قصة الحضارة - ول ديورانت - م 11 ك 3 ف 15
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الخامس عشر: تأثير إنجلترا في مسيرة الأحداث
كانت إنجلترا، حكومةً وشعباً، بانتشار صناعتها واتساع تجارتها وبأسطولها وعلى رأسه نيلسون، وبعقلها وإرادتها - كانت على رأس المعارضين للثورة الفرنسية بعد سنة 2981. كانت على رأس المقاومة ضد نابليون في الوقت الذي تهاوى فيه أعداء الثورة الآخرون نتيجة الهزائم المدمرة التي حاقت بهم أو نتيجة انهيار تحالفاتهم. لكن هذا الموقف الذي اتخذته إنجلترا لم يكن مفاجئاً كما لم تكن كل القوى فيها متفقة عليه منذ البداية، ففي بداية اندلاع الحريق الهائل (الثورة الفرنسية) كانت مواقف زعماء إنجلترا والرسميين فيها غير محددة، وظهر الانقسام بينهم، وتباينت المشاعر ما بين الخوف واستلهام أفكار الثورة، لقد تجاوب الشعراء والفلاسفة بحماس مع المثاليات الأولى للثورة، ومع حماسة جيوشها وشجاعتها، ولكنهم سرعان ما تأثروا ببلاغة بورك Burke الغاضبة، وسرعان ما فُجِعُوا بأخبار المذابح والإرهاب في هذه اليوتوبيا Utepia (فرنسا)، ولأن هؤلاء المحرِّرين (يقصد الثوار الفرنسيين) أصبحوا غزاة ضموا نصف - طموحاً منهم - لفرنسا، فقد رأت إنجلترا أن توازن القوى في القارة الأوروبية يتوقف على نتيجة هذا الصراع بين فرنسا والقوى الأوروبية الأخرى، ذلك التوازن الذي ظلت إنجلترا - تلك الجزيرة الصغيرة - تعتمدُ عليه لضمان سلامتها وحريتها طوال قرون. وشيئاً فشيئاً أصبحت الأمة الإنجليزية على قلب رجلٍ واحد، فرغم استسلام حلفائها، فإن التحدي الأكبر الذي لم تشهده إنجلترا منذ سنة 6601 متمثلاً في تعويق تجارتها وإفلاس شركاتها ومالييها واستنزاف صانعي الأقمشة، والإغراء اليومي بقبول شروط هذا الكورسيكي العبقري المرعب (نابليون) الذي يمتطي الآن القارة الأوروبية ويهدد بعبور القنال الإنجليزي بنصف مليون مقاتل لم يعرفوا الهزيمة - كل هذا جعل الملك الإنجليزي وبرلمانه يقفان بحزم، وجعل النبلاء والتجار يدفعون الضرائب الباهظة وجعل الإنجليزي العادي يؤدي خدمته الإلزامية في الجيش أو الأسطول، وجعل البحار الإنجليزي الذي لا مثيل له يجتاز مرحلة التمرد إلى مرحلة تحقيق الانتصارات، وجعل هذه البقعة الصغيرة الحبيبة (إنجلترا) تنطلق خارجة من العوز والمجاعة التي كادت تحيق بها في سنة 0181 slash 1181 لتبني خلال نصف قرن أكثر الإمبراطوريات قوة وتحضرا منذ سقوط روما.
لابد لنا أن نتوقف هنيهة عن متابعة هذه الدراما وهذا الصراع لندرس الأمور التي جعلت انتصار إنجلترا ممكنا - هذا الانتصار الذي يعد تحولا. لابد من التوقف لدراسة موارد التربة والعمل والعلم والأدب والفن والعقل والعقيدة والشخصية.
ثورة مختلفة
لقد لعبت الجغرافيا دوراً، فلم يكن مناخ إنجلترا مثالياً، فالرياح الدافئة التي يسببها تيار الخليج شمال الأطلنطي تواجه بشكل مستمر الرياح القطبية الشمالية، ويؤدي هذا الصراع (المواجهة) إلى تتابع نشوء الضباب وتتابع هطول المطر فوق أيرلندا وإسكتلندا وإنجلترا مما يجعل التربة خصبة، والحدائق خضراء والأشجار ضخاماً رائعة، والشوارع مبتلة، ومن هنا كانت السخرية السخيفة التي مؤداها أن الشمس لا تهاجم بعنف الكومنولث البريطاني، لكنها أيضاً لا تشرق في إنجلترا أبداً، وقد وقع نابليون في هذه المبالغة إذ قال ذات مرة لطبيبه البريطاني أرنوت Arnott ليس لديكم شمس في إنجلترا، فصحَّح له معلوماته قائلا: هذا صحيح.. لكن الشمس تشرق دافئة في إنجلترا في شهري يوليو وأغسطس(1). هذا الضباب الذي يغلِّف البيئة الحيوانية والنباتية قد يكون ظلة استظل بها شعر بليك Blake وغلافاً تغلّف به تيرنر Turner، وربما يكون قد أسهم في تقوية شخصية الشعب الإنجليزي وتقوية مؤسساته. لقد جعلتهم هذه الجزيرة (البريطانية) معزولين (متفردين) لكنها كانت لهم دِرعاً يحميهم من التقلبات العقائدية التي كانت تهب كرياحٍ عاصفةٍ بين الحين والحين، وضد بِدَعِ الفن، وضد هوس الثورات وجنونها، وضد فظائع الحرب التي غالباً ما كانت تشوِّه وجه القارة الأوروبية. لقد وقفت الأمة الانجليزي بقدمين راسختين فوق الأرض الإنجليزية.
وإذا كانت جزيرتهم صغيرة، فقد كانت البحار بأمواجها التي تلطم شواطئها حيناً وتداعبها حانية مقبلة حينا آخر - تدعوهم إلى القيام بمغامرات للوصول إلى أماكن بعيدة. لقد أغرت آلاف الطرق السلسة الميسرة الرجال القادرين على الحل والترحال ليكونوا دائما شامخين. لقد كانت آلاف المناطق Lands في انتظارهم بمنتجاتها وأسواقها، لتتحول إنجلترا - بسببها - من الزراعة إلى الصناعة والتجارة والمالية الواسعة على مستوى العالم. لقد أدت كثرة تعاريج سواحلها كثرة هائلة إلى وجود مداخل كثيرة وخلجان صغيرة كثيرة تقدم مرافئ آمنة للسفن من كل أنحاء العالم. وكان في الجزيرة البريطانية نفسها اثنا عشر نهراً صالحاً للملاحة النهرية ومئة قناة تُفضي إلى نهر أو آخر من هذه الأنهار فليس هناك إنجليزي واحد يبعد أكثر من خمسة وسبعين ميلاً عن المياه التي يمكن - عن طريقها - أن يصل إلى البحر.
لقد واجهت بريطانيا التحدي الجغرافي بقيامها بالثورة الصناعية وحمل تبعاتها على عواتقهم. لقد شيد البريطانيون سفناً ذوات أحجام كبار لم يُعرف لها من قبل مثيل، وكان بعضها مصمما للقيام برحلات تستغرق الرحلة منها نصف عام إلى الهند والصين. لقد أحبت إنجلترا البحر كأحد ممتلكاتها تعتبره امتداداً لها، وحاربت بلا هوادة للسيطرة على هذا الامتداد البحري ضد الإسبان، فالهولنديين، والآن ضد الفرنسيين. لقد مخرت عباب طرقٍ بحرية جديدة حول القارات وإليها؛ إلى موارد وأسواق أفريقية والهند والشرق الأقصى وأستراليا وجنوب المحيط الهادي (الباسيفيكي) والأمريكيتين، وكان الإنجليز - سواء كأجانب (غرباء) أو كمتمردين - تواقين للتجارة مع الآخرين. ولم يتحد هؤلاء البريتون النهمون سوى الطريق (الممر) الشمالي الغربي فقد صدهم وعادوا منه فرادى متفرقين، لكن غير مقهورين.
وعلى أية حال فإن هذه الأساطيل التجارية والأساطيل البحرية الطوافة التي تحميها كان لابد من بنائها - غالبا - من أخشاب منشورة مستوردة وكان لابد أن تحصل هذه المستعمرات وهؤلاء العملاء على مقابل لموادهم الخامة وفضتهم وذهبهم وبهاراتهم ومؤنهم وفاكهتهم الغريبة، فكان هذا المقابل هو المنتجات الصناعية البريطانية. وكان لا بد للثورة الصناعية من تمويل هذه التجارة المنتعشة ونقلها. وشيئاً فشيئاً راحت إنجلترا - خاصة المناطق الوسطى والشمالية منها، وإسكتلندا - خاصة منطقتها الشمالية - تعيد تنظيم حياتها الاقتصادية بسحب المزيد من سكانها من الحقول والقرى إلى المصانع والمدن، ومن العمل البطيء في مجال الحرف المنزلية وفي نطاق الطوائف المهنية (الحرفية) إلى العمل في نطاق مجموعات محددة منظمة ومدربة من رجال ونساء وأطفال دربوا على الميكنة والآلات لإنتاج منتجات مصنعة للعالم.
لقد ساعدت العزلة (كون بريطانيا جزراً تحيطها البحار) على إحداث هذا الانتقال. فمنذ وقت باكر يعود إلى القرن الثاني عشر للميلاد كان الإنجليز النشطون قد وقر في عقولهم أن بإمكانهم الاستفادة من الأراضي إن كانت شاسعة أكثر من استفادتهم منها إن كانت مجزأة في قطع صغيرة. لقد اشتروا مزارع كبيرة وكونوا مشاعات Commons وكانت هذه المشاعات حقولاً ومحاطب حيث يقوم الفلاحون - تقليدياً - برعي مواشيهم وجمع حطب الوقود، وكان الإنجليز يشغِّلون في ممتلكاتهم الواسعة أُجراء hired زhandsس يعملون تحت إشراف مشرفين (نظّار). وفي القرن الخامس عشر أدركوا أنه يمكنهم الحصول على مزيد من الأرباح بتربية الماشية والدواجن أو - وهذا هو الأفضل - برعي الخراف، فهذا أفضل من حرث الأرض وزراعتها، فهم بذلك يكونون أقل حاجة إلى الأيدي العاملة، كما أنهم قد وجدوا بالفعل أسواقاً للذبائح والصوف لدى البريطانيين الذين يعانون من البرد والمحبين لأكل اللحوم، وأيضاً لدى الشعوب الأخرى خارج بريطانيا، وشيئاً فشيئاً راح مزيد من الفلاحين يبيعون ممتلكاتهم أو يهجرون مزارعهم إلى المدن. واختفى - ببطء - صغار مالكي الأرض من الطبقة الوسطى آخذين معهم شيئاً من قوة الشخصية الإنجليزية وكبريائها. وبحلول سنة 0081 كان عدد السكان في بريطانيا 51 مليون نفس، بينما كان عدد الخراف 91 مليون، فقال الظرفاء إن الخراف قد التهمت الناس. وحتى اليوم يفاجأ المرء عند ترحاله في وسط إنجلترا وشمالها بندرة المزارع والأراضي المعدة للزراعة، بينما يكثر عدد المسيجات (الأراضي المسيّجة) الخضراء التي لا يرى فيها إلا الخراف التي تحوِّلُ العشب إلى صوف وتكافئ التربة الممتنة بإفرازاتها (تُسمدها).
يجب ألا نبالغ، فخلال هذه الفترة (باستثناء الأزمة التي اقتربت في أثنائها بريطانيا من المجاعة في سنة 1181 بسبب الحصار القاري الذي فرضه نابليون) نجحت الزراعة في إنجلترا - تلك الزراعة التي راحت بشكل متزايد تعتمد على الميكنة ورأس المال - في إطعام إنجلترا دون حاجة لعون خارجي(2). لقد كان الزرّاع واثقين من أنفسهم لدرجة أنهم حثوا البرلمان على اعتماد (تمرير) وقف (مراجعة) قوانين الغلال (الحبوب) بفرض تعريفة عالية (رسوم جمركية قاسية) على استيراد الغلال (الحبوب grain) المنافسة (كانت الكلمة الإنجليزية Corn تعني أي حبوب، وفي إنجلترا كانت هذه الكلمة Corn تعني عادة القمح، بينما كانت تعني في إسكتلندا الشوفان Oats ومع هذا فحتى سنة 0971 كانت هجرة الفلاحين المرحلين إلى المدن بالإضافة إلى المهاجرين الذين اعتراهم الفقر من إسكتلندا وأيرلندا - هي التي قدمت القوى العاملة التي جعلت حركة التصنيع ممكنة.
لقد كانت الصناعة لا تزال في غالبها في البيوت والدكاكين لكن معظمها كان مصمماً محلياً ويتم استهلاك منتجاتها محلياً أيضاً. إن الصناعة في هذه المرحلة لم تكن منظمة للإنتاج بكميات كبيرة (للبيع بالجملة) فلم تكن تستطيع تمويل الأسواق المختلفة المنتشرة عبر الحدود. وكان العامل في المنزل أو الدكان تحت رحمة الوسطاء (السماسرة) الذي يبعيون له المواد الخامة ويشترون منه منتجاته. وكان ما يحصل عليه من مال لقاء منتجاته محكوماً بالعرض والطلب، وكذلك بمنافسيه الذين هم أشد منه جوعاً، وعادة ما كان على زوجته وأطفاله أن يعملوا معه من الفجر حتى حلول الظلام(3)، لإبعاد الذئب عن باب الدار (المقصود لإبعاد شبح الفقر) وكان لابد من إيجاد طريقة ما أكثر كفاءة لتمويل الصناعة وتنظيمها إن كان عليها مواجهة احتياجات سكان المدن المتزايدين أو ملء مخازن التجار الراغبين في البضائع الأجنبية أو الذهب (المقصود التجار العاملين في مجال التصدير).
لقد دُفِعت الصناعة في إنجلترا نحو الخصخصة (المشروعات الخاصة) حيث الحافز لتحقيق الربح واضح، وحيث التحرر إلى حد كبير من التنظيمات أو الترتيبات الحكومية، وكان الاندفاع في هذا الطريق بتأثير من فكر آدم سميث Adam Smith مع تجاهل تحذيراته. لقد حصلت الصناعة الإنجليزية على رأس المال مما توفر لها من عوائدها ومن التجار الأثرياء ومن ملاك الأراضي الذين يجمعون العوائد الزراعية (الرَّيع) ومن الإيجارات في المناطق الحضرية، ومن رجال المال (البنكيين bankers) الذين عرفوا كيف يُولِّدون المالَ من المال، والذين أقرضوا الأموال نظير نسبة من الفوائد أقل من النسبة التي كان يحصل عليها نظراؤهم الفرنسيون. وعلى هذا فإن الأفراد والمؤسسات قدموا الأموال للمقاولين الذين عملوا على تدعيم منتجات المزرعة والحقل بخدمات الآلات (الماكينات) والعمل والمهارة اللذين يقدمهما العمال رجالاً ونساء وأطفالاً فيكون مقدار الإنتاج أكبر، إذ حقق لإنجلترا عوائد مالية لم تعرفها من قبل أبداً، وراح الممولون (مقدمو الأموال) يراقبون كيفية استخدام أموالهم، وحمل النظام الاقتصادي الذي كان على وشك إعادة تشكيل العالم الغربي أسماءهم.
لقد كانت لعبة تنطوي على المخاطرة، فقد تدمر الإدارة السيئة أي استثمار، وقد تدمِّره أيضاً تقلبات الأسعار والأسواق وتغير الأذواق وزيادة الإنتاج بما يفوق طاقة المستهلكين أو بسبب اكتشاف جديد يُخفيه أحد المنافسين.
لقد جعل الخوف من الخسارة الطمع والرغبة الشديدة في الكسب أكثر حدة. لقد كان لابد من الإبقاء على أجور العمل في حدها الأدنى وكان لابد من تقديم المكافآت على الاختراعات الجديدة، وكان لابد أن تحل الآلة محل القوى العاملة البشرية كلما أمكن ذلك. وكان لابد من استخراج الحديد أو استيراده لصنع الآلات والسفن الحربية المدرعة والجسور والمدافع والبنادق، وكان لابد من استخراج الفحم (وكان متوفراً في إنجلترا لحسن الحظ) لتزويد المصاهر التي تصهر المعادن بالوقود اللازم ولتنقية المعادن الخامة ولتحويل الحديد إلى صلب فيصير أشد وأمتن، وكان لابد من ربط أكبر عدد ممكن من الآلات بمصدر طاقة واحد قوي، وقد يكون مصدر الطاقة هذا رياحاً أو ماءً أو حيوانات تدور بشكل مستمر أو تحرك لولباً (قلاموظ)، لكن أفضل منتج للطاقة لابد أن يكون ماكينة (محرك) بخارية كتلك المحركات (الآلات) التي أقامها جيمس وات Watt في مصنع متّى بولتون Matthew Boulton بالقرب من برمنجهام (4771م). وإذا كان هناك رأس مال كاف، وإدارة دقيقة أمكن تشغيل أي عدد من الآلات بمحرك واحد (أو عدد قليل من المحركات)، ويمكن أن يرتبط بكل آلة رجل أو امرأة أو طفل يراقبها ويهتم بأمرها طوال ساعات تتراوح ما بين 21 و 41 ساعة في اليوم مقابل أجرٍ يقيم أوده.
وسرعان ما راحت آلاف المداخن تقذف بدخانها في سماوات المراكز الصناعية الناشئة - مانشستر، وبرمنجهام، وشفيلد، وليدز، وجلاسجو، وإدنبره. وكان في بريطانيا في سنة 0571 مدينتان سكان كل منهما 000،05، وفي سنة 1081 بلغ عدد مثل هذه المدن ثماني، ستصبح في سنة 1581 تسعاً وعشرين مدينة. وتم تمهيد الطرق لتسهيل نقل المواد الخامة والوقود والمنتجات للمصانع والأسواق والموانئ، وتم تشييد مركبات الجياد العمومية التي تسع الواحدة منها ثمانية ركاب ولتقطع عشرة أميال في الساعة(4). وفي نحو سنة 8081 قام توماس تلفورد Thomas Telford بابتكار أسطح جديدة للطرق تشبه بشكل أساسي الطرق السريعة المرصوفة بالحصباء هذه الأيام، وفعل الشيء نفسه جون مكآدم John McAdam في نحو سنة 1181، وكلاهما من المهندسين الإسكتلنديين. وفي سنة 1081 شيد جورج تريفيثك Trevithick أول محرك بخاري لسحب عربة المسافرين فوق قضبان، وفي سنة 3181 شيد جورج ستيفنسون Stephenson محركاً أفضل، وفي سنة 5281 افتتح أول سكة حديدية نظامية تجري عليها قاطرات بخارية بين ستكتون Stockton ودارلنجتون Darlington. وفي سنة 1081 بدأ تشغيل أول قارب بخاري في القناة الإسكتلندية، وفي سنة 7081 شيد مصنع بولتون ووات Boulton & Watt قارباً بخاريا لنقل الركاب حذا فيه حذو أنموذج قدمه روبرت فلتون Robert Fulton الذي أطلق قاربه (كليرمونت Clermont) من نيويورك إلى ألباني Albany في أغسطس من العام نفسه. وفي هذه الأثناء كانت لندن وهارفتش ونيوكاسل وليفربول وجلاسجو موانئ متطورة وبها تسهيلات للتجارة عبر المحيط، وكان نيلسون قد انتصر في أبي قير وفي الطرف الأغر، محققاً لإنجلترا السيادة على البحار.
وفي سنة 1801 أجرت الحكومة أول إحصاء مبني على أسس علمية في بريطانيا العظمى (إنجلترا، وويلز، واسكتلندا) وأدى هذا إلى فزع المواطنين الذين استاؤوا من انتهاك خصوصياتهم كمقدمة لإخضاعهم لتنظيم صارم(5). وأظهرت نتيجة الإحصاء المسجلة أن عدد سكان بريطانيا العظمى في ذلك الوقت كان 646،249،01 (كان عدد سكان الولايات المتحدة في ذلك الوقت نحو 6,000,000) وبحلول عام 1811 كان عدد سكان بريطانيا العظمى قد ازداد ليصبح 441،255،21(6). وربما تعكس الزيادة زيادة كميات الطعام المتاحة وتحسن الخدمات الطبية وانخفاض نسبة الوفيات بين كبار السن والأطفال. لقد زاد سكان لندن في سنة 1811 ليصبح 1,009,546 لكن التوسع الأكثر أهمية والأكثر ضخامة كان في الشمال والغرب الصناعيين، وفي سنة 1181 كان عدد السكان العاملين في مجالي الزراعة والرعي هو: 895,998 على وفق ما هو وارد في السجلات بينما كان العاملون في مجالي الصناعة والتجاربة 1,128,049 وفي أعمال أخرى 519,168.(7) لقد ضيّقت الحكومة على الزراعة بإقرارها نظام الحظائر المسيجة (التي ترعى فيها الأغنام...) وشجعت الصناعة بالعمل لصالح المشروعات الخاصة (الحرة) وبالحماية الجمركية وبمنع اتحادات العمال من المطالبة بأجور أفضل (1800)، كما عملت على تحسين أحوال التجارة بتحسين الطرق والمجاري المائية، وبتشييد أسطول بحري بريطاني لا يُقهر. لقد حقق التجار والصناع والماليون ثروات كبيرة وفاز بعضهم بمقاعد في البرلمان أو اشتروها (حصلوا عليها لقاء مال دفعوه).
تُظهر الصورة الاقتصادية لبريطانيا في سنة 1800 أنه يوجد في القمة - كانت الأرستقراطية لاتزال موجودة وإن كانت في تناقص - سادة الاقتصاد الذين تسوّدوا خلال ملكيتهم للأراضي، وكان يتعاون معهم نبلاء البرلمان والأرستقراطية المهيمنة (الحاكمة)، وحولهم أو أدنى منهم التجار والصناع البورجوازيون أصحاب المشاريع الذين لا يرحمون، وهم يُظهرون ثراءهم الجديد ومسلكهم السيء، ويصخبون مطالبين بمزيد من السلطة السياسية، وإلى الأدنى منهم أصحاب المهن المحترمة بدءاً من أكثر الأطباء علماً إلى أكثر الصحفيين شجاعة ودهاء، وإلى الأدنى من هؤلاء جميعاً الفلاحون الذين يفقدون ملكياتهم بشكل متزايد منتظرين العون والنجدة، وعمال المناجم الذين لا يرون الشمس والذين يعيشون في أحشاء الأرض، والعمال غير المهرة الذين يسفلتون الطرق ويحفرون الترع وعمال المصانع الذين يشكلون بركة أو مجمعاً للجوع وعدم الانضباط وانهيار المعنويات، والذين راحوا يكتبون مأساتهم على صفحات سماوات ملوثة (لوثها دخان المصانع).
في القاع
وإذا كان لنا أن نعيد النظر في أحوال عمال المصانع في بريطانيا في سنة 0081 وجب علينا ألا نبالغ في أهميتهم في نطاق الصورة العامة في ذلك الوقت، إذ يمكن أن نفترض وجود كثير من المشاهد الباعثة على السرور في إنجلترا السعيدة Merrie England. فلم يكن العمل في المصانع في حد ذاته في ذلك الوقت هو المَعْلم الرئيسي للصناعة البريطانية، فقد كان معظم الإنتاج الصناعي لا يزال يجري إنجازه في البيوت في الريف والحضر على أنوال أو مخارط، أو على يد حرفيين في محلات (دكاكين) مستقلة. وكان التصنيع من خلال نظام المصانع مقتصراً على عمليات إعداد القطن والكتان والصوف، ورغم محدودية هذا النظام، فإن دوره في بانوراما العصر (المشهد العام للعصر) كان واحداً من أشد الأدوار مدعاة للحزن في التاريخ الإنجليزي.
لقد كانت المصانع نفسها قائمة في الأحياء القذرة أي أحياء الفقراء مكفّنة بالروائح الكريهة المنبعثة من الماء الآسن والدخان الناتج عن المصانع ذاتها التي كانت من الداخل متربة بشكل عام وقذرة وسيئة التهوية والإضاءة حتى عام 5081 حين بدأت الإضاءة بغاز الاستصباح. وكان يتم تشغيل الماكينات بسرعتها القصوى مما كان يتطلب من العاملين عليها مراقبتها بعيون حذرة وتظل أيديهم مشغولة طوال اثنتي عشرة أو أربع عشرة ساعة في اليوم. لقد حدث وقتها كما حدث في وقت لاحق أن أدت المخترعات الآلية إلى إنقاذ العمل واستهلاك الإنسان. وكان مسموحاً للعمال بساعة لتناول الغداء وبعدها يستمر الكدح حتى الساعة الثامنة مساء في معظم الحالات(8). وعند الحاجة كان يتم دعم القوى العاملة من المخزون البشري المتمثل في الفلاحين المرحّلين والنسوة الضائعات.
وكان أصحاب المصانع يفضلون النساء على الرجال، والأطفال على النساء لقلة أجورهم. وفي سنة 6191 كان من بين 000،01 من العاملين في 14 طاحونة إسكتلندية: 641،3 رجلاً و 458،6 امرأة و 185،4 طفلاً دون الثامنة عشرة من العمر(9). وكان أصحاب المصانع يفضلون تشغيل الأطفال الأيتام والمعوزين الذين يُرسلهم مقاولو تشغيل الفقراء لنجدتهم، وذلك لانخفاض أجورهم. وحاول مرسوم المصانع The Factory Act الصادر في سنة 2081 أن يضع حدودا دنيا لاستخدام مثل هؤلاء العمال المهنيين بمنع تشغيلهم أكثر من 21 ساعة يومياً، ولكن البرلمان قد رفض الدفع للمفوضين (مندوبي الحكومة) لوضع المرسوم موضع التطبيق(01) وبشكل عام ظل تشغيل الأطفال ساري المفعول في المصانع البريطانية حتى سنة 2491(11).
وفي سنة 0081 كان متوسط أجر العامل البالغ في لندن هو 81 شلنا في الأسبوع (نحو 32 دولاراً في الولايات المتحدة سنة 0691) أما في الريف فكان المتوسط ينقص بنحو الثلث(21). وبالجملة فإن أجور الأسرة كان يتحكم فيها العدد المطلوب لاستمرار العمل لكن هذا كان يتوقف على انضمام الزوجة والابن إلى القوى العاملة في المصنع(31). وكان أصحاب العمل يدافعون عن مبدأ بقاء الأجور منخفضة لضمان عودة العمال إلى العمل، وكان بعض العمال يحصلون على إجازة أسبوعية لمدة يومين أو ثلاثة وعندما يعودون للعمل يكونون في حالة غير يقظة لفرط ما تناولوه من كحول في أثناء الإجازة(41) ولم يكن يدفع العامل للعودة للعمل في المصنع بين الآلات سوى الجوع.
وكانت هناك بعض الميزات المعينة التي تُلطِّف عناء العمال، فبعض أصحاب الأعمال كانوا يدفعون قيمة الإيجار وتكاليف الوقود للعاملين لديهم. وكانت أسعار السلع منخفضة - كانت أرخص بنحو الثلث من الأسعار التي سادت في بريطانيا العظمى سنة 0691(51). وكانت الأجور - بشكل عام - تتناسب طردياً مع الأسعار، فكلما ارتفعت الأسعار زادت الأجور وكلما انخفضت الأسعار قلت الأجور، وظل الحال على هذا النحو حتى سنة 3971 عندما بدأت الحرب مع فرنسا فعانت الطبقات كلها من نقص دخولها، وإن كانت معاناة العمال هي الأشد لأن أجورهم كانت منخفضة انخفاضاً لا يمكّنهم من العيش إلاّ بشق الأنفس.
لقد كان العمال يعيشون في المدن حيث الهواء الملوّث (المسمَّم) في أحياء منعزلة تعمها الأمراض، في مساكن مزدحمة - وأحيانا في غرف رطبة ضيقة كالقبور لايصلها نور الشمس إلاَّ لماما، ولا مكان فيها للنظافة، وحيث النزاعات بين المقيمين فيها تتلف الأعصاب المرهقة ولم يكن هناك مجال لاحتفاظ الفرد بخصوصيته ولم يكن ثمة ملجأ أمام المرأة سوى التقوى، ولم يكن أمام الرجل سوى الخمَّارة. وكان السُّكر (تناول الخمر) يتم كل أسبوع. وكان سكان البيوت يحصلون على المياه من الآبار و الطلمبات العامة فإذا ما قلَّ معين الماء في هذين المصدرين راحت النسوة يحملن الماء من أقرب نهر أو ترعة، وكانت هذه المياه ملوثة بالمخلفات الصناعية أو المنزلية أو البشرية(61). وكان الصرف الصحي بدائيا وكانت البالوعات نادرة الوجود. وكتب ثورولد روجرز Thorolde Rogers في سنة 0981 عندما كان أستاذاً للاقتصاد السياسي في أكسفورد: إنني مُوقن أن التاريخ الإنجليزي الموثَّق لم يسجِّل في أي فترة من فتراته ظروفاً أسوأ للعمل اليدوي من تلك الظروف التي كانت موجودة في الأربعين سنة الممتدة من 2871 إلى 1281 وهي الفترة التي جمع فيها أصحاب المصانع ثرواتهم بسرعة، وهي الفترة التي تضاعفت فيها أجور الأرض الزراعية(71). وقد استمرت هذه الأحوال حتى سني الأربعين من القرن التاسع عشر (0481 - 9481). وقد لخّص كارليل Carlyle الذي نشأ في إسكتلندا وإنجلترا ما بين سنتي 5971 و 0481 حال عامل المصنع البريطاني في تلك الفترة بأن قال: إن البريتون Briton كانوا في حالة أفضل منه عندما كانوا أقنانا (عبيداً للأرض) في العصور الوسطى. فالتقدم الصناعي جعل للبروليتاري نصيباً تافهاً جداً من الثروة المتنامية، حتى إنّها جعلته يرتد إلى مرحلة البربرية في مسلكه ولباسه وطريقة حديثه والأسلوب الذي يتَّبعه للترفيه عن نفسه. وقد كتب أليكسيس دي توكفيل Alexis de Tocqueville بعد زيارته لمانشستر: لقد كاد الإنسان المتحضر يتحول إلى همجي بدائي(81). ويرجع الفضل إلى هذه الأيام المريرة فيما حققته مانشستر والمدن الصناعية البريطانية الأخرى من تقدم.
وقدَّم قانون الفقراء الذي سُنّ في سنة 1061 (وجرت عليه تعديلات في فترات لاحقة) بعض المساعدة للمعدمين والعاطلين. وكان العاملون على تنفيذه مسؤولين إداريين في الوحدات الإدارية المختلفة وكانوا عادة ما يسلّمون المبالغ المجمّعة للملاجئ وإصلاحيات الأحداث. ولتمويل تنفيذ هذا القانون كان لابد من ضريبة خاصة مفروضة على أرباب البيوت الذين كانوا متذمرين من هذه الضريبة لأنها - على حد رأيهم - تُنفق على العاطلين وعديمي النفع وتساعد على تفريخ الطائشين والمهملين، وكان من رأيهم أن ضريبة المبيعات (المكوس) على ما يُباع أو يُتاجر به محلياً هي خير ضمان ضد الفوضى الاجتماعية. وفي كثير من المديريات (الوحدات الإدارية) - بعد سنة 5971 - كان يتم تنظيم المساعدات (الإعانات) ليحصل عليها أصحاب الأجور المتدنية (التي لا تكفي لإقامة أَوَد العمّال الحاصلين عليها)، وكان بعض أصحاب العمل ينتهزون فرصة تقديم هذه الإعانات للإبقاء على الأجور التي يدفعونها للعمال متدنية.
ورغم هذه الإعانات المتواضعة، فقد وصلت الحالة البائسة للعمال إلى منعطف خطير مع بداية القرن التاسع عشر. فحتى سنة 4281 كان محظوراً تشكيل تنظيمات للمطالبة بأجور أفضل، ومع هذا فقد كانت هناك تنظيمات سرية، وكان محظوراً القيام بإضرابات ومع هذا فقد أضرب العمال وجرى قمعهم، فأضربوا ثانية(91). وحذّر الإصلاحيون مثل روبرت أوين Robert Owen البرلمان أنه إذا لم تتحسن أحوال المصانع، فسيزداد العنف مما سيكلف كثيرا. وواجهت الحكومة السخط المتزايد بتجديد الأعمال العدائية مع فرنسا (3081) وراحت حالة السخط تزداد كلما ابتعد شبحُ الحرب حتى انفجرت في ثورة علنية في سنة 1181، ولم يكن في طليعة هذه الثورة عمال المصانع وإنما نسّاجو الجوارب والربط الذين يقومون بعملهم على ماكينات في البيوت والمحلات الصغيرة في نوتنجهام Nottingham أو بالقرب منها. وهؤلاء النسّاجون رجالاً ونساء كانوا لا يزالون قادرين على الاستمتاع بحياة في الهواء الطلق في الحقول والمزارع، وربا تحققوا من أن حياتهم ذات الطبيعة المنطلقة تتناقض - من الناحية المثالية مع انكفائهم على أنوالهم. لقد امتعضوا من تبعيتهم لأصحاب الأنوال (آلات نسج الجوارب) الذين أجَّروا لهم هذه الأنوال، وباعوا لهم المواد الخامة واشتروا منهم منتجاتهم ولم يتركوا لهم ربحاً إلاَّ بالنسب التي يحددونها هم (أصحاب الأنوال) أو يحددها الذين موَّلوه بالخامات أو برأس المال. وأكثر من هذا فقد كانوا يخشون أن يفقدوا أعمالهم الحالية لصالح المصانع المنتشرة ذوات الأنوال الآلية التي تحركها الطاقة (البخارية) ذات الإنتاج المُضاعف، وفي فورة غضبهم قرروا أن يدمروا كلَّ ما يستطيعون تدميره من الآلات والماكينات التي اعتبروها رمزا لعبوديتهم.
ونظم ند Ned أو الملك لُود King Ludd - وهو شخصية غامضة وربما كان شخصاً أسطوريا - النسَّاجين الغاضبين ووضع الخطط لغاراتهم. وفي خريف سنة 1181 راحت جماعات منفصلة من هؤلاء النسّاجين الثائرين (اللوديين Luddites) يغزون مديرية إِثر مديرية وحطموا كل ما وجدوه من آلات النسيج. وامتدت الحركة من نوتنجهامشير Nottinghamshire إلى لانكشير Lancashire ودربيشير Derbyshire وليزيسترشير Leicestershire واستمرت الحركة خلال عام 2181. وامتنع محطِّمو الآلات (اللوديون) عن إلحاق الأذى بالأشخاص إلاّ في حالة صاحب مصنع أمر رجاله بإطلاق النار عليهم، فقد أخرجه المضربون وقتلوه. وارتعد نصف إنجلترا خوفا وهلعاً متذكرة الثورة الفرنسية. وكتب روبرت سوثي R. Southey في هذه اللحظات لا شيء ينقذنا سوى الجيش. إنه الذي سينقذنا من أكثر النكبات والكوارث ضراوة. سينقذنا من عصيان الفقراء المسلّح ضد الأثرياء، لكن إلى أي مدى يمكن الاعتماد على الجيش في هذا الأمر؟ فهذا موضع سؤال قلما أجرؤ أن أوجهه إلى نفسي. إن البلاد ملغّمة تسيخ تحت أقدامنا(02). ودافع وليم كوبت W. Cobbett الصحفي المفعم حيوية عن هؤلاء المغيرين في مجلس العموم البريطاني وألقى الشاعر بيرون Byron خطاباً حاراً لصالحهم في مجلس اللوردات، وقدم اللورد ليفربول Liverpool رئيس الوزراء بعض التشريعات القاسية التي أجازها البرلمان وأرسل كتيبة عسكرية لقمع الثوّار وتم القبض على قادة الثوار وأدينوا بسرعة في محاكمة جماعية في يورك (3181) ونفى بعضهم وشُنق آخرون. وتضاعف عدد الآلات والماكينات ولم يصدر تشريع يرحم العامل البريطاني البالغ حتى سنة 4281.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قسوة العِلْم
لم يقدم الاقتصاديون سوى القليل لإراحة العمال والتخفيف من معاناتهم. وشرح توماس مالتوس Thomas Malthus في مبحثه (مقال عن السكّان) صدرسنة 8971 أن زيادة الأجور تؤدي إلى ظهور أسرة أكثر عدداً مما يؤدي بدوره إلى زيادة الضغط على موارد الطعام وهذا يؤدي بدوره إلى عودة الفقر حالاً لأن الفقر هو النتيجة الدائمة لعدم كفاية الموارد الطبيعية لحاجة الإنسان(12). وقد راجع مالتوس نظريته هذه سنة 3081 لكن دون تراجع عن أفكارها الأساسية واضعاً بذلك قانونه الحديدي للأجور والقاضي بأََنّ أُجرة العامل ينبغي ألاَّ تتجاوز الحدَّ اللازم لعيش الكفاف أوبتعبير آخر ستظل أجور العمل دائما تتحكم فيها نسبة إمداد العمل للحاجة (22). وفي مبحثه مبادئ الاقتصاد السياسي (0281) حذَّر من أنَّ النمو الاقتصادي قد يؤدي إلى التجاوز مادام سيؤدي إلى تقليص الاستثمار والإنتاج، ودافع عن الرِّيع rent (العوائد عن استثمار الممتلكات) باعتبارة مكافأة عن الشجاعة والحكمة في الوقت الحالي، وعن قوةٍ أوبراعةٍ كانتا في الماضى(32)، واتفق مع فولتير في أنّ حياة الترف التي يحياها الأثرياء لها أثر طيب إذ تتيح للحرفيين الفنيين المهرة فرصاً للعمل. وفي لحظة ليبرالية أوصى بإقامة الأعمال العامة (الأشغال العامة) وفي فترات نقص الإنتاج كإعانة للعاطلين وتخفيفاً من معاناتهم.
واتفق ريكاردو Ricardo مع نظريات صديقه مالتوس وأقام عليها مبحثه أسس الاقتصاد السياسي والضرائب (7181) الذي ظل طوال نصف قرن هو النص الكلاسي لما أطلق عليه كارليل العلم البارد أو القاسي(42). لقد كان (ريكاردو) ابناً ليهودي هولندي كانت أحواله قد انتعشت في سوق لندن للصرافة والأوراق المالية، وكان قد تحوّل إلى المسيحية على مذهب الموحِدين وتزوِّج من فتاة على مذهب الكواكر Quaker (جماعة مسيحية) وأسسى شركة سمسرة وكوّن ثروة كبيرة وانسحب من عالم الأعمال سنة 5181 وكتب عدّة مباحث عميقة خاصة في المالية.وفي سنة 9181 تم انتخابه لمجلس العموم البريطاني حيث حارب المفاسد البرلمانية ودافع عن الاتحادات العمالية وحذّر الرأسماليين كي ينتبهوا مخافة أن يجني ملاَّكُ الأراضي في بريطانيا - عاجلا أم آجلا - حصادَ الصناعة ومكاسبها بما لهم من حق في رفع الإيجارات. ودلّل في بحث له في هذه الفترة على أن رفع الأجور لم يكن أبداً أمراً حقيقيا بسبب ارتفاع الأسعار الناتج عن زيادة تكاليف الإنتاج، لأن الأجر الخالص للعامل هو ذلك الذي يمكِّنه من العيش والإبقاء على نوْعه (دون زيادة) ولم يترك ريكاردو إلا القليل لكارل ماركس بتعريفه لقيمة value (وليس سعر price) البضاعة بكمية العمل المبذول اللازم لإنتاجها.
ولم يكن هو نفسه قاسيا (باردا) كَعِلْمه، فقد ظلّ هو ومالتوس صديقين إلى النهاية رغم أنهما كانا يختلفان غالبا في أمورخاصة وفي أمور الطباعة، وعندما ماتا (ريكاردو في سنة 3281 ومالتوس في سنة 4281) قال عنهما سير جيمس ماكنتوش Mackintosh (الومضة الباقية من التنوير الإسكتلندي): لقد عرفتُ آدم سميث معرفة سطحية، وعرفت ريكاردو جيدا وعرفت مالتوس بعمق فقد كانت علاقتي به حميمة. وبصرف النظر عمّا يُقال عن العلم الذي كان هؤلاء الثلاثة هم سادته ورجاله الأساسيين، فإن ثلاثتهم كانوا من أفضل من عرفت على الإطلاق(52).
روبرت أوين
نعود الأن بسرور إلى روبرت أوين، رجل الصناعة الناجح الذي حاول أن يجعل الاقتصاد البريطاني شأنا بهيجا يجعله عواناً بين الرأسمالية والاشتراكية. وُلد روبرت في نيوتون Newtown في ويلز Wales حيث كان أبوه صانع سروج وصاحب محطة تزويد المسافرين بجياد البريد، وصاحب مصنع حديد، وكان ناجحا في كل هذه الأعمال. وكان روبرت في صباه ضعيف البدن ولكنه تعلم كيف يحافظ على صحته وعاش حتى بلغ السابعة والثمانين. وقد جعله أهله يمارس العمل وهو في التاسعة من عمره، وفي العاشرة تمَّ تدريبه ليمتَهِن تجارة الأجواخ والألبسة في ستامفورد Stamford وفي الرابعة عشرة من عمره أصبح مساعدا لتاجر أجواخ وألبسة في مانشستر Manchester، وفي التاسعة عشرة من عمره أصبح مديرا لإحدى أكبر المصانع في لانكشير براتب سنوي قدره ثلاثمائة جنيه (بوند) (نحو 005،7 دولار؟) وظل في عمله هذا ثمانية أعوام حقق خلالها شهرة لكفاءته واستقامته. لقد راح يوفِّر ويدرس ويقرأ بشغف يفوق الحد، وكوّن صداقات مثيرة للانتباه مع كل من: جون دالتون Dalton المعروف بكيميائه الجزيئية atomic Chemstry وروبرت فلتون Fulton المعروف بقواربه البخارية وصموئيل (صامويل) كولرِدْج Coilrdge المعروف بأفكاره الراديكالية وأشعاره المعروفة. وفي سنة 9971 وكان قد بلغ الثامنة والعشرين اشترى من ديفد ديل David dale لنفسه واثنين من شرَكائه مجموعة مصانع نسيج في نيو لانارك New Lanark بالقرب من جلاسجو Glasgow وحظي - مكافأةً له - بابنة ديل Dale التي أصبحت زوجته المحبوبة التي أنجب منها سبعة أبناء.
وكانت نيو لانارك تضم نحو 0002 نفس بمن فيهم نحو 005 طفل أُرسلوا إليها من البيوت الفقيرة في جلاسجو وإدنبره، وكما تذكَّر أوين فيما بعد كان السكان يعيشون في بطالة وفقر وسادت تقريبا كل أنواع الجرائم، وكانوا مدينين مرارا غير أصحاء وفي حالة بؤس... وأدى الجهل وقلة التدريب إلى اعتيادهم السُّكر والسرقة والكذب والغش والقذارة... وكانوا مجحفين في حق الأمة سياسيا ودينيا يتصدون لأية محاولة لتحسين أوضاعهم(62). وكانت المدن الصناعية الصغيرة تكاد تخلو من وسائل الصحة العامة ووسائل منع تفشي الأمراض. وكانت المساكن مظلمة قذرة، وبدت ممارسة الجريمة عملا ترفيهيا من عناء العمل، وكانت الحانات ملاذاً دافئا وباعثا على المسرّة من مشاكل البيوت. وكان أوين Owen قد فقد إيمانه بالغيبيات تماما لكنّه تعلّق بإخلاص بالمثالية الأخلاقية للمسيح، لكنه صُدِم بالمزج بين العبودية الصناعية الجديدة واللاهوت المسيحي القديم ( المقصود التوفيق بينهما)، وإنما راح يبحث عن سبيل للتوفيق بين الرأسمالية الناجحة والأخلاق المسيحية.
وأقنع نفسه - رغم تحذير والديه - بعائد قدره 5% من رأس المال المستثمر، ورفع الأجور ومنع تشغيل الأطفال تحت سن العاشرة، ورفض حجة مالتوس التي مؤدّاها أن زيادة الأجور ستزيد ضغط (استهلاك) السكان على الطعام المتاح مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار مما يجعل الأجر الذي يتلقاه العامل وكأنه لم يزد (بمعنى أن قيمته الشرائية رغم الزيادة تظل كما هي) وساق الحجة على أن ما هو صالح للأكل مما يجود به البحر لا حد له، كما أن زيادة السكان تؤدي إلى زيادة الأراضي المزروعة وأن زيادة الإنتاج ستقترن بظهور المزيد من الاختراعات والمزيد من العمالة، كل ذلك سيساعد على توفير الطعام وتحقيق الازدهار للسكان، إذا أخذت الحكومة بالبرنامج الإصلاحي الذي يقترحه(72). وافتتح في نيو لانارك New lanark محلا يبيع فيه مستلزمات الحياة بسعر التكلفة تقريبا، ودرّب - بصبر - العاملين معه ليس فقط على تقنيات الإنتاج بل أيضا على فن الحياة ، وأكد لهم أنهم إذا تعاونوا وراعى بعضهم بعضا سينعمون بسلام ورضا لم يألفوهما من قبل. ويبدو أنه كسب كثيرا من العمال إلى جانب النظام والنظافة والاعتدال، وعندما تذمّر والداه من أنه ينفق على أعمال الإحسان والتعليم أموالاً كان يمكن أَنْ تحقق أرباحاً وافرة، كوّن لنفسه شركة خاصة به (3181) بعد أن فسخ شركته معهما، ورحب شركاؤه الجدد (كان من بينهم جيرمي بنثام) بتجربته وكانوا راضين بنسبة الخمسة في المائة كعائد لاستثماراتهم.
وحقَّقت مصانعه ومشروعاته في نيو لامارك شهرة على مستوى الوطن إن لم يكن على مستوى العالم. وكانت مدينة نيو لامارك تبعد عن الطريق الرئيسي مسافة تستغرق ركوب يوم كامل من جلاسجو عبر جبالٍ وضباب، ومع هذا كان آلاف الزائرين يأتون لفهم هذه الظاهرة التي لاتصدق - مصنع يُدار على وفق للمبادئ المسيحية، ووقَّع عشرون ألفا في دفتر الزيارات فيما بين عامي 5181 و 5281 ، كان منهم كتاب ومصلحون ورجال أعمال وأمراء مثل الأرشيدوق جوهان (يوهان) ومكسمليان النمساوي، وفي سنة 5181 كان الدوق الكبير نيكولاس (الذي سرعان ما أصبح قيصرا) قد اقتنع بمشروع أوين وبنتائجه فدعا أوين Owen إلى لتأسيس مصانع ومشروعات مماثلة في روسيا(82).
وبعد أربعة عشر عاما من التجربة شعر أوين Owen بضرورة تأكيد تجربته وإعلانها للعالم لأنه كان واثقا من أن انتشارها في أنحاء العالم سيضمن السعادة لكل البشر عبر الأجيال(92) لذا فقد أصدر في سنة 3151 أول مقال من مقالات أربع كان لها عنوان شامل (نظرة جديدة للمجتمع) أصبحت من الكلاسيّات الكبرى في الإنتاج الفكري الذي يتناول الإصلاح. ولم يقدم اقتراحاته بشكل مُستقر وكأنه مستعد للقتال، فقد أكَّد لحكّام بريطانيا ورجال الصناعة فيها أنه لايرغب في إحداث أيّ تغييرثوري، ولايؤمن به وأن خطته لا تهدف إلى إلحاق الخسارة بأيِّ أحد بل إنها حقاً قد تزيد من دخل صاحب العمل، وأنها - أي خطته - قد تجنِّب إنجلترا الثورة. لقد بدأ باقتراحٍ وجدهُ أساسيا لأي إصلاح جذري - وهو ضرورة تعديل شخصية الإنسان منذ الطفولة ببث معتقدات وتجارب مفيده تُغير ما يبدو أنّه قد غُرِس فيه من خلال موروثات ثابتة تذكي فيه التنافس والصراع. إن أكبر أخطائنا تتمثل في فكرة مؤداها أن الأفراد يشكلون شخصياتهم(03) لكن العكس هو الصحيح، فآلاف المؤثرات التي تؤثر في الشخص قبل ميلاده ومن ميلاده إلى موته هي التي تكوّن شخصيته(13). وانتهى أوين Owen بحماس رافضاً أي معدل أو ملطف فأي شخصية سواء كانت من أفضل الشخصيات أم من أسوئها، ومن أكثرها جهلاً أو أكثرها تنوراً لابد أن تكون موجودة في أي مجتمع، بل وفي العالم كله وذلك من خلال وسائل خاصة هي إلى حد كبير تحت سيطرة من يملكون زمام الأمر في الحكومات(23). ومن هذا المبدأ خلُص أوين بافتراضين: الأول؛ أن الطبقات المالكة الحالية لا لَوْم عليها في ممارساتها وأفكارها طالما أن أفراد هذه الطبقات هم نتاج ماضيهم والبيئات التي هم فيها الآن، والثاني أن الإصلاح لابد أن يبدأ بالأطفال وبتحسين أحوال المدارس وزيادة أعدادها. لابد من بذل كل جهد لتنشئة الأطفال بحيث يفهمون أنه لابد أن يحترم كل فرد الأفراد الآخرين طالما أن أي فرد غير ملوم لصفاته (شخصيته) وغير ملوم بسبب ظروف المجتمع الذي نشأ فيه: لابد من تعليم الأطفال كيف يتعاونون بإراداتهم وأن يكونوا شجعانا. ولذا وجدناه عندما كانت المدارس المتاحة للعوام في إنجلترا قليلة جدا يقترح على الحكومات في كل البلاد وضع خطة وطنية (على مستوى الأمة) للتعليم وإعادة تشكيل الشخصية.. دون نظر إلى وطن أو مذهب ديني أو حزب(23). وكان ديفد ديل Dale قد أنجز بالفعل الكثير لتعليم الأطفال في نيو لانارك، وزاد أوين على ذلك بأن أقام في إحدى المباني من ممتلكاته المعهد الجديد 6181 لتحويل الملائكة والمتبربرين إلى مسحيين بدون لاهوت. لقد راح يبحث عن تلاميذ لمعهده من بين الأطفال الذين يستطيعون المشي(33) فقد كان يخشى (مثل أفلاطون) أن ينقل الآباء الذين تكونوا بالفعل (تشكلت عقولهم ونفوسهم بالفعل) أو فسدت طباعهم بالفعل - إلى أطفالهم روح التنافس ......... في الحكم الموجود (القائم)، واستسلم للأمهات اللائي أصررن على أن الأطفال في أعوامهن الأولى يحتجن إلى عطف الأم ورعايتها، وعادة ما كان يُلحق بمدرسته الأطفال في سن الثالثة ويتركهم - إن سمح الطقس - يتعلمون ويلعبون في الهواء الطلق، وكان الأطفال ذكوراً وإناثاً يلعبون ويتدربون معاً، وكان عليهم أيضاً أن يتدربوا في دار الفنون (الصناعات)، وكان الأولاد يتلقون تدريبات عسكرية، لكن كان عليهم أن يتعلموا أيضاً الغناء والرقص والعزف على بعض الآلات الموسيقية كالبنات. وكان كل هذا البرنامج التعليمي لخدمة تكوين الشخصية الأخلاقية مع تركيز على الاحترام واللطف والكياسة والرفق والتعاون. ولم يكن هنا عقاب(43) وعند نهاية كل يوم دراسي يعود الأطفال إلى آبائهم ولا يكون مسموحاً لهم بالعمل في المصانع قبل العاشرة.
ولم تقدم مدرسة أوين أي مقرر ديني، ولا حتى في المحاضرات المسائية التي يحضرها الكبار، فقد كان أوين Owen مقتنعاً أن الدين سيفسد عقل الطفل بخرافاته ومن ثم وجب النأى بطفل التنوير عن الدين، فالذكاء هو الفضيلة العليا وانتشار التعليم هو الحل الوحيد للمشاكل الاجتماعية، وأن التقدم - إذا ما أُتيح التعليم - حتمي ولا حدود له(53). ولم تكن هناك في مصانعه ومدرسته أي فصل عرقي أو ديني. فقد كان يُقدم الإحسان والرفق للجميع على سواء(63) وكان يؤمن أن المناهج التي يقدمها هي محاولة للتحرك في اتجاه أخلاق المسيح وراح يتطلع بحماس ليوطوبيا أخلاقية!
وفي مقاله الرابع (6181) وهو المقال الذي أهداه للوصيِّ على العرش قدم بعض المقترحات في مجال التشريع. لقد طالب البرلمان بالإسراع في إصدار مرسوم بتقليل المستورد من الخمور، ورفع الضرائب على المباع منها، وأخيراً إنهاء تراخيص محلات الجِن gin (شراب مُسْكر قوي) وحانات البيرة (الجعّة) وتضييق الخناق على السكر حتى يقتصر في النهاية على الأغنياء من ذوي المال. وأوصى بنشر التعليم الابتدائي وتمويله لتحسين أخلاق الأجيال القادمة. ودافع عن صدور تشريع المصانع الذي يمنع تشغيل الأطفال دون العاشرة ومنع العمل الليلي لمن هم دون الثامنة عشرة كما أوصى بتحسين ظروف العمل وتنظيم ساعاته، وتدبير نُظم للتفتيش الدوري على المصانع. وأوصى بضرورة أن يقوم المكتب الحكومي للعمل (الإدارة الحكومية المنوط بها أمور العمل) بجمع الإحصاءات بشكل دوري عن الحاجة للعمالة وغير ذلك من أمور العمل لاستخدامها للتخفيف من حدة البطالة(73). ودعا إلى إلغاء اللوترية (اليانصيب) التي تنظمها الدولة باعتبارها وسيلة للإيقاع بغير الوعي، وسرقة الجاهل(83).
واتفق مع مالتوس أن (قوانين الفقراء Poor laws) التي تُبقي العاطلين والفقراء على قيد الحياة بالكاد ليست إلا خطوة واحدة من المجاعة، وهي تترك الذين يتلقون العون على وفق هذه لهذه القوانين نهباً للجريمة، وتجعلهم يتفرغون للتناسل، واقترح أوين (7181) بدلا من بيوت التشغيل Work houses التي تُدار في ظل هذه القوانين أن تقيم الدولة مجتمعات كل منها يتكوّن من 005 أو 0051 نفس، وتنظم كل منها نفسها تنظيما داخليا ويقتسمون العمل فيما بينهم لإنتاج طعامهم وملابسهم وليديروا مدرستهم(93). ولم تلق دعوته إلا استجابة قليلة الشأن من البرلمان، فتوجه في سنة 8181 إلى أصحاب المصانع البريطانيين(04) يصف لهم نجاح النظام الذي اتبعه في نيو لانارك ويحثّهم أن يكفّوا عن تشغيل الأطفال دون الثانية عشرة من أعمارهم، لكنهم لم يجدوا ذلك متفقاً معهم وامتعضوا من تحليل أوين للركود الاقتصادي باعتباره راجعا إلى كون الإنتاج inventive productivity يتجاوز القدرة الشرائية للسكان. لقد رفضوه باعتباره حالما ملحدا لا يفهم فهما حقيقا حقيقة المشاكل التي يواجهها أصحاب العمل، ولا الحاجات البشرية التي لا يستطيع أن يشبعها إلاّ الدين.
وأخيراً عاد أُوين Owen إلى العمال أنفسهم فتوجه إلىهم بخطاب إلى الطبقة العاملة (9181)، ولقد أسعدهم بإعلانه أن العمل اليدوي إذا تم توجيهه بشكل صحيح هو مصدر الثروة كلها ومصدر الرخاء والازدهار للأمة(14) ولكنه حذرهم من أن إنجلترا وطبقاتها العاملة ليست مستعدة للاشتراكية، وأنكر أي نيّة يُضمرها لتقديم اقتراح للحكومة البريطانية بضرورة تعيين كل القادرين على العمل في البلاد، تعيينا مباشرا(24). ورفض قيام الحكومة بأية إجراءات متطرفة كما رفض القيام بثورة لأنها ستثير الأحقاد والكراهية والثأر(34) وعلى أية حال فقد أعلن في سنة 0281 في (تقرير إلى أصحاب الأراضي في لانارك) أن إنجلترا الآن لا تحتاج إلى إصلاحات تدريجية وإنما إلى تغيير جذري في نظامها الاجتماعي(44).
وعندما لاقى إحباطاً في إنجلترا وجه وَجْهَهُ آملاً شطر الولايات المتحدة الأمريكية حيث كان أصحاب فرق دينية مختلفة قد أقاموا بعض التجارب الاشتراكية. ففي سنة 4181 قامت جماعة من التقويين الألمان الأمريكيين بشراء ثلاثين ألف فدان (أكر) على طول نهر وابش Wabash في جنوب غرب إنديانا وشيدوا مدينة طوروها أطلقوا عليها اسم هارموني Harmanie، وبحلول عام 5281 حل بهم الإفلاس فأسعفهم أوين، ودمر ماليته بأن قدم لهم أربعين ألف جنيه من أجل الأكرات (الفدادين) والمدينة التي أعاد تسميتها لتصبح هارموني الجديدة New Harmony ودعا الرجال والنساء من ذوي النوايا الحسنة للانضمام إليه لتكوين مجتمع تعاوني. ودفع كل التكاليف ماعدا تكاليف المدرسة إذ دفعها وليم ماكلور Maclure وأتى إليه آلاف المتحمسين راحوا يأكلون طوال عام على نفقة أوين وتكيّفوا ببطء مع العمل المنظم واختلفوا في أمور الدين والسياسة، وفي 7281 كان قد خسر معظم الأربعين ألف جنيه(54) فأحال أمور هذه المستعمرة إلى ماكلور وعاد إلى بريطانيا. ومع هذا لم يكن قد أنهى ما في جُعبته تماماً، فقد قاد حركة لتطوير نقابات العمال لتكوّن روابط صناعية وتجارية تنافس المشروعات الخاصة في الإنتاج الصناعي. وقَبِل الاتحاد الوطني للبنائين عقوداً. وفعلت الاتحادات الأخرى ما يناسبها وفي سنة 3381 نظمها أوين في المنظمة الوطنية الكبرى للنقابات العمالية وكان يأمل أن تستأصل هذه المنظمة - بالتدريج - شأفة الرأسمالية وتحل أخيراً محل الدولة. وتدخل البرلمان بقوانين تكبح هذا الاتجاه لكنها لقيت مقاومة شديدة فرفضت البنوك تقديم قروض له وفي سنة 4381 اعترف أوين بالهزيمة. إن حياته التي شهدت نجاحا كبيراً في مضمار الصناعة، يبدو أنها وصلت الآن أو كادت إلى مرحلة الفشل الكامل، وأدت الاختلافات الدينية إلى تعكير صفو زواجه، فقد كانت زوجته كالفنية متحمسة عندما اكتشفت أنه (لا أدري)، وفي وقت لاحق حثت ابنها روبرت على إعادة أبيه إلى حظيرة الكالفنية، فكانت النتيجة أن تشكك الولد في دينه بدلا من أن يُقنع أباه(64). وبعد أن عاد أوين من أمريكا عاش منفصلاً عن زوجته رغم أنه ظل على علاقة صداقة بها. وكان يؤمن بالطلاق ولكنه لم يسع إليه واستغرق في مهمته (رسالته) استغراقاً كاملاً.
وقدَّم تشجيعاً فعّالاً للجماعات المختلفة التي حاولت تطبيق مبادئه: في أوربستون Orbiston في إسكتلندا، وفي رالاهين Ralahine في أيرلندا وفي كوينوود Queenwood في إنجلترا. وقد حلت الجماعة الأولى نفسها في غضون عامين والثانية في غضون ثلاثة أعوام والثالثة في غضون ستة أعوام. وظل ينشر أفكاره بالخطب والتأليف وعاش حتى رأى كثيراً من تعاونيات المستهلكين في الجزر البريطانية. وظل مشغولاً بكتابة توصيات بالإصلاح للهيئات التعليمية والمسؤولين الحكوميين والملكة فكتوريا. وأخيراً - في سنة 3581 - عاد إلى الاتجاه الروحي Spiritualism وأغرق في التأمل الذاتي، وراح يجري حوارات حميمة (باطنية) مع فرانكلن وجيفرسون وشكسبير وشيلي ونابليون والنبي دانيال(74). وفي سنة 8581 كان قد تخلّى منذ زمن عن مجال اهتمامه بل وعن نفسه فعاد إلى بلدته تيوتون ومات فيها وهو في الثامنة والثمانين.
لقد كان رجلا طيبا، وكان غيْرياً يفكر في غيره أكثر من أي شخص آخر، ولم يستطع أن يسمو فوق ذاته كلية، فقد كان فخوراً في طيّات نفسه بسلطانه ونجاحه وفكره، وكان على حق عندما قرر أن التعاون السليم الذي يحقق الغرض في حاجة إلى نظام وسلطة. إنه أفضل من استطاع تضخيم ذاته لتضم بين جنباتها أقاربه وبلده وجنسه، ووجد - لهذا - رضا في توسيع نطاق الرحمة والعطاء. وهذا هو ما فعله روبرت أوين بعد كل شيء وقبل كل شيء، بشجاعة، وهذا وحده يكفي لنجعله بين الدعاة prophets الملهمين الداعيين إلى حياة أفضل.