قصة الحضارة - ول ديورانت - م 11 ك 2 مقدمة
صفحة رقم : 14575
قصة الحضارة -> عصر نابليون -> تاريخ الحضارة الأوروبية -> مقدمة الترجمة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الكتاب الثاني: تاريخ الحضارة الأوروبية من 9871 إلى 5181
مقدمة الترجمة العربية
في هذا الكتاب الثاني من المجلد الحادي عشر لموسوعة قصّة الحضارة يُواصل المؤلفان حديثهما عن التطوّرات التي حدثت في أعقاب الثورة الفرنسيّة، وكان بعض هذه التطورات استمراراً لأفكار الثورة، وكان بعضُها الآخر تصحيحاً لها• وهذا الكتاب كما هو واضح من عنوانه يتناول السياسة والاقتصاد والدين والفن والأدب والعلم ومختلف مظاهر الحياة في سياق واحد يُفَسّر بعضُه بعضَه الآخر فتأتي النظرةُ شاملةً عميقة، بالإضافة إلى أنّ هذا المنهج يُوضح تزاوج الحضارات ولقاء الأفكار• نفهم من هذا الكتاب أنّ التقسيم النظري للمذاهب السياسية والاقتصادية والاجتماعية لا وُجود له بشكل واضح على أرض الواقع فثمة تقسيم نظري (وهذا مجرد مثال) تبين فصول الكتاب أنه مجرّد تقسيم لا يخرج عن رؤوس من سمّاهم نابليون بالأيديولوجيين أي المنظّرين، وكانت الكلمة - حين استخدمها - تنطوي على شيء من السخرية، ونعني به تقسيم النُّظم إلى علمانية ودينية، فليس هناك نظام واحد يستطيع حتّى لوْ أراد أن يُغفِل عقائد الشعب حتّى لو كانت عقائد خرافيّة• من المؤكَّد أنّ الكنيسة الكاثوليكية في روما لم تكن تعتبر نابليون مسيحياً أو على الأقل لم تكن تعتبره كذلك من وجهة نظرها، ولم يحضر الرجل للصلاة في كنيسة، ولم يحضر تسبيحه شكر وفقاً للطقس المسيحي، ولم يؤمن في يوم من الأيام بفكرة التثليث في المسيحية، وتزوّج ماري لويز النمساوية في الوقت الذي لم يكن البابا قد أقرّ طلاقة من جورفين (أى أنه جمع بين زوجتين) ولم يؤمن يوماً بعصمة البابا (وهو مُعتقد في صلب العقيدة الكاثوليكية) بل لقد أهانه بعد ذلك كما نقرأ في فصول هذا الكتاب وسَجَنه وجرّده من ممتلكاته••• نابليون إذن من وجهة نظر معاصريه الأوروبيين كافر أو مُلحد أو عَلْماني بل إن السلطات الكنسيّة لم تكن مُقتنعة أن اعتناقه للإسلام في مصر كان مجرّد خدعة فوصفته بالمرتد عن المسيحية• ومع كل هذه العلمانيّة إن صحّ التعبير، وجدنا نابليون نفسه عندما أراد أن يضبط ما انْفلت في فرنسا: ضياع، وتمرّد وتفسّخ في الأسرة وفي الحياة العامة، وافتقاد لجو الرخاء الاقتصادي والاستثمار لم يجد إلاّ الدين وسيلة لذلك، وعندما أراد أنْ يُتوج نفسه ملكاً كان لابُد أن يتعزَّز بالدين أمام غالبية شعبه، رغم أنّ هذا أثار سخرية أهل باريس السّاخرين بطبعهم من الكنيسة، فاسترضى البابا ونَفَحَةُ جُعْلا ليتوّجه ويُباركه (أى يمسحه بالزيت)، ومع هذا كانت هناك إشارات تَتُمُّ عن حقيقة ما بداخله ففي حفل تتوجيه وَضَع هو نفسُه التاج على رأسه بعد أن تناوله من فوق منضدة مُعدَّة لذلك ولم يسمح للبابا بأن يضع التاج فوق رأسه (رأس نابليون)، والمعنى واضح، وشجع نابليون نشر كتاب عن (عبقرية المسيحية)، ومؤلفُ الكتاب نفسه اعترف في آخر حياته أنه لم يقصد إلاّ إيجاد وسيلة (هي هنا المسيحية) لإسكات الفقراء ومنع الثورات• ليست هناك إذن علمانيّة خالصة ولا يمكن أن تكون•
فإذا ما انتقلنا إلى النّظم الدينية وجدنا البابا يناور ويتحالف ويطالب بممتلكات دنيوية (الولايات الباباوية) ووجدنا الأساقفة يطالبون بممتلكات الكنيسة، بل ووجدنا مثالاً طريفاً قد يكون من المفيد ذكره في هذا السياق، فعندما وصل نابليون إلى بولندا المقسّمة وقتها بين روسيا وبروسيا والنمسا راقت له أمرأة جميلة من نسائها النبيلات، فاستقْصت عليه ورفضت ما أراد، فترجّاها نبلاءُ بولندا بمن فيهم رجال الدين المسيحي أن تُضحّي بنفسها وترضَخَ له وتُرضيه حتى يُخلِّص بولندا من أعدائها الذين اقتسموها وقسّموها وليعيد بولندا موحّدة كما كانت، فتكون (أي هذه المرأة) بذلك قدِّيسة مثل أستير وساقوا لها آيات من الكتاب المقدس (العهد القديم - سفر أستير) فمن هي أستير هذه؟ إنها فتاة يهودية جميلة تراءت للامبراطور أَحَشويروش الذي ملكَ من الهند إلى كوش فتزوّجها بعد أن أوصاها قريبها مردخاي ألاّ تذكُر للامبراطور عن شعبها اليهودي، وسلبت أستير لُب الملك واستطاعت أن تُثير حفيظته ضد وز يره هامان إِذْ دبّرت إجلاس الوزير على سريرها فهاج الإمبراطور وقال أيكبسُ في بيتي وأعدمه، وكان هامان عدوا لليهود•• المهم أن أستير استطاعت بفضل حب الإمبراطور لها حماية شعبها اليهودي ومكّنته من قتل مئات من أهل البلاد•
نعود إلى حكاية نابليون، لنجد أنّ هذه المرأة البولندية بعد أن اقتنعت بهذا الشاهد الديني أتاحت نفسها لنابليون فَذَاق عَسِيلتها وآَمْعن، لكنه والحقّ يُقال كان أذكى كثيراً من الإمبراطور أَحَشويرش فلا هو وحّد بولندا لأن هذا كان سيكلفه الكثير، ولا أخرج منها روسيا لأن هذا كان سيُفقده حليفاً محتملاً وهذا ما تحقق لكن إلى حين• ولعلّ الفصل الرابع عشر (عن العلم والفلسفة في عصر نابليون) يكون من أمتع فصول الكتاب، فهو يقدم لنا في عَرْض بسيط وواضح جهود العلماء الفرنسيين في الرياضيات والفيزياء والبيولوجيا (علم الأحياء) وما تمخّض عنها من آراء فلسفية تبنَّى منها كل حزب سياسي ما يُدعّم اتجاهه السياسي، وهذا أمر طريف، كما استثمر السياسيون النظريات العلمية الخالصة لدعمْ أفكارٍ سياسية، وهذا بطبيعة الحال لا ينفي فضل العلماء وإن كان يعيب إنحراف السياسيين•
ولم يدع نابليون - على سبيل امثال - مبادئ الثورة الفرنسية وحرية الأديان وما إلى ذلك تعوقُه عن النظر للأمور من خلال المنظور العملي الذي يؤكّده الواقع وتدعمه الإحصاءات• لقد أقر حرية الدين للجميع بمن فيهم اليهود لكنه أرسل ليسأل حاخاماتهم عن موقف الشريعة اليهودية من الربا فأجابوه أن هذه الشريعة كما جاء بها موسى تحرّم الربا، وسألهم عن موقفهم من غير اليهود فقالوا قولاً حسناً، فأتاح لهم حرية العبادة أُسوة بغيرهم لكنه أمرهم بعدم التمركز في منطقة بعينها وأن ينتشروا في أنحاء فرنسا، وأمرهم ألاّ يقتصروا على مهنة الصرافة والعمل في المعادن النفيسة وإنما عليهم توجيه أبنائهم للعمل في مختلف المهن، والأهم من هذا أنه أسقط الفوائد الربوية التي فرضها اليهود على رعاياه، وهدّأ نابليون من ثائرة فلاّحي الالزاس الذين كانوا على وشك الهجوم على البنوك التي يمتلكها يهود ألمان بأن أمر ألاّ تُحصِّل هذه البنوك المبالغ التي أقرضتها (بالربا) للفلاحين قبل عام (راجع تفاصيل هذا في الفصل الحادي عشر)• والفصول؛ السابع والثامن والتاسع تحوي صفحات شائقة في التاريخ العسكري وفن إدارة المعارك: معركة مارنجو، وأوسترليتز، وأولم وغيرها،••• لقد تناول المؤلف بالتفصيل معارك فرنسا في عهد القنصلية (عندما كان نابليون هو القنصل الأول) وفي عهد الإمبراطورية (بعد تتويجه إمبراطوراً)، ولم يكن عرضُه جافا وإنما تخلّله جانب من أقوال نابليون وتوجيهاته بل ونصوص نشراته التي كان يوزّعها على جنوده مما أعطى العرض حيوية فائقة•
وفيما يتعلّق بالأعلام الواردة في الكتاب بذلت كل الجهد لتقديم الاسم كما ينطقه أهله إلاّ في حالات قليلة، بالإضافة لإثبات الاسم كما هو متداول في الكتابات العربية نقلاً عن الصيغة الانجليزية التي غلبت في بلادنا العربية لظروف تاريخية، وعلى هذا فقد كتبتُ قُبالة الاسم وارسو Warsaw الصيغة (فرسافا) فهكذا ينطقون وارسو في شرق أوروبا، أما معركة وارنر فكتبتها أيضاً بنطقها الألماني فارنر، ومدينة ويمار وضّحت أيضاً أنها فيمار، وجعلت حرف الوار لها في الأعلام الألمانية (ف 7) في أسماء المدن والأشخاص ليكون الاسم كما ينطقه أهله مع عدم إغفال الإشارة للاسم كما هو متداول في الكتب العربية• وفي حالتين أو ثلاث أغفلتُ ذلك لاستقرار الاسم في الاستعمال العربي استقراراً راسخاً، وعلى هذا فقد كتبتُ باريس Paris وليس باري كما ينطقها الفرنسيون، واستقر الاستعمال عندنا على الاسم لويس وليس لِوِي كما ينطقه الفرنسيون، والكتب العربية تذكر الجنرال كليبر بإثبات الراء فلم أجد مبرراً لكتابته (كِلِيبه)• وهناك بعض الأسماء الأوروبية مألوفة لنا بصيغ عربية، فأثبت الصيغة العربية أيضاً مدّاً للجسور بين الحضارات، كالاسم جوزيف الذي هو يوسف وكونستانت الذي ينطقه الفرنسيون كونستان وأوردته الكتب التراثية العربية قستنطين، أما الفيلسوف الألماني جوته أو جيته والصيغتان واردتان في الكتب العربية - فقد اعتمدتُ الصيغتين وأشرتُ لهما معاً، فالألمان ينطقون ما بعد الجيم واواً يُميلونها حتى تكاد تكون ياء، أو واواً يميلونها حتى تكون ياء على نحو ما نُميل الياء المتطرّفة في بعض القراءات فنقول (والضُّحى) مع إمالة الياء لتكون عَواناً بين الألف والياء•
وقد راجعتُ المواضِعَ والأماكن التي وردت في الكتاب على الأطالس التاريخية وضبطتها وأذلت بعض اللّبس الذي وقع فيه سهواً آخرون، فمنطة نهر إِلْب Elbe تُطل على بحر الشمال ولا علاقة لها بمنطقة جبال الألب أو الجمهورية السيزالبية (جمهورية الألب الشمالية)•
ومن المصطلحات التي قمتُ بتصويبها في هذه الترجمة ما ورد في مجال التعليم عن نشر كلَّبات المعلمين أو كليات التربية، والمصطلح المستخدم هو Ecole Normalle الذي يعني كلية المعلمين أو مدرسة المعلمين العليا، ولا يعني أبداً المدارس العاديّة وأخيراً فالكلمال لِلّه وحده سبحانه وتعالى، ندعوه أن يُلهمنا الصواب ويُقيلنا من العثرات، وأكرر شكري للأستاذ محمد السويدي الأمين العام لاختياره - للترجمة - هذه الأعمال الكبيرة، فالمجمع الثقافي في (أبوظبي) أصبح بذلك صَرْحاً ثقافياً موجّهاً للضمير العربي - وعلى اللَه قصد السبيل•
د• عبدالرحمن عبدالله الشيخ