الشعب الإيطالي للنهوض والإطاحة بالحكم الأجنبي كما دعاه للوحدة. وهنا وجد مازيني Mazzini وغاريبالدي صوتا واضحا يعبر عن أفكارهما.

لقد انعكست طبيعة الإيطاليين الانبساطية (غير الانطوائية) ولغتهم الشجية ونزوعهم الموسيقي إلى الشعر، فقد شهد هذا العصر القصير - حتى بعد استسلام ألفيري Alfieri للماضي وليوباردي Leapardi للمستقبل - مائة شاعر يتسلقون الشكل الشعري ويركزون عليه أكثر من تركيزهم على محتواه العاطفي (المدرسة البرناسية الفرنسية التي طغى اهتمامها بالشكل الشعوي على ما سوى ذلك )، وكان أسعدهم هو فينسينزو مونتي Vincenzo Monti (4571 - 8281) الذي كان لديه كلمات طيبة يقولها في كل موضوع واعد. لقد دافع في عمله (La Bassevilliana) (3971) عن الدين في وجه الثورة الفرنسية مما جعله مقبولا في البلاط الباباوي، وفي عمله (Il bardodella Selva Nara) المنشور في سنة 6081 عظم من شأن تحرير نابليون لإيطاليا فعينه الفاتح (نابليون) أستاذا في جامعة بافيا Pavia وبعد سقوط نابليون اكتشف أخطاء الفرنسيين وأعلنها كما اكتشف فضائل النمساويين. وخلال كل هذه التقلبات راح يمتدح بشكل متواصل (La ballezza dell, Universo). وقد تخطى هذه الشطحات في ترجمته للإلياذة (0181)، ولم يكن يعرف من اللغة اليونانية شيئا، وإنما قام بصياغة شعرية لنص نثري، لذا فقد وصفه فوسكولو Foscolo بهذه العبارة: gran traduttor dei traduttore d,Omero وكان أجو فوسكولو Ugo Foscolo (8771 - 7281) شاعرا أكبر منه وكان أكثر ميلاً منه للحزن. وهو كشاعر كان ذا حس عاطفي يغلب على التفكير المنظم. لقد أطلق العنان لرغباته وانتقل من قصة شعرية قوامها الحب والفروسية إلى قصة أخرى، ومن بلد إلى بلد ومن بشارة gospel إلى أخرى، وانتهى إلى اشتياقه للأحلام القديمة. لكن خلال كل مراحل تطوره كان حريصا على الالتزام بالشكل الشعري، وحتى عندما استبعد الوزن والقافية راح يسعى للكمال في موسيقا اللغة.

لقد ولد بين عالمين - ولد في جزيرة زانطة Zante بين اليونان وإيطاليا، من أب إيطالي وأم يونانية، وبعد أن قضى في زانطة خمسة عشر عاما انتقل إلى البندقية واقتطف من جمالها السهل ووقع في حب تهتكها وتعلم أن يكره السيطرة النمساوية المجاورة، وفرح عندما أتى نابليون كإعصار من نيس Nice إلى مانتوا Mantua، وهتف لبطل أركول Arcole: بونابرت المحرر، لكن عندماسلم المخلص (نابليون) البندقية للنمسا انقلب عليه معبرا عن سخطه في رواية (Le Ultime Lettere di Lacopo Ortis) التي نشرها في سنة 8971، وهي رواية يعبر فيها عن أفكاره من خلال الخطابات الأخيرة التي كتبها بندقي (Werther) لأحد أصدقائه يقص عليه فيها مأساته المزدوجة: فقده حبيبته إذ فاز بها عزوله، وفقده البندقية تلك المدينة الحبيبة إذ وقعت في قبضة الغول التيوتوني Teutonic Ogre.

وعندما انطلق النمساويون لغزو شمال إيطاليا مرة أخرى انضم فوسكولو Foscolo للجيش الفرنسي، وحارب بشجاعة في بولونيا Bologna (مدينة إيطالية) وفلورنسا وميلان وخدم قائداً Captain في القوات التي أعدها نابليون لغزو إنجلترا. وعندما تبدد حلم غزو إنجلترا، تخلى فوسكولو عن الحرية وعكف على القلم وعاد لإيطاليا ونشر أجمل أعماله (I Sepolcri) في سنة 7081. لقد احتفى في هذه الرواية البالغ عدد صفحاتها ثلاثمائة صفحة مفعمة عاطفة مصقولة على نحو كلاسي بالكتابات على القبور باعتبارها تخليدا لذكرى أناس عظماء، وعظم من شأن كنيسة سانتا كروز Croce في فلورنسا لعنايتها الشديدة ببقايا مكيا فيللى وميشيل أنجلو وجاليليو، وراح يتساءل كيف يخضع شعب أنجب خلال قرون عديدة هذا العدد الكبير من رواد الفكر والإنجاز لحكام أجانب؟ كيف يخضع مثل هذا الشعب بإنجازاته الهائلة في الفلسفة والشعر والفن لهؤلاء الأجانب؟ وراح يعلي من شأن ما خلفه الرجال العظماء كدليل على الخلود، وكدليل على عظمة أمة وسمو حياتها الروحية.

وعندما أصبح النمساويون مرةأخرى سادة لشمال إيطاليا (4181 - 5181) فرض فوسكولو على نفسه النفي فأقام في سويسرا ومنها اتجه - بعد ذلك - لإنجلترا، وراح ينفق على نفسه من عمله مدرساً وكاتب مقالات ومات في فقر شديد سنة 7281. وفي سنة 1781 نقل رفاته من إنجلترا إلى فلورنسا حيث دفن في سانتا كروز في إيطاليا التي تحررت أخيرا. قال بايرون (الذي أحب إيطاليا رغم قوله هذا) في إيطاليا لا بد أن يكون الرجل في خدمة امرأة Cicisbeo أو مغنياً في ثنائي أو متقناً لفن الأوبرا وإلا فإنه يصبح لا شيء(62) فالأوبرا الإيطالية خاصة تلك التي كان يتم إنتاجها في البندقية ونابلي ظلت تسود المسارح الأوربية الهادفة، بعد أن تحداها لفترة وجيزة جلك Gluck وموزارت Mozart، إذ سرعان (5181) ماسرقت أعمال روسيني Rossini الميلودية وأنغامه العاصفة الأضواء حتى في فينا Vienna. وقد عاد بكيني Piccine - بعد أن نافس جلك Gluck في باريس - إلى نابلي، حيث فرضت عليه الإقامة الجبرية في منزله لتعاطفه مع الثورة الفرنسية.

وبعد أن فتح نابليون إيطاليا دعي مرة أخرى إلى فرنسا (8971) لكنه مات فيها بعد عامين. وقد حقق بيسيلو Paisiello - كمؤلف وقائد فرفة موسيقية - انتصارات فنية في سان بطرسبرج St. Petersbrug وفي فينا، وفي باريس، وفي نابلي في ظل حكم فرديناند الرابع، وبعده في ظل حكم جوزيف بونابرت، ثم في ظل حكم Murat. وخلف دومينيكو سيماروزا Domenico Cimarosa خلف أنطونيو ساليري Salieri كقائد أوركسترا في فينا وأنتج هناك أكثر أعماله الأوبرالية شهرة في سنة 2971 وهي (IL matrimonio Segreto) وفي سنة 3971 دعاه فرديناند للعودة إلى نابلي كما يسترو maestro di Capella، وعندما استولى الفرنسيون على نابلي استقبلهم بسرور، وعندما استعاد فرديناند عرشه حكم عليه بالإعدام لكن هناك من حثه على تخفيف الحكم فصدر قرار بنفيه خارج البلاد، فانطلق سيماروزا قاصدا سان بطر سبورج، لكنه مات في الطريق إليها في البندقية (1081)، وفي هذه الأثناء كان موزيو كليمنتي Muzio Clementi يؤلف الموسيقا ويعزف على البيانو في العواصم المختلفة، وكان يعد عمله الذي حقق شهرة في وقت من الأوقات (Gradus ad Parnassum) في سنة 7181 وهو كتاب تعليمي للشباب عن راغبي تعلم العزف على البيانو في كل مكان.

وبدأ نيكولو (نيقولا) باجانيني Niccolo Paganini (2871 - 0481) في جنيف في سنة 7071 مهمته التي قضى فيها ردحا طويلا من الزمن إذ راح يحيي الحفلات بالعزف على الفيولين (الكمان). لقد أحب الكمان بإخلاص وعشقه أكثر من أي امرأة من الكثيرات اللائي تدلهن حبا في موسيقاه. لقد طور إمكانات الكمان بشكل لم يسبق له مثيل عزفاً وتأليفا. لقد ألف أربعة وعشرين لحنا حرا Capricci أدهشت بغرابتها وتطورها كل من سمعها. وقد عينته إليزا بونابرت باكيوش (باكيوكي Bacciocchi) على رأس فرقة موسيقية في بيمبينو Piombino (5081) لكن هذا التعيين لم يمنعه لفترة طويلة من تنقلاته إلى حيث كانت كونشرتاته تجلب له الشهرة والنجاح الأكيدين، والثروة. وفي سنة 3381 استقر في باريس، ومنح بيرليوز Berlioz عشرين ألف فرنك لينقذه من فقر شديد كان يعانيه، وشجعه لتأليف عمله (هارولد في إيطاليا). لقد أصبح باجانيني Paganini مرهقا إرهاقا شديدا بسبب انهماكه الشديد في العمل والعزف، فقرر أن يترك الإثارة في العاصمة المفتونة بالعبقرية والتي تمور بالثورة. ومات في نيس Nice سنة 0481 تاركا بالإضافة إلى ألحانه الحرة الآنف ذكرها ثمانية كونشرتات والعديد من السونتات يتحدى بها عازفي الفيولين (الكمان) والذين يؤلفون مقطوعات له (للفيولين) لقرن قادم. إن فن العزف على الفيولين وتأليف مقطوعات للعزف على هذه الآلة لم يعودا بمثل هذه الحيوية إلاالآن وبفضله.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أنطونيو كانوفا 1757 - 1822

كانت إيطاليا في عصر نابليون منشغلة تماما بالحروب والسياسة بائسة تماما في روحها العام ليس بها من الأعمال الخيرية الخاصة إلا القليل وهما الأمران اللازمان لنشر الفنون خاصة فن العمارة الذي أعلى من شأن إيطاليا في الوقت الذي كانت فيه كل أوربا ترسل بنسي Pence القديس بطرس للباباوات، وفي الوقت الذي كانت فيه فلورنسا والبندقية وميلان مثل روما ونابلي - ثرية وتحكم نفسها بنفسها أو بتعبير آخر تتمتع بحكم ذاتي. لقد ارتفعت شامخة بعض الإنشاءات المتميزة:

- Arco della Pace في ميلان (6081 - 3381) التي قام عليها لويجي كاجنولا Luigi Cagnola - Teatro La Fenice (مسرح البندفية) في البندقية (2971) الذي قام عليه أنطونيو سيلفا Selva - Palazzo Braschi (قصر برازش) في روما (5971) بسلمه الفخم الذي قام عليه كوزيمو موريللى Cosimo Niccolini ولم تشهد إيطاليا رسوما (فن تصوير) خالدةً ولكن النحاتين الإيطاليين استلهموا الآثار الهرقلية Herculaneum لينبذوا تأثيرات فن الباروك العربية وطخامة الروكوكو rococo ليعودوا يستلهمون الروعة والهدوء والخطوط البسيطة في فن النحت الكلاسي. وقد ترك لنا واحد من هؤلاء النحاتين أعمالا لاتزال تستوقف الرائي، وتغريه بلمسها، وتبقى في ذاكرته إنه أنطونيو كانوفا الذي ولد في بوساجنو Possagno (بوسانو) عند سفح جبال الألب في البندقية. وكان أبوه - وكذلك جده - نحاتا، وقد تخصص الأب والجد في أعمال النحت المرتبطة بمذابح الكنائس وكذلك في نحت الأيقونات وتماثيل القديسين وغير ذلك من المنحوتات ذات الطابع الديني المسيحي. وعندما مات الأب (0671) أخذ الجد ابن ابنه أنطونيو إلى بيته ثم بعد ذلك إلى الإستوديو الخاص به.

ولفت أنطونيو أنظار شريف أرسولو Arsolo (الشريف Patrician لقب للأرستقراطي الروماني) جيوفاني فالير Giovanni Falier لدأبه على العمل وتوقه الشديد للتعلم، فقدم له المال اللازم لدراسته في البندقية ورد له الشاب جميله بأن قدم له أول منحوتاته اللافتة للنظر (أورفيوس ويوريديس(72) Orpheus & Eurydice) وفي سنة 9771 انطلق - بموافقة الشريف فالير - إلى روما، فدرس فيها آثار الفنون القديمة،، وراح أكثر فأكثر يستوعب تفسيرات وشروح ونكلمان Winckelmann للنحت الإغريقي باعتباره فناً يهدف إلى تمثّل الجمال المثالي من خلال الشكل الكامل والخط كأفضل وأتم ما يكون. لقد كرّس نفسه تماماً لإحياء الأسلوب الكلاسي في النحت.

وحثّ أصدقاؤه في البندقية الحكومة على دفع راتب سنوي له طوال السنوات الثلاث التالية فأصبح يتلقى بناء على هذا ثلاثمائة دوكات Ducat في العام. ولم تُلهه هذه الأموال ولم تَعُقه عن مواصلة ما نذر نفسه له فقد راح - بحب - يحاكي النماذج الكلاسية وبدا في بعض الأحيان وقد أنتج مثيلا يضارعها تماماً كما في تمثال بيرسيوس Persues وعمله الذي أطلق عليه The Pugilist، وقد أنجز كلا العملين في سنة 0081، فكانا هما العملين الوحيدين من بين أعمال النحّاتين المعاصرين اللذين استحقا أن يوضعا في بلفيدير الفاتيكان جنباً إلى جنب مع الأعمال الفنية الكلاسيّة التي حازت إعجاب العالم(82). وعملهُ النحتيّ (ثيزيوس يذبح القنطور كائن خرافي نصفه فرس ونصفه بشر Thesues Slying the Centour) (5081) - وهو نحت من رخام - موجود الآن فيما كان يعرف في وقت من الأوقات بالحدائق الإمبراطورية في فينّا - يمكن ببساطة أن يخطئ المرء فيظنه من الأعمال النحتية الخالدة في العصور القديمة، لولا المبالغة في إظهار القوة والضراوة، وكان كانوفا أفضل ما يكون في الأعمال ذات الطابع الناعم (المقصود غير العنيف) التي تتلاءم مع شخصيته كما في تمثاله هيب Hebe الموجود في المتحف الوطني في برلين، ففي هذا العمل نجد ابنة زيوس Zeus وهيرا Hera وهي ربّة الشباب تحظى بشرف توزيع النبيذ على الأرباب.

وبدأ كانوفا في عام 5081 وهو عامه العامر بالإنتاج أشهر تماثيله: فينوس Venus Victri X (في متحف بورجيز في روما Galleria Borghese) وقد حث بولين بورجيز Pauline Borghese - أخت نابليون - أن تتخذ أمامه هذا الوضع (البوز Pose) لينحت لها تمثالاً يعبّر عن مفاتنها، وكانت وقتها في الخامسة والعشرين في تمام تكوينها الجسدي(92) لكن قيل إن الفنان لم ينقل مباشرة إلاّ ملامح وجهها (لم يستخدم - كموديل - إلاّ وجهها) أما الملابس والأطراف فقد أعمل فيها خياله وأحلامه وذاكرته. وانتهى من هذا التمثال في غضون عامين ثم عرضه ليحكم عليه العامة والنحّاتون المنافسون، فراعهم التمثال بما فيه من جمال عزيز ولمسة حب، وفي هذا التمثال لم يكن الفنان مجرَّد مقلّد لبعض الأعمال القديمة العظيمة الخالدة، وإنما كان تعبيراً عن امرأة حية في زمن حي، كانت في رأي أخيها (نابليون) هي الأجمل. لقد جعل منها كانوفا هدية للأجيال.

وفي سنة 2081 دعا نابليون الفنان كانوفا ليأتي من روما إلى باريس، فنصحه البابا بيوس السابع - وكان قد وقَّع لتوّه اتفاقا (كونكوردات) مع القنصل (نابليون) - بتلبية الدعوة والذهاب لفرنسا لأسباب ليس أقلها أن يكون غازيا إيطاليا آخر يغزو فرنسا (تلميح لأصول نابليون الإيطالية) وأفضل التماثيل النصفية العديدة التي نحتها هذا الفنان لنابليون هو ذلك التمثال الموجود في متحف نابليون في كاب دنتيب Cap dصAntibes إذ يبدو المحارب الشاب في هذا التمثال وكأنه أرسطو في حالة تأمل حقيقي والأكثر شهرة بكثير هو التمثال الكامل (من الرأس إلى القدمين) الذي صنعه كانوفا من الجص ثم نحته بعد ذلك من كتلة واحدة من رخام كارارا Carrara marble عند عودته لروما. وتم إرسال هذا التمثال إلى باريس في سنة 1181 حيث وُضع في متحف اللوفر، لكن نابليون اعترض على هذا التمثال بحجة أنَّ شارة النصر المجنّحة التي وضعها النحّات في يمينه تبدو للرائي وكأنها تطير مبتعدة عنه، فتم حجب التمثال عن المشاهدين وفي سنة 6181 اشترته الحكومة البريطانية وأهدته إلى ولنجتون Wellington، وهو الآن موجود أدنى سلّم قصر ولنجتون في لندن (بيت أبسلي Apsley) ويبلغ ارتفاعه أحد عشر قدماً. وقدم كانوفا إلى بارىس مرة أخرى في سنة 0181 لنحت تمثال لماري لويز Marie Louise وهي جالسة على مقعد. ولم تكن النتيجة محل إعجاب لكن نابليون قدَّم للفنان عند رحيله الأموال اللازمة لترميم كاتدرائية فلورنسا ومبلغا لتمويل أكاديمية القديس لوك Luke (للفنون) في روما. وبعد سقوط نابليون أصبح كانوقا رئيساً لهيئة عيَّنها البابا لاستعادة الأعمال الفنية التي كان الجنرالات الفرنسيون قد أرسلوها لباريس، وردّها لأصحابها الأصليين.

لقد تربّع على عرش النحت الإيطالي في عصره، ولم يبزّه في أوربا إلاّ هودون Houdon (1471 - 8281) الذي حظي في هذه الفترة بالتوقير، وكان من رأى بايرون الذي كان أكثر ألفة في إيطاليا منه في فرنسا أن أوروبا والعالم ليس فيها إلاّ كانوفا واحد(03) وأنه - أي كانوفا - يضارع نحّاتي العصور الكلاسية القديمة(13) وربما كان أحد أسباب الاحتفاء به هو موجة الكلاسيّة الجديدة التي جعلته - كما جعلت ديفد David (ساعد نابليون كليهما) يتبوأ مقعد الريادة في فنّه. لكن أوروبا لم تكن لترضى لفترة طويلة بتقليد (أو نسخ) الأعمال الفنية القديمة أو بتعبير آخر لم تكن لترضى - لفترة طويلة - بتقليد الآثار، لذا فسرعان ما أخضعت الحركة الرومانسية الخط والشكل للون والمشاعر وهكذا زوت شهرة كانوفا.

ولا يبعد عن سياق حديثنا ان نذكر أن كانوفا كان رجلا طيبا معروفا بتواضعه وتقواه وحبه للإحسان كما كان قادراً على تقدير منافسيه وعدم بخسهم حقهم، وكان يعمل بجد، وعانى من جو روما المسبب للملاريا ومن نحت الأعمال الضخمة، فغادر روما في صيف سنة 1281 طالبا هواء أنقى وحياة أهدأ في مسقط رأسه بوسّاجنو (بوسّانو) وفيها مات في 31 أكتوبر 2281 وهو في الرابعة والستين من عمره فبكاه كل المثقفين في إيطاليا.


ستُبعثُ إيطاليا من جديد

ما هي المحصلة الجبرية (نسبة إلى علم الجبر) الكلية لما أحدثته فرنسا من خير وشر في إيطاليا في هذا العصر؟ لقد قدمت فرنسا لأمّة تتمرّغ في الكسل بسبب حكم الأجانب لها، صيحة صاخبة ونموذجاً لأمة حقّقت حريتها بإرادتها وأفعالها وهي تكاد تميَّزُ من الغيظ. لقد قدّمت فرنسا لإيطاليا روحاً جديدة مفعمة بالتحدي فيما يتعلق بعلاقة المواطنين بالدولة. لقد قدّمت فرنسا لإيطاليا مجموعة المدوّنة النابليونية. لقد كانت صارمة لكنها كانت بنّاءة ومحدّدة وواضحة ضبطت الأمور وأشاعت النظام ومهدت الطريق للوحدة والمساواة أمام القانون في شعب طالما قسّمته الطبقية والنفور من الامتثال للقانون. وعمل نابليون ورجال إدارته الدؤوبون على تحسين الأداء الحكومي وتطهيره وعلى الإسراع بالتنفيذ ومضاعفة الأشغال العامة (المشروعات العامة) وتزيين الطرق وإنشاء الحدائق والشوارع التي تحفها الأشجار، وتطهير الطرق والمستنقعات والترع والقنوات، وتأسيس المدارس وإلغاء محاكم التفتيش وتشجيع الزراعة والصناعة والعلوم والآداب والفنون. وحمى الحكم الجديد (الفرنسي) دين الناس لكنه لم يعطِ الحكومة حق قمع المنشقين عن الكنيسة. لقد كان نابليون المتشكك (غير المؤمن بالكاثوليكية) هو الذي خصّص الأموال لإكمال كاتدرائية ميلان، وتم الإسراع بالإجراءات القانونية كلها كما أُدْخل عليها الإصلاح، وأصبح التعذيب مخالفاً للقانون ولم يُعد استخدام اللغة اللاتينية في المحاكمة أمراً لازماً، وفي هذه الفترة (9871 - 3181) لم يكن ينقص جوزيف ومورا في نابلي ويوجين في ميلان إلاّ ان يكونوا إيطاليين ليحظوا بحب الشعب.

أما الجانب الآخر للصورة فيتمثل في التجنيد الإلزامي والضرائب والاختلاس (بمقادير قليلة). لقد وضع نابليون نهاية للصوصية وقطع الطرق، لكنه استولى على الأعمال الفنية الشهيرة التي كانت إيطاليا متخمة بها، وفيما يتعلق بالتجنيد الإجباري فقد كانت حجج نابليون هي الأكثر معقولية باعتباره - أي التجنيد الإجباري - وسيلة عادلة لحماية الأمة الجديدة من الفوضى الداخلية والحكم الأجنبي، فالإيطاليون كما قال لابد أن يتذكروا أن الجيش هو الدّعم الأساسي للدولة. لقد آن الأوان أن يكف الشباب العاطل في المدن الكبيرة عن الخوف من متاعب الحروب وأخطارها. وربما كان التجنيد الإجباري مقبولاً كشّرٍ لابد منه لو أن المجنّدين الإيطاليين لم يجدوا أنفسهم عُرضة للذهاب إلى أي جبهة لحماية مصالح نابليون أو فرنسا، لقد تحرك ستة آلاف منهم إلى القنال الإنجليزي في سنة 3081 للانضمام للجيش الفرنسي لغزو إنجلترا، ذلك المشروع الذي كان غير مضمون النتائج. وتحرك ثمانون ألفا منهم(23) ليُقذف بهم بعيداً عن شمس إيطاليا ليعانوا في سهول روسيا ويدهمهم جليدها، ويواجهوا جنود القوزاق.

ولم يوافق الإيطاليون على وطنيّة الضرائب Patriotism of Taxation، ففي حالة الضرائب أيضاً لم يكن العامل الإيطالي يدفع لحماية إيطاليا وحدها وحكمها وتحسين ظروفها، وإنما أيضاً لمساعدة نابليون في مواجهة المصاريف المتزايدة المطلوبة لإدارة إمبراطورياته الممتدّة والمتقلقلة (غير المستقرة). وكان يوجين يتوقع أن يحظى بحب رعاياه بينما هو يسلب ما في جيوبهم، إذ ارتفعت عوائد الضرائب في مملكته الصغيرة من 28 مليون فرنك في سنة 5081 إلى 441 مليون في سنة 2181، وكان من رأي الإيطاليين أن هذه الأعباء الثقيلة كان من الممكن تحملها بشكل أيسر إذا لم يسلب الحصار القاري الذي فرضه الإمبراطور (نابليون) السوق الإنجليزي من الصناعة الإيطالية، بينما كانت جمارك التصدير والاستيراد التي تجعل فرنسا في الوضع الأكثر رعاية قد كبّلت التجارة الإيطالية بالتعامل مع فرنسا وألمانيا.

وعلى هذا فحتى قبل عودة النمساويين، كان الإيطاليون قد تعبوا من حماية نابليون. لقد شعروا أنهم لم يفقدوا أعمالهم الفنية العظيمة فحسب، وإنما كانوا أيضاً عُرضة لاستنزاف ثرواتهم التي كونوها في سبيل مشروع نابليون لغزو إنجلترا وفتح روسيا، ولم يكن هذا هو حُلم شعرائهم. إنهم يعترفون أن المسؤولين الذين عينهم البابا كانوا قد سمحوا بدرجة كبيرة من الفساد والرشوة في الولايات الباباوية ومع هذا فقد ساءتهم المعاملة السيئة التي لاقاها البابا بيوس السابع من المسؤولين الفرنسيين كما ساءهم أن يأمر نابليون بسجنه، وأخيراً كرهوا حتى يوجين المحبوب فعلى يديه جرى تنفيذ كثير من مراسيم نابليون التي لم تكن تلقى منهم ترحيباً وقد رفضوا دعْم جهود يوجين لإرسال دعم لنابليون عندما كان عُرضة لهزيمة كاملة (3181) بعد ليبسج (ليبزج) Leipzig. لقد فشلت جهود تحرير إيطاليا بواسطة حكم أجنبي وجيش من الغرباء، وكان على التحرير أن ينتظر وحدة وطنية من خلال جيش إيطالي ورجال دولة إيطاليين وأدب إيطالي.

وقد تنبأ نابليون نفسه بهذه الصعوبات، وكانت حساباته صحيحة هذه المرة، رغم أنه أساء الحساب كثيراً فيما يتعلق بإيطاليا، ففي سنة 5081 - عام تتويجه ملكاً على إيطاليا. قال لبورين Bourienne: لا يمكن أن يكون اتحاد إيطاليا مع فرنسا إلاّ مؤقتاً، لكنه ضروري لتعويد أمم إيطاليا (المقصود دولها) على العيش معاً في ظل قانون عام. فهناك كراهية متبادلة بين الجُنويين، والبيدمونتيين، والبنادقة، والميلانيين وأهل تسكانيا وأهل روما وأهل نابلي.. وروما هي العاصمة الطبيعية لإيطاليا بسبب التراث المرتبط بها. وعلى أية حال، فكي تكون روما كذلك (عاصمة طبيعية) من الضروري تقييد سلطة البابا في نطاق الأمور الروحية الخالصة. إنني لا أستطيع الآن التفكير في هذا لكنني سأنظر فيه مستقبلا.. إن هذه الدول الإيطالية الصغيرة ستصبح تلقائياً معتادة على القوانين نفسها، وعندما تخف حدة عداواتها ستصبح هناك إيطاليا واحدة، وسأجعلها مستقلة. لكن هذا قد يستغرق مني عشرين عاما، ومن منا يستطيع أن يتنبأ بالمستقبل؟(33).

إننا لا نستطيع دوما الثقة في بورين Bourrienne لكن لا كاس Las Cases روى أن نابليون ذكر ما يشبه فحوى هذا الكلام في سانت هيلانه: لقد زرعتُ في قلوب الإيطاليين مبادئ لا يمكن انتزاعها أبداً، فعاجلاً أم آجلاً سيتحقق البعث الإيطالي(43) وقد حدث هذا بالفعل.