قصة الحضارة - ول ديورانت - م 11 ك 1 ف 6
صفحة رقم : 14566
قصة الحضارة -> عصر نابليون -> الثورة الفرنسية -> الحياة في ظل الثورة -> الطبقات الجديدة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل السادس: الحَياة في ظلّ الثورة 1798- 1799
1- الطبقات الجديدة
هنا نوقف الزمن (نتوقف عن سرد الوقائع التاريخية المتتابعة سراعاً) لننظر إلى شعب يعاني من كثافة التجارب التاريخية التي مرت به. فالست والعشرون سنة الكائنة بين سقوط الباستيل، حتى تنازل نابليون نهائيا (9871 - 5181) كانت حافلة بالأحداث التي لا تنسى، مثلها في ذلك مثل العشرين سنة الكائنة بين عبور قيصر للربيكون Rubicon ووصول أغسطس Augustus للسلطة (94-92 ق.م). لقد كانت هذه الفترة التي مر بها الشعب الفرنسي حافلة بالأحداث الخصبة فإنها أحداث تكفي لتشغل قرونا قد تشتمل على وقائع أقل تشنجا وتحولا. ومع ذلك فقد واصلت الحضارة مسيرتها رغم العقبات، ففي ظل حكومات مرتعشة غير ثابتة الأيدى ظلت المؤسسات وزاد عددها ومجدت العبقرية وتواصلت عناصر الحضارة وفضائلها: إنتاج الطعام والبضائع وتوزيعهما، والعمل على الوصول إلى المعرفة ونقلها، ورعاية المواهب والشخصية، وتبادل التأثير والتأثر، وتلطيف حدة الكدح من أجل الحياة، والنضال من أجل الارتقاء بالفنون والآداب والأعمال الخيرية والألعاب الرياضية والأغاني، وإحداث تحولات في الخيال والعقائد والآمال. حقيقة ألم يكن ذلك هو جوهر التاريخ واستمراره، إذا قورن بهياج الحكومات السطحي وفوران الأبطال؟! فهذه الظواهر الأخيرة إن هي إلاّ عرضية سريعة الزوال، لا تمثل جوهر الحلم .
الفلاحون
كان كثيرون منهم في سنة 9871 لا يزالون إما عمال يومية (عمال مياومة يتلقى الواحد منهم أجرا عن عمل أداه في أثناء اليوم) أو يعملون في الأرض لقاء المشاركة في المحصول(نظام المزارعة)، وكانوا يعملون في أراضٍ يمتلكها الآخرون، لكن ما أن حل عام 3971 إلا وكان الفلاحون يمتلكون نصف الأراضي الزراعية في فرنسا، إذ كان معظمهم قد اشترى أكراتهم (فدادينهم Acres ) بأسعار خفضت للمساومة bargain price من ممتلكات الكنيسة التي صادرتها الثورة. وتحرر معظم الفلاحين إلا قليلا منهم من الرسوم الإقطاعية. فدوافع الملكية حولت العمل من كونه جهدا شاقا وكدحاً مرهقا إلى نوع من العبادة أو الحب الشديد، إذ أدى ذلك كل يوم إلى زيادة الفائض الذي يتحول إلى بناء المنازل وأماكن الاستجمام والكنائس والمدارس، وهذا يحدث فقط إذا تم التحايل على جامع الضرائب أو تضليله أو استرضائه. وكان يمكن دفع الضرائب بالأسينات assignats (العملة النقدية الورقية الحكومية) على وفق قيمتها الاسمية (المكتوبة عليها) بينما كانت المنتجات تباع بأسينات مضاعفة مائة مرة حتى يضمن البائع أن المبلغ الذي باع به أصبح يسا وي قيمة ما باعه. ولم يحدث أبدا أن كانت زراعة الأرض الفرنسية تتم في أي وقت مضى بمثل هذا الحماس وهذه الطريقة المثمرة، وكان تحرير أكبر الطبقات في مجتمع أصبح الآن بلا طبقات هو أهم نتائج الثورة وأكثر ديمومة وأشدها وضوحا. فهؤلاء الممولون الأشداء أصبحوا أقوى المدافعين عن الثورة لأنها أعطتهم الأرض التي سيأخذها منهم البوربون إن هم عادوا ملوكا لفرنسا. وللسبب نفسه أيد الفلاحون نابليون وقدموا طوال خمسة عشر عاماً نصف ابنائهم. وباعتبارهم (أي الفلاحين) ملاكا - وكان هذا مدعاة لفخرهم - فقد صنفوا أنفسهم سياسيا مع البورجوازية، وعملوا خلال القرن التاسع عشر كثقل محافظ يحفظ توازن الدولة التي كانت تعتريها نوبات تغيير مفاجىء.
وليضمن المؤتمر الوطني (3971) المساواة في الحقوق، منع نظام البكورة في الميراث (حق الابن الأكبر في أن يرث الميراث كله) وأصدر أوامره بأن يوصى للأبناء بأسهم متساوية بمن في ذلك الأبناء غير الشرعيين(المولودين خارج نطاق الزوجية) إذا اعترف الأب ببنوتهم له. وكان لهذا التشريع نتائج مهمة على المستويين الأخلاقي (المعنوي) والاقتصادي: وقد عارضه معارضون لأن هذا النظام الجديد يفضي بالورثة إلى الفقر نتيجة تقسيم الميراث على التوالي بين أبناء كثيرين، لذا فقد رسخ الفرنسيون وسائل تحديد النسل القديمة. لقد ظل الفلاحون مزدهري الأحوال لكن عدد سكان فرنسا راح ينمو ببطء خلال القرن التاسع عشر إذ ارتفع من 82 مليون نفس سنة 0081 إلى 93 مليون نفس في سنة 4191، بينما ارتفع سكان ألمانيا في الفترة نفسها من 12 مليوناً إلى 76 مليوناً(1). ونظراً لخصوبة الأرض ووفرة ثمرها تباطأ الفلاحون الفرنسيون في الانتقال والحركة إلى المدن والمصانع، لذا بقيت فرنسا دولة زراعية في الأساس، بينما تطورت إنجلترا وألمانيا صناعيا وتكنولوجيا، فأدى هذا لتفوقها في الحرب وسادت أوربا .
البروليتاريا
ظل الفقر شديد الوطأة بين الفلاحين الذين لا يمتلكون أراضي، والمشتغلين في المناجم والعمال والحرفيين في المدن. لقد راح الرجال يحفرون الأرض لاستخراج المعادن اللازمة للصناعة والحرب، فقد كان الملح الصخري (نترات البوتاسيوم أو الصوديوم) لازما لصناعة البارود، وزاد استخدام الفحم ليحل محل الأخشاب كمولد للطاقة المحركة. وكانت المدن متألقة مفعمة بالحيوية نهارا مظلمة هامدة بالليل حتى سنة 3971 عندما أخذت الكومونات على عاتقها إضاءة شوارع باريس، وواصل الحرفيون العمل ليلا في محالهم المضاءة بالشموع وراح البائعون الجوالون ينادون على بضائعهم ليلا في مركز السوق المفتوح، وكان في الضواحي مصنع أو مصنعان.
وفي سنة 1971 ألغيت روابط الطوائف المهنية Guilds وأعلنت الجمعية الوطنية أنه من الآن فصاعدا لكل فرد الحق في ممارسة العمل الذي يختاره والمهنة التي يرتضيها والفن أو التجارة التي يبغيها"(2). ومنع قانون منع التكتلات Law of le Chapel (الصادر في سنة 1971) العمال من الانضمام إلى تكتلات اقتصادية، وظل هذا المنع ساريا حتى سنة 4881، وكانت الإضرابات ممنوعة لكنها حدثت لفترات متواصلة أحيانا(3)، وبشكل متقطع أحيانا أخرى. وناضل العمال حتى لا يأكل التضخم أجورهم، وعلى كل حال، وبشكل عام، استطاعوا الحفاظ على أجور لا يقلل ارتفاع الأسعار من جدواها(4). وبعد سقوط روبيسبير أحكم أصحاب الأعمال قبضتهم وساءت أحوال البروليتاريا. وبحلول عام 5971 أصبح العوام من السانس كولوت طبقة فقيرة ومطحونة كما كان حالها قبل الثورة. وبحلول عام 9971 فقدت هذه الطبقة إيمانها بالثورة، وفي سنة 0081 رحبوا بدكتاتورية نابليون عاقدين عليها الآمال .
البورجوازية
حققت البورجوازية نصراً من خلال الثورة لأنها كانت أغنى بالأموال والعقول من الأرستقراطية أو العوام Plebs . لقد اشتروا من الدولة من خلال صفقات معظمها رابح ممتلكات الكنيسة المصادرة، ولم تكن ثروة البورجوازية مرتبطة بالأرض التي لا يمكن نقلها (الممتلكات الثابتة) وإنما كان يمكنهم نقل ثرواتهم من مكان إلى مكان، وتشغيلها في أي مجال ولأي غرض، كما كان يمكنهم تداولها والانتقال بها من ظل قانون (تشريع) إلى ظل قوانين أخرى. وكان يمكن للبورجوازية أن يدفعوا للجنود والحكومات وللجماعات المشاركة في أي عصيان مسلح. وحصلت هذه الطبقة خبرة في إدارة الدولة فكان أفرادها يعلمون كيف يجمعون الضرائب وأثروا في خزانة الدولة من خلال ما أقرضوه لها، وكان أفراد البورجوازية أكثر تحصيلا للتعليم ذي المردود العملي، من النبلاء ورجال الدين، وكانوا أكثر كفاءة في حكم مجتمع، المال هو دورته الدموية، وكانوا يعتبرون الفقر عقاباً للأغبياء، وأن ثراءهم ما هو إلا مكافأة عادلة لعملهم وذكائهم، ولم يشاركوا في حكومة العامة من السانس كولوت، واعتبروا تدخل البروليتاريا في أمور الحكم شيئا لا يطاق ويؤدي إلى اضطراب الحكومة. وانتهوا إلى نتيجة مؤداها أنه عندما يهمد صوت الثورة وعنفها، سيصبح البورجوازية هم سادة الدولة.
وكانت البورجوازية في فرنسا بورجوازية تجارية أكثر منها صناعية، ولم تشهد فرنسا تحول بعض مزارعها إلى مراع كما كان يحدث وقتها في إنجلترا، مما أدى إلى نزوح الفلاحين الإنجليز من حقولهم إلى المدن مكونين طاقة عاملة رخيصة في المصانع، كما أن الحصار الذي فرضته بريطانيا على فرنسا منعها من تصدير منتجاتها، ذلك التصدير الذي يؤازر التوسع الصناعي. ومن هنا فإن نظم الصناعة كانت تتطور في فرنسا بشكل أبطأ مما عليه الحال في إنجلترا. لقد كان هناك بعض التنظيمات الرأسمالية الكبيرة في باريس وليون وليل Lille وتولوز Toulouse ......، لكن الصناعة الفرنسية في معظمها كانت لا تزال في المرحلة "الحرفية" وكانت لا تزال في محلات (دكاكين)، بل إن الرأسماليين (الفرنسيين) قد أوكلوا كثيرا من الأعمال اليدوية على أسر تعمل في مساكنها الريفية أو غيرها. وباستثناء الفورات الفاشستية زمن الحرب، وتعاطف اليعاقبة شيئا ما مع الاشتراكية، فإن الحكومة الثورية قد قبلت نظرية الفيزيوقراط في الاقتصاد الحر باعتبار ذلك نظاما اقتصاديا يحفز على العمل ويزيد الإنتاج. وخففت معاهدات السلام مع بروسيا في سنة 5971 ومع النمسا في سنة 7971، من العوائق الاقتصادية، ودخلت الرأسمالية الفرنسية كالرأسمالية الإنجليزية والأمريكيـة، القـرن التاسـع عشـر بتبريكـات الحكومـة التـي تمـارس عليها حدا أدنى من الحكم.
الأرستقراطية
فقدت الارستقراطية سلطانها كله في تو جيه الاقتصاد والحكم. فقد كان معظم الأرستقراطيين ما زالوا خارج فرنسا (مهاجرين منها) يعيشون عيشة مذلة، فقد صودرت أملاكهم في فرنسا وتوقف دخلهم. وكان منهم النبلاء الذين بقي بعضهم في فرنسا، وعاد بعضهم الآخر من مهجره، وقد قصت المقصلة رقاب كثيرين منهم وانضم بعضهم للثورة، وظل الباقون حتى سنة 4971 مختبئين بشكل غامض وكانت السلطات تزعجهم بتكرار الإغارة على عقاراتهم. وفي ظل حكومة الإدارة قلت المعوقات فعاد كثيرون من هؤلاء المهاجرين واستعاد بعضهم جزءاً من ممتلكاته، وفي سنة 7971 راحت أصوات كثيرة تهمس بأن الملكية وحدها تدعمها (أو تراجعها) أرستقراطية نشيطة هي وحدها التي يمكن أن تعيد النظام والأمان للحياة الفرنسية، واتفق نابليون معهم لكن على وفق طريقته وتمشيا مع مقتضيات زمنه .
الديـــن
عرف الدين في فرنسا كيف يشق طريقه دون عونٍ من الدولة، بعد أن اقتربت الثورة من التخلص منه. وتحرر البروتستانت الذين كانوا يشكلون 5% من السكان من المعوقات التي اعترضت سبيل عقيدتهم، فحقهم في العبادة الذي أقرهم على قليل منه لويس السادس عشر في سنة 7871 اصبح الآن حقا كاملا على وفق دستور سنة 1971، وامتدت الحقوق المدنية إلى يهود فرنسا ليصبحوا ذوي حقو ق قانونية مساوية للمواطنين الآخرين، على وفق مرسوم 82 سبتمبر سنة 1971 .
أما الإكليروس الكاثوليك الذين كانوا فيما مضى من الطبقة الأولى فقد أصبحوا الآن يعانون من عنف حكومة فولتيرية مناهضة للإكليروس. وفقدت الطبقات العليا معتقداتها (إيمانها) بالكنيسة، وحصلت الطبقة الوسطى على معظم أراضي الكنيسة وفي سنة 3971 بيعت ممتلكات الكنيسة لأعدائها، تلك الممتلكات التي قدرت قيمتها بمليونين ونصف مليون ليفر(5) Livres وفي إيطاليا جردت الباباوية من ولاياتها وعوائدها، وأصبح بيوس السادس Pius VI أسيرا، وفر آلاف الفرنسيين إلى البلاد الأخرى، وعاش كثيرون منهم على إحسان البروتستانت(6) وأغلقت مئات الكنائس أو صودرت أموالها وتحفها، وصمتت أجراس الكنائس أو راحت تدق على ا ستحياء. لقد كسب فولتير وديدرو Diderot ، وهليفيتيوس Helvétius ودلباش d`lldbach معركتهم مع الكنيسة فيما يظهر .
لكن هذا النصر لم يكن واضحا. حقيقة لقد فقدت الكنيسة ثرواتها وسلطانها السياسي لكن جذورها الحية ظلت متمثلة في الولاء للإكليروس وفي حاجات الناس وآما لهم، فكثيرون من الرجال في المدن الكبيرة ممن كانوا قد شردوا بعيدا عن معتقداتهم أصبحوا جميعا تقريبا من رواد الكنائس في عيدي الكريسماس والفصح، وفـي ذروة أحداث الثورة (مايو 3971) كان أهل باريس (على وفق رؤية شاهد عيان) رجالا ونساء وأطفالا يخرون على ركبهم توقيراً واحتراما عندما يمر القس حاملا خبز القربان المقدس في شوارع باريس(7) بل وحتى المتشككون لا بد أنهم شعروا بالتأثير "المغناطيسي" للشعائر الدينية، وما توحيه من جمال لا يذوي، ولابد أنهم تأملوا ما كتبه بسكال في الرهان Wager " من أنه من الحكمة أن يكون المرء مؤمناً، ففي خاتمة المطاف لن يفقد المؤمن شيئا، بينما يفقد غير المؤمن كل شىء إن ثبت خطؤه (أو بتعبير آخر: المصدق لن يفقد شيئا والمكذب سيفقد كل شىء إن ثبت خطؤه).
وفي ظل حكومة الإدارة انقسمت الأمة الفرنسية إلى قسمين: شعب عاد ببطء إلى العقيدة التقليديه، وحكومة عمدت إلى تأسيس مجتمع علماني خالص اعتمادا على القانون والتعليم، ففي 8 أكتوبر 8971 أرسلت حكومة الإدارة الجديدة (بعد طرد الأعضاء غير المرغوب فيهم منها) لكل المعلمين في مدارس الدوائر (المحافظات) التعليمات التالية :
"يجب أن تحذفوا من مقرراتكم الدراسية كل مايتعلق بعقائد أي دين وشعائره (أو طقوسه) من أي مذهب كان. إن الدستور يكفل حرية العبادة، لكن تدريسها ليس جزءاً من المقررات الدراسية العامة (الحكومية Public ) ولا يمكن أن تكون أبدا مجالاً للتدريس. لقد قام الدستور على قاعدة الأخلاق العامة (غير المر تبطة بدين) وهي أخلاق (مبادىء أخلاقية) صالحة لكل زمان وكل مكان وكل الأديان فهذا القانون (الأخلاقي) محفور في ألواح الأسرة البشرية - إنها - أي هذه الأخلاق الصالحة لكل زمان ومكان ودين - هي ما يجب أن تكون روح دروسكم وهدف وصاياكم والرابط بين مجالات الموضوعات التي تدرسونها كما أنها الرباط الذي يربط بين أفراد المجتمع"(8).
وهنا نجد هذا المبدأ الذي جرى النص عليه بوضوح كان واحدا من أكثر مشروعات الثورة صعوبة، فتلك قضية من أصعب قضايا عصرنا: أن تبني نظاما اجتماعيا اعتمادا على نظام أخلاقي قائم على عقيدة دينية. وقد اعتبر نابليون ذلك اقتراحا غير عملي، وكان على أمريكا أن تلتصق به حتى عصرنا هذا.
التعليم
تولت الدولة الإشراف على التعليم بدلاً من الكنيسة، وعمدت الدولة إلى أن تجعل من هذه المدارس مراكز تربوية لتنمية الذكاء وتعميق الأخلاق، وترسيخ الوطنية. وفي 12 أبريل سنة 2971 قدم كوندرسيه Condorcet مسئول التعليم العام للجمعية التشريعية تقريرا تاريخيا داعيا إلى إعادة تنظيم التعليم حتى يحدث "التقدّم الدائم المستمر في مجال التنوير مما قد يفتح موارد لا نهاية لها لسد احتياجاتنا ومداواة عللنا ولتحقيق السعادة للفرد والرخاء للجميع"(9). وقد عوّقت الحرب تحقيق هذا التصور المثالي، لكن في 4 مايو سنة 3971 جدد كوندرسيه عرضه لكن على أساس أضيق مما سبق. لقد قال: "البلاد (فرنسا) لها حق تربية أبنائها وتنشئتهم، ولا يمكن أن نعهد بهذه المهمة إلى طموح الأسرة، ولا إلى أفراد مفسدين... فالتعليم لا بد أن يكون مباحاً للفرنسيين كلهم وعلى قدم المساواة..... إننا نعول عليه كثيرا ليكون متمشيا مع طبيعة حكومتنا ومبادىء جمهوريتنا الراقية"(01) وهذه الصياغة كما هو واضح تحل عقيدة محل أخرى - الوطني بدلاً من الكاثوليكي -، وتبشر "بالوطنية" كدين رسمي. وفي 82 أكتوبر سنة 3971 أصدر المؤتمر الوطني مرسوما بمنع تعيين أي إكليريكي مدرساً في مدارس الحكومة، وفي 91 ديسمبر صدر بيان بجعل التعليم الابتدائي مجانيا وإلزاميا للأولاد كلهم. أما البنات فكان من المتوقع أن تعلمهن أمهاتهن أو يتلقون التعليم في الأديرة أو على يد معلمين خصوصيين.
وكان من الضروري إرجاء تنظيم المدارس الثانوية إلى ما بعد الحرب، وعلى هذا ففي 22 فبراير سنة 4971 بدأ المؤتمر الوطني في تأسيس "المدارس المركزية Ecoles Centrals " التي أصبحت هي مدارس المحافظات أو الدوائر Lycees الثانوية. وتم افتتاح مدارس خصوصية Special للتعدين والأشغال العامة والفلك والموسيقا والفنون والحرف، وفي 82 سبتمبر سنة 4971 بدأت مدرسة البوليتقنية E`cole Polytechnique التدريس في مجالها المميز. وتم إغلاق الأكاديمية الفرنسية في 8 أغسطس سنة 3971 باعتبارها مركزا للمعارضين القدماء، لكن في 52 أكتوبر سنة 5971 دشن المؤتمر الوطني أكاديمية أخرى هي المعهد القومي الفرنسي الذي ضم أكاديميين مختلفين لتشجيع كل العلوم والفنون، وتجمع في هذا المعهد العلماء والباحثون الذين أخذوا على عاتقهم إنجاز التراث الفكري التنويري، وهم الذين أعطوا حملة نابليون على مصر أهمية دائمة (بفضل إنجازاتهم العلمية).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
السلطة الرابعة
الصحفيون والصحافة: قد يكون لها أهمية تفوق المدارس من حيث تأثيرها في تشكيل عقل فرنسا وحالتها النفسية في هذه السنوات المفعمة هياجاً. فأهل باريس وعلى نحو أقل أهــل فرنســا عامة كانوا يلتهمون ورق الصحف التهاما بشغف شديد (المقصود يقرأونه برغبة عارمة) كل يــوم. لقد ازدهرت صحف الشباب (صحف الهجاء أو الفضائح) التي راحت تجرح السياسيين والعلماء وتقلل من أقدارهم أمام العامة. وقد التزمت الثورة في (إعلان حقوق الإنسان) بالمحافظة على حرية الصحافة، وقد جرى تنفيذ ذلك خلال فترة حكم الجمعية الوطنية فالتأسيسية (9871 - 1971) لكن نتيجة اشتداد حدة النزاع بين الفرقاء عمد كل جانب إلى التقليل مــن عــدد منشــورات أعدائه، لكن الواقع أن حرية الصحافة قد ماتت بإعدام الملك (12 يناير 3971)، وفي 81 مارس أصدر المؤتمر الوطني قرارا بإعدام كل "من يقترح قوانين بتقسيم الأراضي وتوزيعهــا أو أية قوانين تؤدي إلى تدميــر الملكية الخاصة أو التجارية أو الصناعية" وفي 92 مارس حــث قتلة الملك والمؤيدون لقتله المؤتمر الوطني على إصدار قرار بإعدام كل من "يدان بطبع أو كتابة ما يحث على... إعادة الملكية أو إعادة أي سلطات أخرى في عودتها ضرر بسيادة الشعب"(11). ودافع روبيسبير طويلا عن حرية الصحافة، لكنه بعد أن أرسل إلى المقصلة كلا من هيبير Hébert ودانتون وديمولين Desuoulins وضع بإعدامهم حدا لظهور الصحف التي كانوا يدعمونها. وخلال فترة حكم الإرهاب اختفت حرية التعبير حتى في المؤتمر الوطني، وأعادت حكومة الإدارة حرية الصحافة في سنة 6971 لكنها ألغتها بعد ذلك بعام واحد بعد انقلاب 81 فروكتيدور ونفت محرري 24 جريدة(21). ولم يدمر نابليون حرية التعبير وحرية الصحافة لأنه عندما وصل إلى السلطة كانت مدمرة بالفعل(31).
2- الأخلاق الجديدة
الأخلاق والقانون
أما وقد تم استبعاد الدين أساساً للأخلاق (أي حب الرب المراقب العليم المكافىء المعاقب والخوف منه، وطاعة شريعته والتزام أو امره واجتناب نواهيه)، فإن الأرواح المتحررة في فرنسا وجدت نفسها بلا دفاع (إلا من خلال الأصداء الأخلاقية للعقائد التي هجرتها) ضد غرائزها الأقدم والأقوى والأشد فردية التي غرست وتأصلت بفعل قرون بدائية ساد فيها الجوع والجشع والصراع وانعدم فيها الأمان. لقد راح الفرنسيون يبحثون عن فكرة جديدة لتكون مرساة في بحر هائج، أفراده متمردون، لا يخشون إلا القوة (لا يذعنون إلا إذا كان هناك ما يخيفهم)، أما الأخلاق المسيحية فتركوها لزوجاتهم وبناتهم. لقد انعقدت آمالهم على أن تكون هذه الفكرة الجديدة (التي هي عوض عن القيم الدينية) في حقوق المواطنة وواجباتها Civisme (Citizenship) بمعنى قبول الواجبات التي تفرضها هذه المواطنة، وتحصيل المزايا الناتجة عن الانتماء إلى مجتمع منظم يحظى بالحماية، وفي مقابل هذه الحماية وكثير من الخدمات العامة (التي تقدم للجميع) لا بد أن يراعى الفرد في كل اختيار معنوي (أخلاقي) يقدم عليه مصالح المجتمع باعتبارها القانون الأعلى Salus Populi Suprema Lex . لقد كان ترسيخ " أخلاق طبيعية" محاولة نبيلة وقد اكتشف النواب الفلاسفة ميرابو Mirabeau وكوندرسيه Condorcet وفيرجنيو Vergniaud ورولان Roland وسان جوست St-Just وروبيسبير من خلال مراجعاتهم للقرون المسيحية الماضية أن التاريخ الكلاسي أو المرويات التاريخية للنماذج التي يبحثون عنها: فليونيداس Leonidas وإيبا مينونداس Epaminondas وأرستيدس Aristides والبروتسيون Brutuses وكاتوس Catos وسكيبيوس Scipios كل أولئك كانت "الوطنية" بالنسبة لهم إلزاما حاكما حتى إن الرجل قد يقتل استقامة منه وتمسكا بالخلق أبناءه أو والديه إذا اعتقد أن هذا ضروري لصالح الدولة.
لقد أصابت المجموعة الأولى من الثوار نجاحا معقولا مع هذه الأخلاقيات الجديدة. والمرحلة الثانية بدأت من 10 أغسطس سنة 1792: جمهور باريس الذي خلع لويس السادس عشر وزعم أن السلطة التي قد قامت بذلك مغفور لها (لها عذرها). وفي ظل الحكم القديم كانت بعض فضائل الأرستقراطية وبعض لمسات الإنسانيين التي بشر بها الفلاسفة والقديسون قد لطفت من ميل الناس الطبيعي للنهب والسلب وهجوم بعضهم على بعضهم الآخر، لكن - الآن - وجدنا أنه قد تبع هذا في موكب الموت، مذابح سبتمبر وإعدم الملك والملكة وانتشار حكم الإرهاب والمقصلة مما وصفته مدام رولان (التي كانت إحدى ضحايا الإرهاب): "ساحة إعدام موسعة مليئة بالأشلاء مثل الجلجثه"(41) وأصبح زعماء الثورة متربحين مستغلين ظروف الحرب وفرضوا على المناطق "المحررة" أن يدفعوا ثمنا لحقوق الإنسان، وقيل للجيوش الفرنسية أن تعيش في المناطق المفتوحة، وأصبحت كنوز الفن في المناطق المحررة أو المهزومة ملكا لفرنسا، وفي هذه الأثناء تآمر أعضاء المجلسين وضباط الجيش مع الموردين لخداع الحكومة والجنود. وفي ظل الاقتصاد الحر Laissez Faire economy عمد المنتجون والموزعون والمستهلكون إلى الخداع وراح كل طرف يخدع ا لطرف الآخر أو يعمد إلى التهرب من سقف الأسعار المسموح به (الحد الأقصى لسعر البضاعة المطروحة) أو الأجور، أو ممارسة الأعمال الأخرى المشابهة والتي تتسم بعدم الانضباط، وكل هذا بطبيعة الحال كان موجودا لآلاف السنين قبل الثورة، لكن في محاولة لضبط كل هذا بدت القيم الأخلاقية الجديدة- أخلاق المواطنة. أنها ليست بقوة تأثير الخوف من الآلهة. أو بتعبير آخر بدت فكرة التركيز على واجبات المواطن وحقوقه أنها ليست بنفس قوة "الخوف من الآلهة".
لقد زادت الثورة من عدم الأمان في الحياة، ومن عدم الاستقرار في القوانين، فكان أن عبر الناس عن توترهم الشديد بارتكاب الجرائم، كما راحوا يبحثون عن وسيلة يلهون بها أنفسهم فوجدوا طريق القمار، واستمرت المبارزات لكنها قلت عما كانت عليه قبل الثورة. وقد منع القمار بمراسيم صدرت سنة 1971 و2971 ومع هذا فقد تضاعفت بيوت القمار السرية Maisons de Jeu ففي سنة 4971 كان هناك ثلاثة آلاف محل قمار في باريس(51). وخلال فترة بحبوحة الطبقة العليا في سنوات حكومة الإدارة راح الرجال يراهنون بمبالغ ضخمة فخربت بيوت أسر كثيرة مع دوران العجلة (عجلة القمار) لكن في سنة 6971 دخلت حكومة الإدارة مجال القمار بإعادة "اللوترية الوطنية" أو "اليانصيب الوطني أي على مستوى الدولة". وفي التماس طالب حي (قسم) التوليري التابع لكومون باريس المؤتمر الوطني بإصدار قانون بمنع كل بيوت القمار والمواخير كلها (بيوت الدعارة) وساقت لذلك برهانا هو أنه "بلا أخلاق لا يمكن أن يكون هناك قانون أو نظام، وبدون أمان شخصي لن تكون حرية"(61).
لقد أقامت الحكومات الثورية نظاما قانونيا جديدا لشعب مستثار ومضطرب ، وتركت له الحبل على غاربه ، فانفلت من القيم الأخلاقية والضوابط القانونية كلها بعد انهيار المعتقد الديني وموت الملك. وكان فولتير في وقت سابق قد دعا إلى إعادة النظر في القوانين الفرنسية بشكل عام وجمع قوانين الولايات الفرنسية كلها، وعددها _ أي القوانين 063 مجموعة وضمها معا في خلاصة واحدة محكمة لتطبيقها على فرنسا كلها. ولم يستجب أحد لهذه الدعوة فقد كانت الثورة على أشدها، وكان لا بد لهذه الدعوة أن تنتظر نابليون لتحقيقها. وفي سنة 0871 قدمت أكاديمية شالون سير مارن Chalons sur Marne جائزة لأحسن مقال عن "أحسن طريقة لتخفيف حدة قانون العقوبات الفرنسي دون الإضرار بالأمن العام"(71).
واستجاب لويس السادس عشر بمنع التعذيب (0871) وأعلن عن عزمه بمراجعة القوانين الجنائية الفرنسية كلها وصياغتها في مدونة قانونية مقومة، وأكثر من هذا "سوف نبحث الوسائل كلها للتخفيف من حدة العقاب دون الإخلال بالنظام" وعارض القانونيّون المحافظون الذين كانوا وقتها يسيطرو ن على "برلمانات Parlements " باريس ومتيز Metz وبيسانسون Besancson الخطة، واضطر الملك للتخلي عنها اضطرارا. وعرضت المذكرات والعرائض التي تم تقديمها لمجلس طبقات الأمة في سنة 9871 عدة إصلاحات قانونية:
- المحاكمة لا بد أن تكون علنية. ضرورة أن يكون للمتهم محام أو مجموعة تقدم له المشورة القانونية.
- إلغاء المراسيم الملكية بالسجن دون محاكمة Lettres de Cachet . لابدّ من ترسيخ قواعد المحاكمة أمام محلفين. وفي يونيو أعلن الملك إبطال المراسيم الملكية بالسجن بلا محاكمة، وسرعان ما تبنت الجمعية التأسيسية هذه المطالب الإصلاحية وصاغتها قوانين، وأعيد نظام المحاكمة أمام محلفين الذي عرفته فرنسا في العصور الوسطى مرة أخرى. لقد أصبح المشرعون الآن محصنين ضد التأثيرات الإكليريكية (المسيحية) بما فيه الكفاية، وواعين لاحتياجات الأعمال (التجارية) ليعلنوا في 3 أكتوبر سنة 9871 (بعد قرون من وجود هذا الأمر على أرض الواقع< أن تحصيل فائدة ليس جريمة؟ Charging of interest was not a crime وصدر قانونان في سنة 4971 لتحرير العبيد في فرنسا ومستعمراتها، وإعطاء الزنوج حقوق المواطنين الفرنسيين. وعلى أساس أن "الدولة الحرَّة بمعنى الكلمة لا يمكن ان تسمح بأي نتوءات مفتعلة في صدرها" ومنعت قوانين مختلفة كل >الأخويات< (المقصود الجميعات أو التكتلات المكونة من جماعة ذات اتجاهات معينة تربط أعضاءها) والجمعيات العلمية والأدبية والتنظيمات الدينية وروابط الأشغال business (الجمعيات الحرفية أو المهنية). وكان أمراً مستغرباً تماما أن نوادي اليعاقبة تم استثناؤها من هذا الحظر بينما حُظرت اتحادات العمال. والواقع أن الثورة سرعان ما أحلت "الدولة كلية السلطة أو الدولة الشمولية Omnipotent State" محل الملكية.
والحقيقة أن تباين التشريعات القديمة، وإقرار قوانين جديدة وازدياد تعقد علاقات الأعمال كل هذا أدى إلى زيادة أعداد القانونيين زيادة كبيرة، فهم _ الآن قد حلوا محل الإكليروس كطبقة أولى. ومنذ حل "البرلمانات Parlements " لم يكونوا تابعين لتنظيم رسمي، لكن معرفتهم بكل ثغرات القانون، وبالإجراءات القانونية بكل حيلها، ووسائل التسويف فيها، قد أعطتهم قوة وجدت الدولة نفسها صعوبة في السيطرة عليها (مع أن الحكومة نفسها كانت تضم مجموعة من القانونيين) وبدأ المواطنون يحتجون على التسويف في ظل القانون (التسويف القانوني) وعلى حيل المحامين، وتكاليف التقاضي المرتفعة مما جعل - ويا للسخط - المواطنين حقيقة غير متساوين أمام المحاكم(81). وحاولت الجمعيات المتتالية خلال اختزال إجراءات التقاضي، والتقليل من حدة سلطان المحامين، وفي إجراء عنيف صدرت مراسيم بإبطال وظيفة الموثق العام (كاتب العدل) في 32 سبتمبر سنة 3971. وتم إلغاء مدارس القانون (51 سبتمبر 3971) وصدر مرسوم في 42 أكتوبر 3971 بإلغاء وظيفة الوكيل القانوني attorney at Law وإنما يقوم المتقاضون (المتخاصمون) بتفويض مندوبين عنهم ليمثلوهم أمام المحاكم بلا مقابل Mandatories "(91) وهذه الإجراءات غالباً ما كان يتم الالتفاف حولها وظلت مجرد قوانين في الكتب حتى أعاد نابليون نظام المحامين أو الوكلاء القانونيين attorneys في 18 مارس سنة 1800.
وقد أحرزت الثورة تقدما في إصلاح القوانين الجنائية فأصبحت الإجراءات أقرب إلى فهم العامة، فقد انتهت لفترة سرية الاستجوابات، والأخذ بشهادة أشخاص لا تذكر أسماؤهم، ولم يعد السجن وسيلة للتعذيب، فقد سمح لكثيرين من المساجين بإحضار الكتب والأثاث، وأن يدفعوا لشراء وجبات لهم من خارج السجن، وسمح للمساجين الذين سجنوا للاشتباه فيهم ولم يدانوا بعد بالتزاور معا وممارسة الألعاب الرياضية(02) أو على الأقل ممارسة العشق، وقد سمعنا عن بعض الأمور الدافئة كالتي حدثت بين السجينة جوزفين بوهارنيه والسجين الجنرال هوش Hoche والمؤتمر الوطني الذي نفذ في عهده مئات من أحكام الإعدام، أعلن في دورته الأخيرة (62 أكتوبر سنة 5971) أن "أحكام الإعدام ستمنع في أنحاء الجمهورية كلها بمجرد إعلان السلام".
وفي هذه الأثناء استطاعت الثورة أن تزعم أنها قد حسنت طريقة الإعدام Capital punishment وفي سنة 9871 اقترح الدكتور جوزيف إيجناس جليوتين Dr. Joseph Ignace Guillotin عضو مجلس طبقات الأمة إحلال الشّنّاق وحامل البلطة (منفذ حكم الإعدام باستخدام البلطه) بحيث تكون بلطته حادة النصل بحيث تفصل رأس المحكوم عليه بالإعدام عن جسده بسرعة فلا يتألم كثيراً قبل الموت. ولم تكن هذه الفكرة جديدة، فقد سبق استخدامها في إيطاليا وألمانيا منذ القرن الثالث عشر (12). وبعد بعض التجارب التي أجراها الطبيب بسكينته (مشرطه) على جثث الموتى، تـم نصب المقصلة (52 ابريل 2971) في ميدان الرملة Place de Gréve (الآن ميدان دار البلدية) ثم توالى نصبها في كل مكان، وتوالى تنفيذ أحكام الإعدام بها. وظلت مشاهدة المقصلة وهي تهوي على رقاب الضحايا تجذب اهتمام الجماهير، وكان بعضهم يبدو سعيدا بمن فيهم النساء والأطفال(22)، ولما تكرر المشهد كثيرا أصبح أمرا عاديا مألوفا لا يجذب الجماهير، فقد ذكر الناس المعاصرون لهذه الأحداث أن "عربات نقل السجناء المحكوم عليهم بالإعدام بالمقصلة، كانت تمر وهم يعملون في محلاتهم، فلا تؤثر فيهم ولا يكلفون أنفسهم حتى رفع رؤوسهم لمشاهدتها(32)" فالرؤوس المطأطِئة تبقى أكثر من الرؤوس المرفوعة.
الأخلاق الجنسية
بين عربات نقل المسجونين إلى المقصلة، وبين الخراب لم يتوقف العشق ولا توقفت الممارسات الجنسية. وكانت الثورة قد أهملت المستشفيات، لكن هناك وفي ميادين المعارك، وأحياء الفقراء كان الإحسان يخفف الألم والحزن، والصلاح يواجه الشر، والمشاعر الأبوية تفوق نزوع الأبناء إلى الاستقلال. وراح أبناء كثيرون يعجبون من عدم استطاعة آبائهم فهم طابعهم الثوري وطرائقهم الجديدة، وتخلى بعضهم بشدة عن الكوابح الأخلاقية القديمة وأصبحوا أبيقوريين غير مبالين(أي ميالين إلى المتع والملذات) فانتعش الاتصال الجنسي غير الشرعي وانتشرت الأمراض التناسلية، وتضاعف عدد اللقطاء، واستمر الانحراف. والكونت دوناتين ألفونس فرانسوا دى ساد (0471 - 4181) سليل أسرة عريقة بروفنسية، وارتقى فأصبح حاكما عاما لمحافظتي (دائرتي) بريس Bresse وبوجي Bugey وبدا قاصداً للعيش كمدير من مديري المحافظات (الأقاليم غير العاصمة) لكنه كان مولعا مهتاجا بالخيالات والرغبات الجنسية وراح يبحث عن فلسفة ليبرر بها هذا الولع. وبعد علاقة جنسية غير شرعية مع أربع فتيات حكم عليه بالموت في إيكس إن بروفنس Aix en Provence (2771) لجرائم " دس السم وممارسة اللواط"(42). لكنه هرب، وأعيد القبض عليه، فهرب مرة أخرى، وارتكب مزيدا من الأمور الشنيعة القبيحة، وفر إلى إيطاليا ثم عاد إلى فرنسا، وقبض عليه في باريس وسجن في فينسن Vincennes (8771-4871) وفي الباستيل وفي شارنتون Charenton (9871)، وأطلق سراحه سنة 0971 وأيد الثورة، وفي سنة 2971 أصبح سكرتيرا لحي (قسم) دي بك des Piques .
وخلال فترة حكم الإرهاب قبض عليه بناء على افتراض زائف وهو أنه أحد المهاجرين (المعادين للثورة) العائدين، وتم إطلاق سراحه بعد عام، لكن في سنة 1081 في ظل حكم نابليون تعرض للسجن بسبب نشره لقصة بعنوان جوستين Justin (1971) وجوليت Julltte (2971)، فقد تعرضت هاتان الروايتان لتجربة جنسية سوية وشاذة، وكان المؤلف يفضل الشاذة واستغل مهارته الأدبية في الدفاع عن هذا الشذوذ (العلاقات الجنسية غير الطبيعية أو السوية)، ودلل على أن كل الرغبات الجنسية طبيعية لا شذوذ فيها ولا بد من ممارستها والضمير مرتاح حتى لو تم تحصيل اللذة الجنسية بإحداث الألم، وبهذا المعنى الأخير حقق شهرته فأصبح خالدا بكل معنى الكلمة، وقد قضى سنوات حياته الأخيرة في سجون مختلفة وكتب مسرحيات جيدة ومات في مصحة للأمراض العقلية في شارينتون Charenton وفي أثناء الثورة رحنا نسمع عن الشذوذ الجنسي بين طلبة المدارس(52)، وربما كان لنا أن نسلم بانتشاره في السجون، فالمومسات والعاهرات كان عددهن كبيراً خاصة بالقرب من القصر الملكي وحدائق التوليري وفي شارع سان هيلير St. Hilaire وشارع الساحات الصغيرة (بيتيت شامب Petits Champs ) ، ويمكن أن يوجدوا أيضا في المسارح ودار الأوبرا بل وحتى في طرقات المجلس التشريعي و المؤتمر الوطني. وكانت النشرات توزع حاوية عناوين بيوت الدعارة والرسوم المطلوبة وكذلك أسماء النسوة وعناوينهن. وفي 42 أبريل أصدر حي (قسم) المعبد Temple أمرا: "الجمعية العامة... رغبة منها في إيقاف ما لايحصى من كوارث (سوء حظ) سببها تدهور الأخلاق العامة، وانزلاق النسوة للفسق وقلة احتشامهن،... بموجب هذا قامت بتعيين مأمورين أو مندوبين... الخ"(62).
وراحت أحياء (أقسام) أخرى تشن الحرب (على الفساد) فجرى تشكيل فرق من الخفر أو العسس، وتم القبض على بعض المستهترين. وأيد روبيسبير هذه الجهود، لكن بعد موته تراخت قبضة هؤ لاء المراقبين، فظهرت فتيات المتعة Filles مرة أخرى وازدهر حالهن في ظل حكومة الإدارة حتى أن النسوة ذوات الخبرات الجنسية الواسعة أصبحن زعيمات (سيدات مجتمع) ورائدات "المودة" (أي تقلدهن النسوة في لباسهن). وكان من الممكن مواجهة هذا الشر بتيسير الزواج المبكر، فلم يعد وجود قس مسألة ضرورية لإتمام الزواج بعد 02 سبتمبر 2971، فالزواج المدني كان كافيا من الناحية القانونية، وهذا لا يتطلب سوى موافقة الطرفين وأن يوقع الطرفان أمام السلطات المدنية. وبين أفراد الطبقة الدنيا، كانت هناك حالات كثيرة لنساء ورجال يعيش كل رجل وأليفته معا دون عقد زواج وبلا إزعاج. وكثر عدد أبناء الزنا، ففي سنة 6971 دلت الإحصاءات الرسمية على وجود 000.44 لقيط(72). وبين عامي 9871 و 9381 كان 42% من إجمالي عدد النسوة (العروسات) في مدينة نمطية هي مولان Meulan حبالى(حوامل) عندما أتوا إلى مذبح الكنيسة(82). وكما كان الحال في عهد الحكم السابق على الثورة كان الزنا بين المتزوجين مغفور، وكان الرجال متوسطو الحال يفضلون اتخاذ مدبرة لشئون المنزل (لا زوجة شرعية) وفي ظل حكومة الإدارة كانت مدبرات المنازل هؤلاء يظهرن في المجتمع كزوجات. وأبيح الطلاق بمرسوم صدر في 02 سبتمبر سنة 2971، ومنذ صدور هذا المرسوم أصبح يمكن الحصول على الطلاق بموافقة الطرفين أمام مسئول المجلس البلدي .
وتضاءلـــت السلطة الأبوية مـــع التطور الهادىء في حقـوق المرأة القانونية، وتفاقم الأمر بزيادة ثقة الشباب (الأبناء) في أنفسهم، والنظــر إلــى أنفســهم باعتبارهــم قد تحرروا من ســـلطة الوالدين. وقد عرضت لنا آن بلمبتر Anne Plumptre التي تجولت في فرنسا سنة 2081 ماذكره بستاني : "خلال فترة الثورة لم نكن نجسر على توبيخ أبنائنا إذا ارتكبوا خطأ، فقد كان أولئك الذين يسمون أنفسهم بالوطنيين يعتبرون قيامنا بتصحيح سلوك أبنائنا، مما يتناقض مع مبادىء الحرية، وقد اعتبر الأبناء مسألة تقويمهم مما يتناقض مع القانون، فغالبا ما كان الواحد من هؤلاء الأبناء يقول لأبيه إذا ما وبخه" التفت لعملك. فأنا وأنت والناس كلهم أحرار ومتساوون. إن الثورة هي أبي، ولا أب لي سواها ثم يستطرد البستاني قا ئلا: "سيستغرق الأمر سنوات طويلة حتى نعيد هؤلاء الأبناء إلى صوابهم"(92). وانتشر الأدب الإباحي (وفقا لما ذكرته الصحف المعاصرة) وكان هو الأثير المفضل لدى الشباب(03). وراح بعض الآباء الذين كانوا راديكاليين في وقت سابق يرسلون أبناءهم في سنة 5971 (كما حدث سنة 1781 بعد ذلك) إلى مدارس يديرها قسس، بغية إنقاذهم من التفسخ الخلقي والتسيب الذي ساد المجتمع(13). وظلت هناك لفترة فكرة مؤداها أن نظام الأسرة لا بد أن يكون كارثة على الثورة الفرنسية، لكن استعادة النظام في ظل حكم نابليون أرجأ التفسخ الأسري حتى أتت الثورة الصناعية.
والنساء اللائي كن قد حققن مكانة رفيعة في ظل حكم ما قبل الثورة إنما كان ذلك بفضل تأثير سلوكهن الراقي المهذب وترقية تفكيرهن وتثقيف أنفسهن، لكن هذا في غالبه كان قصرا على الطبقة الأرستقراطية والشرائح العليا من الطبقة المتوسطة. وعلى أية حال فقبيل عام 9871 انخرطت نسوة طبقة العوام بشكل واضح في الأمور السياسية. لقد كدن يكن هن صانعات الثورة بمسيرتهن إلى فرساي، وإحضارهن الملك والملكة إلى باريس ليكونا أسيرين تحت إشراف الكومون، فاكتشفن - أي نساء العوام - مدى قوتهن، فازدادت ثورتهن شراسة. وفي يوليو سنة 0971 نشر كوندرسيه Condorcet مقالا بعنوان "إعطاء الدولة الحقوق للنساء"، وفي شهر ديسمبر قامت مدام إيلدر Aelders بمحاولة لتأسيس ناد مخصص لحركة تحرير المرأة(23). وكان صوت النساء مسموعا في ممرات الجمعيات المختلفة (الوطنية، فالتأسيسية، فالمؤتمر الوطني...) لكن محاولا ت تنظيم أنفسهن للحصول على حقوقهن السياسية ضاعت بسبب الانشغال بالحرب وعنف الإرهاب، ورد فعل المحافظين بعد شهر ثيرميدور Thermidor . ومع هذا فقد حققت النساء بعض المكاسب: أصبح للزوجة مثل الزوج حق طلب الطلاق، وأصبح رضى الأم تماما كموافقة الأب - مطلوبا لزواج الأبناء الذين لـــم يبلغــوا الرشد(33). وفي ظــل حكومة الإدارة، أصبح النساء رغم أنه لا حق لهن في التصويــت، نفوذ سياســـي واضــح، يرقين الوزراء والجنــرالات ويمارسن بفخر حريتهن الجديدة في الســلوك والأخلاق والثيـــاب، وقد وصفهن نابليون البالغ من العمر ستة وعشرين عاما في 5971: "النساء في كل مكان؛ في المسرحيات، وفي الطرقات العامة، وفي المكتبات. وأنت ترى نساء لطيفات جدا في غرفة دراسة الدارس. هنا فقط (في باريس) من بين بلاد المعمورة كلها تستحق النساء هذا النفوذ كله (التأثير)، وحقيقة فإن الرجال مجنونون بهن، لا يفكرون إلا فيهن، ولا يعيشون إلا عن طريقهن ومن أجلهن. وعلى المرأة كي تعرف ما لها من سلطان أن تعيش في باريس ستة أشهر"(43).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
3- أساليب الحياة
عادات الشعوب وأساليب حياتها تكاد تكون مثل أي شيء آخر تتأثر بحركة البندول جيئة وذهابا، تمرد وعودة عن التمرد. لقد أخذت الأرستقراطية معها وهي تفر قبل العاصفة التي ساوت الجميع - ألقابها الفخمــة، وملابس البــــلاط، ولغتها المعطـــرة، وتوقيعاتها الزهرية، وتحررها الواثق، ونعمتها وترويها. وسرعان ما أصبح لطف الصالونات واللياقة في الرقص، وأسلوب المتعلمين من نقائص النبـــلاء التي قــد تؤدي إلى احتجازهـــم باعتبارهـــم عناصر مشكوك فيها متمسكة بالتقاليد البالية، وكأنهم مخلوقات عاشت في عصر ما قبل الطوفان ونجت منه(53). وفي نهاية سنة 2971 أصبح الفرنسيون كلهم في فرنسا "مواطنين" وأصبحت الفرنسيات كلهن "مواطنات". الكل على قدم المساواة فلا أحد "سيد Monsieur " ولا "سيدة Madame " ، وأصبح الخطاب بأنتَ وأنتِ بدلا من "أنتم" أو "سيادتكم" سوا ء في المنزل أم في الشارع. وعلى أية حال فمع بواكير عام 5971 انتهى هذا الأسلوب في التخاطب (التخاطب بصيغة الفرد) وعاد التخاطب بأسلوب التوقير أو الجمع Vous وحل "السيد" و "السيدة" محل المواطن" و "المواطنة"(63). وفي ظل حكومة نابليــون عـــادت الألقاب ثانية بل وزاد استخدام الألقاب بحلول سنة 0181 عن ذي قبل.
وتغيرت طرز الثياب ببطء أكثر من تغير الظاهرة السابقة، فالرجال الأثرياء رفضوا أن يتخلوا عما اعتادوا عليه منذ مدة طويلة من ملابس النبلاء؛ القبعة المرتفعة ذات الزوايا الثلاث في أعلاها، والقميص الحريري، والرباط المنساب، والصدرية الملونة المشغولة (المطرزة)، والمعطف الكامل الذي يصل إلى الركبة، والسروال القصير الذي ينتهي أدنى الركبة بدرجات متفاوتة، والجورب الحريري والحذاء ذو الأبزيم مربع المقدمة. وفي سنة 3971 حاولت لجنة الأمن العام "تلطيف الزي الوطني الحالي لتجعله متمشيا مع العادات الجمهورية وروح الثورة"(73) لكن لم يلتزم سوى الطبقات الوسطى بسروال >بنطلون< العمال والحرفيين الطويل. واستمر روبيسبير نفسه يلبس كاللوردات، ولم يكن هناك ما يفوق بهاء الثياب الرسمية التي كان يرتديها أعضاء حكومة الإدارة التي كان بارا Barras يمشى بها متبخترا . ولم يكسب السروال (الطويل) معركته ضد السروال >البنطلون< الذي يصل إلى الركبة (الكلوت أو السروال القصير) الا منذ سنة.0381 وكان العوام فقط (السانس كولوت) هم الذين يرتدون قلنسوات الثورة ذات اللون الأحمر والكارمانول Carmagnole .
وتأثرت ملابس النساء بالثورة التي كان رجالها يرون أنهم يسيرون في نهجهم كروما الجمهورية، وكبلاد الإغريق البيريكيسية. وقد اتخذ جاك لويس ديفيد Jacques Louis David الذي ساد الفن الفرنسي من 9871 إلى.5181 من الأبطال الكلاسيين موضوعات لأعمالة الفنية الأولى وجعل لباسهم على النمط الكلاسي. وعلى هذا فإن النسوة الباريسيات الأنيقات (الحريصات على ارتداء الأزياء الحديثة او المتمشية مع >الموضة<)، قد تحلين بعد سقط البيوريتاني (المتطهر) روبيسبير عن >التنورة< Petticoat والبلوزة (القميص)، وأصبح لباس الواحدة منهن في الأساس عباءة فضفاضة بسيطة شفافة (تشف وتصف) بلغ من شفافيتها أنها توحي بالخطوط الداخلية الناعمة(توحي بالأجزاء المنبعجة والمنقعرة في الجسم Contours ) حتى أنها لتثير الرجل الذي لم يستثر في حياته. فخط الخصر في هذا الزي مرتفع ارتفاعا غير معتاد ليدعم الثديين، وخط الرقبة في هذا الزي منخفض بما فيه الكفاية ليقدم للرائى مساحة واسعة مكشوفة، والكمان قصيران قصرا يكفى لإظهار الذراعين الجذابين. واستبدل (الكاب) بعصابة الجبين، واستبدل الحذاء ذو الكعب العالي، بصندل بلا كعب (شبشب أو خف) وكتب الأطباء عن الوفيات بين النساء اللائي يرتدين هذه الملابـــس البهيجة ويذهبن بهـــا إلى ا لمســارح والمتنزهات، بســبب الهبوط الحاد في درجة الحرارة في باريس مساء(83). وفي هذه الأثناء، عمل الرجال، والنساء الغندورات المثيرات للإعجاب على جذب انتباه الطرف الآخر بالملابس اللافتة للنظر بشكل مبالغ فيه. وفي سنة 2971 ظهرت مجموعة من النساء بزي الرجال أمام اجتماع كومونات باريس، فوجه إليهن شوميت Chaumette تأنيباً مهذبا: "أنتن أيتها النسوة الطائشات اللائي تردن أن تكن رجالا. ألستن قانعات بنصيبكن كما هو؟ ماذا تردن أكثــر مــن هـــذا؟ إنكــن تسيطرن على مشاعرنا، المشرع والرئيس تحت أقدامكن . فسحركن هو وحده الذي لا نستطيع مقاومته، لأنه سحر الحب، وبالتالي فهو عمل الطبيعة، فباسم الطبيعة، كن كما أرادت الطبيعة لتحققن الهدف الذي قصدته الطبيعة بوجودكن"(93).
وعلى أية حال فقد كانت النسوة متأكدات أنهن قادرات على إدخال تحسينات على الطبيعة. ففي إعلان في المونيتير Moniteur في 51 أغسطس سنة 2971 أعلنت مدام بروكين Broquin أنها " لم تستنفد مسحوقها الشهير، ذلك المسحوق الذي يصبغ الشعر الأحمر أو الأبيض ليجعله كستنائياً (بنيا مشوبا بحمرة) أو أسود، وهي تعرضه لمن يطلبه" وعند الضرورة كان الشعر الذي لا يرضى عنه صاحبه يغطى بالباروكات (الشعر المستعار) والذي كان في حالات كثيرة مقطوعا من ضفائر النسوة الشابات اللاتي قصت المقصلة رقابهن(14). وفي سنة 6971 اعتاد الرجال من الطبقتين الوسطى والعليا أن يضفر الواحد منهم شعره الطويل في ضفيرة(24).
وخلال العامين الأوليين من الثورة راح الثمانمائة ألف (سكان باريس) يمارسون أعمالهم المفيدة، ولا يلتفتون إلا بين الحين والحين لما يجري في الجمعية الوطنية والسجون. لقد كانت الحياة مبهجة بما فيه الكفاية في ذلك الوقت بالنسبة للطبقات العليا؛ فقد استمرت الأسر في تبادل الزيارات والدعوة إلى الولائم، واستمر حضور الحفلات الراقصة، وغير الراقصة، والمسرحيات والذهاب لسماع الكونشرتات حتى خلال فترات العنف بين مذابح سبتمبر سنة 2971 وسقوط روبيسبير في يوليو سنة 4971 عندما جرى في هذه الفترة إعدام 0082، كانت الحياة التي يحياها - تقريبا - كل من بقوا على قيد ا لحياة تسير سيرها المعتاد في العمل واللهو، والممارسات الجنسية والحب الأبوي. لقد كتب سيباستيان ميرسييه Sébastian Mercier في سنة 4971:
"الأجانب الذين يقرأون صحفنا يتصورون أننا جميعا قد غرقنا في الدم وغطتنا الأسمال البالية، ونعيش حياة ملؤها البؤس. لكنهم سيدهشون عندما يعرفون أن الطريق الرائع الذي تحفه الأشجار في الشامب إليزيه (ميادين الإليزيه) حيث توجد في الجانب المقابل منه المركبات الخفيفة الأنيقة التي تجرها الجياد (الحناطير) والنسوة الجذابات الجميلات.. هذه الحدائق الباهرة، أصبحت الآن أكثر بهاء وأجمل من ذي قبل"(34).
وكانت هناك مباريات رياضية في الكرة والتنس والركوب، وسباق الخيل، وألعاب القوى... وكان هناك متنزهات شائقة مثل حدائق التيفوليTivoli حيث يمكنك التمتع، وشراء الكماليات من (البوتيكات) ومشاهدة الألعاب النارية والبهلوانات وهم يمشون على الحبال، أو إطلاق البالونات، وسماع (الكونشرتات) أو أن تضع صغيرك في الحلقة الدوارة (الأرجوحة الدوارة Jeu de bagues )، وستجد معك في هذه المتع اثني عشر ألفا آخرين في أيام المرح. ويمكن أن تجلس في مقهى أقيم في الهواء الطلق أو تحت سرادق مقهى دي فوي Café de foy أو في إحدى مقاهي الطبقة الراقية مثل مقهى تورتوني Tortoni أو مقهى فراسكاتي Frascati أو تتبع السائحين إلى النوادي الليلية مثل السافو Caveau ( القبو) والسوفاج (الوحشي ) Sauvage ومقهى العميان Les Aveugles حيث يلتقى الموسيقيون العميان. ويمكن أن تذهب إلى ناد لتقرأ أو تتحدث أو تستمع إلى المناقشات السياسية. ويمكنك أن تحضر إحدى المهرجانات المرحلة المتنوعة التي نظمتها الدولة والتي نسقها فنانون مشاهير مثل ديفيد David ، وإذا أردت أن تجرب رقصة جديدة كرقصة الوالتس waltz التي وصلت من ألمانيا لتوها يمكنك أن تجد شريكة ترا قصك في إحدى قاعات الرقص التي بلغ عددها في باريس في عهد حكومة الإدارة ثلاثمائة قاعة(44).
والآن (5971) في السنوات التي خمدت فيها حدة الثورة، سمح لبعض المهاجرين (الذين كانوا قد فروا من فرنسا بسبب أحداث الثورة) بالعودة إلى فرنسا، وبرز النبلاء المختبئون من مخابئهم التي كانوا يتوارون فيها، وأظهر البورجوازيون ثرواتهم فشيدوا البيوت الغالية وأثثوها بالأثاث الفاخر وحلوا نساءهم بالجواهر الثمينة وأقاموا الحفلات المسرفة. وظهر أهل باريس من شققهم ومنازلهم للتمتع بقسط من الشمس نهارا أو ليستمتعوا بالنسيم ليلا في حدائق التوليري أو لكسمبورج أو على طول شوارع الإليزيه التي تحفها الأشجار، وخرجت النسوة متفتحات كالزهور في أثوابهن الجذابة الطائشة (العربيدة) ورحن يحركن مراوحهن بطريقة معبرة تعجز عنها الكلمات. وأحذيتهن الأنيقة التي تظهر ما خفى من القدمين بشكل فاتن. لقد بعثت الحيا ة في المجتمع من جديد.
لكن مئات الأسر (أو نحو ذلك) التي تكوّن الآن المجتمع لم تكن من الأسر عريقة النسب والفلاسفة الذين حققوا شهرة عالمية والذين كانوا متألقين في الصالونات في ليالي ما قبل الثورة، وإ نما كانت هذه الأسر في الغالب من محدثي النعمة (الأثرياء الجدد) الذين كدسوا الليفرات Livres من (شراء) العقارات الكنسية، أو من التعاقدات مع الجيش أو الاحتكارات التجارية أو البراعة المالية أو الصداقات السياسية. وراح بعض من عاشوا أيام البوربون وظلوا على قيد الحياة يترددون على منازل مدام دى جينلى Genlis أو أرملتى كوندورسيه Condorcet وهيلفيتيوس Helvétius، لكن معظم الصالونات التي فتحت بعد موت روبيسبير (باستثناء حلقة مدام دى ستيل Stael ) لم تكن عامرة بالمناقشات الذكية وكان ينقصها جو الراحة والطمأنينة، ذلك الجو الذي كان يسودها في الماضي (قبل الثورة) نتيجة الأمن الذي طال أمره والثراء الراسخ. وصالون القمة الآن هو ذلك الذي يعقد في الغرفات المريحة في قصر بارا عضو مجلس الإدارة في لكسومبرج أو في قصر جروسبوا Chateau Grosbois الذي يمتلكه أيضا. ولم تكن جاذبية صالون بارا هذا ناتجة عن معارف الفلاسفة (المثقفين) الذين يرتادونه وإنما كانت جاذبيته تكمن في ابتسامات مدام تاييه Tallien وجوزفين دى بوهارنيه.
ولم تكن جوزفين قد تزوجت نابليون بعد، كما أن مدام تاييه Tallien لم تعد بعد (في ذلك الوقت) زوجة له (لتاييه)، لقد تم تزويج هذه المدام الأخيرة منه في 62 ديسمبر 4971، ونودي بها فترة سيدة ثيرميدور Notre Dam de Thermidor لكنها هجرت هذا الإرهابي الذي أفل نجمه بعد فترة وجيزة من زواجها منه وأصبحت خليلة (راعية شئون منزله) لبارا Barras ، وغمزها بعض الصحفيين في أخلاقها ومع هذا فقد بادلوها جميعا الابتسام لأنه لم يكن في جمالها شيء من الكبر أو التغطرس، وكانت معروفة برقتها الشديدة مع النساء والرجال على السواء. وقد وصفتها في وقت لاحق الدوقة دبرانت D` Abrantés بأنها : "فينوس الكابيتول وأنها أجمل من العمل الفني الذي أنجزه فيدياس Pheidias، لأنك تدرك فيها اكتمال الملامح كما في عمل فيدياس، وتدرك فيها التناسق نفسه في الذراعين واليدين والقدمين، كل هذا تعبير كريم حي"(54). وكان من فضائل بارا Barras أنه كان كريما معها ومع جوزفين، وقدر جمالهما تقديرا يفوق مجرد الإعجاب الجنسي، ذلك التقدير الذي اشترك معه فيه مئات المنافسين الذين كانوا من الممكن أن يفوزوا بهما، لكنه بارك فوز نابليون بجوزفين.
4- الموسيقا والدراما
انتعشت أنواع الموســـيقا كلها، وكان يمكنك أن تجعــل أحـــد المغنين فــي الشوارع يعيد لك أغنية مقابل قطعة عملة أو يمكنك أن تنظم لمجموعة مغنين لتخيف البورجوازين بأغنية الكارمانول Carmagnol (or Ca Ira) أو أن تهز الحدود بنشيد المارسيليز الذي كان روج دى ليزل Rouget de Lisle قد ألف معظمه. وفي كونشرتو فيدو Concert Feydeau يمكنك أن تعجب مع دومينيك جارا Dominique Garat الذي يعتبر كاروز عصره Caruso of his time الذي يحرك صوته مشاعر القلوب، بل ويحرك حتى الألواح وكان مشهورا في أنحاء أوربا كلها لطبقة صوته. ووسط الرعب الذي ساد في سنة 3971 افتتح المؤتمر الوطني المعهد الوطني للموسيقا وبعد ذلك بعامين أصبح اسمه الكونسرفتوار، ومنح المؤتمر الوطني المعهد مبلغ 240,000 جنية كل عام للتدريس لستمائة طالب بدون أن يدفعوا رسوما دراسية. وفي الليلة التي أطلق فيها الرصاص على روبيسبير، كان الباريسيون يستطيعون سماع "أرميد Armide " في الأوبرا أو بول وفرجيني Poul et Virginie في الأوبرا كوميك (64) (الأوبــرا التي يتـم فيهـا الغنـاء والحـوار غيـر الملحـن وليـس مـن الضـروري أن تكون هزلية).
وانتعشت الأوبرا في عهد الثورة. ففيما عدا وضع برناردان دى سان پيير Bernardin de Saint Pierre للألحان الرعوية (مقطوعات موسيقية ذات طابع رعوي أو رومانسي) في سنة 1794، فإن جان فرانسوا لوزير Jean Francois Leuseur (0671 - 7381) قد حقق نجاحا آخر في هذا المجال في العام نفسه فمقطوعاته الموسيقية بالإضافة إلى مقطوعة تيليماك Télémaque التي وضعها فينلون Fénelon كانت تنهج النهج الموسيقي نفسه. لقد أثار فرنسا كلها وحرك مشاعر الإرهاب فيها بمقطوعته لا كافيرن (الكهف La Caverne) التي عرضت سبعمائة مرة، وقد استمر في الإنتاج خلال فترة صعود نابليون، وعاش عمراً مديدا فدرس على يديه بيرليو Berlioz وجونو Gounod . وقد كتب إيتين ميهول Etienne Méhul (3671 - 7181) في عمره القصير جدا مقارنة بعمر لوزير أكثر من أربعين أوبرا من نوع الأوبرا كوميك Opéra Comique (المصطلح لا يعني بالضرورة الأوبرا الهزلية كما ذكرنا في تعليق سابق) بينما كانت كورالاته الغزيرة: أنشودة إلى العقل Hymne a` La raison (3971)، ونشيد الرحيل Chant du départ (4971) هي السبب في جعله رب الموسيقا في عهد الثورة .
وكان ماريا لويجي كارلو سالفاتور كروبيني Maria Luigi Carlo Salvatore Cherubini هو أعظم مؤلف موسيقى في فرنسا الثورة. ولد في فلورنسا في سنة 0671 يقول: "لقد بدأت في تعلم الموسيقا وأنا في السادسة من عمري، وألفت مقطوعات موسيقية وأنا في التاسعة"(84). وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره كان قد ألف ثلاثة أعمال كبيرة؛ رائعته a Te Deum وهي موشحة دينية وثلاث كنتاتات Cantatas (الكنتاتة قصة تنشدها المجموعة على أنغام الموسيقا بلا تمثيل). وفي سنة 7771 وجدنا ليوبولد Leopold دوق تسكاني Tuscany الكبير الخير يمنحه منحةً للدراسة مع جيوسيب سارتي Giuseppe Sarti في بولوجنا Bologna فأصبح شيرو بيني في غضون أربعة أعوام سيدا يشار إليه بالبنان في مجال التأليف الطباقي الموسيقى Contrapuntal Composituion وفي سنة 4871 دعى إلى لندن لكن سوقه لم يرج فيها، وفي سنة 6871 انتقل إلى باريس التي ظلت موطنه الدائم لم يغادرها إلا لفترات قصيرة حتى مات في سنة 2481، وفي أولى أعماله الأوبرالية في باريس (ديموفون Démophon ) التي وضعها في سنة 8871 تحاشى روح الجزالة والخلو من اجترار الهموم تلك الروح السائدة في الإنتاج النابولي Neapolitan بإخضاع القصة والأوركسترا للألحان، وإنما حذا حذو جلوك Gluck في الأوبرا العظيمة grand opera " والتي كانت الأنغام (الألحان) تحتل فيها المرتبة الثانية من حيث الأهمية. وكانت أهم الأعمال التي حققت له نجاحا في باريس في عهد الثورة هي: لودويسكا Lodoiska (1971) وميدي. Médee (7971). ومع العمل الذي لا زال مشهورا (يومان Les deux Journées ) (0081) بدأ مرحلة مضطربة في حياته في ظل حكومة نابليون ويمكننا تشبيهه بشهاب.
لقد كان في باريس في أثناء الثورة أكثر من ثلاثين مسرحا، وكانت جميعها مزدحمة ليلة بعد ليلة حتى أيام حكم الإرهاب، وتحرر الممثلون في ظل الثورة من العراقيل التي كانت تضعها الكنسية أمامهم، وكان يمكنهم الابتسام عند صدور قرار الحرمان الكنسي (ضدهم) أو قرار بعدم دفن جثثهم (بعد الوفاة) في مقابر المسيحيين، لكن الحكومة أخضعتهم (0971 - 5971) لرقابة أشد صرامة، وكان عليهم على وفق توجيهات المؤتمر الوطني ألا يجعلوا في كوميدياتهم أي "بطل" أرستقراطي، أو أية مشاعر أرستقراطية وأصبحت المسارح أداة للدعاية الحكومية، وأسفت الكوميديا وهبطت إلى مستوى منحط، واتبعت التراجيديات الخط الثوري (من حيث المضمون) والوحدات الكلاسية (من حيث الشكل).
وجرت العادة أن يكون الممثلون الكبار أكثر شهرة من رجال الدولة، بل إن بعضهم مثل فرانسوا جوزيف Francois Joseph Talma كان محبوبا من الناس أكثر من رجال الدولة بكثير. وكان أبوه مستخدما في فندق ثم أصبح طبيب أسنان، وذهب إلى لندن وانتعشت حالته فيها فأرسل ابنه إلى فرنسا ليتلقى تعليمه فيها، وبعد التخرج عاد فرانسوا ليعمل مساعداً لأبيه، فتعلم الإنجليزية، وقرأ شكسبير ورأى أن تمثيل مسرحياته أمر شائق، وانضم إلى فرقة من الممثلين الفرنسيين كانت تقدم عروضها في إنجلترا، ولما عاد إلى فرنسا قُدم للكوميدي فرانسيز Comédie Francaise وظهر على المسرح لأول مرة سنة 7871 في شخصية سعيد Seide في مسرحية فولتير (محمد) وساعده على التقدم في مجال التمثيل المسرحي شكله المتناسق وملامحه الكلاسية الواضحة وكأنما نحتت بإزميل، وشعره الكثيف وعيناه المتألقتان لكن تأييده للثورة ودعمه لها صرف عنه معظم أفراد الفرقة الذين كانوا يدينون بوجودهم لعطف الملك.
وفي سنة 5871 شاهد تالما Talma الصورة التي رسمها ديفيد David والتي جعل لها عنوانا هو "قسم الهوراتي the Oath of Horatii " وتأثر كثيرا لا بما في الصورة من قوة دراماتية وإنما أيضا بالتزامها الشديد المتقن بالزى القديم. فقرر أن يظهر على المسرح بهذا الزي نفسه، وأدهش زملاءه عندما ظهر بهذا التنك (الرداء الروماني ذو الحزام المشدود حول الخصر) والصندل بذراعين وساقين مكشوفين، ليلعب دور بروكولوس proculus في مسرحية فولتير التي تحمل عنوان بروتس Brutus.
وأصبح صديقا لديفيد David الذي نضح عليه من ثوريته. وعندما قام بدور ماري جوزيف دي شينيير في مسرحية شارل التاسع (4نوفمبر 9871) أدى د وره بشحنة عاطفية بثها في مشاهديه في الفقرات المعارضة للملكية تلك الفقرات التي تصور الملك الشاب كآمر بمذابح ليلة القديس بارثولومو St. Bartholomew`s eve ، وقد صدم هذا مشاعر معظم مشاهديه وكثيرين من زملائه الذين كانوا لا يزالون يشعرون بالولاء للملك لويس السادس عشر.
وكلما تطورت أحداث الثورة زاد الصراع حدة بين "الحمر Reds " و "السود Blacks " في الفرقة وبين المشاهدين حتى إن تالما Talma ومدام فيسترى Vestris (التراجيديانه الرئيسية) وغيرهما من الممثلين انشقوا عن فرقة الكوميدي فرانسيز ذات الامتيازات الملكية وأقاموا فرقة أخرى خاصة بهم في مسرح الجمهورية الفرنسية بالقرب من القصر الملكي. وهناك طور تالما فنه بدراسته للتاريخ والشخصية ولباس كل شخصية على وفق الفترة الزمنية التي كانت فيها، وذلك في المسرحيات والأدوار كلها التي أدتها الفرقة ومارس تحكما في ملامحه لتتمشى مع كل تغيير في المشاعر أو الأفكار (في أثناء التمثيل)، وقلل من نبرته الخطابية، والمبالغة الانفعالية فوق المسرح، حتى أصبح متمكنا تماما من فنه.
وفي سنة 3971 غيرت الفرقة القديمة اسمها ليصبح مسرح الأمة Théatre de la Nation الذي أنتج مسرحية "أحباء القانون L` Ami des Lois " وهي المسرحية التي تضمنت هجاء وسخرية من زعماء الثورة. وفي ليلة 3 و4 سبتمبر تم القبض على أعضاء الفرقة كلهم. وقبلت فرقة تالما فرض الرقابة الصارمة عليها، فأصبحت مسرحيات راسين Racine محرمة وتعرضت مسرحيات موليير Moliére للتغيير وحذف أجزاء منها، وحذفت الألقاب الأرستقراطية من المسرحيات المسموح بها (مثل سيد "مسيو" وسيدة "مدام")، وفرض هذا في مسارح فرنسا كلها(59). وبعد سقوط روبيسبير تم الافراج عن الممثلين الذين كان قد قبض عليهم، وفي 13 مايو 9971 وكلما اقتربت الثورة من نهايتها وجدنا الفرقة القديمة والأخرى الجديدة تتحدان معا لتصبحا فرقة واحدة هي "الكوميدى فرانسيز Comédie Francaise " وجعلت مقرها في المسرح الفرنسي في القصر الملكي حيث هي موجودة ومزدهرة اليوم.
5- الفنانون
تأثر الفن في فرنسا الثورة بثلاثة أحداث خارجية: خلع الأرستقراطية وهجرتها (عقب أحداث الثورة) والحفائر الأثرية التي كشف عن آثار قديمة في هيركيو لانيوم وبمبيHerculaneum and Pompeii (8371 وما بعدها)، واستيلاء نابليون على ذخائر الفن الإيطالي، وقد أدت هجرة الأرستقراطية بعد الثورة إلى أن نزح عن فرنسا أكثر الطبقات امتلاكا للثروة وتمتعاً بالذوق مما يمكنهم من شر اء الأعمال الفنية، وفي بعض الأحيان هاجر الفنانون مع هؤلاء المهاجرين، ومن أمثلة هؤلاء الفنانين المهاجرين مدام فيجي ليبرون Lebrun Vigee ، أما الفنان فراجونار Fragonard فرغم أنه كان قبل الثورة يعتمد في حياته كلية على أموال الطبقات الموسرة (التي لا عمل لها ) إلا أنه أيد الثورة وعاش حياة بائسة على حافة المجاعة. وهناك فنانون آخرون أيدوا الثورة لأنهم تذكروا أن النبلاء كانوا يعاملونهم كعبيد ومأجورين مرتزقة، وكيف أن أكاديمية الفنون الجميلة لم تسمح إلا لأعضائها لعرض أعمالهم في صالوناتها. وفي سنة 1971 أتاحت الجمعية التشريعية الأكاديمية للفنانين الأكفاء كلهم سواء كانوا فرنسيين أم أجانب لخلق مجال للتنافس. وقد ألغى المؤتمر الوطني الأكاديمية باعتبارها مؤسسة أرستقراطية في الأساس. وفي سنة 5971 أعادتها حكومة الإدارة باسم أكاديمية الفنون الجميلة وجعلت مقرها اللوفر Louvre الذ ي كان منذ سنة 2971 قد أصبح متحفا عاما، وسمح للفنانين الفرنسيين بدراسة ونسخ أعمال رافائيل Raphael وجيورجيون Giorgione وكوريجيو Correggio وليوناردو Leonardo ، وفيرونيس Veronese ... بل وحتى خيول القديس مرقصSt. Mark ، ولم تحدث سرقات، وتمت الاستفادة من هذه الأعمال بشكل يدعو إلى الثناء. وفي سنة 3971 جدد المؤتمر الوطني دعمه للأكاديمية الفرنسية في روما وكذلك للمؤسسة المعروفة باسم Prix de Rome . وشيئا فشيئا حلت الطبقة الوسطى الصاعدة محل النبلاء كمشترين للأعمال الفنية. وازدحم صالون سنة 5971 بالمشاهدين، وقد عمر هذا الصالون بخمسمائة وخمس وثلاثين لوحة. لقد ارتفعت أسعار الأعمال الفنية. من المستغرب أن نقول إن الثورة لم تحدث أية حركة راديكالية في مجال الفن. بل العكس، فالإلهام الذي قدمه للكلاسية الجديدة هو النبش والتنقيب عن التماثيل والعمائر القديمة في نابلي، وكتابات ونكلمان Winckelmann (5571 وما بعدها) وليسنج Lessing (6671) قد عملت على إحياء الأسلوب الكلاسي بكل ما فيه من مضامين أرستقراطية. وردة الفعل هذه ثبت أنها من القوة بحيث تتصدى للتأثيرات الرومانسية، والديمقراطية المنبعثة من الثورة. لقد قبل الفنّانون في هذه الفترة المتز نة (باستثناء برودون Prud`hon ) نظريةً وتطبيقا الصيغ الكلاسية والنبيلة كلها التي تشير للنظام والشكل والاتساق والفكر والعقل باعتبارها حارسا يحول بين التعبير الفني، واعتماده على الانفعال والعاطفة والحماسة والفوضى. وقد راعى الفن في ظل لويس الرابع عشر هذه القواعد القديمة التي توخاها كونتيليان Quintilian وفيتروفيوس Vitruvius وتوخاها كورنيل Corneille وبويلو Boileau ، لكن في ظل لويس الخامس عشر ولويس السادس عشر وجد الفنانون راحتهم في الباروك وأنسوا إلى الركوكو rococo ومع مشاعر روسو Rousseau المتحفظة ومشاعر ديدرو Diderot المؤيدة بدا أن عصر الرومانسية أصبح قريب التناول. لقد كان هذا في المجالين السياسي والأدبي، لكنه لم يكن في مجال الفن.
وفي سنة 1774 اتجه جوزيف مارى فين Joseph Marie Vien إلى إيطاليا بعد أن زاد شوقه للاطلاع على حفائر هيركولانيوم وبمبي Herculaneum and Pompeii بعد أن وصلته تقارير عنها، وقد اصطحب جوزيف معه تلميذه جاك لويس ديفيد Jacques Louis David لكن الشاب (ديفيد) وقد وقف نفسه لفكر الثورة عزم على ألا يجعل الفن المحافظ والأرستقراطي الذي يتجلى في الآثار الكلاسية، يضله أو يبعده عن هدفه(05). لكن شيئا ما في داخله كان يتحكم فيه جعله يستجيب لعظمة التكوين ومنطق البناء وقوة الخط ووضوحه، كما تتجلى في الفن الإغريقي والروماني. لقد قاوم لفترة رسالتها الموحية بالرجولة والقوة، لكنه استسلم لها بالتدريج، وحمل هذا التأثير معه عند عودته إلى باريس، وجعله يتناسق مع مناهضة الثورة للمسيحية وتمثلها بالجمهورية الرومانية ولكاتوس Catos وسكيبوس Scipios بل إن هذا الاتجاه كان متفقاً مع عباءة مدام تاييه Tallien الإغريقية. والآن لقد حان الوقت المناسب لطرح استلهام الفن القوطي ذي النزعات العلوية (السماوية) وما يوحيه الباروك من يفاعة مدهشة، وما يتجلى في الروكوكو rococo من زخارف بهيجة، والصور الزيتية العارية والمتفائلة التي انتجها بوشيه Boucher ولوحة الفتيات وهن يقفزن، التي انتجها فراجونار Fragonard . الآن يجب أن يكون الخط الكلاسي والمنطق الكلاسي، والمنطق المجرد Cold reason والقيد الأرستقراطي والشكل الرواقي هو هدف الفن وعليه تقوم دعائمه في فرنسا الثورة الرومانسية، الديمقراطية، العاطفية، الزاخرة بالمشاعر.
وقد ولد ديفيد الذي كان عليه أن يتبوأ الصدارة في الفن في فرنسا الثورة وإمبراطوريتها، في باريس في سنة 8471 من أسرة بورجوازية ثرية كانت تقيه العوز دوما. وقد التحق وهو في سن السادسة عشرة بأكاديمية الفنون الجميلة Academie des Beaux Arts ودرس على يد فين Vien وحاول مرتين من أجل الحصول على الجائزة المعروفة بجائزة روما Prix de Rome وفشل في المرتين، فحبس نفسه وحاول أن يموت جوعا لكن جاره الشاعرافتقده فبحث عنه فوجده وراح يتوسل إليه حتى تناول طعامه، ودخل ديفيد المسابقة مرة أخــرى فــي سنة 4771 وفاز برسم من نوع الروكوكو rococo جعل له عنوانا هو (Antiochus Dying for the love of Stratonic أنتيوشس تموت حبا في ستراتيونيس) وفي روما أصبح مفتونا برافائيل ثم تخلى عن افتتانه به لرقة خطوطه رقة شديدة ووجد في أعمال ليوناردو ما هو أقوى، ووجد في بوسين Possin انضباطاً أشد في الفكرة والتكوين، وانتقل من صور العذراء في عصر النهضة إلى الأعلام القدامى في عالم الفلسفة والأساطير والحرب، وفي عاصمة المسيحية تخلى عن عقيدته المسيحية.
وعاد إلى باريس في سنة 0871 وتزوج من ثرية وعرض في صالونات الأكاديمية سلسلة متتابعة من أعماله الكلاسية (بليزا ريوس Belisarius وأندروماك Andromache ) وبعض البورتريهات (رسوم لأشخاص). وفي سنة 4871 ذهب إلى روما ليرسم صورة بتكليف من لويس السادس عشر فخرج فيها عما ألفه الرسامون في روما. إنها اللوحة التي جعل لها عنوانا( The Oath of the Horatii ). وعندما عرضت اللوحة في روما، قال له الفنان الإيطالي العجوز بومبيو باتوني Pompeo Batoni : "أنت وأنا وحدنا رسامان، أما الباقون فلا يستطيعون القفز في النهر(15). Tu ed io soli , siamo pittori ; Pel rimanente Si puo gettarlo nel fume ".
ولما عاد إلى باريس قدم عمله الموسوم باسم (قسم الهوراتيين Serment des Horaces ) في صالون سنة 5871(25). وهنا في تاريخ ليفي الأسطوري وجد ديفيد في "الوطنية " الدين الحقيقي لروما القديمة: ثلاثة إخوة من أسرة هوراتية Horatii Family يقسمون أن يشعلوا الحرب بين روما وألبالونجا Alba Longa (القرن السابع قبل الميلاد) وأن يقتتلوا حتى الموت مع ثلاثة إخوة من عشيرة كورياتي Curiatii لقد صور ديفيد الهوراتيين Horatii وهم يقسمون ويتسلمون السيوف من أبيهم بينما أخواتهم يندبن، وكان واحدٌ منهم خطيبا لفتاة كورياتية Curiatii . وكان الفرنسيون يعلمون القصة من كتاب كورنيل Corneille`s Horace وفسروا فحوى اللوحة على أن "الوطنية" تجعل الأمة فوق الفرد، بل وحتى فوق الأسرة. لقد كان الملك (لويس السادس عشر) راغبا وبإخلاص في القيام بإصلاحات، وكانت المدينة(باريس) معبأة بالفعل للثورة، وكان أهلها متفقين على استحسان إنجازات الفنانين، وكان منافسو ديفيد يعلمون مهارته في استيحاء الشجاعة البطولية والتضحية الأبوية وأحزان النساء، لقد كان النجاح الذي حققته لوحته (قسم الهوارتيين) إحدى العلامات البارزة في حوليات الفنون، لأنها كانت تعني نجاح الأسلوب الكلاسي. ولاقى ديفيد تشجيعا لأسلوبه الفني ولاختياره لموضوعاته فعاد إلى التراث الإغريقي وقدم في سنة 7871 عمله "موت سقراط " ولما رأى السير جوشوا رينولد Joshua Reynold هذه اللوحة في باريس وصفها بأنها "أعظم إنجاز فني منذ ميكل (ميشيل) أنجلو ورافائيل. إنها يمكن أن تكون امتيازا لأثينا في عصر بريكليس Pericles "(35). وبعد ذلك بعامين عاد ديفيد إلى التراث الروماني بلوحته (الليكتور أي الموكلون بإفساح الطريق للحاكم الروماني يعيدون إلى بروتس في بيته جثث أبنائه" وكانت هذه اللوحة تصور حكاية أوردها ليفي Livy عن القنصل الروماني (905 ق.م) ذلك القنصل الذي حكم على اثنين من أبنائه بالموت من أجل تآمرهما لعودة الملكية. وقد كانت هذه اللوحة قبل سقوط الباستيل ولم يكن لدى الرسام فيما يظهر أية فكرة عن الثورة المرتقبة، وقد منع وزير الفنون عرضها لكن الجلبة التي سببتها الجماهير ضمنت له عرضها في صالون سنة 9871، واعتبرتها الجماهير التي أتت لرؤيتها جزءاً من الثورة، وهكذا وجد ديفيد نفسه الناطق الفني باسم عصره.
وعلى هذا فقد قدم ديفيد نفسه للثورة في زواج نادر بين السياسة والفن. لقد قبل ديفيد مبادئها ووضح أحداثها ونظم مهرجاناتها وزينها وأحيا ذكرى "شهدائها"، وعندما قتل واحد من الملكيين النائب الراديكالي ليبيلتييه دى سان فارجو Lepeletier de Saint Fargeau (في 02 يناير 3971) نذر ديفيد نفسه لإحياء ذكرى هذا المشهد، ففي غضون شهرين قدم صورة المشهد للمؤتمر الوطني الذي علقها على جدران مقره. وعندمـا قتل مارا Marat (31يوليو 3971) دخلت جموع الحزانى إلى ممرات المؤتمر الوطني، وانطلق صوت من بينهم "أين أنت يا ديفيد ؟ لا بد أن تنقل للأجيال القادمة ما حدث كما فعلت بالنسبة لليبلتييه، فهو ومارا قد ماتا من أجل الوطن. إن عليك أن ترسم لوحة أخرى".
فوقف ديفيد وقال: "سأرسمها" وبالفعل قدم لوحة مكتملة للمؤتمر الوطني في 11 أكتوبر. وقد أظهرت هذه اللوحة مارا وقد غطت مياه حوض الاستحمام الخاص به نصفه وقد تدلى رأسه إلى الخلف فاقداً الحياة وإحدى يديه تقبض على مخطوط وذراعه متدلية إلى الأرض، وقطعة الخشب إلى جانب الحوض موضوع عليها مخطوطة تدعو للفخر "إلى مارا ديفيد". لقد كانت اللوحة نقلة ترك فيها ديفيد أسلوبه الفني المميز. فقد حلت الحماسة المتوهجة محل الكلاسية الجديدة مع الواقعية. وأكثر من هذا فهذه اللوحة بالإضافة إلى اللوحة التي رسمها لليبيليتييه قد كسرتا المنحى الكلاسي باتخاذهما الأحداث الجارية موضوعا لهما. لقد جعلت هاتان اللوحتان الفن مشاركا في الثورة.
وبحلول عام 4971 كان ديفيد مشهورا سياسيا حتى إنه قد تم انتخابه عضواً في لجنة الأمن العام. وقد كان من أتباع روبيسبير، ونظم ديفيد موكب مهرجان الموجود الأعظم Supreme being وقدم فيه ديكوراته وروحه الفنية. وبعد سقوط روبيسبير قبض عليه باعتباره واحداً من أتباعه وقضى في السجن ثلاثة أشهر قبل أن يفرج عنه بسبب ضجيج تلاميذه. وفي 5971 عكف في مرسمه لكنه عاد إلى الظهور في سنة 9971 فقدم "البانوراما الكبيرة The Rape of the Sabine". وفي العاشر من نوفمبر استولى نابليون على السلطة، فبدأ ديفيد الذي بلغ الواحدة والخمسين من عمره مرحلة فنية جديدة منتصرة.
6- العلم والفلسفة
الثورات لا تتعاطف مع العلوم البحتة، وانما هي تحفز العلوم التطبيقية على مواجهة احتياجات مجتمع يناضل من أجل حريته. لقد ساعد لافوازيه Lavoiseur الكيميائي المالي الثورتين الأمريكية والفرنسية بتحسين نوعية البارود، وزيادة كمية انتاجه. وبيرتوليه Bertholet وكيميائيون آخرون حفزهم الحصار البريطاني على إيجاد بدائل للسكر المستورد وكذلك بدائل لما يستورد من صودا ونيله (صبغة زرقاء)، وقد تم إعدام لافوازيه بتهمة أنه مستغل متربح (4971)(45) لكن بعد إعدامه بعـــام شـــجبت الحكومة الثورية هــذا الإعدام. وحمى المؤتمــر الوطني العلماء في لجانه وقبل خططهم فيما يتعلق بالنظام المتري Metric System . وبوأت حكومة الإدارة العلماء مكانا حفيا في المعهد الفرنسي الجديد. ولا زالت أسماء لاجرانج Lagrange ولابلاس Laplace وأدريان ماري ليجيندر Adrien Marie Legendre وديلامبر Delambre وبيرتوليه Bertholet ولامارك Lamarck وكوفييه Cuvier ، شهبا تلمع في تاريخ العلم، وكانوا جميعا من بين أعضائها الأول. لقد أصبح العلم لفترة هو عماد التعليم الفرنسي حالاً محل الدين، وعرقلت عودة البوربون هذه الحركة لكن سقوطهم (0381) كان مصحوبا برفع شأن العلم متمثلا في الفلسفة الإيجابية Positive Philosophy التي نادى بها أوجست كونت Auguste Comte .
وترك لاجرانج وليجندر علاماتهما الأخيرة على الرياضيات، فصاغ لاجرانج حساب التغاير والذي لا تزال معـــادلاته جزءا من علم الميكانيكا. وظل ليجندر يدرس التكامل الإهليجي (ناقص المقطع) من سنة 6871 إلى سنة 7281 عندما نشر نتائج بحوثه في إحدى الدوريات المتخصصة Traité des fonctions أما جاسبار مونج Gaspard Monge وهو ابن بائع جوال فقد ابتدع الهندسة الوصفية وهي طريقة أو منهج لتقديم أبعاد ثلاثة للأشياء على مستوى ذى بعدين، وقد نظم أمور استخلاص النحاس والقصدير على مستوى الدولة، وكتب نصا شهيرا عن الفن الدقيق لصناعة المدافع وخدم الحكومة الثورية ونابليون فترة طويلة في مجال اختصاصه رياضياً وإدارياً. وأثار لابلاس أهل الفكر في أوربا بمبحثه " عرض لنظام الكون Exposition du Systeme du Monde (6971) صاغ من خلال النظرية السديمية (كون النظام الشمسي نشأ من سديم غازي) وحــاول أن يشــرح الكون من خــلال ميكانزم خالـــص (مجرَّد) وعندما سأله نابليون: "من الذي فعل كل هذا النظام (الميكانزم)؟ أجاب لابلاس: "إنني لست في حاجة إلى هذه الفرضية". أما لافوازيه مؤسس الكيمياء الحديثة فقد ترأس اللجنة التي صاغت النظام المتري (0971) وطور بيرثوليه Bertholet كلا من الكيمياء النظرية والعملية وساعد لافوازيه في وضع مصطلحات ورموز كيميائية جديدة.
وساعد وطنه الذي كان يخوض الحرب بطريقته في تحويل خام الحديد إلى حديد، وتحويل الحديد إلى صلب. وكان زافييه بيشا Xavier Bichat رائدا في مجال علم الأنسجة (الهيستولوجيا) بدراساته الميكروسكوبية للأنسجة. وفي سنة 7971 بدأ سلسلة محاضراته الشهيرة في علم الفيسيولوجيا والجراحة ولخص نتائج بحوثه في دوريــة علمية هي Anatomie generale (1081). وفي سنة 9971 وكان سنه وقتها ثمانية وعشرين عاماً عين طبيبا في مصح الرّبHotel Dieu وعكف على دراسة التغيرات العضوية الناتجة عن المرض في مرحلة الا حتضار (2081) وكان عمره وقتها واحداً وثلاثين عاما.
وربما يمثل بيير كاباني Pierre Cabanis مرحلة انتقال في مجال الفلسفة رغم أنه كان معروفا في عصرة كطبيب في الأساس، إلا أن الأجيال التالية اعتبرته فيلسوفا. وفي سنة 1971 كان يرعى ميرابو Mirabeau في مرضه الأخير. وحاضر في مدرسة الطب عن الصحة والطب الشرعي وتاريخ الطب، وكان لفترة رئيسا لكل مستشفيات باريس. وكان واحدا من كثيرين من الرجال المشهورين الذين أحبوا حبا عاقلا مكتوما أرملة المثقف (الفيلسوف) هيلفيتيوس Helvétius التي كانت دائما جديرة بأن تحب. وقد قابل في صالونها كلاً من:
ديدرو Diderot ودلمبير d`Alembert ودولباش d`holbach وكوندرسيه Condorcet وكونديلاس Condillac وفرانكين Franklin وجيفرسون Jefferson ، وباعتباره دارسا للطب فقد كان على نحو خاص منجذباً إلى كونديلاس Condillac الذي كان معروفا تماما في المجال الفلسفي في فرنسا باعتقاده أن كل المعارف أساسها الحس (أو الإحساس Sensation). وقد راقت هذه الفلسفة الحسية (التي مؤداها أن الحس هو أساس المعرفة) لكاباني Cabanis ، فاتفقا اتفاقا تاما على ما وجده من علاقة ارتباط بين العمليات الجسدية والنفسية. ولقد صدم حتى المفكرين الذي بلغوا مرتبة كبيرة في عصره بقوله:" لتكون فكرة صحيحة عن العمليات التي ينتج عنها الفكر، من الضروري أن تنظر للمخ brain كعضو خاص مهمته المحددة هي إنتاج الفكر، تماما كما للمعدة والأمعاء وظيفة هي هضم الطعام، وكما أن للكبد وظيفة هي فلترة الصفراء،......الخ"(55).
ومع هذا فإن كاباني Cabanis عدل من تحليلات كونديلاس Condillac (كما فعل كانت Kant مؤخراً في كتابه نقد العقل الخالص) فقال بأن الحس يدخل التكوين العضوي (الكائن العضوي) الذي يكون قد تكوّن على نحو ما (نصف تكوّن) عند الميلاد، لكنه يعدل بعد ذلك من خلال كل تجربة يخوضها، ويحمل معه ماضيه في خلاياه وذاكرته ليشكل جزءا من الشخصية المتغيرة بما في ذلك الأحاسيس الداخلية والأفعال الانعكاسية والغرائز والمشاعر والرغبات. فالكلية السيكولوجية تنتج كذلك نماذج لكل بنية (تكوين) وتجعل لكل حس (محسوس) تستقبله غرضا. وبهذا المعنى يكون كاباني Cabanis قد اتفق مع كانت Kant على أن العقل (أو النفس) ليست غفلاً قبل التعليم (أو ليست كصفحة بيضاء خالية) بحيث يطبع عليها الحس ما يشاء. إنها "منظمة" لتحويل الأحاسيس إلى أفكار وأعمال. وعلى كل حال فقد أصر كاباني على أن "العقل" الذي يرجع إليه كانت Kant ليس منفصلاً انفصالا تاما عن الأنسجة والأعصاب.
هذا النظام (أو النسق) المادي ظهر للمرة الأولى (6971) في المذكرات الاثنتي عشرة التي نشرها كاباني معا في سنة 2081 بعنوان "حصاد دراسة فيزيقية الإنسان وأخلاقه Rappots du Physique et du moral de L`homme " وهذه المذكرات تجعل العقل (أو المخ) القوي فعالا وبشكل نشيط على منطقة واسعة من حب الاستطلاع والتأمل. والمقالة الأولى تكاد تكون مسحا للسيكولوجيا الفيسيولوجية وتدرس الأعصاب ذات الصلة بالحالة النفسية. والمقالة الثالثة تحلل "اللاشعور": فذكرياتنا المتجمعة (أو العلامات التي تحدثها الأعصاب) قد تتداخل مع المثيرات الحسية الداخلية والخارجية لتنتج أحلاما، وربما على نحو لا شعوري تؤثر في أفكارنا حتى ونحن في حالة يقظة وانتباه. والمقال الرابع بارتباط العقل بالعمر فأفكار الشخص نفسه وشخصيته قد تختلف تماما في سن السبعين عنها في سن العشرين. أما المقال الرابع فيتناول كيف أن إفرازات الغدد خاصة الجنسية قد تؤثر في مشاعرنا وأفكارنا. والمقال العاشر يؤكد أن الإنسان عرضة لتغير يتم مصادفة أو تبدل، ثم إن هذه الصفات المتغيرة تورث.
وفي كتاب نسب إلى كاباني بعنوان "خطابات في العلل الأولى Letters sur les causes premiéres (4281) نشــر بعد موته بستة عشــر عاما يظهــر أنــه تراجــع عن مذهبه المادي وأرجع العلة الأولى للذكاء والإرادة(65). والمادي قد يذكرنا بأن الجراح الكبير قد حذرنا من تأثير الجسم الهرم (الذي اعترته الشيخوخة) على عقله المرتبط به (أي المرتبط بهذا الجسم). وربما افترض الشكوكي (النزاع إلى الشك خاصة في مبادىء الدين) أن غموض الوعي(الشعور) هو الذي دفع كابانيCabanis إلى الشك في قدرة المذهب المادي على تبسيط الحقيقة المعقدة جدا والمباشرة. وعلى أية حال فإنه لأمر طيب أن يذكر فيلسوف نفسه بين الحين والحين أنه مجرد ذرة يتحدث إلينا عن اللامتناهي.
وثمة رجلان عاصرا عهد الفلاسفة (المفكرون Philosohpes ) عاشا حتى يلتقيا بالثورة التي كانت حلما مرغوباً فيه. فعندما رأى الأب الراهب رينال Abbé Raynal الذي أصبح اسمه لامعا في سنة 11770 بإصداره كتابا عن التاريخ الفلسفي Histoire philsophique ...des deux Indes - نور الحركة التنويرية يخبو بسبب إسفاف الجماهير (العوام)، أرسل إلى الجمعية التأسيسية خطابا في 31 مايو سنة 1791، يعترض فيه ويتنبأ: "لقد كانت لدي الجسارة مدة طويلة لأذكر الملوك بواجباتهم، فدعوني اليوم أن أقول للشعب أخطاءه". لقد حذر هذا الأب الراهب من أن طغيان العامة يمكن أن يكون ظالما و طاغيا كالحكم المطلق للملوك. لقد دافع عن حق الإكليروس في الدعوة للدين، ما دام المناوئون للدين أو رجاله يتمتعون بحرية الكلام. وأدان كذلك التمويل المالي الحكومي لأي دين (كانت الدولة في ذلك الوقت تدفع رواتب القسس) كما أدان هجوم الغوغاء المعادين للدين على رجال الدين. وحث روبيسبير أعضاء الجمعية الغاضبين على التسامح مع هذا الفيلسوف (المثقف) الهرم البالغ من العمر ثماني وسبعين سنة، وبذا نجا من القبض عليه، ومع هذا فقد صودرت ممتلكاته ومات فقيرا محبطا في سنة 6971.
وعاش كونستانتيل شاسبيف دي فولني Constantin Chassebeuf de Volney في معمعة أحداث الثورة وعرف الشخصيات البارزة كلها في باريس من دولباش d`Holbach إلى نابليون. وبعد أعوام من الترحال في مصر والشام تم انتخابه لمجلس طبقات الأمة كما كان عضوا في الجمعية التأسيسية (الوطنية قبل ذلك) حتى حلها سنة 1971. وفي هذا العام نشر الأصداء الفلسفية لرحلاته وجولاته في كتابه: Les Ruines, Ou Méditations sur les révolutions des empires .
ما سبب انهيار هذه الحضارات القديمة الكثيرة؟ وقد أجاب فولني على هذا السؤال بقوله إنها انهارت بسبب الجهل المبثوث في شعوب هذه الحضارات بفعل الأديان الغيبية التي تدعمها حكومات استبدادية، وبسبب صعوبة نقل المعرفة من جيل إلى جيل. والآن وقد فقدت هذه العقائد الخرافية أساسها، ويسرت الطباعة حفظ المعرفة وانتقال العناصر الحضارية، فإن على البشر أن يأملوا في بناء ثقافات (حضارات) دائمة قائمة على نظم أخلاقية تفضى إلى امتداد سيطرة الإنسان على نزعاته غير الاجتماعية وتساعده على التعاون والوحدة خاصة وأن المعرفة قادرة الآن على التطور والانتشار وقد قبض عليه في سنة 3971 باعتباره جيرونديا وقضى في السجن تسعة أشهر، فلما أطلق سراحه أبحر إلى أمريكا ورحب به جورج واشنطن، لكن الرئيس آ د مز Adams (8971) اتهمه بأنه جاسوس فرنسي فكرّ عائداً إلى فرنسا. وعمل كسيناتور Senator في ظل حكم نابليون وعارض الانتقال من "القنصلية" إلى الإمبراطورية وعكف على الدراسة منعزلا حتى عهد لويس الثامن عشر الذي جعله شريفا (نبيلا) في سنة 4181 ومات في سنة 0281، وقد شارك في تنحية البوربون عن العرش كما شارك في إعادتهم للعرش.
7- الكتب والمؤلفون
رغم المقصلة ظل الناشرون ينشرون، وظل الشعراء يقرضون، وظل الخطباء يخطبون وظل المسرحيون يستوحون التاريخ والعشق، وراجع المؤرخون أحداث الماضي، وهذب الفلاسفة الحاضر، ونافست امرأتان الرجال في مجال التأليف من حيث عمق المشاعر والشجاعة السياسية وعمق الفكرة. وإحدى هاتين المرأتين هي مدام رولان Roland التي سجنت وجزت المقصلة رقبتها.
واستمرت أسرة ديدو Didot أكثر الأسر شهرة في مجال النشر، في تحسين صب الحروف وإتقان تجليد الكتب وكان فرانسو ديدو Francois- Didot قد أسس الشركة - للطباعة وبيع الكتب - في باريس. في سنة 1713 وأجرى أبناه فرنسوا أمبرواز ديدو Francois- Ambroise وپيير فرانسوا Pierre- Francois تجارب في مجال فن الطباعة، وأصدرا مجموعة من الأعمال الكلاسية الفرنسية برعاية لويس السادس عشر. ونشر بيير - ابن فرنسوا - أمبروز طبعات فيرجيل (1798) وهوراس Horace (1799) وراسين (1081)، وكانت هذه الطبعات فاتنة ولائقة حتى إن الأثرياء كان يمكنهم شراءها للاستمتاع باقتنائها من قراءاتها. وحقق فيرمين ديدو Firmin Didot (4671-6381) شهرة بابتداعه حروفا طباعية جديدة، كما حاز قصب السبق في اختراع الاستريوتيب (الصفحة الطباعية التي تصنع بصب المعدن في قالب من الجص أو الورق المعجن مأخوذ عن حروف منضدة) وقد نشرت شركة فيرمين ديدو في سنة 4881 الطبعة الفاخرة لكتاب بول لاكروا Poul Lacroix الموسوم بالعنوان "حكومة الإدارة و القنصلية والإمبراطورية Directoire, Consulat et Empire وهو الكتاب الذي رجعنا إليه في هذا الموضع عدة مرات، فمنه على سبيل المثال علمنا أنه على طول فترة الحقبة الثورية كانت مبيعات كتب فولتير وروسو بمئات الألوف من النسخ. وقد أصدر المؤتمر الوطني مرسوما (91 يوليو 3971) لضمان الملكية الفكرية للمؤلف في مطبوعاته حتى بعد وفاته بعشر سنوات(75).
وأشهر شاعرين في العقد الثوري بدآ متفردين في طريقة التعبير والأسلوب، وانتهت حياتهما بنصل المقصلة نفسها. لقد ألف فيليب فرانسوا فابر Philippe Francois Fabre أشعارا جميلة ومسرحيات ناجحة، وأصبح رئيسا لنادي الكوردليير (تجمع سياسي يسارى سبقت الإشارة إليه) وسكرتيرا لدانتون وعضوا في المؤتمر الوطني وفيه صوت لصالح طرد الجيرونديين وإعدام الملك وعين في اللجنة المنوط بها وضع تقويم جديد (التقويم الجمهوري بدلا من التقويم الميلادي). وابتدع كثيرا من أسماء شهوره الفصلية، تلك الأسماء المتسمة بجمال التعبير وحسن التصوير، وفي 21 يناير سنة 4971 قبض عليه بتهمة الفساد والتزوير والتعامل مع الوكلاء الأجانب والتربح والاستغلال، وفي أثناء محاكمته غنى قصيدته القصصية الجذابة :
"الدنيا تمطر Il pleut
الدنيا تمطر Il pleut
هيا أيها الراعي bergere
اجمع غنمك البيضاء rentre tes blancs moutons "
لكن القضاة لم تكن لهم آذان لسماع هذه الأغنية الرعوية (المعنى: لم تجده قصائده شيئا) وفي طريقة إلى المقصلة (5 أبريل 4971) راح يوزع نسخاً من أشعاره على الناس.
أما أندرية ماري دى شينييه Andre` - Marie de Chénier فكان أفضل شعرا وأفضل أخلاقا، لكنه لم يكن أفضل مصيرا. ولد في القسطنطينية سنة 2671 من أب فرنسي وأم يونانية وقد قسم حبه الأدبي بين الشعر الإغريقي والفلسفة الفرنسية. تلقى تعليمه في نافار Navarre وأتى إلى باريس في سنة 4871، وعقد صداقات مع ديفيد ولافوازيه وقبل الثورة بتحفظ. وعارض الدستور المدني للإكليروس الذي ربط الكنيسة الكاثوليكية بالدولة، وأوصى في الجمعية الوطنية بالفصل الكامل بين الكنيسة والدولة، وبإطلاق حرية العبادة لكل الأديان والمذاهب وأدان مذابح سبتمبر وامتدح شارلوت كورداي Charlotte Corday لقتلها مارا Marat وكتب خطابا من أجل لويس السادس عشر إلى المؤتمر الوطني طالبا استئناف حكم الإعدام أمام الشعب، وأدى هذا إلى أن أصبح موضع شك من اليعاقبة الحاكمين، فتم سجنه باعتباره جيرونديا، وقد أحب سجينة جميلة هي الآنسة دى كواني de Coigny التي وجه إليها "الفتاة الأسيرة La Jeune- Captive " التي أكد لامارتين Lamartine أنها "أكثر التنهدات التي خرجت من زنزانات السجون شجنا"(85) وعندما مثل للمحاكمة رفض الدفاع عن نفسه وذهب في طريقه إلى الموت تخلصا من عصر تسوده البربرية والطغيان. ولم ينشر سوى قصيدتين طوال حياته لكن أصدقاءه أصدروا بعد إعدامه بخمسة وعشرين عاما طبعة جمعوا فيها أشعاره جعلته مثل كيتس Keats بالنسبة للأدب الفرنسي. ولا بد أن يكون تفجعه لمأساته ومأساتها هو ما عبر عنه في المقطع الشعري الأخير من قصيدته "الفتاة الأسيرة".
"آه أيها الموت لست في حاجة للعجلة !
انصرف! انصرف!
اذهب لتواسي قلوبا عرفت العار والخوف
حيث النواح والعويل بلا أمل
بالنسبة لي فإن بالز Pales إلهة القطعان سيظل أمامها طرقها المعشوشبة
إن للحب قبلاته، وللربة موزيه Muze راعية الشعر والفنون والعلوم أناشيدها
وأنا ايضا لا أرغب الموت."(95)
وكان أخـو أندريه الأصغر جوزيف دى شينييه Joseph de Chénier (4671 - 1181) مسرحيا ناجحا، وأعاد للأذهان الهياج الذي سببه تمثيل تالما Talma لمسرحية شارل التاسع Charles IX . وكتب كلمات الأنشودة العسكرية "نشيد الرحيل Chant du départ" وأغنية للحرية Humne a` La Liberté " وقد غنيتا في "مهرجان العقل Fast of reason " وقدم لفرنسا ترجمة بارعة لكتاب جراى Gray :
Elegy Written in a Country Churchyard وتم انتخابه للمؤتمر الوطني، وأصبح بمعنى الكلمة هو الشاعر الرسمي للثورة. وفي آخر ع مره كلفه المعهد الفرنسي بإعداد حصر تاريخي بحالة الفكر الفرنسي وتطوره منذ سنة 9871، لكنه مات قبل أن يتمه، ومع هذا فهو سجل واسع للكتاب الذين حققوا شهرة في هذه الفترة والذين نسي الناس معظمهم حتى المتعلمون الفرنسيون. وقد مات أعضاء الأكاديمية الفرنسية الملقبين بالخالدين بعد موته بفترات بسيرة.
وكان الأدب الفرنسي قد استعاد عافيته في ظل حكومة الإدارة بعد أن تحكمت فيه السياسة في عهد المؤتمر الوطني. لقد تكونت مئات من الجمعيات الأدبية وكثرت نوادي القراءة، وانتشرت عادة القراءة وازدهرت. وكانت معظم القراءات في مجال الر وايات والقصص الرومانسي والشعر، فهذه القراءات بدأت تحل محل الولع بقراءة الأعمال التراجيدية. وترجم كتاب ماسفير سون (Ossain) Machpherson إلى الفرنسية وأقبل عليه القراء على اختلاف ميولهم من خادمات غرف النوم إلى نابليون.
8- مدام دى ستيل والثورة
كان ثمة ا مرأة تقف بمعزل عن صائغي الكلمات التي يفرضونها بقوة الصوت أو بقوة شخصياتهم، لقد قبلت هذه المرأة الثورة في الوقت الذي كانت فيه معشوقة من عشاق كثيرين أتى الواحد منهم إثر الآخر، لكنها شجبت الغوغاء وحكم الإرهاب وتصدت لنابليون في كل خطوة وظلت حية حتى النصر، بينما كان هو يذوي حيا كالميت. لقد تمتعت جيرمين نيكر Germaine Necker بمزايا هيأت لها الشهرة والحظ الحسن: فأبوها الذي سرعان ما أصبح مليونيرا أصبح وزيرا لمالية فرنسا، وأمها التي كان إدوارد جيبون Edward Gibbon يلاحقها في وقت من الأوقات، جمعت في صالونها عبا قرة باريس المشهورين، ليؤدي ذلك إلى تعليم ابنتها، سواء كانت هذه النتيجة مقصودة مدبرة أم أتت بغير قصد ولا تدبير.
ولدت في باريس في 22 أبريل سنة 6671. وقد ملأها نيكر Necker - باعتباره مرشدها الرئيسي - بمزيج متفجر من التاريخ والأدب والفلسفة، وكتابات راسين وريتشاردسون وكالفن Calvin وروسو. ولقد تجاوبت في رقة الشعور مع كلاريسا هارلو Clarissa Harlow وفي حماس الشباب مع دعوة روسو إلى الحرية لكنها أثبتت حساسيتها بشكل مؤلم مع الكالفنية Calvinism وقاومت النظام واللاهوت اللذين كانا هما طعامها اليومي. وشيئا فشيئا نفرت بسرعة مما يزعجها - سيطرة أمها - وأحبت أباها الفاضل المعين رغم تسامحه. تلك هي العلاقة الوحيدة التي حافظت عليها وتمسكت بها بإخلاص كامل، أما علاقاتها الأخرى فكانت عرضية لا تتسم بالاستمرار. لقد كتبت: "قدرانا كانا سيكونان قدرا واحدا يوحدنا للأبد لو كان القدر قد شا ء أن يجعلنا في الفترة الزمنية نفسها"(06). وفي هذه الأثناء سمح لها من سن البلوغ فصاعدا أن تحضر اجتماعات أمها الدورية مع المفكرين، وكان الهدف من السماح لها بذلك هو مزج عواطفها بالفكر، وفي صالون أمها أسعدت العلماء بسرعة فهمها وحضور بديهتها. وبمرور الوقت أصبحت وهي في السابعة عشرة نجمة الصالون.
والآن حان وقت البحث لها عن زوج موافق لعقليتها ومناسب لمكانة أسرتها الثرية. ورشح لها والداها وليم بت William Pitt النجم الصاعد في سماء السياسة الإنجليزية لكن جيرمين رفضت الفكرة للسبب نفسه الذي جعل أمها ترفض جيبون Gibbon وهو أن الشمس لا تكون مشرقة فترة كافية في إنجلترا كما أن الإنجليزيات جميلات لكنهن مقموعات (لا يسمعهن أحد). وتقدم لها البارون إريك ماجنوس ستيل فون هولشتين Eric Magnus Stael Von Holstein الذي كان قد أصـــبح مفلسا، وأرجأ آل نيكر طلبــه حتى أصبح هــو السفير الســويدي لـدى فرنسا. فما أن حدث هذا حتى وافقت جيرمين على الزواج منه لأنها توقعت أن تكون وهي زوجة أكثر استقلالا منها وهي ابنة. وفي 41 يناير في سنة 6871 أصبحت هي البارونة دى ستيل هولشتين de Stael Holstein وكانت في العشرين من عمرها، بينما كان البارون (زوجها) في السابعة والثلاثين من عمره. وكان هناك تأكيد أنها "لم تكن تعرف شيئا عن الاتصال الجنسي حتى زواجها"(16) لكنها كانت سريعة التعلم في مختلف المجالات. وقد وصفتها الكونتيسة دي بوفلر de Boufflers التي كانت في مقدمة الحاضرين في حفل العرس بأنها "معجبة بعقلها وذكائها بشكل زائد حتى إنه من الصعب أن يجعلها ذلك تتحقق من عيوبها. إنها متغطرسة وذات إرادة قوية بشكل يفوق الوصف، وواثقة من نفسها حتى إنني لم أر لها في هذا نظيراً ممن هم في مثل عمرها"(26) لم تكن جميلة فبنيانها رجولى كعقلها لكن عينيها تتلألآن بالحيوية أما عند النقاش فليس لها كفء.
وقد ذهبت لتعيش في السفارة السويدية في شارع دوباك Rue du Bac وسرعان ما أسست لها صالونا هناك، لكن أيضا - تخلصاً من إزعاج أمها - اتخذت لصالونها مقرا في شقة فوق بنك أبيها. وطرد نيكر من وزارة المالية في سنة 1871 ولكنه استدعى مرة أخرى ليشغل المنصب نفسه في سنة 8871 لتحاشي تهديد الثورة. إنه الآن رغم ملايينه المثل الأعلى في باريس، وكانت جيرمين تؤيده بشدة بلسانها وقلمها، وكان لديها بعض الأسباب التي تجعلها فخورة به، وأصبحت السياسة والحب غير المشروع هما طعامها وشرابها (لا هم لها سواهما).
وبناء على نصيحة نيكر دعا لويس السادس عشر مجلس طبقات الأمة للانعقاد، وأمر الملك متجاوزا اعتراض نيكر أن تجتمع كل طبقة في مكان منفصل محافظا بذلك على الفصل بين الطبقات. وفي 21 يوليو سنة 9871 طرد الملك نيكر للمرة الثانية وأمره بمغادة فرنسا فورا. فأسرع نيكر وزوجته بالتوجه إلى بروكسل وتبعتهما جيرمين وقد ملأها الغضب فنسي ستيل Stael مهام منصبه وصحبها وربط مصيره بمصيرها. وفي 41 يوليو اجتاح الباريسيون سجن الباستيل وهددوا العرش. فأرسل الملك الذي تملكه الرعب لاستدعاء نيكر إلى باريس ليشغل منصبه فعاد نيكر وصفق له الشعب، واندفعت جيرمين عائدة إلى باريس وراحت تحس كل يوم برياح الثورة الساخنة حتى مذابح سبتمبر.
وأيدت مجلس طبقات الأمة لكنها دافعت عن فكرة وجود مجلسين تشريعيين في ظل ملكية دستورية مؤكدة أفكار الحكومة النيابية والحريات المدنية وحماية الملكية. وكلما تقدمت الثورة في مسارها كانت هي تبذل قصارى جهدها للتخفيف من أفكار اليعاقبة. وكانت تشجع الجيرونديين.
وعلى أية حال فقد بزّت اليعاقبة في فلسفتها الأخلاقية وكل من قابلتهم من الرجال تقريبا كان الواحد منهم يرى أنه من المعقول أن يكون زواجه قائما على اتحاد الثروات (ثروته وثروة زوجته) لا على اتحاد القلوب، إذ يمكن لمحظية أو محظيتين أن تتيح له الإثارة والرومانسية، لكن الواحد من هؤلاء الرجال لم يكن يظن أن هذا الامتياز يمكن أن يمتد ليشمل الزوجة لأن عدم إخلاصها قد يؤدي إلى إنجاب أولاد ليسوا من صلبه وبالتالي تضيع الثروة (تذهب لغير أبنائه أي تفسد عملية التوريث) ولم تكن جيرمين تشعر بهذه الحجة لأنها وهي الابنة الوحيدة يكاد يكون الميراث كله لها، لذا فقد انتهت إلى نتيجة مؤداها أن عليها أن تبحث عن الرومانسية متحررة من القيود كلها حتى في اختيار أسرّة أخرى (التعامل في غير مخدع الزوجية).
وكانت قد فقدت احترامها لزوجها سريعا، فقد كان مطيعا جدا بطريقة لا تجعله مثيرا، وكان غير كفء بطريقة تجعله غير قادر على تسديد ديونه، ولم تكن معترضة على اتخاذه من الآنسة كليرون Clairon محظية، لكنه كان ينفق دخله الحكومي على ممثلة مسرحية عمرها إحدى وسبعون سنة وكان يهمل واجباته كسفير وكان يقامر ويخسر وتراكمت عليه الديون مرارا، فكان يدفعها عنه زوجته وأبوها مكرهين، ومن هنا فقد شقت طريقها بين موكب العشاق لأنه كما قالت في "دلفين Delphine " "بين الله والحب لا أعترف بوسيط سوى ضميري" والضمير يمكن التحكم فيه Could be managed وكــان مـــن بين أول من تعاون معها تاليران Talleyrand أسقف أوتون Autun المطرود الذي اتفق معها في مسألة مرونة النذر أو القسم (اتخاذ المرء على نفسه عهدا Flexibility of vows ) تم أتى بعده الكونت جاك أنطوان دى جوبير Jacques Antoine de Guibert الــذي أصـــبح فيمـــا بعد "المثـــل الأعلى الجميل beau Idéal " لجولي دى ليسبيناس Julie de Lespinasse لكنه على أية حال مات في سنة 0971 وهو في السابعة والأربعين. وقبل موته بعام كون علاقة أعمق وأكثر استمرارا مع لويس دي ناربون لارا Louis de Narbonne Lara ، وكان ابنا غير شرعي، وكان لديه هو نفسه عندما بلغ الثالثة والثلاثين من عمره عددا من الأبناء غير الشرعيين (أولاد الزنا) لكنه كان وسيما بشكل ملحوظ، ويتحلى بدماثة وفضائل قلما يتحلى بها شاب وضيع الأصل (ليس له شجرة نسب). وكان بحكم ميراثه الاجتماعـــي يقف إلى جانب الأرستقراطية ضد البورجوازية (محدثي النعمة) لكن جيرمين جذبتــــه إلى أفكارهـــا وجعلته من أنصار الملكية الدستورية التي يمكن في ظلالها للطبقة التي تمتلك أن تشــــارك النبلاء والملك فـــي الحكـــم.وإذا كان لنا أن نصدقها فإن ناربون Narbonne "غير قدره من أجلي، وتخلى عن ارتباطاته ووقف حياته لي. باختصار... لقد أقنعني أنه سيعتبر نفسه سعيدا بامتلاكه قلبي، وأنه إذا لم يجد لذلك سبيلا فقد لا يستطيع البقاء على قيد الحياة"(36).
وفي 4 سبتمبر سنة 0971 استقال نيكر، لعدم رضا النبلاء المحيطين بالملك عن سياسته، واتجه هو وزوجته ليعيشا حياة هادئة في قصره في كوبت Coppet ، ولحقت بهما جيرمين في أكتوبر لكنها سرعان ما سئمت الهدوء في سويسرا، وأسرعت عائدة لما أسمته - بالمقارنة - باسم شارع دو باك اللذيذ(46) Rue du Bac فهناك كان صالونها تتردد فيه أصوات لافاييت Lafayette وكوندرسية Condorcet وبريسو Brissot وبارنيف Barnave وتاليران وناربون، وصوتها. ولم تكن راضية عن اكتفائها بالمناقشات الألمعية، فقد كانت تتطلع للقيام بدور سياسي. وأطلقت العنان لأحلامها بتحويل فرنسا من الكاثوليكية إلى البروتستانتية وكانت تأمل من خلال عش النبلاء الذي بنته أن تنهي الثورة بملكية دستورية تحقق فرنسا في ظلها السلام. وبمساعدة لافاييت Larayette وبارنيف Barnave ضمنت تعيين ناربون Narbonne وزيرا للحرب (6 ديسمبر 1971). وقد أيدت ماري أنطوانيت هذا التعيين مكرهة، فقد علقت قائلة : "يا للمجد الذي حازته مدام دستيل de Stael " يا لسعادتها أن يكون الجيش كله تحت تصرفها !!"(56 ). لقد اشتط ناربون كثيرا، ففي 42 فبرا ير قدم للويس السادس عشر مذكرة يشير عليه فيها أن يولي ظهره للأرستقراطية، وأن يعطي ثقته ودعمه لبورجوازية الملاك التي تأخذ على عاتقها المحافظة على القانون والنظام والملكية المقيدة، وقد اعترض بقية الوزارء غاضبين، ورضَخَ لويس لمعارضتهم وطرد ناربون Narbonne ، فسقط بيت جيرمين غير الراسخ أو غير القائم على أساس، وقامت مدام رولان بوضع الملح على جروح منافستها بأن عملت من خلال بريسو Brissot على تعيين زوجها(زوج مدام رولان) وزيرا للداخلية.
لقد عاشت جيرمين في باريس خلال معظم عام 2971، هذا العام المتسم بالاضطراب، وفي 02 يونيو سنة 2971 شاهدت اجتياح الجموع لقصر التوليري، ورغم أنها رأت المشهد عبر نهر السين إلا أن طريقة الجماهير غير المتحضرة سببت لها الرعب.
"لقد كانت صيحاتهم المرعبة وتهديداتهم المصحوبة بالقسم وإيماءاتهم وأسلحتهم الغدارة القاتلة، كل ذلك كان يشكل مشهدا مرعبا يمكن أن يدمر وإلى الأبد الاحترام الذي يجب أن يتطلع إليه الجنس البشري"(66). لكن هؤلاء الجورى Jouree (كما اعتاد الفرنسيون تسميتهم بعد ذلك) أصبحوا هادئين بعد أن استرضاهم الملك بوضع >كاب< الثورة الأحمر فوق رأسه. وعلى أية حال ففي 01 أغسطس شاهدت من مكمنها الآمن استيلاء الغوغاء على التوليري وإراقة الدماء في أثناء عملية الاستيلاء وكيف أن الغوغاء لم يهدأوا حتى فر الملك والملكة ليكونا تحت حماية الجمعية التشريعية. وبدأ الثوار في القبض على كل أرستقراطي وقعت عيونهم عليه، واستغلت جرمين وضعها الآمن في حماية أصدقائها من الأرستقراطيين، فخبأت ناربون في موضع منعزل في السفارة السويدية، وصمدت بعناد وأخيرا اتفقت مع جماعة من خفر السواحل، وفي 02 أغسطس كان ناربون آمنا في إنجلترا.
وكان بعد ذلك ما هو أسوأ، ذلك أنه في 2 سبتمبر قاد لابسو السراويل >البناطيل< الطويلة (الذين لا يرتدون سراويل قصيرة أو السانس كولوت) النبلاء ومؤيديهم وقتلوهم ولم تنج مدام دى ستيل من هذا المصير إلا بشق الأنفس. فبعد أن ساعدت كثيرين من أصدقائها على الخروج من باريس بل ومن فرنسا كلها بدأت هي نفسها في يوم 2 سبتمبر الساطع هذا رحلتها في عربة من عربات الدولة تجرها ستة خيول ومعها خدم ذوو ثياب مميزة واتجهت إلى بوابات المدينة، ووضعت بتروٍ شارة السفراء وعلاماتهم على أمل أن يستقبلها موفدون دبلوماسيون، وما كادت العربة تنطلق حتى أوقفها "سرب من النسوة العجائز، وكأنهن خرجن من الجحيم" وأمرت جماعة من العمال الحوذيين بالتوجه إلى مركز الحي (القسم) وهناك أَفْزَغَ الحراس المجموعة بتوجيههم العربة ومن فيها إلى دار البلدية. "وهناك خرجت من العربة وأحاط بي غوغاء مسلحون وشققت طريقي بين أسنة الرماح، وبينما كنت أصعد السلم الذي كان أيضا غاصا بحاملي الرماح وجه أحدهم رمحا إ لى قلبي. لكن رجل الشرطة المصاحـب لي أبعده عــني بسيفه. لو أن قدمي زلت في هذه اللحظة لكان في ذلك نهايتي"(76). وفي مقر الكومون وجدت صديقا عمل على إطلاق سراحها ورافقها إلى السفارة وسلمها جواز سفر مكنها في صباح اليوم التالي من مغادرة باريس بأمان إلى كوبت Coppet . لقد كان هذا هو اليوم الذي رفع فيه رأس الأميرة ديلامبل de Lamballe على سن رمح وطيف به لتراه الملكة السجينة. ووصلت جيرمين إلى أحضان والديها في 7 سبتمبر وعندما سمعوا بثورة في جنيف اتجهوا شرقا إلى رول Rolle بالقرب من لوزان Lousanne . وفي 02 نوفمبر سنة 2971 أنجبت جيرمين ابنها ألبرت وكان سنها وقتئذ ستة وعشرين عاما والذي كانت تحمله معها خلال مغامراتها مع الموت. وربما تكون قد أنجبته من خلال علاقتها مع ناربون لكن زوجها (دي ستيل) أقنع بأنه أبوه، فاقتنع أو تظاهر بالاقتناع. وفي رول Rolle وبعد ذلك في كوبت Coppet آوت إليها عددا من الرجال والنساء المشاهير وغير المشاهير الهاربين من فرنسا قبل حكم الإرهاب في طريقهم إلى بلاد أخرى. "ولم تعبأ هي ولا أبوها بأن هذا قد يسبب المتاعب لهما"(86 ).
وعندما علمت أن ناربون عرض أن يغادر ملجأه في إنجلترا ويعود ليدافع عن لويس السادس عشــر، لم تستطع تحمــل فكــرة أن يعــرض نفسه للخطر، فوجدت أنه يجب عليها التوجه إلى إنجلترا لإثنائه عن عزمه، فاتخذت طريقها عبر فرنسا وعبرت القناة والتقت بناربون في صالة جونيبر Jouniper Hall في ميكلهام Mickelham بالقرب من لندن، وفي 12 يناير سنة 3971 أي اليوم نفسه الذي قدم فيه الملك لويس السادس عشر للمقصلة. وكان عشيقها السابق مستثارا جدا بالأخبار التي وصلته، فلم يرحب بها الترحيب الكافي. لقد غلب عليه أصله الأرستقراطي، وضاع حبه لخليلته وسط أحزانه لمقتل الملك، وراح تاليران المقيم بالقرب من لندن يزورهما تباعا للتخفيف عنهما بفكاهاته. وانضمت إليهما فاني بورني Fanny Burney وذكرت في تقريرها in Macaulay`s Summary ) أنها " لم تكن قد سمعت أبداً مثل هذه المناقشة قبل ذلك. لقد تجمعت أمور كثيرة لتفتنها: بلاغة تتسم بالحيوية وملاحظات حادة كأشد ما تكون الحدة، وعقل متألق كأشد ما يكون التألق، ولطف وكياسة وعاطفة جياشة، كأشد ما يكون ذلك كله". ورفضت فاني أن تصدق الإشاعات القائلة بأن ناربون وجيرمين يعيشان في الحرام(يمارسان الزنا معا). لقد كتبت إلى أبيها المؤرخ الموسيقى الشهير :
"لقد كانت هذه المشاركة الحميمة... جديدة تماما لي، وإنني أعتقد اعتقادا راسخا أن ما يقال عنها محض افتراء. إنها تحبه حبا حنونا، لكن بشكل واضح جدا وبسيط جدا.. خال تماما من كل غنج أو عبث. إنها متسامحة جدا، وسهلة جدا، وهو وسيم جدا، ولا بد أن موهبتها العقلية هي مصدر جاذبيتها له، ولا شيء آخر... أظن أنك لا تستطيع أن تقضي يوما معهما من غير أن تدرك أن تجاوبهما الفكري من النوع الخالص رغم سموه وهو أى هذا التجاوب عماد صداقتهما"(96).
لكن عندما تأكدت فاني أنهما يمارسان الرذيلة تخلت آسفة عن زيارتهما في صالة جونيبر. بل إن المهاجرين (الذين تركوا فرنسا بسبب أحداث الثورة) قد ابتعدوا عن هذه المجموعة الصغيرة باعتبار أنهم دافعوا عن الثورة مدة طويلة. وفي 52 مايو سنة 3971 عبرت جيرمين إلى أوستند Ostend واتخذت طريقها بأمن إلى بيرن Bern باعتبارها لا تزال زوجة للسفير السويدي، وفي بيرن التقت بزوجها الموسمي (الذي لا يلقاها إلا بين الحين والحين أو بتعبير آخر زوج المناسبات) وذهبت معه إلى كوبت Coppet . وهناك نشرت كتابها: تأملات في محاكمة الملكة بقلم امرأة" دعت فيه بحرارة للنظر إلى ماري أنطوانيت بعين الرحمة، لكن المقصلة سرعان ما قطعت رقبة الملكة في 61 أكتوبر سنة 3971.
وماتت مدام نيكر في 51 مايو سنة 4971 وحزن عليها زوجها حزنا عميقا لا ينتج إلا عن طول العشرة " أما جيرمين فلم تتأثر كثيرا، وانتقلت إلى قصر ميزيرى Mézery لتكون صالونا جديدا ولتنسى كل شيء آخر في أحضان كونت ريبنج Ribbing ، ووصل ناربون متأخرا فوجد أحضانها مشغولة بغيره فعاد إلى خليلته السابقة، وأحيانا في أثناء سقوط سنة 4971 كان بنيامين كونستانت (قسطنطين) Benjamin Constant يلتقى بها في نيون Nyon ، ليندمجا معا في علاقة طويلة قوامها الفكر والعشق، وكان بنيامين هذا سويديا في نحو السابعة والعشرين من عمره، طويلا بوجهه نمش و كان أحمر الشعر. وفي هذه الأثناء سقط روبيسبير ووصل المعتدلون إلى السلطة فآن لها أن تعود إلى باريس فعادت في مايو سنة 5971 وتصالحت مع زوجها وأحيت صالونها في السفارة النمساوية ودعت إليه الزعماء الجدد للمؤتمر الوطني المحتضر : بارا، وتاييه Tallein وبويسى دنجلا Boissy d ` Anglas وأسود الأدب مثل ماري جوزيف شينييه Marie Joseph de Che`nier . واقتحمت مجال السياسة بشوق شديد حتى إن أحد أعضاء المؤتمر الوطني اتهمها بأنها تدبر مؤامرة ملكية واتهم زوجها بأنه ديوث (يقبل الخنا في أهله). وأصدرت لجنة الأمن العام الجديدة قرارا بإبعادها عن فرنسا، وفي أول يناير سنة 6971 عادت مرة أخرى إلى كوبت Coppet ، وهناك بين كونستانت (قسطنطين) وكتبها كتبت دراسة كئيبة بعنوان: De L`influence des Passions" " أي "أثر الهوى" استوحت فيه روسو وشعورها، وكانت فيه صدى لكتاب The Sorrows of Werther وقد امتدحت في كتابها هذا الانتحار، ورتب أصدقاؤها في باريس طلبات مفعمة حماسا وعاطفة لإعادة النظر في أمرها، فأعلمتها حكومة الإدارة أنه في مقدورها أن تعود إلى فرنسا على أن تكون في مكان يبعد عن العاصمة عشرين ميلا على الاقل، فعادت مع كونستانت (قسطنطين) لتستقر في دير سابق في هيريفو Hérivaux ، وفي ربيع سنة 7971 سمح لها بالانضمام لزوجها في باريس، وفي 8 يونيو انجبت ابنتها ألبرتين Albertine لا يعرف أبوها على وجه اليقين. وخلال هذه التعقيـــدات استطاعت عن طريق باراــ Barras أن تتوســـط لاستدعاء تاليران من منفــاه وتعيينـــه (في 81 يوليو 7971) وزيـــرا للخارجية. وفــي سنة 8971 فقد البارون دي ستيل de Stael منصبه كسفير، فمنح جيرمين انفصالا وديا (اتفق معها على الانفصال بشكل ودي) مقابل حصة ماليه، وعاد إلى منزله الذي يعرف الآن باسم قصر الكونكورد Concorde وظل به حتى وجدناه ميتا في سنة 2081.
وفي 6 ديسمبر سنة 6971 قابلت نابليون لأول مرة في استقبال أعده تاليران لاستقبال فاتح إيطاليا عند عودته لفرنسا. وتحدث إليها نابليون مادحا والدها في عبارات موجزة. ولأول مرة في حياتها لم تكن جاهزة للرد (للتجاوب في الحديث). لقد قالت بعد ذلك: "لقد اعتراني الاضطراب إعجابا به ورهبة منه"(07) وقد سألته سؤالا غبيا:"من هي أعظم امرأة بين الأحياء والأموات؟" فأجابها إجابة ملتوية شيطانية: "إنها المرأة التي أنجبت أكبر عدد من الأبناء"(17) وبعد ذلك بأربعة أيام رأته مرة أخرى وأعضاء حكومة الإدارة يستقبلونه مصفقين في قصر لكسمبورج. لقد كانت مرتبكة إزاء شخصية نابليون التي جمع فيها مزاج من الكبرياء والتواضع، وهنا شعرت أن نابليون هو الرجل الذي يحمل معه قدر فرنسا. وظلت طويلاً تواقة لكسب ثقته والاشتراك معه في مشروعات كبيرة، ربما ليكون ذلك نصرا لها يضاف إلى انتصاراتها السابقة، وقد سعدت كثيرا كعاشقة تكتم عشقها في 01 نوفمبر سنة 9971 عندما أخبرها لوسين بونابرت أن نابليون خرج منتصرا في سان كلود St.- Cloud وحمل لقب القنصل الأول وهذا يعني عمليا أنه حاكم فرنسا. لقد شعرت عندئذ أن عصر الفوضى والتشوش والمثاليات الكاذبة قد أنتهى وأن عصرا جديدا للأبطال والعظمة قد بدأ.
9- النتائج، وتأملات في الأحداث
أما وقد قصصنا قصة الثورة الفرنسية بحياد بقدر ما سمح بعدها عن زماننا. لقد بقي أن نواجه الأسئلة التي أثارها الفلاسفة: أكان للثورة مبرراتها المعقولة في أسباب قيامها وما تمخضت عنه؟ هل حققت مكاسب مهمة للشعب الفرنسي أو البشرية؟ أكان من الممكن الوصول إلى هذه لمكاسب بغير ما جرى من فوضى ومعاناه؟ أيمكن أن نخلص من أحداثها بنتائج يمكن تعميمها على الثورات عامة؟ أتلقي أضواء على طبيعة الإنسان؟ إننا نتحدث هنا - فقط عن الثورات السياسية أي التغيرات السريعة والعنيفة لتغيير الحكومات سواء تغيير الحكام أم تغيير السياسة أما التطور بلا عنف فسنطلق عليه "التحول أو النمو والتقدم evolution ، أما التغير السريع والعنيف أو التغيير غير الشرعي الذي يشمل الأشخاص بلا إحداث تغيير في شكل الحكومة فسنسميه انقلاباً Coup d `eltat ، أما أي مقاومة علنية للسلطة القائمة فسنسميها عصيانا rebellion .
إن أسباب الثورة الفرنسية باختصار هي: (1) عصيان برلمانات الدوائر (المحافظات) مما أدى إلى إضعاف سلطة الملك وإضعاف الولاء لنبلاء >الأرواب< of the robe . (2) طموح فيليب دورليان Philippe d`Orleans للوصول إلى العرش ليحل محل لويس السادس عشر. (3) عصيان ا لبورجوازية وتمردها على تخلي الدولة عن مسئوليتها المالية وتدخل الدولة في الاقتصاد، وعدم مشاركة الكنيسة بثرواتها لمواجهة الإفلاس المالي للدولة، واعتراض البورجوازية أيضا على امتيازات الأرستقراطية في أموال الدولة، وفي الحياة الاجتماعية. (4) عصيان الفلاحين وتمر دهم بسبب العوائد والمراسيم الاقطاعية والضرائب والعشور الكنسية. (5) عصيان جماهير باريس ضد الظلم الطبقي والمعوقات القانونية والعجز الاقتصادي والأسعار المرتفعة والتهديد العسكري. وقد مول البورجوازيون وفيليب دورليان الدعاية التي بثتها الصحف وأججها الخطباء، وتو جيه الجماهير، وإعادة تنظيم الطبقة الثالثة في جمعية وطنية تمكنت من فرض دستور ثوري. وأدت شجاعة العوام وصلابتهم وعنفهم وما بذلوه من دماء إلى إرهاب الملك وإرغامه على قبول الجمعية والدستور كما أرغموا الأرستقراطية على التخلي عن عوائدها الإقطاعية وأرغموا الكنيسة على التخلي عن العشور، وربما وجب أن نضيف كعامل ثانوي إنسانية الملك ورغبته في تحاشي إراقة الدماء. أما نتائج الثورة الفرنسية فعديدة ومعقدة ومتنوعة ودائمة تماما حتى إنها تجعل من المحتم تناولها عند كتابة تاريخ القرن التاسع عشر.
1- النتائج السياسية
وهي نتائج واضحة: انتهاء النظام الإقطاعي، ليصبح الفلاحون أحراراً، ويصبح جانب منهم ملاكا. وحلت المحاكم المدنية محل المحاكم الإقطاعية وحلت ديمقراطية الملاك محدودي الملكية محل الملكية المطلقة، وحل بورجوازيو الأعمال Business محل الأرستقراطية كطبقة ذات سيادة تتولى أمور الإدارة. و مع الديمقراطية أتت المساواة أمام القانون وإتاحة الفرص للجميع على سواء وحرية إبداء الرأي وحرية العبادة وحرية الصحافة (على الأقل تم الإعلان عن هذا كأمل) لكن سرعان ما قلت مقادير الحرية المتاحة بسبب التباين الطبيعي بين الناس في القدرات، والتباين بين بيئاتهم في البيوت والمدارس والثروات. ويلاحظ أن هذا التحرر السياسي والاقتصادي والتشريعي قد امتد إلى شمال إيطاليا وبلاد الراين وبلجيكا وهولندا بفضل جيوش الثورة، ففي هذه المناطق أيضا أزيح النظام الإقطاعي ولم يعد حتى بعد سقوط نابليون. ومن هنا كان الفاتحون محررين وإن لوثوا عطاياهم بما مارسوه من ابتزاز في أثناء حكم هذه المناطق.
وأكملت الثورة توحيد ولايات (محافظات) فرنسا نصف الموحدة وجعلوا منها دولة فرنسية ذات حكومة مركزية وجيش وطني وقانون يسري في جميع الولايات جميعها. وكانت وحدة هذه المحافظات في كيان واحد ناقصة قبل الثورة بسبب البارونات الإقطاعيين وضرائب الانتقال من محافظة إلى أخرى واختلاف أصول (أعراق) سكانها واختلاف تقاليدها وعملتها وقوانينها. لكن هذا التغيير فيما يشير توكفيل Tocqueville كان يسير سيرا حثيثا في ظل البوربون، فكان من المحتمل انجاز وحدة فرنسا بغير الثورة لأن التجارة على مستوى فرنسا كلها كانت بشكل متزايد تتجاهل الحدود بين المحافظات، تماما كما فرض الاقتصاد الوطني في الولايات المتحدة تقليص حقوق (الولايات) بإيجاد حكومة فدرالية كان لا بد أن تكون قوية.
وعلى النحو نفسه فإن تحرير الفلاح وصعود البورجوازية للسلطة السياسية و الهيمنة الاقتصادية، كان من الممكن أن يحدث بغير الثورة، وإن كان حدوثه في هذه الحال سيكون بشكل أبطأ. وكانت الثورة في ظل الجمعية الوطنية (9871-1971) معقولة ولها ما يبرر تصرفاتها فيما وصلت إليه من نتائج دائمة، لكن الثورة في ظل حكومات الفترة من 2971 إلى 5971 كانت تمثل فترة بربرية تمثل فيها القتل والإرهاب والانهيار الخلقي بطريقة لا يمكن تبريرها بشكل كاف بوجود مؤامرات خارجية وهجوم خارجي. وفي سنة 0381 عندما أنهت ثورة أخرى الأمور بتأسيس ملكية دستورية، كانت النتيجة هي تقريبا مثل النتيجة التي تم التوصل إليها في سنة 1971.
وما حققته الثورة من مكسب بتوحيد فرنسا جرت موازنته بتطور "الوطنية" لتصبح مصدرا جديدا للعداوة بين الجماعات، فالقرن الثامن عشر كان ينحو عند الطبقات المتعلمة إلى التحرر من الأحقاد الوطنية بإضعاف الفروق بين الأوطان في الثقافة واللباس واللغة، لقد كانت الجيوش نفسها في غالبها تنحو نحو العالمية جنوداً وقادة. وقد غيرت الثورة هذا الاتجاه باتخاذها التجنيد الإلزامي نظاما، وأصبح الولاء للأمة بدلا من الولاء للأسرات المالكة هو الأساس وهو دافع الحرب وينبوعه. ونجح التآخي (الرفقة) بين الجنرالات في أن يحل محل ا لتكتل الأرستقراطي بين الضباط، وطغت وطنية الجنود المفعمة حماسا على برود موظفي الحكم القديم وممارستهم أعمالهم بلا روح. وعندما طور الجيش الفرنسي نظامه وازداد كبرياؤه أصبح القوة الوحيدة المنظمة في دولة مشوشة، وأصبح الملجأ الوحيد من بلبلة حكومات لا تتسم بالكفاءة وجماهير متمردة.
لا شك أن الثورة قد أتاحت الحريات بشكل أفضل في فرنسا وما وراءها، ومدتها لفترة إلى المستعمرات الفرنسية، بل وحررت عبيد هذه المستعمرات. لكن الحرية الفردية كانت تنطوى على مثالب. لقد ظلت هذه الحرية الفردية تزداد حتى تجاوزت الحدود الضرورية لنظام اجتماعي والضرورية لبقاء المجتمع على قيد الحياة، فالحرية التي لا حدود لها هي الفوضى كاملة، وأكثر من هذا فإن القدرات المطلوبة لإشعال ثورة تختلف تماما عن القدرات المطلوبة لبناء نظام جديد، فإشعال ثورة يتطلب - ليتم بسرعة - سخطا وعاطفة وانفعالا وشجاعة ولامبالاه بالقانون، وبناء نظام جديد يتطلب صبرا وعقلا وتقديرا للأمور بشكل عملي واحتراما للقانون. وما دامت القوانين الجديدة لا يدعمها تراث وعادات، فإنها عادة ما تفرض بالقوة. وأصبح دعاة الحرية هم القابضين على السلطة أو الذين أفسحوا المجال للقابضين على السلطة ولم يعودوا هم زعماء الغوغاء المدمرين وإنما قادة البناء المنظمين في ظل دولة عسكرية تحميهم وتشرف عليهم. ولحسن الحظ، فإن الثورة استطاعت أن تتخلص من الدكتاتورية أو تقصر أمدها، فحافظت على مكاسبها من الحرية للأجيال التالية.
2- النتائج الاقتصادية
وتتمثل في ملكية الفلاحين وفي الرأسمالية وقد نتج عن كل منهما آثار لا نهاية لها، فبعد أن أصبح الفلاحون ملاكا صاروا قوة محافظة شديدة، أبطلوا الاتجاه الاشتراكي للبرولتياريا الذين لا يملكون، وعملوا - أي الفلاحون - كمرساة أمان لاستقرار الدولة التي كانت تعاني من صدمات ما بعد الثورة، وظل دورهم هذا قائما عبر قرن من الزمان. وعلى هذا فقد تطورت الرأسمالية التي تلقى الحماية في الريف كما تطورت في المدن، وحلت النقود السائلة (السيولة النقدية) محل الثروة العقارية كقوة اقتصادية وسياسية، وتخلص الاستثمار الحر من السيطرة الحكومية.
وحقق الفيزيوقراط نصرا في معركتهم، أي أن يتركوا لحركة السوق تحديد الأسعار والأجور والإنتاج، فيكون "النجاح" أو "الفشل" محكوما بالمنافسة في "السوق" فيجب ألا تعوق القوانين حركة السوق. وتحركت البضائع من محافظة إلى محافظة بلا إزعاج أو تعويق بعد إلغاء ضرائب الانتقال الداخلية (من محافظة إلى أخرى) ونمت الثروة الصناعية وزاد تركزها عند القمة.
وعملت الثورة أو تشريعات الثورة بشكل متكرر على إعادة توزيع الثروة التي تركزت في جانب دون الجوانب الأخرى وأدى تفاوت القدرات أو الامتيازات إلى تركزها مرة أخرى (في جانب أو طبقة). لقد حتم تفاوت قدرات الأفراد حصول كل منهم على ما يكافىء جهده، فكان من الضروري أن تتفاوت حظوظهم في الحياة. فكل تفوق "طبيعي" يؤدي إلى مزايا في البيئة أو في الفرص. وحاولت الثورة أن تقلل من هذا التفاوت ا لمتكلف (المصطنع)، لكنه سرعان ما عاد مرة أخرى وبشكل أسرع في ظل الحرية، فالحرية والمساواة لا يجتمعان (الحرية والمساواة عدوان لا يلتقيان Libery and equality are enemies ) فالناس تسعد بمزيد من الحرية لا لشيء إلا ليحصدوا نتائج تفوقهم"الطبيعي" و "البيئي" ومن هنا فإن التفاوت (عدم المساواة) يزداد كثيرا في ظل الحكومات التي تؤيد الاقتصاد الحر وتدعم حقوق الملكية. فالمساواة مبدأ مزعزع غير مستقر (توازنه غير ثابت) أي أن المساواة (بفرض وجودها) سرعان ما تنتهى إن حدث تغير في المواريث أو الصحة أو الذكاء أو الشخصية. وقد وجدت معظم الثورات أنه لا سبيل لمواجهة التفاوت "عدم المساواة" إلا بالحد من الحرية، كما في نظم الحكم الشمولية. وفي فرنسا الديمقراطية كان التفاوت (عدم المساواة) مطلق السراح ليزداد، أما المساواة فقد ذبحتها الجيلوتين (المقصلة) وفي الوقت المحدد أصبحت اتفاقا على ارتداء السراويل (يقصد المساواة من الناحية الشكلية كون الناس جميعا في فرنسا يرتدون زيا واحدا - السراويل - أو أن من حقهم ذلك).
3- النتائج الثقافية
لا تزال النتائج الثقافية للثورة الفرنسية تؤثر في حياتنا. لقد أعلنت الثورة حرية الحديث والصحافة والاجتماع، حقيقة لقد جرى تقليص هذه الحريات بشدة، بل وانتهت على يد نابليون تحت ضغط الحرب، لكن المبادىء نفسها ظلت باقية وخاضت معارك متتالية لإثبات وجودها خلال القرن التاسع عشر لتصبح قابلة للتطبيق (أو إدعاء تطبيقها) في ديمقراطيات القرن العشرين. وخططت الثورة لقيام نظام وطني للمدارس ونفذت ذلك بالفعل. وشجعت العلم ليكون بديلا للاهوت على مستوى العالم كله. وفي سنة 1971 عينت الحكومة الثورية لجنة جعلت على رأسها لاجرانج Lagrange لتضع لفرنسا الجديدة الموحدة نظاما جديدا للموازين والمقاييس فتم اعتماد النظام المتري الذي أوصت به رسميا في سنة 2971، وصدر به قانون في سنة 9971. وكان على هذا النظام المتري أن يناضل ليشق طريقه في المحافظات الفرنسية إذ لم يكن قد حقق النصر الكامل حتى سنة 0481 وقد ألغي في بريطانيا العظمى الآن ليحل محله النظام الاثني عشري duodecimal system.
وبدأت الثورة بفصل الكنيسة عن الدولة لكن هذا ثبت أنه أمر صعب في دولة كفرنسا تهيمن عليها الكاثوليكية وتعتمد تقليديا على الكنيسة في تهذيب شعبها. ولم يكن هذا الفصل كاملا حتى سنة 5091 وعاد ليضعف مرة أخرى هذه الايام تحت ضغط أسطورة مؤازرة الحياة a life sustqining myth . وفي محاولتها إحداث طلاق بين الدولة والكنيسة ناضلت الثورة لنشر "الأخلاق الطبيعية". ووجدنا أن هذه المحاولة لم تنجح. فمن ناحية نجد أن تاريخ فرنسا في القرن التاسع عشر كان يمثل محاولات متشنجة دورية طال أمدها للخروج من كهف الانهيار الأخلاقي الذي سببته الثورة. وها هو القرن العشرون على مشارف النهاية من غير أن تجد البشرية حتى الآن بديلا طبيعيا للدين في حث هذا الحيوان الناطق (الإنسان) على الالتزام بمبادىء الأخلاق.
وتركت لنا الثورة بعض الدروس في الفلسفة السياسية لقد بدأت بالأقلية التي راح عددها يزداد إلى التحقق من أن الإنسان هو الإنسان بصرف النظر عن طبقته، فهؤلاء الثوار الذين وصلوا إلى السلطة راحوا يتصرفون كما تصرف من سبقوهم بل وفي بعض الحالات راحوا يتصرفون بشكل أشد فظاعة. قارن تصرفات روبيسبير بتصرفات لويس السادس عشر. لقد أصبح الناس نزاعين للشك في دعاوى الثورة فما عادوا يتوقعون شرطة لا يعتريها الفساد وسيناتورات يراعون الفضائل، وعلموا أن الثورة لا يمكن أن تحقق أكثر مما يمكن أن يحققه التحول والتطور التدريجي، وتسمح به الطبيعة البشرية، وما كانت هذه الفكرة لترسخ في الأذهان لولا ما عاينه الناس في نفوسهم من جذور البربرية الراسخة التي تمتد لتعمل خلاف ضوابط الحضارة.
ورغم نواقص الثورة وعيوبها - وربما بسبب بتجاوزاتها وإسفافها - فقد تركت تأثيرا قويا في آداب فرنسا وفنونها وتطلعاتها وانفعالاتها وذاكرتها.
بل وتركت التأثيرات نفسها في أمم أخرى من روسيا إلى البرازيل. فحتى سنة 8481 كان كبار السن يحكون لابنائهم عن أبطال هذه الفترة المثيرة، وما سادها من إرهاب اتسم بالطيش والقسوة بشكل يناقض القيم المتوارثه كلها. أكان عجباً أن يتحرك الخيال وتجيش العواطف على نحو قلما كان يحدث قبل قيام هذه الثورة؟ أكان عجباً أن يدفع التفكير في قيام دول يعيش فيها الناس على نحو أسعد، الرجال والنساء لتكرار محاولات تحقيق الأحلام النبيلة لهذه الحقبة التاريخية؟ إن قصص الوحشية والفظاعة التي سادت في أثناء الثورة الفرنسية دفعت الأرواح إلى التشاؤم والتخلي عن كل عقيدة. لقد ظهر شوبنهور Schopenhauers وليوباردز Leopardis وبايرون Byrons وموسيت (موسى) Mossets ،وشوبرت a Schubert وكيتس a Keats في الجيل الثاني. لكن كانت هناك أيضا أرواح يملؤها الأمل والانتعاش: هوجو، وبلزاك، وجوتير Gautier وديلاكروا Delacroix وبيرليوز Berlioz وبلاك Blake وشيليShelley وشيلر Schiller وبيتهوفن الذين سيشاركون بشكل مكثف في الصحوة الرومانسية للمشاعر والخيال والرغبة في التخلص من التقاليد والمحظورات والعوائق. وكان على فرنسا طوال ستة وعشرين عاما أن تظل مندهشة حائرة - تحت تأثير الثورة ونابليون - أعظم قصة على الإطلاق! إنها الأكثر رومانسية من بين الرومانسيات كلها، ومنذ حدوثها أصبح نصف العا لم مستثاراً خوفاً أو تطلعا وانبهاراً بهذا القرن العامر بالأحداث الذي لمست فيه أمة عانت الكثير مثل هذه الذرى وتلك الأغوار بطريقة قلما عرفها التاريخ قبل ذلك، ولم يعرف لها مثيلا منذ حدوثها(حتى الآن).