قصة الحضارة - ول ديورانت - م 11 ك 2 ف 11

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 14601

قصة الحضارة -> عصر نابليون -> تاريخ الحضارة الأوروبية -> فرنسا في عهد نابليون -> الاقتصاد

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الحادي عشر: فَرنسا في عَهْد نابليون 1800- 1805

الاقتصـاد

رغم أنَّ نابليون نشأ ليكون رجلاً عسكرياً إلاَّ أنه كان ذا حِس صائب إزاء الحقائق الاقتصادية باعتبارها أساس تحديد مصائر الأسر وباعتبارها ركيزة للحضارة، وبها يكون الحُكُم على قوّة الدولة أو ضفعها. وبشكل عام فإنه رغم ميله الشديد للتنظيم كان مناصراً للحرية الاقتصادية، وفتح أبواب المنافسة، وحقوق الملكية الخاصّة. فلم يهتم كثيراً بالخطط الاشتراكية التي قال بها شارل فورييه Charles Fourier وغيره والمتعلقة بالانتاج الجماعي وتوزيع الناتج توزيعاً متساوياً. فقد كان يشعر شعوراً أكيداً أن الأقلية الأكثر مقدرة - في أي مجتمع - سرعان ما تحكم الأكثرية وتستوعب - أي هذه الأقلية النَّشِطة - القدر الأكبر من الثروة، وأكثر من هذا فإن المُثْل الشيوعية لا تستطيع على المدى الطويل بأساليبها المتباينة في تقديم الحوافز في حفز الناس على الكدح، ففي تحليل جانبي ورد أن الجوع هو الذي يجعل العالم يتحرك(1) وأكثر من هذا فإن الملكية الجماعية تمثّل إغراء مستمراً باللامبالاة. فبينما الملكية الفردية بما فيها من مصالح شخصية للمالك في ثروته - تدفع لليقظة الدائمة والانتباه المستمر مما يجعل خططه مثمرة محققة لأهدافها، فإن الملكية الجماعية تؤدي للخمول وعدم الانتاجية، لأن المشروع الفردي مسألة موهبة ومهارة بينما المشروع الجماعي مسألة روح عامة، وتوفر الروح العامة العالية لا يكون إلاّ نادراً(2). ومن هنا فقد فتح نابليون كل الأبواب وأتاح كل الفرص لكل الناس بصرف النظر عن ثرواتهم وأنسابهم. وقد نعمت فرنسا حتى سنوات حكمه الأخيرة بالرخاء الذي حقَّق السلام الاجتماعي بين كل الطبقات ولم تعد هناك بطالة(3) ولا اضطرابات سياسية. ولم يعد أحد مهتماً بالإطاحة بحكومة وظّفت أو أتاحت فُرصة عمل لكل محتاج(4).

لقد كان نابليون يؤمن بمبدأ أساسي هو أن دولة تقوم ماليتها على نظام زراعي جيد لا تسقط أبداً(5). لقد أدرك أنه بإشرافه على كل شيء وعدم إغفاله أي شيء أن التعريفات الحامية Protective tariffs والتمويل المالي الموثوق به وصيانة الطرق والقنوات بشكل جيد، كل ذلك لابد أن يشجع الفلاحين على العمل الجاد المتواصل وعلى شراء الأراضي واستصلاح المزيد منها، وتزويد جيوشه بالشباب الأقوياء. لقد كان عدد كبير جداً من الفلاحين الفرنسيين يعملون بنظام المزارعة (أي العمل في مزارع الآخرين لقاء المشاركة في المحصول) أو في أراضٍ مستأجرة لكن نصف مليون منهم أصبحوا بحلول عام 4181 يمتلكون الفدادين (الأكرات acres) التي يزروعونها. وقد وصفت سيدةٌ إنجليزية قامت برحلة إلى فرنسا في هذا العام الفلاحين الفرنسيين بأنهم يتمتعون بدرجة من الرخاء لم يصل إليها الفلاحون في أي مكان في أوروبا(6). وقد نظر هؤلاء الزرَّاع إلى نابليون باعتباره الضمان الحي لحُجج مليكاتهم وظلوا موالين له حتى وهنت أراضيهم نتيجة غياب أبنائهم المجندين في جيوشه. واهتم نابليون أيضاً بالصناعة اهتماماً أساسياً. فجعل من مهامه زيارة المصانع وإظهار اهتمامه بعمليات الانتاج والمنتجات، وبالعمال والحرفيين والمديرين. وتطلّع إلى وضلع العِلْم في خدمة الصناعة. لقد أقام المعارض الصناعية - ففي سنة 1081 أقام معرضاً في اللوفر Louvre، وآخر في سنة 6081 في خيمة هائلة في ميدان الجنود المتقاعدين ومشوّهي الحرب Place des Invalides ونظم مدرسة الفنون والحِرَف، وكافأ المخترعين والعلماء. وأجريت التجارب في سنة 2081 لاستخدام طاقة البخار وبالفعل فقد تم تجريب آلة غير مُتقنة تعمل بالبخار لتسيير بارجة نقل بضائع في ترعة قرب باريس، لكن أمر استخدام الطاقة البخارية كان في حاجة إلى مزيد من الجهود. وفي سنة 3081 قدَّم روبير فلتون Robert Fulton خطة لاستخدام الطاقة البخارية في الملاحة، فأحالها نابليون إلى المعهد الوطني الفرنسي Institute National الذي رفضها بعد شهرين من التجارب لكونها غير عملية. لقد كانت الصناعة الفرنسية تتقدم على نحو أبطأ من الصناعة البريطانية، فقد كانت أسواق تصريف منتجاتها أقل ورؤوس أموالها أقل، واستخدام الآلات فيها أقل. وعلى أية حال ففي سنة 1081 عرض جوزيف - ماري جكوار Joseph - Marie Jacquard آلة جديدة للنسج وفي سنة 6081 اشترت الحكومة الفرنسية اختراعه هذا ونشرته فأصبحت صناعة النسيج الفرنسية تنافس نظيرتها البريطانية. وزاد عدد الأنوال (جمع نول) المستخدمة في صناعة الحرير في ليون Lyons من 0053 نُول سنة 0081 إلى 057،01 في سنة 8081(7) وفي سنة 0181 كان يعمل في مصانع مورّد نسيج واحد أحد عشر ألف عامل(8). وفي هذه الأثناء كان الكيميائيون الفرنسيون يواصلون جهودهم لمواجهة منع المنتجات البريطانية من السكر والقطن والأصباغ (النيلة أو الأصباغ الزرقاء) فصنعوا السكّر من البنجر والأصباغ الزرقاء من نباتات الوَسمة Woaol، وطوّروا الكتان فجعلوا منسوجاته أفضل من المنسوجات القطنية(9)، وصنعوا البراندي (نوعاً من الخمور) من البطاطس.

وساعد نابليون الصناعة الفرنسية بالتعريفات الحامية Protective tariffs والحصار القاري المضاد وعاونها لتجاوز الصعاب المالية بالقروض بشروط مُيسَّرة وفتح أسواقاً جديدة للمنتجات الفرنسية في إمبراطوريته الواسعة، وكان يستوعب العمال في أشغال عامة على نطاق واسع إن شهدت البلاد ركوداً في عمليات التشغيل أو التوظيف. وكان بعضها شاهداً على عظمة نابليون وجيوشه مثل عمود فيندوم(ü) Vendome Column والمادلين Madeleine (الكلمة تعني حرفياً فواكه الصيف) وقوس النصر المرصّع بالنجوم وقوس نصر ميدان الفروسية، وشغَّل الشباب في بعض الأعمال الأخرى مثل إقامة تحصينات عسكرية أو أعمال تهدف لتسهيل التحركات العسكرية وغيرها كالأشغال التي جرت في ميناء شيربورج Cherbourg وحصنه وقناته، وبعض هذه الإنشاءات ذات النفع كانت مصمّمة بحيث يكون لها أبعاد فنية جمالية، كمبنى البورصة وبنك فرنسا ومبنى مكتب البريد العام ومسرح الأوديون Odeon (الكلمة تعني حرفياً مسرح إغريقي للموسيقا والغناء)، بل وحتى سوق القمح Bels أو سوق النبيذ Vins (1181) وبعض هذه الأشغال العامة كانت لتسهيل العمل الزراعي، كتجفيف المستنقعات بالإضافة لأعمال أخرى تُيسِّرالنقل والتجارة. وتم افتتاح شوارع جديدة في باريس مثل طرق ريفولي Rivoli وكاستينجليون Castinglione والبو Paix (السلام) وميلين من الأرصفة على طول نهر السين ومقر وزارة الخارجية الفرنسية المطل على هذا النهر ذاته، والأكثر أهمية إنشاء 005،33 ميل من الطرق الجديدة في فرنسا، وما لا حصر له من الجسور بما في ذلك جسر أوسترليتز في باريس وجسر لينا Lena في باريس أيضاً، أضف إلى هذا تطهير النهر ومد شبكة رائعة من الترع والقنوات. لقد تم حفر ترع كبرى لتربط باريس بليون Lyons وليون بستراسبورج Strasbourg وبوردو Bordeaux. وسقط نابليون قبل أن يستطيع إكمال مشروعين آخرين: قنوات تربط الراين بالدانوب والرون، وقنوات أخرى تربط البندقية (فينيسيا) بجنوة(01). ولم يكن مسموحاً للعمال الذين يعملون في حفر القنوات وإقامة أقواس النصر وتشغيل المصانع بالاشتراك في أي إضراب أو تكوين اتحادات للمطالبة بتحسين ظروف العمل أو رفع الأجور. وعلى أية حال فإن حكومة نابليون عملت على أن تكون الأجور متمشية مع الأسعار وأن يخضع الخبَّازون والجزارون (اللحّامون) والمنتجون لتنظيم الدولة وأن تتوفّر ضروريات الحياة خاصة في باريس. وحتى الأعوام الأخيرة من حكم نابليون كانت الأجور تزداد بمعدّل أسرع من ازدياد الأسعار وشاركت البروليتاريا (الطبقة العاملة) على نحو معتدل في الرخاء العام وفي مجد انتصارات نابليون، فأصبحوا أكثر وطنية من البورجوازية. فأعطوا أذناً غير مصغية للبورجوازيين الليبراليين مثل مدام دي ستيل Stael وبنيامين كونستات (قستنطين) Benjamin Constant في تبشيرهم بالحرية.

ومع هذا كانت هناك أصوات مستاءة، وأسباب للاحتجاج. فلأن الاقتصاد الحر كلما تقدَّم أصبح النشيطون أثرياء، فقد أدرك بعض الناس أن المساواة تتدهور في ظل الحرية، وعلى هذا فقد كان رأيهم أن الحكومة تقوم بعمل مُنكر بسماحها بتركيز الثروة لتستثني بذلك نصف السكان من ثمار الاختراعات ومزايا الحضارة، ففي سنة 8081 أصدر فرانسوا - ماري فورييه Fourier كتابه نظرية الحركات الأربع ومصير العامة الذي يمثل أول مثال تقليدي للاشتراكية المالية Utopian. لقد اقترح على غير الراضين بأوضاعهم في ظل النظام الصناعي القائم أن يتَّحدوا في كتائب تعاونية Phalages بمعنى أن تعيش حوالي أربعمائة أسرة معاً في مستعمرات تعاونية (تستخدم بعض الكتب والقواميس العربية مصطلح كتائب تعاونية أو كتائبية تعاونية) أو مبنى واحداً مُشاعاً بينهم بحيث يقضي كل الأعضاء جزءاً من العمل اليومي في مجال الزراعة (بحيث يكون هذا العمل منظماً تنظيماً جماعياً) وجزءاً آخر في الصناعة الجماعية أو المنزلية، ويقضون الجزء الثالث في الترفيه أو التثقيف، وفي نظامه هذا يتحتم أن يقوم الفرد بمهام مختلفة وأن يُغير موقعه في العمل بين الحين والحين، بمعنى أن يساهم كل فرد على قدم المساواة في انتاج أو أرباح هذه المستعمرة التعاونية (أو الكتيبة التعاونة Phalanx) ووفقا لهذا النظام يكون في كل مستعمرة تعاونية مركز اجتماعي ومدرسة ومكتبة وفندق وبنك. وسرعان ما كانت هذه الخطة مصدر إلهام في شطري الكرة الأرضية وكانت مزرعة بروك Brook Farm بالقرب من بوسطون Boston هي الوحيدة التي تكوّنت من عدّة مجتمعات مثالية (يوتوبية Utopian) سرعان ما تناقص عددها نتيجة النزعات الفردية الطبيعية للبشر.

ولم يكن نابليون نفسه مولعاً ولعاً شديداً بالرأسمالية. فقد كان يقول عن الأمريكيين أنهم مجرّد تجّار فهم يكرّسون كل همهم لجمع المال الذي هو مجدهم(11) وقد شجّع نابليون التجارة الفرنسية بمضاعفة وسائل النقل وصيانة الطرق بشكل مستمر، وبالتمويل المالي وضخ الأموال بشكل ثابت لكنه عوّقها بألف مرسوم ومرسوم لإحكام الحصار القاري المضاد، وأخيراً اضطر للتسليم نتيجة شكاوى التجار (0181 - 1181) وسمح بتصدير بضائع معينة لبريطانيا وباستيراد السكر والبن ومنتجات أجنبية أخرى. لقد أرهقته هذه التراخيص (بالاستيراد أو بالتصدير) فقد عملت المحسوبية عملها وظهر الفساد من خلالها(21). فكلما نمت الصناعة في فرنسا كانت استفادة التجارة والحرفيين الصغار أكبر من استفادة تجارة الجملة فكلما توسعت الزراعة والصناعة ووسائل النقل أصبحت بضائع المخازن غير متاحة لتجار الجملة الفرنسيين. حقاً إن عدداً كبيراً من الشوارع قد انتعش بالبوتيكات (المحلات) العامرة، لكن الموانئ الكبرى - مارسيليا وبوردو ونانت Nantes ولا هافر La Havre وأنتورب Antwerp وأمستردام - كلها كانت تعاني الكساد الذي أرجع التجار سببه لنابليون وحصاره القاري (المضاد).

وكان أعظم نجاحات نابليون كإداري في مجال المالية. ومن الغريب أن نقول إن حروبه حتى سنة 2181 عادة ما كانت تدر عائداً أكثر من تكاليفها. لقد حمّل أعداءه مسؤولية بدء الحرب وعندما هزمهم فرض عليهم وعلى حُكامهم السابقين دفع مبالغ طائلة تأديباً لهم، وكان نابليون يحتفظ بجانب من هذه الغرامات تحت إشرافه الشخصي كملك استثنائي Domaine extraordinaire وقد تباهى في سنة 1181 أن لديه 000،000،003 فرنك ذهبي في أقبية (جمع قبو) قصر التوليري(31) وكان يستخدم هذه الميزانية في تذليل صعوبات الخزانة الفرنسية، وفي تصحيح التحوّلات الخطرة في سوق الأوراق المالية وتمويل الأشغال العامة أو التحسينات البلدية والقروية، وللمكافأة على الخدمات البارزة ولتمييز الفنانين والكتاب ولإنقاذ الصناعات المتعثرة ولرشوة صديق أو عدو، ولتنفيذ سياساته السرّية. ويتبقي جزء كافٍ للاستعداد للحرب التالية وليجعل الضرائب أقل بكثير مما كانت عليه في ظل لويس السادس عشر أو أثناء الثورة الفرنسية(41).

يقول تين Taine قبل سنة 9871 كان الفلاح الفرنسي يدفع من كل مئة فرنك يكسبها 41 فرنكاً للسيد الإقطاعي و 41 فرنكاً للإكليروس (رجال الدين) و 35 فرنكاً للدولة ولا يبقى له سوى 81 أو 91 فرنكاً. وبعد سنة 0081 لم يعد يدفع للسيد الإقطاعي أو للإكليروس وإنما أصبح يدفع قدراً قليلاً للدولة و 52 فرنكاً لمجلس الدائرة أو المحافظة ويحتفظ لنفسه بسبعين فرنكاً من مئة لنفسه(51). وقبل سنة 9871 كان العامل اليدوي يدفع ما يعادل أجر أيام عمل تتراوح ما بين عشرين يوماً إلى تسعة وثلاثين يوماً ليسدّد ما عليه من ضرائب كل عام، وبعد سنة 0081 أصبحت هذه الفترة تتراوح ما بين ستة أيام إلى تسعة عشر يوماً. وكاد عبء الضرائب المباشرة يقع كله على كاهل من يملكون مقابل الاعفاء شبه الكامل (من الضرائب) لمن لا يملكون(61) وعلى أية حال فقد كانت هناك ضرائب كثيرة معتدلة تماماً غير مباشرة أو ضرائب مبيعات كان يتحملها كل الناس على نحو سواء ومن ثم كان الفقراء يعانون منها أكثر من الأثرياء. وقرب نهاية الحكم الإمبراطوري زادت تكاليف الحرب عن عوائدها فارتفعت الضرائب والأسعار وعمّ السخط. ودفعت الأزمة المالية في سنة 5081 نابليون إلى إعادة تنظيم بنك فرنسا الذي كان قد أنشئ في سنة 0081 في ظل إدارة خاصة. وبينما كان نابليون يحارب دفاعاً عن وجوده السياسي في مارنجو Marengo أحكمت مجموعة من المضاربين سيطرتها على إمدادات Supplies القوات المسلحة وكان على رأس هؤلاء المضاربين جابريل جوليان أوفرار Gabriel - Julien Ouvrard وقد طلب هؤلاء المضاربون - أثناء مرورهم بمصاعب - من البنك قرضاً كبيراً، ولكي يقدم البنك هذه المبالغ أصدر - بعد استئنان وزارة الخزانة - عملته النقدية كعملة رسمية معترف بها، وفشل هذا الإجراء فلم تُقبل هذه الأوراق النقدية عند إجراء الصفقات وتدنَّت قيمتها الفعلية إلى نحو 09% من قيمتها المدونة عليها (الاسميّة). وواجه البنك وجماعة المضاربين الإفلاس. وعند عودة نابليون إلى باريس أنقذ البنك بجزء من التعويضات التي تسلَّمها من النمسا، لكنه أصر - أي نابليون - أن يصبح البنك من الآن قصاعداً تحت إشراف الدولة لكن على الدولة ألاَّ تتجاوز الحد في هذا الإشراف وفي 22 أبريل سنة 6081 وضعه تحت إشراف محافظ governer واثنين من المساعدين تُعينهم الحكومة، وخمسة عشر وصى يختارهم المساهمون، وافتتح هذا البنك الجديد (المقصود بنظامه الجديد) فروعاً له في ليون Lyons وروان Rouen وليل Lille وبدأ مهمته التي طال أمدها في خدمة الاقتصاد الفرنسي والدولة. وظلت الحكومة لا تمتلك إلاّ القليل من أسهم هذا البنك.

ولم يكن نابليون يحترم كثيراً أولئك الذين يبيعون المؤن لجيشه ووزاراته. فقد كان كل متعاقد من المتعاقدين يحشو فواتيره وكان بعضهم يُقدم مواد زائفة (مغشوشة) مقرونة بأسعار تشير إلى أنها (أي هذه المواد) ممتازة. وأصدر تعليماته لموظَّفيه ليراجعوا بحزم كل الفواتير المقدمة لهم بل لقد كان يراجعها بنفسه في بعض الأحيان. لقد قال لبورين إن كل المتعاقدين (المورّدين) وكل وكلاء التمويل محتالون.. إنهم يمتلكون الملايين ويتمرغون في النعمة، بينما جنودي ليس لديهم خبز ولا أحذية..(71) وفي فيينا تلقي سنة 9081 شكايات من رداءة الملابس والمعدّات التي بيعت لجيشه، فأمر بإجراء تحقيق تبيّن منه أن المتعاقدين حققوا أرباحاً طائلة من هذه المبيعات بغير وجه حق، فأمر بتشكيل محكمة عسكرية حكمت على المختلسين بالإعدام، وتم تنفيذ الحكم رغم كل الوساطات التي بُذلت لإنقاذهم والتي رفضها نابليون(81).

وعلى العموم فحتى ناقدو نابليون المعادون يعترفون(91) أنه في السنوات الثلاث عشرة الأولى من حكم نابليون شهدت فرنسا أقصى درجات الرخاء والازدهار لم تعرفه قبل ذلك أبداً. وعندما عاد لا كاس Las Cases إلى فرنسا سنة 5081 من جولة في ستين دائرة (محافظة) ذكر في تقرير له أن فرنسا لم تكن في أي فترة في تاريخها أكثر قوة وانتعاشا وسعادة، وأفضل حكما مما هي عليه الآن(02) وكان لا كاس أحد الذين هاجروا من فرنسا عقب أحداث الثورة الفرنسية لكنه عاد إليها بعد العفو عنه. وفي سنة 3181 زعم وزير الداخلية الكونت دي مونتاليف Montalivet أن هذا الرخاء المستمر راجع إلى القضاء على النظام الاقطاعي، والنظام الطبقي والنظم الدّيرية... والاتجاه بشكل أكثر نحو توزيع أكثر عدالة للثروة وتبسيط القوانين وجعلها أكثر وضوحاً(12) وفي سنة 0081 كان تعداد سكان فرنسا حوالي 82 مليون، أصبحوا في سنة 3181 ثلاثين مليوناً. ولا تبدو هذه الزيارة مروّعة لكن لو كانت هذه النسبة في الزيادة قد استمرت حتى سنة 0781 (حتى بدون حساب الزيادة المركبة) لكان على ابن أخي نابليون أن يحكم خمسين مليوناً ليواجه بهم تحدي ألمانيا بزعامة بسمارك.


المعلّمـون

لقد لاحظنا أن نابليون خلال فترة القنصلية (الفترة التي كان يحكم فيها فرنسا كقنصل أول) يحاول أن يقدم لفرنسا في فترة ما بعد الثورة نظاماً جديداً ويُعيد إليها الاستقرار بمدوَّنة القانون المدني، وكونكوردات السلام (الاتفاق مع البابا) والتعاون بين حكومته والدين التقليدي للشعب الفرنسي.

وبالإضافة إلى هذه القوى المكوّنة للوجدان الفرنسي، رأى نابليون أن يضيف قوّة أخرى ثالثة بإعادة تنظيمه التعليم في فرنسا. من بين كل الآليات الاجتماعية، ربما كانت المدرسة هي الأكثر فعالية وتأثيراً، لأنها تمارس على الأطفال والشباب ثلاثة أنواع من التأثيرات بشكل مباشر وغير مباشر: تأثير الناظر والمدرسين، وتأثير من خلال الدراسة المشتركة، وتأثير أخير من خلال القواعد المتبعة والإجراءات المرعية(22). لقد كان نابليون مقتنعاً أن سبباً واحداً كان كامناً وراء انهيار القانون والنظام أثناء الثورة الفرنسية هو عدم قدرتها على ترسيخ نظام تعليمي جديد يكفي ليحل محل النظام التعليمي الذي كانت تديره الكنيسة قبل الثورة. لقد نسيت الثورة هذا المشروع في خضم صراع الموت أو الحياة في هذه الفترة. لقد تم وضع خطط رائعة، لكنها لم توضع موضع التنفيذ بسبب نقص المال، كما أن الوقت الكافي لتنفيذها لم يكن متاحاً أثناء الثورة. وكان التعليم الابتدائي قد تُرِك للقسس والراهبات أو في أيدي معلمين ونظار تركهم الآباء والمجالس البلدية (الكوميونات) يعيشون فوق خط الجوع بقليل. وكانت المدارس الثانوية موجودة بالكاد في مؤسسات تعليمية Lycess تقدم مقررات دراسية في العلوم والتاريخ دون أن تهتم - إلاّ قليلاً - بتكوين شخصية الطالب. لقد فكر نابليون في التعليم العام من منظور سياسي: إن وظيفته هي تخريج مواطنين أذكياء لكن مطيعين. لقد قال بصراحة غير معهودة في الحكومات: عند تكوين هيئات التدريس، فإن هدفي الأساسي هو تأمين وسائل توجيه الرأي السياسي والأخلاقي... فطالما أن المرء ينشأ دون أن يعرف ما إذا كان جمهورياً أم ملكياً، كاثوليكياً أو لادينياً، فإن الدولة لن تستطيع أبداً تكوين أمّة، وإنما ستقوم على أسس غامضة وغير أكيدة، وستكون دائماً عرضة للفوضى والتغيير(32).

وبعد أن أعاد الارتباط بين الكنيسة والدولة سمح لمنظمات نصف ديرية مثل جماعة إخوة المدارس المسيحية Freres des Ecoles Chretiennes بتقديم مناهج دراسية في المرحلة الابتدائية، كما سمح للراهبات بتعليم البنات الموسرات. لكنه رفض أن يدخل الجزويت Jesuits (اليسوعيين) فرنسا من جديد. ومع هذا فقد كان معجباً بهم لتنظيمهم المنضبط كنقابة مكرَّسة للمدرسين. لقد كتب نابليون (61 فبراير سنة 5081) ان الأمر الأساسي هو تعليم الأطفال على نسق الجزويت الأوائل(42) وتذكر بورين قائلا: عندما كنت معه (نابليون) كان كثيراً ما يقول لي أنه من الضروري أن تكون كل المدارس والكليات وغيرهما من مؤسسات التعليم العام خاضعة للنظام العسكري(52) وفي ملاحظة أبداها نابليون في سنة 5081 قال لا يمكن تكوين نظام للتدريس إلاّ إذا خضع كل مديري المدارس وموجهيها ومعلميها في الإمبراطورية لرئيس واحد أو عدة رؤساء على نسق رؤساء عموم الرهبنة ومسؤوليها المحلِّيين... عند الجزويت (اليسوعيين) وإلاّ إذا كانت القاعدة هي ألا يشغل أي شخص منصباً أعلى في المؤسسة التعليمية إلا إذا كان قد سبق له وشغل المناصب والمراكز الأخرى الأدنى درجة. ومن المستحب أيضاً ألا يتزوج المدرّس أو أن يؤجّل زواجه حتى يؤمّن لنفسه مركزا ودخلاً.. كافيا لإعالة أسرة(62).

وبعد عام (01 مايو سنة 6081) ضَمِنَ أنطوان فرنسوا دي فوركروي Antoine - Francois de Fourcroy - الموجّه العام للتعليم العام من المجلس التشريعي مرسوماً مؤقتاً مفاده تأسيس الجامعة الإمبراطورية لتكون جهازاً مختصاً دون سواه بالتدريس على مستوى الإمبراطورية (أسست جامعة باريس حوالي سنة 0511 وألغتها الثورة الفرنسية في سنة 0971). وكان على هذه الجامعة الجديدة ألا تكون مجرّد مجموعة كليات - كلية للاهوت، وأخرى للقانون وثالثة للطب ورابعة للعلوم وخامسة للآداب، وإنما أن تكون المؤسسة الوحيدة لتخريج مدرّسي المرحلة الثانوية في فرنسا، وأصبح يتعين تأسيس مدارس ثانوية في مدينة أو أكثر في كل محافظة لتقدم لطلبتها مناهج دراسية تزاوج بين اللغات الكلاسية والآداب والعلوم وأن تقوم المجالس البلدية بتمويلها، لكن كل مدرسيها لابد أن يكونوا من خريجي الجامعة، وألا يرقى أي منهم إلى منصب أعلى إلا إذا سبق له شغل المنصب الأدنى منه(72)، وأن يُطيع رؤساءه على نحو ما يطيع الجندي الضابط. ولحث الشباب الفرنسي على الالتحاق بهذه الطاحونة الشاقة Treadmill قدّم نابليون 004،6 منحة دراسية تعهّد الذين حصلوا عليها بالتفرغ لمهنة التدريس وأن يؤجلوا زواجهم حتى بلوغهم سن الخامسة والعشرين على الأقل. وسيكون أمامهم في النهاية فرص الترقي لأعلى المناصب في الدولة(82). وقال نابليون لفوركروي Fourcroy إن كل هذا مجرد بداية، فشيئاً فشيئاً ستقوم بتحقيق ما هو أكثر وما هو أفضل(92).

وبالفعل فقد فعل ما هو أفضل - من وجهة نظره - بأن أعاد (في سنة 0181) دار المعلمين Ecole Normale لتكون فرعاً من فروع الجامعة، وفي هذه الدار يعيشون معاً في ظل نظام عسكري ويتلقون تعليماً خاصاً على يد هيئة تدريس ذات تقدير واحترام تضم أساتذة مثل لابلاس Laplace ولاجرانج Lagrange وبيرثول Berthollet ومونج Monge وبحلول عام 3181 كان من المتوقع أن يكون كل معلّمي الكليات من خريجي دار المعلمين، وبدأ العِلم يسود على حساب الدراسات الكلاسية في مناهج الكليات وأصبح هو الذي يَسِمُ الروح العامة لفرنسا المتعلمة. وتحولت مدرسة البوليتقينة Ecole Polytechnique التي أسست خلال الثورة إلى الأكاديمية العسكرية حيث وُضعت العلوم الفيزيقية في خدمة الحرب، وبقيت عدة جامعات في المحافظات حتى بعد انتهاء انتصارات الإمبراطور العسكرية، وسُمح بإقامة كليات خاصة بعد الترخيص لها من الجامعة وعلى أساس خضوعها للتفتيش الدوري. وبعد استتباب الأمور سُمِح لأفراد من المحاضرين باستخدام قاعات الجامعة لتقديم برامج دراسية خاصة وسُمح للطلبة بحضور هذه البرامج وفقاً لرغباتهم.

وكان على رأس الهرم الفكري المعهدُ الوطني الفرنسي. وأعيدت الأكاديمية الفرنسية التي كانت قد ألغيت في سنة 3971 لتكون في سنة 5971 بمثابة القسم الثاني Class II للمعهد الجديد. وكان نابليون فخوراً بعضويته في المعهد لكن عندما تجرأ قسم السياسة والأخلاق في المعهد في سنة 1081 على تقديم محاضرات عن كيفية إدارة دفّة الحكم، أمر نابليون الكونت لويس - فيليب دي سيجور de Segur أن يخبر القسم الثاني في المعهد أنني لا أسمح أن يناقش الأعضاء في اجتماعاتهم موضوعات سياسية(03) وكان المعهد يضُم في ذلك الوقت كثيراً من الثوّار القدامى المؤمنين بالتنوير والثورة وقد عبَّروا عن سخطهم بالضحك أو البكاء لإعادة الكنيسة الكاثوليكية بشكل رسمي. واستخدم كاباني Cabanis وديستوت دي تراسي Destut de Tracy كلمة أيديولوجية للتعبير عن دراسة تكوين الأفكار. وقد أطلق نابليون على هؤلاء السيكلوجيين والفلاسفة اسم الأيديولوجيين ideologues وقال عنهم إنهم إناس غارقون في الأفكار ويُعربدون بالمنطق والعقل لدرجة تجعلهم غير قادرين على فهم حقائق الحياة والتاريخ. وكان نابليون يرى أن المفكرين الذين ينشرون أفكارهم عبر مشورات لا يُحصى عددها يشكلون عقبة في سبيل الحكومة الصالحة. ومن أقواله: إن من يجيدون الكتابة ويتمتعون بالفصاحة ليس لديهم القدرة الحاسمة على الفصل في الأمور(13) وقد حذَّر نابليون أخاه جوزيف الذي كان يحكم وقتها نابلي (81 يوليو سنة 7081) قائلا: أنت تقضي وقتاً طويلاً مع رجال الأدب إنهم مثل المثقفين والمفكرين الذين يثرثرون وينشرون الإشاعات في الصالونات إنني أعتبر العلماء والمفكرين كالنِّسوة المغناجات الحنَّانات لابد أن يتابعهن المرء ويتحدث معهن لكنه أبداً لا يختار من بينهم زوجة له كما أنه لا يختار من بين هؤلاء الناس وزراءه(23).

وفي 32 يناير سنة 3081 أعاد تنظيم المعهد وقسَّمهُ إلى أربعة أقسام، وألغى منه قسم السياسة والأخلاق. القسم الأول وهو القسم الذي كان يقدّره تقديراً شديداً مختص بدراسة العلوم. وكان من بين أعضائه الستين ادريان ليجندر Adrien Legendre ومونج Monge وبيوت Biot وبيرثول Bertholet وجاي - لوسّاك Gay - Lussac ولابلاس Laplace ولامارك Lamarck وجيوفري سان - هيلير Geoffroy وكوفييه Cuvier والقسم الثاني ويضم أربعين عضواً مختصاً بدراسة اللغة الفرنسية وأدبها وقد حلّ هذا القسم محل الأكاديمية الفرنسية القديمة، وواصل العمل في القاموس Dictionnaire وكان هذا القسم يضم الشاعر المخضرم ديليل Delille والدرامي الشهير ماري - جوزيف دي شينييه Marie Joseph de Chenier والمؤرخ الشاب جيزو Guizot والكاتب الرومانسي شاتوبريان، والفلاسفة: فولني Volney وديستوت دي تراسي Destutt de Tracy ومين دي بيرا Maine de Biran. أما القسم الثالث الذي يضم أيضاً أربعين عضواً فمختص بدراسة التاريخ القديم وتاريخ الشرق سواء التاريخ العام أم تاريخ الآداب والفنون، وفي هذا القسم تابع لويس لانجلي Langles تلك الدراسات عن فارس والهند التي أدّت بالفعل إلى ظهور مدرسة اللغات الشرقية Ecole des Langues Orientales (5971) واكتشف جان بابتست دَنس دي فيلوسو Jan - Baptiste dصAnsse de Villoison المعلّقين السكندريين على هوميروس وبذا مهّد الطريق أمام نظرية ف. أ. ولف F.A. Wolf التي مؤداها أن أعمال هوميروس اشترك في كتابتها عدد كبير. والقسم الرابع - أكاديمية الفنون الجميلة - يضم عشرة رسامين وستة نحاتين وستة معماريين وثلاثة حفارين (مشتغلين بفن الحفر) وثلاثة ملحنين، وفي هذا القسم تألق ديفد (داود David) وانجر Ingres وهودو Houdon.

ورغم نفور نابلوين من الأيدولوجيين فقد دعَّم المعهد بإخلاص وكان تواقاً لجعله حلية يتحلّى بها حكمه. وكان كل عضو من أعضاء المعهد يتلقى من الحكومة 0051 فرنك كراتب سنوي، وكان كل فرد من أفراد السكرتارية الدائمة يتلقى راتباً سنوياً مقداره ستة آلاف فرنك. ويقدم كل قسم في شهري فبراير ومارس، للإمبراطور تقريراً بانجازاته، وكان نابليون مسروراً من الصورة العامة، فقد زعم مينيفال Meneval أنه قال إن هذه المتابعة العامة للآداب والعلوم والفنون... تظهر أن الذكاء البشري أبعد ما يكون عن الارتداد والتراجع وأنه لم يتوقف أثناء مسيرته المتواصلة نحو التقدم(33) وقد نتشكك في كلمة المسيرة المتواصلة لكن الذي لا شك فيه أن إعادة تنظيم المؤسسات العلمية، وتقديم المنح الدراسية في ظل حكم نابليون جعل المشتغلين في الحقول العلمية والأدبية والفنية في فرنسا على رأس قرنائهم الأوروبيين طوال نصف قرن.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المحاربون

لقد أدى قيام الثورة الفرنسية إلى أن أصبحت الحرب هي الأكثر تتابعاً والأكثر مدعاة للقتل والأكثر تكلفة، وقد أدى التجنيد العفوي العام (تسليح الشعب بشكل عام لمواجهة عدو لم تجر الاستعدادات العسكرية المعتادة لمواجهته) في سنة 3971 إلى قناعة بأن الحرب لم تعد (ولا يجب أن تكون) مباراة بين الملوك يستخدمون فيها المرتزقة وإنما نضال أمم تشترك فيه كل الطبقات - رغم أن الحكومات الأخرى حذت حذو فرنسا قبل ذلك ببعض الوقت بسماحها للعوام أن يُصبحوا ضباطاً بل وحتى مارشالات. وكان روسو Rousseau قد وضع بالفعل القاعدة العامة التي مؤداها أن الخدمة العامة هي اللازمة المنطقية للاشتراك في التصويت (في الانتخابات)، فيجب على من سيصوّت أن يخدم (وطنه) ففرنسا بمواجهتها للملكيات الأوروبية دفاعاً عن نظامها الجمهوري، فرنسا تلك التي كانت قبل لويس الرابع عشر تضم خليطاً من مناطق لكل منطقة مقوّماتها الخاصة ولا تربطها معها روح وطنية عامة، وحدّها الآن (3971) الخوف العام. لقد كانت استجابتها للتهديد حاسمة وذات طابع وطني عام. لقد أصبح من الضروري تكوين جيش كبير يضم كل الرجال، وبدأ التجنيد الإلزامي وعندما بدأت جماهير الفرنسيين (من غير العسكريين) في هزيمة القوات العسكرية المحترفة للملكيات الاقطاعية - فإن هذه الدول الملكية المهزومة فرضت هي الأخرى التجنيد الإلزامي، وبذا أصبحت الحرب صراع جماهير تتنافس في مضمار القتال. لقد أصبحت الحرب في الأساس صراعاً على المجد بين القوميات (الوطنيات) بعد أن كانت صراعاً بين الأسرات الحاكمة التي تبغي كل منها تحقيق ذاتها على حساب الأخرى.

وفي سنة 3081 أصدر نابليون قانوناً جديداً للتجنيد الإلزامي لمواجهة انهيار سلام معاهدة إميان Amiens وتحسباً لحرب ضد تحالف أوروبي آخر ضدّه. ونص هذا القانون الجديد على تجنيد كل الذكور من الشريحة العمرية ما بين عشرين وخمسة وعشرين، مع استثناءات كثيرة كاستثناء المتزوجين حديثاً وطلبة المعاهدة اللاهوتية والذين فقدوا زوجاتهم أو طلقوهن ويقومون بإعالة أطفال، كما تم إعفاء من كان له أخ مجنَّد والأخ الأكبر من بين ثلاثة أيتام. وأكثر من هذا فقد كان يمكن للمجنَّد أن يقدِّم بديلاً يحل محلّه. وقد بدا هذا - في البداية - أمراً غير عادل في نظر نابليون لكنه عاد فسمح به، وكان هذا في الأساس لاقتناعه بأن الطلبة الذين قطعوا شوطا متقدماً في الدراسة لابد من تركهم لمواصلة دراساتهم لهيئوا أنفسهم لشغل المناصب الإدارية(43).

لقد تحمّل الشعب الفرنسي بصبر هذا الاستنزاف السنوي الملح للقوي البشرية في نشوة الابتهاج بانتصارات نابليون، لكن عندما بدأت الهزائم (8081) مخلّفة آلاف الأسر الحزينة، نمت المقاومة وتضاعفت أعداد المتهرِّبين والفارِّين. وبحلول عام 4181 كان نابليون قد جند في جيوشه 000،316،2 فرنسي(53). مات منهم حوالي مليون بسبب جروح شديدة ألمّت بهم أو بسبب الأمراض(63). وبالأضافة لهؤلاء فقد ضمَّ لجيوشه نصف مليون من الدول الأجنبية المتحالفة مع فرنسا أو التابعة لها. وفي سنة 9081 طلب نابليون من القيصر اسكندر أن يتوسط بين فرنسا وإنجلترا ذاكراً له أن تحقيق السلام العام سيُتيح الفرصة لوضع نهاية للتجنيد الإلزامي. لكن هذا الأمل لم يتحقق. وطالما كان أعداء فرنسا المهزومون يفيقون من أحزانهم ليكوِّنوا تحالفات جديدة وليخوضوا معارك جديدة فقد جنَّد نابليون كثيرين قبل حلول دورهم في التجنيد بخمس سنوات، وكان يستدعي للتجنيد كل عام دفعات قبل حلول دورها وفي سنة 3181 جندّ دفعة سنة 5181(73). وأخيراً نفذ صبر الآباء الفرنسيين وتعالت صيحات يسقط التجنيد الإلزامي في كل مكان في فرنسا.

وبهذه الطريقة كان الجيش العظيم ينمو ويزداد عدده، ذلك الجيش الذي كان حُب نابليون ومصدر فخره. وقد عمل نابليون على رفع الروح المعنوية لهذا الجيش فجعل لكل كتيبة من كتائبه علماً خاصاً بها ذا لون محدّد كان يحمله أحد الشبان الشجعان أثناء المعركة ليقود أفراد الكتيبة ويبث العزم فيهم فإن سقط اندفع شاب آخر ليرفعه. وعادة ما كان هذا العلم يمثل روح الكتيبة وعلامتها الظاهرة. وعادة ما كان يُحتفظ بهذا العلم ليتم عرض ما بقي منه في الاستعراضات العسكرية احتفاء بالنصر، وأخيراً يتم تعليقه كشارة مقدسـة للنصـر رغـم تمزقـه واهترائه فـي كنيسة ضحايا الحرب. وكان لكل كتيبة تقريبا لباسها المحدّد الخاص بها واسمها، وكانت هذه الكتائب مشهورة في وقت من الأوقات من بريست Brest إلى نيس Nice ومن أنتورب Antwerp إلي بوردو Bordeaux: رُماة القنابل اليدوية (الرمّانات) Gerendiers الهوصّار Hussars (سلاح الفرسان الخفيف)، القنّاصة Chasseuus حاملو الرماح Lancers الفرسان Dragoons.. إلخ والأهم من كل هؤلاء الحرس الإمبراطوري البالغ عدده 000،29 مقاتل كاحتياطي دفاعي حول الإمبراطور حين يظهر موقف متأزم يقتضي منهم التضيحة بحياتهم. وكان من الممكن لأي مجنَّد أن يترقّى ليصبح عضواً في هذا الحرس الإمبراطوري أو حتى يحمل عصا المارشالية كواحد من الثمانية عشر مارشالاً في فرنسا النابليونية. لقد كانت نتائج الحروب لا حد لها - بيولوجياً واقتصادياً وسياسياً وأخلاقياً. والرقم القديم الدال على عدد القتلى الفرنسيين في هذه الحروب هو 000،007،1(83) إلاّ أن الحسابات اللاحقة قد قلّصته ليصبح مليوناً(93). وحتى لو كان هذا الرقم الأخير صحيحاً فإنه كفيل بإضعاف فرنسا طوال جيل حتى تستطيع أرحام نسائها تعويض هذه الخسارة. ومن الناحية الاقتصادية فإن هذه الحروب والاحتياجات العسكرية وظروف الموانئ المحاصرة - قد عجّلت بتقدم الصناعة وازدهارها. ومن الناحية السياسية فإنها قوَّت الوحدة بين الحكومات الإقليمية (في فرنسا) وعمَّقَت الولاء للحكم المركزي. ومن الناحية الأخلاقية فإن الصراع المستمر عوَّد أوروبا على توسيع نطاقات الحروب وعوّدها على تقنين المذابح البشرية على نحو لم يشهده العالم منذ غزوات البرابرة، فعلى جبهات القتال ومن ثم في العواصم تخلّى الحكّام عن الوصايا العشر. فقد كتب نابليون إلى الجنرال بيرثييه Berthier في سنة 9081(04) الحرب تبرّر كل شيء، فلم يحدث أن استقر شيء - مطلقاً - إلاّ بالسيف(14) وأن التحليل الأخير يشير إلى أن الحكومة لابد أن تتحلّى بالصفات العسكرية(24) فبدون الجيش لا تكون دولة.

ولتعويــد الشــعب الفرنسـي على هـذه الأخلاقيــات العسكــرية عمــد نابليــون إلى اســتثارة حبهم للمجــد. فالمجد la gloire أصبــح حمّى وطنيــة يغمــر الجميع بالوئام والحماس والطاعة. ومن هنا كـان يحـق لنابليون أن يقـول إن حــروب الثــورة قــد جعلــت من كل الأمــة الفرنسية نبلاء(34)، وطوال عشر سنوات وبمساعدة حلفائه كان الشعب الفرنسي كأنــه منوّم تنويماً مغناطيسيــا وراح نابليــون يوحــي إليه بنشوة المجد. ولندع ألفرد دي موس Alfred de Musset الذي كان شاهداً للأحداث، يصف لنا الروح العامة في فرنسا في سنة 0181: لقد كان شباب هذا العصر يتنفّسون هواء في جو لا يعكر صفوه شيء، حيث يتألق المجد. كثير من المجد، وحيث تبرق السيوف. كثير من السيوف. لقد كانوا يعرفون جيداً أن قدرهم أن يكونوا ضحايا في مجزرة لكنهم كانوا ينظرون إلى مورا Murat كقائد لا يُغلب وللإمبراطور على أنه عبر الجِسْر والقذائف الكثيرة تنهمر من حوله مدوّية فراحوا يعجبون: أهو محصّن ضدّ الموت؟ وحتى الموت نفسه كان يبدو لهم جميلاً نبيلاً متألقاً في معركته المخضّبة بالدماء. لقد استعار الموت لون الأمل. لقد حصد كثيراً من المحاصيل التي حان قطافها فأصبح شاباً. لقد ماتت الشيخوخة، فكل أَسِرَّة الأطفال في فرنسا وكل القبور كانت مسلّحة بالتروس، ولم يعد هناك شيوخ (عجائز) وإنما هناك جثث لأنصاف آهلة demi - gods(44) وفي هذه الأثناء كان جنود نابليون على الجبهة يسرقون وقامرون ويبتلعون مخاوفهم ليتمكنوا من النوم، وكان ضباطه يسرقون بالقدر المتلائم مع مواقهم: جمع ماسينا Massena الملايين. ولم يكن ما جمعه سول Soult أقل كثيراً مما جمعه ماسينا، وجوزفين اللطيفة وجوزيف الرحيم ولوسيان Lucien الشجاع والعم الكاردينال فش Fesch، كل هؤلاء تربّحوا بتوظيف أموالهم في الشركات التي كانت تبيع البضائع المغشوشة للجنود الفرنسيين. وقد زين نابليون نشرات الحرب التي كان يوزعها داخل جيشه بالمبالغات واخفاء الحقائق، واستنزف ثروات الأمم المهزومة وسلب أعمالها الفنية بغير حق وراح يتفكّر مليا في بعض الأخلاق والقيم الفرنسية من جديد.


الأخلاق والسلوك

إنَّ الثورة الفرنسية - بتحطيمها للسلطة السياسية والسلطة الأبوية (قوامة الآباء على الأبناء) وبتدميرها للمعتقد الديني (الكاثوليكي) قد أطلقت غرائز أفراد الشعب الفرنسي من عقالها وتركتها بلا ضابط، وكان هذا الانفلات فاجعاً مأسوياً في العاصمة وإن اتَّسم بالاعتدال في الدوائر (المحافظات)، فوجد القانون ورجاله أنفسهم يناضلون ضد الفوضى والجريمة. وصمّم نابليون - الذي كان هو نفسه مارقاً غير ملتزم بالقانون - أن يعيد ترسيخ القيم الأخلاقية والانضباط السلوكي كأمر حيوي لإعادة بعث فرنسا والرضا لشعبها والنجاح لحكمه. لقد أوضح بجلاء أنه سيراقب بعين يقظة كل العلاقات والارتباطات التجارية في الحكومة ومعها، وسيعاقب بشدّة كل من يثبت عدم أمانته. والتفت نابليون معترضاً على الملابس غير المحتشمة في المجتمع وفي المسرح، ووَّبخ - رسميا - أخاه لوسيان Lucien وأخته إليزا Elisa لكشفهما جانباً كبيراً من جسميهما عند حضورهما العروض المسرحية الخاصة. وفي إحدى الحفلات المسائية عندما وجد نفسه في مواجهة مدام دي ستيل de Stael وقد ارتدت فستاناً واسع الصدر يكشف عن جانب كبير من صدرها وظهرها وكتفيها (فستان ديكولتيه) انتقدها بحدِّة قائلا: إنني أفترض أنك تربين أطفالك بنفسك(54) وأصرَّ نابليون على أن يتزوّج تاليران من خليلته. ومدام تاليا Tallien التي كانت توجّه أخلاقيات حكومة الإدارة باستدارة وِرْكَيْها (مُثنّى ورك) اضطرت إلى التواري في الأقاليم (الدوائر أو المحافظات) وقالت جوزفين للزنا وداعاً وابتعد بائعو القبعات النسائية عنها وشقّوا فواتيرهم. لقد كادت قوانين مدوّنة نابليون تعطي للزوج كل السلطات التي كان يتمتع بها الزوج الروماني على زوجته وأطفاله، فواصلت الأسرة وظيفتها لتحويل الحيوانات (المقصود الأطفال) إلى مواطنين، مهما كان هذا على حساب الحرية الشخصية.

لقد كانت الحالة النفسية للعصر تعتريها معاناة من بعض الكآبة كجزء من ثمن (كان لابد من دفعه) لقاء النظام الجديد. فالمسرّات الطائشة بين الجنسين وبين الطبقات في ظل الثورة قد استسلمت لآداب المجتمع البورجوزاية. ومتاعب البروليتاريا. والحواجز الطبقية التي كانت تفصل السكان بشكل صارم إلى طبقات في عهد البوربون قد انهارت لتفتح الطريق لحمّى المنافسة التي لا تهمد في ظل فتح أبواب المناصب ومجالات العمل للكفاءات مما أدّى إلى بناء جسور بين كل الطبقات(64)، وجعلت شباباً لا أصول لهم يتسلقون الأهرام الزَّلقة إلى ذرى السلطة. لقد كان معنى هذا أن لنابليون الحق في أن يشعر أنه في ظل حكمه، عادت الأخلاق إلى فرنسا واستعادت السلوكيات شيئاً من الاحترام واللطف الذين كانا يميزان حياة المتعلمين في فرنسا قبل الثورة.

وقد شعر أنه رغم كل الجهود لإتاحة فرص متساوية للجميع فإن شيئاً من التمييز الطبقي لابد أن يظهر كأمر لا مناص منه نتيجة الاختلافات الطبيعية natural في القدرات وظروف النشأة. وليجعل نابليون هذه النتيجة غير مقتصرة على مجرد الأرستقراطية الناشئة عن استحواذ الثروة، فقد أنشأ في سنة 2081 جوقة الشرف Legion of Honor لتتكوّن من رجال تختارهم الحكومة من المميزيَّن تميزاً خاصاً في مجالاتهم: الحرب، القانون، الدين، العلوم، الدراسات الأكاديمية الفن... إلخ على أن يكون هذا الجهاز نصف ديمقراطي كما هي الحياة إذ جعله قَصْراً على الرّجال دون النساء. وكان الأعضاء يقسمون عند انضمامهم أن يؤيدوا مبدأي الحرية والمساواة لكن سرعان ما تم تصنيفهم في ثلاثة رُتب وفقاً للجدارة أو التقسيم أو الأقدمية. وكان كل واحد منهم يتقاضى من الحكومة الفرنسية راتباً سنوياً، فإن كان من رتبة مسؤول مهيب Grand officer استحق 0005 فرنك وإن كان من رتبة قائد Commander استحق 0002 وإن كان من رتبة مسؤول officer استحق 001 أما الفارس Chevalier(74) فيستحق 052، وللتمييز بينهم كان على كل واحد منهم أن يضع شريطاً خاصاً (وشاحاً) أو صليباً يرمز لرتبته وعندما ابتسم بعض المستشارين لمثل هذه الامتيازات الشكلية البسيطة (النص: الدّمى baubles) قال لهم نابليون إن قيادة الرجال تكون أسهل بالأوسمة (التكريم) منها بالقوّة أو السلطة، أو على حد قوله إن المرء يحصل على كل شيء من الرجال باستنهاض معاني الشرف لديهم(84). واتخذ الإمبراطور خطوة أخرى نحو إيجاد ارستقراطية جديدة بإنشائه في سنة 7081 النبالة الإمبراطورية فأعطى الألقاب لأقربائه ومارشالاته وبعض العاملين في الإدارة والعلماء المبرّزين، ونتيجة لهذا وجدنا أنه في السنوات السبع التالية قد أوجد: 13 دوق و 254 كونت و 0051 بارون 474،1 فارسا (بالمعني التشريفي لا العسكري)، وأصبح تاليران يحمل لقب أمير بينيفينتو Benevento وفوشيه أمير دوترانت (Otranto) dصOtrante وجوزيف بونابرت أصبح فجأة هو الناخب الأعظم، ولويس بونابرت الكونستابل الكبير (النبيل الكبير Grand Constable) ومورا Murat قائد الفرسان اعترته الدهشة عندما وجد نفسه الأدميرال الكبير grand admiral وتم الإنعام على المارشال دافو Davout بلقب دوق دورستت Duc dصAuerstedt ولان Lannes بلقب دوق دي مونتبلو Duc de Montebello وسافاري Savary بلقب دوق دي روفيجو Duc de Rovigo وليفبقر Lefebvre بلقب دوق دي دانتسج Duc de Dontzig. وأصبح لابلاس Laplace كونتا وكذلك فولني Volney أما أخوات نابليون فأصبحن أميرات. وخُصص لكل لقب زي رسمي خاص بألوان بهيجة وراتب سنوي وأحياناً كان يُخصص لحامل اللقب ممتلكات كعقار أو مزارع أو أراضٍ. وأكثر من هذا فإن معظم هذه الألقاب أضحى وراثياً، وهنا نجد نابليون يدير ظهره بشكل صريح للمبادئ الجمهورية. لقد كان نابليون يرى أنه لا يمكن لأرستقراطيته الجديدة أن تحتفظ بوضعها وقوتها إلاّ بانتقال الملكية (وراثياً) وبالتالي يمكن استخدامها كدعامة للحاكم. بل إن الإمبراطور نفسه رغبة منه في الاقتراب أكثر فأكثر نحو الارستقراطية الجديدة التي سرعان ما راحت تتباهى بألقابها وملابسها الرسمية المميزة ونفوذها - أحاط نفسه بالحجَّاب والياورات ومسؤولي البلاط ومسؤولي القصر ومئات من الخدم، وأُحيطت جوزفين بالوصيفات اللائي يحملن ألقاباً تعود إلى زمن البوربون وما قبل البوربون.

والتفت نابليون إلى من ظل على قيد الحياة من النبلاء القدماء (نبلاء ما قبل الثورة) وعمل على إغرائهم بشتى الطرق لضمّهم لبلاطه، واستدعى كثيرين منهم من خارج فرنسا ليبارز بهم اليعاقبة الذين كانوا لايزالون متشبَّعين بروح الثورة، وأملاً منه في مد جسور التواصل والاستمرار بين فرنسا ما قبل الثورة وفرنسا الجديدة. وبدا هذا مستحيلاً لأن هؤلاء المهاجرين (الذين تركوا فرنسا إثر أحداث الثورة الفرنسية) العائدين كانوا يحتقرون نابليون باعتباره مُحدث نعمة ومغتصب عرش فشجبوا سياساته وهجوا مسلكه ونظراته وأحاديثه وسخروا من ارستقراطيته الجديدة. وعلى أية حال، فبالتديرج زادت مكانته بانتصاراته وكلما ارتفع شأن فرنسا حتى وصلت من حيث الثروة والقوة درجة لم تصلها حتى في أيام لويس الرابع عشر - تضاءل هذا الاتجاه المتعالي للأرستقراطية القديمة، فقبل أبناء المهاجرين emigres بسعادة تعيينهم في مناصب أو ألقاب شرفية (تلك المناصب التي كان آباؤهم يصفونها بأنها مناصب أو ألقاب مُحدثي النعمة)(94) وأقبلت السيدات العظيمات ليلتحقن ببلاط جوزفين، وأخيراً وجدنا بعض البنلاء القدامى ينضمون إلى البلاط الإمبراطوري ليُكسبوه عبير البلاط القديم، ومن هؤلاء النبلاء القدامى: مونتمورنسي Montmorencys ومونتسكيو Montesquious وسيجور Segurs وجرامونت Gramonts ونُوال Noailles وتورين Turennes وقد كافأهم نابليون بأن أعاد لهم بعضاً من ممتلكاتهم المُصادرة. وبعد أن تزوج نابلوين من ماري لويز Marie Louise بدت المواءمة كاملة. لكن كثيراً من مظاهر هذه المواءمة كان سطحياً فأبناء الثورة وبناتها الأكثر حداثة لم يستسيغوا ملكيات ذوي الأصول (المنتمين إلى أسرات عريقة) ولا أوضاعهم المتعالية. والجيش الذي كان لايزال يتغنّى بالمثل الثورية مُغرماً بها تذمّر لرؤيته مُثله الثورية تتبادل الانحناء مع الأعداء القدامى الذين كانوا يتعالون علي الجنرالات الطوال والعلماء العصبيين وآل بونابرت الطموحين الذين تجرّأوا على شغل أماكنهم. ولتجنّب حرب بالكلمات أو السيوف مع عرين الأسود هذا، أصرّ نابليون على إصدار مدوّنة لقواعد السلوك (كود للاتيكيت Code of etiquette) فعهد إلى بعض الاختصاصيين بكتابتها بتخيّر أفضل النماذج من تراث البوربون، على أن تكون دليلاً للسلوك يمكن اتباعه ويلبي حاجات المواقف المختلفة، بحيث يبدو مسلك المرء ودودا. وبالفعل فقد تم إنجاز هذا العمل في ثمانمائة صفحة(05) ودرسة الفلاسفة ورماة القنابل اليدوية grenadiers وأصبح البلاط الإمبراطوري نموذجاً يتجلَّي فيه اللباس المتأنق والخطب الجوفاء أو الكلام الفارغ. وراح رجال الحاشية يلعبون الورق وفقدت اللعبة قيمتها لأن نابليون منع الميسر forbade plying for money، وأخرجت المسرحيات وعُزفت الكونشرتات وأقيمت المراسم والتشريفات والحفلات التنكرية، وعندما تضاءل ما تسببه الأزياء والمراشقات الفكرية من إثارة، وجد أفراد الحاشية الأساسيين متعتهم في الانتقال مع الإمبراطور والإمبراطورة إلى سان كلو St. Cloud أو رامبول Rambouillel أو تريانو Trianon أو - وهذا أكثر مدعاة للسعادة - إلى فونتينبلو Fontainebleau حيث تتلاشى الرسميات وتؤدي ممارسة القنص إلى تدفئة الدماء.

ولم يكن أحد أكثر ضيقاً بهذه الطقوس الملكية كنابليون فقد تجنبها بقدر ما يستطيع. وقد قال: إن الاتيكيت (قواعد السلوك) هي سجن الملوك(15) وقال للاكاس Las Cases: الضرورة تجبرني على مراعاة درجة من الأبهة (أو التكلّف State) وأن أتبع نظاماً معيناً يجعلني وقوراً - أو بعبارة أخرى أن ألتزم بالاتيكيت. وإلاّ كنت عُرضة للضرب على كتفي يومياً(25) وكان للمراسم والتشريفات أيضاً أساسها المنطقي فالحكومة التي تم تأسيسها حديثاً لابد أن تكون مُبهرة مثيرة للدهشة، فإذا فقدت تألّقها سقطت(35) فالاستعراض للسلطة كالطقوس للدين(45) أليس صحيحاً أن الدين الكاثوليكي يروق بشكل أفضل للخيال بأبهة طقوسه أكثر مما يروق بسمو عقائده؟! فإن أردت أن تثير الحماسة في الجماهير فلتبد في نواظرهم مقبولاً أو بتعبير آخر اعمل على أن تروق لعيونهم(55).

وكما جرت العادة في التاريخ فقد تدهورت سلوكيات البلاط، وتدنت تدريجياً في محيط المتعلمين. قال بول لاكروا Paul Lacroix جامع الكتب المتعلّم لتجعل غالب مجتمع حكومة الإدارة راقياً مهذباً حسن التربية فإن هذا يستغرق ما بين عشر سنوات واثنتي عشرة سنة(65) وهذا حقيقي على نحو خاص بالنسبة لليون Lyons وبوردو، لكننا لا نتحدث عن باريس التي قالت عنها مدام دي ستيل Stael أنه يتلاقى فيها كثيرون من رجال الفكر.. واعتاد عدد كبير منهم أن يزاواجوا بين مسرّات النقاش والقضايا الفكرية الجادة(75) وقد ذكر نابليون للاكاس Las Cases نقول الحق إن أشرنا للحساسية والذوق الرفيع اللذين يميزان سكان العاصمة الفرنسية؛ فلن تجد في مكان آخر غير باريس مثل هذه الفطنة وتلك الألمعيّة ومثل هذا الذوق(85). مئات المقاهي يتجمع الناس فيها بروح اجتماعيــة فيجلســون ويرتشـفون مشروباتهــم ويتبادلون الأخبــار والنكات والقفشات الذكية السريعة، بينما العالم يتحرك أمامهم في استعراض عنيد، وكل حيوان ميكروسكوبي يجعل من نفسه محور الكون. وكانت المطاعم الجميلة قد اختفت في فترة الإرهاب إلا أنها عادت لنشاطها في ظل حكومة الإدارة وأصبحت الآن خير شاهد على أذواق الفرنسيين ومدى امتلاء جيوبهمـم بالنقــود. وحدث خــلال فترة حكم القنصلية والإمبراطورية أن أنثيلم بريلا - سافارين Antheme Brillat - Savarin جمع الحقائق والأساطير المتعلقة بعلم الأكل أو فن تذوق الطعام (الجاسترو نوميا) والتي ضمّنها عمله الكلاسي فسيولوجيا تذوّق العطام La physiologie du gout الذي لـم يمثـل للطبـع إلاَّ ســنة 6281 أي قبل وفاته بعام واحد.

وكان أسلوب الحديث ونمط اللباس في حالة تغيّر. فقد حلت كلمتا مواطن و مواطنة محل كلمتي سيّدي (مسيو) ومدام اللتين كانتا سائدتين قبل الثورة. وتراجع الرجال الملتزمون بقواعد اللباس والسلوك عن ارتداء السراويل التي تصل للركبة (البناطيل القصار) والجوارب الحريرية الطويلة، فاستعادت البناطيل الطوال سيادتها كلما شحبت الإمبراطورية. أي راحت تزوي. وهجرت السيدات نمط اللباس الإغريقي الذي كان سائدا في عهد حكومة الإدارة وعُدن إلى التنورة (الجيبة) والقميص (البلوزة)، وظل الديكولتيه Decollete واسعاً سخياً في إظهار لحْم المرأة حيث تكون الأكتاف مكشوفة وكذلك الذراعين، وعارض نابليون هذا الطراز في اللباس (الديكولتيه) لكن جوزفين وافقت عليه وأقرته، فانتصرت (على نابليون) بذراعيها الجميلتين وكتفيها وثدييها الناتئين(95).

ووافق الإمبراطور على إقامة الحفلات التنكرية لسروره بازدهار الحياة الاجتماعية. ولم يهتم بالصالونات التي كانت تنتعش في باريس، فقد أصبحت موئلاً للسياسيين والمولفين والأيديولوجيين (المنظِّرين) ومنتقدي حكمه الذي يتجه أكثر فأكثر نحو الدكتاتورية. ونظم أخواه جوزيف ولوسين حفلات استقبال متتالية كان الكلام يجري فيهما - بالضرورة - لصالح الإمبراطور، لكن فحواه - بشكل عام - كان موجهاً ضد جوزفين. وأقام كل من تاليران وفوشيه بلاطاً خاصاً لنفسه حيث كانت الانتقادات مهذّبة. وشجب المهاجرون العائدون كل تصرفات آل بونابرت في حفلات مسائية كئيبة في فابورج سان جيرين Faboug St. Germain وواصلت مدام دي ستيل الإبقاء على صالونها الشهير كجزء من حربها ضد نابليون طوال خمسة عشر عاماً، وكرَّست مدام جلني Gelnis - التي عادت إلى فرنسا بعد سبع سنوات قضتها كمهاجرة خارجها - صالونها وكتاباتها للدفاع عن نابليون ضد البوربون ومدام دي ستيل ومدام ريسامييه.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مدام ريسامييه

يعود نجاح صالون ريسامييه إلى جمالها الأخّاذ وثروة زوجها المِطْواعة. وُلدت في ليون Lyons في سنة 7771 وسامها الحقيقي هو جين - فرانسوا - جولي أديلادي برنار Jeanne - Francoise - Julie - Adeloude Bernard وعُرفت بين أصدقائها باسم جولي أو جوليت، وكانت تتمتع بوجه محبوب وقوام جذّاب، وظلت تتحلّى بهاتين الميزتين حتى بعد أن بلغت السبعين وأصابها العمى، لقد كادت تجمع في شخصها كل ما تتحلّى به الأنثى من جاذبية - لطف وعطف وميل للخدمة أو المساعدة وذوق وكياسة وحساسية وبراعة... وقد أضافت إلى هذه المرونة والحساسية أنها جذبت إليها مئة ذكر males (رجل فحل) دون أن يتركوا أي أثر معروف علي عذريتها (أي أنها ظلت عذراء رغم هؤلاء الرجال المئة). وفي سنة 3971 وكان عمرها ستة عشر عاماً تزوّجت من جاك روز ريسامييه Jacques - Rose - Recamier وكان في الثانية والأربعين من عمره لكنه كان صاحب بنك. وكان سعيداً جداً بتأمل جمالها وسماع غنائها وملاحظة يديها الدقيقتين الجميلتين وهي تعزف البيانو أو الهارب (القيثارة) فكان يُجلسها على وسائد ليريحها في جلستها تماماً وكان يُنفق على صالونها، وتحمّل بتسامح أبوي استعصاءها عليه فلم تسمح له بغزوها ولم تمكنه من الوصول إلى المُرام وإن كان هو - فيما يظهر - لم يكن مصراً على حقوقه الزوجية(06).

وفي سنة 8971 اشترى منزل جاك نيكر Jacques Necker في شارع مونت بلانك Mont - Blanc في باريس. وأثناء إجراءات اتمام الصفقة تقابلت جوليت التي كانت قد بلغت واحداً وعشرين عاماً مع مدام دي ستيل البالغة اثنين وثلاثين عاماً. لقد كان لقاءً بالصدفة لكن هذا اللقاء كان بداية صداقة استمرت طوال العمر لم يستطع أن ينهيه حتى التنافس في مضمار الحب. وحذت جوليت حذو مدام دي سيتل (الأكبر منها سناً) والتي جمعت في صالونها الرجال المشاهير والبارزين في عصرها من رجال دولة ومؤلفين، فافتتحت - أي جوليت - صالونها في منزلها الجديد لتعقد فيه اجتماعات دورية للرجال والنساء البارزين في المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية في باريس، وقضى لوسين بونابرت وزير الداخلية وقتاً قصيراً يبثها فيه حبّه الذي لا نهاية له، فأظهرت له خطابات زوجها الملتهبة التي ينصحها فيها بمعاملة لوسين بصبر خشية أن يتعرض بنك ريسامييه لعداء من الأسرة الحاكمة الصاعدة، وأطفأ نابليون النيران المتأججة حباً في صدرلوسين بأن أرسله كسفير في أسبانيا. وربما كان نابليون نفسه قد صوّب عينيه على جوليت وليمة جديرة بملك(16) لكن اتجاهاتها كانت مختلفة تماماً، فرغم تحذيرات زوجها ومنصب أبيها المتقلقل (غير المستقر) كمسؤول للبريد في الحكومة القنصلية، فإنها رحبت في صالونها بالموالين للملكية مثل ماثيو دي مونتمورنسي Mathieu de Montmorency، والجنرالات المعادين لنابليون مثل برنادوت ومورو وغيرهما ممن امتعضوا من الاتجاهات الإمبراطورية المتزايدة للقنصل الأول (نابليون).

لقد كانت الآن في ذروة جمالها وكان الرسامون الرواد يسعدون بجلوسها أمامهم. وقد رسم لها دافيد (داود David) لوحة في الوضع الأثير لربّات الجمال وهن متكئات على الحشيّات - وقد ارتدت ثوباً على النّسق اليوناني فضفاضاً، وقد ظهر ذراعاها عاريان، وكذلك قدميها. وقد شعر السيد ريسامييه (زوجها) أن الرسام ديفيد لم يُثر زوجته أو بتعبير آخر لم يحرك مشاعر حبها الوقور، فتحدّى فرانسوا جيرار Gerard - تلميذ ديفيد - أن ينافس استاذه فنجح جيرار في رسمها بشكل رائع ولم يغفر له ديفيد ذلك أبداً(26).

وفي سنة 2081 زارت جوليت وأمها إنجلترا فاستقبلها ذوو المكانة كأمير ويلز والجميلات كدوقة ديفونشير Devonshire بكل مظاهر التكريم بسبب جمالها ومشاعرها المناهضة لنابليون. وسرعان ما قُبض على أبيها بعد عودتها من إنجلترا لتواطئه في مفاوضات سرية بين الباريسيين والموالين للملكية والمتمردين الملكيين في إقليم الفندي the Vendee، وأصبح أبوها عُرضة للحكم عليه بالإعدام، إلا أن ابنته الذاهلة حثت بيرونادوت على التوسط لدى نابليون لإطلاق سراح والدها. ووافق نابليون لكنه طرده من منصبه، فقالت جوليت لقد كانت الحكومة على حق تماماً في إبعاده(36).

وفي سنة 6081 لجأ زوجها لبنك فرنسا لإنقاذه من الإفلاس بإقراضه مليون فرنك. وأحال مديرو البنك طلبه إلى نابليون الذي كان قد وجد بنك فرنسا نفسه - بعد عودة نابليون من مارينجو Marengo - يعاني مصاعب مالية، فرفض تقديم هذا القرض. وباع ريسامييه البيت الكائن في شارع مونت بلانك، وباعت جوليت فضتها ومجوهراتها وقبلت - دون تذمّر - أن تعيش عيشة أكثر بساطة. لكنها كانت على حافة الانهيار عندما ماتت أمها في 02 يناير سنة 7081. فلما علمت مدام دي ستيل بما كان من أمرها دعتها للإقامة في قصر نيكر Necker chateau في كوبت Coppet في سويسرا. وكان السيد ريسامييه متسغرقاً حتى أذنيه في العمل على سداد ديونه فأذن لها بالذهاب إلى سويسرا. وفي 01 يوليو وصلت إلى كوبت وهناك بدأت أهم مرحلة من مراحل عمرها من حيث ممارسة العشق.

وتتابع الراغبون فيها في الوصول إلى هناك بمن فيهم عاشق مدام دي ستيل وهو بنيامين كونستانت (قستنطين). وقد سعدت جوليت (مدام ريسامييه) بهم وشجعتهم وقد قيل إنهم كانوا يحرسون قلعتها طوال الوقت، وقد اتهمها بعض ناقديها أنها كانت تتعامل بتهور مع قلوب الرجال (المقصود بعدم اهتمام) وقد كتبت كونستانت بمرارة: لقد لعبت بسعادتي وحياتي، عليها اللعنة!(46) لكن كونستانت هو أيضاً لعب بقلوب وحيوات. وتتذكر دوقة أبرانتس Duchesse d'Abrantes جوليت (مدام ريسامييه) كإنسانة مبرأة من العيوب تماماً: إن المرء لا يتوقع أن يوجد لها نظير في المستقبل. إنها امرأة راودها عن صداقتها (خطب ودّها) ألمع رجال العصر. امرأة ذات جمال فائق طرح تحت قدميها كل الرجال الذين وقعت نواظرهم عليها. لقد كان الفوز بحبّها هدفاً عاماً، ومع هذا فإن فضائلها ظلت نقية (لا شائبة فيها).. وفي أيام مسرّاتها وبهائها كانت مستعدة دائماً للتضحية بمسرّاتها لتقدم مواساتها.. لأي صديق ألمت به بلوى أو مرض. إن مدام ريسامييه بالنسبة للعالم امرأة مشهورة، وهي بالنسبة لمن أسعدهم الحظ بمعرفتها ومعرفة قدرها مخلوق كريم مميّز جعلته الطبيعة نموذجاً كاملاً للطباع الخيّرة الرحيمة(56). وفي أكتوبر سنة 7081 دخلت جوليت في علاقة حميمة مع الأمير أوجست البروسي وهو ابن أخ فريدريك الكبير، حتى أنها كتبت لزوجها طالبة منه الطلاق، فذكرها ريسامييه بأنه شاركها في ثروته طوال أربعة عشر عاماً وأنه لبّى لها كل رغبة، ألا يبدو بعد هذا أنه من الخطأ أن تهجره وهو يبذل قصارى جهده لإقالة عثرته المالية؟ فعادت لباريس ولزوجها وراح الأمير أوجست يعزي نفسه بخطاباتها.

وبعد أن أصبح زوجها غنياً مرة أخرى وبعد أن ورثت من أمها ثروة، افتتحت صالونها من جديد وواصلت معارضتها لنابليون. وفي سنة 1181 - عندما كانت مدام دي ستيل تتبادل الكراهية والازداء الشديدين مع نابليون. تجرأت جوليت وأصرت على قضاء يوم على الأقل مع مدام دي ستيل في كوبت رغم تحذيرات جيرمين Germaine فما كان من نابليون الذي أزعجته الأخبار السيئة التي أتته من أسبانيا وروسيا - إلاّ أن منعها من الاقتراب من باريس وأن تكون على بعد 021 ميلاً على الأقل من العاصمة (باريس). وبعد تنازله الأول (11 أبريل سنة 4181) عادت لباريس وأعادت افتتاح صالونها ودعت إليه ولنجتون Wellington وغيره من قادة الحلفاء المنتصرين. وعندما عاد نابليون من إلبا Elba واستعاد فرنسا بلاضجة استعدت لمغادرة العاصمة لكن هورتنس Hortense وعدت بحمايتها فبقيت مقهورة لفترة، وبعد اعتزال نابليون للمرة الثانية (22 يونيو سنة 5181) واصلت استقبال ضيوفها. لقد عاد شاتوبريان Chateaubriand فدخل حياتها من جديد - وكان قد سبق لها الالتقاء به سنة 1081 - فأعاد لها شبابها في قصة رومانسية غريبة وتاريخية.


اليهود في فرنسا

بدأ انعتاق اليهود الأوروبيين أول ما بدأ في فرنسا لأنها كانت رائدة في تحرير العقول ولأن حركة التنوير قد عوّدت نسبة كبيرة من الراشدين على تفسير التاريخ تفسيراً غير ديني (تفسيراً علمانياً Secular). والبحوث المتعلقة بالكتاب المقدس تظهر المسيح (عليه السلام) كداعية محبوب مؤمن باليهودية لكن الفريسيِّين هم الذين عادوْه. والأناجيل نفسها تظهر آلاف اليهود يستمعون إليه بسرور وأن الآلاف منهم قد استقبلوه بترحاب عند دخول القدس. فكيف إذن يُعاقب شعب كامل عبر آلاف السنين لجريمة حَبْر كبير وحِفْنة مختلطة من الناس طالبوا بموته؟ لقد بقيت عداوات وخصومات اقتصادية غذّت قلقاً طبيعياً وخوفاً مرتقباً في وجود أحاديث غريبة وأزياء أو ملابس غير مألوفة، بل لقد انهار هذا الاتجاه المناهض لليهودية فلويس السادس عشر لم يواجه مقاومة شعبية في ازاحته الضرائب التي كانت تثقل كاهل اليهود على نحو خاص، وميرابو في مقاله الذي زاوج فيه بين المنطق والأسلوب اللاذع قد دعا إلى انعتاق اليهود انعتاقاً كاملا (7871) وفاز الراهب الفرنسي جريجوار Abbe Gregoire بجائزة من الجمعية الملكية للعلوم والآداب في ميتز Metz في سنة 9871 لمبحثه الذي حمل عنوان البعث اليهودي المادي والأخلاق والسياسي. وبدا أن النتيجة المنطقية الوحيدة لإعلان حقوق الإنسان قد تحققت عندما مدّت الجمعية التأسيسية في 72 سبتمبر سنة 1971 مظلة الحقوق المدنية كاملة لتشمل كل يهود فرنسا. وأعطت جيوش الثورة الحرية السياسية ليهود هولندا في سنة 6971 ويهود البندقية (فينيسيا) سنة 7971 ويهود مينز Mainz في سنة 8971 وسرعان ما أقرت المدوّنة القانونية النابليونية ذلك بشكل تلقائي وجرى تطبيقها في كل المناطق التي فتحها نابليون.

وقد تعامل نابليون نفسه مع القضية بالروح المعتادة للجندي الذي يحتقر التجّار، فعندما توقف في ستراسبورج في يناير سنة 6081 أثناء عودته بعد خوضه معركة أوسترليتز Austerlitz تلقى طلبات لمساعدة فلاحي الإلزاس وإقالتهم من عثراتهم المالية، لأنهم بعد أن تحرروا فجأة من عبوديتهم للاقطاع وجدوا أنفسهم بلا وظائف أو أرض يحصلون منها على مصدر لرزقهم. وكانوا قد طلبوا من رجال البنوك المحليين - وكان معظمهم من اليهود الألمان - أن يُقرضوهم المبالغ المالية التي يحتاجونها لشراء أكرات Acres (أفدنة) وأدوات وبذور ليرسّخوا أوضاعهم كفلاحين ملاّك، وقد قدّم اليهود من أصحاب البنوك هذه المبالغ لكن بفائدة تصل إلى 61% وقد اعتبر المقرِضون (بضم الميم وكسر الراء) أن هذا عدلاً نظراً للمخاطرة التي تنطوي عليها عملية الإقراض (ملحوظة: المقترضون في أميركا الآن يدفعون النسبة نفسها) والآن فإن بعض الفلاحين لم يستطيعوا الوفاء بدفع هذه النسبة ولم يستطيعوا تخصيص جزء من عوائدهم ليستنزلوا تدريجياً ما عليهم من ديون. وعلم نابليون أنّه إذا لم يتدخّل في الأمر تعرّض فلاحون كثيرون لضياع أراضيهم، وحُذِّر نابليون من أن كل مسيحيي الألزاس ساخطون بشدّة بسبب هذا الوضع وأنهم على وشك القيام بهجوم على اليهود.

وعندما وصل نابليون إلى باريس تداول الأمر مع مستشاريه فنصحه بعضهم باتخاذ إجراءات عنيفة، وذكر بعضهم الآخر أن يهود مرسيليا وبوردو وميلان وأمستردام كانوا يعيشون في سلام واحترام في مجتمعاتهم ولا يجب معاقتبهم في ظل أي إلغاء للحقوق التي يتمتعون بها في المناطق التي تحكمها فرنسا. ووقف نابليون موقفاً وسطا (موقفاً توفيقياً) فحكم ألاّ يجمع الدائنون اليهود أية مبالغ يطالبون دائينهم بها في ولايات (محافظات) بعينها قبل مرور عام(66). لكنه في الوقت نفسه (03 مايو 6081) دعا أولي الشأن من اليهود في مختلف أنحاء فرنسا للاجتماع في باريس للتباحث في أمور العلاقات بين المسيحيين واليهود وليقترح توزيع اليهود على فرنسا (بمعنى عدم تمركزهم في مكان واحد) وتوزيعهم أيضاً على المهن والوظائف المختلفة (بمعنى عدم استئثارهم بمهنة بعينها). وكان على مديري الشرطة الفرنسية في الدوائر المختلفة (المحافظات) أن يختاروا هؤلاء اليهود المهمين الذين سيجتمعون في باريس، فكان اختيارهم بشكل عام موفقاً(76).

فتجمع اليهود من الرابيين (الحاخامات) وغيرهم في باريس في يوليو سنة 6081 وحظوا باحترام كبير وبلغ عدد المجتمعين منهم 111 وقدم لهم المجلس البلدي قاعة يتداولون فيها. وقدّم نابليون - أو مستشاروه - للمجتمعين بعض الأسئلة يود الإمبراطور معرفة إجابتها: هل يُقر اليهود تعدّد الزوجات؟ أيسمحون بالتزاوج بين اليهود والمسيحيين؟ أيزعم الرابيون (الحاخامات) الحق في إبرام الطلاق بعيداً عن السلطان المدنية؟ أيعتبر اليهود الرّبا شرعيا Lawful؟. وصاغ الرابيون إجابات عملوا على أن تكون مدعاة لسرور نابليون تعدد الزوجات ممنوع في المجتمعات اليهودية. ولا يُسمح بالطلاق إلاّ إذا أقرّته المحاكم المدينة، والتزاوج بين اليهود والمسيحيين مسموح به، والربا معارض للشريعة الموسوية(86). فأرسل نابليون الكونت لويس مولي Louis Mole ليعبّر لهم عن رضاه. والكونت لويس مولي الذي كان معارضاً لليهود قبل ذلك أصبح الآن يخاطبهم ببلاغة تلقائية قائلا: من الذي لا تعتريه الدهشة لرؤية هذا الجمع من الرجال المتنورين الذين تم اختيارهم من سلالة أقدم الأمم؟ أنه إذا بُعِث للحياة شخص ممن عاشوا في القرون الخوالي وشاهد هذا المنظر، ألا يظن أنه قد انتقل إلى داخل أسوار المدينة المقدسة؟(96) وعلى أية حالة، فقد أضاف قائلاً إن الإمبراطور يضفي على المبادئ الغالبة على هذا الاجتماع مزيداً من المصداقية واليقين ويقترح ضرورة دعوة هؤلاء اليهود من أولي الشأن للحضور إلى باريس فيما بعد لهذا الغرض ولأغراض أخرى وأن هذا الاجتماع الرابي (الحاخامي) الأعلى (السنهدريم العظيم) الذي لم ينعقد بعد تشتت اليهود عقب دمار الهيكل منذ سنة 66 قبل الميلاد. وكان الرابيون سعداء وأبدوا رغبتهم في التعاون. وفي السادس من أكتوبر أرسلوا إلى كل المعابد اليهودية الأساسية في أوروبا دعوة الإمبراطور لانتخاب مندوبين يهود لحضور السنهدريم (الاجتماع اليهودي والسنهدريم مشتقة من الكلمة اليونانية سينيدريون Synedrion) لدراسة وسائل تخفيف الصعوبات الناشئة بين المسيحيين واليهود ولتسهيل تمتع اليهود الفرنسيين بكل الحقوق والمزايا في الحضارة الفرنسية. وأرفق هؤلاء اليهود ذوو الشأن دعوتهم بإعلان سعيد ينم عن الفخر:

إن حدثاً عظيماً على وشك أن يصبح أمراً واقعاً. حدث لم يتوقعه آباؤنا طوال قرون متوالية، بل لم نكن نتوقعه نحن في أيامنا هذه. إن العشرين من أكتوبر قد أصبح هو اليوم المقرر لافتتاح السنهدريم الكبير (الاجتماع اليهودي) في عاصمة أحدى أقوى الأمم المسيحية وبحماية مليكها الخالد. إن باريس ستُظهر للعالم مشهداً جديراً بالملاحظة، وإن هذا الحديث التاريخي (السنهدريم) سيفتح للبقايا المشتتة من سلالة إبراهيم عصراً من التحرر والرخاء(07).

ولم يستطع السنهدريم الكبير (الاجتماع اليهودي) أن يستمر وفقاً لهذه التوقّعات الحماسيّة، فبعد إرسال هذه الدعوات بثمانية أيام حارب نابليون وجنوده البروس في يينا (جينا Jena)، وظل طوال هذا الخريف في ألمانيا أو بولندا ويقطّع أوصال بروسيا وينشئ دوقية وارسو (فيرسافا) الكبيرة، ويعزف على أوتار السياسية أو الحرب، وظل طوال الشتاء في بولندا يعيد تنظيم جيشه ويحارب الروس ليتعادل معهم في إيلاو Eylau ويهزمهم في فريدلاند Friedland ويعقد سلاماً مع القيصر اسكندر في تيلست (7081) ولم يعد لديه وقت للسنهدريم الكبير إلاّ بشق النفس. واجتمع السنهدريم الكبير في 9 فبراير سنة 7081. وتباحث فيه 54 من الرابين (الحاخامات) و 62 من اليهود العاديين (غير ذوي المراتب الدينية) واستمعوا إلى الخطب وأقرّوا الإجابات التي قدّمها اخوانهم من ذوي الشأن (في اجتماعهم السابق) لنابليون. وخلصوا بإصدار توصيات لليهود: أن ينهوا عداوتهم للمسيحيين، وأن يحبوا البلاد التي يقيمون فيها باعتبارها أصبحت الآن بلادهم وأن يقبلوا الخدمة العسكرية للدفاع عنها وأن يتجنبوا الربا وأن ينخطروا أكثر فأكثر في أعمال الزراعة والحرف والفنون. وفي مارس أرسل السهندريم تقريره إلى نابليون البعيد عن فرنسا، فتم إرجاؤه.

وفي 81 مارس سنة 8081 أي بعد حوالي عام أصدر نابليون قراراته النهائية التي قضت بإقرار الحرية الدينية لليهود وإقرار حقوقهم السياسية في كل أنحاء فرنسا ما عدا في منطقتي الإلزاس واللورين، ففيهما وُضِعت - طوال العشر أعوام التالية - فيود على رجال البنوك لتقليل عدد المفلسين ولتخفيف العداواة العرقية، وتم إلغاء ديون النساء والقُصَّر والجنود، وخوّلت المحاكم في إلغاء أو تخفيض الديون المتأخّرة التي قوامها الفوائد بالإضافة إلى فترة سماح (تأخير مواعيد السداد)، ولم يكن مسموحاً لأي يهودي بالعمل في التجارة قبل الحصول على إذن من مدير الشرطة ومُنع مزيد من هجرة اليهود إلى الإلزاس(17) وفي سنة 0181 أضاف الإمبراطور طلباً آخر وهو ضرورة أن يُصبح لكل يهودي اسم أسرة Family name لأنه كان يأمل في أن يساعد هذا على تسهيل الاندماج العرقي.

وكان هذا غير ملزم من الناحية القانونية ولكن لابد من التماس بعض العذر لحاكم أصرّ على السيطرة على كل شيء ومن ثم وجد نفسه مراراً غارقاً في المشاكل والتفاصيل. وشعر يهود الإلزاس بأنهم أُضيروا بهذه التنظيمات الإمبراطورية ولم يكونوا على حق في ذلك، لكن معظم الجماعات اليهودية في فرنسا وفي غيرها قبلت هذه التنظيمات كمحاولة معقولة لتلطيف الوضع المتفجرّ(27). وفي هذه الأثناء، أعلن نابليون من خلال الدستور الذي وضعه لوستفاليا Westphalia أن كل يهود هذه المملكة الجديدة لابد أن ينعموا بكل حقوق المواطنة مثلهم في ذلك مثل أي مواطن من مواطنيها(37). ومرّة الأزمة في فرنسا بسلام وأصبح لليهود دور مثمر وخلاق في آداب فرنسا وعلومها وفلسفتها وموسيقاها وفنونها.