قصة الحضارة - ول ديورانت - م 11 ك 4 ف 17

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 14639

قصة الحضارة -> عصر نابليون -> بريطانيا -> الفنون في إنجلترا -> الفنانون

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل السابع عشر: الفنون في إنجلترا

الفنانون

كانت كلمةُ (فن) تُطلق في العصور الوسطى (أيام نظام الطوائف التجارية والصناعَّية) على أية حرفة، كما كانت كلمة (فنّان) تطلق على أيٍّ حرفي وقد تغير معنى الكلمتين في القرن الثامن عشر لأن الحرف ونطام الطوائف الحرفية قد حل محلهما صناعات وعمال صناعة، لقد أصبحت كلمة (فن) تطلق على الموسيقا والديكور وأعمال السيراميك (الخزف) والرسم والحفر والتصوير والنحت والعمارة، وأصبحت كلمة فنان تطلق على كل من يمارس واحداً أو أكثر من هذه الأعمال. وقد تغير أيضا معنى كلمة العبقرية أو النبوغ genius، فقد كانت تعنى شيئا من التميُّز الفطري، أو روحا متفوقة بشكل غير طبيعي، أما الآن فقد أصبحت بشكل متزايد تشير إلى القدرة الوطنية الفائقة أو المتعالية (والمتَّسمة بشيء من الغموض بمعنى أن أسبابها غير واضحةً تماما) أو يوصف بها مالكو هذه المقدرة. إنها كالمعجزة أو لنقل هبة من الله أو هي فعل من أفعاله. لقد أصبحت هذه الكلمة (العبقرية) أو (النبوغ) بديلا مناسبا لوصف (شخص) أو (حدث) متفرّد أو غير عادي لقد أدَّى الانتقال إلى الصناعة (الحديثة) والتجارة وحياة المدن إلى مزيد من التدهور فيما يتعلق برعاية الأرستقراطية للفن. وعلى أية حال لابدلنا أن نذكر رعاية الأثرياء للشاعر وردزورث والشاعر كولردج، وأن لورد إجرمونت فتح بيته المحاط بمزرعة، في بتورث Petworth للرسّام ترنر Turner ليلجأ إليه هروبا من ضوضاء لندن. وكان جورج الثالث قد عاون في تأسيس أكاديمية الفنون الملكية (8671) بخمسة آلاف جنيه ومقار (جمع مقر) أنيقة في دار سومرست. ولم يكن أعضاؤها الأربعون ليصبحوا خالدين بمجرد عضويتهم بها كنظرائهم الفرنسيين وإنما كان الواحد منهم يرقى إلى مرتبة النبالة (الأرستقراطية) بحصوله على لقب اسكوير (معناها الحرفي حامل الدروع Squire أو المبجّل المحترم) ورغم أن هذا اللقب لم يكن يرثه أبناؤهم، فقد ساعد على تحسين الوضع الاجتماعي للفنانين الكبار في بريطانيا ونظمت الأكاديمية فصولا لتعليم التشريح والرسم والتصوير والنحت والعمارة.ومن الطبيعي أن تصبح قلعةً للتراث والتقاليد والوقار مادام يدعمها عرش محافظ. وقد عارضها الفنانون المجددون الذين كثر عددهم وحازوا الإعجاب حتى إن بعض النبلاء والماليين موَّلوهم لتأسيس المعهد البريطاني لتطوير الفنون الجميلة الذي أقام معارض دورية وحصل على جوائز وأصبح منافسا - بشكل حيوي - للأكاديمية الملكية. وأدت هذه النافسة إلى ظهور أعمال ممتازة في مختلف مجالات الفنون في بريطانيا. عفواً، لقد كانت الموسيقا مستثناةً من هذا، ففي هذه الفترة لم تظهر أعمال موسيقية خالدة. وكان الإنجليز على وعي شديد بهذا النقص، وتجلَّى هذا في تقديرهم الوافر للمؤلفين الموسيقيين الذين كانوا يأتون إليهم من القارة الأوروبية. لقد احتفوا بهايدن Haudn احتفاءً حارا في سنة 0971 وفي سنة 4971. وتمّ تأسيس الجمعية الملكية لعشاق الموسيقا في سنة 3181 وظلت باقية بعد الثورة الصناعية، والثورة الفرنسية، وبعد النابوليونيْن، وبعد قيام حربين عالميتين، ولازالت موجودة كعنصر دوام واستمرارفي فيض غير متقطع. وانتعشت الفنون الصغرى دون أن يكون لها خصائص خاصة. لقد واصل الإنجليز إنتاجهم للأثاث الأنيق - رغم صرامته، وأشغال المعادن المتسمة بالقوة والجمال وأعمال السيرميك (الخزف) البديعة تماما. وقد طوع بنيامين سمث Smith الحديد فشكل منه شمعدانا ذا شعب لتقدمه مدينة لندن لدوق ولنجتون(1). أما جون فلاكسمان فبالإضافة إلى قيامه بتصميمات كلاسيّة لمصنع ودجوود Wedgwood للفخار فإنه صمَّم كأس الطرف الأعز الشهير لتخليد ذكرى انتصار نلسون(2)، وكان نحَّاتا ومعماريا في أن عندما أقام النصب التذكاري لنلسون في كنيسة القديس بول.

وعلى أية حال فإن فن النحت أوشك أن يكون من الفنون الصغرى في إنجلترا، وربما كان هذا لأن فن النحت يفضِّل العري غير الملائم للمناخ أو للأخلاق السائدة. وفي سنة 1081 - بينما كان توماس بروس إيرل إلجن Elgin السابع، مبعوثاً لبريطانيا لدى الباب العالي (الدولة العثمانية) طلب من السلطات التركية (العثمانية) في أثينا السماح له بأن ينقل من الأكروبولس أية أحجار عليها نقوش قديمة أورسوم، وقد وجّه طلبه هذا باعتباره لوردا، وبالفعل نقل اللورد الإفريز الضخم للبارثينون (معبدا إغريقي) وكثيرا من التماثيل النصفية في سفينة إثر سفينة إلى إنجلترا في الفترة من 3081 إلى 2181. وقد وصفه بايورن وآخرون - احتجاجا على هذا العمل - بأنه وندالي سلاب، لكن لجنة برلمانية برأته، وبيعت رخامات إلجن بمبلغ 000،53 جنيه إسترليني دفعها الشعب البريطاني وتم إيداعها في المتحف البريطاني والمبلغ الذي دفعته الحكومة للورد إلجن كان أقل بكثير مما دفعه هو للحصول عليها(3) .

النَّحت

لقد أسهمت هذه الرخامات (المقصود الأعمال النحتية التي جلبها من اليونان اللورد إلجن والآنف ذكرها) في دعم الاتجاه الكلاسي، في مواجهة الاتجاه القوطي، وأنهى الصراع بينهما لصالح الاتجاه الأول في مضمار الأساليب المعمارية. لقد أدت آلاف الأعمدة - من الطراز الاغريقي: الدوري Doric أو الأيوني Ionic أو الكورنثي - إلى تحدي جهود الهواة مثل والبول Walpole وبكفورد Beckford لإعادة الأقواس المستدقة (التي تنهتي من الجانبين بنقطة واحدة Poited arches) والشرفات أوالأسوار المفرجة ( ذات الفرج أسوة بأسوار قلاع العصور الوسطى حيث كانت هذه الفرج تستخدم لإطلاق السهام وغيرها على العدو). تلك الشرفات والفرج التي كانت عزيزة على فرسان العصور الوسطى وقديسيها. وحتى في المباني المدنَّية (غير الدينية) ربحت الأعمدة الجولة، فدار سومرست للسير وليم شامبرز(5771وما بعدها) كانت مثل باراثون واسع، وكان الكثير من بيوت الريف يبدو كالأروقة الإغريقية المعمّدة (ذات الأعمدة) التي تحيط بقصر روماني، ولندع قصر حديقة أشردج Ashridge Parkmansian لجيمس ويات Wyatt (6081 - 3181) يعطينا مثالا راسخا على هذا النوع. وفي سنة 2971 بدأ من سيعرف باسم السير جون سون Soane وهو ابن أحد البنائين بالآجر - بدأ في إعادة بناء بنك إنجلترا خلف رواق كورنثي (على النسق الإغريقي الكورنثي) مازجاً بين قوس قستنطين ومعبد الشمس أو القمر. وبدأت المنافسة القوطية. بمبني هوراس ولبول Horace Wapole لستروبري هل Strawberry Hill (8471 - 3771) ولم تستطع (أي هذه المنافسة القوطية) أن تصمد في وجه طوفان الأعمدة والقباب والقواصر (جمع قوصرة وهي مثلث في أعلى واجهة المبنى). وكان وليم بكفورد W. Beckford هو البطل الرومانسي لهذه النشوة الوسيطة (نشوة العصور الوسطى) لقد ولد ثرياً، فقد شغل أبوه منصب رئيس بلدية لندن لمرتين وتلقى تعليما مكثفا؛ تلقى دراسات في البيانو من الشاب موزارت وتدريبات معمارية على يد سير وليم شامبرز ومدرس التاريخ من خلال جولات واسعة زار خلالها المتاحف والمواقع الأثرية. وفي لوزان اشترى مكتبة إدوارد جيبون Gibbon، وبعد إشاعات جنسية مخزية تزوج الليدي مارجرت جوردون التي ماتت في أثناء الولادة. وفي هذه الأثناء كتب رواية (فاثك Vathek) التي تعد أقوى الروايات التي استوحت أحداثها من أساطير الشرق، والتي كان لها فضل كبير على الحركة الرومانسية وقد نشرت بالإنجليزية والفرنسية (6871 - 7871) وأثنى عليها اللورد بايرون ثناءً عاطرا. وبدأ في سنة 6971 بمعاونة ويات Wyatt وبكفورد في تشييد مبنى على الطراز القوطي (على شكل كنيسة) في مزرعته في ولشير Wilshire، وملأه بالقطع الفنية والكتب وعاش فيها حياة النساك في الفترة من 7081 إلى 2281 ثم باعها، وتبين أن بالمبنى عيوبا في الأساسات والتصميم أدى إلى انهياره. ومات في باث Bath في سنة 4481 وهو في الخامسة والثمانين من عمره. وقد رسم له جون هوبنر Hoppner صورة شخصية أظهر فيها حبّه له (رسمها حوالي سنة 0081). والصورة تنطق بروحه الشاعره وإنسانيته وتأمله الباطني.

وقد أضاف جون ناش Nash إلى العمارة البريطانية المتجهّمة لمسةً من مرح الروكوكو (لمسة من الزخارف ذات الطابع المرح) وأتى ول Well وأعقبه همفري ربتون Repton ليقوم بدور بستاني فصمم القصور والمباني الواقعة في المزارع الريفية واضعاً في اعتباره توزيع الأكواخ والعرائش والزرائب على الطراز الفرنسي والهندي والصيني. وقد أمتعت هذه التصميمات النبلاء الذين كانوا قد برموا بحياتهم، وأفراد الطبقة العليا . وأصبح ناش Nash ثريا ورعاه الأمير السَّخيُّ . وفي سنة 1181 عهد إليه إعادة تشييد ميل من شارع الوصي على العرش (ريجنت ستريت Regent st. بدءا من دار كارلتون ثم في قوس كبير (شامل) إلى المناطق الريفية. ونوع ناش في خطوط مشروعه مستخدما الأهلة والشرفات جاعلاً مساحات مكشوفة من الحشأئش والأشجاربين مجموعات المباني واستخدم الأعمدة ذوات الطرز الأيونية لاضفاء البهجة على قوس الطريق (في وقت لاحق تم تدمير معظم هذا العمل للسماح بمزيد من المباني على حساب الحشائش والأشجار) ، لقد كان مشروعا عبقريا في تخطيط المدن لكن تكاليفه صدمت الشعب الذي كان صابراً على الجوع أملاً في إلحاق الهزيمة بنابليون.

ومع هذا فإن الوصي على العرش كان مبتهجاً بعمل ناش فعهد إليه بتجديد الجناح الملكي في بريتون Brighton الذي كان مكاناً أثيرا للأمير وأصدقائه، فأنجز ناش العمل فيما بين عامي 5181 و 3281 بتكلفة بلغت 000،061 جنيه إسترليني لقد أعاد بناء الجناح على الطراز الهندي الإسلامي بمآذن ذات اليمين وأخرى ذات الشمال. ومبان أخرى ذوات قباب وكانت صالة المآدب ذات سقف محدّب وزخارف صينية، وبها ثريات على هيئة اللوتس والتنين، وتكلفَّت هذه الصالة 092،4 جنيها إسترلينيا(4). وكان الانطباع الأول الذي يأخذه المرء عند رؤيتها هو الفخافة الغريبة، وكان الحكم النهائي عليها أنها عمل مسرف سواء في النفقات أم في الزينات والزخارف .

وفي سنة0281 أصبح الوصي على العرش ملكا. إنه جورج الرابع. وسرعان ما عهد هذا الملك الجديد إلى ناش إعادة بناء دار بكنجهام لتكون قصرا ملكيا. ووسط هذا الفقر والاقتراب من الإفلاس الذي أعقب الانتصار على نابليون، راح ناش يعمل حتى مات الملك المبذّر (0381) فاستدعت الحكومة ناش ذلك المعماري الوافر الإنتاج ليوضح لها ما صرفه ويفسّر بعض الأخطاء التي نسبت إليه. قلما كانت إنجلترا في مثل هذا السناء العظيم أو البؤس الشديد.


من الكارتون إلى كونستابل

كان على آلاف الفنانين البريطانيين - طوال عشرين عاما من الحروب - أن يكافحوا لإطعام أسرهم وتحقيق أحلامهم. ولم يكن أسوأهم حالا من حيث العائد المالي والشهرة رسامو الكاريكاتير الذين ملأوا الصحف برسومهم عن الأحداث الجارية. وكان نابليون هو الموضوع الأثير لدى هؤلاء العباقرة الشياطين. فقد راحوا يهجون كل يوم هذا الضئيل الحجم ناتئ العظام أو هذا الخلاسي المولَّد كما كانت تسميه صحيفة المورننج بوست(5) Marnnig Post ويخزونه لإضعاف جهوده الحربية والحط من كبريائه كإمبراطور. وكان أعظم هؤلاء الرسامين الكاريكاتيريين الذين ظلوا يخزون نابليون وخزا مؤلما هو توماس رولاندسون (6571 - 7281) الذي ولد لأب تاجر غني مولع بالمضاربة شجعه تشجيعا كبيرا لتنمية مواهبه في الرسم، وبعد أن درس في الأكاديمية الملكيه قيد نفسه في أكاديمية باريس وعاد إلى إنجلترا فحازت رسومه الإعجاب، وفجأة اعتراه الفقر بسبب خسائر أبيه في القمار، وأقيل من عثرته عندما أرسلت له إحدى قريباته (aunt) الفرنسيات 000،53 جنيه إسترليني. وكان متحررا في هجاء ما في عصره من سخافات ورياء. لقد رسم كاريكاتيرات عن دوقة تقبل يد جزار طمعاً في صوته الانتخابي، وشخصا سمينا يتلقى خنزيرا كضريبة عشر من فلاح على وشك الموت جوعا، ومجموعة من ضباط البحرية تصطاد البغايا من الشاطئ. وواصل رسم صور مركبة وشاملة: حدائق فوكسهول، مباهج باث Bath، وسلسلة رسوم مرحة صاخبة حققت شهرة على مستوى بريطانيا - رحلات الدكتور سينتاكس Syntax. وأدى غضبه من السياسيين والمهرجين (الصخابين) والأغبياء إلى رسم رسوم كاريكاتيرية فيها مبالغة شديدة، لكنها كانت مبالغة يمكن غفرانها. وكثير من رسومه تحتاج إلى تنقيتها مما فيها من بذاءات، وقد فقد هجاؤه (البحث عن المثالب) كل تعاطف. وإنجازه الفني الأخير ينضح احتقارا للجنس البشري كما لو أن البشرية لم تشهد أما عطوفا ولا رجلاً كريما.

وكانت رسوم جيمس جيلراي Gillray (7571 - 5181) الكاريكاتيرية أكثر شعبية، فكان الناس يتزاحمون على محلات بيع الكتب للحصول على الطبعات الأولى لرسومه(6). وقد درس جيمس جيلراي - مثل رولاندسون - في الأكاديمية الملكية وأصبح فناناً مصقولا خصب الخيال وإن كانت خطوطه صارمة. وكاد يضع كل فنه في خدمة الحرب: لقد صور نابليون كقزم وصور جوزفين كامرأة بذيئة، ورسم فوكس وشريديان وهورن توك Tooke (مؤيّدي الثورة الفرنسية) ينتظرون في نادي لندن حضور الجنرال الثوري المنتصر. وقد انتشرت رسومه الهجائية ذات الأفكار البسيطة والخطوط المصقولة في مختلف أنحاء أوربا وأسهمت في خلع نابليون من فوق عرشه(7). وقد مات قبل معركة واترلو بسبعة عشر يوما.

وشهد هذا الجيل كثيرا من الحفارين (النقاشين على الأخشاب أو المعادن) لكن أعمال وليام بليك Blake كانت هي الأكثر خلودا. لقد طور لنفسه طريقة خاصة في الحفر، بل إنه حاول أن يحل الحفر محل الطباعة، بحفر نصوص إلى جوارها رسومها التوضيحة على ألواح نحاسية، لكن قلمه سبق حفره، إذ راح يعبر عن نفسه في خاتمة المطاف بالشعر. وكان متمردا لأنه امتعض من فقره ويرجع هذا إلى كون الأكاديمية رفضت الاعتراف بالحفارين كفنانين ورفضت أن يقدموا أعمالهم في معارضها. ولأنه كان يرفض بشدة وصاياها بضرورة الالتزام بقواعد معينة وبالتقاليد الفنية التي فرضتها. لقد صرح في نحو سنة 808ا بأن القضية في إنجلترا ليست مسألة رجل موهوب وعبقري، وإنما لا بد أن يكون خاضعا مشتغلا بالسياسة وثورا قويا ، ومطيعا لأوامر النبلاء فيما ينتجه من فن ، فإن كان كذلك فهو رجل طيب، والإ فعليه أن يموت جوعاً(8). وكان بالفعل قد اقترب من الموت جوعا في أوقات عدة لأنه لم يكن يتلقى سوى أجر زهيد لرسوم وأعمال حفر قدر ثمنها في لندن في سنة 8191 بمبلغ 000،011 دولار(9)، ومكنته أعمال الحفر على المعادن التي قام بها لسفر أيوب والتي بلغت 22 لوحة، من العيش بما مقداره جنيهان في الأسبوع في الفترة من 3281 إلى 5281، وقد بيعت هذه اللوحات في سنة 7091 إلى ج. بيربونت مورجان Pierpont Morgan . J بمبلغ 006،5 جنيه إسترليني وهذه اللوحات التي حفرها لسفر أيوب من بين أجمل أعمال الحفر في التاريخ. وكان بليك Blake في موقف عوان بين البيوريتانية (التطهرية - مذهب ديني مسيحي متشدد - وإنكار المسيحية)، كما كان في موقف عوان بين الكلاسية والرومانسية، وكان مفتونا بمجموعة تماثيل ميشيل أنجلو (ميكل أنجلو) والرسوم التي رسمها على سقف الكنيسة وأحسّ أيضا ببهاء الجسم الإنساني السليم ورمزله بتجسيد بارز (0871) في عمل جعل عنوانه يوم سعيد بشاب يرتدي ملابس شفافة يعرف الحيوية المنضبطة، ولم يكن للجنس (العلاقة بين الرجل والمرأة سوى مكان متواضع في أعماله) فقد كانت زوجته مطيعة متعاونة محبة فجعلت الإخلاص لها ممكنا، وكانت خطوطه في البداية كلاسية صارمة يجعل الخط أهم من اللون والشكل أهم من الصورة الذهبية، لكنه كان كلما تقدمت به السنون وازداد حبه للعهد القديم (الجزء الأول من الكتاب المقدس عند المسيحيين)، ترك قلمه يجول في شخوص خيالية يغمرها بالملابس الكاسية، ووجوه تعبر عن ألغاز الحياة وغموضها(01).

وفي أعوامه الأخيرة حفر سبع لوحات لطبعة من طبعات دانتي وحفر وهو على فراش الموت (7281) لوحة أخرى للرب يخلق العالم في قديم الزمان. ومن خلال خياله الراقي وتصوراته لما فوق الطبيعة، وكذلك من خلال دقة خيوطه وبراعتها، أصبح - طوال جيل بعد موته - السلف المعلن لمدرسة ما قبل الرافائيلية. وسنلتقي به مرة أخرى في هذه الصفحات. لقد كان السؤال الحيوي بين الرسامين (وهو سؤال ينطوي أحياناً على طلب الخبز والزبد) هو: إلى أي مدى هم متوافقون مع نصيحة الأكاديمية وذوقها؟ لقد كان بعض أساتذة هذه الأكاديمية يوافقون موافقة تنطوي على التشجيع على الموضوعات التاريخية باعتبارها تذكر بالشخصيات المشهورة في الأحداث الخالدة. وكان أساتذة آخرون يمتدحون رسم الشخصيات باعتباره فناً يسبر أغوار الشخصية، وباعتباره فنا يسعد المشاهير الراغبين في تخليد أنفسهم في صور زيتية. وكان عدد قليل جدا من أساتذة الأكاديمية يهتم بالرسوم التي تصور مشاهد من الحياة اليومية لأنها تبدو عامية، أو بتعبير آخر فيها ريح العامة. وكانت رسوم المناظر الريفية تحظى بأدنى موافقة. لقد كان على كونستابل أن يطل يعمل فاقد الأمل في رسم لوحات فن الريف وهو خامل الذكر، ولم تمنحه الأكاديمية عضويتها الكاملة إلا وهو في الثالثة والخمسين.

وفي سنة 2971 مات السير جوشوا رينولدز Joshua Reynolds فاختارت الأكاديمية رئيساً لها أمريكياً مقيماً في إنجلترا إقامة دائمة. إنه بنيامين وست West الذي ولد في سبرنجفيلد في بنسلفانيا من سنة 8371. وقد أظهر في شبابه موهبة فنية عظيمة حتى إن جيرانه الكرماء أرسلوه للدراسة في فيلا دلفيا وبعد ذلك إلى إيطاليا. وبعد أن تشرب التراث الكلاسي هناك في الصالات الفنية والمتاحف والمواقع الأثرية انتقل إلى لندن (3671) حيث رسم بعض الصور الشخصية التي جلبت له الأموال، وأعجبت جورج الثالث، فتقدم بعدها لتناول الموضوعات التاريخية. لقد صُدمت الأكاديمية بلوحته (موت ولف Wolfe) الذي انتزع كندا من مونتكالم Montcalm وفرنسا - صُدمت لأنه صور شخوصا معاصرة بملابس حديثة، لكن كبار السن ذكروا أن نصف قارة أوربا تنحني احتراما للسراويل (البنطلونات).

وثمة أمريكي آخر هو جون سنجلتون كوبلي Copley ولد بالقرب من بوسطن في سنة 8371حقق شهرة برسمه جون هانوك، وصامويل آدمز وأسرة كوبلي. وفي سنة5771انتقل إلى لندن وسرعان ما وصل إلى لذروة بلوحته (موت شاثام) (9771) . وليهرب من مثالية الكلاسية الجديدة في رسم الشخوص التاريخية رسم المشهد بواقعية شجاعة، أحدثت - رغم أنها أزعجت الأكاديمية - ثورة في فن الرسم الإنجليزي.

واستمر التعليم في الأكاديمية على أكتاف جوهان هينريتش فوسلي Fussli (من زيورخ) الذي أصبح اسمه في سنة 4671 هنري فوسيلي اللندني (من لندن) وكان وقتها في الثالثة والعشرين من عمره. وبتشجيع من رينولدز غادر إنجلترا في سنة 0771 ليدرس لمدة ثماني سنوات في إيطاليا. وكان نزوعه إلى التحليق الخيالي ذي الطابع الهرطقي غير متفق تماما مع النماذج والأساليب الكلاسية، وعندما عاد إلى لندن أيقظ الجمال النائم بلوحته الكابوس (1871) التي صور فيها امرأة جميلة تحلم باقتراب عفريت مرعب منها. (ارتبطت هذه اللوحة بدراسة لسيجموند فرويد)، ورغم اتجاهه الساخر أصبح (فوسيلي) أستاذا في الأكاديمية ويسرت محاضراته فيها الانتقال من الرومانسية إلى ما قبل الرافيئيلية (اتجاه فني إنجليزي ذو طابع صوفي).

وقد وضحت أحوال جون هوبنر Hoppner (8571 - 0181) وجون كروم Crome (8671 - 1281) صعوبة حصول الفنانين على مايمكنهم من العيش برسم الطبيعة، فهوبنر عانى شظف العيش كعاشق للمناظر الطبيعة لكن أحواله انتعشت كرسام للصور الشخصية، وكاد ينافس لورنس في زبائنه وأجره. لقد جلس نلسون أمامه وكذلك فعل ولنجتون و والترسكوت وعدد من اللوردات. وقصرُ القديس جيمس غني بلوحات هوبنر، وظل كروم Crome في مسقط رأسه نورتش Norwich طوال ثلاثة وخمسين عاما هي كل عمره، ودرس صورهوبيما Hobbema وغيره من الرسامين الهولنديين الكبار وتعلم أن يجعل المشاهد البسيطة المألوفة في حياة العامة سائغة، ولأنه كان ملازما لبلدته لايكاد يفارقها فقد بحث عن موضوعات للوحاته في المناطع الريفية المحيطة بنوروتش Norwich. لقد وجد هناك منظرا سجله في إحدى أجمل لوحاته (مرج موسهولد). لقد كانت هذه اللوحة ذروة فنية بالإضافة لما تنطوي عليه من معادن فلسفية ليس هناك ما هو أرقى منها.

أما السير توماس لورنس (9671 - 0381) فاتخذ طريق رسم الصور الشخصية (البورتريهات) وهو طريق معترف به ولا يحتاج إلى مقاومة. وكان السير توماس ابنا لصاحب فندق، ولم يتلق قدرا كبيرا من التعليم ولم يتلق إلا قدرا قليلا من التدريب الفني. وكان لابد أن تحار الأكاديمية عندما لاحظ أساتذتها أنه نجح في الالتزام بما يريدون. لقد كان لديه حاسة التقاط الشبه بسرعة، وبسرعة كان يرسمه - في صباه في بريستول كان يرسمه بقلمه الرصاص، وفي شبابه في باث Bath كان يرسمه بالألوان البستل Pastel ولم يستخدم الألوان الزيتية إلا عندما انتقل إلى لندن (6871) وربما كانت جاذبيته وروحه المرحة هما اللذين فتحا له القلوب والأبواب. وقد كلف وهو لم يتجاوز العشرين بالذهاب إلى وندسور لرسم صورة شخصية للأميرة شارلوت سوفيا Charlotte Sophia. وتصرف بدبلوماسية شديدة انطبعت على لوحته (ذلك لأن الأميرة لم تكن جميلة) وأدت به دبلوماسيته هذه إلى أن انتخب عضوامشاركا في الأكاديمية وهو في الثانية والعشرين، ومنح العضوية الكاملة فيها وهو في الخامسة والعشرين. وتنافس ذوو الحيثيات على الجلوس أمامه لرسمهم، ورفض نصيحة كرومويل Cromwell برسم البقع والبثور والتجاعيد كما يرسم الخال والغمازة (المقصود أن يرسم مظاهر القبح ومظاهر الجمال فيمن يرسمهم) ورفض لورنس الأخذ بهذه النصيحة فليس في البثور ذهب (المقصود أن ذلك قد لايرضي من يرسمه فلا يدفع له مالاً كثيرا). لقد كان يحسن من ملامح من يرسمه، ولم يكن المرسوم ليعترض على ذلك. فإذا كانت المرأة أو الفتاة التي يصورها يعوزها الجمال، عمد إلى رسمها بملابس رقيقة شفافة جميلة، ورسم يديها جميلتين دقيقتين، وجعل عينيها فاتنتين، وجعلها في وضع (بوز Pose) درامي (مثير). وتعد لوحته (بورتريهه) للوصي على العرش التي أظهره فيها وسيما جميلا نموذجا نمطيا للوحاته. وقد رسم هذه اللوحة الآنف ذكرها في سنة 5181. وفي بعض الأحيان كان يضفي شيئا من الغرابة الباعثة على السعادة في صوره كما في صورته (Pinkie) في جلري (رواق) هنتجتون Huntington Gallery، لكن لوحاته التي رسم فيها الرجال كانت تفتقد الطبيعة القوية التي نجدها في رسوم رينولدز Reynolds. لقد كسب لورنس الكثير وأنفق الكثير وأصبح محبوب عصره. وعندما مات حفه موكب جنائزي فخم إلى مثواه الأخير في كنيسة القديس بول. وأصر جون كونستابل (6771 - 7381) على رسم المناظر الطبيعة، ولم يتزوج حتى الأربعين. وكان والده هو طحان miller سوسكس Sussex، وقد قدم الدعم المالي لابنه لدراسة الفن في لندن لمدة عامين عندما لمس مواهبه، لكن تطور جون كان بطيئا،فعاد في سنة 7971 إلى سوسكس ليعمل في طاحونة أبيه، وظل يواصل الرسم في أوقات فراغه، وأرسل بعض أعماله إلى الأكاديمية فأتاحت له فرصة الالتحاق بمدرستها، فعاد إلى لندن في سنة 9971 بموافقة أبيه بتشجيع من بنيامين ويست West، ورسم له ريتشارد ريناجل Reinagle - وهو فنان زميل له - صورة شخصية في العام نفسه.

وربما قرأ أشعار وردزورث عن المناظر حول بحيرة وندرمير، لأنه كان يرى الله في كل ورقة شجر. وفي سنة 6081 قام برحلة في أنحاء منطقة (دائرة) البحيرة فدرس الجبال يحتضنها الهضاب، والحقول تهطل عليها الأمطار الهادئة، وعاد إلى لندن وقد قوي عزمه على وقف فنه للطبيعة.

لقد قال عن لوحته التي عالج فيها الطبيعة أنه يأمل أن يخلّد لحظة قصيرة أمسك بها من زمن سريع الزوال ليجعل لها وجودا دائماً رزينا(11) وفي هذه الأثناء كان يتلقى تكليفات عرضية مكنته من تدبير أمر طعامه وسكناه. وأخيرا في سنة 1181 رسم لوحته العظيمة التي حازت الإعجاب - وادي ددهام Dedham Vale وهي بانوراما(مشهد عام) لإسكس Essex في شمس منتصف النهار.

وفي ذلك العام فيما يبدووقع في حب ماريابكل Maria Bickell التي رحبت باهتمامه بها لكن أباها منعها كي لاتنحط بقبول شخص ذى دخل منحط مثل كونستابل، ولم تكن تنقضي خمس سنوات حتى مات والده فأورثه دخلا ثابتا فعاود التقدم لطلب ماريا فوافق أبوها فانطلق كونستابل بعروسه واحتفى بها برسم صورة (بورتريه) لها لا زالت تزين حدار تيت جلري (رواق تيت Tate Gallery) وبعد ذلك راح يرسم أجمل لوحات المناظر الطبيعية، التي لم تكن إنجلترا قد شهدت مثيلا لجمالها قبله. لم تكن لوحاته مثيرة مدهشة كلوحات تيرنر Turner لكنها كانت تحتفي بأدق التفاصيل حتى ورقة الشجرة كما كانت تركز على الهدوء والسلام والثروة الخضراء في الريف الانجليزي. وفي هذه الفترة السعيدة قدم للأكاديمية (طاحونة فلا تفورد Flatford Mill(7181) والحصان الأبيض (9181) والهاي وين Hay Wain (1281) وكاتدرائية سالسبوري (3281) وحقول القمح (6281) وكانت كل لوحة من هذه اللوحات حدثا فنيا وحازت الإعجاب وكثيرا من الإطراء.

وفي سنة 4281 قدم الهاي وين (اسم لعربة تجرها الخيول) لتعرض في صالون باريس، وفي 5281 عرض (الحصان الأبيض) في ليل Lille وفازت كلتا اللوحتين بالميدالية الذهبية واحتفى الفرنسيون بكونستابل كأستاذ في فنه. وأحست أكاديمية لندن بتقصيرها في حقه فمنحته أخيرا عضويتها الكاملة (9281).

لقد أتى التكريم متأخراً فلم يكن له عنده معنى كبير، لأن زوجته ماتت في هذا العام نفسه بالسل الذي تفاقم ربما بسبب تلوث جو لندن بالسخام. وواصل كونستابل رسم المناظر مثل (مزرعة الوادي) و (جسر واترلو) لكن تكاد تكون كل أعماله الأخيرة تعكس ما يتحمله من أحزان، إذ ظل يلبس ملابس الحداد حتى موته المفاجئ.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ترنر 1775-1851

كان چوسف وليام ترنر معتزاً بنفسه وباسمه ولم يسمح أبداً لنقد معاد أوحب عنيف محطم بتعويق مسيرته نحو التفوق المطلق في مجاله. ولد في 32 أبريل سنة 5771، وربما شارك شكسبير في يوم الميلاد وكذلك الشهر. وكان أبوه صاحب محل حلاقة في ميدن لين Maiden Lane خلف الكوفنت جاردن Covent Garden، وهو مكان لايكاد يكون ملائما لفنان المناظر (الطبيعة)، فعلى وفق لكاتب سيرة ذاتية متقدم زمنا(21) كانت ميدن لين منطقة كئيبة مسواة بالطين، مزدحمة تعج بصيحات البائعين. وكان بالقرب من محل الحلاقة خان يغني المترددون عليه بأصوات منكرة. أضف إلى هذا أن أخت وليم سرعان ما ماتت وأصبحت أمها مجنونة لكن الطبيعة والظروف عوضا الصبي شيئا ما فجعلته قوي البدن حديد الإرادة، واقعي العقل، لا تهتز ثقته بنفسه فاستعان بهذا كله ليقاوم طوال ست وسبعين سنة الأزمات والنكبات والنقاد والجراثيم.

ورأى فيه والده علامات الموهبة، كما رأى أن مكانه ليس في ميدن لين، فأرسله وهو في العاشرة ليعيش مع عمه، وليلتحق بالمدرسة في برنتوود في مدلسكس Middlesex. وفي غضون عامين رسم الصبي لوحات فنية حتى إن والده الفخور علق بعضها في محل الحلاقة وعلق بعضها الآخر حول المحل، وعرضها للبيع. وذكر رجل دين كان يحلق عند أبيه بعض هذه اللوحات بخير عند صديق له في الأكاديمية، وسرعان ما أجري له اختبار في الأكاديمية فاجتازه بنجاح فقبل طالبا في مدرستها وهو في الرابعة عشرة من عمره، وبعد ذلك بعام سمح له بعرض لوحات بالألوان المائية في معرض الأكاديمية.

وفيما بين عام 9871 و 2971 كان يقضي فترة الإجازة متجولا في الريف ومعه دفتر الرسم (دفتر الإسكتشات). لقد ذهب بعيدا حتى أكسفورد وبريستول وويلز، ولازالت هذه الاسكتشات الشائقة التي سجل فيها الأرض والشمس والبحر موجودة في المتحف البريطاني. وكان يبيع رسومه وهو في التاسعة عشرة من عمره للمجلات، وفي الحادية والعشرين بدأ يعرض لوحاته الزيتية في الأكاديمية، وفي الرابعة والعشرين ثم اختياره عضوا مشاركا، وفي السابعة والعشرين أصبح عضوا كامل العضوية (في الأكاديمية) وبعد أن أصبح مستقلا من الناحية المالية بفضل ما باعه من لوحات افتتح في سنة 0081 مرسماً ستوديو واسعا في 46 شارع هرلي Hurly وأتى أبوه ليعيش معه كمساعد وممثل تجاري له. وكان هذا الحب المتبادل بين الوالد وابنه متمشيا مع عزوف الفنان الابن عن الزواج، فلم يكن جذابا من الناحية البدنية ولم يكن مليح الوجه، وكان ذا طباع فيها القليل من الجاذبية. لقد كان رجلا منشغلا ظل نحو نصف قرن يسيطر على الفن في إنجلترا ويسوده بأعماله الرائعة الكثيرة.

وعمد كتاب السير إلى تقسيم حياته إلى ثلاث مراحل لتيسير دراستها ومحاولة فهمها. المرحلة الأولى (7871 - 0281) كان يميل فيها إلى الموضوعات التاريخية لكنه حولها إلى دراسات للشمس والبحر. وفي سنة 9971 كان من بين الرسامين الأربعة الذين احتفوا في معرض الأكاديمية بانتصار نلسون وتحطيم أسطول نابليون في (أبوقير)، وفي سنة 2081 قام بأول رحلة له خارج بلاده، وعندما اقتربت السفينة التي تقله من كاليه Calais ارتفعت الأمواج عالية وهبت العاصفة الشديدة، فدبر تيرنر وبعض الركاب أمر الوصول إلى الشاطئ بقارب تجديف، وتناول - على الشاطئ - كراسة الرسم (الاسكتشات) وراح يخطط المنظر المعقد لسفينة تناضل ضد العاصفة، وبعد ذلك بعام عرض في لندن لوحته القماشية الضخمة (رصيف كاليه Cslais Pier) قدم فيها تفاعله مع مناظر السحب السوداء والبحار الغاضبة والرجال الشجعان ومن فرنسا أسرع إلى سويسرا ليرسم 004 لوحة للجبال وهي تتحدى السماء بشموخها. لقد أصبحت رسومه (إسكتشاته) كذاكرة ثانية له.

وعندما عاد إلى لندن وجد النقاد الأكاديميين يشكون من أنه وضع ألوانه ثقيلة وباضطراب وبشكل طائش وخلطها بشكل ينافي كل السوابق المعقولة، ذلك أن طريقته تجاهلت التعاليم التي علمها الراحل سير جوشوا رينولدز للأساتذة Masters القدامى الذين خلفوه كما تتجاهل القواعد التقليدية المرعية.

وقد احترم تيرنر ذكرى الدكتاتور الرفيق (المقصود رينولدز) ولكنه أطاع ما تمليه عليه شخصيته. ومن الآن فصاعدا أصبح هو أوضح الأصوات المعبرة عن الثورة الرومانسية في مواجهة الموضوعات القديمة والقواعد العتيقة، والمحاكاة الحرفية للواقع والالتزام بما هو معتاد مما يخنق التجربة ويقيد الخيال. وقد واجه ناقديه بعرض لوحة (سفينة جانحة أوجنوح سفينة) في الاستوديو الخاص به في سنة 4081 وكانت اللوحة توضّح قسوة الطبيعة وهيمتها على الإنسان. وحظيت اللوحة بالإعجاب، وبعد ذلك بعام أحبه البريطانيون كثيرا لاحتفائه بانتصار نلسون في معركة الطرف الأغر.

لقد كانت لوحته فوضى من السفن والرجال والعناصر الأخرى لكن هكذا تكون المعارك. ومع هذا فقد أحس النقاد إزاءها بالارتباك:

لقد كان كل ما يستخدمه تيرنر هو الألون، وليس هناك خط واحد، وحتى الألون بدت وكأنما رشرشها دون أن يقصد تكوين شكل محدد، بل وجعلها موضوعا في حد ذاتها. لقد كانت القصور والصروح والمباني والبشر في لوحاته (المرسومة على كانافاه) بقعاً غير محددة ونقطا تشير إلى المعنى كما لو كان الفنان قد سلم بعجز الإنسان في مواجهة الطبيعة الساخطة. وهذا لايمنع من وجود استثناءات مبهجة كما في لوحة الشمس تشرق من خلال الضباب (7081) لكن في لوحته هانيبال يعبر الألب (2181) نجد كل معاني البطولة البشرية يضيع وسط السحب السوداء والصفراء التي تمثل دوامة فوق جنود يرتعدون خوفا. أكان هذا الفنان الجامح عدوا للجنس البشري؟.

لقد واصل تيرنر منهجه مُعْمِلاً فرشاته بقوة وحيوية عازما فيما يظهر على محق الحياة والبشر من فوق الأرض، مُخليِاً إياها إلا من الشمس والسحب والجبال والبحار الهائجة. لكنه لم يكن عدوا للبشرية تماما فقد كان قادرا على تكوين علاقات دافئة وطور صداقات هادئة مع السير توماس لورنس المناقض له في أسلوبه الفني وفي نظرياته الفنية. ولم يكن تيرنر يعتـرف بأيـة نبالـة سـوى نبالـة العبقريـة، وكان مخدوعـا شيئا ما من العوام، وكان يحب عمله وخصوصيته، وكان يشعر - مثل ليوناردو Leonardo - أنه إذا كنت متفردا كلية فستكون كلية نفسـك أي خيـر معبـر عـن نفسـك ولـم يكـن لـه عقيـدة إيمانيـة يمكـن التأكد منها فيمـا يتعلق بأي وجود فوق الطبيعة (غيبي)، فقد كان إلهه هو الطبيعة وقد وجه إليها نوعاً من العبادة خاصا به - عبادة ليست من نوع عبادة وردزودث الذي بحث في حكمتها وجمالها، وإنما راح تيرنر يركز على بقائها وإلحاحها وسطوتها، وكان يعلم أنها ستغمره أيضاً وستغمر الإنسان في زمنها الشرس المروع. ولم يزعج نفسه كثيرا بشأن الأخلاق. لقد كان لديه خليلة أو خليلتان، وجعلهما - بشكل رقيق - مقتصرتين عليه، ورسم بعض الصور الزيتية العارية ذات طابع جنس فتم تدميرها ذات مرة عندما وقعا في يد رسكين Ruskin وكان يحب المال ويتقاضى أثمانا باهظة وخلف ثروة. لقد كان ألماسا خاما - سوليتير -.

وبدأ في المرحلة الثانية (0281 - 3381) رحلة إلى إيطاليا بحثا عن دفء الشمس، وخلال هذه الرحلة التي استغرقت ستة أشهر رسم خمسة عشر إسكتشا، وبعد عودته إلى إنجلترا حول بعضها إلى لوحات حاول فيها استخدام أساليب جديدة في اللون والضوء والظلال مثل ( خليج بايبي) 3281 جعل كل شيء فيها ينطق - حتى الظل. ومرة أخرى في فرنسا استخدم الألوان المائية في رسم نهر السين وجعله يتألق منيرا. في 5281 - 6281 تجول في بلجيكا وهولندا وأحضر إلى بلاده إسكتشات حول بعضها إلى لوحات مثل (كولوني Cologne) و (ديبي Dieppe) وهي الآن في مجموعة الفريك Frick في نيويورك. وفي سني الثلاثين من هذا القرن كان بين الحين والحين ينعم بضيافة اللورد إجريمونت Egermont في بتورث Petworth وكان كعادته ينشغل بعمله لكنه أعطى لمضيفه لحظة خالدة بلوحته (البحيرة عند الغروب)

وفي مرحلته الأخيرة (4381 - 5481) راح يستسلم أكثر فأكثر لإغراء الضوء، فغالبا ما كانت تختفي في لوحاته الأشياء فلا يتبقى إلا دراسة فاتنة للألوان والتألق والظلال، وفي بعض الأحيان كان يترك الأشياء تلعب دورا أساسيا كما في لوحته (Fighting temeraire towed to her Last berth) (9381) أو لوحته (المطر والبخار والسرعة) (4481) التي تمثل إعلانا حركيـا فخـورا لقـرن مـن الخيـول الحديديـة. وعندمـا احتـرق مبنـى البرلمـان فـي سـنة 4381 جلـس تيرنر بالقرب منه يرسم إسكتشات لآخر لوحاته عن هذا المشهد. وعندما كان يعبر من هاروتش Harwich تعرضت سفينة لريح مجنونة وهطل عليها الجليد فاندفع الفنان الهرم نحو الدقل وظل عنده طوال أربع ساعات حتى يحفر في ذاكرته تفاصيل المشهد وما فيه من رعب(31) ورسمه بعد ذلك مستخدما اللون الأبيض بكثرة في لوحته عاصفة ثلجية (2481)، وفي سنة 3481 حقق نصره الأخير بلوحته (شمس البندقية تتجه للبحر).

واسودت سنوات عمره الأخيرة بذروة الإجماع على إدانته، وإن خفف وطأة ذلك عنه ما كاله له سيد النثر الإنجليزي من مديح. لقد انتقد أحد النقاد لوحة (العاصفة الثلجية) باعتبارها مجرد رغاوى صابون ودهان أبيض(41) ولخص آخر أعمال الفنان في حقبته الأخيرة بأنها نتاج عين مريضة ويد طائشة واقترح شرابا مخلصا من عناصر شتى كعنوان عام لأي لوحة من لوحات تيرنر (إعصار استوائي) يضرب (برياح سمومه) (دوامة) محدثا (اضطرابا عظيما) و (سفينة تحترق) وقت (الكسوف)، وتأثير (قوس قزح القمري)(51) - لقد بدت الأعمال الكاملة لهذا الفنان الكبير المتألق بعد نصف قرن من العمل - حقيرة مرفوضة في نظر أصحاب الاتجاه المحافظ.

وفي مايو 3481 أصدر جون رسكن Ruskin وكان في الرابعة والعشرين المجلد الأول من كتابه (رسامون معاصرون)، ألح فيه بحماس على تفوق تيرنر على كل رسامي المناظر المحدثين، والحيوية البالعة التي عبر فيها تيرنر عن العالم (الوجود) الخارجي (خارج ذاته) حتى إنها تعد أفضل تقرير عن هذا العالم (الوجود)، ووجد تيرنر نفسه في درجة أعلى من كلود لورين Claude Laurain الذي كان يستلهم رسومه من مطلع شبابه، ولم يكن هذا غريبا بالنسبة إليه، لكنه كلما واصل قراءة كتاب رسكين راح يتساءل: ألن يضره هذا المديح المبالغ فيه؟ لقد أضره فعلا ولكن لفترة. لقد راح النقاد يثنون على كتاب رسكين Ruskin لكنهم راحوا يناقشون أحكامه طالبين حكما أكثر توازنا، ولم يتقيد رسكين بهذا النقد فراح يكرر في مجلد إثر مجلد دفاعه عن تيرنر وتمجيده له حتى كاد يخصص لتيرنر ثلث كتابه ذى الألفي صفحة. وأخيرا كسب معركته وعاش حتى رأى فنانه المحبوب وقد اعترف به الجميع كواحد من أعظم المبدعين في الفن الحديث.

وفي هذه الأثناء مات تيرنر (92 ديسمبر 1581) وتم دفنه في مقبرة كنيسة القديس بول، وكان قد أوصى بأن تكون أعماله الفنية للأمة - 003 سكتش، 003 لوحة بالألوان المائية، 000،91 تخطيط (رسوم تخطيطية) وترك 000،041 جنيه إسترليني لإنفاقها على الفنانين الفقراء (حصل أقرباؤه الأحياء بعد موته على قرار ببطلان الوصية وقسموا الأموال بين أنفسهم ومحاميهم) وربما كان أعظم تراثه هو اكتشافه للضوئية (نزعة في التصوير الحديث)، وفي هذا الجيل نفسه صاغ توماس يونج Young نظريته عن الأمواج الضوئية، لقد نشرتيرنر عبر أوروبا رسومه التي طبق فيها هذا الأسلوب (الضوئي) وكذلك لوحاته بالألوان المائية، معلنا أن الضوء هو (موضوع) للرسم كما أنه (وسيلة) للرسام أو (وسط) يرسم فيه الأشياء، وبالتالي فهو يستحق أن يمثل بأشكاله المختلفة وألوانه وتشكيلاته وتأثيراته. تلك هي الانطباعية impressioism ظهرت على يد تيرنر فبل ظهور الانطباعيين Impressionists. وربما كان مانت Manet وبيسارو Pissarro قد رأوا بعض أعمال تيرنر التي استخدم فيها هذا الأسلوب عند زيارتهم للندن في سنة 0781(61). وبعد ذلك بسبع سنين أرسل ديجاس Degas، ومونت (مونيه) Monet وبيسارو، ورينوار Renoir، خطاباً إلى تاجرأعمال فنية، ذكروا فيه أنه في دراساتهم للظاهرة الهائمة للضوء لم ينسوا أنه قد سبقهم في هذا الاتجاه أستاذ عظيم لمدرسة فنية إنجليزية - إنه الفنان الشهير - تيرنر(71).