قصة الحضارة - ول ديورانت - م 11 ك 2 ف 9
صفحة رقم : 14588
قصة الحضارة -> عصر نابليون -> تاريخ الحضارة الأوروبية -> المملكة الميتة -> آل بونابرت
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل التاسع: المملكة الميِّتة 1807- 1811
1- آل بونابرت
لقد زاد نابليون من أعبائه بمضاعفة ممتلكاته، لأن المناطق العديدة التي أضافها لإمبراطوريته والتي كان أهلها مختلفين عِرقاً ولغةً وديناً وعادات وشخصية - لا يمكن أن يتوقع أحد أن تكون مُطيعة طاعةً مطلقةً لحِكُم أجنبي يُرسل الضرائب التي يتمُّ جمعها منهم إلى باريس ويُرسل أبناءهم إلى الحروب. ومن ذا الذي يستطيع نابليون اختياره ليحكم هذه البلاد بحكمةٍ وإخلاص، بينما هو (أي نابليون) منشغل بأمور فرنسا غير المنضبطة؟ لقد كان بإمكان نابليون أن يثق في عدد قليل من جنرالاته لإدارة بعض الأقاليم الصغيرة وعلى هذا فقد جعل من بيرثييه Berthier أميراً لنيوشاتل Neuchatel وجعل مورا Murat الدوق الكبير لبيرج Berg وكليف Cleves لكن معظم جنرالاته كانوا ذوي أرواح متمرسة على القيادة العسكرية ولم يكونوا مُلمِّين بفن الحكم وما يتطلبه من دهاء وكان عدد منهم - مثل بيرنادوت Bernadotte الطموح لا يرضون بغير الوصول للعرش. لذا فقد لجأ نابليون إلى الاستعانة بإخوته فصلةُ الدم تضمن ولاءهم كما كانوا - وفقاً لبعض المقاييس من القوى الوطنية التي أدَّت دوراً في القنصلية والإمبراطورية. وربما يكون نابليون قد بالغ في قدراتهم وإمكاناتهم - بسبب مفهومهه القوي لمعنى الأسرة - لأنه بذل قُصارى جهده - لمواجهة تطلّعاتهم لمشاركته الثروة والسلطة - لقد كافأهم جيداً لكنه أيضاً كان يتوقع مشاركتهم له في سياساته. خاصة في إحكام إغلاق القارة الأوروبية في وجه التجارة البريطانية، التي كان يأملُ أن تُجبر إنجلترا على السير في طريق السلام. وربما أيضاً كان يأملُ في أن يستطيع بمشاركتهم أن يخطو خطوة نحو توحيد أوروبا كلها في ظلِّ قانون واحد ورياسة واحدة (كلاهما من عنده) وأن يعمل على انتشار الرخاء العام وإنهاء الحروب الوطنية - والحروب بين الأسرات الحاكمة - في أوروبا.
وبدأ مع أخيه الأكبر جوزيف (يوسف) الذي كان قد أدّى له خدمات معقولة في مفاوضاته مع النمسا وإنجلترا. وكان كورنويل Cornwallis - بعد أن تعامل معه في إميان - قد وصفه بأنه حسن النية، لكنه لا يتمتع بقدرات كبيرة.. إنه حساس ومتواضع ولطيف.. ومُتفتِّح.. وربما أدت قرابته بالقنصل الأول بجعله - إلى حد ما - بعيداً عن روح المكر والخداع، تلك الروح التي تمكنت من وزير الداخلية (تاليران) بشكل واضح(1). وكان جوزيف يحب المال بالقدر نفسه الذي كان فيه نابليون يحب السلطة، ففي بواكير سنة 8971 كان جوزيف قادراً على شراء عقار مُترف في مورفونتين Mortefontaine بالقرب من باريس، كان يدعو فيه أصدقاءه والمؤلِّفين والفنانين وذوي المقام الرفيع حيثُ يَحْتفى بهم احتفاء سخياً. وكان جوزيف مُتلهفاً كي يُعيِّنه أخاه وريثاً للعرش الإمبراطوري، ولم يكن قانعاً قناعةً كاملة عندما عيَّنه نابليون (في 03 مارس سنة 6081) ملكاً على نابلي - أي جنوب إيطاليا. ووصل فرديناند الرابع البوربوني الذي أُبعدت أسرته عن العرش إلى صقلية Sicily بمساعدة الأسطول البريطاني، وقادت زوجته الملكة تمرداً عسكرياً لإعادته لعرش بلاده، فأرسل نابليون أربعين ألف مقاتل بقيادة ماسينا Massena وريجنييه Regnier لقمع التمرد مهما كانت التكاليف، وقد كان إذ تم القمع بضراوة شديدة تركت ذكريات مريرة عبر الأجيال. وحاول جوزيف (يوسف) أن يكسب ولاء رعاياه بالاعتدال واللطف والكياسة ولكن نابليون حذَّره قائلا: على الحاكم - كي يدعّم مركزه - أن يعملَ على أن يكون مُهاباً أكثر من عمله ليكون محبوباً. وكان حُكم نابليون النهائي على جوزيف متعاطفا:إن جوزيف لم يقدّم لي مساعدة، لكنه كان رجلاً طيباً جداً.. إنه يُحبني بإخلاص شديد، وأنا لا أشك في أنه يريد أن يفعل كلَّ شيء من أجلي. لكنَّ صفاته الشخصية ومزاياه لا تصلح إلاّ للحياة الخاصة، إنه لطيف رقيق في تصرفه ولديه مواهب ومعلومات، وهو بشكل عام رجل لطيف. وقد بذل قُصارى جهده في تنفيذ المهام الكبيرة التي أوكلتها إليه. لقد كانت نواياه طيبة، لذا فإن الخطأ إنما هو خطئي أنا فقد وضعته في المكان غير المناسب له(2).
أما أخوه لوسين (لوسيان) Lucien المولود في سنة 5771 فكان متقلّبا تماما كأخيه نابليون، ذلك التقلب الذي لم يكن له ضابط سوى الطموح المهيمن. وبمعنى من المعاني فإن نابليون مدين له بالوصول إلى منصب القنصل الأول، فقد كان رفض لوسين Lucien - باعتباره رئيساً لمجلس الخمسمائة - ما اقترحه البعض من التصويت على خروج مغتصب العرش من تحت مظلة القانون (إهدار دمه)، بالإضافة إلى دعوته (أى دعوة لوسين) الجنود لتشتيت المجلس (مجلس الخمسمائة) فأنهى اليوم لصالح نابليون. وفي وقت لاحق اقترح سلطات ملكية لأخيـه قبـل الأوان، فأبعده أخوه (نابليون) عن مسرح الأحداث بإرساله سفيراً له في أســبانيا. وهنالك اســتخدم كــل الوســائل المتاحــة لهُ لزيادة ثروتــه وبمرور الوقت صار أغنى من نابليون(3) ولمّا عاد إلى باريس رفض الزواج السياسي الذي رتَّبه له أخوه وتزوج وفقاً لاختياره وذهب ليعيش في إيطاليا. وعاد إلى باريس ليقف إلى جوار أخيه خلال أخطار المئة يوم the Hundred Days لقد خُلق لوسين للشعر وبالفعل فقد كتب ملحمة طويلة عن شارلمان. أما أخوه لويس فقد كان أيضاً له عقل أخيه ومزاجه مع قدر من القناعة والمقدرة مما جعله قلقاً أو غير مستقر في ظل أوامر أخيه (نابليون) وسيطرته. وقد أنفق نابليون على تعليمه وأخذه معه إلى مصر وجعله معاوناً له، وهناك استغل منصبه العسكري في الانخراط في علاقات جنسية أدت لإصابته بمرض السيلان، ومن ثم لم يصبر حتى يُشفى من هذا المرض تماما(4). وفي سنة 2081 - وبناء على تشجيع جوزفين - حثَّ نابليون أخاه اللامع لويس للزواج من هورتينز دي بوهارنيه، وكانت شخصية نسائية لامعة Hortense de Beauharnais. وكان لويس زوجاً جِلفاً boorish (المقصود لا يجيد فنَّ الجِماع) وكانت هورتينز زوجة غير سعيدة وغير مخلصة(5)، ومما ساهم في إفسادها تأثير مُتبنيها. وعندما أنجبت طفلاً (51 ديسمبر سنة 2081) هو نابليون - شارل Napoleon - Charles، تم تسجيل نابليون كأب له في العِماد، وقد أدى هذا إلى إلقاء ظلال من الشك على علاقة نابليـون بزوجة أخيـه، وظل هـذا الشك يطارهما إلى آخر حياتهما. ومما أعطى لهذه الشائعات بعض التسويغ أن نابليون اقترح تبنّي الطفل، وكان يُدلله بشغف ويُطلق عليه لفظ ولي عهدنا أو وريث العرش(6)، لكن هذا الطفل مات وهو في الخامسة من عمره، فأصيبت هورتينز Hortense بجنون مؤقت. وفي سنة 4081 أنجبت مولوداً آخر هو نابليون - لويس Napoleon Louis وفي سنة 8081 أنجبت آخر هو شارل - لويس - نابليون بونابرت Charles - Louis - Napoleon Bonaparte الذي أصبح فيما بعد نابليون الثالث Napoleon III.
وفي 5 يونيو سنة 6081 جعل الإمبراطور (نابليون) من أخيه صعب المراس (لويس) ملكاً على هولندا، فكان مستعداً لعشق الشعب الهولندي أكثر من استعداده لعشق زوجته. لقد أدرك إلى أيِّ مدى يعتمد رخاء هولندا على تجارتها مع إنجلترا ومستعمراتها، وعندما وجد الهولنديون سبيلاً لاختراق المنع المفروض على التجارة البريطانية لم يترددوا في اختراقه ورفض لويس (أخو نابليون) أن يُدينهم، ولكن نابليون قاوم هذا التصرف فأصر لويس (أخو نابليون) عليه، ووجه القوات الفرنسية إلى هولندا فتنازل لويس (أخو نابليون) عن عرش هولندا في أول يوليو سنة 0181 فألحقها نابليون بفرنسا وجعلها تحت حكمه المباشر. وتراجع لويس (أخو نابليون) إلى جراز Graz وأصبح مؤلفاً يكتب الشعر والنثر ومات في ليفورنو Livorno في سنة 6481. وانفصلت هورتنز Hortense عن لويس (أخي نابليون) في سنة 0181 وتلقَّت من نابليون منحة مقدارها مليوني فرنك سنويا للعنابة بابنيها، وفي سنة 1181 أنجبت طفلاً آخر نتيجة علاقة مع الكونت شارل دي فلاهوت Charls de Flahaut إلاّ أن مدام دي ريموزا Remusat تُخبرنا - على أية حال - أن هورتنز كانت امرأة ذات تصرفات ملائكية.. وأنها صادقة جداً وطيبة القلب جداً، ولا تعرف الشر أبدا(8). وبعد ترك نابليون العرش للمرة الأولى التحقت بأمها حيث اهتم بها القيصر اسكندر وأولاها رعايته. وقد اجتمعت مع لويس الثامن عشر مما أفزع البونابرتيين. وعندما عاد نابليون من إلبا Elba عملت كمضيفة له، وعندما تنازل عن العرش للمرة الثانية أعطته - سراً - قلادتها الماسية التي كانت قد اشترتها بمبلغ 000،008 فرنك، وقد تم العثور عليها تحت وسادته عندما مات في سانت هيلانة وأعادها الجنرال دي مونثولو de Montholon إلى هورتنز، فأنقذها - بذلك - من الفقر. وماتت في سنة 7381 ودُفنت بجوار رفاة أمها في رويل(9) Rueil. لقد عاشت حياة حافلة بالمفارقات في تلك الأيام العصيبة.
أما جيروم بونابرت Jerome أصغر إخوة نابليون فقد قسَّم حياته وزوجاته بين نصفي الكرة الأرضـية. وُلد جيــروم في ســنة 4781 وتم اســتدعاؤه وهو في السادسة عشرة من عمره للخدمـة في الحرس القنصلي، ودخل في مبارزة فجفرح فتمَّ إبعاده إلى البحرية فارتكــب كثيراً مــن حماقات الشباب الطائشة ودفع من جراء ذلك غرمات اقترض قيمتها من بورين Bourrienne الذي قدم إيصالات لنابليون بقيمة هذه الديون غير المستردة، وعندما كان جيروم فــي بريست Berst كتب لنابليون يطلب 000،71 فرنك فأجابه نابليون بالتالي:
تلقيتُ خطابك يا سيدي الملازم، وإنني في انتظار أن أسمع أنك تدرس - على متن سفينتك الحربية - مهنة أرجو أن تضع في اعتبارك أنها هي طريقك للمجد إنك لو مِت شاباً لكان في موتك بعض العزاء لي، لكن إن عشت حتى الستين من عمرك دون أن تخدم وطنك ودون أن تُخلِّف ذكرى مشرّفة، فتلك حياة كان من الأفضل لك ألا تحياها(01). وترك جيروم البحرية في جزر الهند الغربية ورحل إلى بلتيمور Baltimore وتزوج هناك وهو في سن التاسعة عشرة (سنة 3081) من إليزابث بترسون Patterson وهي ابنة تاجر محلّي، وعندما عاد بها إلي أوروبا رفض البلاط الفرنسي الاعتراف بهذا الزواج على أساس أن كليهما (الزوج والزوجة) لم يبلغا سن الرشد. ورفض نابليون دخول العروس إلى فرنسا، فاتَّجهت إلى إنجلترا وهناك أنجبت ابنا هو جيروم نابليون بونابرت وعادت إلى أمريكا فتلقَّت هناك موافقة نابليون على قدومها إلى فرنسا، وأصبحت بعد ذلك هي جدة شارل جوزيف بونابرت الذي شغل منصب وزير البحرية الاميركية في عهد تيودور روزفلت. وعُيّن جيروم قائداً في الجيش الفرنسي، وأحرز مكانة حَفِيَّة في معارك 6081 - 7081 باستيلائه على عدة حصون بروسية، وكافأه نابليون بأن جعله ملكاً على وستفاليا Westphalia، وهي منطقة مؤلفة من مناطق بروسية بالإضافة إلي هانوفر وهس - كاسل Hesse - Cassel، وكي يُهيئ له شذاً ملكياً عمل على تزويجه من الأميرة كاترين ابنة ملك فيرتمبرج Whrttembergy. وفي 51 نوفمبر سنة 7081 أرسل نابليون إلى أخيه جيروم خطاباً يتجلَّى فيه بشكل جلي أنَّه لازال حاكما ملتزماً بالدستور: إنني أرفق لك دستور مملكتك. إنه يضم الشروط التي أعلنتُ فيها كل حقوقي على المناطق التي فتحتُها، وكل ما لي من حقوق على دولتك. لابد أن تُراعيها بإخلاص... لا تُنْصــت لألئك الذين يقولــون إن رعايــاك قــد اعتادوا العبوديــة وأنهم لن يشعروا بالامتنان لما تُقدمه لهم. ففي مملكة وستفاليا من الذكاء والوعي أكثر مما تظن، ولن يكون عرشك راســخ الأركان إلا بثقة الشعب وحبه. إن ما يُطالب به الرأي العام الألماني بإلحاح هو أنَّ الناس ليســوا برتبهم المتوارثــة وإنما بقدراتهم - وهذا الرأي سيكون لصالحك، فعليك أن تُزيل كلَّ أثر للقنانة (عبودية الأرض) والمواريث الاقطاعية بين السلطة والطبقات الأدنى درجة من رعيتك. إن مزايا مدوّنة نابليون القانونية، والمحاكمات العلنية، وأحكام القضاء ستكون ملامح بارزة في حكومتك... لأن امتداد حكمك وترسيخه يعتمد في الأساس عليها أكثر من اعتماده على الانتصارات المدوية. أُريد أن يسعد رعاياك بدرجة من الحرية والمساواة والرخاء لم يعرفها الشعب الألماني حتى الآن.. إن هذه الطريقة في الحكم ستكون أقوى مانع حصين بينك وبين بروسيا. إنه مانع أقوى من الألب والحصون وحماية فرنسا(11).
وكان جيروم لايزال شاباً لم يتجــاوز الثالثة والعشرين فلم يُقدِّر هذه النصيحة حق قدرها، فكــان يُعوزه ضبط النفس والرزانة اللذان يتطلبهما الحكم، وانغمس في الرفاهية وحرص على الأبهة والمظاهــر وعامل وزراءه كتابعين قليلي القيمة وجعل لنفسه سياسة خارجية خاصــة به، مما ضــايق أخاه الــذي كــان عليه أن يُفكر واضعاً في اعتباره القارة كلها. وعندما خسر أخوه (نابليون) معركة ليبتسج Leipzig الحيوية (3181) لم يستطع جيروم أن يجعل رعاياه موالين لقضية الإمبراطورية، فانهارت مملكته وفرَّ هو (جيروم) إلى فرنسا. وساعد أخاه بشجاعة في معركة واترلو Waterloo ثم فرَّ إلى حَمِية طالباً حمايته في فيرتمبرج Wurtemberg، وعاش عمراً مديداً حتى أصبح رئيساً لمجلس الشيوخ (السينات) في عهد ابن أخيه نابليون الثالث وأسعده الحظ بموته في سنة 0681 في أوج مملكة ميتة أخرى.
أما يوجين دي بوهارنيه Eugene de Beauharnais فكان تلميذا أفضل. لقد كان فتى محبوبا في الخامسة عشر من عمره عندما تزوجت أمه من نابليون، وقد امتعض في بداية الأمر من هذا الجنرال الشاب الفظ كمتطفل دخل أسرتهم وتزوّج أمه، لكنه سرعان ما أَنِس إلى نابليون الذي أولاه عاطفة وعناية. وكان يوجين سعيداً يكاد يطير فرحاً لأن نابليون - ذلك الغازي الشبيه بالإعصار - قد اصطحبه معه إلى إيطاليا ومصر كمعاون له. وتمزّقت مشاعره بين نابليون وأمه عندما علم بخيانتها، لكن الدموع التي ذرفها أعادت ارتباط أمه بزوجها (نابليون)، وبعد ذلك لم تتحطم أبداً الرابطة بينه (يوجين) وبين زوج أمه. وفي السابع من شهر يونيه عيَّن نابليون ابن زوجته هذا (يوجين) في منصب نائب ملك في إيطاليا، لكن نابليون قدَّر مدى ثقل المسؤولية التي ألقاها على عاتق شاب لم يتجاوز الرابعة والعشرين من عمره، فغمره بقدر كبير من النصائح:
بعهــدنا إليك حُكــم مملكتنا الإيطالية، إنما نقدم لك برهاناً على احترامنا لمسلكك. لكنــك لازلت في سن لا تسمح لك بالتحقق من سوء طويّة الناس أو ما يُضمرونه من سوء. وعلى هذا فإنني لا أستطيع أن أشدّد عليك كثيراً بضرورة الحرص والحذر، فرعايانا الإيطاليون أكثر لؤماً وخداعاً بطبيعتهم من مواطنينا الفرنسيين، والطريقة الوحيدة التي تستطيع بها أن تحتفظ باحترامهم وتحقق سعادتهم هي ألا تُولي أحداً منهم ثقتك الكاملة وألاً تُخبر أياً من الوزراء وذوي المراتب العليا في بلاطك بحقيقة ما تفكر فيه. إنني يجب أن أُركِّز لك على ضرورة الاحتياط لأمرك بإخفاء قَصْدك، وهو أمر يأتي للمرء - طبيعياً - في سن النضج..
قد يُحقُّ لك أن تفخــر لكونك فرنســياً، إلاّ فــي حالة واحدة وهي عندما تكون في منصــب نائـب الملك في إيطاليا، ففي هذا المنصب يجب أن تنسى أنك فرنسي واعتبر نفسك قد فشلت إذا لم يصدق الإيطاليون أنك تُحبهم. إنهم يعرفون أنه لا حُب دون احترام، تعلَّم لغتهم، ولا تكن غريبا عن مجتمعهم وخُصّهم باهتمام خاص في الحفلات والمناسبات.
قلّل من كلامك، هذا أفضل لك فأنت لم تتلَّق قدراً كبيراً من التعليم وليس لديك معلومات كافية تتيح لك أن تشترك في مناقشات عامة. تعلّم كيف تستمع، وتذكر أن الصمت لا يقل تأثيراً عن استعراض المعلومات. لا تُقلِّدني في كل مجال، فأنت تحتاج أن تكون متحفِّظاً بشكل أكثر. لا تترأس - غالباً - مجلس الدولة، فخبرتك لا تؤهلك للنجاح في هذا الموقع... وعلى أية حال لا تُلْق خطباً في مجلس الدولة... فقد يكتشفون فجأة أنك غير كفؤ لمناقشة مجريات الأمور... فطالما أن الأمير (الملك) يمسك لسانه، فإن سلطاته تكون كثيرة كَثْرة تفوق الحصر، إذ يجب على الأمير (الملك) ألاّ يتحدث إلاّ إذا علم أنه هو الأكثر قدرة من بين كلِّ مستمعيه.
كلمة واحدة أخيرة: اجعل لعدم الأمانة عقاباً غليظا..(21).
وقد أنجز يوجين ما كان يأمله منه الإمبراطور (نابليون) بمعاونة وزرائه أعاد تنظيم المالية وحسّن الخدمة المدنية وشيّد الطرق وطبق قوانين مدوّنة نابليون القانونية، وقاد الجيش الإيطالي بشجاعته المعهودة ومهارته المتزايدة، وزاره الإمبراطور المسرور من فِعَاله في سنة 7081، وانتهز الفرصة (بواسطة إعلان ميلان Milan Decree) بأن يَرُدَّ - بإجراءات صارمة - على الأمر البريطاني British Order in Couneil الذي يُطالب السفن المحايدة أن ترسو في ميناء بريطاني قبل التوجه للقارة الأوروبية. وبذل يوجين قُصارى جهده لتنفيذ الحصار القاري المثير. وظل موالياً لنابليون خلال الحروب وأثناء فترة تنازله عن العرش، وتوفي في سنة 4281 بعد موت نابليون (زوج أمه) بثلاث سنوات فقط. وقد كرر ستندهول Steendhal في أكثر من موضع ما يفيد حب الإيطاليين لذكرى حُكمه المتنوّر(31).
ولأن نابليون كان يمتلك أراضي أكثر من إخوته، فقد أوقف على أخواته الكثير، فقد أعطى إليزا Elisa (ماريا أَنّا Maria Anna) وزوجها اللطيف فليس باكيوكوش Felice Bacciocchi مقاطعات بيومبينو Piombino ولوشا Lucca، فحكمتهما بطريقة جيدة - موَّلت المشروعات العامة، ورعت الآداب والفنتون وشجعت باجانيني Paganini - حتى أن نابليون جعلها في سنة 9081 دوقة توسكانيا الكبيرة Tuscany حيث واصلت أعمالها الخيّرة her dictatorial beneficnce.
أما بولين بونابرت Pauline التي اعتبرها نابليون أجمل نساء عصرها فقد وجدت أن ابداء مفاتنها على سرير واحد (المقصود لرجل واحد) أمر لا يُحتمل - ففي السابعة عشرة من عمرها تزوجت الجنرال شارل لكلير Leclere، وبعد ذلك بأربع سنوات أمرها نابليون بمرافقة زوجها إلى سان دومنجو St. Domingue لخوض معركة ضد توسّان لوفرتور Toussaint LصOuverture، وربما كان نابليون يقصد بهذا إبعادها عن جو العبث الذي يعلم أنها ستنخرط فيه بمجرد غياب زوجها. على كل حال فقد مات لكلير هناك بالحمّى الصفراء، فعادت بولين إلى أوروبا مع جثمانه، وقد زوى جمالها بفعل المرض. وفي سنة 3081 تزوجت الأمير كاميلو بورجيز Camillo Borghese لكنها سرعان ما راحت تمارس الزنا وراح كاميلو يبحث عن المتعة مع مشرفة البيت (القيِّمة على الخدمة) وطلب نابليون من خالها الكاردينال فش Fesh أن يوبخها أخبرها على لساني أنها لطيفة كما كانت وأنه في غضون أعوام قليلة ستغدو مرتبتها أدنى عندي بينما هي تستطيع أن تكون صالحة ومحترمة في كل أوجه حياتها(41) وانفصلت بولين غير الطاهرة عن الأمير وفتحت بيتها العامر لجماعة الأُنس. وجعلها نابليون دوقة لجوستالا Guastalla (في مقاطعة رجيو إميليا Reggio Emilia فــي إيطاليا) لكنهــا فضَّلت أن يكون لهــا بلاط فــي باريــس. وقــد تجــاوز نابليــون عن آثامها لافتتانه بنظراتها وطريقتها، وطباعها الطيبة حتى رأها - في المرآة - تسخر من إمبراطورتة الجديدة مــاري لويز Louise فنفاها إلى إيطاليا وســرعان ما أدارت صالونا في روما. وفي وقت لاحق (كما سنرى) هبَّت لمساعدته عندما أصابته الكوارث. وفي سنة 5281 عــادت لزوجهــا مرة أخــرى وماتــت بين ذراعيه، فقـــال رغم كل هذا فقد كانت أرق مخلوق في العالم(51).
أما كارولين Caroline فكانت جميلة أيضاً، وكانت في أيامها الأخيرة أكثر تأثيراً وقد قيل لنا إنها كانت ناعمة الجلد مُشربة بحمرة، وكأنَّ جلدها قطعة من الساتان الأحمر، وكانت ذراعاها ويداها وقدماها متناسقة الخلق سوية كما هو الحال في آل بونابرت. وفي سن السابعة عشرة (9971) تزوجت جوشيم مورا Joachim Mura الذي كان قد حقق بالفعل شهرة في الحروب في إيطاليا ومصر. ولهذه الخدمات التي أداها ولإنجازه الحيوي في مارينجو Marengo تم تعيينه دوقاً لكل من بيرج Berg وكليف Cleves. وبينما كان منشغلاً في عاصمته دوسلدورف Dusseldorf بقيت كارولين في باريس وسمحت لنفسها بإقامة علاقات جنسية غير شرعية مع الجنرال جونو Junot الذي أرسله نابليون إلى بوردو Bordeaux، وعاد مورا إلى باريس ليرد زوجته إلى طريق الصواب، لكنه كان يهوى المعارك والتعرض للأخطار. وفي أثناء غيابه المتتابع في ساحات الحرب أخذت كارولين على عاتقها إدارة دوقيتهما، وكانت إدارتها حسنة حتى أن الناس لم يفتقدوا مورا الذي لم يكن يلفت نظرهم إلاَّ بزيه الجميل. وفوق كل هذه العصبة من الإخوة والأخوات تتربع الأم ليتيزيا Letizia صارمة لا يخدعها شيء مستقيمة لا يُفسدها شيء. لقد شاركت ابنها فخاره لانتصاراته وشاركته الحزن العميق لما حلّت به من كوارث. وفي سنة 6081 جعلها نابليون - وقد بلغت السادسة والخمسين من عمرها - الإمبراطورة الأم وسمح بصرف مبلغ 000،005 فرنك لها كل عام. وقدم لها بيتاً جميلاً في باريس وخدماً كثيرين لكنها عاشت العيشة المقتصدة التي اعتادتها قائلة إنها توفّر تحسباً لظروف صعبة تُلم به (بابنها نابليون)(61). وكانوا يخاطبونها بالأم Madame Mere لكن لم يكن لها نفوذ سياسي ولم تحاول ذلك. وصحبت ابنها (نابليون إلى إلبا Elba كما صحبته في عودته، وراحت تراقب أحواله بقلق أثناء دراما المائة يوم، وكانت تُصلِّي من أجله. وفي سنة 8181 قدَّمت طلباً للقوى الأوروبية بإطلاق سراحه من سانت هيلانه، مستعطفة من أجله لما أَلَمَّ به من أمراض خطيرة فلم يَرُد أحد على طلبها، وتحمّلت باستسلام قدريٍ كعادتها موت نابليون وإليزا وبولين وعدد من أحفادها، وماتت في سنة 6381 عن عمر يناهز السادسة والثمانين. آه يا لها من امرأة! Voila une femme!
ولم تؤتِ خطة أسرة بونابرت مفعولها وهذا يرجع في جانب منه أنها لم تُلب حاجة الشعوب التي حكمتها ويرجع في جانب آخر إلى أن كلَّ واحد من أفراد هذه الأسرة (فيما عدا يوجين) كان ذا نزعة فردية وله أفكاره الخاصة ورغباته - وكان نابليون أيضاً كذلك فقد كان يفكر في سلطته أولاً، ووضع قوانين ممتازة إذا قورنت بالنظام الاقطاعي الذي كان قد أصبح عديم الجدوى، لكنه - أي نابليون - تجنَّب فحوى هذه القوانين وخفف من وطأتها بمزايا عسكرية ومالية فرغم أنه حطّم الاقطاع إلاّ أنه أقام إقطاعاً آخر خاصاً به - ظناً منه أن بمنحه اقطاعات لإخوته وأخواته أصبحوا تابعين مُطيعين له يقدمون له المجندين إلزاماً وفقاً لحاجته في الحروب، ويقدمون له الضرائب في السلم. وقد دافع عن فكرته شارحاً أن كل المناطق - تقريباً - التي يحكمها بهذه الطريقة قد فُتحت عُنوة (تم إخضاعها بالقوة العسكرية) ومن ثم فأهلها رعايا لقانون الحرب وهم سعداء لخضوعهم لقوانين فرنسية حديثة وإمبراطور متنور هو بالنسبة لهم بمثابة أب. أما بالنسبة لأسرته فقد لخص الأمر بطريقة حزينة عندما كان في سانت هيلانه:
إنه لمن المؤكد أنني بائس فليس هناك من يخلفني في أسرتي، أو بتعبير آخر ليس لي ظهير منهم.. لقد قيل الكثير عن قوة شخصيتي، لكنني ضعيف وأستحق التوبيخ بسبب أسرتي، وكل أفرادها واعون بذلك. فبعد انتهاء العاصفة الأولى ضدي، كان إلحاحهم عليَّ لا ينتهي وفعلوا معي ما يشتهون (تصرفوا وفقاً لأمزجتهم). لقد أخطأتُ خطأ كبيراً بسماحي لهم بذلك. لقد كنتُ أثق في أحكامهم، وكان يمكننا أن نسير سوياً حتى إلى القطبين فتهاوى كل شيء أمامنا. لقد كان علينا أن نُغيّر وجه البسيطة. لم يكن لدي حظ جنكيز خان فقد كان لديه أربعة أبناء لا هَمَ لهم إلاّ خدمته بإخلاص. إنني إذا ما جعلتُ من واحد من إخوتي ملكاً فإنه سرعان ما يظن أن العناية الإلهية هي التي جعلته ملكاً، وتنتقل هذه العبارة على نحو مرضىِّ للآخرين. فلا يعود هذا الذي عينته ملكاً قائداً يمكنني أن أوليه ثقتي وإنما يصبح عدواً جديداً عليَّ أن آخذ حِذْري منه إذ تغدو أعماله وجهوده سائرة في طريبق تأكيد استقلاله، لا لدعم أعمالي.. ثم إنهم بالفعل راحوا ينظرون لي بعد ذلك كعقبة في سبيلهم.. يا للبؤس! وعندما استسلمتُ كان عَزْلهم عن عروشهم مسألة تلقائية، لم يعمل لها الأعداء حساباً بل ولم يشغلوا بها فكرهم، ولم يستطع واحد منهم إثارة حركة شعبية، لقد كانوا محتمين بجهودي، لقد ذاقوا حلاوة الملك، أما الأعباء فقد تحملتُها وحدي(71). ولأن نابليون فتح كثيرا ًمن المناطق والمقاطعات فلم يكن هناك العدد الذي يكفيها من الأمراء من أسرته فقد عيَّن بعض جنرالاته وأفراد حاشيته على بعض البلاد dependencies الصغيرة ذات الأهمية الاستراتيجية القليلة، وعلى هذا فقد تولى المارشال بيرثييه Berthier مقاطعة نيوشاتل Neuchatel وأصبح كامباسير Cambaceres أمير بارما Parma وأصبح ليبرون Lebrun دوق بياسنزا Piacenza. وتم اقتطاع اثنتي عشرة دوقية صغيرة من مناطق إيطالية أخرى: وأصبح فوشيه Fouche دوقاً على أوترانتو Otranto وسفاري Savary دوقاً على روفيجو Rovigo. وأخيراً كان أمل نابليون هو أن يجعل من إيطاليا دولة واحدة ويجعلها وحدة في اتحاد فيدرالي أوروبي بقيادة فرنسا وأسرته الحاكمة. وكان من الممكن حدوث هذا، فقط إذا كانت هذه الوحدات المتنافسة والمختلفة والمعتزة بخصوصيتها على استعداد لتكون جزءاً من كل، وعلى شيء من الاستعداد للتخلّي لسلطة بعيدة منها وأجنبية عنها عن حق كتابة قوانينها وتنظيم تجارتها!.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
2- الحرب الأولى في شبه جزيرة أيبيريا (81 أكتوبر 1807 - 12 أغسطس 1808)
بحلول عام 7081 كان غالب البر الأوروبي ممتثلاً لبيان برلين Berlin Decree، فالنمسا انضمت للحصار القاري المضاد في 81 أكتوبر سنة 7081، ومع أن الباباوية اعترضت إلاّ أنها وقّعت في 21 ديسمبر. أما تركيا (الدولة العثمانية) فكانت معارضة للانضمام إليه لكنها امتثلت بسبب التعاون المستمر بين روسيا وفرنسا. وكانت البرتغال مُتحالفة مع إنجلترا لكن كان يحدها من الشرق أسبانيا التي ربطتها أسرة البوربون تاريخيا بفرنسا، مما جعلها تتعهد بالالتزام بالحصار إذ بدت من الناحية العسكرية تحت رحمة نابليون وربما فكر الإمبراطور (نابليون) في أمر يمكنه تنفيذه ولو حتى بقيادة جيوشه عبر أسبانيا لإجبار البرتغال على الامتثال رغم السفن الحربية البريطانية التي تتحكَّم في موانئها ورغم الوكلاء التجاريين البريطانيين الذين يتحكّمون في تجارتها.
وفي 81 يوليو سنة 7081 أخبر نابليون الحكومة البرتغالية أن عليها إغلاق موانئها في وجه البضائع البريطانية فرفضت. وفي 81 أكتوبر عَبَرَ جيشٌ فرنسي من عشرين ألف مقاتل معظمهم من المجندين إلزاميا في غير موسم التجنيد الإلزامي - البيداسوا Bidassoe في أسبانيا، وكان على رأس هذا الجيش أندوش جونو Andoche Junot فرحبت به الدولة الاسبانية والشعب الاسباني الذي كان يأمل أن يحرِّر نابليون ملكَ أسبانيا من قبضة وزيره الخائن، كما كان هذا الوزير يأمل أن يكافئه نابليون لتعاونه معه بتركه يُشارك في تقطيع أوصال البرتغال.
لقد كان عهد التنوير الأسباني المتألق قد انتهى بموت شارل الثالث Charles III (8871) فرغم أن ابنه الذي بلغ الآن من العمر ستين عاماً كان ذا نوايا طيبة إلاَّ أنه كان مفتقداً الحيوية والذكاء، ففي اللوحة الشهيرة التي رسمها الفنان جويا Goya والتي جعل لها عنواناً (شارل الرابع وأسرته) يبدو الملكُ فيها مولعاً بالتهام الطعام أكثر من ولعه بالتفكير وبدت الملكةُ ماريا لويزا Maria Luisa وكأنها هي الرجل، لكنها كانت امرأة أيضاً فلم تكتف بزوجها المطيع وإنما فتحت ذراعيها لمانويل دي جودوي Manuel de Godoy الذي رفعته من ضابط في الحرس الملكي إلى رئيس للوزراء Chief minister. وكان الشعب الأسباني أكثر شعوب أوروبا التزاماً بالأخلاق في أمور الجنس، لذا فقد استاء كثيراً من هذه العلاقة الجنسية غير الشرعية لكن جودوي Godoy العاهر كان يحلم بفتح البرتغال ليحصل لنفسه على الأقل على دوقية، إن لم يكن مملكة. فهبَّ لمساعدة نابليون وحاول أن ينسى ما كان منه في سنة 6081 حين عرض صداقته المصحوبة بالعمل على بروسيا للتخطيط لشن حرب ضد فرنسا. وشجَّع نابليون آمال جودوي ووقّع في فونتينبلو Fontainebleau (72 أكتوبر سنة 7081) اتفاقاً لفتح البرتغال واحتلالها على أن يكون شمالها الغربي مع أوبورتو Oporto من نصيب الملكة الاسبانية، ومقاطعات الجارف Algarve وألينتجيو Alentego في الجنوب من نصيب جودوي Godoy، وما تبقّى في الوسط مع لشبونة يوضع تحت الحمايــة الفرنســية حتى صــدور تعليمات أخرى. وأضافت المادة الثالثة من المعاهدة أنه من المفهـــوم أن الأطــراف المتعاقــدة سيُقسِّمون بالتســاوي - بين أنفسهم - جــزر البرتغال ومستعمراتها وسائر ممتلكاتها البحرية(81) ونصت بنود سرّية على تعهد اسبانيا بإلحاق 0008 مقاتل من المشاة و 0003 مقاتل من الخيالة بجيش جونو Junot أثناء مروره باسبانيا.
ووجدت الأسرة المالكة البرتغالية أَلاَّ طاقة لها بمقاومة هذه القوات المشتركة الفرنسية الاسبانية، فاستقلَّت سفينة إلى البرازيل. وفي 03 نوفمبر دخل جونو Junot لشبونة، وبدا أن فتح البرتغال قد اكتمل. ولكي يدفع نابليون تكاليف عملياته فرضَ على رعاياه الجُدد دفع تعويض مقداره مائة مليون فرنك، جزء من منه لمساعدة جونو Junot إذا ما أرسلت بريطانيا حملة عسكرية إلى البرتغال، وربما لتحقيق أغراض أكبر، وأرسل نابليون إلى أسبانيا ثلاثة جيوش إضافية جعل قادتها تحت قيادة مورا Mura الموحّدة وأمره باحتلال بعض المراكز الاستراتيجية قرب مدريد.
وكانت الخلافات في الحكومة الاسبانية بين يدي نابليون يُكيِّفها كيف شاء. لقد خشي فرديناند Ferdinand ذو الثلاثة والعشرين عاما وهو الوريث الظاهر لعرش اسبانيا أن يعوق جودوي Godoy طريقة إلى العرش فقاد بنفسه مؤامرة للإطاحة به، واكتشف جودوي المؤامرة فأمر بالقبض على فرديناند ومؤيدّيه في 72 أكتوبر واقترح محاكمتهم بتهمة الخيانة. وبعد ذلك بشهرين علم أن مورا Mura الذي يتقدم بجيوشه قد يعمل على إطلاق سراحهم، فبادر هو بإطلاق سراح فرديناند ومعاونيه واستعد للهرب إلى أمريكا مع الملك والملكة، فهاجت جماهير المدينة في 71 مارس سنة 8081 وقبضت على جودوي Godoy وأودعته في زنزانة بأحد السجون، وتنازل الملك الذي اعتراه الذهول عن العرش لابنه، وبناء على أوامر نابليون قاد مورا Murat جنوده إلى مدريد (32 مارس) وأطلق سراح جودوي ورفض الاعتراف بفرديناند ملكاً فتراجع شارل عن تنازله عن العرش وسادت الفوضى. وحثّ تاليران، الإمبراطور نابليون للاستيلاء على عرش اسبانيا أى أن يجعل من نفسه ملكاً على أسبانيا أيضاً(91).
وانتهز نابليون الفرصة - وربما كان هو الذي دبّرها، فدعا كلا من شارلز الرابع Charles IV وفريناند السابع Ferdinand VII للالتقاء به في بايون Bayonne (على بعد حوالي عشرين ميلاً شمال الحدود الأسبانية الفرنسية) للنظر في إعادة الاستقرار والنظام للحكومة الأسبانية. ووصل الإمبراطور في 41 أبريل ووصل فرديناند في 02 من الشهر نفسه واستضاف نابليون الشاب ومستشاره كانون جوان إسكواكيز Canon Juon Escoiquiz على الغداء، وخَلُص نابليون إلى أن هذا الشاب غير ناضج انفعالياً وعقلياً وأن مهمة قيادة اسبانيا وجعلها في تحالف مفيد مع فرنسا، مهمة لا يقدر عليها، وأفضى نابليون بهذه النتيجة إلى اسكواكيز الذي نقلها إلى فرديناند معترضا عليها، واعترض الشاب بدوره على أساس أن العرش انتقل إليه بتنازل ابيه عنه، وأرسل جواسيس إلى مدريد يُخبر مؤيِّديه بأنه أصبح ولا مُعين له لمواجهة قوات نابليون، لكن الفرنسيين عاقوا هؤلاء الجواسيس فتمَّت إعادتهم وما معهم من رسائل إلى الإمبراطور (نابليون) ومع هذا فقد وصلت أخبار موقف فرديناند إلى العاصمة فاعترى الجماهير شكٌ في أن نابليون يعتزم إنهاء حكم أسرة البوربون في أسبانيا ومما زاد من شكوكهم ما انتشر من أخبار مُفادها أن شارل الرابع Charles IV والملكة وجودوي كانوا قد وصلوا إلى بايون Bagonne في 03 أبريل، وأن مورا Murat الذي يحكم مدريد الآن تلقى أوامر من نابليون بإرسال أخي الملك وابنه الأصغر وابنته إلى بايون. وفي الثاني من شهر مايو سنة 8081 - وهو اليوم الذي ظل مشهوراً فترة طويلة في التاريخ الأسباني باسم Dos de mayo - تجمعت جماهير غاضبة امام القصر الملكي الاسباني وحاولت منع الأمراء والأميرات من مغادرة القصر وقذفوا الجنود الفرنسيين بالحجارة، بل وقيل إنهم مزَّقوا بعض الجنود - ممن كانوا يحرسون العربة الملكية - إرباً، فأمر مورا Murat جنوده بإطلاق النيران على الجماهير حتى تتفرّق. وتم ذلك بالفعل وقد سجل الفنان جويا Goya هذا المشهد بتعبير فني قوي وخلّد بعمله هــذا ذكـرى الحدث، وتم إخمــادُ التمرد في مدريد لكنه انتشر في سائر أنحاء أسبانيا الأخرى.
وعندما وصلت هذه الأنباء إلى نابليون في بيون Gagnnne (5 مايو) دعا كلاً من شارل فرناند للمثول عنده وفي إدى فورات غضبه المحسوبة أدانهما لسماحهما للأسبان بالإنخراط في أعمال الفوضى مما جعلها - بشكل خطير - لا يمكن الاعتماد عليها كحليف لفرنسا، وما هذا إلا بسبب عدم كفاءتهما. ولام الوالدان ابنهما وكالا له الانتقادات متهمانه بأنه كان قد اعتزم قتل والديه (المقصود غالباً أنه بفعله هذا سيورد والديه موارد التهلكة)، واعطى نابليون الشاب المرتعد خفاً مهلة حتى الساعة الحادية عشرة مساء ليتنازل عن العرش، فإن رفض فسيعتبر مدبّر انقلاب ضد والديه ومن ثم يُسجن ويحال للمحاكمة بتهمة الخيانة، واستسلم الشاب فرديناند وأعاد التاج لوالده وولما كان شارل يتطلع للأمن والسلام أكثر مما يتطلع إلى السلطة والقوة فقد قدم الصولجان (العرش) لنابليون الذي عرضه بدوره على أخيه لويس فرفضه ومن ثم عرضه على أخيه جيروم Jerome الذي شعر أنه ليس ملائماً لمثل هذا المنصب الخطير، وأخيراً عرضه على أخيه جوزيف (يوسف) الذي تلقى بالفعل أمراً بقبوله وتم إرسال شارك Charles ولويزا Laisa وجودي Godoy ليعيشوا في منتجع في مارسيليا تحت الحراسة. أما فيرديناند وأخوه فقد هُدِّئا وجرى إرضاؤهما بتهيئة مَصْدر دخل يُدِرُّ عليهما عائداً مالياً كبيراً وعُهد إلى تاليران بإسكانهما في مكان مريح وآمن في قصره في فالنسي Valency. وأحسَّ نابليون أنه عقد صفقة رابحة فركب عائداً مرتاح البال إلى باريس وتلقَّته الجموعُ بحفاوة في كل خطوة باعتباره سيِّد أوروبا الغلاَّب.
وذهب مورا Mura - الذي كان يأمل أن يكون ملكاً على اسبانيا - ممتعضاً ليحل محل جوزيف (يوسف) كملك على نابلي. أما جوزيف - فبعد أن توقف في بيون Bagonne - دخل مدريد في 01 يونيو سنة 8081. لقد كان قد اعتاد على نابلي التي كان ملكاً عليها وسرعان ما أوحشته حياة المرح والسرور في إيطاليا، تلك الروح المرحة التي يتسم بها أهل جنوب إيطاليا والتي تلطّف قسوة الحياة، فهو لم يأنس ذلك في الاسبان الصارمين المتدينين. وقد جلب معه إلى أسبانيا دستوراً نصف ليبرالي كيّفه نابليون على عجل، يضم كثيراً من بنود مدوّنة نابليون القانونية لكنه قَبِلَ الكاثوليكية باعتبارها الدين المعتمد الوحيد في اسبانيا (نظراً لإصرار شارل الرابع على ذلك)، وحاول جوزيف ما وسعته المحاولة أن يكون حاكماً محبوباً من الشــعب وأيــده عدد كبير مــن الليبراليين الأسـبان، ولكن النبلاء ظلوا بعيدين عنه متحفّظين ازاءه، وأدانه الإكليروس (رجال الدين الأسبان) على أساس أنه متحرر التفكير (المقصود غير متمسك بأهداف الكاثوليكية) يتظاهر بما لا يُكنّه، وصُدِم العامةُ لأن نابليون قد أحل محل أسرتهم الحاكمة التي باركتها الكنيسة رجلاً لا يكاد يعرف كلمة من اللغة الاسبانية، ويفتقد تماماً الكارزما أو مقومات الشخصية المحبوبة كما هي في ذلك العصر.
وازداد الانتعاض ببطء ثم بسرعة، وتطور من مجرّد التجهم والعبوس إلى اللعن جهراً إلى التمرد. وظهرت روابط الفلاحين في كثير من بلاد أسبانيا وسلّحوا أنفسهم بالأسلحة القديمة والسكاكين الحادة فصارت كل البيوت مصانع للسلاح وصارت كل عباءة شركاً يُخفي سلاحاً وراحوا يقتنصون كل فرنسي يشرد من معسكره أو يبتعد عن فرقته ورفع الإكليروس الأسبان (رجال الدين) الصلبان في مواجهة البنادق الفرنسية واتهموا جوزيف بأنه لوثري وماسوني ومهرطق وحرّضوا جماهيرهم على العصيان المسلّح باسم الرب وأمِّه الطاهرة والقديس جوزيف(02) وتفجّر الحماس ضد الفرنسيين مما أدى إلى عمليات بتر أعضاء وإخصاء وصلب وقطع رؤوس وشنق وإجلاس على الخوازيق (خوزقة) كما صوّر لنا الفنان جويا Goya. وأعاد الجيش الأسباني تشكيلاته وانضم للثوار واجتاحت كتائبهم الموحّدة الحاميات الفرنسية المتناثرة والتي ينقصها العتاد والرجال. وفي بعض الأحيان تمكنت القوات الاسبانية من التفوق على قوات الفرنسيين الذين لم يألفوا الأرض الأسبانية كما كانوا يعانون نقصاً في الرجال والعتاد، ففي بيلا Beulen (شمال شرق قرطبة) توهمت فرقتان عسكريتان فرنسيتان أنهما محاصرتان بقوات كثيرة العدد والعُدَد فاستسلمتا في واحدة من أكثر الهزائم خزياً في التاريخ وأسر الأسبان 008،22 وتم اقتيادهم إلى جزيرة كابريرا Cabrera الصغيرة فمات مئات منهم جوعاً ومرضاً. وقد حدثت هذه الواقعة في 02 يوليو سنة 8081. ولما تم تجريد جوزيف (أخو نابليون) من قواته العسكرية الرئيسية انسحب مع ما تبقى من قواته من مدريد إلى خط دفاعي على طول الإبرو Ebro على بعد 071 ميلاً شمال شرق العاصمة.
وفي هذه الأثناء أرسلت الحكومة الإنجليزية - بعد أن صارت واثقة من تناقص قوات جونو Junot في لشبونة وأن لم يعد ممكنا أن تتلقى دعماً إسبانياً - أرسلت السير آرثر ولسلى (يُكتب أيضاً ولزلي) Arthur Wellesely (دوق ولنجتون فيما بعد) بأسطول وجيش إلى البرتغال. فأنزل رجاله عند مصب نهر مونديجو Mondego في أول يوليو سنة 8081 وسرعان ما انضمت إليه فرق مشاة برتغالية. وقاد جونو Junot - الذي كان قد أَنِسَ إلى الراحة بدلاً من جعل قوّاته في حالة استعداد - قوّاته البالغ عددها 000،31 مقاتل من المجندين إلزامياً من لشبونة لمواجهة قوات وِلْسِلي (ولزلي) البالغ عددها 000،91 في فيميرو Vimeiro في 12 أغسطس سنة 8081 فمني بهزيمة نكراء، وعادت البرتغال للتحالف مع إنجلترا، وبدا الغزو الفرنسي لشبه جزيرة أيبيريا وقد تحول لكارثة بالنسبة للفرنسيين.
وعندما وصل نابليون إلى باريس في 41 أغسطس سنة 8081 بعد جولته الاحتفالية في محافظاته (دوائره) الغربية وجد أعداءه التقليديين سعيدين للنكسة التي ألمت بالجيوش الفرنسية في شبه جزيرة ايبيريا، وشرعوا بالفعل في تكوين تحالف ضد نابليون الذي أصبح الآن قابلاً للهزيمة. وكان مترنيخ Metternich سفير النمسا لدى فرنسا يتحدث مع نابليون عن السلام بينما يُخطط للحرب. وكتب فريهر فوم أوند تسوم شتين Freiherr vom und zum Stein رئيس الوزراء البروسي اللامع التوّاق للتحرر من الاحتلال الفرنسي - إلى صديق له في شهر اغسطس من العام الآنف ذكره قائلاً: هنا تبدو الحرب بين النمسا وفرنسا مسألة لا مفر منها، وهذه الحرب ستقرر مصير أوروبا(12) ووافق نابليون الذي استولى وكلاؤه (جواسيسه) على هذا الخطاب، على ما ورد به، فالحرب كما كتب إلى أخيه لويس مؤجلة حتى الربيع(22).
وتأمل نابليون في خياراته، أيجب عليه أن يقود جيشه الكبير الذي لم يعرف الهزيمة إلى أسبانيا ويقمع تمردها ويطارد ويلسلي (ولزلي) ليعود إلى سفنه، ويسد الفجوة البرتغالية ليُحكم الحصار المضاد ضد بريطانيا ويخاطر بالجبهة الشرقية على أساس أن النمسا وبروسيا ستضربان بينما أفضل جنوده على بعد ألف ميل - هناك في البرتغال؟ إن اسكندر في تليست Tilsit كان قد وعد بمنع مثل هذا الهجوم بينما كانت اسبانيا معه، لكن أيصمد القيصر ويحافظ على وعده امام الضغوط الواقعة عليه؟ ناهيك عن إمكان رشوته. وبعد أن تفكّر نابليون في الأمر دعا القيصر إلى مؤتمر في إيرفورت Erfurt حيث يمكنه أن يحيطه بكوكبة لامعة من السياسيين لجعله يلتزم بما كان قد تعهّد به.
3- كوكبة السياسيين في إرفورت 27 سبتمبر - 14 أكتوبر 1808
لقد أعد نابليون لهذا المؤتمر بعناية فائقة كما لو كان يُعد لخوض حرب، فقد دعا كل الملوك والدوقات التابعين له للحضور مع حاشياتهم بأبهة ملكية فخمة، فأتى عدد كبير منهم حتى أن مذكرات تاليران المطبوعة ضمت ثلاث صفحات تحوي قوائم بهؤلاء الذين لبوا الدعوة(32). واصطحب نابليون معه كل أفراد أسرته، وليس هذا فحسب وإنما معظم جنرالاته وطلب من تاليران أن يترك معتزله وأن يساعد شامباني Champagny في توجيه المفاوضات وصياغة النتائج، وأصدر تعليماته للكونت دي ريموزا Remusat أن ينقل إلى إيرفورت Erfurt أفضل ممثلي المسرح الفرنسي بمن فيهم تالما Talma، وكل ما يلزم لإخراج التراجيديات الكلاسية في الدراما الفرنسية، وقال نابليون أريد أن أُبهر إمبراطور روسيا بمشاهد قوتي وسلطاني، فليس هناك مفاوضات أكثر عُرضة للفشل من تلك المفاوضات التي نحن مقبلون عليها(42).
ووصل نابليون إلى إيرفورت Erfurt في 72 سبتمير، وفي اليوم التالي خرج لتحية اسكندر وحاشيته باستقبالهم على بعد خمسة أميال من المدينة، وجرى إعداد كل الترتيبات لبعث المسرّة في نفس القيصر باستثناء شيء واحد وهو أن نابليون تصرف على أنه المُضيف (صاحب الدار) في مدينة ألمانية كانت قد أصبحت جزءا من الإمبراطورية الفرنسية. ولم ينخدع إسكندر بالهدايا التي تلقاها والإطراء الذي كِيلَ له كَيْلا، فتظاهر هو أيضاً بكل ما يوحي بالصداقة أو بتعبير آخر كال لهم من الكيل نفسه، وقاوم محاولاً ألا يقع في شباك هذه المظاهر النابليونية ومما ساعده على ذلك أن تاليران نصحه سراً أن يدعم النمسا وأن يكون إليها أقرب منه إلى فرنسا، مقدماً له الدليل على أن النمسا - وليس فرنسا هي مرتكز الحضارة الأوروبية (فيما يرى تاليران) التي دمرها نابليون، وقال له تاليران ايضا إن فرنسا متحضرة ولكن السلطة فيها ليست كذلك(52) وأكثر من هذا فكيف يكون من صالح روسيا دعم فرنسا والشد من أزرها؟ وعندما سعى نابليون لتوثيق التحالف بأن يتزوج من أخت إسكندر - الدوقة الكبيرة أنّا Anna، أشار تاليران على القيصر بعدم القبول وأجّل الروسي الماركر الإجابة عن هذا الاقتراح متحجّجاً بأن القيصرة هي صاحبة الرأي في هذه الأمور(62). وقد كافأ اسكندر، تاليران بترتيب زواج ابن أخيه (أو ابن أخته) من دوقة دينو Dino وارثة دوقية كورلاند Courland، ودافع تاليران - في وقت لاحق - عن خيانته ذاكراً أن شهية نابليون لابتلاع الأمم لن تتوقف باستنزاف أوروبا بالحروب فحسب وإنما ستؤدي إلى انهيار فرنسا وتقطيع أوصالها، وعلى هذا فخيانته لنابليون - فيما يقول - كانت وفاء لفرنسا وإخلاصاً لها(72). لكن من الآن فصاعداً ستترك تصرفاته الكيّسة انطباعا سيئاً (سُمعة رديئة) في كل مكان.
وخلال هذا المؤتمر دعا دوق ساكس - فيمار Saxe - Weimar أشهر رعاياه للحضور إلى ايرفورت Efrurt، ففي 92 سبتمبر، طلب نابليون من الدوق - بعد أن رأى اسم جوته (تكتب أيضاً جيته) في قائمة الذين سيصلون - ترتيب لقاء مع هذا الفيلسوف الشاعر، فجاء جوته (جيته) سعيداً (في 2 أكتوبر) فقد كان من رأيه أن العالم لم يشهد عقلية أعظم من عقلية نابليون(82) وكان موافقا تماماً (أي جوته) على توحيد أوروبا في ظل حكمه. والتقى جوته (جيته) بالإمبراطور نابليون على مائدة إفطار مع تاليران وبيرثييه Berthier وسافاري Savary والجنرال دارو Daru، وقد كتب تاليران في مذكراته، ما زعم أنه تسجيل دقيق لهذه المحادثة الشهيرة (فيلكس ميلر Felix Muler قاضي فيمار الذي كان مصاحباً لجوته قدم تقريراً عن هذه المحادثة مختلفاً قليلاً عن رواية تاليران):
قال نابليون: السيد جوته انني متبهج لرؤيتك.. إنني أعلم أنك على رأس الشعراء المسرحيين في ألمانيا. - سيدي أنت تظلم بلدنا.. فلابد أن عظمتكم تعرفون شيلر Schiller ولسنج Lessing وفيلاند Wieland. - اعترف أنني لا أعرفهم إلاّ بالكاد. لقد رأيت عمل شيلر (حرب الثلاثين عاما).. أنت بشكل عام تعبش في فيمار Weimar.. انه المكان الذي يلتقي فيه معظم مشاهير أدباء ومفكري ألمانيا. - إنهم يتمتعون بحماية في فيمار أكثر من سواها، لكن بالنسبة للوقت الحالي فليس هناك إلا رجل واحد في فيمار حقق شهرة على مستوى أوروبا، إنه فيلاند Wieland.
سأكون مبتهجاً لرؤية السيد فيلاند Wieland.
- إن سمحتُم لي عظمكتم أن أطلب منه الحضور، فعلتُ، فأنا متأكد من أنه سيحضر فورا... - هل أنت مُعجب بتاكيتوس Tacitus؟. - نعم يا سيدي أنا معجب به جداً. - حسنا إنني لستُ معجباً به، لكننا سنتحدث في هذا الموضوع في وقت آخر. اكتب إلى السيد فيلاند ليأتي هنا. وسأرد له الزيارة في فيمار لأن دوقها دعاني(92). وبينما كان جوته يغادر الغرفة قيل أن نابليون أبدى ملاحظة لبيرثييه Berthier ودارو Daru بشأن جوته قائلاً: هذا هو الرجل حقا!(03) Voila un homme!. وبعد أيام قليلة استضاف نابليون جوته وفيلاند مع رهط من ذوي المكانة. وربما قد أنعشَ ذاكرته بالمعلومات في هذه الأيام لأنه راح يتحدث كناقد أدبي واثق من معلوماته: - السيد فيلاند، إننا نحب كتاباتك جداً في فرنسا. فأنت مؤلف أجاثون وأوبيرون Agathon and Oberon إننا نسميك فولتير ألمانيا. - سيدي إن الإطراء يسعد المرء إن كان يستحقه... - أخبرني أيها السيد فيلاند، لماذا كتبت أعمالك ديوجنز Diogenes و آجاثون Agathon و بيريجرينوس Peregrinus بأسلوب رمزي يحتمل أكثر من معنى تخلط فيه السرد الروائي بالتاريخ والتاريخ بالسرد الروائي. إن رجلاً متفوقاً مثلك يجب أن يفصل بين هذين النوعين من الكتابة.. لكنني أخشى أن أتحدث كثيراً في هذا الموضوع لأنني أتحدث مع شخص أكثر خبرة في هذه الأمور مني(13).
وفي 5 أكتوبر قطع نابليون حوالي خمسة عشر ميلاً إلى فيمار، وبعد أن مارس رياضة القنص في يينا (جينا Jena) ومشاهدة مسرحية موت قيصر la Morte de Cesar في مسرح فيمار، حضر الداعون والمدعوون حفلاً راقصاً فأنستهم النسوة الجميلات المتألقات ذِكْر أشعار فولتير. وعلى أية حال فقد انسحب نابليون إلى أحد الأركان وطلب جوته وفيلاند Wieland، فحضرا ومعهما ثلّة من رجال الأدب، فتحدث نابليون موجها حديثه على نحو خاص إلى فيلاند، وكان موضوع حديثه يدور حول المجالين الأثيرين عنده: التاريخ وتاسيتوس Tacitus:
لابد من اعتبار المسرح التراجيدي الجيد مجالا لا يجدر إلا بالرجال المتفوقين. إنه فوق التاريخ إذا نظرنا إليه من وجهة نظر معينة. ففي أفضل وقائع التاريخ لا يمكن ان يُحدث إلا أثراً قليلا، فالإنسان إذا كان وحيداً لا يتأثر إلا قليلا، ويختلف الحال إن كان في جَمْع، فهنا يكون التأثير أقوى وأكثر ديمونة.
إنني أؤكد لك أن المؤرخ تاكيتوس Tacitus الذي تستشهد دائما بفقرات من كتاباته لم يعلّمني أي شيء أيمكنك أن تجد كاتبا ينتقص من قدر الجنس البشري مثله؟ بالإضافة إلى أن أحكامه في بعض الأحيان غير عادلة فهو يجد في كل فعل - ولو كان بسيطاً - دافعاً إجرامياً. لقد أظهر الأباطرة كأجلاف أنذال، وعمّق هذه المعاني في نفس قارئه.. إن حولياته ليست تاريخاً للإمبراطورية وإنما ملخصاً لسجلات سجن روما، إن هذه الحوليات تتعامل دائماً مع تُهم وإدانات، ومع أناس يقطعون أوردتهم في الحمامات.. يا له من أسلوب ملتوِ! يا له من غموض!.. ألستُ على حق أيها السيد فيلاند؟ لكن... إننا لسنا هنا لنتحدث عن تاسيتوس. انظر، إلى أي حد يُتقن القيصر إسكندر فن الرقص..(23)
ولم يقتنع فيلاند فقد دافع عن تاكيتوس بشجاعة وتعاطف، فقد أشار إلى أن سوتونيوس Suetonius وديوكاسيوس Dio Cassius قد روايا من الجرائم أكثر بكثير مما روى تاسيتوس لكن أسلوبهما تعوزه الحيوية، أما تاسيتوس فما أشد تأثير أسلوبه وفي غمزة جسورة قال لنابليون: إنه بلمسة عبقريته، يمكن للمرء أن يعتقد أنه لا مجال لأن يحب سوى الجمهورية.. لكنه عندما يتحدث عمن يحبهم من الأباطرة، والحرية والإمبراطورية، فإن المرء يشعر أن فن الحكم يبدو له أجمل اكتشاف على ظهر البسيطة... يا سيدي إن كان حقا قولنا ان تاسيتوس يُعاقب الأباطرة بتصويرهم على هذا النحو فحقاً أيضاً قولنا أنه كافأ الأمراء (الملوك) الصالحين عندما تتبّع أعمالهم وصورهم وأهداهم لمن يصنعون المجد في الزمن الآتي.
وكان المنصتون المتجمعون مبتهجين بهذا الجواب اللاذع والخاطرة السريعة، وحار نابليون جوابا وقال: إن لديّ حججا قوية جداً لمناقشتك والاختلاف معك أيها السيد فيلاند.. وأنت لم تُغفِل أي عنصر مما يدعّم رأيك.. لا أحب أن أقول أنني هُزِمت في هذه المناقشة.. فمن الصعب أن أتفق مع هذا الرأي. غداً أعود إلى ايرفورت، وسنواصل مناقشاتنا(33) وليس لدينا كتابات عن هذه المناقشات التي تمت بعد ذلك.
وفي 7 أكتوبر عاد معظم الزوّار إلى إرفورت، وحث نابليون جوته على الإقامة في باريس قائلاً له هناك في باريس ستجد دائرة أوسع لتنشر فيها أفكار.. ومادة هائلة لابداعاتك الشعرية(43). وفي 41 أكتوبر منح نابليون وسامَ صليب فيلق الشرفِ لكل من جوته وفيلاند.
وفي هذه الأثناء وقَّع وزراء خارجية فرنسا وروسيا اتفاقية تُجدد التحالف بينهما ويتعهد كل طرف بتقديم المساعدة للطرف الآخر في حال تعرضه لهجوم وأصبح اسكندر - بناء على الاتفاق - مُطلق اليد في الاستيلاء على فاليشيا Wallachia ومولدافيا Moldava، لكن ليس تركيا. وأصبح نابليون يستطيع التوجه إلى أسبانيا بمباركة قيصر روسيا وفي 21 أكتوبر تم توقيع وثيقة الاتفاق. وبعد ذلك بيومين غادر الإمبراطوران إرفورت Erfurt، وقبل أن يفترقا سارا للحظات جنبا إلي جنب وتعانقا وتعاهدا أن يلتقيا ثانية. (لكن هذا لم يحدث) وعاد نابليون إلى باريس أقل تعطشاً للدماء لكنه قرر أن يتوجه بجيش الأساسي (الجيش العظيم) إلى أسبانيا ليفرض أخاه جوزيف مرة أخرى على عرش اسبانيا رغم إرادة الأسبان.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
4- الحرب الثانية في شبه جزيرة أيبيريا 29 أكتوبر 1808 - 16 يناير 1809
لقد كانت هذه الحرب معركة نابليونية تقليدية: انقضاض سريع، وانتصار، ثم لا جدوى. لقد أحس الإمبراطور بازدياد معارضة الشعب الفرنسي لسلسلة حروبه التي لا تنتهي. لقد كانوا قد وافقوه على أن حروبه في الجبهة الشرقية كانت حروبا سبّبتها حكومات تتآمر لمحق الثورة وإبطال نتائجها لكنهم شعروا أن دماءهم قد استنزفت، واستاءوا على نحو خاص من الأموال التي تم انفاقها في حرب البرتغال وأسبانيا. لقد فهم نابليون هذه المشاعر وخشي أن يكون بصدد فقدان سيطرته على الأمة الفرنسية لكنه كما برّر في وقت لاحق لم يكن من الممكن ترك شبه جزيرة أيبيريا فريسة لكيد الإنجليز ومطامع البوربون ومؤامراتهم وطموحاتهم(53) فإذا لم ترتبط أسبانيا بفرنسا رباطاً وثيقاً يؤمّنها لأصبحت تحت رحمة الجيوش البريطانية القادمة عبر البرتغال أو كادير (قادش) Cadiz، وسرعان ما تجمع إنجلترا الذهب والفضة المجلوبة من المستعمرات البرتغالية والأسبانية في أمريكا لتقدم منها بسخاء معونات لتمويل تحالف جديد ضد فرنسا، مما يقتضي مزيداً من المعارك، مارينجو أخرى وأوسترليتز Austerlitzes أخرى وجينا (يينا Jena) أخرى.. إن إحكام الحصار الأوروبي المضاد على البضائع البريطانية هو وحده الذي يجعل تجار لندن يطلبون السلام.
وترك نابليون حاميات على بعض الحصون تحسباً لأية مفاجآت نمساوية أو بروسية، وأمر 000،051 مقاتل من جيشه الأساسي (الجيش العظيم) بعبور جبال البرانس والانضمام إلى قوات أخيه جوزيف البالغ عددها 000،56 كانت تتجمع في هذه الأثناء في فيتوريا Vitoria. وغادر هو نفسه (نابليون) باريس في 92 أكتوبر ومعه خطة المعركة التي كان قد رسمها فعلاً. وكان الجيش الأسباني يحاول تطويق قوات جوزيف، فأرسل نابليون تعليمات إلى أخيه (جوزيف) أن يتجنب خوض معركة وأن يترك العدو يتقدم منتشراً في نصف دائرة حتى تكون قواته غير ذات عمق. وعندما اقترب نابليون من فيتوريا Vitoria نشر جانبا من قواته في جبهة مستعرضه لمهاجمة قلب الجيش الأسباني، فانكسر وولّى الأدبار واستولت فرقة فرنسية أخرى على بورجوز Burgos (01 نوفمبر) واجتاحت فرق فرنسية أخرى بقيادة نيي Ney ولان Lannes وتوديلا Tudela جيشاً اسبانياً بقيادة جوزي دي بالافوكس إي ميلزي Jose de Palafox y Melzi ولما أردك قادة الجيش الأسباني انه لا قِبَلَ لهم بنابليون وجنوده تفرقوا ثانية في ولايات اسبانيا وفي 4 ديسمبر دخل الإمبراطور مدريد، وعندما بدأ بعض جنوده في نهبها أمر بإعدام اثنين من الناهبين علناً فتوقفت عمليات السلب والنهب(63).
وترك المدينة (مدريد) تحت حماية عسكرية قوية وفرض فيها الأحكام العسكرية واتجه بقواته إلى شامارتين Chamartin على بعد ثلاثة أميال، وهناك وكأنه واحد من الأرباب خالقة الكون أصدر في 4 ديسمبر سلسلة من المراسيم ودستوراً جديداً لأسبانيا. وبعض بنود هذا الدستور تبين أنه لازال ابناً للثورة الفرنسية: منذ نشر هذا المرسوم يتم إبطال الحقوق الاقطاعية في أسبانيا. ويتم إبطال كل الامتيازات وكل الاحتكارات الاقطاعية وكل الإلزامات المفروضة على الأشخاص، وكل من سيلتزم بالقوانين سيكون حراً في تطوير عمله وصناعته وحرفته دون معوّق.
إبطال محاكم التفتيش لأنها لا تتمشّى مع السيادة المدينة، وتؤول ممتلكاتها إلى الدولة الاسبانية لتُسدّد منها الديون التي التزمت بسدادها...
نظراً لزيادة أعداد أعضاء الطوائف الديِّرية المختلفة زيادة مفرطة... وكذلك بيوت العبادة، فسيتم تقليص أعدادها إلى الثلث... بتوحيد أعضاء البيوت المختلفة (المقصود بيوت العبادة أو الطوائف الديرية) الخاصة بطائفة واحدة في تشكيل واحد...
ستزال الحواجز بين ولايات أسبانيا وهذا يعني من بين ما يعني إزالة الجمارك الداخلية لأنها أمر يقف حائلاً في سبيل رخاء أسبانيا(73).
ولم يكن هناك ما يمكن ان يدعم هذا الدستور في مواجهة المعارضة الفعالة للنبلاء الذين ترسّخت أوضاعهم ورجال الدين والرهبان والسكان الذين أَلِفوا بمرور الوقت الزعامة الإقطاعية وعقيدة المواساة (الصبر على مكارة الدنيا لدخول الفردوس في الآخرة Consolatory Creed) - سوى السيطرة العسكرية. وكان ولسلي (ولزلي Wellesley) لا يزال منتصراً في البرتغال واضعاً في اعتباره غزو أسبانيا حالما يعود الجيش الفرنسي الأساسي (العظيم) لمواجهة تحدّي النمسا. وأكثر من هذا فقد غادر جيش بريطاني مكوّن من 000،02 مقاتل بقيادة سير جون مور Moore، سالامنكا Salamanca في 31 ديسمبر وبدأ يزحف في اتجاه الشمال الشرقي آملاً في اجتياح فرق سول Soult بالقرب من برجوز Burgos. ورد نابليون بسرعة على هذا التحدي فقاد قوة فرنسية رئيسية شمالاَ عَبْر سيّراً دي جوداراما Sierra de Guadarrama آملاً في مهاجمة مؤخرة مور Moore والآن سيواجه - أخيراًً - بمواهبه العسكرية وجنوده هؤلاء الانجليز المحتمين وراء البحر. وكان المرور عبر ممر جواداراما Guadarrama في عز الشتاء محنة قاسية لرجاله أشد وطأة من عبور الألب سنة 0081. لقد عانوا وتذمروا وكادوا يقومون بتمرد عسكري لكن نابليون لم يوقف المطاردة. ولما علم مور Moore بقدوم نابليون خاف أن تقع قواته بين جيشين فرنسيين، فتوجه بقواته غرباً بسرعة قاطعاً 052 ميلاً على أراضٍ وعرة غطتها الثلوج حتى وصل كورونا Corunna ليستطيع مع قواته أن يلوذوا بالأسطول البريطاني. وفي 2 يناير أصبح نابليون قريباً من مؤخرة هذا الجيش الإنجليزي عند أستورجا Astorga لكنه - أي نابليون - اضطر للتوقف بسبب أنباء مزعجة أتته من مصدرين: ففي النمسا كان الأرشيدوق كارل لودفيج يستعد استعداداً حقيقياً لخوض حرب ضد فرنسا، وفي باريس كان تاليران وفوشيه يؤيدان خطة للإطاحة بنابلين وإحلال مورا Murat مكانه. فترك نابليون مهمة تعقّب قوات مور Moore لسول Soult وأسرع عائدا إلى فرنسا. أما وقد غادر السيد (نابليون) فقد تباطأ سول Soult ولم يصل إلى كورونا Corunna حتى كان معظم القوات البريطانية قد آوى إلى سفن الأسطول. وقد قاد مور مؤخرة قواته ببطولة لحماية آخر مراحل ركوب السفن فأصيب بجرح مميت لكنه لم يلفظ أنفاسه الأخيرة إلاّ بعد اكتمال ركوب قواته سفن الأسطول البريطاني. وتحسَّر نابليون آه لو كان لدي وقت لتعقب الإنجليز، لما أفلت مني واحد منهم(83). إنهم لم يهربوا فحسب، بل لقد عادوا ثانية.
5- فوشيه وتاليران والنمسا 1809
عندما وصل نابليون إلى باريس (32 يناير) وجد المؤامرات تختمر وسط استياء عام. فقد وصلت خطابات من الجنود من الجبهة إلى مئات من الأسر الفرنسية تُفيد أن المقاومة الاسبانية أعادت تشكيل قواها وأنها موطدة العزم علي طرد الفرنسيين، وأن ولسلي (أو ولزلي) Wellesely الذي تزداد قواته سيتحرك حالاً لطرد جوزيف (أخي نابليون) من مدريد مرة أخرى. ومن الواضح أن الحرب ستستمر وأن الصبية الفرنسيين سيجندون إلزامياً عاماً إثر عام ليفرضوا على الأسبان حكومة معادية لكنيستهم القوية وغريبة عنهم ومجرد وجودها يحطم كبرياءهم. وواصل الملكيون في فرنسا مؤامراتهم للإطاحة بنابليون رغم تحركاته لاسترضائهم، وتم القبض على ستة متآمرين منهم فأعدموا رمياً بالرصاص في سنة 8081، وتم إعدام آخر هو أرمان دي شاتوبريان Armand de Chateaubriand في فبراير سنة 9081 رغم توسلات أخيه رينيه Rene الذي كان وقتها أحب كتّاب فرنسا للجماهير، وكان مصير عدد من اليعاقبة - لأسباب أخرى مختلفة - الموت أيضاً. وحتى في دوائر الحكومة الإمبراطورية بلغ السخط ذروته فقد راح فونتان Fontanes يردد لدى معارفه الكتومين أن الإمبراطور مجنون، مجنون تماماً، سيدمر نفسه ويدمرنا جميعاً وقال القول نفسه ديكري Decres لكن بشكل علني(93).
أما فوشيه وزير الشرطة فكان قد اكتسب تعاطف نابليون ومديحه لاكتشافه مؤامرات اغتياله لكن فوشيه كان قد بدأ يتشكك على نحو متزايد في سياسات سيده (نابليون) وفي أن مستقبله الشخصي سينتهي إلى انهيار لا مفر منه، لقد شعر فوشيه أن حكومتي النمسا وبروسيا المهزومتين واللتين رغم هزيمتهما لازالتا تحسان بالكبرياء، وحكومة روسيا المؤيدة تأييداً سطحياً (ظاهيراً) لفرنسا - سوف تتحد من جديد، عاجلاً أم آجلاء، يمؤلها الذهب البريطاني للقيام بانتفاضة أخرى ضد السيطرة الفرنسية غير المريحة. وأكثر من هذا فإن نابليون قد يفقد حياته في واحدة من المعارك القادمة. فليس من المستبعد أن تصيبه طلقة تقضي عليه كتلك الطلقة التي انهت - منذ وقت غير بعيد - حياة جنرال كان يقف إلى جانبه. إنه لا يجب أن يُوقع موته المفاجئ - ولا وريث له - فرنسا في فوضى تجعلها غير مهيأة للدفاع ضد أعدائها. وربما كان ميتران يحث على الانضمام لمن يهيئون مورا Murat للعرش إذا ما خلا بموت نابليون. وفي 02 ديسمبر سنة 8081 اتفق تاليران وفوشيه على أن مورا Murat هو رجلهم المنشود، وكان مورا مجنداً. ولما تشمَّم يوجين (ابن زوجة نابليون) أخبار المؤامرة وأخبر بها أم نابليون أرسلت سريعاً من ينقلها له في أسبانيا(04).
وكان نابليون على استعداد لمسامحة فوشيه أكثر من استعداده لمسامحة تاليران، فنصيحة فوشيه كانت غالباً في الجانب الآمن لكن تاليران كان قد أوصى بإعدام دون دنجهين (يكتب أيضاً دنجان) dصEnghien كما كان قد شجع الاستيلاء على أسبانيا، وربما كان شريكاً في مسؤولية عدم تجاوب اسكندر بالقدر الكافي. وفي 42 يناير سنة 9081 أعرب نابليون عن استيائه الشديد من تاليران بعد أن كان قد كظم غيظه فترة طويلة، وذلك عندما رآه في مجلس الدولة. لقد انفجر نابليون موبخاً إياه علناً: اتجرؤ أيها السيد أن تقول أنك لم تكن تدري شيئاً عن موت إنجهين (دنجان)!! أتجرؤ على مواصلة القول أنك لا تدري شيئاً عن الحرب الأسبانية..! أنسيت أنك نصحتني كتابة بإعدام انجهين (دنجان)؟ أنسيت أنك نصحتني في خطاباتك بإحياء سياسة لويس الرابع عشر (أي بترسيخ أفراد أسرته على عرش أسبانيا) ومن ثم لوّح بقبضته في وجه تاليران وصاح فلتفهم هذا: إذا كان لابد أن تنفجر الثورة، فستكون أول من يُسحق، مهما كان الدور الذي لعبته فيها.. إنك قذارة في جورب حريري. وما أن قال نابليون ذلك حتى سارع بمغادرة القاعة، وسار تاليران مترنحاً وراءه وقال لمستشاريه يا للأسف أيتصرف مثل هذا الرجل العظيم على هذا النحو السيئ!(14) وفي صباح اليوم التالي أنهى نابليون كل المهام الموكلة إلى تاليران وأوقف راتبه الذي كان يتقاضاه كموظف كبير في البلاط. لكن نابليون سرعان ما اعتذر عن نوبة انفعاله - كما هي عادته - ولم يُبدِ اعتراضاً على استمرار تاليران في الحضور إلى البلاط. وفي سنة 2181 كان نابليون لايزال يقول: لقد كان تاليران أفضل وزير عندي على الإطلاق(24). ولم يترك تاليران أية فرصة للإسراع بسقوط نابليون.
وكانت النمسا تقوم بدورها، فقد كان كل أهلها من فقراء إلى أغنياء تواقين للقيام بمحاولة للتحرر من هذا السلام الثقيل (المفروض) الذي فرضه نابليون على النمسا. وكان الإمبراطور فرانسيس الأول هو وحده المتردد بحجة أن مستلزمات إعداد الجيش ستؤدي بالدولة إلى الإفلاس. وأرسل إليه تاليران كلمات تشجيع: إن الجيش الفرنسي العظيم متورّط في المستنقع الأسباني والرأي العام الفرنسي يعارض الحرب بشدة، ووضع نابليون قلق ومشكوك فيه(34). وكان مترنيخ Metternich حتى الآن مترددا، وحذَّر نابليون الحكومة النمساوية من أنها إذا استمرت في التسلّح فإنه سيبني في فرنسا جيشاً آخر مهما كانت التكاليف، ولن يكون أمامه سوى هذا الاختيار. لكن النمساويين واصلوا تسليح أنفسهم فطلب نابليون من اسكندر تحذيرهم، فأرسل القيصر لهم كلمة تحذير يمكن تفسيرها على أنها متأخرة تأخراً مقصودا. واستدعى نابليون فرقتين من أسبانيا وجمع 000،001 مجند إلزامي وأتاه بناء على أوامره 000،001 جندي من كونفدرالية الراين، وكان أهل هذه الكونفدرالية خائفين على حياتهم إذا اجتاحت النمسا فرنسا، وبحلول أبريل سنة 9081 كان تحت إمرة نابليون 000،013 مقاتل، وتم تنظيم قوات منفصلة قوامها 000،27 مقاتل فرنسي و 000،02 مقاتل إيطالي لحماية يوجين (ابن زوجة نابليون) والمُعَيَّن في منصب نائب الملك في إيطاليا من جيش نمساوي أُرسل إلى إيطاليا بقيادة الأرشيدوق جوهان (يوهان Johann) وفي 9 أبريل غزا الأرشيدوق كارل لودفيج Ludwig بافاريا على رأس قوة من 000،02 مقاتل، وفي 21 أبريل وقَّعت إنجلترا تحالفاً جديداً مع النمسا وتعهدت بتقديم معونات جديدة لها. وفي 31 أبريل غادر نابليون باريس قاصداً ستراسبورج Strasbourg بعد أن أعلن لموظفي قصره المرتاعين في غضون شهرين سأجبر النمسا على نزع السلاح وفي 71 أبريل وصل إلى جيشه الرئيسي في دونّاوفوث Donauworth على الدانوب وأصدر أوامره النهائية بنشر قواته (تكوين جبهة مستعرضة) وانتصر الفرنسيون في بعض المواجهات الصغيرة في أبنسبرج Abensberg ولاندشت Landshut (91 و 02 أبريل) وقاد المارشال دافو Davout في إكموهل Eckmuhl (22 أبريل) هجوماً لا يُقاوم على الجناح الأيسر لقوات الأرشدوق كارل لودفيج Ludwig بينما هاجمت القوات التي على رأسها نابليون القلب ولم يتراجع كارل إلا بعد أن فقد 000،03 من رجاله، وكان تراجعه إلى بوهيميا. وزحف نابليون بقواته إلى فيينا فدخلها في 21 مايو بعد أن عبرت قواته إلى الشاطئ الأيمن للدانوب، وكان عبوراً شاقاً استلزم جُهداً فائقاً اتسم بالشجاعة إذ كان عرض النهر عن نقاط العبور ثلاثة آلاف قدم. وفي الوقت نفسه أعاد كارل تنظيم قواته وقادها إلى الشاطئ الأيسر للنهر عند إسلنج Essling. وحاول نابليون أن يعبر النهر من جديد ليلتقي به أملاً في أن يهزمه في معركة حاسمة، لكن فيضان النهر كان مرتفعاً فأزاح ماؤه الجسور الرئيسية التي أقامها الفرنسيون وكان يتعين عليهم ترك جزء من الجيش الفرنسي وكثير من الذخيرة إذا كان لابد من العبور، وفي 22 مايو وجدت قوات نابليون البالغ عددها 000،06 (التي تمكنت من العبور) نفسها تستعد لخوض معركة مع 000،511 نمساوي، وبعد أن فقد الفرنسيون 000،02 قتيل - كان لان Lannes المحبوب منهم - أمر نابليون من تبقى 000،04 بالعودة (الرجوع عبر النهر) بأية وسائل ممكنة. وفقد النمساويون 000،32 ومع هــذا فـإن هــذه المواجهــة اعتبــرت فــي سـائر أنحاء أوروبا هزيمة ماحقة ألمَّت بنابليون. وراحت بروسيا وروسيا ترقبان نتائج الموقف بشغف، وهما على استعداد - عند أي بارقة أمـل - للانقضــاض على هذا المدعي المزعج الذي أفلت مرات عديدة من قبضة سادة الاقطاع.
وفي إيطاليا أصبح مصير يوجين (الذي عينه نابليون في منصب نائب الملك) متأرجحاً مع الأحداث، فقد أصبحت Milan - قاعة حكمه - غير آمنة بسبب ازدياد سخط الناس من طريقة معاملة نابليون للبابا، رغم حكم يوجين المعتدل. لقد قاد يوجين جيشه وهو في حالة ذعر بيِّنة ليواجه الأرشيدوق جوهان Hohann، وهزم في تاجيليامنتو Tagliamento في 61 أبريل وكان من الممكن أن يتعرّض لما هو أسوأ لولا أن جوهان (يوهان Johann) - عند سماعه انتصار نابليون في إكموهل Eckmuhl استدار عائداً يحدوه أمل يائس أن يُنقذ فيينا، وترك يوجين إيطاليا مجازفاً بملكه كي يدعم بقواته جيش زوج أمه، فتحرك بقواته أيضاً إلى الشمال ووصل بقواته إليه وخاض معه معركة فاجرام Wagram.
وعمد نابليون - بعد الخيبة التي ألمت به في اسلنج Essling إلى تدعيم قواته ومدفعيته وأمر بتشييد الجسور على الدانوب، وحصن جزيرة لوباي Lobay تحصيناً جيداً وجعل منها معسكراً حصيناً، ومركزاً لإصلاح السفن، وإعداد الذخيرة، ولا تبعد هذه الجزيرة سوى ثلاثمائة قدم عن الشاطئ الأيسر للنهر. وفي الرابع من يوليو أمر قواته بالعبور مرة زخرى، وأدرك نابليون أن قواته كثيرة العدد وأن كارل لودفيج Ludwig يتراجع للشمال، فتعقّبه والتقى الجمعان في فارجام (وارجام Wargam) التي تعد واحدة من أعنف المعارك في التاريخ إذ أريقت فيها دماء غزيرة، وكان عدد القوات الفرنسية والحليفة لها 000،781 بينما كان عدد القوات النمساوية والمتحالفة معها 000،631. لقد حارب النمساويون ببسالة وكانوا في وقت من أوقات المعركة قريبين من النصر، لكن نابليون كان متفوقاً في عدد جنده وفي براعة تكتيكاته، فغيّر اتجاه المعركة فبعد يومين (5 و 6 يوليو 9081) استحر فيهما القتل من الطرفين أمر كارل قواته بالانسحاب بعد أن فقد 000،05 من رجال. وفقد نابليون في هذه المعركة 000،43 وبقي معه 000،351، بينما كان المتبقي مع كارل 000،68. لقد أصبحت النسبة بينهما لصالح الفرنسيين تكاد تكون 2:1، وطلب الأرشيدوق الذي اعتراه الجزع الهدنة وأسعد هذا الطلب نابليون فوافق عليه. وتمركز نابليون في شونبرون Schongrunn مع مدام فالفسكا Walewska وأسعده أن يعلم أنها حامل. إنه يستطيع الآن أن يقول إن عدم إنجاب جوزفين إنما كان بسببها لا بسببه. وكان زوج ماري Marie الهرم متسامحاً بما فيه الكفاية حتى أنه عفا عن خيانتها الزوجية ودعاها للعودة إلى مقره في بولندا، واستعد للاعتراف بالطفل الوليد باعتباره ابناً له(44). وتباطأت مفاوضات السلام طوال ثلاثة أشهر وكان هذا - في جانب منه - لأن كارل لودفيج Ludwig لم يستطع أن يقنع أخاه فرانسيس الأول باستحالة تنظيم مزيد من المقاومة، بالإضافة إلى أن فرانسيس الأول كان يأمل أن تهب بروسيا وروسيا لمساعدته. وساعد نابليون القيصر اسكندر على مقاومة هذا العرض بأن قدّم له جزءاً من جاليسيا Galicia ووعده بعدم استرداد مملكة بولندا، وفي أول سبتمبر أخبر القيصر النمسا أنه ليس مستعداً لنقض تعهداته مع فرنسا. وظلت المفاوضات النمساوية متعثرة فأصدر نابليون إنذاراً، وفي 41 زكتوبر وقع الطرفان معاهدة شونبرون Schonbrunn أملتها فرنسا في القصر الملكي على أعدائها القدامى من الهابسبرج. وتنازلت النمسا - بمقتضى هذه المعاهدة - عن إنفيرتل Innvertel وسالزبورج (سالستبورج Salzburg) لبافاريا، وأصبح جزء من جاليسيا تابعاً لروسيا، وجزء آخر لدوقية وارسو (فرسافا) الكبيرة في مقابل ما بيد النمسا من بولندا المقسّمة. واستولت فرنسا علي فيوم Fiume وإستريا Isteria وتريست Triest والبندقية (فينيسيا Venezia) وجزء من كرواتيا ومعظم كارينثيا Carinthia وكارينولا Carniola، وبدا يكون قد انسلخ من النمسا 000،005،3 مواطن من دافعي الضرائب وكان عليها أن تدفع 58 مليون فرنك كتعويض حرب لفرنسا، لقد استولى نابليون على كل ذلك باعتباره حقاً له، وبعد ذلك بستة أشهر توّج أسلابه بتزوجه من أرشدوقة (أميرة) نمساوية.
6- الزواج والسياسة 1809- 1811
غادر نابليون فيينا في 51 أكتوبر سنة 9081 ووصل إلى فونتينبلو Fontainebleau في 62 من الشهر نفسه، وشرح لأقاربه الحميمين ومستشاريه قراره بطلب الطلاق، فأجمع جميعهم - تقريباً - على الموافقة، لكن نابليون لم تواته الشجاعة على الإفضاء بعزمه إلى جوزفين إلاّ في 03 نوفمبر، فرغم إفراطه في المعاشرة الجنسية واللهو - وهو الأمر الذي كان يراه حقاً مشروعاً للمقاتل البعيد عن وطنه - إلاّ أنه كان لا يزال يحب جوزفين وقد أدى انفصاله عنها إلى معاناة عاطفية استمرت عدة شهور.
لقد كان نابليون يعرف عيوبها - كسلها، وفتورها، ومبالغتها في التبرج، وإسرافها في استخدام الثياب والجواهر، وضعفها الشديد أمام بائعي القبعات النسائية ومصمميها الذين يأتون لعرض بضاعتهم عليها لقد اشترت كل ما أحضروه إليها دون أي اعتبار للسعر(54) وأكثر من مرة زادت ديونها زيادة أدت إلى امتعاض زوجها امتعاضاً شديداً فطرد البائعات المتجمعات عند مقرّها وعنّفها ودفع ديونها. وقد اعتمد نابليون لها 000،006 فرنك سنوياً لنفقاتها الشخصية و 000،021 فرنك سنوياً لتهب منها من تشاء لأنه كان يعلم أنها مُلزمة بتقديم الصدقات والهبات(64). وكان نابليون يتساهل مع عشقها للألماس ربما لأن التحلي به يجعلها فاتنة رغم بلوغها الثانية والأربعين، لقد كانت كلها مشاعر وأحاسيس ولا تملك من العقل شيئاً اللهم إلاّ الحكمة التي وهبتها الطبيعة للنساء والتي بها يقدرن على اللعب بالرجال. لقد قال لها نابليون يا جوزفين إن لك قلبا ممتازاً وعقلاً فارغاً(74) وقلما كان يسمح لها بالحديث في السياسة وعندما كانت تقاومه وتتحدث في الأمور السياسية فإنه سرعان ما كان ينسى وجهات نظرها. لكنه كان شاكراً ممتنا لأحضانها الدافئة الحارة وجسدها المؤثر، وحلاوتها التي لا تخف تدريجياً عند اللقاء، وبراعة تخلصها(84) كما كان شاكراً ممتناً لاعتدالها وامتيازها في ممارسة كثير من مهامها كإمبراطورة. لقد أحبته حباً شديداً، وأحبها هو بعد السلطة، وعندما اتهمته مدام دي ستيل Stael بأنه لا يحب النساء أجاب ببساطة أنا أحب زوجتي(94) ويعجب أنطوان أرنول Antoine Arnault من إمبراطورية تديرها جميلات لطيفات واهنات يحكمن رجالاً مستبدين متشددين كأشد ما يكون الاستبداد والتشدد. لقد كان كل الرجال يجبنون أمام تصميمه ومع ذلك لم يكن بمستطيع مقاومة دموع امرأة(05) فكما قرر نابليون - بعد ذلك - في سانت هيلانه إنني بشكل عام كنت مستسلماً أمامها(15). لقد كانت جوزفين تعرف منذ وقت طويل أن نابليون في توق شديد لوريث من صُلبه ليرث الحكم بشكل شرعي ومقبول، وكانت تعلم خوفه من أن يؤدي موته أو أسره أو إصابته بمرض عضال إلى نزاع مجنون على السلطة بين الفرقاء المتنازعين والجنرالات، وأن تتحول فرنسا المنظمة والمزدهرة والقوية التي بناها إلى حُطام وأن تعود للإرهاب - الدموي أو الأبيض - كما كانت على الحالة التي أنقذها هو نفسه منها في سنة 9971، وكان من رأيه أن وريثاً شرعياً من صلبه تنتقل إليه السلطة بشكل تقليدي سيُعفي فرنسا من ذلك كله.
وعندما أخبر نابليون زوجته جوزفين أخيراً بأن عليهما أن ينفصلا وهنت وغابت عن الوعي لعدة دقائق، فحملها نابليون إلى غرفتها واستدعى طبيبه جان - نيقولا كورفيزار دي مارت Jean - Nicolas Corvisart des Marets وطلب مساعدة هورتينز Hortense لتهدئة أمها، وظلت جوزفين طوال أسبوع مصرّة على رفض الطلاق، وفي 7 ديسمبر وصل يوجين Eugene من إيطاليا وأقنع أمه بالموافقة. قطيب نابليون خاطرها بكل وسيلة وقال لها: سأظل على حبّك دائماً لكن السياسة لا قلب لها، ففي السياسة لا مجال إلا للعقل(25) وقال لها انها ستظل دائما محتفظة بلقب سيدة القصر القصر الملكي وملحقاته ولقب إمبراطورة وبراتب سنوي كبير، وأكد لأبنائها أنه سيظل دائما وحتى آخر حياته كأب محب. وفي 61 ديسمبر أصدر مجلس الشيوخ - بعد أن سمع رغبة كل من الإمبراطور والإمبراطورة في الطلاق - مرسوم الطلاق، وفي 21 يناير أُعلن رئيس أساقفة باريس فصل عُرى زواجهما، وتساءل عدد كبير من الكاثوليك عن مدى شرعية هذا الطلاق، ولم يُوافق معظم سكان فرنسا على هذا الانفصال، وتنبأ كثيرون أنه من الآن فصاعداً سيتخلى الحظ الحسن عن نابليون، ذلك الحظ الحسن الذي كان يتبعه دائما كظله(35).
لقد طغت السياسة على الحب وراح نابليون يبحث عن شريكة لحياته ليس فقط على أمل أن تكون أماً (لولي عهده) وإنما أيضاً ليكوّن عن طريقها بعض الروابط والصلات التي تُعين على تحقيق السلامة لفرنسا، وتشد من أزر حكمه. ففي 22 نوفمبر (قبل إفضائه لجوزفين برغبته في الطلاق بثمانية أيام) أرسل نابليون بتعليمات إلى كولينكور Caulaincourt سفيره في سان بيترسبورج St. Petersburg (بطرسبرج) أن يقدم طلباً رسمياً لاسكندر طالباً يد أخته البالغة من العمر ستة عشر عاماً - أنَّا بافلوفا Anna Pavlova. وكان القيصر يعلم أن أمه التي كانت تطلق على نابلين اسم الملحد لن توافق أبداً على مثل هذا الارتباط فأرجأ الإجابة على الطلب أملاً في أن يحصل من نابليون على مقابل مُمثَّل في حصوله على بعض المناطق (الأخرى) في بولندا. لكن نابليون بعد أن نفد صبره لطول المفاوضات في هذا الأمر ولخوفه أيضاً من الرفض - أرسل يوعز إلى مترنيخ Metternich أنَّ النمسا ستتتلقّى اقتراحاً لطيفاً بشأن الأرشيدوقة (الأميرة) ماري لويز Marie Louise. وعارض كامباسير Cambaceres الخطة متنبئاً أن هذا الارتباط سيؤدي إلى إنهاء التحالف الروسي مع فرنسا وسيؤدي للحرب(45). ولم تكن ماري لويز Marie Louise البالغة من العمر ثمانية عشر عاما - جميلة، لكن كان يكفي نابليون أن عينيها زرقاوتان، وخديها متوردان وشعرها كستنائي وطبعها هادئ وذوقها بسيط، وكانت كل الأدلة تؤكد عذريتها (لم يطمسها قبله إنس) وخصوبتها (إمكان انجابها). وقد تلقت قدراً طيباً من التعليم وتعرف عدة لغات وكانت بارعة في الموسيقا والرسم، وقد تعلمت منذ طفولتها أن تكره طالب يدها (نابليون) باعتباره شريراً بل أكثر أهل أوروبا امتلاء بالشر، لكنها تعلمت أيضاً أن الأميرة بضاعة سياسية يرتبط فهمها للرجال بصلاح الدولة. ومع هذا فلابد أن هذا الغول سيئ السمعة (المقصود نابليون) يمثل تغييرا مثيراً لفتاة محكومة تخضع لإشراف دقيق طال شوقها لعالم أكثر رحابة.
وعلى هذا ففي 11 مارس سنة 0181، وفي فيينا تم زواجها رسمياً من نابليون الذي لم يكن حاضراً وإنما مثله المارشال بيرثييه Berthier. وتحرك ركب الأميرة المكوّن من ثلاث وثمانين عربة ومركبة طوال خمسة عشر نهارا وليلة مصحوبة بالاحتفالات والترحيبات ليصل الركب إلى كومبيين Compiegne في 72 مارس. لقد كان موكبها كموكب زفاف ماري أنطوانيت في سنة 0771. وكان نابليون قد رتّب أموره للقائها في كومبيين هذه لكن - فضولاً منه أو لطفاً - انطلق ليقابلها مرحباً بالقرب من كورسيل Courcelles وعندما رآها.. لكن دعنا نتركه هو يروي لنا ما حدث: لقد خرجت من المركبة بسرعة وقبّلت ماري لويز Maire Louise. لقد كانت الطفلة الساذجة قد حفظت عن ظهر قلب حديثاً طويلاً كان عليها أن تردده على مسامعي وهي راكعة.. وكنت قد سألتُ مترنيخ وأسقف نانت Nantes عمّا إذا كان يمكنني الليلة أن أكون تحت سقف واحد مع ماري لويز فأزاحوا كل شك علق بي وأكدا أنها الآن الإمبراطورة، وليس الأميرة (الأرشيدوقة) ... وعكفتُ عليها في غرفة نومها لا أبرحها إلاّ إلى المكتبة، وسألتها عمّا قالوه لها عندما غادرت فيينا، فأجابتني بسذاجة شديدة أن أباها وفراو لاتسانسكي Lazansky قد وجهاها بأن قالا لها: حالما تصبحين مع الإمبراطور ولا ثالث معكما عليك أن تفعلي كل ما يطلبه منك تماماً، عليك أن توافقي على كل شيء يطلبه منك لقد كانت مبهجة.
وقد أراد السيد سيجو Segur منّي ألاّ أظهره لها(!) مراعاة للتقاليد، لكنني بعد أن تزوجتها فعلاً أصبح كل شيء على ما يرام، وقلت له: اذهب إلى الشيطان(55). في أول أبريل أصبح الاثنان زوجين وفقاً للإجرادات المدنية وذلك في سان كلود St. Cloud وفي اليوم التالي أصبح زواجاً دينياً في الصالة الكبرى في اللوفر Louvre، ورفض كل الكاردينالات تقريبا حضور المراسم الدينية للزواج على أساس أن البابا لم يلغ زواج جوزفين، فطردهم نابليون الى الأقاليم (المحافظات أو الدوائر) لكن هذا لم يعكر صفوه فقد كان مغموراً بالسعادة من نواح أخرى. لقد وجد عروسه باعثة على المسرّة حسياً واجتماعياً - متواضعة ومطيعة وكريمة ورقيقة. إنها لم تعرف أبداً أن تحبه لكنها كانت رفيقة جذابة. وهي كإمبراطورة لم تحقق جماهيرية كالتي حققتها جوزفين، لكن صارت مقبولة كرمز لانتصار فرنسا على ملكيات أوروبا العدوانية. ولم ينس نابليون جوزفين فكان يزورها تباعاً في مقرها حتى أن ماري بدأت في الاستياء، فاضطر للتوقف عن زيارتها لكنه راح يرسل لها خطابات دافئة، جميعها تقريبا تبدأ بعبارة يا حُبّي(65) وقد أجابت جوزفين على أحد هذه الخطابات من نافار Navarre في نورماندي Normandy في 12 أبريل سنة 0181: ألف ألف شكر لك لأنك لم تنسني. لقد أحضر إليّ ابني خطابك تواً. لقد اعتراني الضعف عند قراءته. وأي ضعف!.. فلم يكن به أي كلمة إلا وجعلتني أبكي، لكنها كانت دموعاً حلوة... لقد كتبتُ إليك عند مغادرة مقر إقامتي في باريس Malmaison، وبعد مغادرتني رغبت كثيراً في الكتابة إليك أكثر من مرة، لكنني أحسست بأسباب سكوتك وخشيت أن أكون مزعجة...
كن سعيداً، كن سعيداً فأنت تستحق السعادة، إنني أحدّثك بكل قلبي. لقد أعطيتني أيضاً نصيبي من السعادة، وهو نصيب أُحس به إحساساً قوياً... وداعاً يا صديقي، وأشكرك بكل الحب فسأحبك دائماً(75). وراحت جوزفين تُسلي نفسها باشباع هوايتها في ارتداء الملابس والحُلي واستقبال الضيوف. وكان نابليون قد اعتمد لها ثلاثة ملايين فرنك سنوياً لكنها كانت تنفق أربعة ملايين، وبعد وفاتها في سنة 4181 لاحقته بعض فواتير مُشترواتها التي لم تُدفع في إلبا(85) Elba لقد جمعت جوزفين في مقر إقامتها Malmaison أعمالاً فنية كثيرة هيأت لها صالة عرض وكانت تُنفق على الولائم ببذخ. وكانت قيمة تكاليف دعواتها تلي مباشرة تكاليف زوجة نابليون (ماري لويز) وراحت تاليا Tallien الأميرة الأربعين لشيماي Chimay - تزور جوزفين ويتذكران معاً أيام حكومة الإدارة ونفوذهما القوي الذي جعلهما كملكتين، وزارتها الكونتيسة فالفسكا Walewska فاستقبلتها جوزفين بحفاوة وراحتا معاً يندبن حظمها لضياع حبيبهما (نابليون). لقد قضى نابليون عامين كان فيهما سعيداً وفي سلام نسبي، فقد وسَّعت معاهدة شونبرون Schonbrunn مملكته وأثرت خزانته وفتحت شهيته، فقد ضمّ إلى ملكه الولايات الباباوية (71 مايو 9081) وأعاد أخاه جوزيف (يوسف) إلى عرشه في مدريد، وفي سنة 0181 وقّعت السويد - التي طال عدواؤها له - معاهدة سلام مع فرنسا وانضمت للحصار القاري المضاد (المقصود منع التعامل مع البضائع البريطانية) وفي شهر يونيو قبلت - بناء على إلحاحه - أن يكون وريثاً للعرش السويدي. وفي ديسمبر ابتلع هامبورج وبريمن ولوبك Lubeck وبيرج وأولدنبورج Oldenburg وضمها للإمبراطورية الفرنسية. وأدت رغبته الشديدة في اغلاق كل موانئ القارة الأوروبية في وجه التجارة البريطانية إلى أن أصبح في نظر أعدائه غازياً نَهِماً لا يشبع يجمع الديون لأرباب الحقد والحسد.
وكانت الأمور الداخلية هادئة ومستتبة، فكانت أحوال فرنسا مزدهرة، وكان شعبها يحس بالفخار، ولم يكن هناك ما يعكر صفو أنسياب الماء في النهر سوى ما أحدثه طرد فوشيه Fouche نهائيا لازدياد نفوذه زيادة كبيرة. وقد تم تعيين سافاري Savary بدلاً منه كوزير للشرطة وعاد فوشيه إلى اكس - ان - بروفنس Aix - en. Provence ليدبِّر للانتقام لنفسه. أما الأمور الخارجية فلم تكن بمثل هذه السهولة؛ فهولندا كانت في الغاية من الاستياء لفرض الحظر على السفن البريطانية. وفقدت إيطاليا صبرها لسوء معاملة نابليون للباباوية، وكان الإيطاليون يفخرون بأنهم مقر الباباوية، وكان ولينجتون Wellington يبني جيشاً في البرتغال ليفزو به أسبانيا. وفيما وراء الراين Rhine كانت الدول الألمانية الخاضعة لحكم بونابرت متذمرة من الأعباء الضريبية في انتظار بعض الحماقات الإمبراطورية لتعود مرة أخرى لحكم سادتها السابقين الأكثر ملاءمة لها.
ومع هذا فقد كانت ماري لويز Marie Louise حاملاً وكان الإمبراطور السعيد يَعُد الأيام لوضعها هذا المولود. وعندما اقترب الحدث أحاطه بكل الطقوس الاحتفالية ذوات المهابة التي كانت تصاحب - تقليدياً - ميلاد طفل من البوربون، فجرى الإعلان إنه إن كان المولود طفلة فستسمع واحداً وعشرين طلقة مدفع تحية للمولودة أما إن كان المولود ذكراً فستستمر الطلقات إلى مئة وواحد. وكانت عملية الوضع شاقة جدا، فقد (أراد) الجنين أن يأتي للعالم بقدميه أولا، وقال الدكتور كورفيزار Corvisart لنابليون إنه إما أن يضحي بحياة الأم أو بحياة الوليد، فقيل له أن ينقذ الأم مهما كان الأمر(95). واستخدم طبيب آخر أدوات ليعكس وضع الجني، وأصبحت ماري لعدة دقائق قريبة من الموت. وأخيراً (وافق) الجنين على الظهور برأسه أولاً، وعاش الطفل والأم (02 مارس 1181) ودوَّت مائة طلقة وطلقة معلنة لباريس ميلاد ذكر، وانتقل الخبر سريعاً في سائر أنحاء فرنسا، ولم يكن في أوروبا كثيرون يستكثرون على الإمبراطور هذه السعادة. فقد أرسل كل حكام أوروبا تهانيهم للأب الذي طال انتظاره لوليد ولمن تم إعلانه بالفعل ملك روما(06) والآن ولأول مرة منذ بدأ مهامه أصبح يمكن لنابليون أن يحس بالطمأنينة بدرجة معقولة فقد أسس أسرة حاكمة يأمل أن تكون عظيمة مفيدة كالأسرات الحاكمة المعروفة بهذه الصفات في التاريخ، وربما أمكنها أن تجعل من أوروبا كياناً واحداً.