قصة الحضارة - ول ديورانت - م 11 ك 2 ف 14
صفحة رقم : 14615
قصة الحضارة -> عصر نابليون -> تاريخ الحضارة الأوروبية -> العلوم والفلسفة في ظل حكم نابليون -> الرياضيات والفيزياء
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الرّابع عشر: العلوم والفلسفة في ظل حكم نابليون
الرياضيّات والفيزياء
شهدت العلوم عصراً من أزهى عصورها في عصر نابليون لقد كان هو نفسه أوّل حاكم في التاريخ الحديث تلقى تعليماً علمياً، وربما لم يتلق الاسكندر تلميذ أرسطو مثل هذه الخلفية العلمية العميقة التي تلقاها نابليون• لقد كان الفرنسسكان الذين علّموه في المدرس العسكرية في برين Brenne يعلمون ان العِلْم أكثر فائدة من اللاهوت لكسب المعارك، فدرَّسوا للكورسيكي الشاب كل ما كانوا يعلمونه في الرياضيات والفيزياء والكيمياء والجيولوجيا والجغرافيا• وعندما وصل للسلطة أعاد التقليد الذي كان على أيام لويس الرابع عشر، بتقديم جوائز مالية وعَيْنية لمن حققوا إنجازات ثقافية وقد قدّم معظم هذه الجوائز للعماء مستوحياً بذلك خلفيته العلمية، ومرة أخرى حذا حذو من سبقه فوسّع مجال عطاياه ليشمل غير الفرنسيين، ففي سنة 1081 دعا المعهد العلمي الفرنسي باسمه العالم أليساندرو فولتا Alessandro Volta للحضور إلى باريس ليعرض نظرياته عن التيار الكهربائي، وحضر فولتا بالفعل وحضر نابليون ثلاث محاضرات من محاضراته وقدَّم لهذا الفيزيائي الإيطالي ميدالية ذهبية(1)• وفي سنة 8081 أعطى جائزة الاكتشافات في مجالي الكيمياء الكهربيّة لهمفري ديفي Humphry Davy الذي حضر إلى باريس لتسلّمها رغم أن فرنسا وانجلترا كانا في حالة حرب(2)• وكان نابليون يدعو بشكل دوري علماء المعهد العلمى الفرنسي ليجتمعوا به ليقدموا له تقريراً عن الأعمال التي قاموا بها أو الجاري العمل فيها في مختلف مجالات تخصصهم• وفي أحد هذه الاجتماعات، في 62 فبراير سنة 8081 تحدث سكرتير المعهد كوفييه Cuvier ببلاغة كلاسيّة رصينة كبلاغة بفوّن Buffon وكان يحق لنابليون أن يشعر أن العصر الذهبي للنثر الفرنسي قد عاد من جديد•
لقد تفوق الفرنسيون في العلوم البحتة مما جعل فرنسا أكثر الأمم عقلانية وتشكّكاً، أما الإنجليز فشجعوا العلوم التطبيقية وطوّروا الصناعة والتجارة والثروة• مما جعلهم سادة العالم في القرن التاسع عشر• وفي الحقبة الأولى من هذا القرن التاسع عشر خطا في الرياضيات خطوات واسعة كلٌّ من لاجرانج Lagrange وليجندر Legendre ولابلاس Laplace ومونج Monge وهذا الأخير كان صديقا حميماً لنابليون واستمرت صداقتهما حتى الموت• لقد أسف لتحوّل القنصل إلى إمبراطور ولكنه تحمل ذلك بتسامح بل لقد سعد عندما جعله نابليون كونت بلوز Conte de Péluse، وربما كان بينهما سرُّ أن البيلوزيوم Pelusium كان خرائب قديمة في مصر• وقد حزن عندما نفى نابليون إلى إلبا Elba وأظهر فرحه وسعادته علناً عند عودته• وقد أمر البوربوني العائد إلى مُلكه المعهد الفرنسي بطرد مونج، فاستجاب المعهد للطلب، وعندما مات مونج في سنة 8181 أراد تلاميذه في مدرسة البوليتقنية LصEcole Polytechnique (التي ساعد في انشائها) في حضور جنازته لكنهم مُنِعوا من ذلك، وفي اليوم التالي ذهبوا متجمّعين إلى قبره ووضعوا باقة من الزهور•
وقد تأثر لازار كارنو Lazare Carno بمونج عندما كان يدرس في الأكاديمية العسكرية في ميزيير Meziers• وبعد أن عمل كمنسِّق للنصر Organzer of Victroy في لجنة الأمن العام وهروبه مع زوجته من الانقلاب الراديكالي في 4 سبتمبر 7971، وجد أمنه وسلواه في الرياضيات• وفي سنة 3081 نشر كتابه انعكاسات على ميتافيزيقيّة حساب التفاضل والتكامل Reflexion sur la métaphysique du Calcul infinitesimal وبعد ذلك كتب مقالين آخرين وضع فيهما أسس علم الهندسة التركيبية Synthetic geometry• - وفي سنة 6081 أحدث فرانسوا مولييه Molein ثورة في مجاله بإدخاله نظام المدخلين في علم مسك الدفاتر إلى بنك فرنسا - وفي سنة 2181 التحق جان فيكتور بونسيل Jean Victor Poncelet - تلميذ مونج - بالجيش العظيم لغزو روسيا، فتم أسره، فشغل وقته في فترة حبسه في صياغة النظريات الأساسية في الهندسة الاسقاطيّة (الإسقاط الهندسي) Projective Geometry وكان وقتا في الرابعة والعشرين من عمره•
الرياضيات هي أم العلوم ونموذجها الأمثل: فقد بدأت بالحساب وارتفعت إلى مستوى المعادلات• ومن خلال مثل هذه التقديرات الكمية دلّت الفيزياء والكيمياء المهندس على ملاحظة العالم وفهمه، وفي بعض الاحيان - كما في حالة تصميم معبد أو جسر - قد تُثمرُ الرياضيات فَنّا• ولم يكن جوزيف (يوسف) فورييه Fourire راضيا بطريقة أيرز Isere (1081) فأراد أيضا تسجيل المعلومات عن توصيل الحرارة في صياغات رياضية دقيقة• فأجرى على مراحل، تجارب في جرينوبل Grenoble وطوّر، بل واستخدم ما يعرف الآن باسم متتاليات فورييه Fourier Series في المعادلات التفاضلية - ولا زالت معادلات فورييه التفاضلية هذه فعالة في مجال الرياضيات ولا تزال سرا غامضا بالنسبة للمؤرخين• وقد أعلن اكتشافاته في سنة 7081 لكنه لم يعرض منهجه ونتائج بحوثه في هذا المجال في كتابه نظرية تحليلية في الحرارة Therorie Analytique de la Chaleur (2281) الذي يعد واحداً من أكثر الكتب أهمية في القرن التاسع عشر(3) لقد كتب فورييه:
أثر الحرار موضوع لقوانين ظهرت باستمرار، ولا يمكن اكتشاف هذا الأثر دون الاستعانة بالتحليل الرياضي• وهدف النظرية التي علينا أن نشرحها هو عرض هذه القوانين وإظهارها• إن التحليل الرياضي يختصر كل البحوث الفيزيائية عن انتشار (امتداد) الحرارة في مسائل متعلقة بحساب التكامل، بعد اخضاع الانتشار الحراري للتجارب•• وهذه الاعتبارات تقدم لنا مثالاً فريدا للعلاقة الموجودة بين الرياضيات، والقضايا (أو المسائل) الطبيعية(4)•
والأكثر إثارة هي التجارب التي أجراها جوزيف لويس جاي لوزاك Lussac بهدف قياس أثر الارتفاع عن سطح البحر على المغناطيسية الأرضية وانتشار الغازات، ففي 61 سبتمبر صعد في بالون إلى ارتفاع 210،32 قدم، وأدت اكتشافاته التي كتب عنها تقريراً إلى المعهد العلمي الفرنسي في الفترة من 5081 الى 9081 إلى وضعه بين مؤسسي علم الأرصاد الجوية (الميتيورولويجا) كما أن دراساته (التي أتت بعد ذلك) عن البوتاسيوم والكلور والسيانوجين كانت تعد استمرارا لأبحاث لافوازيه وبيرثول Berthollet في جعل الكيمياء النظرية في خدمة الصناعة والحياة اليومية•
وكان الأكثر تأثيراً في العلوم الفيزيائية في عهد نابليون هو لابلاس Pierre Simon Laplace انه لم يكن يدري أنه كان أوسم رجل في مجلس الشيوخ الذي تم تعيينه فيه بعد فشله كوزير للداخلية• وفي سنة 6971 قدّم بأسلوب متألق لكن ليفهمه العامة كتابة عن نظام الكون Exposition du Systeme du Monde تناول فيه نظريته السديمية (نظرية السديم الأعظم) عن أصل الكون• أما العمل الذي بذل فيه جهودا اكثر روية فهو كتابه الصادر في خمسة مجلدات معالجة للميكانيكا الفلكية Traite de mecanique Celeste (9971 - 5281)• لقد وظّف التطورات في مجال الرياضيات والفيزياء لتطبيقها على النظام الشمسي - وبالتالي أخضع كل الأجسام السماوية الأخرى لقوانين الحركة ومبدأ الجاذبية•
وكان نيوتن Newton قد ذكر ان بعض ما يبدو وكأنه عدم انضباط (عدم انتظام أو عدم خضوع لقاعدة) في حركة الكواكب السيارة - قد تحدّى كل محاولاته لشرحها• فعلى سبيل المثال فإن مدار زُحل يتسع باستمرار وإن كان ببطء أو تمهل - حتى أنه إذا لم يتم وقف هذا الاتساع في المدار، فلابد أن يضيع (أي زُحل) في الفضاء اللانهائي• كما ان مدار المشتري (جوبيتر) ومدار القمر ينكمشان (يضيقان) ببطء، لذا فإنه - على المدى البعيد - لابد أن تمتص (تستوعب) الشمس كوب المشتري، ولابد ان تحدث مأساة بارتطاء القمر بالأرض• واستنتج نيوتن أن الله نفسه لابد أن يتدخل بين الحين والحين لتصحيح مثل هذا الخلل، لكن كثيرين من الفلكيين رفضوا هذا الفرض الباعث على اليأس باعتباره مناقضاً لمبادئ العلم والطبيعة، وذهب لابلاس إلى أن هذا التفاوت (عدم الانتظام) راجع إلى تأثيرات تُصحح نفسها بنفسها بشكل دوري وأن قليلا من الصبر (في حالة المشتري 929 سنة) لازم لتعود الأمور لمسارها المنضبط• وانتهى إلى أنه ليس من سبب يدعونا للقول أن النظام الشمسي والنظام النجمي لن يستمرا حتى النهاية وفقاً للقوانين التي اكتشفها نيوتن ولابلاس•
لقد كانت فكرة مهيبة مرعبة، تلك الفكرة القائلة بأن الكون آلة محكوم عليها أن تستمر وفقاً لرسم بياني لا يتغير، في حركة دائمة في السماء وإلى الأبد• لقد كان لهذه الفكرة أثر هائل في تطوير النظرة الميكانيكية للعقل (النفس) وللمادة على سواء وساهمت مع أفكار داروين Darwin في تقويض أساس اللاهوت المسيحي واضعافه• فالله - كما قال لابلاس لنابليون - لم يكن رغم كل شيئ لازماً (أو لابد من وجوده كضرورة) واعتقد نابليون أن هذا الافتراض غير واضح أو أنه غائم أو غامض بعض الشيء، بل أن لابلاس نفسه أتى عليه حين بدأ فيه يتشكك فيما كان هو نفسه قد قال به في وقت من الأوقات (تراجع عن رأيه)• وكان يتوقف بين الحين والحين عن بحوثه عن النظام الشمسي والنجمي ليكتب نظرية تحليلية عن الاحتمالات Theorie analytique des probabilties (2181 - 0281)• وفـي نهايـة عمره ذكـر زمـلاءه العلمـاء أن ما نعرفـه قليـل وأن ما لا نعرفـه هائل(5)•
الطب
ويمكن للأطباء أن يتحدثوا أيضاً عن نابليون برضاً تام• وهو لم يتخلّ أبداً عن أمله في اقناع طبيبه أن العقاقير (الأدوية) ضررها أكثر من نفعها وأنهم سيعذبون يوم القيامة لأن أعداد من تسببوا في قتلهم تفوق أعداد من راحوا ضحية حروب الجنرالات• وكان الدكتور كورفيزار Corvisart الذي أحب نابليون يسمع مزاحه صابرا، وقد انتقم الدكتور أنتومارشي Antommarchi من سخرية نابليون بأن راح يعطيه حقنه شرجية إثر أخرى، وكان نابليون حال تلقيه هذه الحقن الشرجية قد اقترب من الموت، وكان الدكتور الآنف ذكره يعتقد أنه يستحق (يستاهل) هذه الحقن• ويتضح مدى تقدير نابليون لعمل الأطباء المخلصين الأكفاء من أنه أوصى بمئة ألف فرنك للجرّاح الدومينيكاني الفاضل لرّي Larrey (6671 - 2481) الذي صحب الجيش الفرنسي إلى مصر وروسيا وواترلو والذي كان يسارع لتقديم المساعدة السريعة للجرحى، وأنجز مئتي عملية بتر في يوم واحد في بورودينو Borodino وترك لنا أربعة مجلدات عن العمليات الجراحية أثناء الحروب والمعارك Memoires de Chirurgie militaire et Compagnes (2181 - 7181)(5أ)•
ولم يخطئ نابليون عندما اختار جان - نيكولا كورفيزار كطبيب خاص له• فقد كان استاذا للطب التطبيقي في الكوليج دي فرانس College de France حريصاً عند التشخيص حذراً عند وصف الدواء• لقد كان هو أول طبيب فرنسي يفحص مرضاه بدق الأصابع Precussion (طريقه في التشخيص) - بزل الصدر - كوسيلة تشخيصية مُعِيَنة في حالة أمراض القلب أو الرئتين• وكان قد قرأ عن هذه الطريقة في كتاب ليوبولد أونبرجر Leopold Auenbrugger من أهل فيينا بعنوان طريقة جديدة للتشخيص بقرع الأصابع Inventum novum ex Percussione (9971) وترجم كورفيزار إلى الفرنسية هذه الدراسة المكونة من 59 صفحة وأضاف إليها خبراته وشرحها في كتاب تعليمي في 044 صفحة(6)• وأدى نشر مقاله عن الأمراض والآفاق العضوية في القلب•• إلخ Essai sur les maladies et les lesions Organiques du Coeur et des gros Vaisseaux إلى اعتباره أحد المؤسسين الكبار لعلم التشريح الباثولوجي (المرضي) وبعد ذلك بعام انتقل إلى المقر الإمبراطوري كطبيب مقيم، واعتاد الإمبراطور الصعب أن يقول أنه لا يؤمن بالطب لكنه يعتقد في كفاءة كورفيزار(7)• وعندما نفى نابليون في سانت هيلانة انسحب كورفيزار ليعيش مغموراً في الريف، ومات وهو باق على إخلاصه في العام نفسه الذي مات فيه نابليون (1281)•
وأجرى تلميذه رينيه - نيوفيل لينك Rene Theophile laennec مزايد من التجارب على طريقة الفحص بالتسمّع auscultation (الكلمة حرفيا تعني الإصغاء) وقد استخدم في محاولته الأولى اسطوانتين يوضع طرف كل منهما على جسد المريض وطرف كل منهما الآخر عند أذن الطبيب الذي يفحص بهذه الطريقة الصدر (Seeing the Chest) والمقصود يتسمَّع الصدر Stethos بأذنيه، فالأصوات الصادرة عن الأعضاء الداخلية - كما في حالة التنفس والكحّة والهضم يمكن سماعها واضحة غير مختلطة بأصوات أخرى تشوّش على معناها، ولمساعدة هذه الأداة واصل لينِّي Laennee أبحاثه ولخَّص نتائجه في بحث عن استخدام طريقة التسمّع في التشخيص - Traite a Laus Cutation mediate - (9181) الذي طبع طبعة ثانية في سنة 6281 ووصف هذا المبحث في طبعته الجديدة بأنه أهم بحث كُتب في أعضاء الصدر(8) وظل وصفه لمرض التهاب الرئة (ذات الرئة) مصدرا تقليدياً حتى القرن العشرين(9)•
وكان الانجاز البارز للطب الفرنسي في هذه الفترة هو الطريقة الإنسانية في معالجة المجانين وطريقة معاملتهم• وفي سنة 2971 عندما تم تعيين فيليب بينل Philippe Pinel مشرفاً طبياً على البيمارستان (مستشفى الأمراض العقلية) الذي كان ريشيليو Richelieu قد أسسه في ضاحية بيكتر Bicetre - صُدِم عندما وجد أنّ حقوق الانسان التي اعلنتها الثورة بثقة لا وجود لها بالنسبة للمرضى العقليين المحجوزين هنا أو في البيمارستان الآخر - سالبترييه Salpetriere، فكثير من النزلاء كانوا مقيَّدين بالسلاسل حتى لا يؤذوا الآخرين أو أنفسهم كما كان يتم تهدئة كثيرين منهم بِفَصْدِ دمائهم بشكل متتابع أو بتقديم أدوية منوّمة لهم، وأي نزيل جديد (ليس من الضروري أن يكون مجنونا فربما كان مزعجاً - لا غير - لأهله أو للحكومة) يُزَج به في المارستان ويُترك عُرضة للتلف البدني بتعرضه للعدوى أو المرض العقلي (النفسي) كمداً وحزناً• والنتيجة جمع من غريبي الأطوار المحدّقين بغباء اليائسين يظهرون في المناسبات للتسوّل من العامة• وقد ذهب بينل Pinel بنفسه للمؤتمر الوطني ليطلب الصلاحيات لمحاولة تخفيف الوضع• لقد فك القيود، وقلَّل عدد مرات فصد الدم وعدد جرعات الأدوية (المهدئة)، وأطلق صراح المرضى في الهواء المنعش وأمر الحراس ألاَّ يعاملوا المجانين كمجرمين ارتكبوا جرائم سرية حقت عليهم بسببها لعنة الله وإنما كمرضى يمكن شفواؤهم بتحسين أحوالهم ورعايتهم بصبر• وقد صاغ وجهات نظره ونظامه هذا في مبحث كُتب له البقاء بعنوان (Traite medico - philosphique sur alienation mentale) (1081)، وكان لهذا العنوان أكثر من دلالة، إذ كان يقصد ما ذهب إليه أبقراط من أن الطبيب إذا جمع بين عِلْم العَالِم والفهم السوّي الذي يتحلى به الفيلسوف أصبح هو النموذج والمثال• قال أبقراط الطبيب محب الحكمة مساوٍ للأرباب(01)•
البيولوجيا
كوفييه
بلغ كوفييه النهى وأصبح على رأس أقرانه رغم انه كان بروتستنطيا في بلد كاثوليكي، وقد شغل منصبا سياسيا رفيعا بل واصبح عضوا في مجلس الدولة (4181) فقد رفع نابليون من شأن كثير من العلماء في عهده، واحتفظ كوفييه بمكانه في مجلس الدولة في عهد البوريون العائدين للحكم وأصبح رئيساً للمجلس ونبيل فرنسا apeer of France في سنة 0381• وعندما مات (2381) كان قد حاز الشرف في كل أنحاء أوروبا باعتباره مؤسسا لعلم البالونتولوجيا (علم أشكال الحياة في العصور الجيولوجية السالفة) وعلم التشريح المقارن كما أنه جعل البيولوجيا (علم الأحياء) مفهومة للعقل الأوروبي وقادرة على تغييره•
وكان أبوه ضابطا في كتيبة سويسرية فازت بوسام الاستحقاق (الجدارة) وتزوج أبوه في الخمسين من عمره من زوجة شابة رعت بحب واهتمام ابنه من الناحيتين البدنية والعقلية (النفسية) وكان ابنه هذا هو جورج - ليوبولد - شريتي Georges Leopold - Chretien، لقد كانت تراجع واجباته المدرسية وهو طالب وتجعله يقرأ لها كلاسيّات الأدب والتاريخ، فتعلم كوفييه ان يكون فصيحا إذا كان الحديث عن الرخويات (كالمُحّار والبسيدج والحلزون••) والديدان• وكان لديه من المال ليقدمه للأكاديمية التي كان شارلز يوجين Charles Eugene دوق فيرتمبرج Wurttemberg قد أسسها في ستوتجارت Stuttgart حيث يقوم ثمانون معلماً بتعليم أربعمائة طالب مختار• وفي هذه الأكاديمية فُتِنَ لفترة بكتابات لينوس Linnaeus وفُتِن بشكل دائم بكتاب بفّو Buffon: التاريخ الطبيعي Histoire naturelle• وتخرّج من الأكاديمية وحصل منها على كثير من الجوائز لكن لم يكن لديه أي إرث يُتيح له تموين مزيد من الدراسة فعمل معلّما خصوصياً لدى أسرة تعيش بالقرب من فيكامب Fecamp على القنال الإنجليزي• وجذب اهتمامه بعض الأحفورات (البقايا المتحجرة من عصور جيولوجية سالفة) قد ظهرت عليها - بكل معنى الكلمة - بقايا حياة نباتية وحيوانية لعصور ما قبل التاريخ• كما فتنته بعض الأصداف (المحارات) المتجمعة من البحر بتباين تكوينها الداخلي وأشكالها الخارجية حتى أنه اقترح من خلالها تصنيفا جديداً للكائنات الحيّة وفقاً لتركيبها واختلافها أو بتعبير آخر وفقاً لطبيعة تكوينها واختلاف كل نوع منها عن النوع الآخر• ومن هذه البداية طوّر معلومات عن الاحفورات وأشكال الحياة لم يكن لها نظير قبله وربما لم يحدث بعده أن ظهرت معلومات على الدرجة نفسها من القيمة• لقد عكف بشغف وحب استطلاع ودأب لا يكلّ ولا يمل•
ووصلت أخبار عن علمه وتطبيقاته إلى باريس وحظي بتوصيات مفيدة من أولئك الذين سينافسونه مستقبلا، سانت هيلار Saint - Hilaire ولامارك Lamarck وجعلته هذه التوصيات ينال استاذية علم التشريح المقارن وهو في سن السابعة والعشرين (6971) في المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي• ونشر وهو في الواحدة والثلاثين كتاباً يُعد واحداً من كلاسيّات العلوم في فرنسا دروس في علم التشريح المقارن Lecons dصanatomie Comparee وحتى الثالثة والثلاثين أصبح أستاذا أساسيا (باحثاً معترفاً به) في حديقة النباتات (جاردين دي بلانت Jardin des Plants)، وفي الرابعة والثلاثين أصبح سكرتيراً دائماً (أي مديراً تنفيذياً) لقسم العلوم الفيزيائية والطبيعية في المعهد الوطني• وفي هذه الأثناء (2081) كثرت أسفاره كمندوب للمعهد في مهمة إعادة تنظيم التعليم الثانوي•
ورغم واجباته كمعلّم وإداري فقد واصل أبحاثه مستعيناً ببعض المتعاونين معه لدراسة وتصنيف كل أنواع النبات والحيوان التي حفظت الأحفورات بقاياها أو التي لاتزال حيّة تدب على الأرض أو تعيش في البحر• وكتابه التاريخ الطبيعي للأسماك Histoire naturelle des Poissons (8281 - 1381) يصف لنا خمسة آلاف نوع من السمك• وأبحاثه عن أحفورات ذوات الأربع Recherches sur assewents des quadrupedes (2181 - 5281) تكاد تكون قد أوجدت علم أحفورات الثدييات• إنّ هذا البحث يضم وصف كوفييه للفيل الأول الغامض وقد أسماه الماموث mammoth والذي تم العثور على بقاياه (2081) مدفونة تحت كتل جليدية ظلت متجمدة بشكل دائم في سيبيريا وظلت محفوظة بشكل جيد حتى أن الكلاب أكلت من لحمها بعد إذابة الجليد الذي فوقها(11)• وفي واحد من مجلداته هذه شرح كوفييه مبدأه العلمي عن اتصال الأجزاء وعن طريق هذا المبدأ فكر في اعادة بناء نوع محدّد بدراسة عظمة واحدة تكون باقية من أحد أفراده (أي أفراد هذا النوع)• كل فرد سوي (المقصود فرد من النوع أياً كان هذا النوع) يكوّن نظاماً (نسقاً) كاملا، فكل أجزائه تتواصل بشكل طبيعي، وتعمل في الوقت نفسه لتحقيق هدف محدّد بعينه عن طريق ردود فعل تبادلية، أو عن طريق العمل المشترك الذي يصل إلى غاية واحدة• ومن هنا فإن أيّاً من هذه الأجزاء المنفصلة لا يمكن أن يُغيَّر شكله دون تغيير يتم بالاتفاق مع الأجزاء الأخرى في الكائن الحي نفسه (الحيوان) وعلى هذا فإن كل جزء من هذه الأجزاء، - إذا تمت دراسته بشكل منفصل - يشير إلى كل الأجزاء الأخرى في الكيان (الفرد) الذي ينتمي إليه• وعلى هذا••• إذا كانت أمعاء حيوان منضبطة لتكون ملائمة فقط لهضم اللحوم الطازجة، فإن هذا يتطلب أن يكون الفكّان مهيَّأين لالتهام الفريسة وأن تكون الأسنان مهيّأة لتقطيع لحمها، وأن يكون نظام الأطراف كله، أو سائر أعضاء الحركة مهيّأة لنتبّع الفريسة وإدراكها، وأن تكون الحواس مهيّأة لاكتشافها - أي الفريسة - عن بُعد•• وإذا كنا قد استنتجنا كل ذلك من دراستنا للأمعاء، فالأمر أيضاً ينطبق على المخالب والعظام الكتفية والنتوءات المفصلية وعظم الذراع أو أي عظام منفصلة، فكل هذه الأجزاء تمكننا من اكتشاف وصف الأسنان في الحيوان الذي تنتمي إليه، وعلى نحو تبادلي يمكننا أن نعرف عن عظام هذا الكائن بدراسة أسنانه• وعلى هذا فإن بدأنا دراستنا بتمعّن عظمة واحدة من الكائن الحي أمكننا ان كنا على قدر كافٍ من العلم بالتكوين العضوي للحيوان، إعادة تشكيل أو تكون (أو تصور) هذا الكائن الحي - الذي أتت منه هذه العظمة - بشكل كامل(21)•
وفي سنة 7181 ومن خلال عمله في ماموث آخر قدّم لنا كوفييه في مبحثه La Regne animal distribue dصapres son organization تصنيفه للحيوانات في فقاريات، ورخويات ومفصليات واشعاعيات radiates وعمد إلى شرح تعاقب طبقات الأحفورات بإرجاعها إلى انقراض مئات الأنواع بسبب اضطرابات أرضية شديدة• أما عن أصل الأنواع فقد قبل النظرة التقليدية السائدة وقتئذ والتي مؤدّاها أن الله خلق كل نوع على حدة (أي لم يتطور نوع من نوع آخر) لأن تباينها ناتج عن التوجيه الإلهي ليتلاءم كل كائن عضوي مع بيئته، وأن هذا التباين بين الأنواع لا يمكن أن يُنتج أنواعاً جديدة• ولقد انشغل كوفييه في مناقشة هذه الأمور وغيرها طوال عامين قبل وفاته، وكانت مناقشاته قد حققت شهرة كبيرة بدت لجوتة أهم أحداث التاريخ الأوروبي في سنة 0381• وكان إتين جيوفروي سانت هيلار Etienne Geoffroy Saint Hilaire هو مناوئه ممن بقوا على قيد الحياة قد بنى نظريته على تحوّل العضو الحي وتطور الأنواع معارضاً بذلك كافييه الذي لايزال أعظم علماء البيولوجيا (علم الأحياء)•
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لامارك
من السهل أن نحب لامارك لنضاله ضد الفقر في شبابه، ولنضاله في فترة نضجه ضد كافييه الذي حقق شهرة عالمية، ولنضاله ضد العمى والفقر في شيخوخته، وأكثر من هذا لأنه ترك لنا نظريته عن أسباب التطور وطرائقه، تلك النظرية الأكثر قبولا لرقتها وتخلّصها الرفيق من نظرية الاختيار الطبيعي القاسية التي قدمها لنا دارون المهذب• ومثل معظم الفرنسيين حمل لامارك جيشاً من الاسماء• انه جان - بابتست - بيير - أنطوان دي مونت - فارس لامارك Jean - Baptiste - Pierre - Antoine de Monet, Chavelier de Lamarck وكان الابن الحادي عشر لأب عسكري استطاع تدبير مناصب عسكرية لكل أبنائه ما عدا الأخير الذي أرسله إلى كلية من كليات الجزويتيين (اليسوعيين) في اميان Ameiens••• وغار من اخوته بأسلحتهم وخيولهم فترك الكلية فأنفق مخصصاته في شراء حصان هَرِم وانطلق إلى أسانيا محارباً• لقد حارب ببسالة، لكن مجاله البطولي انتهى بجرح في رقبته أثناء مباريات في المعسكر، وكانت هزيمته في المباراة مخزية، فذهب ليعمل ككاتب في بنك ودرس الطب وقابل روسّو واهتم بالنباتات وراح يتتبعها ويدرسها طوال تسع سنين ونشر في سنة 8771 كتابه عن النباتات في فرنسا Flore francaise وقَبِلَ بعد أن أوشكت موارده الاقتصادية على النفاد أن يعمل كمعلم خصوصي لأولاد بَفّو Buffon، ولو حتى مقابل انتهاز فرصة مقابلة هذا العجوز المخضرم• وعندما مات بفّو Buffon (9971) قبل لامارك عملاً متواضعاً كأمين لمخزن الأعشاب في الحديقة الملكية Jardin du roi (جاردين دي روي) في باريس وبعد اقالة الملك تحول اسمها بناء على اقتراح لامارك إلى حديقة النباتات• ولأن الحديقة كانت تضم أيضاً مجموعات حيوانية فقد أطلق لامارك مصطلح البيولوجيا على العلم الذي يدرس كل الأحياء من نبات وحيوان•
وكلما اتسعت دائرة اهتمامه لتشمل الحيوانات إلى جانب النباتات، ترك دراسة الفقاريات لكوفييه وأخذ على عاتقه دراسة الحيوانات التي ليس لها عمود فقري وأطلق عليها اسم اللافقاريات invertebres• وبحلول عام 9081 توصّل لأفكار أصلية فشرحها في مبحثيه: نظام اللافقاريات Systeme des animaux sans vertebres و فلسفة عالم الحيوان Philosophie Zoologique• ورغم تدهور قدرته على الإبصار، فقد واصل دراساته وكتاباته مستعيناً باخته الكبرى وبيير أندريه لاتريل Pierre Andre Latreille• وفي الفترة من 5181 إلى 2281 أصدر تصنيفه النهائي والنتائج التي توصّل إليها في كتابه الضخم: التاريخ الطبيعي للافقاريات Histoire natarelle des animaux sans vertebres وبعد ذلك أصابه العمى تماماً وأصبح عاطلاً عن العمل يكاد يكون معدوما• لقد كانت حياته ضريبة ثقيلة دفعها لقاء شجاعته، وكانت حالُه في شيخوخته عاراً لحكومته•
وبدأت فلسفته في علم الحيوان (أو بتعبير آخر إقامته على أسس عقلية) بتأمله التغيّر الدائم (الذي لا ينتهي) والغامض في أشكال الحياة• فكل فرد يختلف عن كل الأفراد الأخرى (فرد بمعنى واحد من جنس أو نوع من الكائنات الحية)، ومن بين أي نوع يمكن أن نجد فروقاً دقيقة تجعل من الصعب - وربما من عدم الدقة - أن نفصل النوع عن جيرانه الأقرب إليه شبها ونَسَبا سواء من حيث الشكل أو الوظيفة، وانتهى لامارك إلى أن النوع هو فكرة مجرَّدة أو مجرد مفهوم، أما في الحقيقة فليس هناك إلاّ موجودات فُرادى أو أشياء فُرادى أما الأقسام والفروع والأنواع التي نجعلها اطارا نجمع تحتها الأفراد أو نصنِّفهم من خلالها فما هي إلاّ أدوات فكرية (عقلية) تساعدنا على التفكير فيما هو متشابه•
لكن كيف ظهرت هذه الأنواع المختلفة من نبات وحيوان؟ هنا يجيبنا لامارك بالقانونين التاليين: القانون الأول: في كل حيوان مازال في حالة تطور نجد أن العضو الأكثر استخداما والأكثر اعتماداً عليه، يقوى تدريجيا ويتطور وينمو بمرور الوقت، بينما العضو الذي لا يستخدم باستمرار يضعُف ويتقلص تدريجيا وينتهي الأمر باختفائه• (قانون الاستعمال والإهمال)•
القانون الثاني: كل شيء أرادته الطبيعة أفرادا كي يكتسب بتأثير الظروف التي يمر بها جنس أو نوع هؤلاء الأفراد صفات بطول التعرض لهذه الظروف، أو يفقد بتأثير هذه الظروف نفسها صفات أخرى، وعلى هذا فتأثير الاستخدام السائد (المهيمن أو الغالب) للعضو أو بتأثير عدم استخدامه ينتقل بالوراثة إلى أفراد جديدين ينحدرون منه، والتغييرات الحادثة نتيجة الظروف السابقة تشمل الذكر والأنثى أو بتعبير آخر تشمل أولئك الأفراد الناتجين من أصلاب السابقين(31)• وكان القانون الأول واضحاً• فذراع الحداد تنمو لتصير أكبر وأقوى بسبب كثرة الاستخدام، ورقبة الزرافة تطول بسبب جهدها في الوصول إلى الأوراق العلوية للأشجار، وحيوان الخُلْد mole أعمى لأن حياته بشكل مستمر في الجحور تجعل عينيه لا تستخدمان• وفي كتاباته الأخيرة قسّم لامارك قانونه الأول إلى عنصرين مكمِّلين: الظروف البيئية أو (التحدي) وحاجة الكائن الحي ورغبته التي تحث جهوده لتحقيق الاستجابة المطلوبة كتدفق الدم في الحيوان أو العصارة في النبات إلى العضو المستخدم• وهنا حاول لامارك أن يجد إجابة للسؤال الصعب التالي: كيف تنشأ هذه الاختلافات؟ لقد أجاب كوفييه Cuvier عند هذا السؤال قائلا أن الله سبحانه يتدخل بشكل مباشر لإحداث هذا التغيير، أما دارون فذهب إلى أن هذا يتم من خلال اختلافات تصادفية أي تتم بالصدفة، ولا نعرف سببها• أما لامارك فقال بأن التغييرات تنشأ من حاجة الكائن الحي ورغبته وجهده الدائم لمواجهة الظروف البيئية• وقد لاقى هذا التفسير ترحيبا من علماء النفس المعاصرين الذين ركّزوا على الفعل الإبداعي للإرادة•
لكن قانون لامارك الثاني ووجه بآلاف من الاعتراضات• فقد رفضه البعض على أساس أن الختان عند الشعوب السامية وهو عادة تُمارس منذ القديم لم تؤد إلى ظهور مواليد مختونين بالطبيعة، والأمر نفسه بالنسبة لضغط القدم عند الصينيين لم تؤد إلى ظهور مواليد ذوي أقدام صغيرة (رغم أن العادة تُمارس من قديم)، وهذا ينفي وراثة الصفات المكتسبة التي قال بها لامارك، لكن مثل هذه الاعتراضات التافهة فشلت - بطبيعة الحالي - في ادراك ان هذه العمليات كانت ذات أبعاد خارجية متعدّدة الجوانب وليست بأية حال منطوية منطوية على حاجة داخلية أو نتيجة جُهد داخلي مبذول• وفشلت بعض الاعتراضات الأخرى لفشلها في إدراك معنى المدى الزمني الطويل المطلوب لكي تُحدث الظروف البيئة أثرها بإحداث تغيير في (الجنس) أو (النوع) وقد وافق كل من دارون، وهربرت سبنسر - وفقاً لهذه الشروط: طول المدى الزمني، والجهد الداخلي المبذول - على امكانية توريث الصفات المكتسبة، وكان هذا لصالح نظرية التطور، والمقصود بالصفات المكتسبة العادات أو التغيرات العضوية التي تتطور بعد الميلاد• واتخذ ماركس وانجلز موقفاً مؤيداً لمبدأ التوريث (البيولوجي) هذا وعوّلا على بيئة أفضل لانتاج إنسان أفضل، وظل الاتحاد السوفييتي لفترة طويلة يعتبر اللاماركية جزءا من عقيدته المحدّدة• وفي حوالي سنة 5881 صفع أوجست فيسمان August Weisman نظرية لامارك صفعة قوية بأن أعلن أن البلازما germ plasm (الخلايات التي تحمل الصفات الوراثية) محصّنة ضد التغييرات في الجسد المحمي (المغطّى enveloping body) فهذا الجسد وفقاً للتعبير العلمي سوما بلازم Somaplasm وبالتالي لا يمكن أن يتأثر (يتغير) بالخبرات الحادثة بعد الولادة• لكن هذا الزعم أصبح غير صحيح عندما وجدت بعض الكروموزومات Chromosomes (المورثات) في الخلايات البدنية، وخلايا البلازما، لقد أعادت التجارب - بشكل عام - التشكيك في نظرية لامارك(41)، لكن أخيراً ظهرت بعض الأدلة في الباراميسيوم Paramecium وبروتوزوا Protosoa أخرى تؤيد التغير أو التحوّل الذي قال به لامارك(51)• وربما ظهرت أمثلة أخرى تؤيد نظريته إذا أمكن أن تستمر التجارب على مدى الأجيال المتعاقبة، فمعاملنا تعاني من عدم إمكانية استمرار التجربة لفترة طويلة، وليس الأمر كذلك بالنسبة للطبيعة•
ما هو العقل؟
كان تركيز لامارك على الشعور بالحاجة وعلى الجهد المتواصل كعوامل لرد الفعل العضوي متناسقاص مع تراجع علماء السيكولوجيا (علم النفس) في المعهد العلمي الفرنسي عن النظر للعقل كآلة ليس لها حق المبادرة وإنما هو استجابة لأحاسيس خارجية وداخلية• وقد استخدم علماء النفس كلمة فلسفة عند تلخيص ما توصّلوا إليه• فالفلسفة لم تنفصل بعد تماما عن العلم، والحقيقة أن الفلسفة قد تكون - بالضبط - هي خُلاصة العلم إذا نجح العلم في أن يكون مطابقاً للعقل (المنطقة) وكان واعيا لصياغة مناهج فروضه، وتطبيق ملاحظاته (مشاهداته) وإحكام تجاربه وصياغاته الرياضية ذات النتائج التي يمكن اثباتها والتحقق منها لكن هذا الوقت لم يكن قدأتى بعد واعتبر سيكلوجيو (علماء نفس) القرن التاسع عشر أنفسهم هم الذين عليهم أن يجدوا المبررات المنطقية أو الأسس الفعلية للأمور التي لازالت بعيدة عن مطال العلم وأدواته•
ورغم معارضة نابليون، استمر الأيديولوجيون ideologues طوال عقد من الزمان يهيمنون من خلال تدريس الفلسفة وعلم النفس في المعهد العلمي الفرنسي• وكان عدوّه اللدود his bete noire في المعهد العلمي هو أنتوان ديستون دي تراسي Antoine Destutt De Tracy المهيّج حامل شعلة حسيَّه كونديلاس Condillacصs sensationism طوال سنوات الحكم الإمبراطوري• وتم إرساله كمندوب جماهيري إلى مجلس الدولة في سنة 9871 فعمل على اصدار دستور ليبرالي وهو الذي صدر بالفعل في سنة 1971، لكن في سنة 3971 اعتراه سخط وخوف بسبب وحشية الجماهير وإرهاب اللجنة الكبرى فابتعد عن السياسة واشتغل بالفلسفة• ففي ضاحية أوتيل Auteuil انضم لمجموعة جذابة متحلقة حول مدام هيلفينيوس Helvetius الجميلة أبدا، وهناك تعرض للتأثيرات الراديكالية لكل من كوندرسيه Condercet وكاباني Cabanis• وأصبح عضواً في المعهد العلمي فكانت له السيادة في القسم الثاني المخصص للفلسفة وعلم النفس وفي سنة 1081 بدأ في نشر أجزاء من كتابه عناصر الأيديولوجية Elements de ideologie وأتم نشره في سنة 5181• وقد عرّف الأيديولوجية بأنها دراسة الأفكار على أساس حسِّية كونديلاس•• أو المذهب الحسي القائل بأن كل الأفكار نابعة من الحواس أو مشتقّة منها• وهذا - فيما اعتقد - قد يبدو غير حقيقي فيما يتعلق بالأفكار العامة والمجردة كالفضيلة والدين والجمال أو الإنسان، لكن عند التعامل مع مثل هذه الفكار يجب أن نفحص الأفكار الأساسية التي تم استخلاصها منها، وأن نعود إلى الإدراك الحسّي البسيط الذي انبثقت منه(61) وظن ديستوت Destutt أن هذه الدراسة الموضوعية يمكن أن تُزيح الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعية) من مكانها، وتُنهي حكم كانط Kant• وإذا لم نستطع أن نصل إلى نتيجة محدّدة بهذه الطريقة علينا أن ننتظر وأن نُرجئ الحكم وأن نحاول توضيح أننا - حقيقة - لا ندري(71)• هذه اللاأدرية المحكمة لم تُعجب نابليون اللاأدري ذلك أن نابليون في هذا الوقت كان يرتب أمور الوفاق (الكونكوردات) مع الكنيسة• وصنّف ديستوت - دون أن يأبه لاعتراض - الأيديولوجيا (ويقصد السيكولوجيا) باعتبارها أحد أقسام علم الحيوان Zoology، وعرَّف الوعي بأنه إدراك الحواس (إدراك حسّي) وعرّف الحكم Judgement (أي التمييز الإدراكي) بأنه الاحساس بالعلاقات، وعرّف الإرادة بأنها حاسّة الرغبة• فكما أن المثاليين (أصحاب المذهب المثالي) نافحوا عن فكرة أن الحواس لا تُثبت بطريق لا تحتمل الشك وجود العالم الخارجي، فإن ديستوت كان يعني المشاهد والأصوات والروائح والطعم لكنه أصرّ على أنها قد تدرك على سبيل اليقين وجود العالم الخارجي عن طريق اللمس والوجود والحركة، فكما سبق أن قال الدكتور جونسون Johnson أننا نستطيع أن نحسم هذه المسألة بركل حجر•
وفي سنة 3081 ألغى نابليون القسم الثاني في المعهد العلمي فوجد ديستوت دي تراسي نفسه بلا مدرّج يلقي فيه محاضراته وبلا طابع ولم يكن قادرا على الحصول على تصريح لنشر كتابه ملاحظات على روح القوانين لمنتسكيو فأرسل مخطوطة الكتاب إلى توماس جيفرسون Thomas Jefferson رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الذي أمر بترجمته للإنجليزية وطُبع في سنة 1181 دون الإشارة لاسم مؤلفة(81)• وعاش ديستوت حتى بلغ الثانية والثمانين، وأصدر في أواخر عمره بحثاً عن الحب De LصAmour (6281)• بدأ مين دي بيران Maine de Biran (Marie - Francois - Pierre Gonthier de Biran) عمله في مجال الفلسفة بعرض فلسفته الحسية Sensationism بغموض ضَمِن له الشهرة• لقد بدأ عسكرياً وانتهى صوفيا (باطنيا)• في سنة 4871 التحق بالحرس الملكي للويس السادس عشر وساعد في الدفاع عنه ضد كتيبة النساء الرهيبة(02) التي حاصرت الملك والملكة في فرساي في الخامس والسادس من أكتوبر سنة 9871• ولما أصابه الرعب من الثورة عاد إلى عقارٍ له بالقرب من برجراك Bergerac• وتم انتخابه للمجلس التشريعي في سنة 9081 وعارض نابليون في سنة 3181 وأصبح مسؤولاً عن خزانة مجلس النواب في عهد لويس الثامن عشر• وكانت كتاباته عملاً إضافياً إلى جانب مهمته السياسية، ولكنها رفعت شأنه بين الفلاسفة الفرنسيين في عصره وجعلته في مكان الصدارة، وحقــق شــهرة سنة 2081 بفــوزه بالجائــزة الأولــى فــي مســابقة موّلهــا المعهد العلمي• وبدت مقالته أثر العادة في القدرة على التفكير Linfluence de Lصhabitude Sur les facultes de penser تنهج نهج وهات النظر الحسية التي قال بها كونديلاس Condillac بل وحتى السيكولوجيا الفسيولوجية (علم النفس الفسيولوجي) التي قال بها ديستوت دي تراسي Destutt de Tracy• لقد كتب أن طبيعة الفهم ليست أكثر من مجموع العادات الرئيسية للعضــو المركزي الــذي لابد مــن اعتبــاره الحاســة الجامعــة للإدراك(12) وفكــر فــي أن المــرء قد يفتــرض أن أي تأثيــر (انفعال) في الحقيقة ممثل في المخ بحركة عن طريق الألياف العصبية(22) لكــن مع الاســتطرد ابتعــد عــن هــذه الفكرة التي تعني أن العقل ليــس أكثر مــن جامــع لحــواس الجسمــ، فقد بدا له أنه عند بذل الجهد للانتباه أو جمع الإرادة يصبح العقل فعّالاً، وفاعلاً أصيلاً وليس مجرد اختصار لأي تجميع لإشارات الحواس• واتسعت هوّة الخلاف مع الأيدلوجيين في سنة 5081 بنشر مبحث مذكرات عن تحليل التفكير Memoire sur la decomposition de la pensee الذي يتفق مع رجوع نابليون للدين• لقد برهن مين دي بيران على أن الجهد المبذول لتحقيق الإرادة يُظهر أن روح الإنسان ليست مجرد ترداد سلبي لحواسه وإنما هي إيجابية وذات قوة إرادية كاملة• إنها الجوهر الحقيقي للنفس، فالإرادة والذت (الأنا ego) شيء واحد• (شوبنهور سيركر على هذه الإرادية Voluntarism في سنة 9081 وستستمر في الفلسفة الفرنسية لتأخذ شكلاً متألقاً عبقرياً على يد بيرجسون Bergson)• هذه الإرادة المبذولة بجهد بالإضافة للعوامل الأخرى هي التي تقرر الفعل، فيصبح الإنسان حر الإرادة Ferr will (قضاؤه وقدره في يده) وبالتالي لا يصبــح مجرد آلة لا معنى لها• هذه القوة الداخلية هي حقيقة روحية وليست مجرد تجميع لخبرات الحواس والذكريات• وليس هناك شيء مادي عنها، ولا نعرف لها حيزا أو مكانا• حقيقة - كما يقول مين دي بيران - ربما كانت كل القوى - على هذا النحو - غير مادية ولا يمكن فهما إلا - بالقياس التمثيلي - للإرادة نفسها• وانطلاقاً من وجهة النظر هذه كان ليبنتز Leibniz على حق في وصف العالم (الكون) بأنه مجموعة من عناصر الوجود الأولية monads مركبة ومتصارعة، وكل منها يمثل محوراً أو مركزاً لقوة Force وإرادة Will وذاتية individuality•
وربما كانت حياة مين دي بيران الموزّعة بين السياسة والفلسفة بالاضافة الى المشاركات الحية في اللقاءات الأسبوعية في المعهد العلمي مع كل من كوفييه، وروييه كولار Rouer - Collar وأمبير Ampere وجيزو Guizot وفكتور كوزي Victor Cosin، قد أصبحت حياة خصبة وشاقة، فتدهور صحته وقربت حياته القصيرة البالغة ثمانية وخمسين عاما من الانتهاء، فتحول من التفكير العقلي الواسع المدى إلى الإيمان الديني الهادئ وأخيراً إلى الصوفية (التأمل الباطني) التي انتشلته من آلام العالم• لقد قال إن الإنسان لابد أن يترقّى من المرحلة الحيوانية الحسّية إلى المرحلة الإنسانية حيث الإرادة الحرة الواعية ليذوب في الوعي بالله وحبهّ•
أصوات محافظة
لقد أضعف مفكرو القرن الثامن عشر الحكومة الفرنسية بتشكيكهم في مصداقية الكنيسة وموقفها الأخلاقي وبدعوتهم إلى الاستبداد المتنّور (فكرة المستبد العادل) للتخفيف من شرور الجهل، وعدم الكفاءة والفساد والظلم والفقر والحرب• وقد أجاب فلاسفة بواكير القرن التاسع عشر على هؤلاء الحالمين بالدفاع عن ضرورة الدين وحكمة التراث وسلطة الأسرة ومزايا الملكية (بفتح الميم واللام) الشرعية والحاجة الدائمة لأسيجة (حدود سياسية) وأخلاقية واقتصادية لمواجهة طوفان الجهل والطمع والعنف والبربرية وزيادة السكان عن المعدَّل المطلوب•
هناك رجلان في هذه الفترة أدانا بغضب دعوة القرن الثامن عشر للتحول من الإيمان إلى العقل ومن التراث للتنوير• ولد الفيكونت لويس جبريل امبرواز دي بونال Vicomte Louis - Gabriel - Ambroise de Bonald (4571) في أسرة تنعم بالرخاء ودرس في ظل الأمن والطاعة والتقوى• واعترته الدهشة لأحداث الثورة الفرنسية وأصبح مهدّداً فهاجر إلى ألمانيا وانضم لفترة إلى جيش الأمير كوندي Condeالمعادي للثورة لكنه امتعض من فَوْضاه الانتحارية، فتراجع إلى هيدلبرج Heidelberg ليواصل حربه بقلمه المتحفّظ (المنضبط) ففي كتابه الذي تناول فيه إمكانات السياسة والدين Téorie du pouvoir Politique et religieux (6971) دافع عن المَلَكِيّة المطلقة وعن الأرستقراطية المتوارثة ومن السلطة الأبوية في الأسرة وعن سلطان الباباوات الديني والمعنوي على كل ملوك العالم المسيحي وأدانت حكومة الإدارة هذا الكتاب لكنها سمحت للمؤلف بالعودة إلى فرنسا (7971)• وبعد فترة التزم فيها الحذر واصل هجومه الفلسفي بنشره مقالاً بعنوان: مقال تحليلي عن القوانين الطبيعية للنظام الاجتماعي (0081) ورحب نابليون بدفاعه عن الدين كضرورة للحكومة، وعرض عليه عضوية مجلس الدولة فرفضها، ثم قبل في سنة 6081 قائلاً إن الله هو الذي عيّن نابليون ليُعيد الإيمان الحق(32)•
وبعد عودة الملكية شغل سلسلة من الوظائف العامة، وأصدر سلسلة من البيانات المتحفّظة، المتوهّجة حماساً إلاّ أنها كانت غبيّة• لقد عارض الطلاق وعارض حقوق المرأة باعتبارها مدمّرة للأسرة والنظام الاجتماعي وأدان حرية الصحافة باعتبارها تشكل تهديداً لاستقرار الحكومة ودافع عن الرقابة وعقوبة الإعدام واقترح الحكم بالإعدام على كل من يجدِّف (يسخر من) الأواني (الكئوس) المستخدمة في طقوس العبادة الكاثوليكية(42)• وابتسم المحافظون لإمعانه في الحماسة وتمسكه الشديد بالأصولية (المفهوم انهم ابتسموا ساخرين)، لكنه لقي ترضيةً بمراسلاته مع جوزيف (يوسف) دي ميستر de Maistre الذي أرسل له من سال بطرسبورج St. Petersburg ما يفيد تأييده الكامل له، ونشر هذا الأخير بعد ذلك مجلدات لابد أنها أسعدت بونال Bonalid وأهاجت فيه ميلهما الكامل للمحافظة، والتزام الأسلوب المتألق•
ولد ميستر Maistre في سنة 3571 في شامبري Chambéry التي علّمت فيها مدام دي وارن de Warens روسّو فن الحب قبل ذلك بعشرين عاماً• وباعتبار شامبري عاصمة لدوقية سافوي فقد كانت تابعة لملوك سردينيا، وعلى أية حال فإن أهل سافوي كانوا يتكلمون الفرنسية كلغة وطنية وتعلَّم جوزيف أن يكتب الفرنسية بحيوية وقوة بشكل جعل أسلوبه قريباً من أسلوب فولتير• وكان أبوه رئيساً لمجلس شيوخ سافوي وأصبح هو نفسه عضواً في هذا المجلس في سنة 7871، إذن لقد كان لديه هو وأبوه أسبابٌ تجعلهما يدافعان عن الوضع الراهن، أسباب أكثر من كونها فلسفية• وإذا كان جوزيف إبناً لأبيه سياسياً (المقصود يذهب مذهب أبيه في السياسة) فقد كان ابناً لأمه عاطفياً فقد نقلت إليه الولاء الحار للكنسية الكاثوليكية• لقد كتب في فترة لاحقة لا شيء يمكن أن يحل محل ما يتلقاه المرء من تعليم على يد أمه(52) وتلقى تعليمه على يد الراهبات والقسس ثم في الكلية الجزوتية (اليسوعية) في تورين Turin، ولم يفقد حبه أبداً لهؤلاء القسس والراهبات، وبعد مغازلة - لم تَطُل - للماسونيين Freemasonary قبل بشكل تام نظرة الجزويت (اليسوعيين) والتي مؤدّاها أن الدولة يجب أن تكون تابعة للكنيسة وأن الكنيسة يجب أن تكون تابعة للبابا•
وفي سبتمبر سنة 2971 دخل جيشُ الثورة الفرنسية سافوي Savoy وفي نوفمبر من العام نفسه تم إلحاق الدوقية بفرنسا• لقد تركت هذه الصدمة التي أعادت تقديم كل الأمور على أسس جديدة - القِيَم والكلاسيّات والسلطات والعقائد - ميستر Maistre، في حالة من البعض والكراهية عكَّرت مزاجه وجعلت حياته قاتمة، وأثَّر ذلك في كتبه وجعل أسلوبه حاراً مُفْعماً، لقد هرب مع زوجته إلى لوزان وأصبح مراسلاً رسمياً لملك سردينيا شارلز عمانوئيل الرابع Charles Emmanuel وكان يجد بعض السلوى في تردّده على صالون مدام دي ستيل بالقرب من كوبت Coppet، لكن المفكرين الذين قابلهم عندها - مثل بنيامين كونستانت (قسطنطين) بَدوْاله وقد أصابتهم عدوى التشكّك المخزي الذي ساد فرنسا في القرن الثامن عشر• حتى المهاجرين (الذين تركوا فرنسا إثْر أحداث الثورة الفرنسيّة) المحتشدين في لوزان كانوا مدمنين على قراءة فولتير، واعترت الدهشة ميستر Maistre لعدم وعيهم فقد كان يرى أنَّ معاداة الكاثوليكية ستقوّض كل أساسات الحياة في فرنسا بإضعافها السّند الديني للقيم والأخلاق والأسرة والدولة• ولأنه قد غدا كبير السن لا يستطيع حمل السلاح ضد الثورة فقد قرر أن يحارب بقلمه غير المؤمنين (بالكاثوليكية) والثوريين• لقد مزج النّقد اللاذع بحبر قلمه وترك أثره كعلامة في هذا القرن• ولم يتفوق عليه - في عصره - في نزعته المحافظة تلك سوى إدموند بورك Edmund Burke•
وعلى هذا فقد أصدرت له إحدى مطابع نيوشاتل Neuchatel ملاحظات حول فرنسا Considérations sur la France ذكر فيه أن حكومة لويس السادس عشر كانت متذبذبة متردّدة تُعْوِزها الكفاءة وأن الكنيسة الفرنسية تحتاج اصلاحاً(62)• لكن أن نُغَيِّر شكل الدولة وسياساتها ونهجها بمثل هذه السرعة وهذا التهوّر يعني أن نُضَلل جهل المراهق (غير الناضج) الذي لا يفهم الأسس العميقة لفن الحكم• لقد اعتقد أنه لا يمكن أن يكون للأخلاق مكان إذا لم يكن لها جذور في التراث والزمن أو إذا لم تجد لها سنداً من دين وقِيَم، والثورة الفرنسية مَ أغلقت كل هذه الأبواب المُفضية للأخلاق بإعدامها الملك وتجريدها الكنيسة من ممتلكاتها• أبداً لم يحدث أن كان لمثل هذه الجريمة البشعة كل هؤلاء المشاركين الكثيرين فيها•• إن كل قطرة نزفت من الملك لويس السادس عشر ستكلف فرنسا سيلاً من الدماء• ربما سيدفع أربعة ملايين فرنسي حياتهم بسبب هذه الجريمة الوطنية البشعة•• جريمة العصيان المسلح ضد الدين وضد النظام الاجتماعي، تلك الجريمة التي بلغت ذروتها بقتل الملك(82)• وفي سنة 7971 دعاه الملك شارل عمانوئيل ليعمل في تورين كتابع له، لكن سرعان ما استولى نابليون على تورين فهرب الفيلسوف إلى البندقية (فينيسيا)• وفي سنة 2081 تم تعيينه مفوّضاً سردينيا كامل الصلاحيات في بلاط القيصر اسكندر الأول• ولأنه كان يتوقع ألاّ تطول مدّة مهمته فقد ترك اسرته ولم يصحبها معه لكن خدمة مليكه اقتضت منه البقاء في سانت بطرسبورج حتى سنة 7181• وتحمل بُعده عن وطنه بصبر نافذ•
وأهم أعماله هو مبحثه عن المبادئ الدستورية Essai Sur le Principe generateur des Constitutions Politique (0181) وقد استخلص مثل هذه الدساتير التي تناولها من الصراع البشري بين الخير والشر (بين ما هو اجتماعي وما هو غير اجتماعي)، ومن الاندفاعات (الاضطرابات) ومن الحاجة لسلطة منظمة ودائمة لحفظ النظام العام ولحفظ الجماعة بدعْم روح التعاون في مواجهة الفردية والأهواء• إن كل إنسان يتطلع وهذا طبيعي للسلطة والتملّك وهو إذا لم يُروّض تحول إلى دكتاتور مجرم مغتصب• إن بعض القدّيسين يتحكمون في جشع البشر، وعدد قليل من الفلاسفة قد يمكنهم تحقيق ذلك (التحكم في أطماع البشر) عن طريق العقل لكن ما هو كامن في معظمنا لا يمكّن الفضيلة من السيطرة على غرائزنا الأساسية• وأن نترك كل من نفترض أنه ناضح ليحكم على الأمور وفقاً لعقله هو (وهو عقل ضعيف بسبب عدم الخبرة وبسبب العبودية للرغبة) فإن معنى هذا أن نضحّي بالانضباط (النظام) لصالح الحرية• ومثل هذه الحرية غير المنضبطة تصبح فوضى اجتماعية تهدد سلطة الجماعة التي من حقها أن تتّحِدَ ضدَّ هجوم يأتيها من الخارج أو فوضى تنشب في الداخل•
وعلى هذا فقد كانت حركة التنوير المغالية فيما يرى ميستر Maistre خطأ هائلاً• لقد قارنها بالشاب الذي تبنّى لنفسه وهو في الثامنة عشرة من عمره خططاً راديكالية لإعادة البناء في مجالات التعليم والأسرة والدين والمجتمع والحكم• واعتبر ميستر أن فولتير مثالاً اختاره لمثل هؤلاء التافهين الذين ادَّعْوا الإحاطة بكل شيء علماً انه حدّثنا عن كل شيء في كل العصور دون أن يتوغّل مرة واحدة إلى ما تحت السطح، لقد كان مشغولاً دائماً بتعليم العالم أنه قلما يكون لديه وقت للتفكير(92) لو أنه درس التاريخ بتواضع كفرد زائل (مجرد فرد في مرحلة تاريخية) يبحث عن العلم من خبرات الجنس البشري، لكان قد عرف أن الزمن نفسه مُعَلِّم أفضل من التفكير الشخصي، ولكان عرف أن أصحّ اختبار لفكرة هو تأثيراتها العملية (البرجمانية) في الحياة والتاريخ والجنس البشري، ولكان عرف أن المؤسسات العريقة في تراث القرون الخوالي لا يجب رفضها دون حساب دقيق للخسائر في مقابل المكاسب، ولكان عرف أن المعركة التي شُنّت لتدمير الكنيسة وإلحاق الخزي بها ستؤدي إلى إنهيار الأخلاق والأسرة والمجتمع والدولة فالكنيسة هي التي صاغت النظام الاجتماعي في غرب أوروبا (يقصد الكنيسة الكاثوليكية)• إن الثورة القاتلة المغتالة هي النتيجة المنطقية لحركة التنوير العمياء• إن الفلسفة قوّة مخرّبة أساسيّة لأنها وضعت كل ثقتها في العقل، والعقل فردي، والعقل يمثل الفكر الفردي، وتحرر الفرد من التراث السياسي والديني وتحرره من قبضة السلطة، يهدد الدولة بل والحضارة نفسها• ومن هنا فإن الجيل الحالي يشهد واحداً من أكثر الصراعات حدّة لم تشهد لها البشرية مثيلاً: الحرب حتى الموت بين المسيحية وعقيدة الفلاسفة(03)•
وما دام عمر الفرد قصيراً جداً لا يمكنه من سَبْر حِكْمة التراث فيجب أن يتعلّم القبول به (أي بالتراث) كمرشد له ودليل حتى يبلغ من العمر مبلغاً كبيرا يمكّنه من فهمه (أي هذا التراث)• انه - بطبيعة الحال - لن يكون قادراً على فهمه فهماً كاملاً• ولا بد أن يتشكك في أي تغييــر مقتـرح في الدسـتور أو الأعــراف الأخلاقيــة• ويجـب أن يكــرّم السلطة الشرعية باعتبارها رأي التراث وتوجّهه، وباعتبارها خبرة بشرية وباعتبارها بالتالي صوت الله(13)• الملكية الوراثية والمطلقة سلطتها هي من رأيه أفضل أنواع الحكم لأنها تمثل التراث الأعرض والأعمق والأطول وهي تعمل على تحقيق الانضباط والاستمرارية والاستقرار والقوة، بينما الديمقراطية بدوام التغيير فيها - سواء تغيير القادة والزعماء أو تغيير الأفكار - وجنوحها بشكل دَورْي لارضاء نزوات العوام و جهلهم تؤدي إلى الفوضى وعدم الرضى والطيش، وتنتهي سريعاً• إن فن الحكم يعني من بين ما يعني تسكين العوام، أمَّا إِنْ أطاعتهم الحكومة فهي - بذلك - تنتحر•
وبتؤدة (2081-6181) عرض في أكثر مؤلفاته شهرة: أمسيات في سان بطرسبرج Les Soirees de Saint petersbourg (نشر سنة 1281) بعض الجوانب الثانوية لفلسفته• لقد كان يؤمن أن العلم يثبت وجود الله، لأن الله قد أوحى للطبيعة انضباطها العظيم الذي هو جزء من عبقرية النظام الكوني(23) لا يجب أن ننزعج وألاّ تهتز عقائدنا بالنجاحات المؤقتة للشر، أو للإحباطات التي يواجهها الخير، فالله يتيح للخير والشر أن يهبطا على القديس والمجرم على سواء كما يتيح الشمس أن تشرق على كليهما، ويتيح للمطر أيضاً أن يهطل عليهما لا يمنعه عن أحدهما، لأنه - أي الله - يكره أن يعطّل قوانين الطبيعة(33)، وعلى أية حال فإن الله قد يستجيب لدعاء الدَّاعين لتغيير تأثير هذه القوانين الطبيعية(43)• بالإضافة إلى أن معظم الشرور تعد عقاباً على أخطاء أو خطايا، وربما كان كل مرض وكل ألم عقاباً على بعض الفساد الكامن في نفوسنا أو نفوس أسلافنا أو نفوس مجموعتنا التي نعيش بينها•
وإذا كان الأمر كذلك فلا بد أن ندافع عن العقاب البدني، والإعدام كعقاب لبعض الجرائم بل وندافع حتى عن التعذيب الذي تقوم به محاكم التفتيش، ويجب أن نبارك الجلاّد (منفّذ حكم الاعدام) بدلاً من جعله منبوذاً، فهو يقوم أيضاً بعمل الله (المهمة التي كلفه بها الله) وهي مُهمة حيوية للانضباط الاجتماعي(53)• فاستمرار الشر ومثابرته يتطلب استمرار العقاب ومثابرته، فإن تواني العقاب نمت الجريمة• وأكثر من هذا فليس هناك عقاب لا يؤدي إلى تطهير وليس ثمة اعتلال جسدي أو عقلي يُحدثه الحبيب الباقي (الله Eternal love) إلاّ ويتحول إلى سهم في صدر مبدأ الشر(63) والحرب مقدَّسة ما دامت هي قانون العالم وما دام الله قد سمح بها عبر التاريخ(73)• إن الحيوانات المفترسة تطيع هذه القاعدة وتنفّذها• ويأتي الملاك الفاني (كذا: exterminating) بشكل دوري ليُفْنى آلافاً من هذه الحيوانات(83)• ويمكن اعتبار البشرية كشجرة، وأن هناك يداً غير منظورة تشذّبها باستمرار، وغالباً ما يكون هذا التشذيب لصالحها••• والدماء الغزيرة التي تُراق غالباً ما يمكن ربطها بزيادة عدد السكان(93) فابتداء من الديدان بل وحتى الإنسان نجد القانون الكبير - وهو قانون التدمير العنيف للأحياء - يفعل فِعْله• فالأرض جميعاً التي تشرب الدماء ليست إلا مذبحاً كبيراً (المقصود بالمذبح مكان تقديم القرابين في الكنائس والمعابد) حيث لا بد من التضحية بكل موجود حي، فالوقت بلا نهاية، بلا حدود، بلا توقف بل وحتى فناء كل شيء وحتى مَوْت الموْت نفسه(04)• وإذا كنّا نعارض أنّ مثل هذا الكون يدفعنا بشدَّة لعبادة خالقه• فإن ميستر Maistre يجيب بأننا لا بد أن نعبده رغم كل شيء لأن كل الشعوب وكل الأجيال عبدته، وأن مثل هذا التراث الباقي والعالمي لابد أن يحتوي حقيقة تفوق قدرة العقل الإنساني على الفهم وتستعصي على الدحض أو التفنيد• في خاتمة المطاف فإن الفلسفة - إن كانت حقيقة تحب الحكمة - ستستسلم للدين، والعقل سيستسلم للإيمان•
وفي سنة 7181 استدعى ملك سردينيا - وكان قد استعاد عرش تورين Turin - ميستر Maistre من روسيا، وفي سنة 8181 عينه في منصب كبير وجعله مستشاراً للدولة• وفي هذين العامين أَلَّف هذا الفيلسوف الشَّرس grim كتابه الأخير عن البابا Du Pape نُشر سنة 1281 بعد موته مباشرة• والكتاب إجابة عنيدة عن الأسئلة التي أثيرت حول تمجيده للملكيّة كحماية للمجتمع ضد فرديّة المواطن: ماذا لو أن الملك كان هو أيضاً - كقيصر أو نابليون - متسما بالفردية والاهتمام بذاته كأي مواطن، وكان عاشقاً للسلطة عشقاً يفوق عشقه لسواها؟
هنا يجيب ميستر Maistre بغير تردّد أن كل الحكَّام يجب أن يقبلوا تبعيتهم وخضوعهم لسلطة أعرق من سلطتهم وأعظم منها وأحكم: لابد أن يخضعوا في كل الأمور الدينية والأخلاقية لحُكم الحَبْر الجليل (البابا) الذي ورث سلطانه من القديس بطرس (النص الرسول بطرس، وكلمة الرسول يُطلقها المسيحيون على الدعاة الأوائل للمسيحية والمسيحيون يُلحقون بالأناجيل الأربعة ما يُسمّى أعمال الرسل Apostles أي الدعاة الأوائل، وفضلنا كلمة القديس على الرسول لأنها توفي بالمعنى وحتى لا يختلط الأمر على القارئ العربي) الذي ورثه بدوره عن المسيح (النص: Son of God)• وفي هذا الوقت (1281) ودول أوروبا تكافح لتتخلَّص من وحشية الثورة واستبداد نابليون، لزم أن يتذكر قادة أوروبا كيف أن الكنيسة الكاثوليكية قد أنقذت بقايا الحضارة الرومانية بتصدّيها للبرابرة كثيري العدد وترويضهم، وكيف أنها أسست - من خلال اسقُفيَّاتها - نظاماً اجتماعياً منضبطاً وتعليماً نظامياً أنجب - ببطء - خلال الظُّلمة والعصور الوسطى، حضارةً قائمة على موافقة الملوك على الاعتراف بالسلطة الروحية للبابا• فالأمم لا تتحضّر أبداً إلاَّ بالدين لأن الخوف من الله الذي يرى كل شيء والقادر على كل شيء هو وحده - أي هذا الخوف - الذي يضبط النزعات الفردية المتمثلة في الرغبات البشرية والدين مصاحب لمولد كل الحضارات، وغياب الدين نذير بموتها(14)• وعلى هذا فلا بد أن يقبل ملوك أوروبا مرة أخرى البابا كسيد أعلى لهم في كل الأمور الأخلاقية والروحية• يجب أن يُبْعدوا التعليم عن أيدي العلماء ويعيدوه للقسس لأن ارتقاء العلم سيُقَسي قلوب الناس(24) بينما استعادة الدين لمكانته ستؤدي إلى سلام للأمة وأرواح أفرادها•
لكن ماذا لو كان البابا أيضاً أنانياً ويعمل على تحويل كل مسألة وقضية لتحقيق مكاسب دنيوية للباباوية؟ هنا نجد ميستر Maistre حاضر الإجابة: ما دام البابا يُرشده الرّب - فإنه معصوم إذا تحدث في أمور العقيدة والأخلاق لأنه الرّأس الرسمي للكنيسة التي أسسها المسيح• وعلى هذا فقد أعلن ميستر عصمة البابا قبل أن تعلنها الكنيسة نفسها كجزء من الإيمان الكاثوليكي بنصف قرن• لقد اعترت الدهشةُ البابا نفسه ووجد الفاتيكان من الحكمة أن يعارض المبالغين في سيادة البابا Ultramontanists الذين يعلنون مزاعم مُرْبكة عن السيادة السياسية للباباوية•
وباستثناء هذه النقطة الأخيرة وبعض المبالغات الأخرى التي يمكن أن تدعو للابتسام (المقصود السخرية) فإن المحافظين في أوروبا رحبوا بدفاعه العنيد عن وجهات نظرهم، وأثنى عليه كل من شاتوبريان وبونال Bonald ولاميني Lamennais ولامارتين• بل وحتى نابليون اتفق معه في بعض المسائل - نزوع الملك لويس السادس عشر للخير وخسّة قاتليه، وتجاوزات الثورة، وضعف العقل وسهولة وقوعه في الخطأ وتهافت الفلاسفة، وضرورة الدين، وقيمة التراث وأهمية السلطة، وضعف الديمقراطية، وكون الملكية المطلقة والوراثية أمراً مرغوباً فيه، وكون الحرب مفيدة للتقليل من عدد السكان (الخدمات البيولوجية للحرب)••• وكان الأمر بالنسبة لأعداء نابليون الذين لا يزالون في الحكم أنهم شعروا أنَّ في فلسفة ميستر Maistre المستقيمة بعض الأسباب المعقولة تحتم عليهم الإطاحة بهذا الكورسيكي مُحْدث النعْمة (نابليون) وريث الثورة التي هدّدت كل ملكيّات العالم• لقد كانوا يؤمنون في قرارة أنفسهم أنهم لم يكونوا أبداً قادرين (ولن يقدروا) على أن يبرّروا لرعاياهم: لماذا قبلوا وهم الملوك الذين ورثوا الملك كابرا عن كابر، وهم أباطرة أوروبا وارستقراطييها - أعباء الحكم وأخطاره وطقوسه بينما كان مارا Marat وروبيسبير وبابيف Babeufs يتهمونهم بعدم الرحمة باستغلال العوام الأبرياء بدعوى الحق الإلهي للملوك، مستغلِّين كل المزايا (محقّقين كل المكاسب) من النظام الاجتماعي (السائد) مبتلعين كل خيرات الأرض، وكيف كانوا يقتلون رعاياهم ويذبحونهم بدعوى هذا الحق نفسه (حق الملوك الإلهي)•
أما الآن وبعد كتابات ميستر Maistre فقد ظهرت عقيدة يستطيع في ظلها أن يتحد كل حكام أوروبا الشرعيون لإعادة النظام القديم في بلدهم ولشعوبهم، بل وحتى لفرنسا البربرية غير المتسامحة قاتلة الملوك خائنة ربها المتخلّية عنه•