قصة الحضارة - ول ديورانت - م 11 ك 4 ف 25

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 14685

قصة الحضارة -> عصر نابليون -> ملوك أوروبا في مواجهة التحدي -> أيبيريا -> البرتغال

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الخامس والعشرون: أيبريــا

البرتغال 1789 - 1808

وصلت أخبار الثورة الفرنسية إلى البرتغال التي كانت تناضل للعودة إلى نظم العصور الوسطى المحافظة بعد المحاولة العنيفة المخزية التي قام بها الماركيز دي بومبال Pombal لجعل البرتغـال تابعـة فـي ثقافتهــا وقوانينهــا لفرنســا لويــس الخامس عشر، وإسبانيا شارل الثالث III Charles. وكانت جبال البرانس تعوق تدفق الأفكار من فرنسا إلى شبه الجزيرة الأيبيرية. وكان يحول بين انتقال الأفكار من إسبانيا إلى البرتغال شغف إسبانيا وتوقها المتكرر لابتلاع أختها الصغرى (البرتغال)، وكان ممثلو محاكم التفتيش طوال قرنين يبدون كأسود على بوابة قصر يصدون أية كلمة وأية فكرة تشكك في العقيدة الدينية القديمة أو تضعها موضع تساؤل.

وفي أدنى السلم الاجتماعي كان هناك حرس آخر يحمي الماضي ويدافع عنه: العوام البسطاء الذين كانوا في غالبهم يجهلون القراءة والكتابة - الفلاحون والحرفيون والعمال والجنود، فقد كانت هذه الطوائف قد أنست إلى عقائدها المتوارثة وارتاحت إلى ما بها من أساطير، واعترتها الخشية لما بها من معجزات وتفاعلت بتقوى شديدة مع طقوسها. وفي أعلى السلم الاجتماعي كان البارونات الإقطاعيون هم ملاك الأرض الذين يتصرفون بشكل نموذجي على وفق ما هو مطلوب في عصرهم، وكانت الملكة ماريا فرانسسكا Maria Francisca الرعديدة الواهنة العقل، وابنها جون الوصي على العرش (1799) والذي أصبح ملكا (1816 - 1826)، يعتمدان على الكنيسة كأداة للحماية، وكوسيلة لا بد منها لدعم أخلاق الأفراد، وضبط النظام الاجتماعي ومؤازرة الملكية المقدسة ذات الحق الإلهي والسلطة المطلقة ووسط كل هذا الحرس المدافع عن القديم، كانت هناك قلة قلية - الدارسون والماسونيون والعلماء والشعراء ورجال الأعمال، وقلة من الموظفين، بل وواحد من النبلاء أو اثنان - يزعجها الحكم المطلق الذي ورثته البلاد عن الماضي، وكان أفراد هذه القلة يغازلون الفلسفة ويحلمون بحكومة تمثيل نيابي، ويحلمون بحرية التجارة وحرية الصحافة وحرية الاجتماع وحرية الفكر، ويحلمون بمشاركة فعالة متجاوبة مع فكر العالم.

وأتت أخبار الثورة الفرنسية لتسبب البهجة لتلك القلة المرتعدة، ولتسبب الرعب لذوي المقامات الرفيعة ومحاكم التفتيش، وعبَّر غير المتحفظين عن فرحتهم بشكل ينم عن الطيش، واحتفت المحافل الماسونية في البرتغال بهذا الحدث (الثورة الفرنسية) وهلل السفير البرتغالي في باريس للجمعية الوطنية الفرنسية، وربما كان قد قرأ كتابات روسو أو سمع خطب ميرابو، وسمح وزير الشئون الخارجية في البرتغال للجريدة الرسمية بنشر تحية لسقوط سجن الباستيل، وراح أصحاب المكتبات الفرنسيون في البرتغال يبيعون نسخاً من دستور 1791.

لكن عندما عزل ثوار باريس الملك لويس السادس عشر أحست الملكة ماريا أن عرشها يهتز وسلمت الحكم لابنها. وانقض جون السادس (كما سيصبح اسمه فيما بعد) بشراسة على الليبراليين في البرتغال، فشجع مدير شرطته على ملاحقة كل ماسوني، وكل أجنبي ذي شأن، وكل كاتب يدعو للإصلاح السياسي، بالقبض عليهم، أو نفيهم أو مراقبتهم بشكل دائم. وجرى سجن فرانسكو دا سيلفا Francico do Sivla زعيم الليبراليين، وجرى إبعاد النبلاء الليبراليين عن البلاط. وسجن مانويل دى بوكيج du Bocage (1865 - 1805) الشاعر البرتغالي الرائد في عصره الذي كان قد كتب قصائد (سونيتات) قوية ضد الطغيان، فراح يستغل وقت فراغه في السجن في ترجمة أوفيد Ovid وفرجيل(2) Virgil. وفي سنة 1793 حذت البرتغال حذو إسبانيا فشنت حربا مقدسة على فرنسا بأن أرسلت أسطولا صغيرا لينضم إلى الأسطول البريطاني في البحر المتوسط، والحقيقة أن تصرف البرتغال على هذا النحو كان يعبر عن استيائها الشديد من إعدام الملك الفرنسي لويس السادس عشر لكن سرعان ما سعت إسبانيا لعقد سلام منفرد مع فرنسا (1795) فطلبت البرتغال من فرنسا تسوية العلاقات بينهما على النحو نفسه، لكن فرنسا رفضت بحجة أن البرتغال هي في الواقع مستعمرة لإنجلترا وحليفة لها، واستعر النزاع حتى استطاع نابليون أن يطول هذه الدولة الصغيرة التي كانت ترفض الانضمام إلى جهوده لإغلاق القارة الأوربية في وجه البضائع البريطانية والنفوذ البريطاني (الحصار الفرنسي المضاد)، ولم يتمكن نابليون من وضع البرتغال في محور اهتمامه إلا بعد أن كان قد فتح نصف أوربا.

وكانت البنية الاقتصادية البرتغالية غير الراسخة كامنة وراء أوضاعها العسكرية والسياسية، فكما كان الحال في إسبانيا كانت ثروة البرتغال تقوم على جلب المعادن النفيسة من مستعمراتها. وكانت هذه المجلوبات من ذهب وفضة تذهب لقاء المواد التي تستوردها البرتغال لإضفاء مظهر براق زائف على العرش وزيادة غنى الغني، وشراء الرفاهيات والعبيد. ولم تكن هناك طبقة وسطى نامية لتطوير الموارد الطبيعية بزراعة متقدمة وصناعة تقوم على التكنولوجيا. وعندما أصبحت السيادة على البحار لإنجلترا أصبح وصول إمددات الذهب للبرتغال متوقفا على إمكانية الإفلات من الأساطيل البريطانية، أو إمكانية عقد اتفاقات مع الحكومة البريطانية. واختارت إسبانيا طريق الحرب وكادت تستنفد مواردها في بناء أسطول ممتاز في كل شيء خلا طاقم بحارته والروح المعنوية لقادته وجنوده، فعندما انضم هذا الأسطول الإسباني - على مضض - للأسطول الفرنسي، حاقت به الهزيمة في معركة الطرف الأغرّ، فأصبحت إسبانيا معتمدة على فرنسا، أما البرتغال فأصبحت معتمدة على إنجلترا مخافة أن تبتلعها أسبانيا أو فرنسا، فراح المغامرون الإنجليز يشغلون مناصب مهمة في البرتغال وراح آخرون منهم يقيمون فيها المصانع أو يتولون إدارة المصانع البرتغالية، وهيمنت البضائع البريطانية على تجارة الواردات البرتغالية ووافق البريتون على شرب نبيذ الميناء من أوبورتو Oporto في البرتغال (الاسم أوبورتو يعنى ميناء Port).

لقد أسخط هذا الوضع نابليون واستثاره، إذ كان فيه التحدي لخطته القائمة على إجبار إنجلترا على قبول السلام بمنع بضائعها ومنتجاتها من دخول أسواق القارة الأوربية، ووجد نابليون في ذلك مبررا لغزو البرتغال، فالبرتغال إذا تم فتحها يمكنها أن تساهم مع فرنسا في إجبار إسبانيا على الارتباط بالسياسة الفرنسية، أو بتعبير آخر لا تجد لها فكاكا من الارتباط الدائم بفرنسا، وساعتئذٍ يمكن لبونابرت آخر أن يتبوأ عرش إسبانيا. وعلى هذا، فكما سبق أن ذكرنا، حث نابليون الحكومة الإسبانية على الانضمام لفرنسا في غزو البرتغال، فهربت الأسرة المالكة البرتغالية في سفينة إنجليزية إلى البرازيل، وفي 30 نوفمبر سنة 1807 قاد جونو Junot جيشا فرنسيا إسبانيا إلى لشبونة، وكاد طريقة يكون خاليا من المقاومة، وتحلق الزعماء الليبراليون في البرتغال حول الحكومة الجديدة آملين أن يلحق نابليون بلادهم وأن يقيم فيها مؤسسات تمثيل نيابي(3). ولاطف جونو Junot هؤلاء الرجال، وضحك منهم في سريرته، وأعلن في أو ل فبراير سنة 1808 انتهاء حكم أسرة براجانزا Braganza وراح هو نفسه يحكم قبضته، ويتصرف أكثر فأكثر كملك.

إسبانيا

كانت إسبانيا لاتزال تعيش أجواء العصور الوسطى. لقد كانت دولة ذائبة في عشق الرب، تزدحم كاتدرائياتها المهيبة، ويقوم أبناؤها بالحج إلى المزارات المقدسة، دولة مكتظة برجال الدين، أنست إلى الغفران الذي تمنحه الكنيسة الكاثوليكية، تخشى محاكم التفتيش وتوقرها، وكان الإسبان يخرِّون ركعا سجدا في الطرقات عندما يمر أعضاء محاكم التفيتس في موكبهم المهيب. كما كان الإسبان يضعون في اعتبارهم قبل أي شيء آخر أن يكون الرب God حاضراً في كل بيت من بيوتهم يرعى أطفالهم ويحفظ عذرية بناتهم ويثيب في النهاية بالفردوس بعد اختبار مرهق اسمه الحياة. وقد وجد جورج بورو Borrow بعد ذلك بجيل >أن جهل الجماهير كان فظيعاً< على الأقل في ليون Leon >لدرجة أن التمائم المطبوعة ضد الشيطان وأعوانه، والتمائم التي تبعد النحس، كانت تباع علناً في المحلات وكانت تلقى رواجا كبيرا(4)< وقد انتهى نابليون الذي كان لايزال ابنا لحركة التنوير إلى أن >دور الفلاحين الإسبان وإسهامهم في الحضارة الأوربية أقل حتى من دور الفلاحين الروس(5)<. لقد عبر نابليون عن ذلك بينما هو يوقع الكونكوردات (الوفاق) مع الكنيسة الكاثوليكية. ومع هذا فقد كان الفلاح الإسباني - كما شهد لورد بايرون يستطيع >أن يكون فخورا معتزا بنفسه كأكثر الدوقات نبالة(6)<.

وكاد يكون التعليم مقصورا على البورجوازية والنبلاء. وكانت معرفة القراءة والكتابة تمثل حداً فاصلا، فحتى الهيدالجوات hidalgos (من طبقة النبلاء الدنيا) قلما كان الواحد منهم يستطيع قراءة كتاب. وكانت الطبقة الحاكمة تتخوف من الطباعة(7)، وعلى أية حال لم يكن محو الأمية مطلوبا في ظل الاقتصاد الإسباني الموجود آنئذ. وكانت بعض المدن التجارية مثل قادش Cadiz وأشبيلية مزدهرة، وقد اعتبر اللورد بايرون قادش >أجمل مدن أوربا<(8) في سنة 9081. وكانت هناك بعض المراكز الصناعية المزدهرة، فقد ظلت توليدو Toledo مشهورة بسيوفها(9) لكن طبيعة البلاد الجبلية الوعرة لم تجعل غير ثلثها فقط هو الذي يمكن زراعته بمردود اقتصادي، وكانت الطرق والقنوات (الترع) قليلة جدا، ووعرة وتنقصها الصيانة كما كان المرور فيها يستلزم رسوما تفرضها الولايات أو السيد الإقطاعي، لدرجة أن الناس وجدوا أنه من الأرخص استيراد القمح من إنتاجه محليا(01). لقد راح الفلاحون - وقد أوهنت التربة التي لا تصلح للزراعة إلا بشق النفس - من عزائهم راحوا يفخرون بحياة البطالة الواضحة بدلاً من انتظار نتائج الكدح في تربة ليس نتاجها مؤكدا. ووجد أهل المدن سعادتهم في تهريب البضائع أكثر مما وجدوها في العمل الذي لايتقاضون لقاءه أجوراً مجزية. وكان يجثم فوق أنفاس الحياة الاقتصادية ضرائب تزداد أكثر مما يزداد الدخل وجهاز شرطة فاسد وطبقة موظفين متزايدة، وحكومة منحطة (فاسدة).

ورغم هذه الصعوبات فقد ظلت روح الأمة العالية، يشد أزرها تراث فيرديناند وإيزابيلا، وفيليب الثاني، وتراث فيلاسكويز Velaisquez وموريلو Murillo، ويشد أزرها زيادة ثروة الإمبراطورية الإسبانية في الأمريكتين والشرق الأقصى، تلك الثروة الهائلة التي كانت إمكانية زيادتها أمراً متوقعا. وحقق الفن الإسباني شهرة ضارعت الفن الإيطالي والهولندي. لقد جمعت الأمة الإسبانية - الآن - كنوزها الفنية - رسماً ونحتا في متحف دل برادو Museo del Prado الذي شيده في مدريد (5871 - 9181) خوان دي فيلانوفا Juan de Vilanueva ومعاونوه ومن أتوا بعده. وفي هذا المتحف توجد الأعمال العظيمة الخالدة لسيد رسامي العصر فرانسسكو جوز دي جويا Francisco Jose de Giya Y Lucientes (6471 - 8281) وقد وصلتنا صورة لهذا الرسام رسمها له فيسنت لوبيزي بورتانا Vicente Lopez Y Portana وهي صورة تظهره عنيدا متصلباً مما يتوافق مع الروح المتجهمة التي أظهر فيها (في رسومه) الحرب بكل وحشيتها وقسوتها الدموية، ومما يتوافق مع رجل أحب بلاده لكنه في الوقت نفسه كان يحتقر ملكها. لقد انتعش الأدب الإسباني بفضل حافزين، أوّلهما الثقافة الكاثوليكية، وثانيهما التنوير الفرنسي، واستمر هذا الانتعاش حتى عندما استهلكت الحروب الأهلية والحروب الخارجية الأمة الإسبانية. فالقس الجزويتي (اليسوعي) خوان فرانسسكو دي ماسدو Juan Francisco de Masdeu أصدر على مراحل بدءا من سنة 3871 إلى سنة 5081 كتابه المهم عن تاريخ الثقافة الإسبانية Historia Critica de Espana Y de la Crltura Espanola تناول فيه التاريخ بشكل تكاملي إذ خلط التاريخ الثقافي في سياق التاريخ الحضاري العام(11). وتلقى خوان أنتونيو لورنت Juan Antonio Llorente - الذي كان سكرتيرا عاما لمحكمة التفتيش الإسبانية (الكاثوليكية) من 9871 إلى 1081 - من جوزيف بونابرت (9081) تكليفا بكتابة تاريخ هذه المؤسسة (محكمة التفتيش)، ووجد خوان أن كتابة هذا التاريخ في باريس سيكون أكثر أمناً، فكتبه بالفرنسية في الفترة بين عامي 7181 و 8181. ولم يكن ازدهار النثر والشعر الذي كان غرة في جبين عصر شارلز الثالث قد ذبل تماما عند موته: فقد واصل جاسبار ملشور دي جوفيلانوس Gaspar Melchor de Jovellanos (4471 - 1181) دوره كصوت معبر عن الليبرالية في التعليم ونظم الحكم، وظل ليندرو فرناندز دي مورتين Leandro Fernandez de Mortain (0671 - 8281) يتسوّد على خشبة المسرح بمسرحياته الضاحكة (كوميدياته) التي ضمنت له لقب (موليير إسبانيا)، وخلال حرب التحرير (8081 - 4181) راح مانويل جوزي كوانتانا Manuel Jose Quantana والقس خوان نيكازيو جاليجو Juan Nicasio Gallego يفيضان أشعارا حماسية لتأجيج نيران الثورة على الفرنسيين.

لقد تأثر معظم الكتاب الإسبان الرواد بالأفكار الفرنسية سواء في مجال الفكر الخالص أو التحرر السياسي، لقد تفرنس هؤلاء الكتاب تماما كما تفرنس الماسونيون. حدث هذا رغم النضال الإسباني للتحرر من الاحتلال الفرنسي. لقد استنكروا إضعاف الملكية لمجالس الأقاليم (المحافظات) تلك المجالس المحلية التي كان لها دور في وقت من الأوقات في المحافظة على أسبانيا حيّة في مختلف أنحائها. لقد هلّلوا للثورة الفرنسية ورحّبوا بنابليون كمتحدٍ يدفع اسبانيا لتخليص نفسها من الارستقراطية الاقطاعية والكنيسة ذات الصبغة الوسيطية (كنيسة العصور الوسطى) والحكومة التي لا تتسم بالكفاءة. ولندع مؤرخا أسبانيا متمكنا يقدم لنا لحنا جنائزيا حزينا ومتسما بالقوة يتناول فيه الأسرة الحاكمة الإسبانية المحتضرة:

>في سنة 8081، وعندما كانت أسرة البوربون الحاكمة في فرنسا تسير نحو الهاوية - يمكننا أن نلخص الوضغ السياسي والاجتماعي في أسبانيا كالتالي: أرستقراطية فقدت احترامها للملوك، فقد كان رجال الحاشية على نحو خاص لا يوقرون ملوكهم. وسياسات فاسدة يقوم عليها سياسيون تحركهم العداوات الشخصية، ويملأهم الخوف والتردد. وكانت الطبقات العليا تعوزها الوطنية لا يحركها سوى الجشع والهوى. وكانت الآمال المحمومة للجماهير تتحلق حول أمير (هو فرديناند) أثبت بالفعل أنه حقود يميل للانتقام وأنه أمير زائف. وأخيرا ظهر التأثير العميق في دوائر الأدب والفكر، لأفكار الموسوعيين (الأنسيكلو بيديين) الفرنسيين والثورة الفرنسية(21)<.

وقد وصفنا في فصل سابق انهيار العرش الإسباني وتفسخه من وجهة نظر نابليون: لقد سمح شارل الرابع (حكم من 8871 إلى 8081) لزوجته ماريا لويزا Luisa وعشيقها جودوي Godoy أن يسلباه صلاحيات الحكم، وراح الأمير فرديناند الوريث الظاهر يناور لعزل أبيه، وحارب أنصار جودوي أنصار الأمير فرديناند، وغرقت مدريد وما حولها في حالة من الفوضى. ووجد نابليون في هذه الفرضى فرصة لضم كل شبه الجزيرة الأيبيرية للحكم الفرنسي ليحكم بها الحصار القاري (المضاد) في وجه البضائع والنفوذ البريطانيين. لقد أرسل نابليون مورا Murat والجيش الفرنسي الثاني إلى أسبانيا بتعليمات مؤداها إعادة النظام إلى أسبانيا. ودخل مورا Murat مدريد (32 مارس 8081) وقمع العصيان المسلح المعروف بعصيان الثاني من مايو historic Dos de Mayo. وفي هذه الأثناء دعا نابليون كلاً من شارلز الرابع وفرديناند للالتقاء به في بايون Bayonne في فرنسا بالقرب من الحدود الإسبانية. وأرهب نابليون الأمير وأجبره على إعادة العرش لوالده، ثم حث نابليون الأب على التنازل عن العرش لصالح من يعينه هو (أي يعينه نابليون) ووعد نابليون بالاعتراف بالكاثوليكية كدين رسمي وحمايتها كدين وطني لأسبانيا. وأمر نابليون أخاه جوزيف بالقدوم ليكون ملكاً على أسبانيا. ولم يكن جوزيف راغباً في القدوم لكنه أتى على مضض وتسلم من نابليون دستورا جديدا لأسبانيا منح فيه الإسبان كثيرا مما كان يطمح إليه الليبراليون الإسبان، لكنه - أي الدستور - طلب منهم أن يكونوا على علاقة طيبة بالكنيسة. وتولى جوزيف مهامه الجديدة غير سعيد بها، وعاد نابليون إلى باريس سعيدا بابتلاع أسبانيا غير واضع في اعتباره الجماهير الإسبانية وولنجتون Wellingtom.


آرثر ولزلي 1769 - 1807

حتى سنة 9081 لم يحمل اسم ولنجتون، فحتى سنة 8971 كان اسمه وزلي Wesley رغم أنه كان بعيدا عن الوزلية (أو الميتودية أو المنهجية Methodism). ولد في دبلن Dublin في أول مايو سنة 9671 (قبل مولد نابليون بمائة يوم وخمسة أيام) وكان هو الابن الخامس لجاريت وزلي Garret Wesley الإيرل الأول لمورننجتون Mornington مالك مزرعة وعقار إلى الشمال من العاصمة الأيرلندية. وجرى إرساله إلى إتون Eton وهو في الثانية عشرة من عمره لكنه دعي للعودة إلى منزله بعد ثلاثة أعوام غير مجيدة(31). وليس هناك مايشير إلى أنه كان متفوقاً في الرياضة إذ كان حاله فيها كحاله في الدراسة، وفي وقت لاحق شكك في صحة المقولة التي لا نعرف قائلها والتي مؤداها أن معركة واترلو ما كانت ليحقق فيها البريطانيون نصرا لولا ما كان يجري في ملاعب إتون Eton(41) لقد كانت أمه حزينة تردد دائما قولها إنني ألجأ إلى الله لأعرف ما سأفعله مع ابني آرثر غير البارع(51) لكل هذا فقد تم إلحاقه بالجيش فجرى إرساله وهو في السابعة عشرة من عمره إلى الأكاديمية الملكية في أنجرز Academie Royale de L,Equitation, Angers حيث كان أبناء النبلاء يتعلمون الرياضيات وشيئا من العلوم الإنسانية ويتلقون كثيرا من التدريبات على ركوب الخيل والمبارزة وهي أمور لازمة للضباط. وعندما فاز بجوائزه - بفضل نفوذ أسرته أو مقابل دفع الأموال - تم تعيينه معاوناً للورد ليفتنانت أيرلندا كما شغل مقعداً في مجلس العموم في أيرلندا ممثلاً لمدينة تريم Trim. وفي سنة 9971 أصبح ليفتنانت كولونيل وقاد ثلاث كتائب لغزو الفلاندر Flanders وعاد من هذه المغامرة غير الناجحة مشمئزاً من الحرب ممرغاً في الوحل متهما بعدم الكفاءة حتى إنه فكر في ترك الجيش والانخراط في الحياة المدنية. لقد كان يفضل الكمان على الثكنات العسكرية وكان يعاني آلاما متلاحقة، وكان من رأي أخيه مور ننجتون أن أحداً لا يجب أن يتوقع منه الكثير لنقص كفاءته (61) وقد رسمه جون هوبنر Hopner في صورة تظهره وهو في السادسة والعشرين بعينين كعيني شاعر، وبوسامة كوسامة بايرون. وقد رشح - مثل بايرون - للزواج من ليدي نبيلة رفضت الاقتران به. وفي سنة 6971 ذهب إلى الهند كولونيلاً تحت قيادة أخيه ريتشارد الذي هو الآن (في هذه الفترة) المركيز ويلزلي Wellesley وأصبح حاكما لمدراس Madras ثم البنغال، وضم بعض الإمارات الهندية للإمبراطورية البريطانية. لقد أحرز آرثر ولزلي Arthur Wellesley (كما أصبح دوق المستقبل يكتب اسمه) بعض الانتصارات الباهرة في هذه المعارك في الهند، ومنح لقب فارس في سنة 4081.

وعندما عاد إلى إنجلترا ضمن لنفسه مقعدا في البرلمان البريطاني وتقدم مرة أخرى لطلب يد كاثي باكنهام Cathey Pakenham فقبلته (6081) فعاش معها غير سعيد حتى تعلم كل منهما العيش بمعزل عن الآخر، وقد أنجب منها طفلين. وواصل الترقي من منصب إلى آخر، ولم يكن هذا بتقديم الرشا وإنما كان في الأساس لشهرته بالتحليلات الدقيقة والإنجازات المتسمة بالكفاءة. وقد وصفه وليم بت Pitt قرب موته بأنه رجل يضع في اعتباره كل الصعوبات قبل القيام بمهمة فلا يبقى من هذه الصعوبات شيء بعد إتمام المهمة(71) وفي سنة 7081 أصبح وزيرا أول لشؤون أيرلندا في وزارة دوق بورتلاند Duke of Portland، وفي سنة 8081 أصبح ليفتنانت جنرال، وفي شهر يوليو من العام نفسه عهد إليه بقيادة 00531 مقاتل لطرد جونو Junot والفرنسيين من البرتغال.

وفي أول أغسطس رسا برجاله في ساحل خليج مونديجو Mondego إلى الشمال من لشبونه بمائة ميل. وانضم إليه هناك نحو 0005 برتغالي، ووصله خطاب من وزارة الحرب تعده فيه بإمداده بمحاربين آخرين عددهم 00051 في أقرب وقت، لكن الخطاب أضاف أن السير هيو دالريمپل Hew Dalrymple البالغ من العمر ثمانية وخمسين عاما سيكون على رأس هذا المدد وسيتولى القيادة العليا للحملة كلها، ولكن ولزلي Wellesley كان قد وضع خططه بالفعل ولم يكن سعيدا بالعمل تحت قيادة قائد آخر، فقرر ألا ينتظر وصول المدد المكون من 000،51مقاتل، فاتجه شمالا على رأس رجاله البالغ عددهم 005،81 ليخوض المعركة التي ستحدد مصير جونو Junot ومصيره (أي مصير ويلزلي)، وكان جونو Junot قد سمح لرجاله بالانغماس في اللهو بكل أنواعه في العاصمة، وكان على رأس 000،31 مقاتل، فقبل التحدي لكنه عانى هزيمة منكرة في فيميرو Vimeiro بالقرب من لشبونة (12 أغسطس 8081). ووصل دالريمبل Dalrymple بعد المعركة فتولى القيادة، وأوقف مواصلة زحف القوات البريطانية ورتب مع جونو Junot اتفاق سنترا Cintra (3 سبتمبر) يسلم بمقتضاه كل المدن والحصون التي كان الفرنسيون قد استولوا عليها في البرتغال، على أن ينسحب بمن بقي من رجاله بأمان، ووافق البريطانيون على تقديم سفنهم لنقل الراغبين في العودة إلى فرنسا، ووقع ويلزلي Wellesley الوثيقة شاعراً أن تحرير البرتغال بمعركة واحدة أمر يستحق من بريطانيا بعض الرضا.

واتفاق سنترا Cintra هذا هو الاتفاق الذي وافق الشاعران وردزورث ولورد بايرون على أنه غباء لا يصدق (وإن كانا لم يرددا هذا الرأي بعد ذلك إلا نادرا) فهؤلاء المقاتلون الفرنسيون الذين تم إطلاق سراحهم سرعان ماسيجندون مرة أخرى لمحاربة بريطانيا وحلفائها. وتم استدعاء ويلزلي Wellesely إلى لندن لا ستجوابه، فذهب غير آسف تماما فهو لم يكن راغبا في الخدمة تحت قيادة دالريمبل Dalrymple وكان يكره الحرب بالفعل. لقد قال بعد أن حقق انتصارات كثيرة اسمع رأيي عن الحرب: إنك إن خضت الحرب ولو ليوم واحد فستدعو الله القدير ألا تشهدها ولو لساعة واحدة مرة أخرى(81). ويبدو أنه أقنع محاكميه أن اتفاق سنترا قد أنقذ حياة الآلاف من البريطانيين وحلفائهم بمنع القوات الفرنسية من إبداء المزيد من المقاومة. وبعد ذلك عاد إلى أيرلندا منتظراً فرصة أفضل لخدمة بلاده واسمه ذي السمعة الطيبة.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

حرب شبه الجزيرة الأيبيرية

الحرب الثالثة 1808 - 1812

لقد كان ملك أسبانيا جوزيف بونابرت في اضطراب لا مزيد عليه. لقد عمل على اكتساب قبول واسع أكثر من القبول الذي حباه به بعض الليبراليين. وكان الليبراليون يؤيدون إجراءات المصادرة ضد الكنيسة الثرية ولكن جوزيف الذي كان يعاني من شهرته كلا أدري (اللاأدري هو الموقن بأن الأمور غير المادية يصعب الوصول إليها باليقين الإيماني) كان يدرك أن أي تصرف منه ضد رجال الدين سيسارع يإشعال نيران المقاومة ضد الحكم الأجنبي (الفرنسي) وكانت الجيوش الإسبانية التي هزمها نابليون قد جرى تشكيلها من جديد في مناطق أسبانية متفرقة، حقيقة أنها لم تكن منظمة منضبطة، لكنها كانت متحمسة. واستمرت حرب العصابات التي يشنها الفلاحون ضد مغتصبي العرش كل عام في الفترة ما بين موسم البذر وموسم الحصاد، وكان يتحتم على الجيش الفرنسي في أسبانيا أن يقسم نفسه إلى قوات متفرقة يقودها جنرالات متحاسدون يخوضون معارك في جو من الفوضى وعدم الانضباط أعجز جهود نابليون للتنسيق بينهم من مقره في باريس. قال كارل ماركس لقد تعلم نابليون درساً مفاده أنه إذا كانت الدولة الإسبانية قد ماتت، فإن المجتمع الإسباني لا يزال مفعما بالحياة وأن كل جانب منه يفيض رغبة في المقاومة.. لقد كان محور المقاومة الإسبانية في كل مكان وليس في مكان واحد(91). وبعد انهيار الجيش الفرنسي الرئيسي في بيلن Bailen انضم الجانب الرئيس من الأرستقراطية الإسبانية إلى الثورة وبذلك حولوا الكراهية الشعبية التي كانت موجهة إليهم إلى الغزاة. وكان للتأييد الفعال الذي قدمه رجال الدين الإسبان للثورة أثره المهم في تحويل الحركة عن الأفكار الليبرالية، بل لقد حدث العكس فقد أدى نجاح حرب التحرير الإسبانية إلى تقوية الكنيسة ومحاكم التفتيش(02). ومع هذا فقد ظلت بعض العناصر الليبرالية موجودة في المجالس السياسية Juntas في المديريات (الولايات) الإسبانية المختلفة، وكانت هذه المجالس ترسل ممثلين عنها للمجلس الرئيسي (على مستوى الوطن كله) في قادش Cadiz، وكان هؤلاء يكتبون دستورا جديدا. لقد كانت شبه الجزيرة الأيبيرية مفعمة بالعصيان المسلح والآمال والإيمان الكاثوليكي، بينما كان جوزيف بونابرت يتطلع إلى نابلي، في حين كان نابليون يحارب النمسا وكان ويلزلي Wellesely (ولنجتون) يستعد لينقض مرة ثانية من إنجلترا ليساعد في عودة أسبانيا إلى ما كانت عليه في العصور الوسطى، مع أنه هونفسه (ويلزلي) كان رجلا عصريا بكل معنى الكلمة.

وكان السير جون مور John Moore - قبل موته في كورونا Corunna (61 يناير 9081) قد نصح الحكومة البريطانية ألا تقوم بمحاولات أخرى للسيطرة على البرتغال، فقد كان يعتقد أن الفرنسيين سينفذون أوامر نابليون بضم البرتغال إلى فرنسا عاجلاً أم آجلا، كما كان يعتقد أن إنجلترا لن تجد وسيلة لنقل العدد العدد الكافي من الجنود لمواجهة 000،001 جندي فرنسي موسمى في أسبانيا كما أنها لن تتمكن من تدبير المؤن اللازمة لجنودها. لكن السير آرثر ويلزلي كان قلقا في أيرلندا وأخبر وزير الحرب أنه إذا أتاح له قيادة عشرين ألف أو ثلاثين ألف جندي بريطاني ودعم وطني، فإنه يستطيع أن يحفظ البرتغال بعيدة عن قبضة أي جيش فرنسي لايزيد عن 000،001 مقاتل(12)، ووافقت الحكومة البريطانية وألزمته بكلماته، وفي 22 أبريل سنة 9081 وصل إلى لشبونة على رأس 000،52 بريطاني وصفهم في وقت لاحق بأنهم حثالة الأرض... ومجموعة من الأوغاد.. لايمكن السيطرة عليهم إلا بالسياط، إذ إنهم لم يخلقوا إلا للسكر(22). لكنهم يستطيعون القتال بشراسة إذا لم يكن أمامهم سوى خيار واحد: إما أن يقتلوا (بفتح الياء) أو يقتلوا (بضم الياء).

وتحسبا لوصول ويلزلي وقواته، حرك المارشال سولت Soult 000،32 جندي فرنسي إلى أوبورتو Oporto وفي هذه الأثناء كان جيش فرنسي آخر بقيادة المارشال كلود فكتور Claude Victor يتقدم من الغرب على طول التاجوس Tagus. وقرر ويلزلي Wellesley - الذي كان قد درس معارك نابليون بدقة - أن يهاجم سولت Soult قبل أن يتمكن المارشلان من ضمّ قواتهما معاً لشنّ هجوم على لشبونة التي تمكن البريطانيون منها. وبعد أن انضم إلى قوات ويلزلي البالغة 000،52 مقاتل، 000،51 مقاتل برتغالي بقيادة وليم كار بيرسفورد W. Carr Beresford (فيكونت بيرسفورد) قادهم جميعا إلى نقطة على نهر دورو Douro في مواجهة أو بورتو Oporto وفي 21 مايو سنة 9081 عبر مجرى النهر وهاجم مؤخرة جيش سولت Soult بشكل مفاجئ فتراجع الجيش الفرنسي وعمته الفوضى، وخسر الجيش الفرنسي 0006 قتيل وكل مدفعيته، ولم يتعقب ويلزلي الجيش الفرنسي المنهزم فقد كان عليه أن يسرع جنوبا للتصدي لجيش فرنسي آخر بقيادة فيكتور، لكن فيكتور بعد أن علم بهزيمة سولت Soult استدار عائداً إلى تالافيرا Talavera وهناك تلقى من جوزيف مددا زاد من عدد جيشه ليصبح 000،64 مقاتل، ولم تكن قوات ويلزلي تزيد على 000،32 بريطاني و 000،63 أسباني، والتقى الجيشان في تالافيرا في 82 يوليو سنة 9081، وهرب الجنود الإسبان ومع هذا فقد تمكن ويلزلي من تكبيد جيش فكتور 0007 قتيل وجريح واستولى منه على 71 مدفعا. وسيطر ويلزلي على ميدان المعركة رغم أن جيشه فقد 0005 ما بين قتيل وجريح، وقدرت الحكومة البريطانية كفاءة ويلزلي وشجاعته فأصبح يحمل لقب فيكونت ولنجتون ومع هذا فقد أدى انتصار نابليون في معركة واجرام Wagram (9081) وزواجه من ابنة الإمبراطور النمساوي (مارس0181) إلى وضع حد لولاء النمسا لإنجلترا. وكانت روسيا لا تزال حليفة لفرنسا، وكان هناك 000،831جندي فرنسي إضافي مستعدين للخدمة العسكرية في أسبانيا، وكان المارشال أندريه ماسينا Andre Massena بجنوده البالغ عددهم 000و56 يخطط للخروج بهم من أسبانيا لغزو البرتغال. وأخبرت الحكومة البريطانية ولنجتون أنه إذا غزا الفرنسيون أسبانيا مرة أخرى فلا جناح عليه إن انسحب بجيشه إلى إنجلترا(32). وكانت هذه لحظة حرجة في مهمة ولنجتون، فالانسحاب - رغم أن الحكومة البريطانية قد سمحت به - قد يلوث سجله إذا لم يحقق نصراً كبيرا على نحو ما يخفف من وطأة الانسحاب، فقرر أن يخاطر برجاله وبمهمته وبحياته بضربة أخرى تعتمد على الحظ (برمية نَرْد أخرى)، وفي هذه الأثناء كان قد جعل رجاله يقيمون خطا من التحصينات إلى الشمال من قاعدته في لشبونة بخمسة وعشرين ميلا من التاجوس Tagus وعبر تورز فيدراس Torres Vedras حتى البحر.

وبدأ ماسينا Massena معركته بالاستيلاء على حصن سيوداد رودريجو Ciudad Rodrigo الإسباني ثم عبر إلى البرتغال بستين ألف مقاتل. وكان ولنجتون على رأس 000،25 من المتحالفين (بريطانيين وأسبان وبرتغاليين) فالتقى به في بوساكو Bussaco (شمال كويمبرا Coimbra) في 72 سبتمبر سنة 0181 فتكبّد 0521 ما بين قتيل وجريح أما ماسينا فتكبّد 006،4، ومع هذا فقد أدرك ولنجتون أنه لن يستطيع - كماسينا - التعويل على مدد يأتيه، لذا فقد تراجع إلى تحصينات تورز فيدراس Torres Vedras وأمر رجاله باتباع سياسة الأرض المحروقة أي تدمير كل ما يلقونه في طريق تراجعهم حتى يعاني جيش ما سينا من الجوع، وفي 5 مارس سنة 1181 قاد ماسينا جنوده الجياع عائداً إلى أسبانيا وأسلم القيادة لأوجست مارمون Auguste Marmont.

وبعد أن قضى ولنجتون فترة الشتاء في الراحة وتدريب رجاله أخذ المبادرة فاتجه إلى أسبانيا على رأس جنوده البالغ عددهم 000،05 وهاجم قوات مارمون البالغ عددها 000،84 بالقرب من سالامانكا Salamanca في 22 يوليو 2181، ففقدت القوات الفرنسية 000،41 ما بين قتيل وجريح بينما فقد البريطانيون وحلفاؤهم 007،4، وانسحب مارمون، وفي 12 يوليو غادر الملك جوزيف بونابرت مدريد على رأس 000،51 مقاتل لتقديم النجدة لمارمون، لكنه علم في أثناء الطريق بما حل بمارمون من هزيمة، فلم يجرؤ (أي الملك جوزيف بونابرت) على العودة للعاصمة (مدريد) فقاد قواته إلى فالنسيا Valencia ليلحق هناك بجيش فرنسي أكبر عددا بقيادة المارشال سوش Sochet ولحق به - بعجلة وفوضى - 000،01 من المتفرنسين (المؤيدين للحكم الفرنسي من الإسبان والبرتغاليين) وحاشيته وموظفوه. وفي 21 أغسطس دخل ولنجتون مدريد فرحبت به الجماهير بحماس بالغ، تلك الجماهير التي ظلت غير مفتونة بدستور نابليون. وكتب ولنجتون لأحد أصدقائه إنني بين أُناس يكاد الفرح يذهب بعقولهم. لقد منحني الرب حظاً سعيداً أرجو أن يستمر لأكون أداة لتحقيق استقلاله(42).

لكن الرب تردّد فلم يُعطه استمراراً لهذا الحظ فقد أعاد مارمون تنظيم جيشه خلف تحصينات بورجو Burgos، فحاصره ولنجتون هناك؛، وتقدم جوزيف من فالنسيا Valencia على رأس 0009 مقاتل لمواجهة القوات البريطانية والمتحالفين معها، فتراجع ولنجتون (81 أكتوبر 2181) متجاوزاً سالامانكا إلى سيوداد رودريجو Ciudad Rodrigo وفقد في أثناء تراجعه 0006 من قواته (بين قتيل وجريح)، ودخل جوزيف مدريد مرة أخرى وسط استياء عارم من الجماهير، وإن ابتهجت الطبقة الوسطى لعودته، وفي هذه الأثناء كان نابليون يرتجف في موسكو، وظلت أسبانيا - مثلها في ذلك مثل سائر أوروبا - في انتظار نتيجة مغامرته التي ستؤثر في أحوال القارة الأوروبية.


النتائج

تمخضت حرب شبه الجزيرة الأيبيرية حتى عند هذه المرحلة غير الحاسمة عن بعض النتائج الواضحة. فمن الناحية الجغرافية كانت أهم النتائج هي أن المستعمرات البرتغالية والإسبانية في أمريكا الجنوبية قد استطاعت التحرر من قبضة الوطن الأم الذي اعتراه الضعف (إسبانيا أو البرتغال)، وبدأت هذا المستعمرات مرحلة نشيطة وحيوية. ومن النتائج أيضاً أن كل أسبانيا جنوب التاجوس Tagus قد تخلّصت من الجنود الفرنسيين. ومن الناحية العسكرية أثبت ولنجتون أن فرنسا يمكن ألاّ تستولي على البرتغال، أو بتعبير آخر أن منع فرنسا من الاستيلاء على البرتغال أمرٌ ممكن، بل وربما لا تستطيع فرنسا الاحتفاظ بأسبانيا، إلاّ إذا خاطرت بكل فتوحاتها إلى الشرق من الراين Rhine. ومن الناحية الاجتماعية حققت المقاومة الشعبية - رغم عدم انضباطها - انتصاراً لصالح الفلاحين والكنيسة. ومن الناحية السياسية استعادت المجالس السياسية المحلية (في الدوائر أو الولايات) بعضاً من سلطانها القديم فأقامت كل منها جيشاً خاصاً بها وسكّت عُملة خاصة بها، وأصبح لكل منها سياسة خاصة بها، بل إنها في بعض الأحيان كانت تُوقع سلاماً منفصلاً مع بريطانيا (أي دون الرجوع إلى الحكومة المركزية). والأكثر دلالة من ذلك كله هو أن هذه المجالس السياسية المحلية أرسلت ممثلين عنها إلى البرلمان المركزي مزوَّدين بتعليمات لصياغة دستور جديد لأسبانيا جديدة.

وبعد أن تحرر هذا البرلمان من الجيوش الفرنسية اجتمع للمرة الأولى في جزيرة دي ليون Isla de Leon في سنة 0181 وبعد الانسحاب الفرنسي انتقل إلى قادش Cadez، وهناك في 91 مارس تم إعلان الدستور الليبرالي. ولأن معظم المبعوثين (المفوَّضين) كانوا متمسكين بالكاثوليكية، فقد نصت المادة 21 من هذا الدستور على أن دين الأمة الإسبانية هو الكاثوليكية وسيظل دائما كذلك، فالكاثوليكية الرومانية (التابعة لكنيسة روما) الرسولية (كنيسة الرعاة الأوائل للمسيحية) هي الدين الوحيد الحق. إنها الدين الذي تحميه الأمة بالحكمة والتشريعات الصحيحة، ويتم حظر ممارسة شعائر أي دين آخر مهما كان. وعلى أية حال فقد حظر الدستور (الجديد) محاكم التفتيش، وحدّدت عدد الجماعات (الفِرَق) الدينية. وقبل البرلمان بمجلسيه في كل الأمور الأخرى تقريباً قيادة (زعامة) المفوضين (الممثلين) من الطبقة الوسطى والبالغ عددهم 481. وكان معظمهم يطلقون على أنفسهم (ليبراليين) - وكان استخدامهم لهذا المصطلح بمفهومه السياسي هو أول استخدام معروف له. وفي ظل قيادتهم أصبح دستور سنة 2181 يضارع دستور 1971 الذي أصدرته فرنسا الثورة.

لقد قبلوا بالملكية الإسبانية واعترفوا بفرديناند السابع (الغائب) ملكاً شرعياً، إلاّ أن الدستور على أية حال لم يضع السلطة في يد الملك وإنما في يد الأمة عن طريق ممثليها المنتخبين (بفتح الخاء)، وكان على الملك أن يكون حاكما دستوريا يُطيع القوانين، ولا يجوز إبرام المعاهدات إلاّ بموافقة البرلمان، ولابد من إجراء انتخابات كل عامين لتكوين برلمان جديد، والانتخاب حق لكل ذكر بالغ، وتتم الانتخابات على ثلاث مراحل: على المستوى الأبرشي Parochial، ومستوى المقاطعة، ومستوى الولاية. ولا بد من توحيد القوانين في إسبانيا كلها، وكل المواطنين سواء أمام القانون، والقضاء مستقل عن السلطة التشريعية وعن الملك. ودعا الدستور إلى إلغاء التعذيب والرق والمحاكم الإقطاعية، كما دعا إلى حرية الصحافة إلاّ في أمور الدين. كما دعا إلى ضرورة توزيع الأراضي العامة (أراضي الدولة) غير المزروعة على الفقراء.

لقد كان هذا الدستور شجاعاً وتقدمياً في ظل هذه الظروف وفي ظل التراث الديني الإسباني. لقد بدا الآن أن أسبانيا تدخل القرن التاسع عشر.