قصة الحضارة - ول ديورانت - م 11 ك 4 ف 16
صفحة رقم : 14626
قصة الحضارة -> عصر نابليون -> بريطانيا -> الحياة الإنجليزية -> الطبقات
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل السادس عشر: الحياة الإنجليزية 1804 - 1807
الطبقات
الحضارة شعب له نظام اجتماعي قامت عليه حكومة وقانون ودين وأخلاق وعادات وتقاليد ونظام تعليمي، مع إتاحة قدر كاف من الحرية للإبداع والتجربة وقدر كاف من الحرية لتكوين الصداقات وعلاقات الحب وأعمال الخير وتطويرها، وقدر كاف من الحرية يُتيح إبداع فن وأدب وعلم وفلسفة. والآن كيف كان حال هذه النظم والحريات في إنجلترا في الفترة من 9871 إلى 5181 وكيف كان شكلهما (تكوينهما) وماذا نتج عنهما؟
في البداية نجد أن الفروق التي فرضتها الطبيعة بين الناس - فيما هو موروث، وفي الفرص والمهارات - جعلتهم يندرجون في طبقات تُسهم كل طبقة منها بنصيب في الحياة المشتركة. ولم يكن في إنجلترا نظام الطبقات المغلقة (أو المتحجرة) لأن الفرد ذا الثروة الكبيرة أو التفوق قد يترقى (يصعد) من طبقة إلى أخرى بل يصل حتى إلى مرتبة النبالة، وغالبا ما كانت العلاقة بين النبيل والفلاح تتسم بروح الصداقة وقلما تكون ذات طابع برهمي of Brahmin (أو علاقة لا تسمح بأن يمس (يلمس) الفلاحُ النبيلَ). وكانت القِنانة (عبودية الأرض) قد اختفت رغم أنه لم تكن هناك إلا أقلية تمتلك الأرض التي تزرعها. وكان النبلاء يدفعون الضرائب مثل غيرهم وفي بعض الأحيان (على عكس نظرائهم الفرنسيين) كانوا يعملون في مجال التجارة أو الصناعة. ولم يكن يرث لقب النبالة إلا الابن الأكبر أما بقية الأبناء فكانوا من الناحية القانونية (وليس الاجتماعية) من العوام.
وظلت كثير من مظاهر عدم المساواة (الفوارق) غير الطبيعية باقية. وكان تركُّزُ الثروةِ شديداً بشكل غير عادي. وكانت المساواةُ أمام القانون غير ذات معنى بسبب ارتفاع تكاليف التقاضي. ولم يكن ممكنا محاكمة اللوردات المتهمين إلا في مجلس اللوردات (الشيوخ)، وظلت مزايا النبالة هذه مستمرة حتى سنة 1481. وكان من الممكن إجبار من لا شجرة نسب لهم على الخدمة في البحرية. وقلما كان العوام يصلون إلى رتبٍ عليا في البحرية أو الجيش أو الخدمة المدنية أو الجامعات أو القضاء. وقلما كانت طبقة النبلاء الحاكم تسمح للجماهير التي لا تنتمي لطبقة معينة بأي دور في تقرير سياسات الحكومة أو اختيار القائمين عليها. وربما كان الوعي الطبقي أكثر حدّة ووضوحاً لدى البورجوازية التي ظلت متعالية بكبرياء بعيدة عن الفلاحين والبروليتاريا، وكان أفرادها يحلمون بمراتب النبالة. وفي داخل الطبقة البورجوازية نفسها كانت هناك قطاعات متنافسة؛ فكان الرأسمالي العامل في المجال الصناعي يتعالى على جاره صاحب المحل التجاري، والتاجر الكبير الذي تحلَّى بالأموال نتيجة مغامراته التجارية يقف متباهياً إزاء رجل الصناعة. وكان ذوو المكانة أو الثروة العظيمة يطلون ما جمعوه من المستعمرات بطلاء الوطنية وكوّنوا طبقة خاصة بهم.
وكما في فرنسا، كذلك في إنجلترا لم يكن أي فرد راضياً بما فيه الكفاية بقسمته التي قسمها الله له، أتاحتها له قدراته، أو فرضتها الظروف. لقد كان كل شخص منشغلاً بالصعود أو التردي. لقد كان قلق العصر الحديث قد بدأ. وكانت المعركة الأساسية هي معركة الرأسمالي كي يحل محل الأرستقراطي في توجيه أمور الدولة. وكان هذا قد استغرق جيلا كاملا في فرنسا، أما في إنجلترا فاستغرق قروناً.
وعلى هذا، فحتى سنة 2381 كان لطبقة النبلاء الغلبة، وكانوا يبتسمون ساخرين من متحديهم. وبالمعنى الضيق فقد كانت طبقة النبلاء هذه في سنة 1081 تتكوّن من 782 نبيلاً أو نبيلة زمنياً (أي ليس من الإكليروس أو رجال الدين) و 62 أسقفاً إنجيلياً هم النبلاء أو اللوردات الروحيون (أي من رجال الدين) وهم الذين يشكلون مجلس الشيوخ (مجلس اللوردات). وكان النبلاء الزمنيون (من غير رجال الدين) مرتبين طبقياً فيما بينهم ترتيباً تنازلياً: أمراء من دماء ملكية، دوقات، ماركيزات، إيرلات earls، فيكونتات Viscount وبارونات. وكان يمكن أن يُطلق على الواحد من كل هؤلاء - ما عدا الأمراء ذوي الدماء الملكية - لقب لورد، وكان اللقب يُورَّث جيلاً بعد جيل للابن الأكبر. وكان الواحد منهم يمتلك أراضي شاسعة يزرعها فلاحون مقيمون وعمال مستأجرون، وكان لها بطبيعة الحال ريع بلغ في حالة دوق نيوكاسل Newcastle 000،021 جنيه إسترليني(2) في السنة أو نحو 000،21 جنيه عادة كما في حالة الفيكونت بالمرستون. وكانت مزارع دوق بدفورد، ودوق نورفولك ودوق ديفونشير يمكن أن تغطي كونتيّة (مقاطعة(3)). وإلى الأدنى من هؤلاء اللوردات الزمنيين (من غير رجال الدين) واللوردات الروحانيين (من رجال الدين) نجد 045 بويرين! (تصغير بارون، وتكتب أحيان بارونت) وزوجاتهم (الواحدة منهن بويرينه، وتكتب أحياناً بارونيته) ويشفع الاسم المسيحي للواحد منهم باللفظ (سير Sir) إن كان بويرينا، وباللفظ (ليدي Lady) إن كانت بويرينه ويُتوارث هذا اللقب (سير أو ليدي) من هذه الأسرات. ويلي ذلك 053 فارساً Knights (لقب وليس له علاقة بالضرورة بركوب الخيل) وزوجاتهم، ويُسبق الاسم المسيحي للواحد منهم باللفظ (سير) أو (ليدي) أيضاً، لكن اللقب هنا لا يتوارث، ويلي حاملي لقب فارس نحو ستة آلاف من حاملي لقب حامل الدرع Squire أو شريف المحتد gentry وهم من ملاك الأراضي الذين وُلدوا في أسرات قديمة حازت قبولاً اجتماعياً ومن حق الواحد منهم أن يحمل شعار النبالة. كل هذه المجموعات الآنف ذكرها من حملة الألقاب تقع دون اللوردات وهم يكوِّنون النبالة الدنيا أو النبالة الأقل درجة لكنهم بشكل عام من بين الأرستقراطية التي تحكم إنجلترا.
لم يكن أحد يشعر بأن حكم الأقلية ينطوي على شيء من الخطأ. فقد كان هناك رضاً متزناً قانعاً رواقياً (متسم بقبول الواقع) يبرر فقر الفلاحين وتدني أوضاع عمال المصانع واستغلال أيرلندا. لقد كانت هناك قناعة أن الفقر هو عقاب ضروري وطبيعي لعدم الكفاءة أو الكسل ويجب ألا يُسمحً للمنظِّرين الخوَّارين بتحويل بريطانيا إلى ديموقراطية تقوم على تقديم الإعانــات الماليـة (للكسالى وغير الأكفــاء) ورغم الحالمين باختفاء أشكال الحكومة مثل وليـم جودون أو بيرسـي شيلي، فإن شـكلاً من أشـكال الحكومـة يُعـد أمراً ضرورياً فمن غير الحكومة يصبح الشعب غوغاء يهددون كل فرد وكل حرية، ولم يكن نابليون ظالما في حكمه لصالـح الأرسـتقراطية الإنجليزية، بل إنه قال في سانت هيلانه: ستكون مأساة (أو كارثة) أوروبية إذا اختفت الأرستقراطية الإنجليزية وتُركت الأمور لغوغاء لندن(4) فكل الحكومات تقوم إما على حكم الأقلية أو حكم الطغاة (الحكم الفردي المستبد) والأقلية الحاكمة إما أن تكون بأرستقراطية المولد أو بلوتقراطية الثروة (حكومة الأثرياء slash أو حكم الطبقة الثرية) وبطبيعة الحال فإن الديموقراطية كانت في هذا الاتجاه الأخير (البلوتوقراطي) لأن الثروة وحدها هي التي يمكنها تمويل المعارك أو دفع تكاليف حث الناس على التصويت لصالح المرشحين الأغنياء والذين يتم انتخابهم بطريقة ديموقراطية وهم قلما يكونون - بحكم المولد أو الخبرات - قادرين على التعامل بنجاح مع قضايا الحكم، أما تعاملهم مع الشؤون الخارجية فنجاحهم فيها أقل بكثير. فأرستقراطية المولد هي مدرسة لأجل الدولة. حقيقة إن بعض من تخرجوا في هذه المدرسة (أرستقراطية المولد) قد يصبحون عاطلين لا يصلحون لعمل، لكن هؤلاء قلّة، فأرستقراطيو المولد بحكم طول ارتباطهم بقضايا الحكم والأشخاص الحاكمين يكتسبون القدرة على التعامل مع الأمور الحرجة دون تعريض الأمة للخطر بحماقاتهم (تصرفاتهم غير المنضبطة). وأكثر من هذا فإن الأرستقراطية الموظفة توظيفا صحيحاً تستطيع أن تُلزم الناس بعادة الطاعة واحترام السلطة اللذين هما منحة للنظام العام والأمن.
وبدت هذه الحجج التي صيغت ببراعة وتغلغلت في الشعور بشكل غامض مقنعة لغالب الشعب البريطاني. لكنها لم تكن مقنعة للبورجوازية الصاعدة التي كان أفرادها ممتعضين من الثروة التي حققها ملاّك الأراضي فسيطروا على الوزارات والبرلمانات، كما كان العمال المتمردون ينكرون على الأرستقراطية - بغضب - دورها، كما تعرضت الأرستقراطية للمساءلة من المثفين الذين هالتهم الوسائل التي توظفها الأرستقراطية التي تحكم إنجلترا لخدمة مصالحها.
الحكومة
الهيئة التشريعية
دستور إنجلترا هو الكيان الكامل للتشريعات غير المُلغاة التي أصدرها البرلمان، والقرارات غير المُبْطَلة (بضم الميم) للمحاكم. فمثل هذه السوابق القانونية تُسند كل السلطات الحكومية إلى التاج (سواء أكان صاحبه ملكاً أو ملكة) والبرلمان اللذين يعملان بتوافق. وعادة ما كان الملك منذ سنة 8861 يقبلُ ما يشرّعه البرلمان ويوافق عليه. وليست هناك وثيقة مكتوبة تحد من سلطة البرلمان في إجازة أيِّ قانون يُرضي مجلسيه (مجلس العموم ومجلس اللوردات) (النص: غرفتا مشورته two chambers) وتتكون الغرفة العليا (مجلس اللوردات) من اللوردات الزمنيين (من غير رجال الدين) واللوردات الروحانيين (من رجال الدين) الذين يجلسون بترتيب على وفق الميلاد والتقليد، ومن سلطتهم رفض أي إجراء يصوت عليه مجلس العموم وهم كمحكمة عليا تُستأنف (بضم التاء) القرارات القضائية لديها، وكمحكمة عليا عند تولي مجلس العموم محاكمة أحد أعضائه بسبب جناية أو جُنحة أو عند محاكمة أحد أعضاء الحكومة كما أنه مختص بالنظر في الأمر عند اتهام أحد أعضائه من غير الإكليروس في جريمة كبرى. لقد كان هو حصن الأرستقراطية تقوم من خلاله بنضال يعوق تقدم البورجوازية المتقدمة.
وكان عدد أعضاء مجلس العموم 855 عضواً: اثنان من جامعة أكسفورد واثنان من جامعة كامبردج، وواحد من كلية التثليث في دبلن، و 54 من إسكتلندا، والباقون يتم انتخابهم في أربعين كونتية (مقاطعة) وعشرين مدينة تمثل كل منها دائرة انتخابية من قِبَل ناخبين لهم امتيازات محدودة مختلفة اختلافاً كبيراً مما يجعل من غير الممكن النص عليها بالتفصيل في هذا السياق(5). ويُستثنى من المنتخبين (بكسر الخاء) النساء والذين يتلقون إعانات، والأروام الكاثوليك والكوكر (أصحاب مذهب ديني) واليهود واللاأدريين، وبشكل عام كل من لا يؤدي قسم الولاء والطاعة لكنيسة إنجلترا وعقائدها. وفي المجموع كان في إنجلترا ذات التسعة ملايين نفس 000،542 ناخباً. وطالما كان التصويت علنياً فإن قلة من المصوتين (الناخبين) هم الذين كانوا يجسرون على انتخاب مرشح غير مالك الأرض. وكان كثيرون من أهل المدن ممن لهم حق الانتخاب لا يُزعجون أنفسهم بالإدلاء بأصواتهم، وكانت بعض الانتخابات تجرى بترتيبات بين الزعماء دون أي تصويت. وكان عدد الممثلين البرلمانيين المسموح بهم لكل مدينة borough قد تحدد بحكم التقاليد المتوارثة دون أن يوضع في الاعتبار زيادة عدد السكان أو نقصهم في هذه المدينة التي تمثل دائرة انتخابية، إذ كان لبعض المدن التي لا يتجاوز عدد المصوتين فيها أصابع اليد ممثل أو أكثر، بينما لم يكن مسموحاً للندن سوى بأربعة ممثلين رغم أن عدد المصوتين فيها ستة آلاف. وكانت المراكز الصناعية قليلة التمثيل في البرلمان إن لم تكن غير ذات ممثلين برلمانيين أبداً. فمنشستر وبيرمنجهام وشيفلد لم يكن لها ممثلون في البرلمان، بينما كانت كونتية (مقاطعة كورنوال Cornwall القديمة) تتمتع باثنين وأربعين نائباً. وعلى أية حال يجب أن نضيف أن كثيراً من المدن والقرى كانت محتفظة بقدر كبير من الحكم الذاتي فيما يتعلق بأمورها الداخلية، وعلى هذا فمدينة لندن كانت تختار حكومتها عن طريق أصحاب الأملاك فيها (فهم وحدهم لهم حق التصويت). وكان نحو نصف مقاعد مجلس العموم يتم شغلها عن طريق انتخابات نصف جماهيرية، أما النصف الثاني فيتم شغله من خلال تعيينات الملاك المحليين أو المقيمين في مناطق نائية، ولا معقِّب على تعيينهم. وكان الراغبون في مثل هذه التعيينات يدفعون للمجالس المحلية في كثير من الحالات، وكانت هذه المجالس تعيِّن من يدفع أكثر من غيره أو بعبارة أخرى كانت مجالس المدن تبيع وتشتري مقاعدها في مجلس العموم بشكل علني واضح كما يجري التعامل في أية بضاعة(6).
وكان الأعضاء المختارون يقسمون بشكل مرن بين الحزبين: التوري (المحافظون) والهويج (الأحرار)، وكان هذان الحزبان قد نسيا إلى حد كبير القضايا التي اختلفا عليها في الماضي والتي كانت سبباً في انقسامهما إلى حزبين. وكان زعيماهما من بين الأسرات الأرستقراطية القديمة لكن الهويج (الأحرار) كانوا أكثر ميلاً من التوري (المحافظين) للاستماع إلى لوردات التجارة والصناعة الأثرياء، بينما كان التوري (المحافظون) يدافعون عن الحقوق المقصورة على السلطة الملكية، وكان الهويج (الأحرار) يتحدونها. لقد كان عصب الصراع هو السلطة لا المبدأ؛ أي حزب عليه تشكيل الوزارة الحاكمة واقتسام المناصب الرابحة والإشراف على التطور. ورغم الأساس الأرستقراطي للحكومة البرلطانية فإنها كانت - بشكل ملحوظ - أكثر ديموقراطية في سَنِّ القوانين من حكومات معظم دول القارة الأوروبية، ففي هذه الدول (بما في ذلك فرنسا بعد سنة 4081) كان الإمبراطور أو الملك هو الذي يقبض على زمام السلطة، أما في بريطانيا فقد كان الحاكم الحقيقي منذ سنة 8861 هو البرلمان وليس الملك، وفي هذا البرلمان ذي المجلسين (مجلس اللوردات ومجلس العموم) كانت السطة في الأساس في يد مجلس العموم من خلال سلطته على الميزانية Power of the purse: إذ لم يكن ممكنا إنفاق أي مبلغ من الميزانية العامة دون موافقته، ومن الناحية النظرية كان يمكن للملك أن يعترض على أي إجراء يُقرِّه البرلمان، لكن جورج الثالث - من الناحية الفعلية - لم يمد هذا الحق المقصور عليه إلى هذه النقطة الحساسة. وعلى أية حال، كان في مقدور الملك أن يحل البرلمان، و يلجأ إلى أهل البلاد go to the Country لإجراء انتخابات جديدة.
وفي هذه الحال يكون لدى المرشحين الذين يؤيدهم ويمولهم فرصة طيبة للفوز بالمقاعد لأن الملك الطبيعي المؤتلف مع شعبه قد أصبح مرة أخرى تجسيداً للأمة ومحور الولاء لها والفخر بها.
النظام القضائي
كان النظام القضائي في إنجلترا - مثله مثل النظام التشريعي - كافياً بالغرض، وكان قد تم مصادفة (أي بدون قصد)، وكان مشوشاًغير محدد المعالم. لقد كان لابد بادئ ذي بدء من السيطرة على مجموعة القوانين التي كانت تكاد تصدر يومياً خلال مئات السنين فظلت طويلاً غير منظمة ولا متسقة وكانت تنص على عقوبات قاسية جداً حتى إن القضاة كانوا غالبا ما يعدلونها أو يتجاهلونها. لقد كان القانون مثقلا ببقايا أصوله الإقطاعية وتنقيحاته المسيحية: فاللوردات المتهمون كان لا يزال من الضروري أن يُحاكمهم لوردات، وحتى سنة 7281 كان القسس الأنجليكان مُستثنون من المثول أمام المحاكم المدنية. وظلّت مئات القوانين (التي تنص على منع المقامرة ووسائل الترفيه الليلية والاجتماعات غير المصرَّح بها) مُثبتة ومنصوصاً عليها، رغم عدم تطبيقها إلا فيما ندر. وجرت بعض التحسينات في هذه الفترة: فعدد الجرائم (نحو مائتين) التي كان (في سنة 0081) عقابها الموت، جرى تخفيف عقوبتها مراراً. وأصبح من الممكن تفادي السجن لعدم وفاء الدين بالحصر الدقيق للموجودات والديون والعوائق التي تعوق المدين عن سداد ديْنه. لكن قانون الإفلاس ظل ثقيل الوطأة حتى إن رجال الأعمال تحاشوه باعتباره طريقاً إلى إفلاس مضاعف. وقانون الإحضار لأغراض التحقيق الصادر في سنة 9761 والذي كان يهدف إلى منع سجن المتهم قبل المحاكمة، غالباً ما عُلِّق (لم يُنفّذ) حتى فقد قوته في أثناء أزمات مرّت بها البلاد مثل فترة الحروب الثورية الفرنسية. واستمرت التناقضات والمعوقات والتشوّش سمة من سمات القانون البريطاني حتى عكف بنثام Bentham عليها وأخضعها لمثابرته ودقته ومتابعته للتفاصيل بُغية إصلاحها.
ومما زاد من صعوبة القبض على المجرمين قلة عدد رجال الشرطة في المدن وانعدامهم - تقريباً - في القرى. وكان المواطنون مضطرون إلى تكوين مجموعات تطوعية لحماية حياتهم وممتلكاتهم، وحتى عندما كان يتم القبض على المجرم، فإن يستطيع أن يؤخِّر سجنه أو يُفلت منه باستئجار المحامين ليجدوا له أسباباً لاستئناف الدعوى أو ليفتعلوها له أو ليبحثوا له عن ثغرات في القانون فقد كان مجالا لفخر المحامين أنه لا يوجد قانون إلا واستطاعوا اختراقه وتوسيع رتقه ليسيروا خلاله بعربة بل وستة خيول(7). وكان أفضل لمحة في القانون الإنجليزي هو حق المتهم في المحاكمة أمام هيئة محلفين. ومن الواضح أن هذه المؤسسة من مؤسسات الفرانك الكارولنجيين Carolingian Franks قد دخلت إنجلترا بشكلها الأوّلي مع الفتح النورماني. ولم يكن عدد هيئة المحلفين قد حُدِّد بعد باثني عشر عضوا حتى سنة 7631، وفي نحو ذلك الوقت فقط كانت الموافقة الاجتماعية للمحلفين على قرار واحد أمراً مطلوباً. وكان يتم اختيار المحلفين (عادة كانوا من الطبقة الوسطى) من بين قائمة تضم من ثمانية وأربعين إلى واحد وسبعين رجلاً بعد جدال بين الحزبين المتصارعين. وكان قُضاة الصلح يعينون بشكل دوري بواسطة هيئة محلفين كبرى في كل كونتية (إقليم)، وكان من المتوقع أن تأخذ المحاكم بتوصياتهم. وفي أثناء نظر القضايا كان المحلفون يسمعون الأدلة والمرافعات المختلفة ويقوم القاضي بتلخيص كل ذلك، وبعد ذلك ينسحبون إلى غرفة مجاورة ويُمنع عنهم الطعام والشراب والتدفئة والشموع (إلاّ بإذن القاضي) لتجنب أي تأخير غير مُبرَّر أو إسراف، إلى أن يصدروا حكمهم بالإجماع(8).
السلطة التنفيذية
من الناحية النظرية فإن الملك هو المخوَّل بالسلطة التنفيذية، ومن الناحية الفعلية فإنها مسؤولية مجلس وزرائه الذين لابد أن يكونوا أعضاء في البرلمان ومسؤولين أمامه عن أعمالهم ومعتمدين عليه في إقرار ميزانيات وزاراتهم. ومن الناحية النظرية فإن الملك هو الذي يُعيّن هؤلاء الوزراء، ومن الناحية العملية كان من المتوقع أن يختار الملك رئيس الوزراء زعيم الحزب الفائز في آخر انتخابات، ويقوم رئيس الوزراء هذا مع البارزين من حزبه بتعيين الوزراء. وكان وليم بت Pitt في ولايته Administration الأولى (3871 - 1081) قد قام بدور مزدوج كمستشار لوزارة المالية ومسؤول أول first Lord للخزانة وكانت هاتان المهمتان اللتان يقوم بهما مرهونتين بموافقة البرلمان فكل ما يتعلق بجمع الأموال المكونة للدخل الوطني وإنفاقها مرهونة بموافقة البرلمان. وفي مجلس الوزراء - والحكومة بشكل عام - كانت السلطة المالية هي الأداة الرئيسية للنظام والحكم.
ولم يقر الملك جورج الثالث بتبعيِّته للبرلمان فمنذ توليه العرش في سنة 0671 وهو في الثانية والعشرين من عمره عمل على تقوية الهيمنة الملكية، لكن الانهيار المكلِّف لقيادته في حرب الاستقلال الأمريكية وتعرضه بشكل متكرر لنوبات خلل عقلي (5671، 8871، 4081، 0181 - 0281) أوهن جسده وروحه وإرادته وبعد سنة 8871 سمح لوليم بت بالحكم بشروط ثلاثة: عدم تجريم الرّق وعدم السماح للكاثوليك البريطانيين بالتصويت (حق الانتخاب) وعدم إبرام سلام مع فرنسا حتى يعود لويس الثامن عشر إلى عرشه الذي هو حق له. وكان جورج الثالث رجلاً طيباً ولكنه كان قصير النظر ضيق الأفق من الناحية الدينية. وقد وصفه نابليون في أثناء أسره وفي معرض تذكره للأحداث الماضية بأنه - أي جورج الثالث أكثر الناس أمانة في بلاده(9) وكان يمتاز عن أسلافه الهانوفريين بالتزامه بكل الوصايا العشر ما عدا الوصية الخامسة وقصّر كثيراً في الوصية اللاوية أحب جارك كحبّك لنفسك لكنه أحب الشعب الإنجليزي. ورغم أخطائه فقد أحبه شعبه بدوره (بادله حباً بحب) بسبب ما حل به من نكبات - لأنه أحب دينه الذي ورثه عن أسلافه وأحب زوجته وبناته ولأنه أعطى الأمة مثلاً مُلهِماً لحياة البساطة والإخلاص. لقد تقطَّعت قلوب شعبه من أجله حباً له وحدباً عليه عندما لوَّث معظم أبنائه ألقابهم الأميرية بعدم انضباطهم عسكرياً وانعدام وعيهم وممارستهم المقامرة وغلوّهم الطائش الذي أدى إلى انهيارهم جسدياً وتدهور شخصياتهم، رغم أن أباهم كان رجلاً طيباً. لقد وصفهم ولنجتون: إنهم أكبر لعنة يمكن تصورها تحيط برقبة حكومة(01). لقد كان أكبرهم - جورج أمير ويلز مزعجاً بشكل لا يمكن تصوّره. لقد كان جذاباً وسيماً وكان على وعي بذلك. وكان قد تلقى قدراً طيباً من التعليم ويستطيع التحدث بالفرنسية والألمانية والإيطالية بطلاقة وكان يُحسن الغناء ويعزف على الفيولونسيلو Violencello (آلة موسيقية إيطالية) ويكتب الشعر كما كان مُلماً بالأدب الإنجليزي المعاصر، وكان يُعد من بين أصدقائه الحميمين ريتشارد شريدان وتوماس مور كما كان راعياً ذكياً للفنون وأقام في دار كارلتون Carlton House مؤسسة أميرية جعل فيها أثاثاً أنيقاً من أموال الأمة واشتغل بالسياسة ونافس شارلز جيمس فوكس في اهتمامه الشديد بالسياسة، وأصاب والده بالذعر عندما أصبح معبوداً لحزب الهويج (الأحرار) وكان أيضاً يحب الشباب المتأنقين الذين أنفقوا ثرواتهم على الملابس الأنيقة والنساء والخيول والكلاب(11). حذا حذو هؤلاء البريتون في إقامة مباريات تكسبية ولم يكن له نظير في إنفاقه وديونه. وخصَّص البرلمان مرات عديدة مئة ألف جنيه لسداد ديونه(21).
وفي السابعة عشرة من عمره اعترف أنه مغرم بالنساء والنبيذ أكثر من أي شيء آخر وكان من بين خليلاته الأوليات - ماري روبنسون التي فتنته بقيامها بدور بيرديتا Perdita في حكاية شتاء A Winterصs Tale، وظل ينفق عليها ببذخ طوال ثلاث سنوات. ثم كوَّن علاقة أكثر جدية مع ماريا آن فيتسهيربرت Maria Anne Fitzherbert التي ترمَّلت مرّتين (مات عنها زوجها فتزوجت غيره ومات بدوره) وكانت كاثوليكية وأكبر منه بست سنوات، وكانت رقيقة لطيفة متحررة وقد رفضت أن تكون خليلته لكنها لم تمانع في الزواج منه. وكان قانون وراثة العرش الذي كان قد أعطى عرش إنجلترا لأسرة هانوفر قد استثنى من حق المُلك كل من يتزوج كاثوليكية أو تتزوج كاثوليكياً، كما منع قانون 2771 أي فرد في الأسرة المالكة دون الخامسة والعشرين من الزواج دون موافقة الحاكم. ومع هذا فقد تزوج الأمير من السيدة ماريا فيتزهيربرت (5871) بعد أن دفع لراعي أبرشية شاب خمسمائة جنيه ليقوم بإجراءات (طقوس) الزواج غير الشرعي، مما أدى إلى احتفاظه بحق وراثة العرش إذ ادعى هذا الحق في سنة 8871 عندما انتابت والده نوبة خَبَل فراح يترقب موت والده بصبر نافد، وقلما كان الابن وأبوه على وفاق.
وعلى كل حال فقد كان هناك اتفاق أنه إذا دفع الملك (عملياً البرلمان) ديون الأمير (000،011 جنيه إسترليني) قام الوريث الظاهر بترك زوجته الأدنى منه منزلة وتزوج قريبة والده الأميرة كارولين البرونسو كيه of Brunswick. لقد بدت في عينيه دميمة غير مشجعّة، وبدا في عينيها سميناً مقرفا، لكنهما تزوجا في 8 أبريل 5971، وقد أكدت كارولين فيما بعد أنه قضى ليلة العُرس (الدُّخْلة) وقد أضاع الشراب همّته(31). وعلى أية حال فقد أنجبت له بنتاً في 7 يناير 6971 (الأميرة شارلوت Charlotte) وسرعان ما فارقها وعاد لفترة إلى زوجته السابقة السيدة فيتزهيربرت التي كانت فيما يبدو المرأة الوحيدة التي أحبها بعمق. (عندما مات وجدوا صورتها معلقة على صدره)(41).
وفي نوفمبر سنة 0181 أصبح جورج الثالث مجنوناً تماماً بعد إنكساره أمام المعارضة البرلمانية، وخجلاً من تصرفات ابنه وحزناً على وفاة ابنته أميليا Amelia. وطوال تسع سنين بعد ذلك أصبح ملك إنجلترا مقيداً كمجنون يرتدي سترة المجانين وأشفق عليه شعبه وأحبه، بينما تولى الوصي على العرش (الابن الآنف ذكره) مكانه مدّعياً السلطة الملكية والأبهة، وكان وقتها قد أصبح سميناً محطماً رقيقاً ديّوثاً Cuckolded مكروهاً محتقراً.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الدين
كانت الحكومة وأهل الفكر في إنجلترا قد وصلوا إلى اتفاق شرف (اتفاق يسري بمراعاة الشرف لا بقوة القانون) بخصوص الدين. فالهجوم الذي شنه الربوبيون على العقيدة التقليدية orthodox لابد أن تخف وطأته مادام المتشككون في الدين (المسيحي) ليس لديهم ما يحل محل الدين لتحقيق السلام بين الناس وضبط سلوك الأفراد. لقد كان وليم جودون، وروبرت أوين Owen، وجيرمي بنثام وجيمس مل أمثلة حية لعدم الإيمان (بالمسيحية) لكنهم لم يقوموا بدعاية ضد الدين. وكان توم بين Paine استثناء منهم. وكانت الأرستقراطية الإنجليزية - التي وجدت في فولتير الشاب ما يجذبها - تراعي الآن حرمة السبت بوضوح. لقد لاحظ مؤرخ حوليّ في سنة 8971 دهشة الطبقات الدنيا في كل أنحاء إنجلترا لرؤيتها الطرق إلى الكنائس غاصّة بالعربات التي تجرها الخيول في أيام الآحاد(51). وفي سنة 8381 لاحظ جون ستيوارت مِلْ: يوجد في العقل الإنجليزي سواء من ناحية التفكير والتأمل أو الممارسة بُعد صحّي على درجة عالية من البُعد عن التطرّف... لا تزعج الهدوء أو بتعبير آخر لا تغير ما هو مستقر Quieta non movere وكانت هذه هي العقيدة الأثيرة في تلك الأيام... وعلى هذا، ففي حالة عدم إثارة ضوضاء كثيرة حول الدين أو عدم تناوله بجدية شديدة فلم يكن لدى الناس حتى الفلاسفة مانع من تأييد الكنيسة باعتبارها حصناً ضد التعصّب ومسكناً للروح الدينية لمنعها من إفساد هارمونية المجتمع (اتساقه) أو تعكير صَفْو الدولة. ووجد الإكيروس أنهم حققوا صفقة طيبة بهذا الاتفاق والتزموا بشروطه بإخلاص(61). لقد كانت الكنيسة من الناحية الرسمية هي الكنيسة المتحدة لإنجلترا وأيرلندا. ورغم أنها قبلت تسعاً وثلاثين مادة من العقيدة الكلفنيّة إلاّ أنها احتفظت بكثير من ملامح الطقوس الكاثوليكية. لقد كانت تضم رؤساء أساقفة وأساقفة لكنهم عادة ما كانوا يتزوجون، وكان تعيينهم يتم عن طريق التاج. وبشكل عام كان كبار ملاك الأراضي المحليون هم الذين يختارون الكهنة والقسس البروتستنط، وكان هؤلاء الكهنة والقسس يساعدونهم في حفظ النظام الاجتماعي. واعترف الإكليروس الإنجليكان بالملك باعتباره رأس كنيستهم وباعتباره حاكماً، واعتمدوا على الدولة في جمع العشور للكنيسة من أسر إنجلترا. وقد وصف بورك Burke بريطانيا بأنها كومنولث مسيحي كانت فيه الكنيسة والدولة كياناً واحداً بل إنهما الشيء نفسه. إن كلاً منهما جزء مختلف عن الآخر لكنّه مكمّل له ووصف جون ولسون كروكر كنيسة وستمنستر Westminster Abbey بأنها جزء من الكومنولث البريطاني(81). لقد كانت العلاقة بينهما تشبه العلاقة التي بين الكنيسة الكاثوليكية وحكومة فرنسا في أثناء حكم لويس الرابع عشر مع فارق وهو أن إنجلترا لم تشهد - غالباً - اضطهادات أو مضايقات بسبب تهمة الهرطقة (الإلحاد).
وسُمِح للفِرَق (أصحاب المذاهب) المنشقة - الميتوديين (المنهجيين) والمشيخيِّين Persbyterians والمعمدانيين Baptists والإندبندنت (المستقلّين) والابرشيين congregation alists والكوكر Quakers والموحّدين (المناهضين للتثليث) Unitarians - بالدعوة لعقائدهم بشرط واحد: أن يُعلنوا أنهم مسيحيون(91) وكان هناك بعض من هؤلاء المنشقّين في مجلس اللوردات. وتحلّق عدد كبير من المستمعين حول المبشِّرين (الدعاة) الميتوديِّين لما عُرفوا به من بلاغة رائعة. ولجأ عمال المدن المعارضون بعد أن يئسوا من تحقيق آمالهم في الدنيا إلى عقيدتهم البسيطة (عقيدة الطفولة) وبهذه العقيدة البسيطة قاوموا كل الجهود لتحريضهم على الثورة عندما تسلّلت الأفكار الثورية عَبْر القنال الإنجليزي من فرنسا. وفي سنة 2971 طلب القادة الدينيون لجماعة الوِزليان الميتوديّين من كل عضو من أعضائهم أن يقسم يمين الولاء والطاعة للملك(02).
وفي نطاق الكنيسة الرسمية نفسها وجدنا تأثير الميتودية الحركة الإنجيلية Evangelical؛ كثير من رجال الدين صغار السن وكذلك كثير من جمهور المؤمنين (بالمذهب) قرروا إحياء العقيدة الإنجليكانية بتناول الإنجيل بحماسة وعاطفة (وضعه في القلب)، وتكريس أنفسهم لحياة البساطة والتقوى والإحسان وإصلاح الكنيسة. وكان أحدهم هو وليم ولبرفورس هو الذي قاد معركة الإنجليز ضد الرق، وهناك أيضاً حنا مور Hannah More التي نشرت حماساً مسيحياً جديداً بمحاضراتها وكتبها ومدارس الأحد التي أسستها. وظلت جماعتان دينيتان خارج دائرة التسامح الكامل: الكاثوليك واليهود. لم يكن البروتستنط الإنجليز قد نسوا جاي فوكس Guy Fowkes ومحاولته نسف البرلمان (5061) ولا مغازلات ملوك ستيوارت Stuwart - شارلز الأول وشارلز الثاني وجيمس الثاني - للقوى الكاثوليكية والأفكار الكاثوليكية والخليلات الكاثوليكيات، ومال الإنجليز إلى النظر للكاثوليكي كشخص يُوالي حاكما أجنبياً (كان الباباوات يمثلون سلطة زمنية كحكام للولايات الباباوية)، وكان الإنجليز يندهشون كيف سيتصرف الكاثوليكي في حالة حدوث صراع بين الحَبْر الروحاني (البابا) والملك البريطاني.
وكان في إنجلترا في سنة 0081 نحو ستين ألف كاثوليكي. كان معظمهم من أصول أيرلندية لكن بعضهم كان ينحدر من سلالة كاثوليكية متوطنة قبل حركة الإصلاح الكاثوليكية في بريطانيا Pre. Reformation British Catholics. وفي الفترة الزمنية التي نتناولها كانت القوانين المناهضة لهم قد خفَّت وطأتها، فثمة مراسيم مختلفة صدرت فيما بين 4771 و 3971 أعادت لهم حق تملّك الأراضي وحق العمل في مجال الخدمة المدنية وحق الدعوة لعقيدتهم من خلال مدارسهم الخاصة بهم، وحقهم - على نحو خاص في ترديد قسم الولاء للملك والحكومة دون التبرؤ من البابا أو جحده. إلاّ أنه لم يكن لهم - على أية حال - حق التصويت، ولم يكن لهم حق ترشيح أنفسهم لعضوية البرلمان.
وفي نحو نهاية القرن الثامن عشر بدت حركة إعطاء الكاثوليك كل حقوق المواطنة على وشك النجاح، وأيدها بروتستنط بارزون - وزلي، وكاننج، وولبر فورس، ولورد جراي Grey. وقد أدّت الثورة الفرنسيّة إلى موقف مضاد لفولتير في إنجلترا بل وموقف مضاد لحركة التنوير، كما أدّت إلى شيء من التعاطف مع الدين (المسيحي) الذي تعارضه الحكومة الثورية (الفرنسية)، وبعد سنة 2981 تلَّقى المهاجرون الفرنسيون (الذين تركوا فرنسا إثر أحداث الثورة الفرنسية) استقبالاً حاراً ومساعدات مالية من الدولة البريطانية وكان بينهم رجال دين كاثوليك. وسمحت الدولة البريطانية لهؤلاء المهاجرين بإقامة أديرة، وحلقات بحثية. إن إنجلترا تبدو الآن في موقف سخيف (منافٍ للعقل) فقد كان الاتجاه أن الكنيسة الكاثوليكية يمكن أن تكون حليفاً ذا قيمة في حربها ضد فرنسا. وفي سنة 0081 قدَّم بِتْ Pitt مشروع قانون لمنح كاثوليك إنجلترا حقوقهم كاملة. وعارض التوري (المحافظون) والكنائس والإنجليكانية العليا هذا القانون وأيدهم جورج الثالث بعزم، فسحب بِتْ مشروع قانونه واستقال، وكان على تحقيق الكاثوليك للمساواة الكاملة في إنجلترا أن ينتظر حتى سنة 9281.
أما مساواة اليهود في إنجلترا فتأخرت حتى سنة 8581. كان عددهم في سنة 0081 نحو 000،62؛ معظمهم في لندن وكان بعضهم في المدن الكبرى ولم يكن منهم - تقريباً - أحد في الريف. وقد أوقفت الحربُ الطويلة مزيداً من عمليات التهجير وسمحت لليهود بمواءمة أنفسهم مع أساليب الحياة البريطانية وإزالة بعض الحواجز العرقية. وظل القانون الإنجليزي يحول بينهم وبين حق الانتخاب وتولي المناصب الكبرى فذلك كان يتطلب قَسَماً بالإخلاص للعقيدة المسيحية وإقامة الشعائر على وفق لطقوس الكنيسة الرسمية في إنجلترا. وفيما عدا ذلك فقد كان اليهود أحراراً ولهم حق العبادة في منازلهم ومعابدهم دون خفاء، وقبِل عدد من اليهود البارزين التحوّل إلى المسيحية - صامويل (صموئيل) جِدون Gideon رجل المال، وديفد ريكاردو Ricardo الاقتصادي وإيزاك (إسحق) المؤلف. وهذا الأخير نشر فيما بين 1971 و 4381 نوادر الأدب دون أن يسجل اسمه عليه (تركهُ مجهول المؤلف)، وقد كان يكتبه بشكل عَرَضي أو مصادفة (أي كلما أتيحت له الظروف)، ولازال هذا الكتاب ممتعاً لأصحاب العقول المتعلِّمة التي تأنس للمتعة والراحة. إن خبرات اليهود الطويلة في أعمال البنوك وارتباطاتهم العائلية والأسرية عبر الحدود مكنتهم من مساعدة الحكومة البريطانية في حرب السنوات السبع وفي نزاعها الطويل مع فرنسا. وساعد الأخوان ابراهام (إبراهيم) جولدسمد، وبنيامين جولدسمد، بِتْ، في كسر طوق السماسرة المبتزين الذين كانوا قد احتكروا التعاملات مع الخزانة. وفي سنة 0181 أسس ناثان روتشيلد Rothschid (7771 - 6381) في لندن فرعاً للشركة التي كان أبوه - مِيَر أمشيل روتشيلد - قد أسسها في فرانكفورت-أم-مين Frankfurt-am-Main وبدا ناثان أكثر الماليين عبقرية - تلك العبقرية التي مازت الأسرة خلال عدة قرون في عدة دول. وأصبح هو الوسيط الأثير للحكومة البريطانية في علاقاتها المالية مع القوى الأجنبية، وكان هو - أو وكلاؤه - الذي نقل من إنجلترا إلى النمسا وبروسيا المساعدات التي مكنتهما من حرب نابليون، وقام بدور رائد في التوسع التجاري والتطور الصناعي في إنجلترا بعد سنة 5181(12).
التعليم
بدت إنجلترا وكأنها اعتزمت أن تعرض قضية عدم إرسال أطفالها إلى المدارس، فكيف تستمر الحكومة دون الالتزام بهذا الواجب؟ ولم يكن الأرستقراطيون مهتمين بالتعليم إلاّ بالنسبة إلى أبنائهم. لقد بدا من الأفضل بالنسبة إلى الوقت الراهن (في ذلك الوقت) ألا يستطيع الفلاحون والبروليتاريا - بل وربما البورجوازيون - أن يقرأوا خاصة وأن جُودون، وأوين Dwen Owen وكوبت Cobbett وبين Paine وكولردج وشيلي كانوا يطبعون في هذا الوقت هذا الهراء عن الأرستقراطية الاستكشافية (التمهيدية) والكميونات الزراعية ورِقّ المصانع وضرورة الإلحاد. لقد كتب جودون نحو سنة 3971: المصممون على الدفاع عن النظام القديم ليس لديهم بصيرة نافذة. إنهم يعارضون بخسّة توصيل المعرفة للناس باعتباره بدعة تدعو إلى الحذر. ففي ملاحظتهم المشهورة إن الخادم الذي يعرف القراءة والكتابة لا يصبح بعد تعلّمهما هو الأداة التي يطلبونها نجد الجنين أو البذرة التي يسهل علينا من خلالها شرح كل فلسفة المجتمع الأوروبي(22). بالإضافة إلى أن الطبقات الدنيا فيما ترى الطبقات الأعلى غير قادرة على الحكم بحذر وحكمة على الأفكار التي تُطرح عليهم في المحاضرات أو الصحف أو الكتب، وقد تكون أفكاراً مثيرة تخرّج من المدارس على مستوى الأمة أفواجاً من غير الأسوياء السذّج الحالمين الذين قد يحاولون تحطيم السلطات (القوى) والامتيازات الطبقية هي الوحيدة التي يمكنها حفظ النظام الاجتماعي والحضارة. وكان أصحاب الصناعات قد اعتراهم الفزع من منافسيهم فكانوا يتطلعون إلى العمالة الرخيصة ولم يروا جدوى من تعليم الأطفال العاملين حقوق الإنسان وفخامة اليوطوبيا وبهائها (اليوطوبيا هي المدينة المثالية). لقد قال واحد من المحافظين غير المعروفين، اقتبس منه جودون قوله: إن هذه المبادئ سوف تثور بلا شك في عقول السّوقة محدثة هياجاً.. أو محاولة وضعها موضع التنفيذ (أي هذه المبادئ) مما سيؤدي إلى كل أنواع الكوارث... فالمعرفة والذوق وتطوير الفكر واكتشافات الحكماء وجمال الشعر والفن كل ذلك سيتم سحقه تحت أقدام البرابرة(32).
وفي سنة 6081 قدَّر باتريك كولكهون Colquhoun القاضي البوليسي في لندن - أن عدد الأطفال الذين لم يتلقوا أي قدر من التعليم في إنجلترا وويلز بلغ مليونين، وفي سنة 0181 ذكر إسكندر مري Murray عالم فقه اللغة أن ثلاثة أرباع العمال الزراعين أميون، وفي سنة 9181 ذكرت الإحصاءات الرسمية أن 388،476 طفلاً ملحقون بالمدارس في إنجلترا وويلز - 51% من السكان(42). وعندما اقترح بِت Pitt في سنة 6971 على الحكومة إنشاء مدارس للتعليم الصناعي، لم يُقدَّم مشروعه للتصويت، وعندما قدَّم صمويل (صموئيل) هويتبريد whitbread في سنة 6081 مشروع قانون بإقامة مدرسة ابتدائية في كل دائرة (كما كان موجوداً بالفعل في إسكتلندا) أقرّه مجلس العموم، لكن مجلس اللوردات رفضه على أساس أن هذا المشروع لا يجعل التعليم قائماً على أُسس دينية. وكانت الجماعات الدينية تفرض رسوما على نفسها لإتاحة بعض التعليم لأطفالها، وواظــب المجتمـع علـى إقامــة مدارس خيريـة لتقـديم المعـارف المتعلقة بالدين المسيحي، لكـن عـدد التلاميـذ فـي هـذه المدارس لم يكن يتجاوز 000،051(52). وكانت مدارس حنا مور Hannah More تكاد تكون مقتصرة على التعليم الديني. وبناء على قانون الفقراء Poor Law تم إنشاء المدارس الصناعية لتستوعب 006،12 طفل لتأهيلهم للعمل، وكانت هناك إدارة منوط بها تنفيذ هذا القانون يتبعها 419،491 طفلاً. وفي المدارس الدينية لم يكن الأطفال يتعلمون إلاّ شيئاً واحداً بإتقان ألا وهو الكتاب المسيحي المقدس. لقد أصبح عقيدتهم وأدبهم وحكومتهم ومُعيناً له وزنه وقيمته يُعينهم في حياة لا تخلو من سوء حظ وظلم وارتباك.
وفي سنة 7971 أسس الدكتور أندرو بل Beel نظام العرِّيفين أو المعيدين لمواجهة نقص المدرسين، وذلك بالاستعانة بالطلاب الأكابر سناً كمدرسين مساعدين في المدارس الابتدائية المرتبطة بنظم العبادة الإنجليكانية. وبعد ذلك بعام قدَّم جوزيف لانكاستر Lancaster مشروعاً شبيهاً على أسس قبلها كل المسيحيين ورفض رجال الكنيسة العمل من خلال هذه الخطة غير الطائفية (المفهوم غير الملتزم بعقائد فرقة مسيحية بعينها) فقد كان لانكاستر متهما بأنه ربوي Deist (مؤمن بالله مع عدم اعترافه بأديان منزّلة) مُرتد (عن دينة) وأداة للشيطان(62) وفي سنة 0181 أسس جيمس مل،و ولورد بروهام Brougham وفرانسيس بلاس Place، وصمويل (صموئيل) روجرز المؤسسة الملكية اللانكسترية لنشر المدارس غير الطائفية. وأسس الأساقفة الإنجليكان جمعية تعليم الفقراء على أسس المبادئ الدينية للكنيسة الرسمية وذلك خوفاً من انتشار التعليم غير الطائفي المشار إليه آنفاً. ولم يُؤسس في إنجلترا نظام وطني للمدارس الابتدائية على أسس غير طائفية إلاّ في سنة 0781.
وكان التعليم العالي متاحاً أيضاً لمن يقدر على تكاليفه، وذلك من خلال الأساتذة الذين يعلّمون في المنازل، ومن خلال المدارس العامة والمحاضرين وجامعتين. فالمدارس العامة - في إتون Eton وهارو Harrow ورجبي Rugby ووينشستر Winchester ووستمنستر، وشارترهوس، كانت مفتوحة مقابل مصروفات لأولاد النبلاء والطبقات العليا وكان يُسمح بها في بعض المناسبات للبورجوازية الثرية. وكانت برامج الدراسة في هذه المدارس كلاسية في الأساس - لغة وأدب الإغريق القدماء والرومان، وفي بعض الأحيان كان يتم إضافة بعض العلوم Sciencos لكن أهالي الطلبة كانوا يريدون تدريب أولادهم على فن الحكم والصُّحبة الرفيعة، وكانوا مقتنعين أن الشاب إذا تعلّم أدب الإغريق والرومان وتاريخهما وفن الخطابة كان ذلك أجدى لتحقيق الغرض من تعلم الفيزياء والكيمياء والشعر الإنجليزي. وعلى أية حال فإن هذه المدارس كانت تقدم ملتون الذي كان يكتب اللاتينية بكفاءة تقارب كفاءته في كتابة الإنجليزية - كمؤلف لا يقل كفاءة عن الرومان.
وكان النظام في المدارس الثانوية (الداخلية) الأهلية Public Schools قائماً على الجلد والانتقاد القاسي flogging. والتكدير أو إلزام التلاميذ الصغار على خدمة الطلاب الآخرين ممّن هم أكبر سناً. وكان نظّار المدارس يجلدون الذين يرتكبون مخالفات كبيرة، أما إجبار التلاميذ الصغار على خدمة من هم أكبر فتعني أن يقوم التلاميذ في الصفوف الدنيا بأداء خدمات صغيرة لطلاب الصفوف الأعلى: ينقلون رسائلهم، وينظفون أحذيتهم ويعدّون لهم الشاي، ويحملون كُراتهم ومضارب الكريكت الخاصة بهم، ويتحمّلون تنمّرهم صابرين، وكانت النظرية الكامنة وراء هذا الأسلوب هي أن على المرء أن يتعلّم كيف يُطيع حتى يكون صالحاً لإصدار الأوامر. وكانت النظرية السائدة في الجيش والبحرية أيضاً قائمة على الجَلْد والانتقاد الشديد وقيام من هم أدنى رُتبة بخدمة من هُم أعلى رتبة وتنفيذ الأوامر دون اعتراض الطاعة الصامتة (وعلى هذا فإن الانتصار الذي تحقَّق في الطرف الأغر وفي واترلو لم يكن نتيجة الجهود في ميدان القتال فحسب وإنما أيضاً نتيجة ما كان يجري في قاعات وفصول المدارس الثانوية الأهلية)، وإذا ما وصل طالب الصفوف الدنيا الذي كان يخدم طالب الصفوف العليا أصبح مستعداً للدفاع عن هذا النظام. وكان هناك بعض الديموقراطية في حضّانات الأرستقراطية هذه (أو بتعبير آخر في معامل تفريخ متعلّمي الطبقة الأرستقراطية: لقد كان كل الخَدَم fags (الطلاب الذين يخدمون من هم في الصفوف الأعلى) متساوين بصرف النظر عن الثروة والنّسب، وكان كل المتخرّجين (إذا تحاشوا التجارة) يعتبرون أنفسهم سواء، ويعتبرون غيرهم أدنى منهم درجة مهما كانت مواهبهم.
ومن مثل هذه المدارس التي يتخرّج فيها الطالب وهو عادة في الثامنة عشرة من عمره، يلتحق بأكسفورد أو كمبردج. وكانت هاتان الجامعتان قد انحدرتا عن وضعهما الممتاز في أواخر العصور الوسطى وعصر النهضة، ولم يكن جبون Gibbon هو وحده الذي تأسف على الأيام التي قضاها في أكسفورد باعتبارها أياماً ضاعت في دراسات غير مجدية (رغم أنه استفاد كثيراً من من دراسته للغتين؛ اللاتينية واليونانية) وتنافس بين الطلاب في المقامرة وشرب الخمر ومعاشرة البغايا. وكانت موافقة الكنيسة الرسمية شرطا للتقدم لإحدى هاتين الجامعتين. وكان المعلمون أو العمداء يقومون بالتدريس، وكان كل واحد يأخذ على عاتقه طالباً أو أكثر وينقل إليهم معارفه وخبراته العلمية بأسلوب المحاضرة أو التوجيه والإرشاد، وهنا أيضا كانت الدراسات الكلاسية تسود المنهج الدراسي، لكن كان هناك أيضاً مكان للرياضيات والقانون والفلسفة والتاريخ الحديث، وكانت هناك أيضاً محاضرات في الفلك والفيزياء والنبات والكيمياء لكنها كانت قليلة.
وكانت جامعة أكسفورد من التوري (الاتجاه السائد فيها محافظ) أما كامبردج فكانت هويج (الأفكار السائدة فيها كأفكار حزب الأحرار أو الهويج). وفي كامبردج لم يكن يحصل على الدرجة العلمية إلا التابعون لكنيسة إنجلترا، رغم أن القيود المفروضة كشرط للالتحاق بهذه الجامعة وعددها تسعة وثلاثون قد أُزيلت. وكانت كامبردج هي التي سنّت الحرب على الرق منذ سنة 5871. ووجد العلم Science في كامبردج معلّمين أكثر وطلبة أكثر مما وجد في أكسفورد، وكانت كلتا الجامعتين متخلِّفة عن جامعات ألمانيا وفرنسا. وكانت أكسفورد تدرِّس لطلبتها الفلسفة من كتب أرسطو، وأضافت كامبردج كتابات لوك Locke وهارتلي Hartley وهيوم Hume، وكانت كامبردج تخرِّج باحثين ذوي شهرة عالمية، أما أكسفورد فكانت أكثر اهتماماً بتخريج أفراد على قدر من الفصاحة، وملمّين بالاستراتيجية في البرلمان كي يصبحوا - بعد تجارب وخبرات، ومن خلال ارتباطات صحيحة - أصحاب أدوار في حكومة بريطانيا.
المبادئ الأخلاقية
الرجل والمرأة
أي نوع من الأخلاق يمكن أن ينبثق عن هذه الحكومة الطبقية، وهذا الاقتصاد المتغير، وهذه الوحدة بين الدولة والكنيسة، وهذا التعليم المحدود انتشاره، والمحدود في محتواه، وهذا التراث الوطني الذي كان في وقت من الأوقات قويا مؤثراً بسبب العُزلة التي تحدّتها الآن الاتصالات بالعالم الخارجي والثورة والحرب؟
ليس الرجال والنساء من الناحية الطبيعية naturally ملتزمين بالمبادئ الأخلاقية لأن مواهبهم الاجتماعية التي تُؤثر التعاون والعمل المشترك ليست في قوّة بواعثهم الفردية ورغبتهم في تحقيق مصالحهم الذاتية، ومن هنا كان لابد من تقوية الباعث الاجتماعي وإضعاف الباعث الفردي بسن القوانين المعبّرة عن قوة الجماعة ورغبتها، وبالمواثيق الأخلاقية التي يتم بثّ محتواها من خلال الأسرة والكنيسة والمدرسة والرأي العام والعادات وتحديد المحرمات (الطابو أو التابو taboos). من الطبيعي إذن أن تكثر الجرائم في إنجلترا في الفترة من 9871 إلى 5181 وأن تكثر حالات عدم الأمانة، وأن يكون هناك ما لاحصر له من العلاقات الجنسية قبل الزواج، وإذا كان لنا أن نصدّق هوجارث Hogarth وبوزول Boswell فقد كانت بيوت الدعارة والمومسات تملأ لندن والمدن الصناعية. وكان أفراد الأرستقراطية يجدون البغايا أقل تكلفة من الخليلات مدبّرات شؤون المنزل، فاللورد إجريمونت Egremont الذي كان يفيض بكرمه على تيرنر Turner وغيره من الفنانين، يقال إنه استمتع بسلسلة من الخليلات أنجب منهن أطفالاً كثيرين.. وعلى أية حال فد زادت الشائعات أخباراً عن علاقة أصدقائه الدافئة به(72) ويمكننا أن نحكم على أخلاق الطبقات العليا من خلال محاكاتهم لأمير ويلز واستئناسهم بأخلاقه، وكان هذا الأمير قد نشأ وسط أكثر الأرستقراطيين فجوراً وانحلالا. لقد كانوا ثُلَّة لم تشهد إنجلترا مثيلاً في فجورها وانحلالها منذ العصور الوسطى(82).
وربما كان الفلاحون يحترمون القيم الأخلاقية القديمة، لأن تنظيم الأسرة بما يخدم أغراض الزراعة يستلزم سلطة أبوية قوية، وقلما يسمح للشباب بالإفلات من سلطة من هم أكبر سنا. وعلى أية حال، فقد كانت البروليتاريا النامية قد تحررت من مثل هذه الهيمنة مقلّدة مستغليها في حدود ما تسمح به دخولهم (أي دخول البروليتاريا)، وقد كانت الأجور المتدنية في المصانع الصغيرة غير المنضبطة تمثل دافعاً قوياً للفسق(92) بالنسبة إلى النسوة العاملات في المصانع ليبعن أجسادهن بثمن بخس ليُضفنه (أي هذا الثمن) إلى أجورهن المتدنية.
وحتى سنة 9291 كان العمر القانوني الذي يُسمح فيه بالزواج هو 41 سنة للذكور و 21 للإناث. وكان الزواج العادي ارتزاقا أو مصدر تعيّش وكسب. فالرجل (الزوج) كان مرغوباً بقدر ما لديه من مال فعلي أو متوقع، وكذلك كانت المرأة (الزوجة) مرغوب فيها بقدر مالها الموجود فعلاً أو المتوقع الحصول عليه، وكانت الأمهات يخططن ليل نهار (كما في روايات جين أوستن Austen) لتزويج بناتهن بُغية الحصول على المال. ومع أن الأعمال الأدبية تُعلي من شأن الزواج عن حب، إلا أن مثل هذا الزواج كان استثناء لا قاعدة. وكان الزواج على وفق للقانون العام مُعترفاً به رغم عدم عقده بواسطة رجال الدين وكان عدد أفراد الأسرة كبيراً لأن الأطفال كانوا يُعينون الأسرة من الناحية الاقتصادية، وكان عددهم (الأطفال) في المصانع أقل بقليل من عددهم في المزارع. وكان منع الحمل يتم بطرق بدائية. وكان عدد السكان يزداد لكنها كانت زيادة بطيئة بسبب وفيات الأطفال والشيوخ، وبسبب نقص الغذاء ونقص الرعاية الطبية وعدم مراعاة قواعد الصحة العامة. وانتشر الزنا، وكان يمكن أن يطلب الزوج الطلاق، وكذلك المرأة (بعد سنة 1081)، لكن هذا لم يكن ليتم دون إذن من البرلمان، وكان هذا يكلِّف كثيراً جداً، لدرجة أنه لم يحصل على الطلاق إلا 713 شخص قبل أن يصطبغ القانون بطابع ليبرالي في سنة 9581. وحتى سنة 9581 كانت الممتلكات المنقولة للزوجة تصبح مُلكاً للزوج عند الزواج، بالإضافة إلى أنه كان يحصل تلقائياً على كل مالٍ يأتيها بعد الزواج، لكنها كانت تحتفظ بملكية الأرض الخاصة بها أما الريع فلزوجها وإن ماتت قبله ورث كل ممتلكاتها(03).
وسمعنا عن نسوة ثريّات لكنهن كن قليلات العدد. وجرى العُرف أن يقوم الأب الذي ليس له ولد (ذكر) بوقف ثروته على أحد أقربائه الذكور، تاركاً بناته دون مال يرثنه وإنما يعشن على إعانات الأصدقاء ومن يتلطّف عليهن. إنه عالم الرجال.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ماري ولستونكرافت
لقد تعوّد معظم النساء البريطانيات على هذا الجوْر بحكم ما اعتدْنَ عليه، لكن الرياح الآن تهب من فرنسا الثورية، فدفعت بعض اللائي يعانين إلى الاحتجاج، وقد أحسَّت ماري ولستونكرافت Wollstonecraft بهذه الرياح فرفعت عقيرتها مطالبة بتحرير المرأة، وكانت مطالبتها من أقوى المطالبات التي شهدتها حركة تحرير المرأة.
وكان أبوها من أهل لندن وقرر أن يجرب العمل في مجال الزراعة ففشل وفقد ثروته وزوجته فعكف على الشراب وتخلى عن بناته الثلاث فتركهن يدبّرن أمور معيشتهن بأنفسهن، فافتتحن مدرسة فامتدحهن صامويل (صموئيل) جونسن لكنهم أفلسن وأصبحت ماري مربّية أطفال لكنها طُرِدت من عملها بعد عام لأن الأطفال أحبوا مربّيتهم أكثر من حبّم لأمّهم(13) وفي هذه الأثناء كتبت عدة كتب من بينها دفاع عن حقوق المرأة الذي كتبته في سنة 2971 وهي في الثالثة والثلاثين من عمرها.
وقد أهدت كتابها إلى م. تاليران - بيريجورد M. Talleyrand Perigord أسقف أوتون Auten الراحل مع إشارة إلى أنه ما دامت الهيئة التأسيسية قد أعلنت حقوق الإنسان فهي ملزمة أخلاقيا بإعلان حقوق المرأة. وربما رغبة منها في تسهيل طريقها وتحقيق أهدافها تحدثت بنبرة أخلاقية عالية معترفة بولائها لبلادها وتمسكها بالفضلية، وإيمانها بالله. ولم تتحدث إلاّ قليلاً عن حق النساء في التصويت لأن نظام التمثيل النيابي كله الآن في هذه البلاد ليس إلا أداة في يد الحكم الاستبدادي (حكم الفرد) فلا مجال لشكوى النساء لأنّهن معدودات كطبقة ذات عدد للعمل الشاق وكأنهن آلات، يدفعن لدعم الملكية عندما يصبحن قادرات بشق النفس على إسكات أصوات أطفالهن بحشوها خبزاً ومع هذا فإنني حقا أعتقد أنه من الضروري أن يمثل النساء في البرلمان بدلا من أن يُسْلبن حقهن في أي مشاركة مباشرة في تفكير الحكومة وتخطيطها(23). وأشارت كمثال على انحياز القانون للرجل إلى قانون حق الابن البكر في ميراث أبيه، وحق الأب في وقف ممتلكاته على نسله أو أقاربه من الذكور، وذكرت أن الأعراف والعادات أشد قسوة على المرأة من القوانين فهي تُدين - وتُعاقب - المرأة للحظة واحدة فقدت فيها طهارتها، رغم أن الرجال يظلّون محترمين بينما هم منغمسون في الرذيلة(33).
وربما صُدِم بعض القراء بإعلان ماري حق المرأة بالإحساس بالإشباع عند اللقاء الجنسي(43)، لكنها حذرت الجنسين قائلة إن الحب (المقصود هنا المتعة الجنسية) شهوة حيوانية لها نهاية(53) فالحب (المقصود هنا المتعة الجنسية) كعلاقة مادية لابد أن تحل محله الصداقة بالتدريج(63)، وهذا يتطلب احتراما متبادلا، والاحترام يتطلب أن يجد كل طرف (الزوج أو الزوجة) في الطرف الآخر شخصية متطورة (يعتبر الطرف الآخر كياناً له ذاته)(73) وهنا فإن أفضل طريق لتحرر المرأة هو اعترافها بأخطائها والتحقّق من أن حريتها تعتمد على تثقيف عقلها وسلوكها.
وراحت المؤلفة في كتابها تعدّد أخطاء النساء في زمانها: نزوعها إلى الضعف والجبن مما يغذي دعوى الرجل في التفوق والسيطرة ويُسعده، وإدمان لعب الورق والثرثرة والقيل والقال والتنجيم والتأثر العاطفي والتفاهة والاهتمام الزائد بالملبس والغرور. الطبيعة والموسيقا والشعر والكياسة، كل ذلك يميل إلى جعل النساء مخلوقات للإحساس.. وهذا الإحساس أو الشعور إذا ما زاد عن حده أضعف - بشكل طبيعي - قوى النفس الأخرى ومنع الفكر من الوصول إلى المرتبة التي يجب أن يشغلها... لأن التدرّب على الفهم والاستيعاب - كما تشير لنا الحياة - هو الطريق الوحيد الذي قدّمته لنا الطبيعة لتهدئة عواطفنا وانفعالاتنا ورغباتنا الجنسية(83).
وقد شعرت ماري أن كل هذه الأخطاء تقريباً راجعة إلى عدم المساواة مع الرجل في التعليم، وإلى نجاح الرجل في اقناعها بأن أفضل إمبراطورية لها وأحلاها هي أن تُمتع(93) (كما قالت لهن إحدى المؤلفات).
لقد امتعضت ماري من الأناقة المتكلّفة ومن التصنّع وراحت تنظر بحسد إلى النسوة الفرنسيات اللائي أصررن على تحصيل العلم واللائي تعلَّمن كيف يكتبن خطابات تعد من أجمل ما أنتجه العقل الفرنسي. في فرنسا تنتشر المعرفة أكثر من أي جزء آخر من العالم الأوروبي، وأنا أعزو ذلك في جانب منه إلى العلاقات بين الجنسين على المستوى الاجتماعي، تلك العلاقات التي كانت مستمرة منذ فترة طويلة(04). لقد لاحظت ماري ولستونكرافت قبل بلزاك بجيل أنَّ:
الفرنسي الذي يحكّم عقله في أمور الجمال أكثر من غيره، يفضل المرأة في الثلاثين من عمرها.. والفرنسيون يسمحون للنساء أن يكنّ في أكمل أوضاعهن عندما تتنازل الحيويّة لتعطي مكانها للعقل ولجدية الشخصية الدالة على النضوج... وفي مرحلة الشباب - حتى العشرين - يقذف الجسم خارج نفسه، وحتى الثلاثين تحقق الصلابة درجة من الكثافة، وتصبح عضلات الوجه المرنة يوما بعد يوم أكثر حدّة فتعطي شخصية للملامح - هذا يعني أنها تعبر عما يعتمل في النفس، فلا تخبرنا فقط عن القوى الكامنة فيها وإنما كيف يتم توظيفها(14).
لقد اعتقدت ماري أن أخطاء النساء راجعة كلها - تقريبا - إلى إنكار حق المرأة في تعليم مساوٍ لتعليم الرجل، وإلى نجاح الرجل في اقناع المرأة بأنها لُعبة جنسية قبل الزواج وحِلية للزينة وخادمة مطيعة وآلة للإنجاب بعد الزواج. ولكي نُعطي الجنسين فرصاً متساوية لتنمية عقولهم وأجسادهم لا بُد أن يتعلم الأولاد والبنات معاً (حتى مرحلة الإعداد للوظيفة أو المهنة) وأن يتلقوا المناهج الدراسية نفسها، بل وأن يشتركوا في الألعاب الرياضية نفسها، في حالة إمكانية ذلك. ولابد أن تجعل كل امرأة من نفسها إنسانة قوية البدن وذات كفاءة عقلية لتتمكن من كسب عيشها بنفسها عند الضرورة(24). وعلى أية حال فعاجلاً أو آجلاً ستلعب الوظائف البيولوجية والفروق الفسيولوجية بين الجنسين دورها(34). إن قيام المرأة بدورها كأم مفيد لصحتها، وقد يؤدي ما ذكرنا آنفاً إلى أن تصبح الأسر أقل عدداً وأقوى صحّة(44). إن تحرير المرأة بشكل مثالي يعني اتحاداً - على قدم المساواة - بين أم متعلمة وزوج متعلم(54).
وبعد أن رأت المؤلفة الشابة اللامعة كتابها في المطبعة عبرت القنال الإنجليزي إلى فرنسا، وقد كانت مفتونة بالسنوات الخلاقة التي عاشتها الثورة الفرنسية، لكنها الآن - أي الثورة - قد تردّت في المذابح والإرهاب. وأحبّت في باريس أمريكياً هو القبطان جيلبرت إملي Imlay ووافقت على الحياة معه دون ارتباط رسمي. وبعد أن أصبحت حُبلى غاب عنها إملي لعدّة شهور منشغلاً بأعماله أو أية أمور أخرى، فكتبت له خطابات تتوسّل فيها له أن يعود(64) وكانت خطاباتها بليغة لكنها كانت بغير جدوى تماماً كخطابات جولي دي ليبيناس Lespinasse قبلها بجيل. وفي سنة 4971 حملت طفلها الذي بغير أب، وعرض إملي أن يُرسل لها مبلغاً سنوياً لكنها رفضت وعادت إلى إنجلترا (5971) وحاولت إغراق نفسها في نهر التيمز لكن بعض المراكبية أنقذوها.
وبعد ذلك بعام قابلت وليم جودون Godwin الذي تزوجها على وفق القانون العام (دون حضور رجل دين)، ولم يكن أي منهما يؤمن بحق الدولة في تنظيم الزواج. وعلى أية حال فقد عقدا قرانهما على وفق الطقوس الدينية في 92 مارس 7971 تحسبا لطفلهما المرتقب. وتألقت - لفترة - بين الجماعة الثورية التي تحلّقت حول الناشر جوزيف جونسون وهم: جودون، وتوماس هولكروفت، وتوم بين، ووليم وردزورث، ووليم بليك Blake (الذي رسم رسوماً لبعض كتاباتها) وفي 03 أغسطس 7971 وضعت طفلة بعد معاناة شديدة، وبعد ذلك بسنوات عشر ماتت.
الأخلاق الاجتماعية
وعلى العموم فإن كل طبقات إنجلترا في هذه الفترة قد أسهمت في التفسخ الخلقي الذي عمّ البلاد، رغم ما أوردناه آنفاً عن حياة أشخاص عاشوا حياة مستقيمة ومحتشمة أهملها التاريخ. لقد كانت المقامرة شائعة تماماً، بل إن الحكومة نفسها (حتى سنة 6281) أسهمت فيها بإصدار اللوترية الوطنية (اليانصيب الوطني) وكان الإغراق في شرب الخمور أمراً متوطّناً كوسيلة للهروب من الضباب البارد والأمطار والفقر المُدقع والنزاعات الأسرية والتوترات السياسية واليأس الفلسفي (المقصود تبرير الواقع على نحو يائس) وقد اتفق بِت Pitt وفوكس - رغم ما بينهما من فروق - على تشجيع هذا السُّكر (المهدئ أو المخدر) كعامل مسكّن. وسُمِح للحانات أن تبقى مفتوحة في مساء السبت وحتى الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الأحد(74). لأن يوم السبت هو يوم استلام الأجور وبذلك يُتاح للحانات أن تكون أول من يحصل على نصيبها من هذه الأجور الأسبوعية، وكان أفراد الطبقة الوسطى يشربون باعتدال، أما أفراد الطبقات العليا فيسرفون في الشراب لكن كان عليهم أن يتعلموا حمل مُسْكرهم بثبات كحوض يرشَح بما فيه.
وكان الانغماس في الشراب يُتيح الفساد والرشوة في كل مستوى من مستويات الحكم. وفي حالات كثيرة - كما لاحظنا آنفاً - كانت الأصوات الانتخابية وعضوية المجالس المحلية والتعيينات والوظائف - وفي بعض الأحيان رُتب النبالة - تُشترى وتُباع علناً كما تباع الأسهم والسندات في سوق الأوراق المالية. ولم يكن جورج الثالث - وكانت فضائله متأصّلة - لا يرى بأساً في تخصيص أموال للحصول على أصوات الناخبين لأعضاء البرلمان أو توزيع الوظائف طلباً للدعم السياسي. وفي سنة 9081 كان ستة وسبعون عضواً في البرلمان يشغلون وظائف عاطلة مجموعة قليلة من المقربين الأثيرين بحكم القرابة أو المصلحة التي تربطهم بالأثرياء وذوي النفود - تتلقى رواتب ضخمة دون عمل يؤدّونه بينما الذين يعملون بالفعل يتلقون في حالات كثيرة رواتب أقل مما يستحقون(84) وكان القضاةُ يبيعون المراكز التابعة (الملحقة) لزمام مناطقهم القضائية وينتزعون من شاغليها حصّة من الرسوم التي يدفعها الناس لقضاء مصالحهم لدى الجهات الرسمية.
والحكومة قد تكون قاسية، كما قد تكون فاسدة قابلة للرشوة. لقد ذكرنا قسوة تشريعاتها العقابية. لقد كان إلقاء القبض على عابري السبيل لتجنيدهم إجبارياً في البحرية مقدمة لدفع رواتب متدنية وتقديم طعام سيء لهم، وضبطهم بقسوة وصرامة لا ترحم(94) وفي عدة مناسبات تمرّدت طواقم السفن، وأدّى أحد هذه الإضرابات إلى تعويق ميناء لندن طوال شهر. ومع هذا كان البحارة الإنجليز هم أفضل رجال بحر وأفضل مقاتلين في الأساطيل عرفهم التاريخ.
وكان هناك سعي وجهود كثيرة للإصلاح الأخلاقي، ففي سنة 7871 أصدر جورج الثالث إدانة لكسر أحكام السبت، والتجديف على الله، والسُّكر، والأدب الفاحش، ووسائل الترفيه اللاأخلاقية، ولم يسجّل التاريخ أثراً لهذه الإدانة. وقد دلّنا جيرمي بنثام Bentham التعاليم الإصلاحية البرلمانية Parliamentary Reform Catechism (9081) على اثنتي عشرة وسيلة لكشف الفساد السياسي وعدم الكفاءة السياسية. وكان لعظات الميتوديين، (طائفة دينية بروتستنطية) والإنجيليين (طائفة دينية بروتستنطية) بعض الأثر، وتضاعف تأثيرها عندما أثارت الثورة الفرنسية المخاوف، فقد أكد هؤلاء الدعاة أن أمة منضبطة أخلاقيا يمكنها أن تواجه بنجاح غزواً فرنسياً أو ثورة داخلية. وحاربت جمعية القضاء على الرذائل ضد المبارزة والمواخير وبيوت الدعارة والكتابات الداعرة (الأدب الإباحي). وهاجم إصلاحيون آخرون تشغيل الأطفال، واستخدامهم في تنظيف المداخن وقسوة أحوال السجون، ووحشية القوانين العقابية. وقد كان لموجة الاتجاه الإنساني (الحركة الإنسانية) التي انبثقت في جانب منها من ناحية، ومن حركة التنوير من ناحية أخرى أثر في نشر الأعمال التطوعية والخيرية والميل للإحسان وعمل الخير.
وكان وليام ولبرفورس أكثر المصلحين الإنجليز دأباً. لقد ولد في هَلْ Hull (9571) في أسرة ثرية تعمل في التجارة وتمتلك الضياع، وكان زميلاً لوليم بِت Pitt في كامبردج، ولم يجد صعوبة تُذكر ليحرز النجاح في انتخابات أوصلته للبرلمان (4771) بعد عام من تبوُّؤ وليم بِتْ منصب رئيس الوزراء. وعندما شعر بتأثير الحركة الإنجيلية Evangelical ساعد في تأسيس جمعية إصلاح عادات الشعب وأسلوب حياته (7871). والأهم من كل هذا أنه عارض أن تتسامح أمة تعتنق الديانة المسيحية رسمياً مع التجارة في الرقيق الإفريقي (تجارة العبيد).
وكانت إنجلترا الآن (في ذلك الوقت) رائدة في هذا المجال. وفي سنة 0971 نقلت السفن البريطانية 000.83 عبد إلى أمريكا ونقلت السفن الفرنسية 000.02 والبرتغالية 000،01 والهولندية 000،04 والدنماركية 0002. لقد أسهمت كل أمة أوروبية في هذه التجارة على وفق قدراتها، تلك التجارة التي ربما كانت أفظع الأفعال إجرامية في التاريخ. ومن ليفربول Liverpool وبريستول Bristol حملت السفن الخمور والأسلحة النارية والمنسوجات القطنية والأشياء التافهة إلى ساحل العبيد في إفريقية. وهناك - أي في إفريقية - غالباً ما كان الزعماء من أهل إفريقية يساعدون الزعماء المسيحيين في تسلّم عبيد أو زنوج Negros مقابل ما جلبوه من بضاعة، ويتم نقل هؤلاء العبيد (الزنوج) بعد ذلك إلى جزر الهند الغربية والمستعمرات الجنوبية في أمريكا الشمالية. وكان هؤلاء الأسرى (العبيد من الزنوج) يوضعون في جوف السفينة وفي أحيان كثيرة كانوا يُقيّدون بالسلاسل لمنعهم من التمرد أو الانتحار. وكانوا يُزوّدون بالماء والطعام بالقدر الذي يكفي - بالكاد - لإبقائهم على قيد الحياة، وكانت التهوية بائسة كما كانت وسائل التخلص من الإفرازات والفضلات في حدها الأدنى، وإذا ما هبت عاصفة شديدة وكان لابد من تخفيف حمولة السفينة تم - أحياناً - إلقاء العبيد المرضى في عُرض البحر لتخفيف الحمولة، وفي بعض الأحيان كان يتم إلقاء غير المرضى أيضاً. فمن بين عشرين مليون زنجي كانوا يُنقلون إلى جزر الهند الغربية البريطانية لم يصل منهم على قيد الحياة سوى 02%(05) وفي رحلة العودة كانت السفن تحمل دِبْس السكّر (المولاس) الذي كان يستقطر في بريطانيا لصنع الرُّم (نوع من الخمور) الذي كان يستخدم بدوره كثمن لشراء العبيد في الرحلة التالية (إلى إفريقية).
وكان الكوكر (صحاب مذهب ديني منشق) هم أصحاب الريادة في القارتين في مهاجمة هذه التجارة باعتبارها الخطوة الأولى لإلغاء الرق. وانضم ما لاحصر لهم من الكتاب الإنجليز لمحاربة هذه التجارة: جون لوك، إسكندر بوب، جيمس طومسون، ريتشارد سافاج Savage، وليم كوبر، ولا ننس أن السيدة أفرا بيهن Behn قد قدمت لنا في روايتها أورونوكو Oroonoko (8761) وصفاً للأحوال في جرز الهند الغربية يثير التقزز. وفي سنة 2771 استصدر جرانفل شارب (من الكوكر - جماعة دينية) من إيرل مانسفيلد رئيس مجلس الملكة مرسوماً بمنع استيراد العبيد في بريطانيا، وكل عبد يصبح حراً بمجرد أن تطأ قدمه أرض بريطانيا. وفي سنة 6781 نشر توماس كلاركسون (وهو أيضاً من جماعة الكوكر) مبحثاً بعنوان (مقال عن الرق والتجارة في البشر) قدم فيه خلاصة مؤثرة لنتائج الرق والتجارة في العبيد، تكاد تكون حصاد عُمر بأكمله. وفي سنة 7871 كوّن كل من كلاركسون شارب، ويلبر فورس، جوزياه ودجوود، زاكاري Zachary ماكولاي (والد المؤرّخ) جمعية منع تجارة الرق. وفي سنة 9871 قدَّم ويلبر فورس إلى مجلس العموم مشروع قانون لإنهاء هذا الشر. ولم يحصل المشروع على الأصوات المطلوبة بسب أموال التجار، وفي سنة 2971 دافع بِت في واحد من أعظم خطبه عن إجراء مماثل (منع تجارة الرقيق) لكنه أيضاً لم يُوفق في تحقيق غرضه. وحاول ويلبر فورس مرات أخرى في سنة 8971 و 2081 و 4081 و 5081 لكنه مُني بالفشل في محاولاته تلك. وبقي على شارلز جيمس فوكس في فترة وزارته القصيرة (6081 slash 7081) أن يضغط على هذا الأمر حتى حقّق النصر، إذ استسلم البرلمان ومنع التجار البريطانيين من أي مشاركة في تجارة الرقيق. وكان ويلبرفورس والقدّيسون الذي ساندوه يعلمون أن هذا النصر الذي حققوه ليس سوى البداية، فواصلوا نضالهم لتحرير (عِتق) كل الرقيق على الأرض البريطانية. ومات ويلبرفورس في سنة 3381 وبعد موته بشهر جرى منع الرق في كل البلاد الخاضعة للحكم البريطاني، وكان هذا في 82 أغسطس سنة 3381.
العادات وأسلوب الحياة
من بين أكثر الأحداث إثارة في سنة 7971 ظهور القبعة الحريرية العالية Silktophat لأول مرة، ويظهر أن خردواتياً لندنياً وضعها فوق رأسه زاعماً أن الحق الفطري (الموروث) للرجل الإنجليزي أن يكون متفرداً، وتجمهر الناس حوله وقيل إن بعض السنوة بُهتْنَ لهذا المنظر المُرعب alarming sight ، لكن لم يكن هناك ما هو منافٍ للعقل يمنع مصمّمي الأزياء النسائية والخردواتية haberdashers من تعميم هذه التقليعة (المودة)، فسرعان ما وضع الذكور من أبناء الطبقات العليا هذه القبعات الحريرية فوق رؤوسهم.
واختفت السيوف الموضوعة على سنام تصفيفة الشعر وعلى الشعر المستعار. وحلق الناس لحاهم، وترك معظم الذكور شعرهم ينمو حتى الكتفين، لكن بعض الشباب عبروا عن تحديهم وفرديتهم بقص شعورهم(15) وكسبت السراويل (البنطلونات) المعركة على سيقان الرجال، فبحلول سنة 5871 كان السروال (البنطلون) يصل إلى منتصف بطّة الساق (الرَبَلة)، وبحلول عام 3971 وصل إلى الكعب (رسغ القدم)، وحل رباط الحذاء محل الحِلية المعدنية، وبذا بدأت (أربطة الأحذية) دورها في مضايقة لابسي الأحذية وإزعاجهم. وكانت المعاطف طويلة خالية من التطريز والزخارف، لكن الصدرة الصدار كانت موضع اهتمام إذ كان الواحد منهم يُنفق عليها كثيراً من دخله ويتفنّن في تطريزها. لقد أدّى التنافس بين النبلاء وأعضاء مجلس العموم إلى ظهور المتأنقين bucks (المعنى الحرفي ذكر الوَعل أو الظبي، والمعنى لا يتضح تماما هنا إلا باللهجات العربية العامية إنه كاشخ أو كشخة كما يُقال عادة في دول الخليج، أو إنه كالهامور وما إلى ذلك، وفي مصر عادة يقولون نافش ريشه أو محلفط... إلخ) وظهور المنمقين أو الذين يلبسون ملابس تروق للنساء beau. لقد كان جورج بريان متأنقا (beau) برومل Brumel (8771 - 0481) معروفا بشدة التأنق وتزيين نفسه فقد كان يقضي نصف النهار في ارتداء ملابسه وخلعها. وفي أتون Aton حيث كان الطلبة يسمونه بَكْ duck وأصبح صديقاً حميماً لأمير ويلز الذي شعر أن التأنق في الملبس هو نصف فنّ الحُكم. ولأن برومل كان قد ورث ثلاثين ألف جنيه فقد استأجر حائكاً لكل جزء من بدنه وجعل من نفسه حكماً للأناقة بين رجال لندن، وكان حسن الفكاهة رقيقاً، وكان يهتم بنفسه ورباط عنقه اهتماماً شديداً، لكنه كان يحب المغامرة ربما أكثر من التأنق فركبته الديون وفرّ عبر القنال الإنجليزي تخلّصا من دائنيه وعاش عشرين سنة في فقر مُدقع وملابس رثة ومات في الثانية والستين من عمره في مصحة فرنسية للمجانين.
وتخلّت النساء عن الطوق الموسِّع (بتشديد السين وكسرها slash وهو طوق من مادة لَدِنة لتوسيع أطراف التنورة أو الجيبة وتستخدم النسوة في بعض البلاد العربية الكلمة الأجنبية الدالة عليه: الهوب hoop ويجمعنه على هوبات) لكنهن ظللن المشدات (الكورسيهات، والمفرد كورسيه) لصدورهن، ليبدو ثديا المرأة ممتلئين متوازنين وكان خط الوسط في الفساتين مرفوعاً إلى أعلى (أي أعلى من مستوى الخصر) وثمة ديكولتيه (تقويرة واسعة قد تشمل الصدر والظهر والكتفين) تكشف ما فوق خط الوسط، وخلال فترة الوصاية على العرش (1181 - 0281) تغيرت أساليب اللباس (المودة) تغيراً شديداً، فاختفت المشدّات (الكورسيهات) ولم يَعُدن يستخدمن التنورات (الجيبات)، واستُخدمت العباءات الشفافة بما يكفي للإيحاء بخطوط الفخذين والساقين أو بتعير آخر أصبحت العباءات النسائية شفافة وصَّافة، وكان من رأي بايرون أن هذا الأسلوب في اللباس يقلل من فتنة النساء وراح يشكو - على غير عادته - مدافعاً عن الأخلاق:
- لقد ضلّت نساؤنا السبيل كأمنّا حواء
- فهن عرايا
- لكنهن غير خَجِلات من عُرْيِهن(25)
ومع هذا فقد كان هناك اعتدال في اللباس أكثر منه في تناول الطعام. لقد كانت الوجبات هائلة، لأن المناخ كان يحثّ على تناول اللحوم ذات الدهن طلباً للدفء وليس نَهَما تماماً وإن كان النَّهم أيضاً سبباً وارداً. وكان الفقراء يتناولون في الأساس خبزاً وجبناً ويشربون شاياَ أو مزرا (نوع من الجعة)، أما الطبقات ذوات المال فكانت الوجبة الرئيسية عندها تمتد أحياناً من الساعة التاسعة الى منتصف الليل، وكان يكن أن تمر بمراحل مختلفة: حساء، سمك، دجاج أو غيره من الطيور، لحوم، لحم غزال أو غيره من لحوم الطرائد، حلوى أو فاكهة، ونبيذ معدّل حسب الرغبة. وبعد تناول الحلوى أو الفاكهة تفارق النسوة المائدة حتى يتناقش الرجال بحرية في أمور السياسة والخيل والنساء. وكانت مدام دي ستيل de Stael تعترض على هذا الفصل بين الرجال والنساء بعد تناول الحلوى أو الفاكهة لأن هذا يزيل الباعث إلى الاحتشام وإلى العادات والتصرفات المهذبة، كما أنه يُقلل من سعادة الجماعة. ولم تكن آداب المائدة (الإتيكيت) في إنجلترا بالأناقة نفسها التي هي عليها في فرنسا.
وكانت العادات بشكل عام حميمة وخالية من التصنع (مباشرة) وكان الحديث يُتَبَّل بكلمات لا تتناول الذات الإلهية بوقار (كلمات ذات طابع تجديفي). لقد اشتكى رئيس أساقفة كانتربري قائلا إن الكلمات المنطوية على التجديف تزداد يوماً بعد يوم بسرعة(35) وكان التلاكم Fisticuffs منتشرا بين الطبقات الدنيا، وكانت الملاكمة boxing رياضة أثيرة، وكانت الملاكمة بقصد الحصول على جائزة (الملاكمة التكسبية) تجذب المنظمين الطامعين من كل الطبقات. ولقد وصلنا وصف مكثف معاصر لهذه المباريات من روبرت سوثي Southey (7081):
عندما يتم الإعداد لمباراة بين اثنين كل منهما يبغي الحصول على الجائزة سرعان ما تصل الأخبار للناس عن طريق الصحف، فتظهر فقرات فيها في مناسبات مختلفة متناولة المتنافسين وكيف يتدربون، وما هي التمارين التي يقومون بها، وكيف أن أحدهم يتناول اللحم النيئ استعداداً للمباراة. وفي هذه الأثناء يختار الهواة والمقامرون أحد الطرفين لينحازوا إليه أو يقامروا على فوزه أو إخفاقه، وتظهر المراهنات في الصحف أيضاً، وفي حالات غير قليلة ينخرط الجميع في المراهنات حتى إن عدداً قليلاً من المحتالين الأوغاد قد يخدعون أعدادً كبيرة من الأغبياء(45).
ويتجمع جمهور غفير يصل أحياناً إلى عشرين ألفاً وكأن هذا التجمع ولهذا الغرض بديلٌ عن الثورة والتمرد (أو بتعبير أدق تسامٍ بهذه الرغبة) وقد أوصى اللورد ألثورب Althorp بممارسة الألعاب الرياضية للتسامي بالغرائز العدوانية السائدة بين الناس، لكن منظمي هذه المباريات يعتبرونها تطهيراً لجيوب المرتادين (أي وسيلة لتجريد الناس من أموالهم).
أما الأفقرون حالاً فيبحثون عن التنفيس عن مكنونات صدورهم بتقييد ثور أو دُب، ثم يظلون يزعجونه بالعصي ويغرون به الكلاب، وأحياناً يظل هذا طوال ثلاثة أيام حتى تأتي لحظة الرحمة فيقتلون ضحيتهم أو يرسلونها إلى دار الذبح (أو القتل slash المسلخ أو السلخانة)(55)، واستمرت مباريات صراع الديوك حتى مُنعت في سنة 2281. أما الكريكت Cricket الذي عرفته إنجلترا منذ سنة 0551 فقد جرى تقنين قواعده في القرن الثامن عشر، وكانت مبارياته في إنجلترا هي الأكثر إثارة إذ كان يحضرها عدد غفير، وتكون المراهنات على أشدها، ويكون مشجعو كلٍ في حالة سعار. وكان سباق الخيول يمثل ميداناً آخر للمقامرة لكنه أيضاً كان يُحيي العشق القديم للخيول والاهتمام اللذيد بتدريبها ومتابعة سلالاتها. أما الصيد فكان رياضة تمثل ذروة المتعة إذ يركب الصيادون في عربات أنيقة، وتطير العظاءات Swifts محلقة فوق الحقول ويعبر الصيادون المحاصيل والقنوات المائية والأسوجة (جمع سياج) فوق ظهور الخيول التي تبدو عليها - بعد الكلاب - السعادة بهذه المهمة.
وكان لكل طبقة مناسباتها التي يتجمع فيها أفرادها بدءاً من المقاهي - حيث يجتمع البسطاء لشرب البيرة (الجعة) وتدخين البايب (الغليون) وقراءة الصحف والحديث في السياسة والفلسفة - حتى الأجنحة الملكية الفخمة Roual Pavition (البافليون الملكي) في بريتون Brighton حيث يشترك الأثرياء في مهرجانات غالباً ما كانت باعثة على المسرّة في الشتاء والصيف على سواء(65) وعندما يتجمع الناس في منازلهم يلعبون الورق أو غيره من الألعاب المناسبة أو يستمعون للموسيقا أو يرقصون، وقد وصلت رقصة الفالس Walz قادمة من ألمانيا واسمها مشتق من الفعل الألماني Walzen بمعنى يدور، وقد علم المتمسكون بالأخلاق على انتشارها بوصفها بأنها ألفة أو مودّة آثمة (المعنى يكاد يكون: لقاء جنسياً آثماً Sinful intimacy)، وقد شكى كولردج عن قناعة في سنة 8971 لقد أزعجوني بدعوتي للرقص في كل حفلة رقص ليلية، وقد رفضت بتواضع. إنهم يرقصون رقصة شائنة تسمى الفالس Waltzen. ربما بلغ عددهم عشرين راقصاً وعشرين راقصة - لقد كان كل راقص يحتضن مراقصته وهي أيضاً تحتضنه، فتتلامس الأذرع والخصور والركب يلف بها وتلف به، وهكذا دواليك.. على موسيقا داعرة(75).
وكان أفراد الطبقات العليا يستطيعون إقامة حفلات راقصة أو حفلات من أي نوع كانت في واحدة من النوادي الأنيقة: ألماك Almack، والهويت White والبروك Brook وهناك أيضاً يمكنهم المقامرة على مبالغ ضخمة ومناقشة آخر إنجازات السيدة سيدون Siddons وحفلات سمر الأمير وروايات جين أوستن ونقوش بليك Blake وأعمال تيرنر Turner وصور كونستابل. وكانت ذروة اللقاءات الاجتماعية عند الهويج (الأحرار) تتمثل في دار هولاند Holland House حيث كانت الليدي هولاند تعقد اجتماعات مسائية كان يمكن للمرء أن يلتقي فيها بذوي المكانة مثل اللورد بروهام Brougham أو فيليب دوق أورليان، أو تاليران، أو ميترنيخ، أو جرتان Grattan أو مدام دي ستيل أو بايرون أو توماس مور، أو أكثر من الهويج (الأحرار) نبالة - شارلز جيمس فوكس(85). ولم يكن في فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر صالوناً يضارع صالون هولاند.
المسرح الإنجليزي
أَضِف إلى كل هذه الحياة المتعددة الأوجه، عشق الإنجليز للمسرح ولا يزالون مولعين به حتى اليوم. وكان الوضع كما هو عليه الآن حيث كان الناس ينظرون للمسرحية من خلال ممثليها ولا يعبأون كثيرا بمؤلفي هذه المسرحيات. ويبدو أن المؤلفين المسرحيين خشوا أن يكتبوا التراجيديات مخافة أن يبدوا قليلي الشأن في نظر الناس الذين سيعقدون بينهم وبين شيكسبير مقارنة لن تكون في صالحهم، وبعد ذروة شريدان Sheridan وجولد سمث Goldsmith كانت الكوميديات (الملهاة) تمثل أعمالاً لا بقاء لها مثل (الطريق إلى رون Ruin) (2971) التي ألفها توماس هولكروفت Holcroft و (تعاهد العشاق) (8971) التي ألفتها إليزابث إنشبالد Inchbald، فمثل تلك الأعمال تشبثت بالاتجاه الضعيف ولعبت على أوتار سهولة الانقياد إلى الإثم مداعبة بذلك الطبقة الوسطى، وأين هذا من فكاهة شكسبير المنطوية على معان فلسفية، والأثر الرجولي الذي تحدثه مسريحات بن جونسون في المشاهدين؟ ولم يبق في عالم المسرح من ظل متبوئاً مكانه سوى الممثلين.
لقد بدا الممثلون - من النظرة الأولى - وكأنهم جميعاً من أسرة (واحدة) من روجر كمبل Roger Kemble الذي توفي في سنة 2081 إلى هنري كمبل الذي توفي سنة 7091، وروجر كمبل أنجب سارة كمبل (التي أصبحت مدام سيدونز Siddons) وجون فيليب كمبل الذي انضم لفرقة دروري لين Drury Lane وفي سنة 3871 وأصبح مديراً للفرقة في سنة 8871، وستيفن كميل الذي أدار مسرح أدنبرة من سنة 2971 إلى سنة 0081.
وُلدت سارة في سنة 5571 في فندق شولدر أف متون في بريكون Brecon، وفي ويلز في أثناء جولة فرقة أبيها. وأُسند إليها دور بمجرد أن أصبحت قادرة على التمثيل، وأصبحت ممثلة موسمية وهي في العاشرة من عمرها. وقد دبرت أمرها لتحصل على قسط غير قليل من التعليم في أثناء حياتها غير المستقرة هذه، فأصبحت امرأة ذات نضج أنثوي، وذات عقل واع مثقف، واحتفظت بجاذبيتها دوما، وتزوجت وهي في الثامنة عشر من عمرها وليام سيدونز Siddons أصغر أعضاء فرقتها. وبعد ذلك بعامين أرسل جارك Garrick - بعد أن سمع بنجاحاتها - وكيلا عنه لمراقبة أدائها التمثيلي، فكتب تقريرا لصالحها فعرض عليها جارك الارتباط بفرقة دروري لين Drury Lane فظهرت هناك في دور بورتيا Portia في 92 ديسمبر 5771. ولم تؤد الدور جيدا لسببين أحدهما عصبيتها وربما كان ثانيهما أنها كانت قد وضعت مولوداً منذ فترة وجيزة. لقد كانت نحيلة طويلة رزينة ذات ملامح كلاسية وكان صوتها ملائماً للمسارح الصغيرة، إذ كانت تفشل في مواءمة صوتها مع المسارح الواسعة. وبعد موسم غير ناجح عادت إلى جولاتها في المنطقة (المقاطعة) وظلت طوال سبع سنوات تعمل صابرة على الرقي بفنها. وفي سنة 2871 حثها شريدان - الذي خلف جارّك كمدير للفرقة - على العودة إلى لندن. وفي 01 أكتوبر 2871 أخذت دور البطولة في مسرحية (الزواج القدري) لتوماس سوثرن Southerne فأدت دورها بإتقان تام حتى إنها أصبحت منذ هذه الأمسية تسير بخطى حثيثة لتصبح أفضل ممثلة مأساة (تراجيدية) في التاريخ البريطاني. وظلت طوال واحد وعشرين عاما تحكم دروري لين، وأصبحت لعشر سنوات بعدها ملكة كوفنت جاردن Covent Garden بلا منازع. وأدت دور الليدي مكبث بإتقان صبّت فيه كل خبراتها المسرحية. وعندما اعتزلت خشبة المسرح في 92 يونيو 2181 وهي في السابعة والخمسين من عمرهابعد أن أدّت هذا الدور (الليدي مكبث) تأثر جمهور المسرح تأثراً شديداً بأدائها لمشهد (السير نائما) حتى أنه فضّل أن يظل يصفق لها على متابعة العرض المسرحي(95). وظلت طوال تسعة عشر عاماً بعد ذلك تعيش في عزلة هادئة، وقطعت ألسن مروجي الشائعات في المدينة، بوفائها لزوجها. وفاز جينسبورو Gainsborough برسم صورة لها لازالت حتى اليوم في المتحف الوطني للصور الشخصية.
وكان أخوها جون فيليب كمبل الذي وُلد مثلها في إحدى فنادق (خانات) الأقاليم، قد نذر والداه ليكون قساً كاثوليكياً وربما كان هذا (النذر) تمشياً مع الفكر الشعبي الذي مؤداه أن وجود أحد أفراد الأسرة في المؤسسة الدينية قد يضمن الفردوس لسائر أفراد الأسرة، فأرسله والداه إلى دواي Douai ليدرس في كليتها الكاثوليكية فتلقى هناك قدراً طيباً من التعليم الكلاسي كما اكتسب الرزانة والوقار اللذين مازا بعد ذلك كل أدواره تقريباً، وظل مفتوناً في طوايا نفسه بمهنة والده (التمثيل) فغادر وهو في الثامنة عشرة من عمره دواي Douai وعاد إلى إنجلترا. وبعد عودته بعام انضم لفرقة مسرحية، وبحلول عام 1871 كان يؤدي دور هاملت في دبلن، وانضمت إليه أخته سارة لفترة ثم ألحقته معها في فرقة دروري لين(06) Drury Lane فكان ظهوره للمرة الأولى على هذا المسرح كظهوره في هاملت (3871) مصحوباً بنجاح متواضع. لقد وجده جمهور لندن رزينا رزانة شديدة لا تتفق مع الدور وأدانه النقاد لأنه عدّل في نص شكسبير واختصره. وعلى أية حال فإنه عندما انضم إلى مدام سيدونز Siddons في مكبث (5871) كان أداؤهما رائعاً حتى إنه أصبح حدثا مهما في تاريخ المسرح الإنجليزي.
وفي سنة 8871 عيَّن شريدان - الذين كان في ذلك الوقت هو المالك الرئيسي لمسرح دروري لين - كمبل مديرا للفرقة، فواصل القيام بأدوار البطولة لكن الممثل الحساس لم يكن مرتاحا بسبب تحكمات شريديان وبسبب قلة العائد المالي. وفي سنة 3081 قبل إدارة مسرح كوفنت جاردن واشترى سدس الأسهم في هذا المسرح بمبلغ 000،32 جنيه إسترليني، وفي سنة 8081 احترق المبنى، وبعد فترة بطالة سببت له خسائر جسيمة أخذ كمبل على عاتقه إدارة المسرح بعد أن يعيد بناءه. ولكنه عندما حاول أن يوازن التكاليف الهائلة غير المتوقعة للمبنى الجديد برفع أسعار دخول المسرح أوقف الجمهور عرضه التالي بصياحهم محتجين عُد إلى الأسعار القديمة ولم يسمح له الجمهور بالاستمرار في عروضه حتى يعد بذلك(16). وأنقذ دوق نورثمبر لاند Northumberland الفرقة بمنحة مقدارها 000،01 جنيه إسترليني وواصل كمبل كفاحه لكن ظهر ممثلون شبان مثلوا تحدياً له. وكان آخر نجاحاته في (كوريولاموس Coriolamus) عندما هز الجمهور المسرح تصفيقاً لفرط إعجابه، وكان هو الجمهور نفسه الذي سبق أن صاح في وجهه محتجاً في سنة 9081. واعتزل كمبل المسرح البريطاني مسلّماً تاجه لإدموند كين Kean واختفى الأسلوب الكلاسي في التمثيل من إنجلترا باعتزاله، تماما كما اختفى في فرنسا بانتهاء دور صديقه تالما Talma، وانتصرت الحركة الرومانسية في المسرح كما انتصرت في الرسم والموسيقا والشعر والنثر.
تضم حياة كين Kean بين جنباتها كل التقلبات التي حاقت بمهنته شديدة الحساسية - بما فيها من ملهاة ومأساة. وُلد في حي الفقراء بلندن في سنة 7871 نتيجة لقاء في نزهة ليلية بين آرون Aaron (أو إدموند Edmund) كين Kean وهو عامل (فرّاش) في مسرح وآن كاري Ann Carey التي كانت تكسب مالاً قليلاً من المسرح والشارع، وقد طرده أبواه في طفولته الباكرة فرباه عمه موسى كين المغني المشهور، وتولته على نحو خاص خليلة موسى واسمها شارلوت تدسويل Tidswell وهي ممثلة قليلة الشأن في مسرح الدروري لين. لقد دربته على الفن المسرحي والخدع المسرحية، وحثه موسى على دراسة الأدوار الشكسبيرية، فتعلم الفتى يجلب إليه النظارة بدءاً من الأكروبات (الألعاب البهلوانية) وإصدار الأصوات من بطنه (دون تحريك شفتيه) والملاكمة إلى هاملت وماكبث. لكنه كان متمردا في أعماقه، ففر مراراً، وأخيراً وضعت شارلوت الطوق المقيّد للكلب حول عنقه ونقشت عليه مسرح دروري لين (المقصد ضبطته وربطته بهذا المسرح) لكنه نزع الطوق وهو في الخامسة عشرة من عمره، وشرد وراح يعمل ممثلاً بشكل مستقل يؤدي أي دور، مقابل 51 شلناً في الأسبوع.
وظل طوال عشر سنين يعيش حياة قلقة غير مستقرة ممثلاً جوالاً، يكاد يكون معدما محترقاً في كل الأوقات، لكنه كان واثقاً تماما من أنه يستطيع ان يبز الجميع على خشبة المسرح. وسرعان ما عكف على الكحول لينسى تعبه وعذابه وليغذي أحلامه وتمنياته بأن يكون نبيل الأصل، وليتصور انتصاراته المرتقبة. وفي سنة 8081 تزوج ماري شامبرز زميلته في إحدى الفرق التي كان يعمل بها، فأنجبت له ولدين والتصقت به لم تفارقه في أثناء كل استبعاده لنفسه أمام الويسكي (الخمور) والنساء. وأخيرا بعد سنوات عديدة قضاها وهو يمثل الأدوار الشكسبيرية، ويحاكي الشمبانزي الذكي تلقى دعوة من مسرح دروري لين ليقوم بدور تجريبي (ممثل تحت الاختبار). وقد اختار دور شيلوك Shylock الصعب ليؤديه في أول صعود له على خشبة الدروري لين في 62 يناير 4181. لقد صَبّ في هذا الدور بعض الإهانات التي تلقاها في هذه الحياة. فعندما قال شيلوك - باحتقار وسخرية - لتاجر البندقية المسيحي الذي طلب منه قرضاً:
- ألدى الكلب مال؟ محال
- ألخسيس يستطيع أن يقرضك ثلاثة آلاف دوكة؟
لقد بدا أن كين قد تقمّص تماماً شخصية شيلوك ونسى أنه شخص آخر. لقد وضعت العواطف والمشاعر والانفعالات التي صبّها في دوره هذا نهاية للحقبة الكلاسية لفن التمثيل الإنجليزي (مع أن الدور الذي أدّاه كادت كلماته لا تتجاوز السطرين، وهكذا بدأت على مسارح لندن حقبة جديدة في التمثيل قوامها المشاعر والخيال والرومانسية. وبالتدريج راح جمهور المسرح يتفاعل مع هذا الممثل غير المعروف. لقد بدا المتحمسون له في البداية فرادى متشككين، لكن الجمهور سرعان ما تفاعل معه لفرط تفاعله واستغراقه في دوره. وسارع وليم هازلت Hazlitt أبرع النقاد في عصره بكتابة عرض تحمس فيه كثيرا لهذا الممثل، واندفع كين عائدا إلى أسرته فعانق زوجته قائلا لها: الآن يا ماري ستركبين مركبتك الأنيقة وعانق ابنه قائلا: يا ابني سوف تدرس في إيتون Eton(26).
وامتلأ المسرح عند عرض مسرحية تاجر البندقية التي كان يؤدي كين فيها دوره للمرة الثانية (في العرض الثاني) وبعد العرض الثالث قدم صامويل (صموئيل) هويتبيرد Whitebeard له عقداً للعمل في هذا المسرح لمدة ثلاث سنوات مقابل ثمانية جنيهات أسبوعياً فوقعه كين، لكن هويتبيرد غيرّه بعد التوقيع فجعل الجنيهات الثمانية، عشرين جنيها مع أن كين كان قد وافق على الثمانية. وأتى وقت دُعي فيه كين لأداء دور لليلة واحدة بخمسين جنيها. لقد أدى تقريباً كل الأدوار المشهورة في مسرحيات شكسبير - هاملت، ريتشارد الثالث، ريتشارد الثاني، هنري الخامس، ماكبث، أوثيلو Othello، ياجو Iago، روميو. وقد نجح في كل هذه الأدوار باستثناء الأخير (روميو).
وعندما حان الوقت ليرى الممثلين الشبان ينتظرون بتوق ليحلوا محله، بدّد عوائده المالية في الشراب، وراح يرضي نفسه بما يتلقاه من حب شديد من مرتادي الحانات التي يرتادها(36) وانضم إلى حركة سرية لإدانة كل اللوردات وذوي المكانة ونجح في إقامة علاقة آثمة مع زوجة أحد أعضاء المجلس التشريعي بالمدينة(5281)(46) وعمل على استعادة مكانته في المسرح، لكن ذاكرته لم تعد قوية كما كانت فَصَعُب عليه حفظ أدواره فقد كان ينسى السطور الموكل به أداؤها. لقد حدث هذا أكثر من مرة. ومع أن الجمهور كان معجباً به إعجاباً شديداً، إلاّ أنه عندما قصَّر لم يرحمه وصبّ عليه الإهانات صباً، وسأله لم يُغرق في الشراب دون اهتمام أو حذر؟ فغادر إنجلترا، وقام برحلة في أمريكا أدى فيها أدواراً تمثيلية فحقق انتصاراً في فنه وكوّن ثروة بدلاً من التي بددها، وبدّد الثروة الجديدة التي حققها، وعاد إلى لندن ووافق على القيام بتمثيل دور أوثيلو Othello أمام ابنه الذي كان عليه القيام بدور ياجو Iago على مسرح كوفنت جاردن Covent Garden (3381) وصفق الجمهور لياجو، واستقبلوا أوثيلو صامتين. وكان هذا شديد الوقع على كين الذي لم يلق التصفيق الكافي، فانهارت قواه وأصبح على شفا الانهيار وبعد أن نطق بعبارة وداعا، لقد انتهت مهمة أوثيلو سقط بين ذراعي ابنه وهمس له: إنني أحتصر يا شارلز تحدّث لهم نيابة عني(56) فحملوه إلى بيته لترعاه زوجته التي كان قد هجرها ذات مرة، وبعد شهرين مات في 51 مايو 3381 ولم يتجاوز السادسة والأربعين. لقد اختطف الموت أعظم الممثلين في التاريخ الإنجليزي - باستثناء جارِك - وهو في منتصف العمر.
خلاصة
الحق أن الحياة في إنجلترا كانت ناشطة مثمرة، والحق أيضاً أن الصورة لم تكن خالية من عيوب كثيرة، وهذا أمر طبيعي في الحياة. لقد اختفى صغار ملاك الأراضي من الطبقة الوسطى، وتعرضت البروليتاريا للاستعباد وخرّب القمار بيوتاً ودمّر ثروات، وكانت الحكومة قائمة على الامتيازات الطبقية، وكان هذا أمراً معلناً واضحاً، وكانت قلة قليلة من الرجال هي التي تشرّع لرجال آخرين ولكل النساء، ومع هذا ففي وسط الأخطاء والجرائم، كان العلم يتطوّر، وكانت الفلسفة تترعرع، وكان كونستابل يستوحي مناظر الريف الإنجليزي، وكان تيرنر Turner يقيّد الشمس ويثبّت العاصفة (المقصود يرسمهما) وكان وردزورث وكولردج وبايرون وشيلي يقدمون لإنجلترا مهرجاناً من الشعر لا نظير له في أي مكان منذ إليزابث الأولى. وكان التمرد والاضطراب كقشرة خارجية إذ كان النظام والاستقرار هما العصب الأصيل الذي أتاح كثيرا من الحريات لم تكن متاحة في أي دولة أوروبية أخرى خلا فرنسا التي كان الإفراط في الحرية فيها مؤديا إلى الانتحار. لقد كانت حرية الحركة والانتقال والسفن مكفولة بغير قيود إلا في أوقات الحروب، وكانت حرية العبادة مكفولة فيما عدا التجديف على الله، وكانت حرية الصحافة مكفولة أيضاً فيما عدا الخيانة العظمى، وكانت حرية الرأي مكفولة فيما عدا الدفاع عن الثورة والتمرد فهذا على وفق لكل الشواهد والسوابق سيؤدي إلى عقد أو أكثر من الخطر حيث يختفي الأمن ومن الفوضى حيث يختفي القانون.
ولم يكن الرأى العام راقياً جدا فقد كان يتمسك بالمحاذير taboos البالية وغالبا ما كان يدافع عن القديم لكن كانت لديه الشجاعة لإطلاق أصوات الازدراء نقداً لأمير منحط، واستحساناً لموقف زوجته التي طردها بقسوة(66)، وعبّر الرأي العام عن نفسه أيضاً في مئات التجمعات والجمعيات التي وقفت نفسها لأغراض التعليم والعلم والفلسفة والإصلاح. وكان الرأي العام يظهر واضحاً في القضايا الحرجة إذ يعبّر الناس عن آرائهم في اجتماعات عامة، ويمارسون حق تقديم العرائض (الاحتجاجات) الذي كفله القانون الإنجليزي، فالإنجليز الصبورون لا يعمدون إلى المقاومة إلاّ كحل أخير إزاء هذه الدولة الأوليجاركية. لقد حدث أكثر من مرة أن قام تمرّد ناجح (حقق غرضه) في شوارع القرى والمدن. لقد كانت الحكومة أرستقراطية ومع ارستقراطيتها فقد كان أقل ما تتصف به هو أنها مهذبة فهذبت العادات وتصدَّت للمستحدثات الضارة، وحافظت على الذوق السليم في الآداب والفنون وحمته من البربرية، كما تصدت للخرافات، وأيدت العديد من القضايا الطيبة (الصالحة) ولم تترك شعراءها الكبار نهباً لمجاعة. حقيقة لقد مر بها في بعض الأحيان ملك مجنون، لكن الحكومة كانت تُغل يده، ليظل ملكا محبوبا يمثل رمزاً للوحدة الوطنية ومحورا لكبرياء الأمة وحماسها ولم يجد الإنجليز معنى في قتل مليون شخص لعزل ملك له كل هذه الفائدة كرأس للتشريفات. فبعد انحراف لمرة أو مرتين يعود الإنجليزي إلى طبيعته غير مُصر على أن ماسح الأحذية والبويرن البارون الصغير (البارونت) لهما الحقوق نفسها في اقتراح بنود قانون الأراضي. وقد ذكرت مدام دي ستيل أن الإبداع في إنجلترا مُتاح للأفراد، ومن هناك كان يمكن تنظيم الجموع(76). إن النظام الهيراركي في إنجلترا - حيث لكل طبقة مكانتها فوق الأخرى - هو الذي سمح بانتشار الحرية.
دعونا الآن نرى كيف تفاعل الفن والعلم والفلسفة، ونظام الحكم حتى تكتمل صورة الحياة في إنجلترا في سنة 1800. إننا سنعرض لذلك في الفصول التالية بقدر جهدنا.