قصة الحضارة - ول ديورانت - م 11 ك 1 ف 5
صفحة رقم : 14558
قصة الحضارة -> عصر نابليون -> الثورة الفرنسية -> حكومة الإدارة -> الحكومة الجديدة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الخامس: حكومة الديركتوار - 2 نوفمبر 1795- 9 نوفمبر 1799
1- الحكومة الجديدة
كونت هذه الحكومة من خمسة أجهزة (هيئات) أولها مجلس الخمسمائة Les Cinq Cents وخوّل لها اقتراح الإجراءات ومناقشتها لكنها غير مخولة بتحويلها إلى قوانين. وثانيها مجلس الشيوخ Ancients وهو مكون من 052 عضوا لا بد أن يكون الواحد منهم متزوجا وفي الأربعين من عمره على الأقل وهم ليسوا مخولين بوضع التشريعات أو اقتراحها وإنما الاعتراض عليها أو إقرارها (التصديق عليها) وتأتيهم (الاقتراحات resolution ) من المجلس (الجهاز) السابق (مجلس الخمسمائة). ويكوّن هذان المجلسان آنفا الذكر (الهيئة التشريعية (Corps Legislatif Legislature ويغير ثلثا أعضائهما سنويا على وفق تصويت هيئات المنتخبين (بكسر الخاء) الآنف ذكرها. ويمثل مجلس الإدارة أو حكومة المديرين Directoire السلطة التنفيذية في الحكومة ويتكون من خمسة أعضاء لا يقل عمر الواحد منهم عن أربعين عاما ويتم اختيارهم لمدة خمس سنوات ويقوم على اختيارهم مجلس الشيوخ Ancients من بين خمسين اسماً يقدمهم إليه مجلس الخمسمائة. وفي كل عام يتم اختيار عضو جديد ليحل محل واحد من الأعضاء الخمسة. وتقوم هيئات المنتخبين (بكسر الخاء) في الدوائر (المحافظات) باختيار السلطات القضائية ومسئولي الخزانة وهما سلطتان مستقلتان عن الهيئات (المجالس) الثلاث الآنف ذكرها "مجلس الخمسمائة ومجلس الشيوخ وحكومة (مجلس) الإدارة". إنها حكومة مراجعات وموازنات صمم نظامها لحماية البورجوازية المنتصرة من العوام غير المنضبطين.
واتخذ مجلس الإدارة (حكومة الإدارة أو الخمسة) مقراً له قصر لوكسمبورج Luxembourg وسرعان ما أصبح فرعا دائماً للحكومة سيطر على الجيش والأسطول ورسم السياسة الخارجية وأشرف على وزراء الداخلية والخارجية والبحرية والمستعمرات والحرب والمالية. وأصبح مجلس الإدارة (حكومة الإدارة) تقريباً مستقلا عن الهيئات الأخرى كما كان الحال بالنسبة للجنة الأمن العام، وذلك بفعل الجاذبية الطبيعية التي تنساب بها السلطة إلى القيادة أو بتعبير آخر بفعل الميل للمركزية.
وكان أول مجلس إدارة تم اختياره مكونا من الخمسة الآتية أسماؤهم: بول بارا paul Barras ولويس مارى دى لاريفيليير ليبو Louis Mari de Larevellierè lépaux وجان فرانسوا ريبل Jean Francsois Lewbell وشارل ليتورنيه Charles Letourneur ولازار كارنو Lazare Carnot . وكانوا جميعا ممن اشتركوا في قتل الملك (بمعنى وافقوا عليه وعملوا له) وكان أربعة منهم يعاقبة وواحد منهم وهو بارا Barras فيكونت (الفيكونت دون الكونت وفوق البارون)، وهم الآن قد كيفوا أنفسهم مع الحكم البورجوازي. وكان جميعهم رجالا ذوي كفاءة لكنهم باستثناء كارنو Carnot لم يكونوا معروفين بالاستقامة الشديدة (لم يكونوا فوق الشبهات). وإذا كان الاستمرار في الساحة السياسية أو البقاء فيها مقياسا للجدارة فإن بارا Barras هو أكثرهم مهارة وقدرة، فقد خدم لويس السادس عشر ثم روبيسبير وساعد كليهما حتى آخر دقيقة في حياة كل منهما وناور من أجل سلامته بنجاح فاجتاز الأزمة إثر الأزمة من خلال علاقته بالنساء، فقد اتخذ خليلة إثر خليلة، وجمع الثروة وحقق النفوذ في كل فترة وأعطى نابليون جيشا وزوجه وقد عاش بعدهما وعمر حتى مات بهدوء في باريس في وقت عادت فيه لحكم البوربون Bourbonized وقد بلغ من العمر أربعا وسبعين سنة(9281)(1). لقد عاش تسع حيوات باعها جميعا. والصعوبات التي واجهتها حكومة الإدارة في سنة 5971 ربما كانت بسبب تعدد المشاكل وكثرتها وتنوعها، مما يعطي حكومة الإدارة عذرا في بعض الأمور التي عجزت عن حلها. فجماهير باريس كانت تواجه دائما المجاعة، والحصار البريطاني قوى من حدة الصراع الاقتصادي لإعاقة حركة نقل الطعام والبضائع وخفض التضخم من قيمة العملة فقد أصبح مطلوبا دفع خمسة آلاف من الأسينات assignates في سنة 5971 لشراء ما كان ثمنه مائة من الأسينات في سنة.0971 وكانت الخزانة تدفع فائدة (أرباحا) على سنداتها بالأسينات على وفق قيمتها الاسمية Face value، مما أدى إلى انضمام أصحاب الدخول الذين كانوا يستثمرون أموالهم في "سندات الحكومة وأسهمها Securities " إلى الفقراء الثائرين(2). واشترى آلاف الفرنسيين بضائع ومواد غذائية بكميات كبيرة، وبسباق محموم، ليستفيدوا من التضخم بالغش والخداع، فعندما ترتفع الأسعار وتبلغ ذروتها يطرح المضاربون بضائعهم في السوق، وجرى سباق محموم لبيع مخزونات البضائع الرخيصة (التي انهارت أسعارها)، ووجد الأبرياء (غير المضاربين) أن مدخراتهم قد حصدتها قلة نشيطة. لقد واجهت الخزانة الإفلاس مرارا وأعلنته في سنة 5971 مما أفقدها الثقة العامة، وأدى القرض الذي أخذته الحكومة من الأثرياء إلى قيام التجار برفع الأسعار وإلى دمار تجارة الكماليات، وارتفعت نسبة البطالة، واستمرت الحرب ومعها استمر التضخم. ووسط هذا الفقر وهذا التشوش استمر الحلم الشيوعي الذي كان قد داعب خيال مابلي Mably في سنة 8471 ومورلي Morelly في سنة 5571 ولنج Linguet في سنة 7771، استمر في قلوب الفقراء اليائسين، ووجد هذا الحلم الشيوعي من يعبر عنه في جاك رو Jacques Roux في سنة 3971، وفي 11 أبريل وجدت أحياء الطبقة العاملة في باريس ملصقات تقدم "تحليلا لعقيدة بابيف Babeuf " نقرأ بعض موادها كالتالي:
"1- لقد جعلت الطبيعة لكل الناس حقوقا متساوية في الاستمتاع بالسلع كلها..... 3- فرضت الطبيعة على الإنسان العمل، فلا يمكن منع أى إنسان (لم يرتكب جريمة) عن العمل. 7- في المجتمع الحر لا يجب أن يكون هناك غني وفقير. 8- الثري الذي لا يساهم بما لديه من فائض لمساعدة الفقراء هو عدو للشعب..... 01- هدف الثورة هو القضاء على التفاوت (عدم المساواة) وتحقيق السعادة العامة. 11- الثورة لم تنتهِ لأن الأثرياء يمتصون السلع كلها من كل نوع ويسيطرون وحدهم [على السوق] لا يشاركهم أحد، بينما العمال الفقراء كعبيد حقيقيين.. ولا تعتبرهم الدولة شيئا مذكورا. 21- دستور 3971 هو قانون فرنسا الحقيقي... وقد أطلق المؤتمر الوطني النار على الشعب الذي طالب بالإبقاء على هذا الدستور وأيدوه.. فدستور 3971 أقر الحق الثابت لكل مواطن لممارسة حقوقه السياسية وحقه في الاجتماع والمطالبة بما يعتقد أنه مفيد، وحقه في تعليم نفسه وحقه في ألا يموت من الجوع، وهي جميعا حقوق عارضها بشكل كامل وبصراحة دستور 5971 الذي يمثل الثورة المضادة أو بتعبير آخر المناهض للثورة Counterrevolutionary "(3). وقد ولد صاحب هذا المنشور وهو فرنسوا إميل بيبيف Franscois Emile " Gracchus" Bebeuf في سنة 0671 وذكر التاريخ اسمه للمرة الأولى في سنة 5871 كمندوب عينه ملاك الأراضي لدعم حقوقهم الإقطاعية على الفلاحين. وفي سنة 9871 غير اتجاهاته فوزع نشرة Cahier يطالب بإلغاء العوائد الإقطاعية. وفي سنة 4971 استقر في باريس فدافع عن الثيرميدوريين (نسبة لشهر ثيرميدور أي شهر الدفء في التقويم الجمهوري) ثم ما لبث أن هاجمهم، فقبض عليه وظهر في سنة 5971 كشيوعي متحمس، ونظم بسرعة "رابطة المساواه" أو رابطة الأنداد " Sociéte des `Egaux وقد أتبع تحليله " الذي أوردنا فقرات منه آنفا بإعلان جعل عنوانا له: "قرار العصيان المسلح" موقع باسم لجنة العصيان المسلح للأمن العام. ومن مواده القليله: "01- المجلس (المقصود مجلس الخمسمائة ومجلس الشيوخ) وحكومة الإدارة اغتصبا السلطة، وسوف يتم حلهما، وسيحاكم الشعب أعضاءهما فورا. 81- وضع الممتلكات العامة والخاصة تحت رعاية الشعب. 91- سيكون من مهام الجمعية الوطنية National assembly المكونة من ديمقراطي عن كل دائرة (محافظة) معين من قبل المتمردين (الخارجين عن السياسة والتنظيمات الحالية) والتي تحمل اسم لجنة العصيان المسلح واجب إنهاء الثورة وفرض الحرية والمساواة ودستور 3971 على الجمهورية. وسيكون هذا الحق قصرا عليها (على لجنة العصيان المسلح). وستبقى هذه اللجنة بشكل دائم حتى يتم إنجاز العصيان المسلح بشكل شامل(4). لقد كانت هذه الدعوة المشئومة كدعوة لدكتاتورية جديدة. إنها مجرد تغيير روبيسبير بروبيسبير آخر، وبالغ بيبيف Bebeuf في حلمة هذا، فكتب في صحيفته التي تحمل عنوان "منصة (أو منبر) الشعب Tribune du peuple ". "لا بد أن يكون ما يملكه الفرد متناسبا مع دوره في [إنتاج] سلع المجتمع، وأي ممتلكات تزيد عن هذا الدور، تم تحصيلها بالسرقة والاغتصاب، فمن العدالة إذن سلبهم هذه الممتلكات (أو الثروات). والشخص الذي يبرهن أنه يستطيع بقوته (بطاقته) الشخصية أن يكسب أو يعمل ما يكسبه أو يعمله أربعة أشخاص إنما هو برغم ذلك يتآمر على المجتمع لأنه يدمر مبدأ المساواة الغالي.... لا بد للتمرد الاجتماعي المسلح أن يستمر حتى يزيح أى شخص لديه أمل أن يكون أغنى من الآخرين أو أقوى منهم أو أكثر تميزا منهم بحكم تنوره ومواهبه. إن الخلاف والتنافر أفضل من الوئام البشع الذي يموت المرء في ظلاله جوعا. دعونا نعود إلى الفوضى والاضطراب، ومن خلاله دعوا خلقاً جديدا يظهر للوجود"(5).
وأخبر أحد العملاء المحرضين agent Provocateur حكومة الإدارة أن أعدادا متزايدة من أهل باريس يقرأون ملصقات بابيف Babeuf وصحفه وأنه يجري الإعداد لثورة مسلحة في 11 مايو 6971 وفي 01 مايو صدر أمر بالقبض على بابيف والزمرة ذات الموقع القيادي المرتبطة به: فيلبو بوناروتي Filippo Buonarrotti و أ. دارثي A. Darthe` و م. ج. فادييه M. G. Vadier و ج.- ب. درو J.- B. Drouet . وتمت محاكمتهم في فيندوم Vendome في 72 مايو سنة 7971 بعد سجن دام عاما فشلت فيه مساعي إطلاق سراحهم. وصدر الحكم بسجن بوناروتي وهرب درو Drouet أما بابيف ودارتى Darthe` فحكم عليهما بالإعدام فحاولا الانتحار لكن الجلادين أسرعوا بهما إلى المقصلة قبل أن تفيض روحاهما. وبطبيعة الحال كانت خطتهما غير عملية تبسط طبيعة الانسان تبسيطا شديدا لدرجة أنه حتى برولتياريا باريس لم يأخذوا أفكاره على محمل الجد، بالإضافة إلى أن فرنسا بأغنيائها وفقرائها وجدوا في سنة 7971 بطلاً جديدا. إنه أكثر الحالمين سحرا وأكثر المنفذين مدعاة للإبهار في التاريخ السياسي للبشرية.
2- نابليون الشاب - 1769 - 1795
قال اللورد أكتون Acton : "لا يمكن أن تكون هناك تدريبات عقلية يمكن أن تكون أكثر فعالية ونشاطا من ملاحظة كيف يعمل عقل نابليون المعروف تماما بأنه أقدر رجل في تاريخ البشرية"(6) لكن من الآن يمكن أن يشعر أنه عرف بصدق وبشكل كامل رجلا قدمه لنا مئات المؤرخين المثقفين كبطل ناضل لتوحيد أوربا وسيادة القانون بها، ومئات المؤرخين المثقفين قدموه أيضا كغول Ogre استنزف دماء فرنسا وخرب أوربا ونهبها ليشبع نهمه للسلطة والحرب؟ من منا يستطيع الزعم بالإحاطة بكل أبعاد نابليون في ظل هذا السؤال الآنف ذكره رغم أن 000.002 كتاب ونشرة قد صدرت عنه. "فالثورة الفرنسية" كما يقول نيتشه Nietzsche " جعلت نابليون ممكنا بمعنى أنها جعلت من الممكن ظهور نابليون فهو تسويغ أو تبرير لها"(7).. وقد استغرق نابليون في التأمل وهو واقف أمام قبر روسو Rousseau وتمتم قائلا: "ربما كانت الأمور على نحو أفضل لو لم يولد كلانا أبداً"(8). ولد نابليون في أجاسيو Ajaccio في 51 أغسطس سنة 9671، قبل أن تبيع جنوا Genoa كورسيكا لفرنسا بخمسة عشر شهرا، وقبل أن تؤكد فرنسا تبعيتها (كورسيكا) لها بإخماد ثورة باولي Paoli . ولمثل هذه الأمور التافهة يلتفت التاريخ. ولقد كتب نابليون بعد بعشرين عاما لباولى قائلا:" لقد ولدت عندما كان وطني يموت. ثلاثون ألف فرنسي يتقيأون disgorged على شواطئنا، يغرقون تاج الحرية في بحر من الدم. لقد كان هذا منظراً كريها أزعج عيني في مرحلة الطفولة"(9).
وذكر ليفي Livy أن "كورسيكا جزيرة وعرة جبلية معظمها غير مأهول بالسكان. وأهلها يشبهون طبيعة بلادهم فهم متمردون كالوحوش لا يحكمون"(01) لكن احتكاكها بإيطاليا قد هذب نوعاً ما من هذه الوحشية، ولكن جدب الأرض والحياة القاسية، البدائية غالبا والعداوات الأسرية الشديدة والدفاع الضاري ضد الغزاة، كل ذلك جعل أهل كورسيكا على أيام باولي Paoli صالحين لحرب العصابات أكثر من صلاحيتهم للتنازلات التي يتحتم على ذوي الطباع العنيفة أن يقوموا بها للخضوع للنظام وهو أمر مطلوب لتشكيل الحضارة. لقد كانت الحياة المدنية تتطور في عاصمة كورسيكا، لكن خلال معظم الفترة التي كانت فيها ليتيزيا رامولينو بونابرت Letizia Ramolino Buonaparte (أم نابليون) تحمل بونابرت، كانت تتبع زوجها من معسكر إلى معسكر مع باولي Paoli ، وعاشت في خيام أو أكواخ في الجبال وتنفست هواء المعركة. ويبدو أن طفلها (نابليون) يتذكر كل ذلك ويسري فيه مسرى الدم فلم يكن لديه بعد ذلك مقدار من السعادة كتلك التي يحس بها وهو يخوض غمار الحروب. لقد ظل إلى النهاية كورسيكيا. وفي كل شيء كان إيطاليا فيما عدا الفترة الزمنية والتعليم -، إيطالياً سلَّمه عصر النهضة لكورسيكا، فعندما استولى على إيطاليا وضمها لفرنسا استقبله الفرنسيون بترحيب باعتباره إيطاليا غزا فرنسا. وكان أبوه كارلو بونابرت Carlo Buonaparte يمكنه أن يرجع سلالة نسبه إلى أفراد كان لهم وجود في التاريخ الإيطالي: من سلالة نشيطة كانت تعيش في غالبها في تسكانيا Tuscany ثم انتقلت إلى جنوا Genoa ثم هاجرت في القرن السادس عشر إلى كورسيكا، واحتفظت الأسرة بسلالة نسب نبيلة اعترفت بها الحكومة الفرنسية، وعلى أية حال، فعندما أصبحت النبالة في عهد الثورة الفرنسية تمثل خطوة نحو المقصلة طرح نابليون ذكر هذا النسب (غير وضع زهر النرد the de). وكان كارلو (والد نابليون) ذا موهبة في القدرة على التكيف، فقد حارب في جانب باولي Paoli من أجل تحرير كروسيكا فلما فشلت المحاولة سالم الفرنسيين وعمل في الإدارة الفرنسية الكورسيكية وأمن دخول اثنين من أبنائه في الأكاديميات الفرنسية وكان من بين النواب الذين أرسلهم نواب كورسيكا إلى مجلس طبقات الأمة (الذي دعا إليه الملك لويس السادس عشر) وقد أخـذ نابليون عن أبيه عينيه الرماديتين وربما أخذ عنه أيضا سرطان المعده المميت"(11).
وقد أخذ عن أمه ما هو أكثر "إنني مدين بنجاحاتي وبكل عمل طيب قمت به لأمي ومبادئها الممتازة. إنني لا أتردد في التأكيد على أن مستقبل الطفل يعتمد على أمه"(21).
وقد كان نابليون يشبه أمه في طاقتها ونشاطها وشجاعتها وثباتها الشديد (المجنون mad ) وحتى في إخلاصها لآل بونابرت كثيري الذرية. ولدت أم نابليون ليتيزيا رامولينو سنة 0571 وتزوجت وهي في الرابعة عشرة من عمرها وأصبحت أرملة وهي في الخامسة والثلاثين وأنجبت ثلاثة عشر مولودا في الفترة من 4671 إلى 4871 وشهدت موت خمسة من أولادها وهم في سن الطفولة ورفعت الباقين بعزم صارم وسعدت بنجاحهم وعانت بسقوطهم. وكان نابليون هو ابنها الرابع، والثاني بالنسبة لمن بقوا على قيد الحياة من أبنائها. أما الابن الأكبر فهو جوزيف بونابرت (8671 - 4481) فكان لطيف المعشر مغرقا في الشهوات (أبيقوريا) ونصب ملكا على نابلي ثم على إسبانيا، وكان يأمل أن يكون هو الإمبراطور الثاني لفرنسا، وبعد نابليون في ترتيب أفراد أسرته يأتي لوسيا Lucien (5771 - 0481) الذي ساعده في القبض على زمام الحكومة الفرنسية في سنة 9971، وأصبح عدوه اللدود، لكنه وقف بجانبه في المائة يوم Hundred days المتسمة بالعبث البطولي heroic futlity ، ثم تأتي ماريا أنا إليزا Maria Anna Elisa التي أصبحت دوقة لتوسكانيا وكانت معتزة بنفسها ومقتدرة وعارضت أخاها في سنة 3181 وسبقته إلـى الموت، ثم يأتي مـن أفراد أسرته لويس (8771 - 6481) الذي تزوج الرقيقة هورتينز دى بوهارنيه Hortense de Beauharnais فقد أصبح ملكا على هولندا وقد أنجب نابليون الثالث. وأخته الأخرى هي بولين Pauline (0871 - 5281) الجميلة الخليعة التي تزوجت الأمير كاميلو بورجيز Camillo Porghese وقد حكى نابليون قائلا: "إنني وبولين كنا الأثيرين عند أمي هي لأنها كانت ألطف أخواتي وأظرفهن، وأنا لأن إحساسها الفطري جعلها تعتقد أنني سأكون مؤسس عظمة الأسرة"(31). أما أخته ماريا كارولينا Maria Carolina (2871 - 9381) فتزوجت، جوشيم مورا Joachim Murat وأصبحت أميرة نابلي، وأخيرا Jérome (4871 - 0681) الذي أسس الأسرة البونابارتية في بلتيمور Baltimore وأصبح ملكا لوستفاليا Westphalia .
وفي سنة 9771 حصل كارلو(والد نابليون) من الحكومة الفرنسية على امتياز إرسال ابنه نابليون إلى الأكاديمية (المدرسة) العسكرية في برين Brienne التي تبعد نحو تسعين ميلا جنوب شرق باريس. وكان هذا حدثا أساسيا في حياة الفتى، لأنه ربط مصيره بالمجال العسكري، كما جعله حتى نهاية حياته تقريبا يفكر في الحياة والقضاء والقدر بمفاهيم الحرب ومصطلحاتها. لقد أصبحت برين بالنسبة لابن العاشرة محنة أثرت في تكوينه فقد ابتعد عن داره بعيدا وعاش في بيئة غريبة وصارمة. ولم يستطع الطلبة الآخرون أن يغفروا له كبرياءه وحدة مزاجه اللذين يبدوان غير متجانسين مع نبالته الغامضة (غير الواضحة بالنسبة لهم). وقد عبر نابليون عن ذلك قائلا: "لقد عانيت كثيرا جدا من سخرية زملاء الدراسة الذين كانوا يعتبرونني غريبا". وانسحب الفتى الذي لم يأتلف مع أقرانه وتقوقع على نفسه واستغرق في الدراسة والكتب والأحلام. وكان ميله للعزلة عميقا، فقد كان قليل الكلام لا يثق في أحد وجعل نفسه بعيدا عن عالم بدا قد صمم لتعذيبه. ومع هذا فقد كان هناك استثناء واحد ذلك أنه صادق لويس أنطوان فيفيليت دى بورين Louis Antoine Fauvelet de Bourrienne الذي ولد أيضا في سنة 9671 وقد تحمس كل منهما للآخر ودافع عنه، وحارب كل منهما الآخر وبعد انفصال طال بينهما أصبح سكرتيرا له في 7971 وظل قريبا منه حتى سنة 5081.
ومكنت العزلة هذا الشاب الكورسيكي من التفوق في دراسته التي أشبعت عطشه للسمو والتفوق. لقد نفر من دراسة اللاتينية ومن كل الدراسات الميتة فلم يكن ثمة فائدة له من دراسة فضائل فيرجيل virgilian graces ومحكماته الصامتة. وتلقى دراسات قليلة في الأدب أو الفن لأن المعلمين (في هذه المدرسة الحربية) غير ملمين كثيرا بهذه الأمور. لكنه كان شغوفا منذ البداية بالرياضيات ففيها وجد ما يصبو إليه من دقة ووضوح بعيدا عن الأحكام المسبقة والجدال بالإضافة إلى ضرورتها الدائمة لمهندس عسكري. وفي هذا المجال تفوق نابليون على كل طلبة فصله، كما أنه كان يستيغ الجغرافيا فهذه الأراضي المختلفة لا بد من دراستها، ودراسة الشعوب التي تعيش عليها، وفي الأرض الطعام وهو لازم للأحلام وكان التاريخ فيما يرى (وهو كذلك رأي كارليل) هو عبادة الأبطال خاصة الذين يقودون الأمم ويشكلون الإمبراطوريات وأحب بلوتارك Plutarch حتى أكثر من حبه لإقليدس Euclid . لقد تنفس التعاطف مع هؤلاء الوطنيين القدماء وشرب من دم هذه المعارك التاريخية، فقد قال له باولي Paoli ذات يوم "ليس من شيء جديد فيك فأنت تنتمي إلى بلوتارك تماما"(41). ولا بد أنه كان يفهم هاين Heine الذي قال إنه عندما قرأ بلوتارك تطلع إلى ركوب حصان والانطلاق لفتح باريس. وقد حقق نابليون هذا الهدف من خلال غزوه لإيطاليا ومصر، لكن نقطة قوته (مجال تميزه) كانت تبدو واضحة في هجماته الجانبية (هجماته على جناحي الجيش المعادي).
وبعد أن قضى خمس سنوات في برين Brienne وقد اصبحت سنه الآن خمس عشرة سنة، أصبح من بين الطلبة الذين تم اختيارهم من اثنتي عشرة مدرسة عسكرية في فرنسا ليحضروا برامج دراسية متقدمة في مدرسة باريس العسكرية (ليكول ميليتير Ecole Militaire ). وفي أكتوبر سنة 5871 تم تعيينه قائم مقاماً ثانياً (ليفيتنانت ثانى Second Lieutenant ) للمدفعية في فوج لافير La Fere Regiment المتمركز في فالنس Valence على الرون Rhone . وكان إجمالي راتبه هناك 021.1 جنيه (ليفر) في السنة(51). ومن هذا المبلغ كان فيما يظهر يرسل جانبا لمساعدة أمه في تربية أخيه الأصغر، ولأن أباه قد مات في فبراير ولم يكن جوزيف (الابن الأكبر) يملك بعد موارد للمعيشة فقد أصبح نابليون هو رأس الأسرة the clan الفعال. وفي أثناء إجازاته كان يقوم بعدة زيارات إلى كورسيكا وحيدا حتى يشم ترابها".. حبا في جروفها وجبالها العاليات ووديانها العميقة"(61) وذلك على حد تعبيره.
وفي فالنس Valence (وكذلك في أوكسن Auxonne سنة 8871) كسب احترام زملائه الضباط بتقدمه السريع في الفنون العسكرية وبسرعة استيعابه وما لديه من خصوبة فكرية تتمثل في اقتراحاته العملية واستعداده للمشاركة في الأعمال التي تتطلب جهدا بدنياً للتحكم في المدافع. وقد درس بعناية كتابا في التكتيك الحربي هو Essai de tactique géneérale (2771) بالإضافة إلى كتابات عسكرية أخرى ألفها جاك أنطوان هيبوليت دى جوبير Jacques Antoine Hippolyte de Guibert الرجل الذي أهملته عشيقته جولى دى ليسبيناس Julie de Lespinasse ولم يعد نابليون منبوذاً الآن فقد كون صداقات وارتاد المسارح وسمع الكونشرتات وتلقى دروساً في الرقص واكتشف مباهج النساء. وفي إجازة له قضاها في باريس (22 يناير سنة 7871) راح يحدث نفسه مجهدا عن مغامرة جنسية مع إحدى البغايا. لقد أكد لنا ذلك قائلا: "هذه الليلة باشرت امرأة للمرة الأولى في حياتي"(71) ومع ذلك ظل بعض الاكتئاب يراوده، فكان أحيانا عندما يكون في غرفته البسيطة منفردا يتساءل بمنطق صرف لم ينبغي أن تستمر حياته؟ "أليس من المحتم أن أموت في وقت ما؟، فربما كان من الأفضل أن أقتل نفسي"(81). لكنه لم يكن يستطيع أن يفكر في طريقة يتم فيها ذلك بسرور لقد وجد لنفسه وقتا متاحاً في ساعات الفراغ ليوسع مجال تعليمه الذاتي بدراسة الأدب والتاريخ، وقد ظنته مدام دى ريموزا Mme de Rémusat آخر وصيفة لجوزفين أنه "جاهـل لا يقرأ إلا قليلا، ومتسرع"(91). والحقيقة أننا وجدنا أنه حتى في فالنس وأوكسون Valence & Auxonne كان يقرأ الأعمال الدرامية التي ألفها كورنيل Corneille وموليير Moliere وراسين Racine وفولتير(02) Voltaire ، وكان يتلو من الذاكرة فقرات مما قرأ. وأعاد قراءة ترجمة أميوت Amyot لبلوتارك ودرس كتاب الأمير لميكيا فيللي، وروح القوانين Esprit des lois لمنتسكيو وكتاب رينال Raynal وعنوانه: Histoire Philosophique des deux Indes وكتاب ماريني Marigny عن تاريخ العرب Histoire des arabes وكتاب هوسي عن تاريخ حكومة البندقية Histoire du governement de venise وكتاب بارو Barrow الموسوم باسم: Histoire des Angleterre وغيرها كثير. وكان يكتب مذكرات أو تعليقات في أثناء القراءة ويقوم بتلخيص الكتب المهمة ولا زالت توجد 863 صفحة من مذكراته وتعليقاته هذه منذ أيام شبابه(12). وكانت شخصيته متأثرة بالنهضة الإيطالية كما كانت عقليته متأثرة بالتنوير الفرنسي. ولكن شعاعا من الرومانسية تغلغل فيه استجابه لنثر روسو Rousseau العاطفي والقصائد المنسوبة إلى أوسيا Ossian " التي كان يستطيبها "للسبب نفسه الذي جعلني ابتهج لتلاطم الموج وهفيف الريح" (22).
وعندما قامت الثورة الفرنسية رحب بها وقضى إجازة أخرى في سنة 0971 يعمل بتواؤم كامل مع حكم الثورة. وفي سنة 1971 قدم نابليون لأكاديمية ليون مقالاً دخل بها مسابقة لنيل جائزة قدمها رانيال Raynal حول "ما هي الفضائل أو المشاعر التي يجب أن يتحلى بها الشخـص ليحقـق مزيداً من السعادة؟ وربما كان مقال نابليون بهذا الشان متأثرا بما كتبه روسو Rousseau`s Julie , ou la Nouvelle Héloise (32). يقول نابليون إجابة عن هذا السؤال: علّمهم أن أفضل حياة هي أبسطها. ليفلح الآباء والأبناء التربة وينعموا بثمارها بعيدا عن ضوضاء المدينة وفسادها. فكل ما يحتاجه الإنسان ليكون سعيدا هو الطعام واللباس وكوخ وزوجة. دعه يعمل ويأكل وينجب وينام وسيكون أسعد من أمير. فحياة أهل أسبرطة وفلفستهم هما الفضليان "والفضيلة شجاعة وقوة... والطاقة حياة الروح... والرجل القوي صالح والرجل الضعيف هو وحده السيء"(42). هنا كان الشاب نابليون صدى لبترا سيماكوس(52) Thrasymachus ومقدمة لنيتشه الذي رد المديح بأن جعل نابليون بطلا للإرادة والقوة(62). ومن بين آرائه التي ساق لها الأدلة إدانته للملكية والامتيازات الطبقية وتفاهة الإكليروس. وقد رفضت أكاديمية ليون مقالة نابليون تلك باعتبارها فجة.
وفي سبتمبر سنة 1971 زار نابليون مرة أخرى بلده الأصلي [كورسيكا] وابتهج بقرار الجمعية التأسيسية الفرنسية بجعل كورسيكا دائرة (محافظة) تابعة لفرنسا، وحدث شعبها عن مزايا المواطنة الفرنسية كلها. لقد سحب رغبته في الانتقام من الأمة التي جعلته فرنسيا رغم أنفه ذلك أنه شعر أن الثورة كانت تخلق وطنا فرنسيا جديدا ألمعيا، وفي حوار متخيل بعنوان (Le Souper de Beaucaire نشره على نفقته الخاصة في خريف سنة 3971 دافع عن الثورة باعتبارها "نضالاً حتى الموت بين الوطنيين والحكام المستبدين في أوربا"(72). وحث المعارضين كلهم لينضموا للنضال من أجل حقوق الإنسان وعلى أية حال فقد شعر بطله القديم (مثله الأعلى القديم) باولي Paoli أن انضمام كورسيكا للأمة الفرنسية لن يكون مقبولا منه إلا إذا خولته الثورة سيادة كاملة على الجزيرة، وتقديم دعم مالي له وإلا تم طرد القوات الفرنسية من كورسيكا وكان من رأي نابليون أن هذا اقتراح متطرف واختلف مع مثله الأعلى السابق (باولي Paoli ) وعارض طلباته في انتخابات المجلس البلدي في أجاكسيو Ajaccio في أول ابريل سنة 2971، وفاز باولي وعاد نابليون إلى فرنسا.
وشاهد في باريس في 02 يونيو اجتياح الجماهير لقصر التوليري وعجب لأن الملك لم يفرق هؤلاء "الوحوش" بوابل من طلقات حرسه السويسرى. وفي 01 أغسطس رأى العوام (السانس كولوت) والاتحاديين Federes يسوقون الأسرة الملكية من القصر، فوصف المتجمهرين بأنهم "حثالة".. إنهم لا ينتمون للطبقة العاملة أبدا"(82). واستمر في دعم الثورة مع اتخاذه الحذر والاحتياط بشكل متزايد، وأصبح الآن ضابطا في جيشها. وفي ديسمبر سنة 3971 كما ذكرنا في مناسبة سابقة وجد نفسه في عملية الاستيلاء على طولون ونتيجة التوصيات التي أرسلت إلى روبيسبير بشأنه تم تعيينه عميدا (بريجاديير جنرال) brigadier general وهو في الرابعة والعشرين من عمره. لكن هذا أدى إلى القبض عليه بعد سقوط روبيسبير، فسجن في أنتيب Antibes ووضع اسمه في قائمة المحالين للمحاكمة وكان من الممكن أن يعدم إلا أنه تم إطلاق سراحه بعد أسبوعين، وأعيد لخدمة في مواقع غير فعالة براتب مخفض. وفي ربيع سنة 5971 (كما أخبرنا) كان يتجول على طول نهر السين تراوده فكرة الانتحار عندما التقى به صديق وجعل الحياة تسري في عروقه إذ منحه ثلاثين ألف فرنك(92) وأعاد نابليون المبلغ في وقت لاحق مضاعفا. وفي شهر يونيو وصفه بويسي دنجلا Boissy d `Anglas بأنه "إيطالي صغير شاحب ونحيل وسقيم لكن وجهات نظره جريئة بشكل لا نظير له"(03). وقد فكر في وقت من الأوقات في الذهاب إلى تركيا لإعادة تنظيم جيش السلطان (العثماني) وليخلص لنفسه بمملكة شرقية على نحو ما. وعندما كان في حالة مزاجية أكثر انتحاء نحو ما هو عملي قدم لوزارة الحرب خطة معركة لطرد النمساويين من إيطاليا.
وفي واحدة من نزوات التاريخ حيث تفتح الأبواب التي لا مناص من فتحها تم تعيين بارا Barras لتنظيم الدفاع عن المؤتمر الوطني عندما حاصره الملكيون وغيرهم في 5 أكتوبر سنة 5971، فقرر بارا أن طلقات المدافع قد تحقق الغرض لكن لم تكن هذه المدافع تحت يده، وكان قد تذكر ما فعله نابليون في طولون فأرسل إليه وأوكل له مهمة تدبير المدافع وإطلاقها، فأدى المهمة وأصبح نابليون فجأة مشهوراً وسيء السمعة. وعندما احتاجت وزارة الحرب قائدا جسورا مجربا لقيادة الجيش الفرنسي المتوجه إلى إيطاليا زكى كارنو Carnot (أو بارا Barras )(13) تعيين بونابرت (2 مارس 6971) وبعد ذلك بسبعة أيام تزوج الجنرال السعيد من جوزفين التي كانت لا تزال جميلة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
3- جوزفين دى بوهارنيه
كانت جوزفين كروليّةً Creole (وهي كلمة تطلق على من كان من سلالة فرنسية أو أسبانية ولكنه ولد في المستعمرات الاستوائية وترعرع فيها). وقد كانت جزيرة مارتينيك Martinique الواقعة في البحر الكاريبي فرنسية طوال 821 عاما عندما ولدت مارى جوزيف روز تاسكر دى لا باجيرى Marie Josephe Rose Tascher de la Pagerie هناك في سنة 3671 من أسرة أورليان Orléans العريقة. وكان عمها البارون دى تاسكر de Tascher حاكما للميناء، وكان أبوها وصيفاً في مقر أم لويس السادس عشر ماري جوزيف Marie Josephe. وتلقت جوزفين تعليمها في دير سيدات العناية الإلهية في فورت رويالFort Royal (الآن فورت دى فرانس (Fort de France عاصمة الحكومة الاستعمارية. وكان المنهج الدراسي في ذلك الوقت يتكون من تعليم مبادىء العقيدة الدينية بطريقة السؤال والجواب وتعليم السلوك (الاتيكيت) وفن الخط والرسم والتطريز والرقص والموسيقا إذ كانت الراهبات المعلمات يعتقدن أن هذا أجدى نفعا للمرأة من تعليمهن اللاتينية واليونانية والتاريخ والفلسفة. وقد أثبتت جوزفين أنهن كن على صواب. فقد أصبحت - أي جوزفين - فيما تقول مدام دى بومبادر de Pompadour "كطبق شهي مقدم لملك".
وفي السادسة عشرة من عمرها جيء بها إلى فرنسا وزوجت من الفيكونت (دون الكونت وفوق البارون) الكسندر دى بوهارنيه وهي في التاسعة عشرة من عمرها ومع صغر سنها فإنها كانت بالفعل قد خبرت فن الغزل وطرائقه في المجتمع الأرستقراطي الفرنسي. لكن سرعان ما كشف غياب زوجها الطويل والمتكرر انخراطه في ممارسة الرذيلة مما جعل جوزفين الحساسة تقتنع أن القائد السادس Sixth Commandant لم يخلق ليكون من الطبقات العليا، فوقفت حياتها بإخلاص لطفليها: يوجين Eugene (1871 - 4281) وهورتنس Hortense (3871 - 7381) وقد ظلا وفيين لها طول حياتهما.
وعندما قامت الثورة مال الفيكونت إليها وكيف سياساته معها وظل محتفظا برأسه طوال خمس سنوات، لكن كلما تقدم الإرهاب أصبح أي لقب من ألقاب النبالة يعرض حاملة للقبض عليه، وبالفعل ففي سنة 4971 تم القبض على الكسندر وجوزفين وأودع كل منهما في سجن منفصل وفي 42 يوليو قصت المقصلة رقبة زوجها.
وبينما هي تنتظر المصير نفسه عرض عليها الجنرال لازار هوش General Lazare Hoche حبه فلبت بهيت لك(23)، فكانت من بين النبلاء كثيرى العدد الذين تم الإفراج عنهم بعد سقوط روبيسبير.
ولما أصبحت تقريباً معدمة لمصادرة ثروة زوجها وكانت في الوقت نفسه حريصة على تعليم أبنائها، استغلت عينيها الزرقاوين المغريتين وجمالها الهادىء الجاذب لعقد صداقة مع تاييه Tallien وأصبحت عشيقة لبارا Barras الصاعد نجمه(33)، وبذا عاد إليها كثير من أموال بوهارنيه المصادرة بما فيها عربة أنيقة ومجموعة خيول سوداء(43). وأصبحت الآن في المرتبة الثانية بعد مدام تاييه مباشرة تأثيرا في مجتمع حكومة الإدارة وقد وصف نابليون صالونها بأنه "أكثر صالونات باريس تميزا"(53).
وكان نابليون يحضر بعض الأمسيات في صالونها، وكان مفتونا بمفاتنها الناضجة ودلالها السهل وتصرفاتها الحلوة بشكل يفوق الوصف"على وفق وصف أبيها المتسامح"(63). ولم تكن جوزفين معجبة ببونابرت الذي بدا لها شاباً نهما ذا نظرة جائعة تنادي" بالإضافة إلى أن دخله غير قابل للزيادة. وأرسلت ابنها وكان في ذلك الوقت في الرابعة عشرة من عمره ليلتمس مساعدته لاستعادة سيف زوجها المصادر. وكان يوجين (ابن جوزفين) فتى وسيما بسيطا حتى أن نابليون وافق مباشرة على التدخل في الأمر، وأعاد لها السيف بالفعل، فدعته جوزفين لتشكره ودعته لتناول الغداء عندها في 92 أكتوبر، فأتى إليها وأصبح راغبا فيها أو بتعبير آخر لقد غزته he was Conquered وفي أوائل شهر ديسمبر سنة 5971 لم تكتف بالخضوع بالقول لهذا الذي أصاب قلبه مرض العشق، وإنما خضعت بالفعل فقدمته لسريرها(73)، لكنهما عزفا عن الزواج. وفيما راح نابليون يستغرق في سرد ذكرياته في جزيرة سانت هيلينا St. He lena فقال: "إن بارا Barras أسدى إليّ خدمة عندما نصحني بالزواج من جوزفين. لقد أكد لي أنها تنتمي إلى المجتمعين؛ القديم والجديد معا، وأن هذه الحقيقة ستكون مزيداً من الدعم لي، فقد كان منزلها هو أفضل منازل باريس، وستخلصني من اسمي الكورسيكي، وأخيرا فبالزواج منها يمكنني أن أصبح فرنسيا تماما "(83). وقام بارا Barras أيضا بتوجيه النصح لجوزفين لتحقيق الغرض نفسه (زواجها من نابليون) لأسباب لا تزال موضع خلاف(93). إذ قال لها إنه رجل تشير الدلائل كلها أنه سيحقق لنفسه مركزا عاليا في العالم. ولم يهتم نابليون بأمر عشقها السابق لآخرين ولم يكن ذلك عائقا أمامه للزواج منها إذ كتب لها: "كل شيء فيك يعجبني.. حتى عندما أتذكر ما ارتكبتينه من أخطاء.... فالفضيلة بالنسبة لي هي ما قمت به"(04). وقد تزوجا في 9 مارس سنة 6971 على وفق إجراءات مدنية (وليس كنسية)، وشهد على وثيقة الزواج كل من تاييه Tallien وبارا Barras ولم يحضر أحد من أقارب العروسين. وليخففا من حدة فارق العمر بينهما إذ كان نابليون في السابعة والعشرين من عمره، بينما هي في الثالثة وا لثلاثين، سجل نابليون أن سنه ثمانية وعشرون عاما، وسجلت جوزفين أن سنها تسعة وعشرون عاما(14). وقضى العروسان ليلة الزواج الأولى في منزل العروس، لكن جوزفين أبدت مقاومة حاسمة لا تراجع فيها فيما يتعلق بكلبها المدلل المسمى بالمحظوظ Fortune` ، إذ قال لها نابليون (كما روى لنا): "هذا السيد (يقصد الكلب) أسيظل شاغلاً سرير المدام... إنني أريد منه أن يغادر السرير. لكن لم تكن هناك جدوى من مطالباتي فقد قيل لي إما أن أشارك الكلب في النوم فوق السرير، أو أن أنام في أي مكان آخر. لقد كان عليّ أن أقبل هذا الأمر لكن هذا الكلب المدلل كان أقل مجاملة مني". ففي أسوأ لحظة ممكنة عقر ساقي عقرة شديدة خلفت ندبة ظلت فترة طويلة(24).
وفي 11 مارس كان نابليون ممزقا بين هذه البهجة الجديدة، وعاطفته الطاغية للسلطة والعظمة، فترك البهجة الجديدة ليقود جيشا لغزو إيطاليا في إحدى أكثر المعارك عبقرية في التاريخ.
4- الزوبعة الإيطالية - 27 مارس 1796 - 5 ديسمبر 1797
لقد بُسِّط الموقف العسكري بعقد معاهدات مع كل من بروسيا وإسبانيا، أما النمسا فقد رفضت السلام طالما فرنسا متمسكة بفتوحها في الأراضي المنخفضة (النذر لاندز Netherlands ) وعلى طول نهر الراين. وواصلت انجلترا حروبها في البحر وقدمت للنمسا إعانة مالية قيمتها 000.006 جنيه استرليني لتمويل حروبها البرية على فرنسا. وكانت النمسا تحكم لومبارديا Lombardy منذ سنة 3171، وهي الآن متحالفة مع شارل عمانويل الرابع Charles Emmanuel IV ملك سردينيا وبيدمونت Piedmont الذ ي كان يأمل في استعادة سافوي Savoy ونيس Nice اللتين استولى عليهما الفرنسيون في سنة 2971.
وكانت حكومة الإدارة قد تركت أمر التخطيط لعملياتها العسكرية في سنة 6971 لكارنو Carnot ، فخططها بحيث تشن فرنسا ثلاث هجمات اختراقية على النمسا. فكان على جيش يقوده جوردا Jourdan أن يهاجم النمساويين عند الحدود الشمالية الشرقية على طول سامبر Sambre والميز Meuse وعلى جيش آخر بقيادة مورو Moreau أن يتقدم ضد النمساويين على طول الموسيل Moselle والراين Rhine وعلى جيش ثالث بقيادة نابليون أن يحاول طرد النمساويين والسردينيين من إيطاليا. أما جوردا فبعد أن حقق بعض الانتصارات، واجه القوات المتفوقة للأرشيدوق كارل لودفيج Archduke Karl Ludwig فعانى من الهزائم في أمبرج Amberg وفيرتسبرج Wurzburg وتراجع إلى الشاطىء الغربي للراين. أما مورو فتقدم بجيشه في بافاريا Bavaria وكاد يصل إلى ميونخ Munich ثم علم أن الأرشيدوق المنتصر يمكن أن يقطع خطوط مواصلاته أو أن يهاجمه عند مؤخرة جيشه فانسحب إلى الألزاس. وكأمل أخير لجأت حكومة الإدارة إلى نابليون.
وعندما وصل إلى نيس Nice في 72 مارس وجد أن "الجيش المعد لغزو إيطاليا Army of Italy " ليس على حال يسمح له بمو اجهة القوات النمساوية والسردينية التي تسد المدخل الضيق في إيطاليا بين البحر المتوسط وجبال الألب الشاهقة.وكانت قواته مكونه من 000.34 مقاتل شجاع اعتادوا على الحروب في الجبال لكن ملابسهم بائسة ونعالهم بائسة، وطعامهم الكفاف حتى إنهم كانوا يضطرون للسرقة ليظلوا على قيد الحياة(34)، ويكاد لا يصلح منهم لخوض معارك شاقة سوى 000.03، خيولهم قليلة جداً، ويكادون يكونون بلا مدافع. كما أن الجنرالات الذين وضع على رأسهم نابليون ابن السبع والعشرين سنة كانوا مستائين لتعيينه قائدا لهم وأرادوا أن يشعروه بأنهم أعلى خبرة (هؤلاء الجنرالات هم أوجيرو Augereau وماسينا Masséna ولاهارب Laharpe سيسورييه Sèsurier ) لكن عند أول اجتماع عقده لهم نابليون راعهم شرحه لخططه بوضوح واثق، وإصداره أوامره جلية فسرعان ما أصبحوا له طوعا.
لقد استطاع نابليون أن يفرض نفسه على جنرالاته لكنه لم يستطع أن يحرر نفسه من سحر جوزفين، فبعد أربعة أيام من وصوله إلى نيس نحى خرائطه ومعاونيه وكتب لها خطابا حارا فيه عاطفة مشبوبة لشاب قد اكتشف لتوه عمق عواطفه الكامنة تحت أحلامه بالسلطة:
"نيس في 13 مارس 6971 لا يمر يوم دون أن أتدله في حبك، ولا تمر ليلة إلا وأنا أضمك بذراعي. أنا لا أستطيع أن أشرب كوباً من الشاي دون أن ألعن الطموح المادي (الدنيوي) الذي أبعدني عن روح حياتي. لكن مهما كنت مشغولا بالأعمال أو قيادة جنودي أو التفتيش على المعسكرات، فإن جوزفين حبيبتي تملأ جوانحي.... إن روحي حزينة وقلبي في الأغلال، وإني أ تخيل أشياء ترعبني، فأنت لا تحبينني كما أحبك، فأنت ستسلين نفسك في مكان آخر...... إلى اللقاء يا زوجتي يا معذبتي يا سعادتي.... فأنت أنت التي أحبها، وأنت التي أخشاها، إنك مصدر المشاعر التي تجعلني مهذبا كالطبيعة Nature نفسها، ومصدر الدفع الذي يجعلني مفجعاً كالصاعقة.... إنني لا أطلب منك أن تحبينني للأبد أو أن تكوني مخلصة لي، لكنني أطلب منك ببساطة.... أن تقولي لي الصدق.... لقد وهبتني الطبيعة Nature روحا مصممة قوية، بينما روحك رقيقة كونت من شرائط زينة وشاش..... عقلي منشغل بالخطط الواسعة، بينما قلبي مستغرق فيك منشغل بك تماما....
إلى اللقاء ! آه لو أنك تحبينني أقل مما يجب، ذلك أنك لم تحبينني أبداً، لذا فقد كنت أهلاً للشفقة. بونابارت(44)
وكتب لها مرة أخرى مرتين في يومي 3 و7 أبريل، وسط معمعة الحرب. وقد درس المعلومات كلها التي أمكنه الحصول عليها عن قوات العدو ا لتي يتحتم عليه هزيمته: جيش نمساوي بقيادة بوليو Beaulieu في فولتري Voltri بالقرب من جنوا، وجيش آخر بقيادة أرجنتاو Argentau في مونتنوت Montenotte إلى الغرب من الجيش الآنف ذكره (جيش بوليو) وجيش سرديني بقيادة كولي Colli عند سيفا Ceva أبعد إلى بالجنوب. وقد افترض بوليو Beaulieu أن خطوط مواصلاته هي التي ستملي عليه أي جيش من جيوشه سيكون في حاجة لنجدة طارئة. وعلى هذا الأساس كان يتوقع بناء على أسباب معقولة أن يصــد الهجوم الفرنسـي نظــراً لقواتـه المشتركة (المتحــدة) التي تفــوق القوات الفرنسية عددا بنسبة 2 إلى 1 أي أن قواته ضعــف القوات الفرنســية، أما إستراتيجية نابليــون فهي أن يتحرك بأكبر عــدد من جنوده بأقصى سرعة ممكنة وبسرية ليواجه واحداً من الجيوش المدافعــة ويســحقه قبل أن ينجــده أي جيش مــن الجيشين الآخرين. لقد كانت خطة نابليون تنطوي على الإسراع بالقوات الفرنسية في طرق جبلية و عرة، وكان هذا يتطلب مقاتلــين شــديدى البــأس ذوي عزم. وعمد نابليون إلى إثارة حماســهم ورفع روحهم المعنوية بأول بيان من بياناته المشهورة التي كانت إحدى عُدَدِه - غير قليلة الشأن - في معاركه:
"أيها الجنود. إنكم جائعون عريانون. إن الجمهورية مدينة لكم بالكثير، لكنها تفتقد الوسائل لرد ديونها لكم. لقد أتيت لأقودكم إلى أخصب سهول طلعت عليها الشمس. فالمديريات الغنية والمدن الوافر ثراؤها.. كلها ستكون تحت أمركم. أيها الجنود، أيكون هذا الرخاء أمامكم ثم تعوزكم الشجاعة والثبات؟"(54). لقد كان ذلك دعوة واضحة للسلب والنهب. وكان هذا ضرورياً وإلا بأية وسيلة كان يستطيع هؤلاء الرجال الذين لم يتقاضوا مرتباتهم تحمّل المسيرة الطويلة ثم مواجهة الموت؟ فما كان نابليون مثل معظم الحكام والثوريين ليسمح للاعتبارات الأخلاقية أن تعوق النصر، وكان واثقا أن نجاحه سيمحو خطاياه. ألا يجب أن تساهم إيطاليا في تكاليف تحريرها؟
لقد كان الهدف الأول لاستراتيجيته هو أن يحطم الجيش السرديني ويدفع ملك سردينيا للتراجع إلى تورين Turin عاصمة بيدمونت التابعة له his Piedmont Capital ودخل نابليون في سلسلة مواجهات عسكرية حسمها لصالحه بنجاح: في مونتنوت Montenott (11 أبريل) وميليسيمو Millesimo (31 أبريل) وديجو Dego (51 أبريل) وموندوفي Mondovi (22 أبريل) وأدى هذا إلى بعثرة القوات السردينية وتدميرها مما أرغم شارلز عمانوئيل على توقيع هدنة في شيراسكو Cherasco (82 أبريل) تنازل بمقتضاها عن سافوي ونيس لفرنسا، ومن ثم ا نسحب من الحرب. وفي هذه المعارك أثر القائد الشاب في المحاربين التابعين له بأوامره الواضحة الحاسمة، وتكتيكاته المنطقية الناجحة التي تكمل حكمة استراتيجيته التي كانت مبنية في غالبها على مهاجمة جناحي العدو ومؤخرته. وتعلم الجنرالات الأقدمون أن يطيعوه ثقةً منهم في رؤيته وحكمه، أما الضباط الأصغرون سنا (مثل جونو Junot ولان Lannes ومورا Murat ومارمون Marmont وبيرتييه Berthier ) فكانوا مخلصين له حتى أنهم واجهوا الموت مرارا بسببه. وعندما وصل الجنود الباقون على قيد الحياة بعد هذه الانتصارات إلى مرتفعات مونت زيموتو Monte Zemoto التي يمكن أن يروا منها سهول لمبارديا المشمسة انخرط كثيرون منهم في تحية تلقائية للقائد الشاب الذي قادهم بعبقرية.
والآن لم يعد يتحتم عليهم أن يسلبوا وينهبوا كي يعيشوا، فحيثما أقام نابليون الحكم الفرنسي فرض على الأثرياء والإكليروس الضرائب وحث المدن (أو أمرها) على الإسهام في ضبط سلوك جنوده. وفي 62 أبريل، في شيراسكو Cherasco خاطب جيشه مادحاً إياه ومحذرا من قيام الجنود بعمليات سلب أو نهب:
"أيها الجنود
لقد حققتم في أسبوعين ستة انتصارات، واستوليتم على واحد وعشرين علما، وخمسة وخمسين مدفعا، وفتحتم أغلى جزء في بيدمونت... كل ذلك بدون أية موارد تزودكم بما هو ضروري. لقد حققتم النصر بلا مدفع، وعبرتم الأنهار بلا جسور، وسرتم سيرا حثيثا بلا نعال، وعسكرتم بلا براندي بل وغالبا بلا خبز..... إن وطنكم المقدر للجميل والمعترف به سيكون مدينا برخائه لكم.... لكن أيها الجنود، إن كل ما فعلتموه لا يساوى شيئا إذا قيس بما ستعملونه. لاتورين Torin ولا ميلان صارت لكم... أثمة واحد فيكم تنقصه الشجاعة؟ أهناك من سيفضل العودة عبر قمم جبال أبنين والألب ليتحمل بصبر نذالة جندي حقير؟ لا ليس من شخص كهذا بين فاتحي مونتنوت وفاتحي ديجو، وفاتحي موندوفي. فكلكم تحترقون لزيادة عظمة الشعب الفرنسي....
أيها الأصدقاء إنني أعدكم بهذا الفتح شريطة أن تقسموا (وتنفذوا ما أقسمتم عليه) أن تحترموا الشعوب التي تحررونها، وأن تكفوا عن السلب الذي يقترفه بعض الأوغاد بتحريض من أعدائنا. وإذا لم تكفوا عن هذا السلب فما أنتم محررون للشعوب بل أنتم إذن جلادوها لو استمر النهب لضاعت ثمار انتصاراتكم وشجاعتكم ونجاحاتكم ودم إخوانكم الذين ماتوا في المعركة، بل وضاع أيضا شرفكم وعظمتكم. ذلك أنه بالنسبة لي وللجنرالات الذين حازوا ثقتكم لا بد أن نستحي من قيادة جيش بلا نظام وضوابط.... إن أي شخص سيقوم بعملية نهب أو سلب سيتم إعدامه رمياً بالرصاص بلا رحمة.
أيها الشعب الإيطالي إن الجيش الفرنسي أتى ليحطم أغلالكم، فالشعب الفرنسي صديق لكل الشعوب، فلتستقبلوا الجيش الفرنسي بثقة، فممتلكاتكم ودينكم وعاداتكم كلها موضع احترام، فلسنا نحقد على أحد سوى على الطغاة الذين يظلمونكم".
بونابرت
لقــد شــهدت المعركة الأولى عمليـات سلب كثيرة، وظل شيء منها رغم هذا الطلب وذاك التهديد، وقد أمر نابليون بإطلاق النار على بعض السلابين وعفا عن آخرين منهم قائلاً:
"هؤلاء البؤساء لا بد من التماس الأعذار لهم، لقد ظلوا طوال ثلاث سنوات يتطلعون للأرض الموعودة... والآن وقد دخلوها فإنهم يريدون الاستمتاع بها"(64). وقد هدأهم بأن جعلهم يشاركون في المؤن والأموال التي تم جمعها من المدن " المحررة".
ووسط هذا الهياج العظيم كله بسبب طول المسيرة، والمعارك ورغم انشغاله بالأمور الدبلوماسية، فقد كان نابليون في كل ساعة تقريبا يفكر في الزوجة التي كان قد تركها بسرعة بعد ليلة العرس. والآن وقد أصبح يمكنها أن تمر بأمان في السيفن Cévennes فقد أرسل لها خطاباً في 71 أبريل يتوسل إليها فيه أن تحضر إليه. وكتب لها في خطاب آخر في 42 أبريل سنة 6971 قائلاً: "تعالي بسرعة. إنني أحذرك فإن زاد تأخرك، فستجدينني مريضا. فهذه المتاعب التي أواجهها الآن، أيضاف إليها غيابك عني؟! لا أطيق هذا... فليكن لك جناحان، ولتطيري إليّ.. قبلة مني على قلبك.. وقبلة أخرى تحت قلبك بقليل.. وقبلة ثالثة تحت القبلة السابقة... وأخرى تحت... تحت.... أبعد تحت؟!"(74).
أكانت جوزفين مخلصة؟ أكان يمكنها، وهي التي تعودت على المسرات أن تكتفي طوال عدة شهور برسائل التملق التي كان يرسلها إليها؟ وفي الشهر نفسه الآنف ذكره (أبريل) وجد ضابط وسيم في الرابعة والعشرين من عمره هو هيبوليت شارل Hippolyte Charle طريقه إليها. وفي شهر مايو دعت تاليران Tallyerand للقائه. "ستكونين عاصفةً معه، فمدام ريسامييه Récamier ومدام تاييه Tallien ومدام هاميلا Hamilin كلهن يتقن إليه أو بتعبير آخر فقدن اتزانهن من أجله"(84). وشغفت به جوزفين حبا، حتى إنه عندما أتى مورا Murat قادما من طرف نابليون محملاً بالأموال ومعه تعليمات لها بأن تلحق به في إيطاليا، فإنها تلكأت مُتعلِّلة بالمرض وقالت لمورا أن يبلغ نابليون (رئيسه) أنه قد ظهرت عليها دلائل الحمل. وكتب لها نابليون في 31 مايو: "أحقا ما قاله مورا من أنك حامل!... إن مورا يقول إنك متوعكة وهذا ما جعله يعتقد أنه ليس من التدبير السليم أن تتحملي مشاق هذه الرحلة الطويلة. وعلى هذا فإن عليّ أن أظل فترة أطول دون أن أسعد بضمك بين ذراعي! أمن الممكن أن أحرم من رؤية بطنك وقد ارتفع قليلا من جراء الحمل؟"(94) لكن فرحته لم تدم فلم تكن جوزفين أبداً لتلد له طفلا.
7- انقلاب 18 فروكتيدور - 4 سبتمبر 1797
لم تكن باريس التي وصلها هي باريس نفسها التي ألفها في أيام عامي 2971 و 3971 حيث حكم الجماهير والحشود. بل إنه حتى منذ سقوط روبيسبير سنة 4971 كانت العاصمة (باريس) تتبع خطى أهل الريف فزادت معارضتها للثورة؛ معارضة ذات بعد ديني وبعد سياسي أيضا. فالكاثوليكية - بقيادة القسس الذين لم يقسموا يمين الولاء للدستور المدني - استعادوا نفوذهم على شعب كان قد فقد تصديقه للبديل الدنيوي عوضا عن الآمال المعقودة على حياة أخرى فيها العزاء وزاد حنينه إلى الطقوس الدينية والمناسبات المرتبطة بالقديسين، فزاد إهماله للنظام العشري لتقسيم الأيام الذي ابتدعته الثورة The décadi واعتبار اليوم العاشر هو يوم الراحة، وعادوا للاحتفاء بيوم الأحد من كل أسبوع وتوقيره. إن فرنسا تصوت الآن لصالح الرب God.
أما بالنسبة للملك، ففي البيوت والصالونات والشوارع بل وفي تنظيمات الأحياء التي كان العوام ( السانس كولوت) يسيطرون عليها - راح الرجال والنساء يتحسرون على أيام الرجل الطيب لويس السادس عشر bonhomme Louis XVI وراحوا يلتمسون الأعذار لما وقع فيه البوربون من أخطاء وراحوا يتساءلون أيمكن لأي حكومة أخرى غير الملكية الشرعية أن تعيد النظام والأمان والرخاء والسلام وتخرج فرنسا من حالة الفوضى والجريمة التي دمرت فرنسا؟ والمهاجرون العائدون (الذين كانوا قد تركوا فرنسا إثر قيام الثورة) كثر عددهم حتى إن الظرفاء منهم أطلقوا على مقار إقامتهم في باريس اسم "كوبلينز الصغيرة Le petit Coblenz " (إشارة إلى مكان إقامتهم في ألمانيا بعد مغادرتهم فرنسا)، وفي مقارهم في باريس بعد عودتهم كان يمكن للمرء أن يسمع الفلسفات الملكية التي كان يدعوهم إليها خارج فرنسا بونال Banald وميستر Masitre. والجمعيات المنتخبة التي كان يسودها البورجوازيون كانت ترسل إلى مجلس الشيوخ ومجلس الخمسمائة مزيدا من النواب المستعدين لمغازلة النظام الملكي شريطة ضمان الممتلكات. وبحلول سنة 7971 كان أنصار النظام الملكي في المجلسين من القوة بمكان حتى إنهم انتخبوا لحكومة الإدارة الماركيز دى بارثيليمي de Barthélemy ووجدنا لازار كارنو Lazare Carnot عضو حكومة الإدارة منذ سنة 5971 يعود مرة أخرى ألى اليمين ويتخذ موقفا معارضا من دعايات بابيف Babeuf وراح ينظر بعين الرضا إلى الدين باعتباره طعما (تطعيم) ضد الشيوعية.
وشعر الجمهوريون الراسخون من أعضاء حكومة الإدارة - بارا Barras ولارفيليير - ليبو - Larevelliere Lépaux وروبل Rewbell، بالخطر على مناصبهم وحياتهم بسبب الحركة الملكية، فقرروا المخاطرة بكل شيء والقيام بانقلاب يمكن أن يخلصهم من الزعماء الملكيين في كلا المجلسين وفي حكومة الإدارة. وراحوا يطلبون الدعم الجماهيري من اليعاقبة الراديكاليين الذين اختفوا عن الساحة والمرارة في حلوقهم في أثناء حركة المحافظين (المطالبين بالعودة إلى الماضي الملكي)، كما طلبوا الدعم العسكري من نابليون ليرسل لهم من إيطاليا جنرالا ذا كفاءة لتنظيم جنود باريس للدفاع عن الجمهورية. وكان نابليون راغبا في مساعدتهم، فإحياء مطالبات أسرة البوربون بالعرش قد تحبط خططه، إذ كان راغبا في ترك الطريق مفتوحا لوصوله هو للسلطة السياسية، فالوقت لم يصبح مناسبا بعد لهذه المغامرة. فأرسل إليهم قائدا حازما هو بيير أوجرو Pierre Augerau وهو رجل محنك عركته المعارك. فقام أوجرو بضم بعض جنود هوش Hoche للعمل معه، وبهؤلاء الجنود اقتحم في 81 فروكتيدور (شهر الفواكه) المجلسين التشريعيين وقبض على 35 نائبا وكثير من الوكلاء الملكيين كما قبض على عضوي حكومة الإدارة : بارثيليمي Barthélemy وكارنو Carnot ، وهرب كارنو إلى سويسرا وتم ترحيل معظم الباقين إلى جويانا (غيانه) Guiana في أمريكا الجنوبية حيث الكدح والعمل وحيث لا يعرف بهم أحد. وفي انتخابات سنة 7971 سيطر الراديكاليون على المجلسين وضموا كلا من ميرلي Merlin الدووى of Ldouai وجان بابتست تريهارJean - Baptiste Treihard إلى الثلاثة الآخرين في حكومة الإدارة التي تم تعديلها على هذا النحو، وخولوها سلطة تكاد تكون مطلقة(06).
وعندما وصل نابليون إلى باريس في 5 ديسمبر 7971 وجد إرهابا جديدا موجها إلى المحافظين كلهم، وكل ما كان يفرق بين هذا الإرهاب الجديد والإرهاب القديم، أن الإرهاب الجديد استخدم نفي المعارضين إلى جويانا (غيانه) Guiana بدلا من قطع رقابهم بالمقصلة. ومع هذا فقد بدت الطبقات كلها متفقة على كفاءة هذا الشاب (نابليون) الذي أضاف نصف إيطاليا إلى فرنسا. وقد نحى نابليون جانبا الآن تطلعه إلى القيادة الصارمة، وراح يظهر بمظهر التواضع والاعتدال، وراح يعمل على إرضاء الجميع بطرق مختلفة ؛ إرضاء المحافظين بتمجيد النظام، وإرضاء اليعاقبة بإظهار دوره في نقل إيطاليا من مرحلة العبودية الإقطاعية إلى مرحلة الحرية، وإرضاء المثقفين بكتابته "إن الفتوح الحقيقية تتمثل في القضاء على الجهل، ولا عذر لنا في التواني في القضاء عليه"(16). وفي 01 ديسمبر قام أصحاب المقام الرفيع في الحكومة الوطنية بتكريمه بشكل رسمي. وكانت مدام دى ستيل Mme . de Stael حاضرة، وقد حفظت لنا مذكراتها هذا المشهد: "استقبلت حكومة الإدارة الجنرال بونابرت استقبالا مهيبا كان في بعض جوانبه علامة مميزة في تاريخ الثورة وقد اختاروا قصر لوكسمبرج Luxembourg لإقامة هذه المراسم، فلم تكن هناك قاعة من السعة بحيث تتسع لمثل هذا الحشد؛ وتجمع الناس لمشاهدته فوق كل سطح. وقد وقف أعضاء حكومة الإدارة الخمسة - وقد ارتدوا ملابس رومانية - على منصة، وبالقرب منهم كان نواب مجلس الشيوخ ومجلس الخمسمائة وأعضاء المعهد العلمي.. ووصل نابليون وهو يلبس ملابس بسيطة جدا ويتبعه مساعدوه، وكانوا جميعا أطول منه لكنهم كانوا يحترمونه جدا وينحنون له، وشملت النخبة - المتجمعة هناك - الجنرال المنتصر بالتحية والتصفيق. لقد كان نابليون هو أمل الجميع من جمهوريين وملكيين، فالجميع رأوا الحاضر والمستقبل في قبضته"(26).
وفي هذه المناسبة سلم أعضاء حكومة الإدارة معاهدة كامبوفورميو Campoformio ، فتم اعتمادها رسميا وأصبح نابليون قادرا على قضاء فترة راحة من المشاغل الدبلوماسية ومن الحرب.
وبعد أن حضر نابليون هذا الاحتفال الفخم الذي أقامه تاليران Talleyrand على شرفه (تاليران كان في ذلك الوقت هو وزير الخارجية أو عضو حكومة الإدارة للشئون الخارجية) انسحب نابليون إلى بيته في شارع شانترين Chantereine وقبع فيه يستجم مع جوزفين وأبنائها وكان يسمح لنفسه بالظهور أمام الجمهور فامتدح المعجبون به تواضعه، وراح المقللون من شأنه يبدون سعادتهم بانتهاء دوره، وعلى أية حال فقد دأب على زيارة المعهد العلمي، وراح يتحدث في الرياضيات مع لاجرانج Lagrange وفي الفلك مع لابلاس Laplace وفي نظم الحكم مع سييز Sieyés وفي الأدب مع مارى - جوزيف دى شنييه Marie - Joseph de Chénier وفي الفن مع ديفيد David وربما كان بنشاطه هذا يعد بالفعل للحملة على مصر، ويفكر في أن يصحب معه مجموعة من الدارسين والعلماء. ورأت حكومة الإدارة في مسلكه المتواضع هذا شيئا غير واضح المعالم يدعو إلى الريبة، فهذا الشاب الذي كان في إيطاليا والنمسا يتصرف وكأنه هو الحكومة، كيف يتخذ قرارا بالتصرف على النحو (المتواضع) في باريس؟ فأرادوا أن يشغلوه ويبعدوه فعرضوا عليه أن يقود خمسين ألف جندي وبحار جمعوهم في برست Brest لغزو إنجلترا. ودرس نابليون المشروع ورفضه وحذر حكومة الإدارة في خطاب بتاريخ 32 فبراير 8971: "لا بد أن تتخلوا عن محاولة حقيقية لغزو إنجلترا وأن تقنعوا أنفسكم بالاكتفاء بالظهور أمامها (بمظهر القوة) فالأولى هو أن نركز انتباهنا لمواردنا ناحية الراين Rhine ... ويجب ألا نبعد الجيش الكبير عن ألمانيا ... أو يمكننا إرسال حملة إلى الشرق Levant ونهدد تجارة (إنجلترا ) مع الهند"(36). فهناك في الشرق كان حلمه، فحتى عندما كان وسط معامع المعارك في إيطاليا كان يفكر في إمكانيات القيام بغزوة في الشرق: ففي ظل الانهيار التدريجي للدولة العثمانية، فإنه بروح جسور ورجال شجعان جوعى يمكن تشكيل الأمور، وتكوين إمبراطورية. إن إنجلترا تحكم المحيطات ولكن قبضتها على البحر المتوسط يمكن خلخلتها بالاستيلاء على مالطة، وقبضتها على الهند يمكن إضعافها بالاستيلاء على مصر، ففي مصر حيث العمالة رخيصة يمكن بالفرنكات والتفكير السليم بناء أسطول، ويمكن بالشجاعة والخيال الخصب دفع هذا الأسطول عبر البحر والمحيط ليصل إلى الهند والاستيلاء من النظام الاستعماري البريطاني على أغلى ممتلكاته. وقد اعترف نابليون في سنة 3081 لمدام دى ريموسا Rémusat :
" لا أدري ما كان يحدث لي لو لم تواتني الفكرة السعيدة بالذهاب إلى مصر. فعندما غادرت السفن إلى شواطئها لم أكن أعرف سوى أنني قد ودعت فرنسا إلى الأبد، وإن اعتراني قليل من الشك أن فرنسا ستستدعيني. إن سحر فتح بلاد الشرق قد أبعد أفكاري عن أوربا أكثر مما كنت أتصور"(46).
ووافقت حكومة الإدارة على اقتراحاته، وكان أحد أسباب موافقتها هو اعتقادها أنه سيكون أكثر أمانا (لها) أن يكون هو بعيدا عن فرنسا، ووافق أيضا تاليران Talleyrand لأسباب لا تزال محل خلاف، فمشرفة بيته مدام جراند Mme Grand تفسر ذلك بأنه اتخذ هذا الموقف " لمصلحة أصدقائه الإنجليز "بتحويل مسار الجيش الذي يهدد بغزو إنجلترا إلى مصر(56). وأخرت حكومة الإدارة موافقتها لأن الحملة مكلفة وتتطلب من الرجال والعتاد ما تحتاجه فرنسا لحماية أراضيها من إنجلترا والنمسا وربما أيضا من تركيا التي قد تنظم في حلف جديد ضد فرنسا ( وكانت السلطة التركية - العثمانية - على مصر متراخية) لكن التقدم السريع للقوات الفرنسية في إيطاليا - ضم الولايات الباباوية ومملكة نابلي - أدى إلى وصول أسلاب متتالية إلى حكومة الإدارة، وفي أبريل سنة 8971 غزا جيش فرنسي آخر - بموافقة نابليون - سويسرا وأقام فيها الجمهورية الهيلفيتية Helvetic وتم جمع "التعويضات" منها، وتم إرسالها إلى باريس. والآن أصبح يمكن الإنفاق على تحقيق حلم الاستيلاء على مصر. وبدأ نابليون فورا في إصدار أوامر مفصلة لإعداد أسطول فرنسي جديد ( استخدم المؤلف عبارة new armada أي أسطول قوي على نمط الأساطيل الإسبانية والبرتغالية في عصورها الزاهرة)، فكان لا بد من تجميع القوات والمواد التالية في طولون وجنوا وأجاكسيو أو سيفيتا فيشيا Civitavecchia: 31 سفينة حربية وسبع فرقاطات و 53 سفينة قتال أخرى و 031 سفينة نقل، 000.61 بحار و 000.83 جندي (كثيرون منهم كان مع الجيش الفرنسي الذي حارب في إيطاليا) بالإضافة إلى المواد والعتاد الضروري، ومكتبة مكونة من 782 مجلداً. وكان العلماء والباحثون والفنانون سعداء بقبول الدعوة للانضمام إلى ما وصف بأنه اتحاد مثير وتاريخي بين المغامرة (العسكرية) والبحث. وكان من بين هؤلاء العلماء: مونج Monge الرياضي وفورييه Fourier الفيزيائي، وبيرثولي Bertholet الكيميائي. وجيوفرى سان هيلار Geoffroy Saint - Hilaire البيولوجي (عالم الأحياء). وقام تاييه Tallien بالتنازل عن زوجته لبارا Barras واتخذ سبيله بين العلماء. وقد لاحظ العلماء وقد اعتراهم الفخر أن نابليون أصبح الآن يوقع خطاباته مشفوعة بعبارة " بونابرت عضو المجمع العلمي الفرنسي والقائد العام"(66). وبوريين Bourrienne الذي كان قد رافق نابليون كسكرتير له في كومبوفورميو في سنة 7971، صحبه أيضا في هذه الرحلة (إلى مصر) وقدم لنا رواية مفصلة عن مصيرها. وأرادت جوزفين أيضا أن تواصل الرحلة، فسمح نابليون لها بمرافقته حتى طولون لكنه منعها من ركوب السفن، وعلى أية حال فقد أخذ معه ابنها يوجين بوهارنيه Eugéne Beauharnais الذي كان نابليون قد أحبه لتواضعه وكفاءته وولائه وقوة إخلاصة، وقد حزنت جوزفين حزنا مضاعفا لهذا الفراق؟ أيمكنها أن ترى ابنها أو زوجها مرة أخرى بعد هذا الفراق؟ ومن طولون اتجهت جوزفين إلى بلومبيير Plombiéres لتتناول "مياه الخصوبة Fertility waters " لأنها أصبحت الآن - وكذلك نابليون - تريد طفلا.
وفي 19 مايو سنة 8971 أبحر الأسطول الأساسي من طولون ليكرر في التاريخ الحديث إحدى روايات تاريخ العصور الوسطى.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
8- الفانتازيا الشرقية (الحملة الفرنسية على مصر) - 19 مايو 1798 - 8 أكتوبر 1799
لقد تمت التعمية على الجهة التي يقصدها الأسطول حتى إن الرجال كلهم - تقريبا - والبالغ عددهم 000.45 لم يكونوا يعلمون وجهة الأسطول، وفي بيان له سمات خاصة وجهه نابليون "لجيش الشرق" الجديد أشار إليه بأنه مجرد "جناح" للجيش الفرنسي المعد لغزو انجلترا، وطلب من البحاره والجنود أن يثقوا به رغم أنه لا يستطيع حتى الآن أن يحدد المهام الموكلة إليهم. وقد حققت هذه السرية بعض الأغراض : فالحكومة البريطانية كانت مضطربة الفكر بشكل ظاهر بناء على معلومات وصلتها عن أسطول فرنسي صغير يجري إعداده ليشق طريقه عابرا مضيق جبل طارق ليشارك في غزو إنجلترا. وكانت سفن نلسون Nelson غير دقيقة في مراقبة البحر المتوسط، وكانت السفن التجارية وسفن النقل تروغ منها في البحر المتوسط.
وفي 9 يونيو ظهر الأسطول الفرنسي إزاء سواحل مالطا، وكانت حكومة الإدارة قد قدمت رشوة لرئيس جماعة فرسان مالطا وذوي الشأن فيهم لتكون مقاومتهم شكلية(76)، ونتيجة لهذا استولى الفرنسيون على الحصن المنيع الممول جيدا في هذه الجزيرة بسهولة ولم يفقدوا في سبيله سوى ثلاثة رجال. وتأخر نابليون في الجزيرة أسبوعا ليعيد تنظيم إدارة الجزيرة على نمط الإدارة الفرنسية Gaulward وكان ألفريد دي فينيAlfred de Vigne - الذي سيصبح شاعرا فيما بعد - يومئذ في الثانية من عمره، وقد قدموه لنابليون، فرفعه وقبله، وقال ألفريد - فيما بعد - "عندما أنزلني بعناية إلى سطح السفينة، كان قد كسب إلى جانبه، عبداً آخر يضاف إلى عبيده"(86). وعلى أيه حال فإن نابليون ذلك الرجل الشبيه بالإله عانى دوار البحر طوال فترة الإبحار إلى الإسكندرية تقريبا، وفي هذه الأثناء درس القرآن.
ووصل الأسطول إلى الإسكندرية في أول يونيو سنة 8971 وكان في الميناء حامية، ومعنى هذا أن رسوه بالأسطول قد يكلفه كثيرا، ومع هذا فقد كانت عملية إنزال القوات مسألة لا بد منها حتى لو لم يكن الأسطول الفرنسي موضع مراقبة من أسطول نلسون، وكانت الأمواج تتكسر على الساحل بعنف ومع هذا فإن نابليون شخصيا قاد مجموعة من خمسة آلاف مقاتل ونزل بهم على جزء من الساحل غير محمي ( ليس به قوات مدافعة)، وتقدم بقواته ليلاً بلا فرسان ولا مدفعية وانقض على الحامية وهزمها ولم يكلفه ذلك سوى مائتين من رجاله بين قتيل وجريح، واستولى على المدينة (الإسكندرية) وقدم الحماية لبقية سفن الأسطول الفرنسي فتم إنزال بقية الجنود وأسلحتهم على أرض مصر. وحث نابليون القادة المحليين في المدينة على الاجتماع به، وكان عماده في هذه الدعوة هو ما حققه من انتصار بإنزال جنود على البر المصري، وكلمات قليلة أتقنها باللغة العربية. وراح نابليون يسليهم - ومن ثم يؤثر فيهم - بمعلوماته عن القرآن (الكريم) واستخدامه الماهر لآياته وأفكاره، وتعهد لهم نيابة عن نفسه وباسم جيشه أن يحترم دينهم وقوانينهم وممتلكاتهم، ووعدهم - إن هم ساعدوه بالعمال والعتاد - أن يعيد لهم البلاد (مصر) التي استولى عليها المرتزقة المماليك الذين جعلوا من أنفسهم حكاما لمصر في ظل أسر حاكمة متراخية. ووافق العرب نصف موافقة (كانت موافقتهم غير حاسمة)، وفي 7 يوليو أمر نابليون جيشه الذي تملكه العجب بالتقدم معه لقطع 051 ميلاً في الصحراء للوصول إلى القاهرة.
لم يسبق للعسكر الفرنسيين أن خبروا مثل هذه الحرارة وهذا العطش، وتلك الرمال التي تعمي البصر، والحشرات التي لا تعرف التعب أو هذه الدوسنتاريا (الزحار والإسهال) المنهك. وراح بونابرت يخفف من حدة شكاويهم بمشاركتهم المتاعب في صمت. وفي 01 يوليو وصلوا إلى نهر النيل، فشربوا حتى الامتلاء وأنعشوا أجسادهم. وبعد مسيرة أخرى استمرت خمسة أيام، شاهدت طليعة الجيش بالقرب من قرية شبراخيت جيشا قوامه ثلاثة آلاف مملوك "تشكيل عسكري مبهر من الفرسان" على حد تعبير نابليون الذي قال أيضا: "كلهم يومضون بفعل بريق الذهب والفضة ومسلحون بأفضل البنادق اللندنية القصار Carbines & Pistols وبأفضل سيوف الشرق، وكانوا يركبون - ربما - أفضل خيول في القارة"(96) وانقض الفرسان المماليك سراعا على الجيش الفرنسي من الأمام ومن ناحية الجناحين فلم يكن لهجومهم نتيجة سوى أنهم سقطوا بقذائف مدافع الفرنسيين وبنادقهم، ففروا هاربين وقد جرحوا في أبدانهم وكرامتهم.
وفي 02 يوليو وكان لا زال باقيا على القاهرة مسافة ثمانية عشر ميلا شاهد المنتصرون الهرم. وفي مساء هذا اليوم علم نابليون أن جيشا من ستة آلاف مملوك بقيادة ثلاثة وعشرين بك من البكوات حكام الأقاليم - قد تجمع في إمبابه، وأن هذا الجيش قد اتخد أهبته لمواجهة الغزاة الكفار. وبعد ظهيرة اليوم التالي انقضوا بكل قواتهم على الفرنسيين في معركة حاسمة عرفت بمعركة الأهرام. وهناك قال لجنوده ( إن كان لنا أن نثق في ذاكرة نابليون):
"إن أربعين قرنا تتطلع إليكم"(07) ومرة أخرى واجه الفرنسيون هذا الهجوم بطلقات المدافع والبنادق والحراب المثبته فقتل سبعون فرنسيا وألفٌ وخمسمائة مملوك، وغرق كثيرون منهم في النيل في أثناء هروبهم الطائش. وفي 22 يوليو أرسلت السلطات التركية (العثمانية) في القاهرة مفاتيح المدينة إلى نابليون مما يعني الاستسلام. وفي 32 يوليو دخل نابليون المدينة البهية من غير أن يواجه مقاومة.
ومن القاهرة أصدر أوامره بأن تدار أمور مصر عن طريق دواوين عربية Arab divans (لجان) تابعة لسيطرته. ومنع جنوده من السلب والنهب وحمى حقوق الملكية الموجودة لكنه استمر في تحصيل الضرائب التي فرضها المماليك الغزاة على أهل البلاد لتمويل جيشه، وجلس مع الزعماء المحليين واعترف باحترامه للشعائر الإسلامية وإعجابه بالفن الإسلامي، وشهد ألا إله إلا الله ، وطلب مساعدة المسلمين له ليعم الرخاء والازدهار مصر. وعقد اجتماعا مع علماء الحملة لوضع الخطط للقضاء على الطاعون وإدخال صناعات جديدة وتطوير نظم التعليم المصري وتحسين القوانين المعمول بها، وإنشاء خدمات بريدية ونظام مواصلات، وإصلاح الترع وضبط الري وربط النيل بالبحر الأحمر. وفي يوليو سنة 9971 نظم المعهد العلمي المصري من علماء مصر وعلماء الحملة، وكان العلماء هم الذين أعدوا الأربعة والعشرين مجلداً الضخاما التي مولتها ونشرتها الحكومة الفرنسية بعنوان وصف مصر (9081-8281) Description de L`Egypte وأحد هؤلاء العلماء لا نعرف إلا أن اسمه بوشار Bouchard وجد في سنة 9971 في مدينة تبعد عن الاسكندرية ثلاثين ميلا حجر رشيد Rosetta عليه نقوش بلغتين وثلاثة خطوط (الهيروغليفية والديموطيقية واليونانية) وقد مكنت هذه الكتابات توما يونج Thomas Young (1814) وجان - فرنسوا شامبليون Jean - Francois Champolion (1821) من وضع أسس منهج ترجمة النصوص الهيروغليفية ففتحوا بذلك أمام أوربا "الحديثة" أبواب حضارة مصر القديمة المركبة والناضجة بشكل يدعو إلى الدهشة. وكان هذا هو النتيجة الرئيسية لحملة نابليون على مصر، أو النتيجة الوحيدة المهمة.
لكن فتح مصر كان - لفترة - مدعاة لفخره، كذلك كان مدعاة لمباهاته إدخال نظم الإدارة فيها. لقد قال لمدام دى ريموسا de Rémusat في وقت لاحق وهو يستدعي ذكرياته:
"لقد كانت الفترة التي قضيتها في مصر هي أكثر الفترات بهجة في حياتي ... لقد وجدت نفسي في مصر متحررا من قيود الحضارة وإزعاجها. لقد رحت أحلم بأمور كثيرة ورأيت كيف أن كل ما حلمت به يمكن أن يتحقق . لقد خلقت دينا (المقصود ابتدعت دينا) وتصورت نفسي في الطريق إلى آسيا راكبا فيلا وعلى رأسي عمامة وفي يدى قرآن جديد كان علي أن أصيغه على وفق أفكاري.... وكان عليّ أن أهاجم القوات الإنجليزية في الهند وتجديد علاقاتي بأوربا القديمة بفتحها... لكن القدر كان ضد أحلامي"(17). وكان أول سهام القدر ضده هو معلومات نقلها إليه أندوش جونو Andoche Junot الضابط المعاون مؤداها أن جوزفين اتخذت لها في باريس عشيقا. لكن الحالم الكبير (نابليون) بكل تألقه العقلي أهمل أن يضع في اعتباره أنه من الصعب على نبات استوائي كجوزفين أن تظل لشهور عديدة دون أن تمتع مفاتنها بشكل حسي. لقد ظل نابليون لعدة أيام حزينا ساخطا، وكتب في 62 يوليو سنة 8971 خطابا يظهر فيه الاكتئاب والقنوط إلى أخيه جوزيف:
"في غضون شهرين سأكون في فرنسا مرة أخرى... فهناك أمور كثيرة تزعجني في بلادي ... إن صداقتك تعني لي الكثير، أكنت لأفقدها أو أظنك تخدعني . إنه لا بد لي أن أكون صالحا تماما مبغضا للشر .... إنني أريدك أن تهيىء لي مكانا في الريف أستقر فيه عندما أعود، إما في برجاندى Burgundy أو بالقرب من باريس. إنني أفكر في قضاء الشتاء فيه بحيث لا أرى أحدا. لقد سئمت المجتمع. إنني أحتاج أن أنفرد بنفسي. مشاعري متبلدة. لقد سئمت الشهرة. إنني متعب من تحقيقي هذا المجد وأنا في سن التاسعة والعشرين. لقد فقد ذلك جاذبيته بالنسبة لي، فلم يعد لي سوى الأنانية الكاملة....
إلى اللقاء يا صديقي الوحيد الذي لا صديق لي سواه .... حبى لزوجتك ولجيروم Jerome". ووجد بعض العزاء عندما جعل من امرأة فرنسية شابة قيمة لمسكنه، وكانت هذه المرأة الشابة قد تبعت زوجها الضابط إلى مصر. إنها بولين فورى Pouline Foure` التي لم تستطع مقاومة اهتمام نابليون بجمالها المرح فبادلته الابتسام ولم تبد مقاومة جادة عندما أرسل زوجها السيد فوري في مهمة في باريس، ليوسع لنفسه الطريق. وعندما علم زوجها سبب مكرمة نابليون وتمييزه بإرساله إلى باريس عاد إلى القاهرة وطلق بولين Pouline. وفكر نابليون أيضا في الطلاق وشغلته فكرة الزواج من بولين وإنجاب وريث لكنه وضع في اعتباره دموع جوزفين وعمل لها حسابا.
وقد سعدت بولين بهدية حقيقية، وعاشت بعد ما نالته من حظ عاثر تسعا وستين سنة.
وبعد أسبوع من أخبار جوزفين المحبطة التي أتى بها جونو Junot حدثت كارثة كبرى قوضت نصر جيش الشرق. فإن نابليون عندما ترك أسطوله في الإسكندرية متجها إلى القاهرة كان قد أمر (على وفق رواية نابليون) نائب الأدميرال (اللواء البحري) فرنسوا - بول بروى Francois-Paul Brueys أن يفرغ كل حمولته من المواد اللازمة للجنود ومن ثم يبحر بأقصى سرعة ممكنة إلى كورفير Corfu التي كان الفرنسيون قد استولوا عليها. كما أمره بضرورة اتخاذ الإجراءات كلها لتجنب تدخل البريطانيين، لكن سوء الاحوال الجوية أخر إبحار بروي Brueys، وفي أثناء فترة التأخير هذه رسا بأسطوله في خليج أبي قير القريب، وهناك في 13 يوليو سنة 8971 رآه نيلسون وهاجمه بسرعة. وبدت القوتان البحريتان المتواجهتان متكافئتين: فالقوات البحرية الإنجليزية قوامها 41 سفينة حربية وسفينة بصاريين، والقوات البحرية الفرنسية قوامها 31 سفينة حربية وأربع فرقاطات. لكن البحارة الفرنسيين كان الحنين إلى العودة إلى بلادهم قد ازداد ولم يكونوا متدربين بما فيه الكفاية، أما البحارة البريطانيون فقد كان البحر هو وطنهم الثاني ألفهم وألفوه، والآن فإن تنظيمهم (البريطانيين) الأكثر تفوقا وبراعتهم البحرية وشجاعتهم سادت طوال النهار والليل لأن المعركة الدامية استمرت حتى فجر الأول من أغسطس. ففي الساعة العاشرة من يوم 13 يوليو انفجرت، سفينة القيادة ( التي بها بروى Brueys ) التي بها 021 بندقية، وقتل كل من كان على متنها تقريبا بمن فيهم اللواء بحري نفسه، وكان يبلغ من العمر خمسة وأربعين عاما. ولم تستطع الهروب سوى سفينتين فرنسيتين، وبلغت خسائر الفرنسيين ما يزيد على 0571 قتيلاً و 0051 جريح، أما خسائر البريطانيين فكانت 812 قتيلاً و276 جريحاً (بمن فيهم نيلسون). وهذه المعركة (أبوقير) بالإضافة إلى معركة الطرف الأغر Trafalgar (1805) هما آخر محاولتين قامت بهما فرنسا النابليونية لتحدي السيادة الإنجليزية على البحار.
وعندما وصلت أخبار هذه النكسة الكاسحة إلى نابليون في القاهرة أيقن أن فتحه لمصر غدا بلا معنى. فالمغامرون المرافقون له قد أحيط بهم الآن برا وبحرا وما من سبيل لوصول العون الفرنسي إليهم، وأنهم سرعان ما سيصبحون تحت رحمة أهل البلاد المعادين، والبيئة غير المواتية ومن الأمور التي تذكر لهذا القائد الشاب، أنه وجد الوقت في ظروفه العصيبة هذه ليعزي أرملة اللواء البحري المتوفى في مصابها:
"القاهرة، 91 أغسطس 8971
لقد قتل زوجك بطلقة مدفع بينما كان يحارب على سطح سفينته، لقد مات بشرف كما يتمنى أن يموت كل جندي. ( ولم يعانِ زوجك حال وفاته).
إن أساكِ يؤثر في كثيرا. إنها لحظة قاسية عندما نفارق من نحب... وإذا لم يكن من سبب للحياة فقد يكون من الأفضل أن نموت، لكن هناك جانب آخر للأمور عندما تضمين أطفالك لقلبك فستحيي الدموع والعطف رغبتك في الحياة، لتعيشي من أجل أولادك. نعم يا مدام ستبكين معهم وستنشئينهم وسترعين طفولتهم وستعلمينهم في شبابهم وستحدثينهم عن أبيهم وما حدث له، وعن حبهم وجمهوريتهم. وعندما تربطين روحك بهذا العالم ثانية من خلال التفاعل المتبادل مع أطفالك، أريدك أن تجعلي لصداقتي بعض القيمة ولتضعي في اعتبارك اهتمامي الصادق الذي سأوليه دوما لزوجة صديقي. كوني متأكدة أن هناك رجالا ... يمكنهم أن يحولوا الأسى إلى أمل لأنهم يشعرون بشكل واضح تماما بعذابات القلب"(27).
وتضاعفت المحن، فلا يكاد يمر يوم بلا هجمات يشنها العرب أو الترك أو المماليك غير المؤتلفين مع سادتهم الجدد - على القوات الفرنسية. وفي 61 أكتوبر قامت جماهير القاهرة بثورة على الفرنسيين الذين قمعوا الثائرين، وتخلى نابليون لفترة عن دور الفاتح المتسامح وأمر بقطع أعناق كل ثائر مسلح(37). وعندما سمع نابليون أن الأتراك ( العثمانيين) يعدون جيشا لاستعادة مصر صمم على مواجهة التحدي فأعدّ ثلاثة عشر ألفا من رجاله إلى سوريا، وانطلق في 01 فبراير سنة 9971 واستولى على العريش وأتم عبور صحراء سيناء. ويبين لنا خطاب كتبه نابليون في 72 فبراير بعض جوانب هذه المحنة : حرارة وعطش "وماء غير عذب تعتريه ملوحة، وأحيانا لا ماء أبداً لقد أكلنا الكلاب والحمير والجمال" ووجدوا في غزة - ويا لسعادتهم - بعد معركة قاسية - خضراوات طازجة وبساتين ذوات فواكه لا مثيل لها.
وفي يافا Jaffa (3 مارس) توقفوا أمام مدينة ذات أسوار وسكان معادين وحصن يدافع عنه 007.2 مقاتل تركي من ذوي البأس، فأرسل نابليون يعرض عليهم شروطا، لكنهم رفضوها، وفي 7 مارس أحدث المهندسون العسكريون الفرنسيون في أسوار المدينة ثغرة اندفع الجنود خلالها فقتلوا من قاومهم من السكان وسلبوا المدينة، وأرسل نابليون، يوجين دي بوهارنيه لإعادة النظام في المدينة فعرض حق الخروج الآمن لكل من يستسلم، وسلم جنود الحصن أسلحتهم حتى لا يلحق الفرنسيون مزيدا من الدمار في المدينة، وسيقوا أسرى إلى نابليون، فرفع يديه فزعا وتساءل : "ماذا يمكنني أن أعمل معهم؟" فلم يكن نابليون يستطيع أن يأخذ 0072 أسير معه في مسيرته تلك فالرجال الفرنسيون بذلوا قصارى جهدهم ليجدوا الطعام والشراب لأنفسهم، ولا يمكنه تدبير عدد كاف من الحراس لاصطحاب هؤلاء الأسرى ليسجنوا في القاهرة، وإذا هو أطلق سراحهم فما الذي يمنعهم من حرب الفرنسيين ثانية فعقد نابليون اجتماعا عسكريا وسألهم عن رأيهم في هذه المشكلة، فكان رأيهم أن أفضل حل هو قتل هؤلاء الأسرى، فتم الصفح عن نحو ثلاثمائة منهم، وقتل 1442 طعنا بالحراب لتوفير الذخيرة(47).
وواصل الغزاة مسيرتهم، وفي 81 مارس وصلوا إلى مدينة عكا Acra شديدة التحصين، وكان يقود المقاومة الجزار باشا Djezzar يساعده أنطوان دي فيليبو Phélippeaux - الذي كان زميلا لنابليون في الدراسة في بريين Brienne، وحاصر الفرنسيون المدينة دون مدافع حصار ذلك أن مدافع الحصار التي كان قد تمَّ ارسالها من الإسكندرية بحرا استولى عليها أسطول إنجليزي بقيادة سيروليم سدني Sir William Sidney وسلمها إلى حصن المدينة (عكا) وراح يزود حاميتها بالطعام والمواد اللازمة في أثناء الحصار. وفي 02 مايو بعد أن قضى الفرنسيون شهرين أمام أسوار المدينة وتكبدوا خسائر فادحة أمر نابليون بالعودة إلى مصر، وقد ذكر نابليون بعد ذلك متفجعا: "إن فيليبو Phélipppeau جعلني أتراجع عن عكا Acre، فلولاه لأصبحت سيد مفتاح الشرق ولأمكنني الذهاب إلى القسطنطينية واستعادة الإمبراطورية الشرقية"(57). وفي سنة 3081 (غير متوقع أحداث سنة 2181) ذكر لمدام دى ريموسا Rémusat" لقد مات خيالي عند عكا. لن أسمح لها أبدا بالتداخل معي مرة أخرى"(67). كانت العودة على طول الساحل في أيام نحسات متوالية، لقد كان الجيش أحيانا يقطع مسيرة تصل إلى إحدى عشرة ساعة يوميا بين آبار لا يشرب ماؤها في معظم الحالات يسمم البدن ولا يكاد يطفىء عطشا. وطلب نابليون من أطباء الحملة تدبير جرعات مميتة من الأفيون للقضاء على المصابين بأمراض لا شفاء لها، لكن الأطباء رفضوا وسحب نابليون اقتراحه(77)، وأمر بالتخلي عن ركوب الخيل وتركها للمرضى وجعل من نفسه قدوة لضباطه بسيره على قدميه تاركا حصانه المريض(87). وفي 41 يونيو دخل الجيش الفرنسي المنهك مدينة القاهرة دخول المنتصر وعرض سبعة عشر علما من أعلام الأعداء وستة عشر أسيرا تركيا، كدليل أن الحملة قد حققت نصرا يدعو للفخر. وكان دخولهم القاهرة بعد رحلة شاقة قطعوا فيها 003 ميل في ستة وعشرين يوما.
وفي 11 يوليو أنزلت مائة سفينة على ساحل خليج أبي قير جيشا تركيا لطرد الفرنسيين من مصر فخرج نابليون من القاهرة متجها شمالا على رأس أفضل جنوده وانقض على الجيش التركي فألحق به هزيمة منكرة ( في 52 يوليو) حتى إن كثيرين من الترك فضلوا الاندفاع إلى البحر ليموتوا غرقى بدلا من مواجهة الفرسان الفرنسيين المندفعين بعنف.
ومن الصحف الإنجليزية التي أرسلها سيدني سميث Sidney Smith إلى نابليون علم - ويالدهشته - أن التحالف الأوربي الثاني قد طرد الفرنسيين من ألمانيا، وأعاد الاستيلاء على إيطاليا كلها (تقريبا) من الألب إلى كالابريا(97) Calabria. إن صروح انتصاراته كلها قد انهارت عبر سلسلة من الكوارث من الراين وبو Po إلى أبي قير وعكا، والآن من خلال هزائم مخزية وجد نفسه وجيشه الذي هلك جانب كبير منه وقد حوصروا في ممر يحيط به الأعداء، حيث يمكنهم محق الفرنسيين في غضون وقت قليل.
وفي نحو منتصف شهر يوليو تلقى من حكومة الإدارة أمرا كان قد أرسل له في 62 مايو، مؤداه أن يعود إلى باريس فورا(08). فصمم على العودة إلى فرنسا بطريقة ما رغم الحصار البريطاني، ليشق طريقه إلى السلطة، وليعزل القادة المخطئين الذين سمحوا بضياع مكاسبه كلها في إيطاليا بهذه السرعة السريعة. ونظم نابليون الأمور العسكرية والإدارية في القاهرة وعين كليبر Kléber المعارض ليكون على رأس ما تبقى من حلم فرنسا ضم مصر إليها. وكانت الخزانة خاوية بالإضافة إلى كونها مدينة بستة ملايين فرنك، فقد كانت هناك متأخرات للجنود وصلت قيمتها إلى أربعة ملايين فرنك، وكان عدد الجنود الفرنسيين يتناقص يوما بعد يوم وكذلك معنوياتهم، بينما أهل البلاد المقاومون يزدادون قوة ويتحينون الفرصة للقيام بثورة أخرى. وكان من الممكن في أي وقت أن ترسل تركيا وبريطانيا العظمى قوات عسكرية إلى مصر يمكنها - بمساعدة أهل البلاد - عاجلا أم آجلا إجبار الفرنسيين على التسليم. وكان نابليون يعلم ذلك كله ولم يكن يستطيع تبرير مغادرته مصر إلا بالقول إنه مطلوب في باريس ولديه أمر بالعودة. وعندما كان يودع جنوده رفع صوته قائلا:" إذا حالفني الحظ ووصلت إلى فرنسا فلا بد أن ينتهي حكم هؤلاء الثرثارين الحمقى"(18). ولا بد من إرسال الدعم لهؤلاء الفاتحين المحاصرين. ولم يصل هذا الدعم أبداً ( ومما يذكر أن نابليون كان قد وعد - في وقت سابق - أن يقدم لكل جندي من جنوده ستة هكتارات من الأرض بعد أن يعودوا ظافرين إلى بلادهم).
وكانت الفرقاطتان مويرو Muiron وكارير Carre`re قد أفلتتا من الإبادة التي ألحقها الأسطول البريطاني بالأسطول الفرنسي في أبي قير، فأرسل نابليون أمراً بتجهيزهما في محاولة منه للوصول إلى فرنسا. وفي 32 أغسطس سنة 9971 ركب السفينة مويرو Muiron ومعه كل من بورين Bourrienne وبرثولي Berthollet ومونج Monge، وتبعهم الجنرالات لان Lannes ومورا Murat ودينو Denon وغيرهم السفينة كارير(28) Carrére وبسبب الضباب وحسن الحظ أفلتت السفينتان من مراقبة جواسيس نلسون وأسطوله. ولم يستطع نابليون ومن معه التوقف في مالطا لأن البريطانيين المنتصرين كانوا قد استولوا على هذا الموقع الحصين في 9 فبراير. وفي 9 أكتوبر رست السفن إزاء فريجو Fréjus وجدف نابليون ومساعدوه حتى الشاطىء عند سان رافائيل St.Raphae`l والآن إما أن يكون " القيصر أو لا أحد " aut Caesar aut nullus.
9- انهيار حكومة الإدارة - 4 سبتمبر 7971 - 9 نوفمبر 9971
أدت نجاحات الجيوش الفرنسية - والتي بلغت ذروتها في إخضاع بروسيا في بازل Basel في سنة 5971، والنمسا في كومبوفورميو Compoformio في سنة 7971، ونابلي وسويسرا في سنة 8971 - إلى تراخي الحكومة الفرنسية التي تكاد تكون قد أصيبت بالكسل الشرقي (الكسل والتراخي السائدين في بلاد الشرق) فقد خضع المجلسان التشريعيان لحكومة الإدارة (حكومة المديرين) واعترف هؤلاء ( أعضاء حكومة الإدارة) بدورهم بزعامة كل من بارا Barras وروبل Rewbell ولارفيلييه Larevellie`re . ويبدو أن هؤلاء الثلاثة قد اتخذوا من الشعار الذي تنسبه الروايات إلى البابا ليو العاشر Leo X ، ذلك الشعار القائل: إنه "ما دام الرب قد أعطانا هذا المنصب فدعونا نستمتع به". لقد كانوا سعداء فيما يبدو بفترة السلام النسبي التي أتاحت لفرنسا أمنا من الناحية الظاهرية، وكانوا قد تعلموا بالخبرة أن المناصب الحكومية غير مضمونة خاصة في أثناء الثورات، فراحوا يستعدون للإطاحة بهم بفرش أعشاشهم ( المقصود راحوا يجمعون الأموال ليؤمنوا حياتهم إذا ما تركوا الحكم)، فعندما عرضت إنجلترا المعزولة عليهم السلام في يوليو سنة 7971 قيل لها إن ذلك أمر يمكن ترتيبه إذا دفعت مبلغ 000.005 جنية إسترليني لكل من بارا Barras وروبل Rewbell واستطاع هؤلاء الأشخاص الآنف ذكرهم الحصول على رشوة - فيما يظهر - من البرتغال، كان مقدارها 000.004 جنية إسترليني، لقاء السلام الذي حصلت عليه من فرنسا في أغسطس من العام نفسه(38). وكان روبل Rewbell جشعا وكان بارا يحتاج إلى دخل متحرك ( غير ثابت كالمرتبات الحكومية) ليحتفظ بالمدام. أما تاييه Tallien والمرتبطون به فكانوا ذوي نزوات ومتسمين بالمرح، وكانوا في حاجة إلى الأموال للاحتفاظ بمساكنهم الفاخرة في قصر لكسمبرج(48) Luxembourg أما تاليران Talleyrand وزير الشئون الخارجية فقلما كان يفلت فرصة ليجعل الثورة تمول ما يشبع ذوقه الأرستقراطي، وقد أحصى بارا العمولات tips التي يحصل عليها، فوجدها - غالبا - تزيد عن 000.001 جنية (ليفر) في السنة(58). وفي أكتوبر سنة 7971 حضر إلى باريس ثلاثة مندوبين أمريكيين لفض نزاع حول سفن أمريكية استولى عليها قراصنة فرنسيون مفوضون من الحكومة، على وفقا ما ذكره الرئيس جون آدمز John Adams فقد قيل لهم أنه يمكنهم الوصول إلى اتفاق بتقديم قرض قيمته 23 مليون فلورين Flourins لحكومة الإدارة و "حلاوه" douceur (المقصود رشوة) قيمتها 000.05 جنية إسترليني لتاليران(68).
لقد واجه هؤلاء الثلاثة ( اعضاء حكومة الإدارة الآنف ذكرهم) كثيرا من المشاكل فقد يجوز لنا التاسمح مهم في معظم أخطائهم - على الأقل فيما يتعلق بإنعاش أنفسهم مساء بابتسامات الغيد الحسان. لقد تجنبوا انهيارا ماليا آخر بجمع الضرائب التقليدية بجدية أكثر من ذي قبل، واستردوا الضرائب التي كانت في حكم الميتة كضريبة الانتقال، وفرضوا ضرائب جديدة - كتلك التي فرضوها على الرخص، والأختام والدمغات وطوابع البريد، وعلى النوافذ والأبواب . لقد ترأسوا أمة ممزقة الجسد والروح ، ممزقة في الدوائر ( المحافظات) وممزقة حتى على مستوى الطبقة الواحدة، ممزقة لتصارع أغراضها:
النبلاء والبلوتوقراط ( الذين حازوا النفوذ بسبب ثرواتهم)، أهالي فيندي الكاثوليك واليعاقبة غير المؤمنين بالكاثوليكية (النص : الملاحدة atheists.). الاشتراكيون أتباع بابيف Babeuvian Socialists والتجار المطالبون بالحرية، والعوام الحالمون بالمساواة والذين يعيشون على حافة المجاعة. ولحسن الحظ فقد أدت وفرة المحاصيل في عامي 6971 و8971 إلى تقليل أعداد الواقفين في الصفوف للحصول على الخبز. لقد كان انتصار الليبراليين على أعضاء حكومة الإدارة ذوي الاتجاه الملكي في سنة 7971، من إنجاز الراديكاليين الذين قدموا دعما ضد ذوي الاتجاهات الملكية في ذلك الوقت.
وعن طريق الدفع إلى حد ما (تقديم الرشاوي) استطاع هؤلاء الثلاثة - على أية حال - فرض الرقابة على الصحافة ذات الميول البورجوازية والمسارح والانتخابات غير النزيهة والقبض على المعارضين بلا سابق انذار، وجددوا معركة هيبير Hébertist Campaign ضد الدين.
وتم إبعاد الراهبات عن مهمة تعليم النشء، وعهد به إلى معلمين صدرت إليهم الأوامر بنزع الأفكار الغيبية كلها من المقررات التي يدرسونها(78). وفي غضون اثني عشر شهرا في عامي 7971 و 8971 تم ترحيل 391 إكليريكياً على السفينة ديكاد décade لم يبق منهم على قيد الحياة بعد ترحيلهم بعامين سوى تسع وثلاثين(88). وبينما كان الصراع الداخلي يشتد كان الخطر الخارجي يزداد، ففي هولندا وبلاد الراين أدى جشع حكومة الإدارة إلى خلق أعداء لفرنسا بدلا من الأصدقاء، فقد كانت الضرائب باهظة، وعارض الشباب التجنيد الإلزامي، وزاد الحنق بسبب القروض الإجبارية (الاقتراض بدون رغبة المقرض - بكسر الراء)، والاستيلاء على الذهب والفضة والقطع الفنية من الكنائس ورجال الدين المبعدين، والناس العاديين على سواء. وفي غضون ثلاث سنوات جمعت حكومة الإدارة من بلجيكا ومناطق الراين وإيطاليا بليونين من الجنيهات(98) Livres. وبعد مغادرة بونابرت مصر "واصلت حكومة الإدارة سياسة الفتح أو بمعنى أوضح سياسة السلب، فاحتلت مناطق جديدة بقصد تحصيل الأموال وسلبت السكان وفرضت "التعويضات" على الحكومات المحلية (التعويض هو مبلغ تقدمه الحكومة المحلية لقاء قيام الثورة بتحريرها). كل ذلك جعل فرنسا ملعونة مكروهة"(09) فقد قال مالي دي با Mallet du Pa وهو موالٍ للنظام الملكي " إن فرنسا تأكل أوربا ورقة ورقة وكأنها - أي أوربا - رأس خرشوفة. إنها - أي فرنسا تحرض الشعوب على الثورة حتى تسلبها، وهي تسلبها حتى تتمكن هي من الاستمرار"(19) لقد أصبحت الحرب مربعة أما السلام فقد يكون مدمرا لها. وقد وجد تاليران أن سفينة الدولة غير ثابتة وتبحر في جو عاصف فقدم استقالته من منصبه الوزاري(02 يوليو 8971) وانسحب ليستمتع بما سلبه(29).
وكان نابليون قد قدم مثالا حفز غيره على تقليده، بجعل الحرب وسيلة لجمع الأموال، كما أن عملياته الطائشة كانت إلى حد ما مسئولة عن ويلات الحرب التي أوقعت فرنسا في براثن حكومة الإدارة المنهارة. لقد تسرع نابليون كثيرا - وبشكل سطحي - بإخضاع إيطاليا للحماية الفرنسية وترك المناطق التي فتحها في أيدي أتباع ينقصهم ما كان يتصف به هو من حدة ذهن ومهارة دبلوماسية. وكان نابليون قد عول - بشكل متفائل جدا - على رغبة الجمهوريات الإيطالية الجديدة في دفع مبالغ لفرنسا لقاء تحريرها من النمسا، وأساء تقدير موقف إنجلترا العنيف من احتلاله لمالطا ومصر، فما كان يظن أن موقف انجلترا إزاء هذا الاحتلال سيكون بمثل هذه الشدة، وإلى أي مدى ستقاوم تركيا الخاملة دعوة عدوّتيْها القديمتين: روسيا والنمسا إلى الانضمام إليهما لتأديب هؤلاء الثوار محدثي النعمة وإلى أي مدى سيؤدي اهتمام روسيا وبروسيا والنمسا بتقسيم بولندا في شرق أوربا إلى انشغالهم عن إعادة الحق الإلهي إلى الملوك في غرب أوربا.
لقد كانت عروش أوربا كلها تقريبا تتحين الفرصة للانقضاض على فرنسا مرة أخرى. وقد أدرك الملوك أن هذه الفرصة قد سنحت عندما أخذ نابليون معه 000.53 من خيرة جنود فرنسا ورجالها إلى مصر، فحاصروا فرنسا بمجرد انتصار نلسون في معركة أبي قير البحرية، وما نتج عن ذلك من عدم قدرة الجيش الفرنسي في مصر على العودة سريعا إلى فرنسا. وقبل القيصر بول الأول Czar Paul I نتيجة انتخاب ليكون الرئيس الأعلى لفرسان مالطا Knights of Malta وأخذ على عاتقه طرد الفرنسيين من هذه الجزيرة بالغة الأهمية وعرض مساعدته على فرديناند الرابع Ferdinand IV لاستعادة نابلي Naples ، وكان يحلم بأن تكون لروسيا موانىء صديقة في نابلي ومالطا والإسكندرية، وبالتالي بجعل روسيا قوة من قوى البحر المتوسط. وفي 92 ديسمبر سنة 8971 عقد حلفا مع إنجلترا، وعندما سمح الإمبراطور فرانسيس الثاني Francis II بالمرور الآمن في الأراضي النمساوية للجيش الروسي ليمر إلى الراين، أعلنت فرنسا الحرب على النمسا (21 مارس 9971)، فانضمت النمسا - إثر هذا - إلى كل من روسيا وتركيا ونابلي والبرتغال وانجلترا في الحلف الثاني ضد فرنسا.
وتجلى ضعف حكومة الإدارة في هذا الصراع الذي كانت هي السبب في إثارته، وعجزت عن التنبؤ به. لقد كانت بطيئة كسلى فلم تستعد له بما فيه الكفاية، وكانت غير ناجحة في إعداد ميزانية الحرب، وكانت خرقاء في تطبيق سياسة التجنيد الإجباري. لقد جندت 000.002 رجل لم يكن صالحا منهم للخدمة سوى 000.341 وقد مثل من هؤلاء للأوامر 000.79 وفر منهم آلاف في أثناء المسيرة فلم يصل منهم إلى وحداتهم العسكرية المحددة لهم سوى 000.47، وفي معسكراتهم وجدوا الفوضى ضاربة أطنابها ووجدوا نقصا في الملابس والمعدات والأسلحة. وكانت روح الحماسة التي كانت في وقت من الأوقات تغمر الجيش الجمهوري شجاعة ورغبة في القتال، قد اختفت من هؤلاء الرجال الذين عاشوا سنين محبطين حيث الفوضى وخيبة الأمل. لم يكن هناك في ظل حكومة الإدارة الآن (8971) ذلك العزم والنظام الذي ساد في حرب 3971 في ظل لجنة الأمن العام.
لقد كانت هناك بعض النجاحات الأولية والمضللة فقد فتح الفرنسيون بيدمونت Piedmont وتسكانيا Tuscany وجمعوا منهما الضرائب. وانتصار الملك فردينادز الرابع بطرد الفرنسيين من روما، سرعان ما محقه الفرنسيون باستعادة روما بقيادة جان - اتين شامبيون Jean - Etienne Championnet الذي دخل المدينة (روما) في 51 ديسمبر، وتراجع فرديناند بحاشيته مع لادي هاميلتون Lady Hamilton وعشرين مليون دوكات ducat إلى باليرمو Palermo في ظل حماية أسطول نلسون. واستولى شامبيون على نابلي وأقام فيها الجمهورية البارثينوبية Parthenopean Republic تحت حماية فرنسا. وكلما تقدمت الحرب كانت تنضم فرق عسكرية جديدة للقوات الروسية النمساوية الإنجليزية فوجد الفرنسيون أنفسهم أمام قوات تفوق قواتهم عددا (000.071 مقاتل فرنسي مقابل 000.023 من قوات الحلفاء). وكان الجنرالات الفرنسيون - رغم براعة عمليات مسينا Masséna في سويسرا - تنقصهم قدرة بونابرت على هزيمة قوات أكثر عددا باستخدام استراتيجيات أكثر براعة وتكتيكات ونظم متقدمـة. لقد هزم جوردا Jourdan في ستوكاش Stockach (52 مارس 9971) وتراجع إلى ستراسبورج Strasbourg وتخلى عن منصب القائد. وهزم شيريه Sjérer في ماجنانو Magnono (5 أبريل) وانسحب بقواته بغير نظام ففقد قواته كلها تقريبا وتخلى عن منصبه تاركا إياه لمورو Moreau ، عندئذ أقبل "شيطان الإنس" حقا الإكسندر سفورف Aleksqndr Suvorov على رأس ثمانية عشر ألف روسي وقادهم مع بعض الفصائل النمساوية في معركة شرسة فاستعاد من الفرنسيين المناطق التي كان نابليون قد فتحها في عامى 6971 و7971، منطقة إثر منطقة، ودخل ميلان منتصرا في 72 أبريل فتراجع مورو Moreau إلى جنوا، وانتهت جمهورية سيزالبين Cisalpine النابليونية نهاية مبكرة. ولما وجد ماسينا Massena نفسه وحيدا بجيش صغير في سويسرا تخلى عن فتوحاته هناك وانسحب إلى الراين. ولما وجد سوفورف Suvorov مدى سهولة استرجاع لمبارديا إلى حوزة النمسا انطلق من ميلان لمقابلة القوات الفرنسية القادمة من نابلي وروما وألحق بها الهزيمة في تريبيا Trebbia ( 71 - 91 يونيو 9971) فلم يبق منها إلا بقايا وصلت جنوا. وبذا انتهت الجمهورية البارثينوبية نهاية مبكرة. واستعاد فرديناند عرشه Neapolitan throne وأقام حكم إرهاب حكم في ظلاله بالإعدام على مئات الديمقراطيين. وقاد جوبير Joubert الذي تولى منصبه مؤخـراً بقايا القوات الفرنسية في إيطاليا ضد سوفورف Suvorov في نوفى: Novi (51 أغسطس ) وتصرف بتهور شديد فلاقى حتفه في مستهل المعركة. لقد حارب الفرنسيون بشجاعة لكن من غير أن يحققوا نتائج طيبة. لقد سقط منهم في ساحة المعركة 000.21، وعندما علمت الحكومة الفرنسية بهذه النكبة التي بلغت ذروتها تحققت أن فتوحاتها التي حصلت عليها بصعوبة شديدة قد ضاعت، وأنه قد يصبح الروس بقيادة سوفوروف حالاً على الأرض الفرنسية. وكان خيال العامة في الألزاس وبروفنس Provence يصور هذا القائد الروسي ورجاله وكأنهم "برابرة عماليق" كموجات عاتية من السلاف المتوحشين تجوس خلال مدن فرنسا وقراها.
إن فرنسا التي كانت إلى عهد قريب فخورة بقوتها وانتصاراتها أصبحت الآن في حالة فوضى وفزع لا تقل عن حالة الفوضى والفزع التي سادتها سنة 2971 والتي أدت إلى مذابح سبتمبر . لقد ثار أهل إقليم فيندي Vendée مرة أخرى وتمردت بلجيكا على حكامها الفرنسيين ، وأصبح خمس وأربعون دائرة (محافظة) من ست وثمانين محافظة - تقريباً بلا حكومة ولا ضوابط، لقد قاتل الشبابُ الضباطَ الذين أتوا لتجنيدهم إجباريا، وجرى قتل موظفي البلديات وجامعي الضرائب وأثار مئات اللصوص وقطاع الطرق الذعر في قلوب التجار والمسافرين سواء في شوارع المدن أم على الطرق الزراعية (المارة بالريف) وفاقت قوة المجرمين رجال الشرطة، ففتحوا السجون وأطلقوا سراح المسجونين وضموهم في تنظيمات شكلوها، وتعرضت المساكن ودور العبادة كلها للنهب. لقد عاد "الرعب الكبير" الذي ساد في سنة 4971 مرة أخرى.
وتطلعت الأمة بأمل طالبة الحماية من نوابها الذين أرسلتهم إلى باريس لكن المجلسين كانا قد استسلما لحكومة الإدارة، وحكومة الإدارة بدورها لم تبد سوى أنها أوليجاركية مغتصبة (حكومة أقلية مغتصبة) تحكم بالرشوة والمغالطلة والقهر .
وفي مايو سنة 9971 وجدنا سييز Sieyés - الذي كان راهبا في وقت من الأوقات، والذي راح طوال عشر سنوات مضت يغازل الثورة بتوجيه هذا السؤال: ماهي الطبقة الثالثة؟ وكان يجيب عن السؤال الذي طرحه بقوله إنها الأمة ويجب أن يسمي أبناؤها أنفسهم بذلك (الأمة) سييز هذا خرج من ثوب الغموض الذي كان يتدثر به، فتم انتخابه عضوا في حكومة الإدارة وذلك لأنه كصانع دساتير أصبح متفاعلاً مع القانون والنظام ووافق سييز على الخدمة شريطة استقالة روبل Rewbell ، فاستقال روبل بعد أن حصل على ترضية باهظة: 000.001 فرنك(39). وفي 81 يونيو أرغمت أقلية قوية من ا ليعاقبة في المجلسين حكومة الإدارة على إبعاد لاريفليير Larevelliere وتريهار Treihard ومرلي Merlin على أن يحل محلهم لويس جيروم جوهييه Louis-Jérome Gohier وجان فرنسوا مولي Jean-Francois Moulin وروجر دوكو Roger Ducos . وأصبح فوشي Fouche` وزيرا للشرطة و روبرت ليند Robert Lindt رئيسا للخزانة، وكان كلاهما في لجنة الأمن العام المنحلة وأعيد فتح نادي اليعاقبة في باريس، وراح الناس يسمعون ثناء على روبيسبير وبابيف(49) Babeuf .
وفي 82 يونيو فرضت الهيئة التشريعية Legislature بتأثير اليعاقبة تحصيل قرض مقداره مئة مليون جنيه (ليفر) على شكل ضريبة تتراوح بين 03% و 57% على الدخول العالية، فاستأجر المواطنون الآثرياء محامين لإيجاد ثغرات في القانون لتحاشي هذا القرض الإجباري وراحوا يصيخون السمع برغبة لحبك مؤامرات للإطاحة بالحكومة. وفي 21 يوليو مهد اليعاقبة لإصدار "قانو ن الرهائن a law of Hostages " والذي بمقتضاه صدرت الأوامر إلى كل كومون في فرنسا أن يعد قوائم المواطنين من النبلاء الذين لا يحميهم القانون في دائرته والتحفظ عليهم وإخضاعهم للمراقبة فإذا حدثت سرقة اتهم فيها واحد منهم تحتم إرغامه على إعادة المسروقات وإن قتل واحد من الوطنيين (المقصود هم الموالون للحكم القائم) تم نفي أربعة من هؤلاء الرهائن. وقد قوبل هذا القرار بصيحات الفزع من الطبقات العليا ولم يرحب به العامة ترحيبا كافياً .
وبعد عقد من الهياج والنزاع بين الطبقات والحروب الخارجية والقلاقل السياسية والمحاكمات غير القانونية والسلب والنهب والإعدامات والمذابح أصبح أهل فرنسا كلها من ضحايا الثورة فراحوا يتحسرون على الأيام الطيبة التي خلت، أيام لويس السادس عشر وشعروا أنه لا يستطيع أحد أن يعيد إلى فرنسا النظام والسلامة سوى ملك. وأولئك الذين ظلوا على كاثوليكيتهم راحوا يصلون مبتهلين طالبين أن يحل اليوم الذي يتخلصون فيه من حكم الملاحدة atheists ، بل إن بعض المتشككين الذين تخلوا عن المعتقدات الغيبية كلها راحوا الآن يتشككون الآن في إمكانية أن يستطيع نظام أخلاقي لا يدعمه دين مقاومة العواطف والانفعالات غير المنضبطة والدوافع غير الاجتماعية التي ترسخت في قرون انعدم فيها الأمان وسادت فيها الوحشية والقنص، وراح كثيرون من الآباء غير المتمسكين بعقيدة يرسلون أبناءهم إلى الكنائس لأداء الصلوات، وتأدية طقس الاعتراف وتناول العشاء الرباني حتى يعين ذلك كله على تحليهم بالتواضع ولتقوية عرى الروابط الأسرية وتحقيق السلام مع النفس. والفلاحون والبورجوازيون الذين يدينون للثورة بأراضيهم ويريدون الاحتفاظ بهذه الأراضي قد بغضوا الحكومة رغم هذا، فهي ترسل لهم غالبا من يفرض الضرائب على محصولاتهم أو يجند أبناءهم قسراً. وكان عمال المدن صاخبين في مطالبتهم بالخبز بدرجة أ كثر يأساً عن ذي قبل حتى عن فترة ما قبل سقوط الباستيل، لقد رأوا التجار والصناع والسياسيين وأعضاء حكومة الإدارة يعيشون في رغد من العيش فراحوا ينظرون إلى الثورة باعتبارها أحلت البورجوازيين سادةً ومستغلين للدولة بدلا من النبلاء، ومع هذا فقد كان سادتهم البورجوازيو ن ساخطين بدورهم فالطرق غير الآمنة والتي اعتراها الإهمال جعلت التجارة عملية مرهقة ومنطوية على المخاطرة، وأحبطت القروض القسرية (على غير رغبة المقرض بكسر الراء) والضرائب المرتفعة الراغبين في الاستثمار وإقامة المشروعات، ففي ليون Lyons أغلق ثلاثة عشر محلا تجارياً أبوابها من بين خمسة عشر ألفا، باعتبارها غير مربحة، وكان هناك الألوف من العاطلين رجالا ونساء، وكان لي هافر Le Havre وبوردو ومرسيليا قد اعتراها الخراب بسبب الحرب وبسبب الحصار البحري البريطاني. ولم تكن الأقلية التي يزيد تناقصها تستطيع إلا بجهد شاق أن تعقد رباطا بين الثورة والحرية، فقد حطمت الثورة كثيرا من الحريات وأجازت كثيرا من القوانين الإرهابية وأرسلت خلقاً كثيرا رجالا ونساء- إلى السجن أو المقصلة. وراحت النسوة خلا الزوجات ومشرفات البيوت وبنات الأثرياء الجدد وكبار السن ينتقلن من صف إلى صف با ضطراب أمام المحلات مخافة أن ينفد المعروض من البضائع ورحن يتساءلن متى يعود أبناؤهن وإخوانهن وأزواجهن من الحرب؟ أما لهذه الحرب من نهاية؟ وكان الجنود الذين اعتادوا على العنف والسرقة لا يعانون فقط من الهزيمة وإنما أيضا من نقص المؤن ورداءة الطعام، وكان مما يثير غضبهم ما يصل إلى علمهم مرارا بشأن فساد الرجال الذين يقودونهم وأولئك الذين يقدمون لهم الغذاء واللباس، وعندما كان هؤلاء الجنود يعودون إلى باريس أو إلى مدنهم كانو ا يجدون أيضا عدم الأمانة سائدة في المجتمع وفي التجارة والصناعة والمالية والحكومة. لقد كان سراب إيجاد عالم بهيج جديد يتراجع ويتلاشى كلما زادت أيام الثورة .
وارتفعت الروح المعنوية شيئا ما ولفترة قصيرة عندما وصلت أنباء بأن الحلفاء قد تنازعوا وانقسموا على أنفسهم، وأنهم قد هزموا وتراجعوا في سويسرا والأراضي المنخفضة، ذلك لأن ماسينا Masséna استعاد المبادرة وقسم الجيش الروسي إلى قسمين في زيوريخ Zurich (62 أغسطس 9971) ذلك أن هؤلاء السلاف المرعبين كانوا في حالة تراجع لأن روسيا كانت قد خرجت من التحالف ضد فرنسا وبدأ الفرنسيون يأملون في أن يعود بعض الجنرالات الأكفاء مثل ماسينا Masse`na أو مورو Moreau ، وحبّذا بونابرت الذي عاد من مصر سالما ويقود جماعة منظمة في باريس ويطيح بالسياسيين ويمنح فرنسا الانضباط والأمان حتى لو كان هذا على حساب الحرية. لقد انتهى الفرنسيون إلى نتيجة مؤداها أنه لا يقدر على إنهاء فوضى الثورة، وفرض النظام في فرنسا وإحلال الأمن بها مما هو ضروري لحياة متحضرة سوى حكومة مركزية يقودها زعيم واحد متمتع بالصلاحيات اللازمة .
10- نابليون يتولى المسئولية - 18 برومير (9 نوفمبر) 9971
ووافق سييز Sieyés ، لكنه عندما درس زملاءه في حكومة الإدارة رأى أنه لا أحد منهم (ولا حتى بارا Barras البارع) يشاركه الفكر والرؤية اللازمتين لفرنسا موحدة سوية وكان الرجل متشربا بفكرة الدستور لكن يحتاج إلى جنرال ليكون عوناً على إصدار الدستور وليكون ذراعاً له (أي لسييز). وفكر في جوبير Joubert لكن جوبير كان قد مات، فأرسل في طلب مورو Moreau وراح يحثه أن يكون "فارس الحلبة a man on horse back لكنهما عندما علما بعودة نابليون من مصر، قال مورو: "جاء رجلك إنه يستطيع أن يقوم بالانقلاب الذي تفكر فيه أفضل مما أستطيع أنا"(59) وتفكر سييز ملياً، فنابليون يمكن أن يكون هو الرجل المطلوب، لكن أيقبل أن يوجهه سييز والدستور الجديد؟
وفي 31 أكتوبر أحاطت حكومة الإدارة المجلسين علما بأن بونابرت قد رسا بالقرب من فريجو Frejus فهب النواب وقوفاً وهللوا. وظل أهل باريس طوال ثلاثة أيام يحتفلون ليلا ونهارا بهذه الأخبار بالشرب في الحانات والغناء في الطرقات. وفي كل مدينة تقع على الطريق من الساحل إلى العاصمة(باريس) هبت الجموع شعبا وقادة لتحية الرجل الذي بدا لهم رمزا للنصر وتأكيدا له. حتى إنهم لم يسمعوا بالنكبة التي حدثت للفرنسيين في مصر، ففي المراكز والتجمعات المختلفة ذكر المراقبون أن "الجموع المتجمعة كثيرة جدا مما عطل حركة المرور فلا يستطيع أحد أن يتقدم إلا بصعوبة"(69) وفي ليون جرى عرض مسرحية تكريما له، ووجه الخطيب الحديث إليه قائلاً: "اذهب وحارب العدو واهزمه وسننصبك ملكا"(79) لكن الجنرال الصغير (نابليون) كان صامتا مكتئبا، لقد كان يفكر في كيفية التصرف مع جوزفين.
وعندما وصل باريس (61 أكتوبر) اتجه مباشرة إلى المنزل الذي كان قد اشتراه في الشارع الذي كان اسمه قد تغير تكريما له ليصبح اسمه " شارع النصر Rue de la victoire . لقد كان يأمل أن يجد زوجته المنحرفة هناك ليطردها من حياته، لكنها لم تكن هناك لسببين، أولهما أنه في 12 من أبريل سنة 9971، بينما كان يحاصر عكا، اشترت هي 003 أكر على نهر السين على نحو عشرة أميال من باريس وشيدت في هذه المساحة بيتاً Malmaison (بيت الضرار أو بيت السوء) قدم لها بارا Barras 000.05 فرنك كدفعة أولى من تكلفته البالغة 000.003 فرنك، وكان الكابتن إيبوليت شارل Hippolyte Charles هو أول ضيوفها في هذا القصر الرحب(89). والسبب الثاني أنها هي وابنتها كانتا قد غادرتا باريس قبل أربعة أيام لتتجها إلى ليون Lyons على أمل مقابلة بونابرت في الطريق، وعندما اكتشفت جوزفين وهورتينز Hortense أن نابليون كان قد اختار طريقا مغايرا عادا وقد اعتراهما التعب وشملهما المرض حقا بسبب الرحلة وقطعا مائتي ميل إلى العاصمة، وفي هذه الفترة أتاه والد زوجها الراحل، الرجل الهرم الماركيز دى بوهارنيه de Beauharnais وراح يبرر له ويحثه على مسامحتها : "مهما تكن أخطاؤها فلتنسها، لا تلوث لحيتي التي اشتعلت شيبا ولا تلوث الأسرة التي منحتك التشريف"(99). أما إخوة بونابرت فقد حثوه على طلاقها وقد كانت أسرته مستاءة من سلطانها عليه، لكن بارا Barras حذره من أن الفضيحة العامة تضر بمركزه السياسي.
وعندما وصلت الأم المنهكة (جوزفين) وابنتها إلى 3 شارع النصر (81 أكتوبر) قابلهما يوجين Eugine عند نزولهما من العربة وحذرهما من عاصفة متوقعة، فتركت جوزفين، يوجين يحتفي بأخته، وأسرعت بصعود السلم قفزا وطرقت باب غرفة نابليون الذي أجابها بأنه قرر ألا يراها ثانية، فخرت على السلم وراحت تنشج بالبكاء حتى أتى يوجين وهورتنس Hortense فساعداها على النهوض، وعادا معها ليتوسلا إلى نابليون معا، وفي وقت لاحق قال نابليون:" لقد تأثرت بشدة فلم أكن أستطيع أن أتحمل بكاء ابنها وبنتها، وسألت نفسي: أيجب أن يكونا ضحية سقوط أمهما؟ فبسطت يدي وأمسكت بذراع يوجين وأردفته خلفي. عندئذ أتت هورتينس ومعها أمها... ماذا يمكن أن يقال؟! إن المرء لا يكون إنسانا دون أن يرث الضعف البشري"(001).
في هذه الأيام التي نزع فيها إلى السكون والتأمل تجنب فيها أن يظهر أمام العامة، فقد كان يعرف أن الرجل العام (موضع اهتمام العامة) لا يجب أن يكون عاما جدا. وفي البيت وعندما يخرج، كان لباسه مدنيا حتى يحبط الشائعات القائلة بأن الجيش كان يخطط للاستيلاء على الحكم. وقام بزيارتين: زيارة ليقدم احترامه لمدام هيلفيتيوس Helvétius البالغة من العمر ثلاثة وثمانين عاما، وذلك في أوتيل Auteuil ، والزيارة الثانية للمعهد العلمي حيث تحدث عن الحملة الفرنسية على مصر باعتبارها في جانب كبير منها ذات أبعاد علمية (لصالح العلم) وقد أيده في هذا بيرثولى Berthollet ومونج Monge وراح لابلاس Laplace ولاجرانج Lagrange وكابانيه Cabanis وكثيرون غيرهم يستمعون إليه كعالم وفيلسوف(101). وفي هذا الاجتماع قابل سييز Seiyès وكسبه إلى جانبه بملاحظة واحدة:" ليس لدينا حكومة لأنه ليس لدينا دستور أو على الأقل ليس لدينا الدستور الذي نحتاج لا بد أن تقدم لنا بعبقريتك هذا الدستور المطلوب"(201).
وسرعان ما أصبح بيته مركزا لمفاوضات سرية. لقد استقبل زوارا من "اليسار" ومن "اليمين" (يساريين ويمينيين)، ووعد اليعاقبة بالمحافظة على الجمهورية ودافع عن مصالح الجمهور، لكنه أعلن أخيرا وبصراحة أنه "قابل ممثلي البوربون Bourbons "(301) وعلى أية حال فقد جعل نفسه بعيدا عن أي فريق، خاصة الجيش. ونصحه الجنرال بيرنادوت Bernadotte الذي كان يأمل أن يتولى الحكومة بنفسه ألا يقحم نفسه في السياسة ويكتفي بمنصب قيادي عسكري. واستمع نابليون بمزيد من الرضا لمدنيين مثل سييز الذي نصحه بتولي أمر الحكومة وتدشين دستور جديد. وكان هذا يتطلب تعديل أو خرق قانون أو قانونين، ولكن مجلس الشيوخ خوفاً من إحياء حركة اليعاقبة قد يتغاضى عن شيء من التجاوز للقانون (يتغاضى عن خروج قليل عن القانون)، أما مجلس الخمسمائة فرغم أن به أقلية يعقوبية قوية، فإنه قد انتخب مؤخراً لوسين بونابرت Lucien Bonaparte رئيساً له. ومن بين أعضاء حكومة الإدارة الخمسة كان سييز Sieyés ودوكو Ducos إلى جانب نابليون ، وكان تاليران Talleyrand يحث بارا Barras على الانسحاب بما حققه من مجد ومكاسب (غنائم) أما جوهييه Gohier رئيس حكومة الإدارة فكان على علاقة نصف غرامية بجوزفين ويمكـن شل حـركته بابتسامـة منها(401). وقد يكون بعض المصرفيين قد أرسلوا فرنكات لتأكيد صداقتهم(501).
وفي الأسبوع الأول من شهر نوفمبر سرت إشاعة في باريس مؤداها أن اليعاقبة كانوا يجهزون لقيام الجماهير بتمرد، واعتبرت مدام دى ستيل Mme de Stael هذه الأخبار صحيحة فجهزت نفسها للخروج السريع من باريس إذا انفجرت الاضطرابات(601). وفي 9 نوفمبر (اليوم الثامن عشر من شهر برومير (شهر الضباب) الذي سيصبح يوما شهيرا من الآن فصاعدا) أمر مجلس الشيوخ مستخدما حقوقا كفلها له الدستور بنقل اجتماعاته وكذلك اجتماعات مجلس الخمسمائة إلى القصر الملكي في ضاحية سان كلودSt. Cloud اعتبارا من اليوم التالي، وتوسع في استخدام حقه الدستوري فقام بتعيين بونابرت قائداً لحامية باريس وأمره بالقدوم فورا إلى مقر مجلس الشيوخ في التوليري Tuileries لأداء القسم، فأتى نابليون يرافقه ستون ضابطا والتزم بشروط فضفاضة بما فيه الكفاية ليسمح لنفسه بشيء من حرية العمل والاختيار فيما بعد، واستخدم عبارات عامة تتيح له تفسيرها فيما بعد:
"إننا نريد جمهورية قائمة على الحرية والمساواة والمبادىء المقدسة لتمثيل الأمة، وسنصل إلى هذه الجمهورية ، إنني أقسم"(701).
وعندما خرج من القاعة قال للجنود المتجمعين: "الجيش متحد معي ثانية، وأنا أتحدث ثانية مع المجلسين". وفي هذه الأثناء أحضر بوتو Bottot سكرتير بارا Barras إلى نابليون رسالة من بارا عضو حكومة الإدارة الذي كان قويا ونافذا في وقت من الأوقات، يطلب فيها ضمانا بالخروج الآمن من باريس لأنه ينوي الخروج منها. فهب نابليون صارخاً في بوتو Bottot - البائس الذي لا ذنب له إلا أنه حامل رسالة - وراح يقول له بصوت عال يريد أن يسمعه الجند والمدنيون، كلمات كانت كحكم بالإعدام على حكومة الإدارة، لقد قال له بطريقة إياك أعني واسمعي يا جارة: "ماذا فعلتم بفرنسا التي تركتها لكم مزدهرة؟ لقد تركتكم تنعمون بالسلام، فوجدتكم - عندما عدت - في حرب، لقد تركت لكم انتصارات فوجدتها هزائم ! لقد تركت لكم الملايين من إيطاليا فوجدت السلب والبؤس. ماذا فعلتم بمئات الآلاف من الفرنسيين الذين أعرف أنهم زملائي وشركائي في النصر والعظمة ؟ لقد ماتوا."
ولم يكن المستعمون إليه يعلمون أنه استعار بعضا من هذه السطور من جرينوبل اليعقوبي Grenoble Jacobin فأحسوا بقوتهم إذ كان قد جرى اختزانهم في الذاكرة فترة طويلة كمبرر للانقلاب الذي سيحدث. ومخافة أن تثير كلماته هذه سخط بارا فقد انتحى جانبا ببوتو وأكد له أن مشاعره الشخصية عن عضو حكومة الإدارة (بارا) لم تتغير (801). ثم ركب حصانه واستعرض جنوده وعاد إلى جوزفين سعيدا بنجاحه كخطيب.
وفي 01 نوفمبر قاد الجنرال ليفيبفر Lefebvre خمسمائة من حامية باريس إلى سان كلو St.-Cloud وعسكر بالقرب من القصر الملكي، وتبعهم نابليون وعدد من ضباطه المقربين، ثم لحق بهم سييز، ودوكو Ducos ، وتاليران ، وبوريين Bourrienne . وراحوا يراقبون اجتماع مجلس الشيوخ في بهو مارس Mars واجتماع مجلس الخمسمائة في حديقة البرتقال المجاورة للبهو (الأورانجيري Orangerie ) وحالما دعا لوسين بونابرت الخمسمائة للجلوس والنظام حتى تعالت الاحتجاجات على وجود العساكر حول القصر. لقد تعالت الصيحات: "لا للدكتاتورية.. فليسقط كل دكتاتور! إننا أحرار ولن تخيفنا الحراب" وكان هناك اقتراح مؤداه أن على كل نائب أن يتقدم إلى المنصة وأن يجدد بصوت مسموع قسمه بحماية الدستور، وجرى تنفيذ ذلك بهدوء حتى الساعة الرابعة بعد الظهر.
وتباطأ مجلس الشيوخ أيضا على أساس أنه من الضروري انتظار ما يتقدم به الخمسمائة من اقتراحات، وكان نابليون في غرفة جانبية مغيظا محنقا مخافة أن يضيع هدفه إذا لم يتم اتخاذ عمل حاسم حالا. وشق نابليون طريقة بين بيرتييه Berthier وبورين Burrienne واتجه إلى منصة مجلس الشيوخ وحاول أن يثير هؤلاء الرجال كبار السن ليتحركوا للقيام بعمل ما، لكنه رغم ما كان معروفا عنه من بلاغة في بياناته وحسم في مناقشاته كان في هذه المرة يكظم غيظة ويكتم أفكاره مما جعله غير قادر على ارتجال خطبة منسقة أمام هذا المجلس التشريعي. لقد تحدث بحدة وعنف وطريقة مشوشة:
" إنكم فوق بركان !.... اسمحوا لي أن أتحدث بحرية كجندي (كمقاتل).. لقد كنت أعيش في سلام في باريس عندما استدعيتموني لتنفيذ أوامركم.... إنني أجمع رفاق السلاح... لقد هببنا لنجدتكم.... بينما الناس يغمرونني بافتراءاتهم.. لقد قالوا إنني مثل قيصر، كرومويل Cromwell وتحدثوا عن حكومة عسكرية... إن الوقت يمضي بسرعة. إنه من الضروري أن تتخذوا إجراءات حاسمة فورية.... إن الجمهورية بلا حكومة، فلم يبق إلا مجلس الشيوخ، فليتخذ المجلس إجراءات، فلينطق، وسأكون أداة التنفيذ. دعونا ننقذ الحرية ! دعونا ننقذ المساواة!".
وقاطعة أحد الأعضاء:" وننقذ الدستور أيضا !"
فأجاب نابليون بانفعال غاضب: " دستور!؟ إنكم أنفسكم قد دمرتموه. أنتم انتهكتموه في 18 فروكتيدور! أنتم انتهكتموه في 22 فلوريل Floreal . أنتم انتهكتموه في 31 بريريال Prairial . إنه لم يعد جديرا باحترام من أي إنسان". وعندما طالبوه بأن يسمى الذي وقفوا وراء مؤامرة اليعاقبة، ذكر اسم بارا Barras ومولا Moulin ، فلما طلبوا منه دليلا تلعثم ولم يجد ما هو أكثر إقناعا من توجيه حديثه للجنود الواقفين عند المدخل:" أنتم ، يا رفاقي الشجعان الذي تصحبونني، يا رماة القنابل الشجعان.. إذا تجاسر أي خطيب من هؤلاء، مدفوعا من أحد الأجانب وأعلن إباحة دمى(أنني لست تحت حماية القانون Hors La Loi )، فدعوا بريق الحرب يمحقه فورا"(011) وغمرت الأسئلة والاعتراضات المتحدث (نابليون) فأصبحت كلماته أكثر اضطرابا وتشوشا، فهــب مساعدوه لإنقاذه مـن هذه الورطة ورافقوه إلى خارج الغرفة(111). لقد بدا أنه دمر مشروعه.
لكنه قرر أن يحاول مرة أخرى، لكنه في هذه المرة سيواجه عدوه مباشرة، أولئك الخمسمائة الذين تلونوا بلون اليعاقبة، فاتخذ سبيله إلى حديقة البرتقال المجاورة (الأورانجيرى) يرافقه أربعة من رماة البنادق. وكان النواب مستائين من العرض العسكري فضجت القاعة بالصياح": يسقط الدكتاتور.. يسقط الطغيان ! دمه حلال... إنه ليس تحت حماية القانون Hors La Loi ". لقد كانت هذه العبارة الأخيرة هي التي تسببت فيما سبق في إسقاط روبيسبير وموته. لقد طرحت فكرة "إهدار دم نابليون" بالفعل فرفض لوسيان بونابرت رئيس المجلس طرح الفكرة للتصويت وترك مقعد الرياسة ليعتلي المنصة ويدافع عن نابليون (أخيه). وأحاط النواب المستقرون (بضم الميم) بنابليون: "إنه من أجل هذا حققت انتصاراتك؟!" هكذا سأل أحدهم، وتكالب آخرون عليه وتزاحموا حوله حتى كاد يغمى عليه، فأفسح له العسكريون المصاحبون له الطريق وخرجوا به خارج القاعة، فأنعشه الهواء الطلق، فركب حصانه ولجأ الجنود الذين وقفوا مندهشين لرؤية ثيابه ممزقة وشعره مهوشاً، فخاطبهم: "أيها الجنود. أيمكنني أن أعتمد عليكم؟" فرد كثيرون منهم بنعم وتردد آخرون. لقد كان نابليون مرة أخرى في الغاية من التشوش، فخطته الكبرى تبدو قد تعثرت.
لقد أنقذه أخوه الذي أسرع خارج القاعة الكائنة في حديقة البرتقال(الأورانجيري) وامتطى أقرب حصان وجعل حصانه إلى جانب حصان نابليون وخاطب الحرس غير المنظم بحسم وبلاغة ولوى الحقائق بشدة:
"إنني كرئيس لمجلس الخمسمائة أعلن لكم أن الغالبية العظمى في المجلس في هذه اللحظة قد اعتراهم الرعب بسبب الخناجر التي يحملها بعض النواب والذين حاصروا المنصة وهددوا زملاءهم بالموت... إنني أعلن أن هؤلاء المجرمين الوقحين لا شك قد تلقوا أموالا من إنجلترا وأنهم ضد إرادة مجلس الشيوخ وأنهم تجرأوا على اقتراح إهدار دم الجنرال الذي أخذ على عاتقه تنفيذ قرار مجلس الشيوخ.. إنني أعهد إلى المقاتلين بمسئولية تحرير الأغلبية من ممثليهم. أيها الجنرالات والجنود والمواطنون أنتم يجب ألا تعترفوا بمشرعين لفرنسا إلا بالنسبة لهؤلاء الذين يتبعونني أما الذين سيظلون في قاعة حديقة البرتقال (ألاورانجيري) فليتم طردهم بالقوة(211). وشهر لوسين Lucien سيفه ووجهه لصدر نابليون وأقسم أنه إذا تصدى أخوه (نابليون) لحرية الشعب الفرنسي فسيقتله بسيفه هذا.
وعندئذ أمر نابليون بقرع الطبول وأمر الجنود باجتياح الأورانجيرى(قاعة اجتماع مجلس الخمسمائة في حديقة البرتقال) وتفريق النواب غير الممتثلين للأوامر، فشق مورا Murat وليفيبفر Lefebvre ليكونا في المقدمة وتبعهما رماة القنابل وهم يصيحون: "برافو (حسناً) يسقط اليعاقبة! يسقط من كان لهم من دور في سنة 3971... هذا هو القرار الحاسم... إننا الآن نعبر الروبيكون Rubicon ".
وعندمــا رأى النواب الحراب مشرعة هرب معظمهم وقفز بعضهم من النوافذ وتجمعت أقلية حول لوسين Lucein . وتقـدم هذا المنتصر الذي حبك هذه الأفاعيل إلى مجلس الشيوخ وشرح لأعضائه أن مجلس الخمسمائة قد تخلص من أعضائه غير المرغوب فيهم، عندئذ وافق مجلس الشيوخ الذي سعد أعضاؤه بعدم إبعادهم على مرسوم يقضي بأن يحل ثلاثة قناصل بشكل مؤقت Provisional Consuls محل حكومة الإدارة، وهؤلاء القناصل الثلاثة هم: بونابرت وسييز ودوكو Ducos . وتم تنظيم نحو مائة من بين الخمسمائة في مجلس ثان (بدلا من مجلس الخمسمائة)، وتم إرجاء اجتماعات المجلسين حتى 02 فبراير سنة 0081 وتفرد القناصل الثلاثة لكتابة الدستور الجديد وحكم فرنسا. وقال نابليون لبوريان Bourrienne : "غداً سننام في لكسمبورج Luxembourg ".