قصة الحضارة - ول ديورانت - م 11 ك 4 ف 19

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 14643

قصة الحضارة -> عصر نابليون -> بريطانيا -> الفلسفة الإنجليزية -> توم بين عن المسيحية

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفلسفة الإنجليزية

توم بين: عن المسيحية

لقد كان توم بين - الذي عرف بهذا الاسم توم في قارتين - رجلا إنجليزيا ولد في أسرة من الكوكر Quaker في ثتفورد في نورفولك Norfolk في سنة 7371، وهاجر إلى أمريكا في سنة 4771 بناء على نصيحة بنيامين فرانكلين، وقام بدور ناشط في الثورة الأمريكية• وأثنى الجنرال واشنجطن على كتيب بين Paine الموسوم باسم الحصافة أو الفطرة السليمة Common Sense (يناير 6771) لأنه أحدث تغييراً قويا في عقول أناس كثيرين(1) وفي أثناء حروب الثورة الأمريكية أصدر سلسلة من نشرات الدعاية باعتباره معاونا للجنرال ناثانيال جرين Nathanael Greene بعنوان الأزمة لرفع الروح المعنوية لجيش الثوار وللمواطنين• وقد بدأت إحدى هذه النشرات بالعبارة الشهيرة في هذه الأوقات تعرف معادن الرجال أوبتعبير آخر تلك هي الأوقات التي تختبر فيها أرواح الرجال• وفي الفترة من 7871 إلى 2081 كان يعيش معظم الوقت في أوربا عاملاً لصالح الثورة الفرنسية في كل من فرنسا وإنجلترا• ووجدناه يخاطر برأسه عند تصويته لصالح تخفيف عقوبة الإعدام الصادرة ضد لويس السادس عشر إلى النفي• وفي ديسمبر من هذا العام (3971) - بتحريض ظاهر من روبيسبير(2) - أصدرت الجمعية الوطنية مرسوما بطرد كل الأجانب من عضويتها ولم يبق فيها إلا اثنان: أناكارزيس كلوتس Anacharsis Cloots وتوماس بين Paine• وعندما توقع بين Paine أن يقبض عليه سارع بكتابة ما يعرف الآن بالجزء الأول من عصر العقل The Age of Reason، وأرسل مخطوطة الكتاب إلى أمريكا مشفوعة بالإهداء التالي:

إلى رفاقي أهل بلدي في الولايات المتحدة الأمريكية: إنني أضع العمل التالي تحت حمايتكم• إنه يضم آرائي في الدين• إنكم ستسدون إليّ عدلاً إن تذكرتم أنني كنت دائما أؤيد بشدة حق كل إنسان في إبداء رأيه مهما كان مختلفا مع ما قد يكون رأيي• إن من ينكر على الآخرين حقهم في إبداء رأيهم إنما هو عبد لرأيه الحالي لأنه يسلب نفسه حق تغيير هذا الرأي• إن العقل هو أمضى سلاح ضد كل أنواع الخطأ ولم يحدث أبداً أن استخدمت سواه وإنني واثق أنني لن أثق - مستقبلاً - في سواه • صديقكم المخلص ومواطنكم

توماس بين

باريس، 72 يناير 4971•

ويقدم لنا بين Paine في مستهل كتابه هذا سببا غير متوقع لتأليف كتابه فيقول: إنه لا يهدف إلى تدمير الدين وإنما يهدف إلى منع الفساد الناتج عن أشكاله(أشكال الدين) غير العقلية(اللاعقلانية) من أن يقوض النظام الاجتماعي ويدمره خوفا من الخراب العام الذي تسببه الخرافة، والذي تسببه النظم الحكومية الزائفة واللاهوت الزائف، فهذه النظم الزائفة تفقدنا الأخلاق والإنسانية واللاهوت الحق ويضيف قائلاً ومؤكداً مجدداً: إنني أومن بالله الواحد الأحد لا رب سواه One and no more، وإنني آمل في تحقيق السعادة بعد هذه الحياة أي بعد الموت(3)•

ثم يستل موسى أكام Occam يقول: إنني لا أومن بعقائد اليهود ولا عقائد كنيسة روما ولا كنيسة الأورثوذكسية الشرقية (الكنيسة اليونانية) ولا عقائد المسلمين (النص: الكنيسة التركية Turkish Church) ولا الكنيسة البروتستنطية ولا أي كنيسة (مؤسسة دينية) أعرفها• فعقلي هو كنيستي• فكل الكنائس كمؤسسات وطنية••• لاتبدو لي أكثر من كونها بدع بشرية أقيمت لإرهاب البشر واسترقاقهم ولاحتكار السلطة وتحقيق المكاسب(4)•

وكان معجبا بالمسيح كرجل فاضل ودود وكان مقتنعا أن الأخلاق والقيم اللتين بشر بهما وطبقهما كانتا خيرتين إلى أقصى حد لكن حكاية كونه ابن الله ليست سوى خرافة مشتقة من خرافة شائعة بين الوثنيين•

إذ يكاد كل الرجال المميزين الذين عاشوا في ظل الميثولوجيا الوثنية قد كرروا الزعم بأنهم أبناء الآلهة ••• لقد كان اتصال الأرباب (الآلهة) اتصالا جنسيا بالنساء رأيا شائعا بين الناس• فالرب جوبيتر Jubiter في زعمهم قد تعايش مع كثيرات عيشة الأزواج• وعلى هذا فحكاية أن المسيح ابن الله ليست جديدة ولا غريبة ولا مدهشة ولا فاحشة وإنما هي مجرد فكرة كانت موجودة بالفعل ومريحة ومتمشية مع آراء وعقول غير اليهود Gentiles، ولأنها كانت منتشرة بينهم فهم وحدهم الذين آمنوا بها• أما اليهود الذين احتفطوا بالإيمان بإله واحد ولا سواه (لا شريك له) فكانوا يرفضون دائما الميثولوجيا الوثنية ولم يوافقوا أبدا على هذه الحكاية (على أن المسيح هو ابن الله)(5)•

وعلى هذا فالميثوجيا المسيحية ليست سوى الميثولوجيا الوثنية في شكل جديد• إنها لا تعدو كونها تكراراً للميثولوجيا الوثنية:

ففكرة التثليث أو وجود أرباب (أقانيم) ثلاثة التي ظهرت بعد ذلك ليست سوى تخفيض أو تنقيص للتعددية السابقة التي كانت تقول بوجود نحو عشرين ألف أوثلاثين ألف رب• وقد حل تمثال مريم (العذراء) محل تمثال ديانا الإفسوسية Diane of Ephesus، وحل تطويب القديسين(المصطلح المسيحي تطويب يعني ضم شخص ما إلى قائمة القديسين) محل تأليه (أو تعظيم) الأبطال• فالمؤمنون بالأساطير (الميثولوجيون) لديهم آلهة (أرباب) لكل شيء، والمسيحيون المؤمنون بالأساطير عندهم قديسون لكل شيء، وأصبحت الكنيسة مزدحمة بهم كما كان البانثيون Pantheon مزدحما بالآلهة• فالنظرية (العقيدة) المسيحية لا تختلف إلا قليلا عن وثنية الميثولوجيين القدماء بعد تحويرها (أي العقيدة المسيحية) لتخدم أغراض السلطة والدخل (الاقتصاد) وبقي على العقل والفلسفة أن يبطلا هذا الدجل المبهم(6)• ثم راح بين Paine يلقي أضواءه البحثية مستخدما العقل في سفر التكوين (السفر الأول في التوراة) ولم يطق صبرا على حكاياته الرمزية وأمثاله فهوى بمعوله على حواء والتفاحة• وكان مثل ميلتون Milton مفتونا بالشيطان أول الثائرين لقد كـان الشيطان (إبليــس) ملكاً أُدْخِــل جهنــم لمحاولتــه الإطاحــة بالعرش، وفي جهنم ظل يعاني طول الوقت بلا نهاية• ومع هذا فلا بد أن يهرب من هذه النار التي لاتخمد (جهنم) في وقت أو آخر لأنه كان قد وجد طريقه إلى جنة عدن، ولأنه استطاع غواية (الناس) بأكثر الطرق التواء• لقد استطاع أن يقدم المعرفة لحواء ونصف عالم المسيح• ويعجب بين Paine من أن الميثولوجيا المسيحية قد أضفت على الشيطان (إبليس) شرفاً كبيرا• إنها تفترض أنه أجبر الله (عز وجل) على إرسال ابنه (المقصود المسيح) لبلاد اليهودية Judea ليُصلَب، وذلك ليعيد له (المقصود لله سبحانه) على الأقل جزءا من أهل الأرض كانوا على علاقة حب - بشكل واضح - مع الشيطان• ورغم صلب المسيح فلازال الشيطان يحتفظ لنفسه بكل الممالك غير المسيحية بل وله ملايين من الأتباع في الممالك المسيحية نفسها• كل هذا - كما يقول مفكرنا المتشكك توماس - تُقدمه لنا بوقار شديد - على لسان الله جل جلاله - سلسلة من الأقوال منسوبة إلى موسى وحتى القديس بول (بولس)• ورفض بين Paine كل هذه الأقوال (الحكايات) باعتبارها حكايات تصلح لأطفال الحضانة وللكبار الذين أنهكهم البحث عن الخبز والزبد وأعياهم المرض وأرهبهم الموت فباع لهم اللاهوتيون أوهام الوعود الموعودة• وقدم بين Paine لذوي الأرواح الأقوى الله بصورة لا تشبه الإنسان وإنما باعتباره حياة الكون (الروح الحي في الكون)•

لا يمكننا أن نوحد كل أفكارنا عن الله الإ من خلال الخلق •• إن الخلق (الكون) يتحدث لغة عالمية (كونية) ••• إنه كلمة الله (الكون) التي توحي للبشر كل ما هو ضروري لمعرفة الله• أتريد أن تتأمل قوته؟ إنها تتجلى في عظمة خلقه• أتريد أن تتأمل حكمته؟ إنها تتجلى في سنن الكون التي لا يعتريها تبديل والتي تحكم الكل الذي لايحيط به أحد• أتريد أن تتأمل كرمه؟ إنها تتجلى في تلك الوفرة التي تملأ الأرض• أتريد أن تتأمل رحمته؟ إنها تتجلى في كونه لايمسك فضله حتى عن العصاة• باختصار أتريد أن تعرف الله؟ ابحث عنه في الخلق لا في الكتاب المقدس المسيحي Scripture(7)•

وقد سُجن في الفترة من 82 ديسمبر 3971 حتى سقوط روبيسبير في 72 يوليو سنة 4971• وفي 4 نوفمبر دعتني الجمعية الوطنية Convention علناً وبالإجماع للعودة إليها (الجمعية الوطنية)••• وقبلت(8)• وفي أثناء الاضطراب العظيم لرد الثيرموديريين Thermidorean reaction ألف الجزء الثاني من كتابه (عصر العقل The Age of Reason) وكرسه لتوجيه نقد حاد للكتاب المقدس Bible وأضاف قليلا لنقد أفكار وردت في دراسات أكاديمية كان معظمها من تأليف رجال الدين• لقد ضاعت سدى - في إنجلترا وأمريكا - اعتراضاته على الإيمان بالرب (المقصود هنا يسوع المسيح) بسبب اعتراضه وعدم تعاطفه مع الكتاب المقدس الذي كان عزيزا على الشعوب والحكومات، فوجد نفسه بلا تكريم في وطنه الأصلي ووطنه الجديد ، وعندماعاد في سنة 1802إلى نيويورك (التي سبق لها أن قدرت خدماته لجمهور الأمريكيين بمنحه 003 أكر (فدان) في نيوروشل New Rochelle) ووجه باستقبال بارد• وأدمن الشرب في السنوات السبع الأخيرة من عمره ومات في نيويورك سنة 9081 وبعد موته بعشرة أعوام عمل وليم كوبت William Cobbett على نقل رفاته إلى إنجلترا، حيث لعبت روحه غير الواهنة - من خلال كتبه - دورا في المعارك الطوال التي تمخض عنها صدور مرسوم الإصلاح Reform Act في سنة 2381•

ورغم أن بين Paine كان من القائلين بوجود إله (دون إيمان بأديان منزلة) ولم يكن ملحدا إلا أن كثيرين من المؤمنين بالمسيحية شعروا أن إيمانه بوجود إله لم يكن إلا غطاء مهذبا لعدم إيمانه برب متجسد (المسيح كرب) وقدم وليم بالي William Paley كاهن أسقفية ويرموث Wearmouth دفاعا مقتدرا عن عقيدته في كتابه نظرة في البراهين على المسيحية (4971) لدرجة أن قراءة هذا الكتاب ظلت حتى سنة 0091 شرطا للقبول في جامعة كيمبردج وكان كتابه لاهوت الطبيعة Natural history (2081) لايزال هو الأكثر شهرة فهو كتاب يبحث في البرهنة على وجود قوة ذكية علوية بتجميع براهين وأدلة من العلوم المختلفة• لقد قال: برهنا إذا رأى إنسان ساعة ولم يكن قد سبق له رؤية ساعة من قبل، ألن يتفحص ماكينتها، ويضع في اعتباره أن كائنا ذكيا صممها؟! ثم أليس في الطبيعة مئات العمليات تشير إلى تنظيم الوسائل لتحقيق الأثر المطلوب؟! فمن ناحية نحن نرى قوة ذكية ترتب نظام الكواكب ••• ومن ناحية أخرى فإنها - أي هذه القوة الذكية تقدم العملية (الميكانيكية) المناسبة لحركة جناحي الطائر الطنان وحركة ريشه••• فكل جسم طبيعي متسق، بما ينطوي عليه من إمكانية حفظ نوعه وكيانه وإمكانية تكاثره يشهد بعناية الخالق وتوجيهه لتحقيق أهدافه(9)•

وبدأ نصف المتعلمين في إنجلترا بمنافشة كتب بالي Paley وساعته ، وتحدث كولردج Coler idge ووردسورث Wordsworth وهازلت Hazlitt عنها في مناقشة حيّة في كزويك Keswick• لقد عاش كتاب اللاهوت الطبيعي Natural Theulogy طويلا، بل إن دارون العظيم نفسه درسه بعناية(01) قبل صياغة نظريته المنافسة عن تكيف الأعضاء وتطورها لتحقيق الغايات المطلوبة وأن البقاء للأصلح من خلال الانتخاب الطبيعي• وبعد بالي Paley بقرن جاء هنري بيرجسون Bergson ليفيد - ببلاغة - صياغة برهان من تصميم الكون في كتابه Levolution Creatrice الصادر في سنة 6091• واستمر الجدل•


جودون: عن العدالة

رغم أن الجميع قد نسوا وليم جودون (6571 - 6381) الآن إلا أنه كان أكثر الفلاسفة الإنجليز تأثيرا في جيله• لقد كتب هازلت Hazlitt في نحو سنة 3281: ليس ثمة عمل في زماننا وجّه لطمة للتفكير الفلسفي في هذه البلاد مثل العمل الشهير أسئلة حول العدالة السياسية Enquiry Concerning Political Justice(11) لقد قال وردسورث لطالب شاب القِ بكتب الكيمياء الخاصة بك واقرأ كتاب جودون عن الضرورة On Necessity(21) وعندما كبر جودون في السن وراح يشك في نفسه رأى أفكاره تنتشر على جناحي أغنية تغنى بها الشاعر شيليChelley زوج ابنته وكان أبواه مسيحيين متمسكين بمذهب كالفن مؤمنين بالقضاء والقدر خيره وشره من الله (الجبرية) وقد أصبح جودون مثلهما قدريا (جبريا) وكان أبوه منشقا عن كنيسة إنجلترا وتلقى هو نفسه تعليماً ليكون واعظاً وعمل كرجل دين في مدن كثيرة، وبينما كان في ستوماركت Stowmarket قدمه شاب جمهوري للمفكرين الفرنسيين الذين سرعان ما قلبوا عقيدته رأساً على عقب• لقد أخذ الإلحاد عن دولباش d, Holbach رغم أنه في سنوات لاحقة جعل لله مكاناً - بشكل مهذب - في مجلده الحاشد• لقد أخذ من هلفيتيوس Helvetius الإيمان بالتعليم والعقل باعتبارهما أساس اليوطوبيا (المدينة الفاضلة) وحذا حذو روسو في قبول مبدأ صلاح البشر لكنه كان يفضل إقامة مجتمع قائم على التعاون الطوعي بين الأفراد والجماعات - يفضله على دولة روسو ذات السلطة المطلقة• لقد تخلى عن منصبه في الكهنوت المسيحي وشرع في دهن خبزه بالأحبار والقلم• وانضم إلى لورد ستانهوب Stanhope وتوماس هولكروفت Holcroft في نادي الثوريين لكنه أسلم نفسه معظم الوقت للدراسة الشاقة والكتابة الصعبة، وفي سنة 3971- وكان قد بلغ السابعة والثلاثين - أصدر أكثر الأعمال(الكتب) راديكالية في زمانه•

وقد جعل لكتابه عنواناً هو سؤال عن العدل السياسي وتأثيره في الفضائل العامة والسعادة Enqiry Concerning Political Justice & its influence on General virtue & Happiness وواضح أنه كتابا عن الحكومة يغطي تقريبا كل قضايا الفلسفة من الإدراك إلى فن الحكم (فن إدارة شؤون الدولة) ويتوقف غير بعيد عن تناول الرب (الله)• لقد احتقر خرافات الجنة والجحيم كأدوات (وسائل) واضحة لتسهيل أمور الحكم وفرض الطاعة(31)• وأدان الإكليروس (رجال الدين) الذين يقسمون على قبولهم الإيمان الرسمي المصاغ في تسع وثلاثين مادة (قانون الإيمان) بينما هم يتخلون عنه فيما بينهم وبين أنفسهم(41)• لقد رفض حرية الأرادة free will والإرادة نفسها إذا جرى فهمها كسلطة أو صلاحية أو مقدرة مميزة أو استثنائية• إنها بالنسبة إليه مجرد مصطلح مجرد للاستجابات الواعية للمواقف والرغبات والحوافز أو المثيرات(51)• وما دامت الأفعال مقررة سلفاً بفعل الوراثة والخبرة الفردية والظروف الحالية فلا بد أن نواجه أخطاء الآخرين بدون غضب أو اتهام مضاد وإنما لا بد من إصلاح نظامنا العقابي ليكون مبنياً على الإصلاح أو إعادة التأهيل أكثر من أن يكون مبنيا على العقاب، وعلى أية حال، فإنه قد يكون من الضروري أن نستخدم المديح واللوم والعقاب كوسائل معينة على الإصلاح مستقبلا(61)•

ما هو الذي سنمتدحه وما هو الذي سندينه؟ سنمتدح ما هو حسن وسندين ما هو قبيح، فما هو الحسن؟ لقد سار جودون على خطى هيلفيتيوس Helvetius (8571) وبنثام Bentham (9871) فعرف الحسن (الخير) بأنه ما يزيد سعادة الفرد والجماعة وعرف السعادة بأنها بهجة الجسد والنفس والعقل والمشاعر، بهجة سوية، وهذه الفلسفة الأخلاقية ليست حسية جسدية (شهوانية) وليست هي فلسفة اللذة لأنها تجعل المباهج العقلية فوق مباهج الحواس• إنها ليست أنانية (ذاتية تتحلق حول الأنا) لأنها تقول بأن الفرد جزء من جماعة لأن صلاح الجماعة شرط لأمان الأفراد الذين يكوّنون هذه الجماعة، ولأن من بين أرقى أنواع المباهج إسهام الأفراد في إسعاد رفاقهم في الجماعة• فغرائزنا الاجتماعية تؤدي إلى قيامنا بأفعال غير أنانية (منطوية على حب الغير) وهذه الأفعال يمكن أن تمنحنا مسرة تفوق أي بهجة حسية أو عقلية وأكثر دواماً منها(71)• فأن تكون شفوقا رحيما يعني أن تكون سعيدا، وأن تنزع منك الرحمة يعني أن تكون بائسا• فالأخلاق - علم السعادة البشرية - هي المبدأ الذي يربط الفرد بجنسه البشري وهي الدوافع التي تعمل على حثنا على تعديل سلوكنا وجعله على نحو أمثل لتحصيل مزايا يجنيها الجميع(81)•

فالعدالة إذن هي تنظيم سلوك الفرد والجماعة لتحقيق أقصى قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس• فالهدف العاجل للحكومة هو أمن الجماعة والفرد وما دام الفرد يرغب في أكبر قدر من الحرية مما ينسجم مع أمنه، فإن أفضل وضع للبشر هو الوضع الذي يحافظ على الأمن العام مع أقل انتهاك ممكن لاستقلال الفرد(91)• وعلى هذا فليست هناك حاجة لمراسيم حكومية أو دينية للزواج، فاتفاق اثنين من البالغين على العيش معا يجب أن يكون كافيا، ويجب فسخ الارتباط(الاتفاق على العيش معا) إذا رغب في ذلك أحد الطرفين(02)• (وقد أعجب الشاعر شيلي Shelley بهذا الاتجاه على نحو خاص)•

ولم يكن جدون يحب الحكومات• فمهما كانت أشكالها ومهما كانت النظريات التي تقوم عليها، فإنها لاتعدو أن تكون سيطرة الأقلية على الأغلبية• لقد كان دوما يتبرأ من دعوى المحافطين أن الجماهير مفطورة على الدونية وأنها دائما تميل للقتل، ولهذا فلا بد من حكمها إما بالكذب عليها أو إرهابها أو إجبارها (بالكذب أو الإرهاب أو القوة)• وكان - مثل أوين Owen - يعتقد أن هذه الصفات الدونية ترجع إلى نقص التعليم أو قلة الفرص أو فساد البيئة(12)• وسخر من المساواة أمام القانون لأنه كان يرى كل يوم الذين يحصلون الأموال الطائلة بطرق ملتوية وغير سليمة يفلتون من العقاب بحيل قانونية أو بسبب محاباة القضاة لهم(22)• ولم يكن اشتراكيا فقد قبل مبدأ توريث الثروة ومبدأ تعيين أوصياء لإدارتها(32)• وعارض السيطرة الحكومية على الإنتاج والتوزيع(42)، لكنه أصر على ضرورة أن تكون الملكية الشخصية في خدمة الصالح العام(52)، وحذر من أن تركيز الثروة ما هو إلا دعوة إلى الثورة(62)• وعلى أية حال، لم يكن ميّالاً إلى الثورة• فحين تتغير طبائع الأجناس البشرية تغيرا جوهريا فـإن الإطاحة بالنظام القائم بالقوة، وأية محاولة ثورية لإعادة توزيع الثروة، ستسـبب فوضـى اجتماعيـة تلحــق ضــررا بالرخــاء العـام أكثــر مـن الضـرر الـذي يلحقـه عـدم المساواة (التفاوت في الثروة) الذي تحاول إزالته(72)• فالثورة في الفكر (تغيير الآراء) هي السبيل الوحيد للوصول لتوزيع أفضل للثروة(82)• وهذا يتطلب تعليماً يستغرق فترة طويلة ويتطلب صبرا•• تعليماً تتلقاه الأجيال من خلال المدارس والإنتاج الأدبي والفكري•

ومع هذا فسيكون من الخطأ أن نقدم تعليما عاما من خلال نظام وطني للمدارس (المقصود نظام حكومي تتبناه الدولة) لأنه سيكون في هذه الحال أداة من أدوات الشوفينية (الغلوّ في الوطنية) مما يؤدي إلى قيام الحروب، وأداة من أدوات البروبا جندا (الدعاية) الحكومية التي تهدف إلى ترسيخ قيم الطاعة العمياء(92)• إذ لا بد من ترك التعليم في أيدي القطاع الخاص الذي يجب دائما أن يقول الحق والذي يجب أن يعوّد الطالب على استخدام العقل• فالعقل ليس مبدأً مستقلاً أو ملكة أو قدرة كلية وليس لديه ميل لحثنا على الفعل• فهو من الناحية العملية مجرد أداة للمقارنة - والموازنة - بين المشاعر المختلفة• فالعقل ••• قد صُمِّم (بضم الصاد) لتنظيم سلوكنا على وفق القيمة المقارنة للمثيرات أو المنبهات أو الدوافع• فالأخلاق ليست إلا حساب النتائج أو العواقب(03) بما في ذلك النتائج أو العواقب التي تعود على المجتمع• وعلى هذا فتحسين العقل يعني تحسين أحوالنا الاجتماعية(13) •

إن الطريق إلى المدينة المثالية (اليوطوبيا) عن طريق التعليم طريق طويل وشاق لكن الإنسان قد حقق بعض التقدم في السيرفي هذا الطريق، وليس هناك حد لمزيد من التقدم فيه• إن الهدف أن تتلقى البشرية تعليما كافيا متبصرا يتيح لها إعمال العقل بحرية (دون قيود)• إن إلغاء الحكومة (الأنارشية) هدف بعيد لكنه سيظل مع هذا هدفا لكثير من الأجيال القادمة وطبيعة الإنسان ستحتم شكلاً أو آخر من أشكال الحكومة• دعونا نواصل آمالنا في أن يتطور الذكاء - عبر أجيالنا القادمة - ليصبح حرية منضبطة•

ولابد أن جدون كان يمتلك نبعاً ثرّاً من الذكاء لأنه في سنة 4971 أصدر - بعد عام واحد من نشرة كتابه الحاشد (أسئلة عن العدالة السياسية •••) أصدر رواية حكم عليها كثيرون بأنها الرواية الرائعة البارزة في ذلك العصر• إنها رواية كالب وليامز Caleb Williams التي أظهرت روح الحكومة وطبيعتها من حيث كونها تقحم نفسها في حياة كل طبقات المجتمع وقد أضاف المؤلف إلى هذه الرواية قصة حياته: لقد تزوج ماري ولستونكرافت Wollstonecraft (7971) وتبنى ابنتها فاني إمالي Fanny Imaly التي أنجبتها نتيجة اتصالها الجنسي بشخص دون زواج (نتيجة علاقة زنا) وعاش مع ماري مدة عام في عِشْرةٍ مثيـرة• يقـول : لقـد قـدرت فيهـا طاقاتهـا العقليـة، ونزوعهـا النبيـل إلى الكـرم، ولـم تكن الرقة وحدها كافية لتحقيق السعادة التي جربناها(23) وقد ماتت - كما رأينا - بعد فترة قصيرة من إنجابها ماري جدون شلي Mary Godwin Shelley وفي سنة 1081 تزوج من مدام ماري جين كليرمونت Mary Jane Clairmont التي كانت ابنتها (من زوجها الأول) واحدة من مديرات منزل بايرون Byron• وقد دعم الزوج والزوجة حياتهما المعقدة بنشر الكتب التي كان من بينها حكايات من شكسبير (7081) الذي ألفه شارلز لامب وماري لامب Charles & Mary Lamb• ونتيجة تخلي وردسورث Wordsworth وكولردج Coleridge عنه وابتعادهما عن صداقته واجه أياما عصيبة، وساعده شيلي Shelley الذي كان هو نفسه معسرا، وفي سنة 3381 - ويالسخرية التاريخ - عينته الحكومة - التي كان يعتبرها شرا لا بد منه - موظفاً في الخزانة براتب متواضع كان يكفي طعامه حتى مات في سنة 6381•


مالتوس: عن السكان

لقد عمل كتاب جودون الآنف ذكره (أسئلة حول العدالة السياسية) على دفع كتاب آخر إلى المطبعة وقد أصبح هذا الكتاب الآخر أكثر شهرة من كتاب جودون نفسه• وساعد على ذلك رد فعل غير عادي من ابن ضد فلسفة أبيه الليبرالية• لقد كان دانيال مالتوس Daniel Malthus (توفي سنة 0081) شخصاً لطيفاً غريب الأطوار وكان صديقاً شخصيا لديفد هيوم (تكتب أيضا دافدslashالصيغة العربيةللاسم هي داود) وجان جاك روسو• وشارك الإسكتلندي شكوكيتة والسويسري تشاؤمه، حول الحضارة• وقد كان هو شخصيا مشرفا على تعليم ابنه فيما قبل دخوله الكلية، وكان واثقا من أن توماس مالتوس (6671 - 4381) سيكون راديكاليا ممثلاً للقانون مثله (أي مثل أبيه دانيال مالتوس) مثل جودون• وواصل مالتوس في كامبردج ودخل في سنة 7971 سلك الكهنوت الإنجليكاني، وعندما ظهر كتاب جودون (3971) راح الأب والابن يتناقشان بشغف فيما ورد به من أفكار، ولم يشارك الابن أباه في حماسه لأفكار الكتاب• لقد شعر الابن بأنّ هذا الولع المثالي (اليوطوبي) بالعقل المنتصر (بانتصار العقل) لامبرر له، لأنه قد جرى تسفيهه مرارا بالحقيقة البسيطة التي مؤداها أنه كلما زاد الطعام وتحقيق الرخاء سرعان ما يؤدي تزايد السكان إلى محق هذا الرخاء، وقد عبر سِفْر الجامعة في التوراة عن هذا ببلاغة• فمادامت خصوبة الأرض محدودة ولا سبيل لوقف الشهوة الجنسية فهذا يؤدي إلى تضاعف عدد الأفواه بسبب الزواج المبكر والإنجاب الكثير وانخفاض نسبة الوفيات بين الأطفال والشيوخ، وهذا بدوره يؤدي إلى استهلاك أية زيادة في الطعام بسرعة• ولم يتفق الأب مع ابنه في هذا النتيجة ولكنه كان معجبا بالطريقة التي دافع بها ابنه عن آرائه فطلب من ابنه أن يكتب وجهات نظره وبالفعل كتبها توماس ونشرها في سنة 8971 في كتاب بعنوان: مقال عن مبادئ السكان وتأثيرها في مستقبل المجتمع An Essay on the principle of population as it affects the future improvement of Society وقد بدأ كتابه باعتذار يسترضي فيه الكاتبين اللذين يتحدى في كتابه نزعتهما التفاؤلية:

لا أستطيع أن أشك في مواهب رجال مثل جودون، وكوندرسيه Concdorcet••• لقد قرأت - وبسرور شديد - بعضاً من آرائهما عن طرائق الوصول بالإنسان والمجتمع إلى حد الكمال، ولقد ابتهجت وتفاعلت بحرارة مع الصورة البهيجة التي رسماها• إنني أرغب بشدة في تحقيق هذه التحسينات• إلا أنني - على وفق ما يهديني إليه تفكيري - أرى صعوبات شديدة لا تقهر أمام ما ذكراه• وهدفي هو تبيان هذه الصعوبات، لكنني أعلن في الوقت نفسه أنني أبعد ما يكون عن السعادة لوجود هذه الصعوبات، وأنني لم أتخذها سببا يسعدني للانتصار على أصدقاء الفكر، فلا شيء يسعدني أكثر من أن أرى هذه الصعوبات وقد تلاشت(33)• وحاول مالتوس أن يصيغ حججه بشكل رياضي• فافترض أن الطعام يزيد كل 52 عاما بمتوالية حسابية (من 1 إلى 2 إلى 3 إلى 4 إلى 5 إلى 6 وهكذا) أما السكان فيزيدون - إذا لم تكن هناك عوائق تمنع الزيادة - بمتوالية هندسية (1، 2، 3، 4، 8، 61، 23•• وهكذا) مفترضا أن كل زوج وزوجة سينجبان 4 أبناء يظلون على قيد الحياة• وعلى وفق هذه النسبة فإنه في غضون قرنين سيصبح (عدد السكان) بالنسبة إلى مواراد الرزق 52 إلى 9، وفي غضون ثلاثة قرون 690،4 الى 31، وفي غضون ألفي سنة سيصبح الفارق مهولا(43) والسبب في أن عدد السكان لايرتفع بمثل هذه السرعة هو أن الناس يواجهون بعوامل سلبية أو إيجابية تحول بينهم وبين التناسل• فالعوامل السلبية مانعة (وقائية): تأجيل الزواج بسبب الفقر أو غيره من الأسباب، الرذيلة (ويعنى بها مالتوس العلاقات الجنسية خارج نطاق الزوجية) والعلاقات غير الطبيعية (كالشذوذ الجنسي ••الخ) واستخدام وسائل منع الحمل أو تمديد النسل داخل نطاق الزوجية أو خارجها• وإذا فشلت هذه العوامل السلبية في حفظ التوازن بين السكان والطعام المتاح فإن الطبيعة nature والتاريخ يقدمان لنا عوامل إيجابية تؤتي مفعولها مع الأفراد الموجودين بالفعل: قتل الأطفال، الأمراض، المجاعات، الحروب، وبذلك تتم الموازنة بين المواليد والوفيات•

وخلص مالتوس من هذا التحليل الكئيب بنتائج غريبة• أولا، لا يوصي بزيادة أجور العمال لأنه إن زادت أجورهـم تزوجـوا مبكـرا وأنجبـوا مزيـداً مـن الأطـفال مما سيؤدي إلى زيــادة السـكان زيـادة تفـوق الزيـادة المتاحـة فـي الطعـام فيعـود الفقـر مـن جديـد• وعلـى النحو نفسه لا داعي لزيادة الضرائب المخصصة للإنفاق على العاطلين فهذا سيؤدي إلى التشجيع على الكسل وسيجعل عدد أفراد الأسرة يزداد فتتضاعف الأفواه بسرعة أكثر من تضاعف الطعام المتاح، وسيؤدي التنافس بين المشترين لأن يرفع البائعون أسعار بضائعهم المتناقصة، وسرعان ما يعود الفقراء الذين كانوا قد نعموا بشيء من الرخاء إلى الفقر من جديد(53)•

وليواصل تدمير (أفكار) جودون، استمر مالتوس متناولاً حلم فلسفة اختفاء الحكومة (الاستغناء عنها) فإذا اختفت الحكومة تعين على كل فرد أن يحرس مخزونه القليل بالقوة كما نحكم اغلاق أبوابنا ونوافذنا إذا ضاع القانون وعمت الفوضى• وستنتصر الأنانية وسيصبح النزاع أبديا(63) وبإزالة كل العوائق أمام الاتصال الجنسي سيزيد عدد السكان زيادة تفوق زيادة الإنتاج مما سيؤدي إلى تقليص نصيب الفرد وستضيع المدينة الفاضلة (اليوطوبيا) في خضم منافسة يائسة وستحل فوضى لا سبيل إلى تجنبها وسينتشر البؤس(73)• فلا يكون هناك حل إلا إعادة الحكومة وحماية الملكية الخاصة وتشجيع الإنتاج والاستثمار وإن حدث تمرد قامت عليه جماعة مخصوصة تحتم قمعه بالقوة وسيعود التاريخ إلى صيغته التقليدية: منتجات الطبيعة nature تقتسمها طبيعة الإنسان، أو طبيعة الإنسان هي التي تقسم نتجات الطبيعة• وفي صياغة جديدة موسعة ومراجعة لكتابه وضّح مالتوس بشكل أكثر حدة وتفصيلا العلاجات الوقائية التي تحول بيننا وبين الكوارث التي يلحقها بنا التاريخ والطبيعة كعلاج لمشكلاتنا (عدم التوارن بين عدد السكان والطعام المتاح)• لقد اقترح وقف الإعانات عن الفقراء وعدم التصدي للمشروعات الخاصة (الحرة) واقترح ترك قانون العرض والطلب ليقوم بدوره في العلاقات بين المنتجين والمستهلكين وبين العاملين وأصحاب العمل• واقترح وضع العوائق أمام الزواج المبكر لخفض نسبة المواليد• إن التزامنا هو إلا نتزوج الإ بعد أن تكون إمكاناتنا في حالة تسمح لنا بدعم (رعاية) أبنائنا(83) وفوق هذا يجب أن يتعلم الناس كيف يكبحون شهواتهم قبل الزواج وبعده ولا بد أن تتسم الفترة الواقعة بين سن البلوغ والزواج، بالعفة والتزام الفضيلة(93) فإذا ما تم الزواج لا بد أن يمنع الحمل بأي طريقة وبأي صورة من الصور• وإذا لم نلتزم بهذه التدابير أو تدابير مماثلة، فلا بد أن نوطن أنفسنا على مجاعات أو أوبئة أو حروب تقوم بدورها في إنقاص عدد السكان• وتلقى المحافظون البريطانيون ما ورد في كتاب مالتوس كوحي مقدس (إلهي)، وشعر البرلمان وأصحاب الأعمال بأن لديهم مايبرر موقفهم في مقاومة مطالب الليبراليين - مثل روبرت أوين Robert Owen - التي تنادي بالتخفيف من وطأة قانون العرض والطلب بإصدار قوانين لتخفيف آلام المحتاجين• وسحب وليم بت Pitt المرسوم الذي كان قد قدمه لتوسيع نطاق قوانين إغاثة الفقراء(04)• وبدت الإجراءات التي كانت الحكومة قد اتخذتها بالفعل ضد الراديكاليين البريطانيين عادلة بفعل مبررات مالتوس واتهاماته لهؤلاء الباعة الجوالين الذين يسوقون المدينة الفاضلة (اليوطوبيا) والذين يضلون البسطاء تضليلا مأسويا• واشتد إيمان أصحاب الصناعة البريطانيين في جدوى خفض الأجور لتحقيق الطاعة والانضباط في العمل• وجعل ريكاردو Ricardo من نظرية مالتوس أساسا لعلمه الكئيب his dismal Science (أطلق كارليل Carlyle هذا الاسم العم الكئيب على الاقتصاد بعد قراءته لكتابات مالتوس)• والآن أصبحت كل الشرور تقريبا تعزى إلى خصوبة الفقراء الطائشة أو بتعبير آخر تعزى إلى كثرة إنجابهم بشكل غير محسوب - لقد أحدث كتاب مالتوس الاضطراب والفزع في صفوف الليبراليين، فاستغرق جودون عشرين عاما لإعداد رده وأخيرا أصدر كتابة عن السكان، رد على مالتوس (0281) وكان في غالبه تكراراً لآماله وشكوى من أن مالتوس حول أصدقاء التقدم إلى رجعيين(14)• وكان وليم هازلت Hazlitt استثناء: ففي مقال عن مالتوس في كتاب روح العصر The spirit of the Age (4281) هاجم هذه القدسية التي لاتعرف الرحمة أوبتعبير آخر هاجم نسبة القسوة إلى الله بكل ما أوتي من طاقة عقلية وحدة في الذهن• لقد ذكر أن خصوبة النبات تفوق كثيرا خصوبة النساء فالحبوب ستتكاثر وتتضاعف أسرع بكثير جدا من زيادة الجنس البشري، فمقدار بوشل bushel(مكيال للحبوب يساوي ثمانية جالونات أو نحو 23 لترا ونصف اللتر) يزرع حقلا، وهذا الحقل سيثمر حبوبا تكفي لزراعة عشرين حقلا آخر• ستكون هناك ثورات خضراء green revolutions(24)•

وفي أوقات لاحقة راح الكتاب يجمعون الحقائق لإبطال مخاوف مالتوس وتسكينها• ففي أوروبا والصين والهند زاد السكان لأكثر من الضعف بعد مالتوس، ومع هذا كان لديهم من موارد الطعام أكثر من ذي قبل• وفي الولايات المتحدة الأمريكية تضاعف السكان عدة مرات منذ سنة 0081 ومع ذلك زاد الإنتاج الزراعي عن الحاجة وتبقى فائض وفير للتصدير• وعلى العكس مما قاله مالتوس أدى ارتفاع الأجور إلى انخفاض نسبة المواليد• فلم تعد المشكلة نقصا في البذور أو الحقول وإنما نقصا في الطاقة غير البشرية (الآلية) لاستخدامها في الزراعة والصناعة، وإمداد القرى والمدن•

وبطبيعة الحال فإن الإجابة الحقيقية بالنسبة إلى مالتوس كانت هي منع الحمل - لقبوله على المستوى الأخلاقي، ولانتشاره وكفايته وقلة تكلفته• لقد حطمت علمانية الفكر الحواجز اللاهوتية التي وضعها رجال الدين في وجه ضبط النسل• لقد حولت الثورة الصناعية الأطفال من موجودات اقتصادية ذات نفع كما كان الحال عند عملهم في المزارع إلى موجودات معوقه اقتصاديا في المدن إذ راح تشغيل الأطفال ينقص تدريجيا، وارتفعت تكاليف التعليم وزاد ازدحام المناطق الحضريّة• وانتشر الوعي (الذكاء) فقد تحقق الرجال والنساء أن الأحوال التي تغيرت لم تعد تتطلب أسرة كبيرة العدد• وحتى الحروب لم تعد تتطلب حشوداً من الشباب ينتشرون في مواجهة حشود أخرى ليلقوا مصرعهم بقدرما أصبحت في حاجة إلى الابتكار التقني لتحقيق التدمير المادي•وعلى هذا فالرد على مالتوس لم يكن متمثلاً في نظريات جودون وإنما من المالتوسيين الجدد Neo Malthusians ودعوتهم إلى ضبط النسل• وفي سنة 2281 نشر فرانسس بلاس Place كتابيه توضيحات وبراهين حول قضية السكان• لقد وافق على المبدأ الذي وضعه مالتوس والذي مؤداه أن السكان يزيدون بمعدل أسرع من زيادة مقادير الطعام• ووافق على ضرورة وضع قيود على الزواج لكن ليس بتأجيله وإنما الأفضل قبول منع الحمل كبديل شرعي ومقبول - نسبيا - من الناحية الأخلاقية لمواجهة الخصوبة الطبيعية العمياء (غير الموجهة) والتدمير الجماعي الذي تسببه الحروب•

(وكان هونفسه قد أنجب خمسة عشر طفلا مات منهم خمسة في مرحلة الطفولة) وقد وزع في لندن نشرات طبعها على نفقته الخاصة يدعو فيها لضبط النسل وواصل معركته (دعوته) هذه حتى موته وهو في الثالثة والثمانين من عمره (مات سنة 4581)• ولقد عاش مالتوس عمرا طويلا يسمح له بالشعور بمدى قوة حجج بلاس Place• وفي سنة 4281 ساهم في دائرة المعارف البريطانية بمقال راجع فيه نظريته وتراجع عن نِسَبه الرياضية المرعبة، وركز - بشكل جديد - على زيادة عدد السكان كعامل في النضال من أجل الوجود• وبعد ذلك بسنوات طوال كتب شارلز دارون في سيرته الذاتية:

في أكتوبر سنة 8381 بعد أن بدأت بحثي النظامي بخمسة عشر شهرا، حدث أن قرأت - ترفيها عن نفسي - كتاب مالتوس عن السكان وكنت مهيأ لتقدير قيمة الصراع من أجل البقاء ••• من خلال ملاحظاتي المستمرة الطويلة لعادات الحيوانات والنباتات• لقد أذهلني ذات مرة أنه في ظل هذه الظروف فإن التغييرات الملائمة (المناسبة) ستسبب حفظ النوع، والتغييرات غير الملائمة ستؤدي إلى التدمير• ونتيجة هذه العملية هو ظهور أجناس جديدة• وهنا أمسكت بنواصي نظرية البقاء للأصلح وعلى هذا وبعد نحو جيل استمر فيه المزيد من البحوث والتأمل والتفكير نشر دارون في سنة 9581 كتابه أصل الأنواع The Origin of species وهو الكتاب الأكثر تأثيرا في القرن التاسع عشر• إن سلسلة من الأفكار تزين السلسلة الكبرى للوجود وتشكل تاريخ الحضارة•


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بنثام: عن القانون

استخلاص أفكار جرمي بنثام أصعب من استخلاص أفكار جودون ومالتوس، لأن جودون قدم مثاليات مغرية، ومالتوس قدم بعض الرعب الفاتن أما بنثام (8471 - 2381) فكتب في الاقتصاد والربا والمنفعة والقانون والعدالة والسجون - بالإضافة إلى أنه كان ماردا انعزاليا ظل يتعلم بلا نهاية، دائم التفكير في الأمور التي يصعب تحديدها، وكان لاينشر إلا قليلا وفكر في إصلاح كل شيء، وتذمر من اقتران العملاقين (الغولين): المنطق والقانون، واستمر تأثيره يزداد في أثناء حياته (بلغ من العمر 48 عاما) وساد طوال قرن•

لقد كان ابنا لمحام ثري كاد يسحقه من كثرة التعليم• وقيل إنه قرأ في الثالثة من عمره كتاب تاريخ إنجلترا ذي الثمانية مجلدات الذي ألفه بول دي رابين Paul de Rapin وكان قد بدأ تعلم اللغة اللاتينية وهو في هذه السن (كانت هذه التربية القاسية الخانقة قد انتقلت إلى جيمس ميل Mill تلميذ بنثام وطبقها على ابنه جون)• وفي مدرسة وستمنستر Westminster تفوق جيرمي في كتابة الشعر باليونانية واللاتينية•

وفي أكسفورد تخصص في المنطق وحصل على درجته العلمية وهو في الخامسة عشرة من عمره• وواصل دراسة القانون في لينكولن Lincoln لكن اضطراب كتب القانون أثار سخطه وانتهى إلى إدخال المنطق والنظام للتشريعات البريطانية وعلم القانون في بريطانيا مهما كلفه ذلك • وفي ديسمبر سنة 3671 وكان في الخامسة عشرة من عمره سمع مديح وليم بلاكستون William Blackstone للقانون البريطاني فاعترته الدهشة والسخط لهذا النفاق الصَّدّاح الذي سيؤخر الإصلاح التشريعي ولا شيء غير ذلك ويكاد يكون قد قضى عمره منذ ذلك الوقت حتى وفاته في إدخال المنطق والاتساق والروح الإنسانية للقانون الإنجليزي• لقد سأل نفسه: ألدي عبقرية في أي شيء؟ ماذا أستطيع أن أنجز؟ ما هو الأكثر أهمية في هذه الحياة؟ التشريع• ألدي عبقرية في التشريع (سن القوانين)؟ لقد أحببت نفسي خائفا مرتجفا: نعم(34) إن هذه الثقة وهذا الاعتزاز المصحوب بالخوف يمكن أن يكون ينبوعا للإنجاز•

لقد جلب إلى عمله الروح العملية (الواقعية) وسيف النظام والمنطق (العقل)• لقد امتعض من التجريدات شديدة الوطأة، امتعض من المجردات كالواجب والشرف والسلطة والحق• لقد أراد أن يحولها إلى حقائق مشخصة (محددة) وأن يفحص كل جزء ليعرضه على الحقيقة من خلال وجهة نظر ثاقبة مثابرة• فما هو الحق - على سبيل المثال؟ أهو طبيعي natural - شيء مرتبط بنا منذ الميلاد كما افترض إعلان حقوق الإنسان الذي أصدرته الثورة الفرنسية؟ أم أنه مجرد حرية فردية تابعة للصالح العام أو في إطار الصالح العام؟ ما هي المساواة؟ أثمة شيء اسمه المساواة خارج نطاق المفاهيم الرياضية المجردة؟ هل التفاوت (عدم المساواة) قدر لا فكاك منه لكل كائن حي سواء عدم المساواة في القدرات أو الممتلكات أو السلطان؟ • ما هو القانون الطبيعي؟ وما هي الحصافة أو الفطرة السليمة Common sense؟ كل هذه المجردات - في رأي بنثام هراء(44) تضلل به الجامعات والبرلمانات والمحاكم•

وقد يمكننا أن نتخيل ما أحدثه هذا الواقعي realist في اللاهوت السائد في عصره وفي بلاده• إنه لم يجد جدوى في الألوهية التقليدية عند محاولته النظر بتجرد إلى عالم العلم أو التاريخ أو الاقتصاد أو الحكم(54)• لقد حاول أن يمسك لسانه الحاد الذَّرِب عن هذه الأمور لأنه شعر أن الكنيسة الإنجليكانية تعد كنيسة عقلية (تحترم العقل) بالنسبة إلى غيرها من الكنائس، وقد تكون خيِّرة، لكن الإكليروس (رجال الدين) شعروا بخصومته الصامتة وشجبوا مذهبه النفعي his utiltarianism تمابا باعتباره فلسفة إلحادية godless philosophy(64) لقد بدأ بمحاولة عزل بلاكستون Blackstone كاقتصادي يقوم بدور في نسج الدستور البريطاني، لقد بدا له هذا الوجود الباطني (الغامض) كخليط وناتج عتيق (عفا عليه الزمن) لمصادفات وأمور عارضة يتسم بالتناقض والتنقيحات المتعجلة غير قائم على منطق ولا أساس، وعلى هذا أصدر بنثام واحدة من الشرارات من سندانه، إنه كتابه Afragment on government (6771) - كأول سهم تطلقه الراديكالية الفلسفية philosophical radicalism التي كان عليها أن تناضل طوال نصف قرن قبل أن تحرز نصف انتصار في سنة 2381•

وفي الوقت الذي قام فيه هذا المتحدي البالغ من العمر ثمانية وعشرين عاما بامتداح بلاكستون Blackstom لأنه علّم عِلْم القانون أن ينطق لغة الباحثين والسادة الأماجد gentlemen إلا أنه لامه لانه قلص الدستور فجعله لاينص إلا على سلطة الملك المطلقة• وعلى العكس من ذلك فالدستور السليم (الذي يميز الخطأ من الصواب) هو الذي يوزع سلطات الحكومة بين أجزائها (مكوناتها) المختلفة، وسيسهل تعاونها وفرضها للقيود المتبادلة - فالمبدأ الهادي للمشرعين يجب ألا يكون هو الرغبة في الهيمنة وإنما تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس فهؤلاء الناس هم هدف التشريع والتشريع لم يوضع إلا لهم، والاختبار الصحيح لأي قانون مقترح هو مدى نفعه لتحقيق هذه الغاية (إسعاد أكبر عدد من الناس)(74) هنا نجد أن مبدأ النفعية الشهير كان هو جوهر تعاليم بنثام التشريعية والأخلاقية• لقد كان هناك ارتباط ملحوظ بينه وبين إعلان الاستقلال الذي أصدره توماس جيفرسون في هذا العام نفسه• باختصار لقد تعانق التاريخ والفلسفة وعمل التراث المسيحي - بغير قصد من بنثام - على توثيق عرى هذه الوحدة (المقصود هذا التلازم) ومباركتها• لقد كتب بنثام كتابه الصغير الذي عرض فيه أفكاره هذه بأسلوب أكثر وضوحا وبروح أكثر جاذبية من مباحثه اللاحقة• والآن راح يقضي بعض الوقت في السفر والترحال• ومن روسيا أرسل في سنة 7871 إلى إنجلترا مبحثه دفاع عن الربا Defence of usuary - أي الفائدة• لقد عارض الإدانة اللاهوتية للفائدة interest، ففي مجال الاقتصاد ومجال السياسة يجب أن يترك الفرد حرا في تنفيذ ما يراه على وفق لأحكامه على أن يكون هذا في صالح المجتمع• لقد كان بنثام ليبراليا ولكن الكلمة (ليبرالي) في المفهوم السائد في القرن الثامن عشر كانت تعني المدافع عن الحرية• لقد اتفق مع الفزيوقراط Physiocrates ومع جيفرسون على أن يكون تدخل الدولة في حرية الفرد في حده الأدنى• لقد كان راديكاليا - يحب الوصول إلى جذور الأمور، ولكنه لم يكن مؤيدا لتأميم الصناعة• وفي سنة 7871 لم تكن الصناعة منتشرة انتشارا كبيرا ليطالب بتأميمها•

وعند عودته من روسيا أعد لنشر كتابه المهم: مبادئ الأخلاق والتشريع The Principles of Morals & Legislation (9871، ارتبط طبعه بالتواريخ الثورية)• لقد كان كتابا صعبا مدعما بصرامة بمئات التعريفات لدرجة تترك القارئ غير المختص مشوشاً لكن بنثام كان يأخذ على عاتقه عملاً عقليا مجهدا: لقد كان يهدف إلى إحلال الأخلاق الطبيعية محل اللاهوت، وإقامة السلوك والقانون على أسس قوامها صالح المجموع أو الوطن أكثر من إقامتها على أسس قوامها إرادة السلطة التنفيذية أو مصالح طبقة من الطبقات، وتحرير القانون والسلوك من فروض الدين من ناحية ومن الأحلام الثورية من ناحية أخرى•

إن هذه الأسس الجديدة - لكل من الأخلاق والقانون - قامت على مبدأ النفعية - فائدة الفعل act للفرد، وفائدة العادة للجماعة، وفائدة القانون للشعب وفائدة الاتفاقات الدولية للجنس البشري• وذهب بنثام إلى أن كل النظم تسعى لتحقيق المسرة وإبعاد الألم• وعرّف السروربأنه أي ترضية وعرّف الألم بأنه أي إزعاج سواء للبدن أو النفس• والنفعية هي ميزة تحقيق السعادة أواجتناب الألم، والسعادة هي استمرار السرور• والنفعية لا تحتاج لقصرها على الفرد فقد تكون - جزئيا أو أساساَ - للأسرة أو المجتمع أو الدولة أو الجنس البشري• وقد يجد الفرد (من خلال غرائزه الاجتماعية) السعادة أوتجنب الألم في ربط ما يرضيه بما يرضي الجماعة التي ينتمي إليها(84) وعلى هذا فعلاوة على تحقيق الهدف العاجل، فإن الهدف النهائي والمحك الأخلاقي لكل الأعمال والقوانين هو مدى إسهامها في تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد• قد يكون لدى صديق هو أعز الأصدقاء لكنني إن عرفت أن مصالحه تتعارض مع مصالح المجموع، فإنني لن أضع مصالحه في اعتباري• إنني سأخدم أصدقائي وأتوقع أن يخدموني(94) ولم يدع بنثام أنه أصل هذه الصيغة النفعية• لقد أعلن بصراحته المعتادة - أنه وجد أساسها في كتاب جوزيف بريستلى Joseph Prestly مقال عن المبادئ الأساسية للحكم Essay on the first principles of Government (8671) وكان يمكن أن يجده في كتاب فرانسيس هتشسون Hutcheson عن الخير والشر في الأخلاق Enquring Concerning Moral Good & Evil (5271) حيث عرف المواطن الصالح بأنه الذي يقدم أقصى قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس(05) أو في كتاب بيكاريا Beccaria الموسوم باسم: Trattato dei delitti e dille pene (4671) الذي وصف لنا محك الأخلاق وهدفها La massima felicita divisa nel maggior numero أو كما أورد هيلفيتيوس Helvetius - بشكل أوضح - في كتابه عن الروح DeLEsprit... 8571 النفعية هي أساس كل الفضائل البشرية وأساس كل التشريعات ••• فكل القوانين يجب أن تتبع مبدأ واحدا - منفعة العامة - أي أكبر عدد من الناس يعيشون في ظل الحكومة نفسها(15) إن بنثام لم يفعل أكثر من تقديم صيغة كمية لوصية الكتاب المقدس أحب لجارك ما تحب لنفسك(25) لقد كان إنجازه هو تطبيق مبدأ السعادة القصوى على قوانين إنجلترا• لقد أصبح لديه الآن حقيقة أخلاقية فكرتها واضحة وأصبح لديه معيار يمكن به الحكم على وصايا المبشرين وتحذيرات المعلمين ومبادئ الأحزاب وقوانين المشرعين ومراسيم الملوك• فلا يجب أن يقدم القانون كليات غامضة (باطنية) كالحقوق طبيعية أو جماهيرية أو مقدسة (إلهية) ولا يجب عليه أن يقدم وحيا أوحاه الله إلى موسى أو محمد أو عيسى، ولاعقوبات بقصد الثأر• فكل اقتراح تشريعي يجب أن يجيب عن هذا السؤال: ما هو الأفضل أوما هو الأصلح؟ ما هو الأصلح للفرد أو للأقلية أو للكثرة أو للجميع؟ فالقانون يجب أن يكيف نفسه مع الطبيعة البشرية التي لا سبيل لتغييرها ومع القدرات المحدودة للبشر ومع الحاجات العلمية للمجتمع، ولابد أن يكون واضحا ويسمح بالتنفيذ أو التطبيق العملي والمحاكمة العاجلة والحكم الحازم والعقوبات الصحيحة والإنسانية• ولهذه الغايات كرس بنثام الفصول العشرة الأخيرة من كتابه والسنوات الأخيرة من حياته• وفي هذه الأثناء راح يطبق معياره هذا على القضايا المثارة في أيامه• لقد أيد آراء الفزيوقراط في مبدأ عدم التدخل الحكومي في الشؤون الصناعية وإدارة الشؤون العامة Politics إلا في الحدود الدنيا ، فالفرد هو - بشكل عام - أفضل من يجيد الحكم فيما يحقق سعادته ولا بد من تركه حرا في نطاق ما هو مقبول اجتماعيا، وعلى أية حال لا بد أن يشجع المجتمع المؤسسات الخيرية التي يتنازل أعضاؤها عن جانب من حريتهم لتوحيد الجهود لخدمة قضية عامة• وانطلاقا من المبادئ نفسها دافع بنثام عن حكومة التمثيل الغيابي فهي الأفضل مع كل أخطائها ومفاسدها•

وقد لاقى كتاب مبادئ الأخلاق والتشريع ترحيبا وثناء على نطاق واسع أكثر مما كان متوقعا فقد كان الكتاب صعبا في صياغته ذا روح انتقادية وذا منحى علماني• وكان الترحيب به خارج البلاد أشد حرارة من الترحيب به داخلها• لقد ترجم في فرنسا التي جعلت مؤلفه مواطنا فرنسيا (منحته حق المواطنة الفرنسية) في سنة 2971• وراسله القادة السياسيون والمفكرون وأتته الرسائل من العواصم المختلفة ومن جامعات أوروبا• وفي إنجلترا أدان المحافظون Tories مبدأ النفعية باعتباره مبدأ غير وطني وغير مسيحي وأنه مبدأ مادي• ودافع بعض الكتاب ذاكرين أن أفعالا كثيرة - مثل الحب الرومانسي والأبوي والتضحية بالنفس وتبادل المساعدة - لاتنطوي على حسابات واعية بإرضاء الذات (أو إشباع رغبات الذات)، واعترى الفنانون الإحباط للحكم على أعمالهم الفنية بمقياس المنفعة• لكن الجميع فيما عدا الموظفين الحكوميين وافقوا على أن النفع الذاتي هو خلق كل الحكومات وسياساتها إذا نحينا جانبا الادعاء والخداع•

لقد عاش بنثام لفلسفته وجعل أعوامه مفيدة بشكل متواصل• لقد ناضل في كتابه عن العقلانية في الدليل القضائي Rationale of Judical Evidence (5281) وفي مواضع أخرى ليوضح القوانين القديمة والحالات المعاصرة ونجح في تحديث (التخفيف من وطأة) المبالغات البربرية في أساليب إدارة السجون ومعاملة المجرمين• وبدأ في سنة 7281 - وكان قد بلغ التاسعة والسبعين من عمره - في تقنين Codify القوانين الإنجليزية لكن المنية وافته بين المجلد الأول والثاني• وقد ساهم في تأسيس The Westminster Review (3281) كمنبر للأفكار الليبرالية• وجمع حوله جماعة من التلاميذ والمريدين اعترفوا بحرارة قلبه وطيبته رغم فظاظته الخارجية• وكان بيير إتين دومون Pierre - Etienne Dumont داعيا لأفكاره في فرنسا، وجيمس ميل Mill - المفكر البارز - حرر بنفسه المخطوطة التي كتبها بنثام، ورفع جون ستيوارت مل Mill الدافع أو السبب من مرحلة الحساب إلى مرحلة الإنسانية•

لقد عمل هؤلاء الفلاسفة الراديكاليون بقيادة بنثام على حق التصويت للذكور البالغين والاقتراع السري وحرية التجارة وتحسين الصحة العامة وتطوير السجون وتطهير القضاء وعفة مجلس اللوردات وتطوير القانون الدولي• وحتى سني الستين من القرن التاسع عشر أكد أتباع بنثام فلسفته المنطوية على الفردية والحرية• وفيما بعد ترصدت الاشتراكية لمقولة سعادة أكثر لأكبر عدد من الناس وحولت تيار الإصلاح نحو استخدام كممثل لإرادة العامة في مهاجمة الأمراض الاجتماعية• وبينما كان بنثام يحتضر كان يفكر في أن يجعل جثته مفيدة تماما لأكبر عدد من الناس فأوصى بتشريح جثته في حضور أصدقائه• وحدث هذا بالفعل وبعد تشريحها ملئت جمجمته بالشمع - وطليت به وتم إلباس هيكله العظمي الملابس الداكنة التي اعتاد (بنثام) ارتداءها، ووضع بشكل منتصب في صندوق زجاجي في الكلية الجامعية في كيمبردج ولازال موجودا حتى الآن•