قصة الحضارة - ول ديورانت - م 11 ك 1 ف 1

صفحة رقم : 14538

قصة الحضارة -> عصر نابليون -> الثورة الفرنسية -> خلفية الثورة -> الشعب الفرنسي

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الكتاب الأول: الثورة الفرنسية 1789-1799

الفصل الأول: خلفية الثورة أو أحوال فرنسا قبيل الثورة

1- الشعب الفرنسي

كانت فرنسا هي أكثر أمم أوروبا سكاناً وأشدها ازدهاراً، فقد كان عدد سكان روسيا في سنة 1780 هو 24 مليون نفس، وإيطاليا 17 مليونا، وأسبانيا 10 ملايين وبريطانيا العظمى 9 ملايين، وبروسيا 8.6 ملايين، والنمسا 7.9 ملايين، وأيرلندا 4 ملايين، وبلجيكا، 2.2 مليون، والبرتغال 2.1مليون، والسويد 2مليون، وهولندا 1.9 مليون، وسويسرا 1.4 مليون، والدنمرك 800.000، والنرويج 700.000 بينما كان عدد سكان فرنسا 25 مليوناً(1). وكانت باريس هي أكبر مدن أوروبا إذ بلغ عدد سكانها حوالي 650.000 نفساً، كانوا هم الأفضل تعليما في أوروبا كلها، كما كانوا أكثر أهل أوروبا قابلية للهياج والثورة.

وكان الشعب الفرنسي مقسما إلى ثلاث طبقات: طبقة الإكليروس أو رجال الدين وكان عددهم يبلغ نحو 130.000 نفساً(2)، وطبقة النبلاء(ü) وكان عددهم يبلغ نحو 400.000، وطبقة العامة وهي الطبقة التي لا ينتمي أفرادها لواحدة من الطبقتين الآنف ذكرهما. وكانت الثورة الفرنسية هي المحاولة التي بذلتها هذه الطبقة الثالثة (العوام) التي كانت مغموطة الحقوق السياسية رغم ازدهارها الاقتصادي، بغية الوصول إلى ما يتلاءم مع ثروتها النامية من سلطان سياسي وقبول اجتماعي. وكانت كل طبقة من هذه الطبقات الآنف ذكرها منقسمة بدورها إلى طبقات أو شرائح يعلو بعضها الآخر حتى إن كل فردٍ تقريبا كان يمكنه أن ينعم بالنظر إلى من هم دونه، أو بتعبير آخر كان في مكنة كل شخص تقريبا أن ينظر من عَلِ إلى أشخاص هم دونه.

وكانت طبقة الهيئة الكهنوتية الكنسية - من كاردينالات ورؤساء أساقفة وأساقفة ورؤساء أديرة - هي أغنى الطبقات جميعاً، بينما كان القسس ومساعدوهم Pastors & Curatcs في الريف الفرنسي من بين أفقر خلق الله. ومن هنا وجدنا أنه في أثناء الثورة انضم الإكليروس من الرتب الأدنى درجة (كالقسس والرعاة الآنف ذكرهم) إلى عامة الشعب ضد سادتهم، وبذا طغى العامل الاقتصادي على العامل الديني(üü). وكانت الحياة في الأديرة (حياة الرهبنة) قد فقدت بريقها، فطائفة الرهبان البنيدكتيين Benedictines الذين بلغوا في فرنسا في سنة 1770م، 6434 راهبا قد تقلص عددهم في سنة 1790 ليصبح 4300، وفي سنة 1780 كانت تسع [أخويات] دينية (روابط أو تجمعات قائمة على أسس دينية) قد حلّت، وفي سنة 1773 كان جماعة الجزويت( جماعة يسوع) قد تفككت وتدهورت أحوال الدين بشكل عام في المدن الفرنسية، فكانت الكنائس في كثير من المدن نصف خاوية، وفي الريف زاحمت العادات الوثنية والخرافات القديمة عقائد الكنيسة وطقوسها(3)، مزاحمةً فعالة. وعلى أية حال فقد كانت الراهبات لا يزلن يكرســـن أنفســهن لتعليـــم الدين والتمريض بحماس، وكن يحظين بتقدير الأغنياء والفقراء على سواء. وحتى في هذا العصر المتسم بالنـــزوع للشك والاتجاهات العملية كان هناك الآلاف من النسوة والأطفال والرجال الذيـــن استعانوا على قسوة الحياة بالتقوى فراحوا يعزون أنفسهم بحكايات القديسين(ü) وراحوا يخففون من حدة أيامهم الرتيبة المرهقة بممارسة الشعائر في الأعياد الدينية، وفي الاسترخاء، ووجدوا في الآمال الدينية ملاذاً يلوذون به ضد ما اعتراهم من ارتباك وقنوط.

وكانت الدولة تدعم الكنيسة لأن رجال الحكم بشكل عام كانوا متفقين على أن رجال الدين (الإكليروس) إنما يقدمون لهم عوناً لا غنىً عنه لحفظ النظام الاجتماعي. فقد كان رجال الدين (الإكليروس) يرون أن الاختلاف الخلْقي Natural بين الناس فيما يتمتعون به من مواهب، يجعل مما لا مناص منه أن تختلف حظوظهم من حيث الثراء، فقد بدا مهما لطبقة الملاك أن يستمر رجال الدين في تقديم نصائحهم للفقراء، تلك النصائــح التي تحثهم على الإذعان المسالم لقاء دخول الفردوس تعويضا لهم عما يلاقون. وكان مما يعني كثيرا لفرنسا أن نظام الاسرة - وهو النظام الذي يدعمه الدين ويكثف أهميته - ظل كمرتكز للاستقرار الوطني في أثناء التقلبات كلها التي شهدتها الدولة. وأكثر من هذا فقد جرى الحث على الطاعة باستخدام عقيدة الحق الإلهي للملوك - سواء في تعيينهم ملوكا أم في مباشرتهم لسلطاتهم. وكان رجال الدين يغرسون هذه العقيدة في نفوس الناس، وشعر الملوك أن هذه الخرافة (الحق الإلهي للملوك) كانت عوناً ذا قيمة غالية لهم لضمان سلامتهم الشخصية ولاستقرار حكمهم. لذا فقد تركوا لرجال الدين الكاثوليك معظم مؤسسات التعليم العامة، وعندما هدد ازدهار البروتستانتية في فرنسا، بإضعاف سلطان الكنيسة الكاثوليكية وما يتمخض عنه من فوائد، جرى طرد الهوجونوت (البروتستانت الفرنسيين) بلا رحمة.

وعرفاناً من الدولة بأهمية هذه الخدمات التي تقدمها الكنيسة، سمحت لها بجمع العشور وسمحت لها بدخول مالية أخرى تجبيها من أبناء كل أبرشية وسمحت لها بتقديم الوعود بتحقيق الأماني التي يرنو إليها العصاة الغافلون بتشجيعهم على شراء نعيم الآخرة لقاء تنازلهم عن ممتلكاتهم في الدنيا لصالح الكنيسة.

وأعفت الحكومة رجال الدين من الضرائب واكتفت بالحصول من الكنيسة بين الحين والآخر على منحةٍ كبيرة بلا مقابل. ونظراً لهذه المزايا المختلفة فقد جمعت الكنيسة مقاطعات شاسعة قدرها البعض بأنها تبلغ خمس الأراضي الزراعية في فرنسا(4). وكانت الكنيسة تدير هذه الأراضي باعتبارها ممتلكات إقطاعية وراحت تجمع منها العوائد الإقطاعية. لقد حولت الكنيسة إيمان المؤمنين إلى حليٍ من ذهب وفضة - كجواهر التاج الملكي - أصبحت كحاجز أو كمنطقة محرمة ذات مناعة، وقداسة وتخصيص لمواجهة أي ادعاء أو تطاول فبدت هذه المكاسب الكنسية راسخة عبر التاريخ عميقة الجذور.

وتلاعب كثير من الكهنة والقسس في عوائد العشور واحتالوا ليحصلوا منها على شيء، وعاشوا في فقر تغلفه التقوى بينما كان كثيرون من الأساقفة يعيشون عيشة مترفة فخمة وكان رؤساء الأساقفة يعيشون بعيدا عن مقارهم الأسقفية وراحوا يحومون حول البلاط الملكي. وفي وقت كانت الحكومة على حافة الإفلاس وجدنا الكنيسة الفرنسية (على وفق تقديرات تاليران (Talleyrand تنعم بدخل سنوي مقداره 150 مليون ليفر (فرنك)(ü)، وكانت طبقة العـوام التي أنهكت الضرائب كاهلها في حالة عجب لعدم إرغام الكنيسة على إشراك الدولة معها في ثروتها. وعندما انتشرت كتابات غير المؤمنين (غير المتمسكين بتعاليم الكنيسة)(ü) تخلى الآلاف من أفراد الطبقة الوسطى والمئات من أفراد الطبقة الأرستقراطية - عن العقيدة المسيحية، وكانوا مستعدين لأن ينظروا بهدوء فلسفي إلى غارات الثورة على الموروثات المقدسة والمصونة.

وكان النبلاء على وعي يشوبه غموض أن النبالة قد فقدت كثيراً من أسباب وجودها أو بتعبير آخر قد ظلت باقية رغم أن المهام المنوطة بها والتي كانت سبب وجودها قد انتهت. فعنصر الفخر في هذه النبالة (أوالشرف) متمثلا في القيام بدور الحماية العسكرية للمجتمعات الزراعية، أو التوجيه الاقتصادي لها أو الرياسة القضائية، لم يعد قائما كما كان، فكثير من هذه الخدمات قد حلت محلها السلطة المركزية والإدارية القوية في ظل ريشليو Richelieu ولويس الرابع عشر. لقد أصبح كثيرون من السادة الإقطاعيين الآن يعيشون في البلاط الملكي وأهملوا إقطاعاتهم، وفي سنة 1789 بدا أن أثوابهم الفخمة ورقتهم في التعامل ولطفهم(5) لم تعد أمورا كافية لتبرير امتلاكهم لربع الأرض الزراعية وابتزازهم للعوائد الإقطاعية.

وادعت الأسر الأقدم من بين أسر النبلاء أنها من جنس أكثر نبالة (نبالة الجنس La Nablesse de race أو أصالة العرق) إذ أرجعت هذه الأسر أصولها إلى الفرنجة الجرمان (الفرنك الجرمانيين) الغزاة الذين تسموا في القرن الخامس باسم الغال Gaul لكن كاميل ديمولين Camile Desmoulins أحال فخرهم إلى منقصة في سنة 1789 باعتبارهم غزاة أجانب، عندما دعا إلى الثورة باعتبارها ثأرا تأخر كثيراً من أعراق وافدة. ومن الناحية الفعلية كان نحو 95% من طبقة النبلاء الفرنسية قد أصبحوا بشكل متزايد بورجوازيين وسلتيين Celtic قد تركوا أفراد الطبقة الوسطى - ذوي العقول الذكية والثروة التي حازوها مؤخرا - يشاركونهم أراضيهم وألقابهم . وكان ثمة قسم من الأرستقراطية - عرفوا بنبلاء >الروب< أو النبلاء بحكم المنصب Noblesse de robe وكانوا يكونون نحو أربعة آلاف أسرة شغل أربابها مناصب قضائية أو إدارية رفعت شاغليها - تلقائيا - إلى مرتبة النبالة.

ولأن معظم مثل هذه المناصب كان يمكن الحصول عليها بشرائها من الملك أو وزرائه الذين كانوا يبيعونها لزيادة دخل الدولة، فقد شعر كثيرون من المشترين لهذه المناصب بأحقيتهم في استرداد ما دفعوه فأصبحوا أكثر ميلاً إلى قبول الرشوة(6). لذا فقد انتشر الفساد (عدم طهارة اليد) بين شاغلي المناصب في فرنسا بشكل غير عادي(7) وكان هذا واحدة من مئات الشكاوى والأسباب الداعية إلى التذمر من نظام حكم يموت. وكانت بعض هذه المناصب والرتب وراثية، ولأن شاغليها والحائزين عليها قد تضاعف عددهم خاصة في البرلمانات أو المحاكم القانونية في مختلف المديريات districts (أو المحافظات أو الدوائر) فقد تنافى شعورهم بالقوة والفخر حتى إن برلمان باريس في سنة 1787 ادعى لنفسه الحق في الاعتراض على المراسيم الملكية (التي لها قوة القانون). لقد بدأت الثورة قرب القمة.

وفي نشرة بعنوان "ما هي طبقة العوام أو الطبقة الثالثة؟" صدرت في شهر يناير سنة 1789 طرح الراهب الفرنسي عمانوئيل جوزيف سييز Emmanael Joseph Sieyés ثلاثة أسئلة وأجاب عنها: ما هي الطبقة الثالثة أو طبقة العوام؟ إنها كل شيء. ما حالها حتى الآن؟ لاشيء. ماذا تود هذه الطبقة أن تكون؟ تريد أن تكون شيئاً ما(8) - أو على وفق لتصحيح شامفورت Chamfort - كل شيء. لقد كانت تقريبا كل شيء فقد ضمت البرجوازية أو الطبقة الوسطى التي تتكون من 100.000 أسرة(9) وطبقاتها (شرائحها (layers العديدة - رجال البنوك والسماسرة والوسطاء والصناع والتجار والمديرون والمحامون والأطباء والعلماء والمدرسون والحرفيون والصحفيون (تشكل الصحافة السلطة الرابعة) وطبقة عامة الشعب Menu peuple والعبارة تعني قليلي الأهمية (وأحيانا يطلق عليهم لفظ عام هو الشعب) ويقصد بهم البروليتاريا وحرفيي المدن وعمال النقل البري والبحري والفلاحين .

وكانت الطبقة الوسطى العليا تقبض على زمام السلطة الصاعدة متسعة المدى وتديرها: كان لها السلطان على عملية انتقال الأموال وحركتها ورؤوس الأموال، وكانت تمارس هذه العملية بشدة وجرأة تتسم بالمغامرة، وكانت - في ذلك - تدخل في منافسة واسعة المدى مع الذين يمتلكون السلطان على الاقتصاد الزراعي الإستاتيكي (المتسم بالسكون (Static ومع العقيدة الآفلة. لقد دخلوا في مضاربات تجارية في أسواق الأوراق المالية في باريس ولندن وأمستردام، فتحكموا - على وفق لتقديرات نيكر Necker - في نصف أموال أوروبا(10). وكانوا يمدون الحكومة الفرنسية بالقروض ذوات الفوائد وكانوا يهددون بإسقاطها في حالة عدم سداد هذه الديون وعدم سداد ما اشترته الحكومة بالديون. وكانوا يمتلكون - أو يديرون - صناعة استخراج المعادن وتعدينها في شمال فرنسا، وصناعة النسيج في ليون Lyons وتروي Troyes وأبيفيل Abbeville وليل Lille ورون Rouen ، وأعمال استخراج الحديد والملح في اللورين Lorraine ومصانع الصابون في مارسيليا Masrseilles ومدابغ الجلود في باريس.

لقد أداروا الصناعة الرأسمالية التي حلت محل دكاكين الحرف والنقابات الحرفية التي كانت سائدة في الماضي، وكانوا من أنصار المذهب الفزيوقراطي(11)(ü) المنادي بأن المشروع الحر (غير المرتبط بالدولة) أكثر إنتاجية ولدى القائمين عليه حوافز أقوى ودوافع أشد من المشروع التقليدي المرتبط بالتنظيمات والقواعد التقليدية التي تفرضها الدولة؛ سواء كان مشروعاً صناعيا أم تجاريا. لقد مولوا ونظموا الصناعات التحويلية (تحويل المواد الخام إلى بضائع) وراحوا ينقلون هذه البضائع من المنتج إلى المستهلك ليحققوا من كليهما ربحا. لقد استفادوا من ثلاثين ألف ميل من أفضل الطرق في أوربا لكنهم اعترضوا على الرسوم المعوقة التي كانت تفرض على استخدام طرق فرنسا وقنواتها، كما اعترضوا على اختلاف الموازين والمقاييس نتيجة تمسك بعض الولايات (المقاطعات (Provinces بها بسبب عوامل الغيرة. لقد تحكموا في التجارة التي كانت سبب ثراء بوردو Bordoaux ومارسيليا ونانت Nantes، وكونوا شركات مساهمة كشركتي : Compagnie des Eaux , Compagnie des Indes ووسعوا مجال سوقهم ومدوه. فلم يعد قاصرا على المدينة وإنما شمل العالم، وعن طريق مثل هذه التجارة جعلوا لفرنسا إمبراطورية فيما وراء البحار لا يبزها في المضمار سوى إنجلترا. لقد شعر أفراد هذه الطبقة أنهم - وليس طبقة الأشراف - هم صانعو الثروة الفرنسية النامية، ومن ثم صمموا على مشاركة النبلاء ورجال الدين في المزايا التي تُسْبغها الحكومة عليهم وفي التعيينات وصمموا على أن يكون لهم الوضعية نفسها التي للنبلاء أمام القانون وفي البلاط الملكي وأن يستمتعوا بالمزايا كلها ويتسنموا مراتب الشرف كلها في المجتمع الفرنسي، فعندما دعيت مانون رولاند Manon Roland وهي سيدة رقيقة كيسة - لكنها بورجوازية - لزيارة سيدة من النبيلات، وطلب منها أن تأكل مع الخدم وألا تجلس إلى المائدة مع الضيوف النبلاء صاحت محتجة وتغلغلت صيحتها في قلوب أفراد الطبقة الوسطى(12). لقد كان هذا الامتعاض وذلك الطموح منغرساً في أفكار هذه الطبقة عندما رفعوا مع الثورة الفرنسية شعارها "حرية ومساواة وإخاء"، إنهم لم يكونوا يعنون بهذا "دونية" أو "رفعة" لكن هذا الشعار خدم أغراض هذه الطبقة حتى يجري تصحيح الأمور. وفي هذه الأثناء أصبحت الطبقة البورجوازية هي أقوى القوى التي تعمل على قيام الثورة.

لقد كان أفراد الطبقة الوسطى هم الذين يملأون المسارح وهم الذي يصفقون لقصائد بومارشيه Beaumarchais التي يهجو فيها الأرستقراطيين. لقد كان أفراد الطبقة الوسطى هم الذين التحقوا - أكثر من أفراد طبقة النبلاء - بالمحافل الماسونية ليعملوا على تحقيق الحرية في الحياة والفكر، لقد كانوا هم الذين يقرأون فولتير Voltaire ويستطيبون سخريته اللاذعة، ويتفقون مع جيبون Gibbon فيما ذهب إليه من أن الأديان كلها - بالنسبة للفيلسوف - زائفة(ü)، وهي - أي الأديان بالنسبة للحكومات (رجال الدولة) مفيدة. وكانوا في السر يبدون إعجابا بالمذهب المادي الذي قال به دولباش وهيلفيتيوس d` Holbach and Helvétius وقد لا يكون هذا المذهب صحيحا تماما أمام أسرار الحياة والنفس البشرية، لكنه كان سلاحا جاهزا يمكن شهره في وجه الكنيسة التي تتحكم في عقول ونفوس معظم الفرنسيين وفي نصف ثروة فرنسا. وكانوا متفقين مع ديدرو Diderot، ولم يكونوا مولعين بروسو Rousseau الذي يشتم منه طعم الاشتراكية ويفوح منه معنى اليقين لكنهم هم - أكثر من أي شريحة أخرى في المجتمع الفرنسي - الذين شعروا بتأثير الآداب والفلسفة وعملوا على نشرهما.

وكان الفلاسفة(ü) بشكل عام معتدلين في سياساتهم. لقد قبلوا الملكية ولم يرفضوا عطايا الملك، وولوا وجوههم شطر الحكام المتنورين مثل فريدريك الثاني Frederick II في بروسيا، وجوزيف الثاني Joseph II في النمسا بل وحتى كاترين الثانية Catherine II في روسيا، أكثر مما ولوا وجوههم شطر الجماهير الأمية العاطفية، واعتبر الفلاسفةُ (المفكرون) هؤلاء الحكامَ المتنورين هم مهندسى الإصلاح. ووضع الفلاسفة ثقتهم في العقل رغم إدراكهم قصوره. لقد كسر هؤلاء الفلاسفة (المفكرون عامة) وصاية الكنيسة والدولة ورقابتهما على الفكر وفتحوا ملايين العقول ووسعوا من آفاقها، لقد مهدوا لانتصارات العلم في القرن التاسع عشر، رغم أن لافوازيه Lavoisier ولابلاس Laplace ولامارك Lamarck شهدوا الهياج في أثناء الثورة وما صاحبها من حروب.

أما روسو Rousseau فقد فك ارتباطه بالفلاسفة. لقد كان يحترم العقل، ولكنه احتفى بالمشاعر وبالعقيدة (الإيمان) المريح. وقد طرح كتابه Savoyard Vicar`s Profession of Faith الموقف الديني لروبيسبير Robespierre، وأدى إصراره على توحيد العقيدة الوطنية إلى أن اعتبرت لجنة الأمن العام الهرطقة السياسية جريمة عقوبتها الإعدام - خاصة في زمن الحرب. وقد قبل يَعاقِبةُ الثورةِ مبادىء العقد الاجتماعي التي مؤداها أن الإنسان خير بطبعه وما جعله شريرا سوى تبعيته لمؤسسات فاسدة منحرفة وقوانين جائرة، وأن الناس قد خلقوا أحرارا ولم يستعبدهم سوى الحضارة الزائفة. وعندما كان القادة الثوريون في السلطة تبنوا أفكار روسو Rousseau التي مؤداها أن المواطن بتلقيه حماية الدولة يصبح مطيعا لها ضمنا. وقد كتب مالي دى بان Mallet du Pan "لقد سمعت مارا Marat في سنة 1788 يقرأ العقد الاجتماعي ويعلق عليه في الطرقات العامة وسط تصفيق المستمعين المتحمسين"(13). لقد تحولت سيادة الشعب العليا التي نادى بها روسو إلى سيادة لجنة الأمن العام التي لا معقب عليها بعد الثورة، ثم أصبحت سيادة عليا لرجل واحد.

وكان "الشعب" في مصطلح الثورة يعني الفلاحين وعمال المدن، فحتى موظفي المصانع في المدن كانوا أقلية سكانية. لقد كانت الصورة هناك بعيدة عن صورة المنشآت أو المؤسسات الصناعية، إذ كان مصطلح الشعب أقرب ما يكون إلى معنى الخليط غير المتناسق الذي يضم الجزارين والخبازين وصانعي الجعة (البيرة) والبقالين والطباخين والبائعين الجوالين والحلاقين وأصحاب المحلات والعاملين في الفنادق وتجار الخمور وصانعيها والنجارين والبنائين والذين يطلون البيوت والعاملين في مجال الزجاج وصانعي الجص وصانعي الآجر وصانعي الأحذية والخياطين والصباغين وعمال النظافة وصانعي الثياب والحدادين والخدم وصانعي الأثاث وصانعي السروج وصانعي العجلات والعربات والصاغة وصانعي السكاكين والنساجين والدباغين والعاملين في مجال الطباعة وبائعي الكتب والعاهرات (المومسات) واللصوص. وكان هؤلاء العمال يلبسون سراويل طويلة تصل إلى كعوب أقدامهم أكثر مما يرتدون السراويلات القصيرة التي تصل إلى الركبة والمعروفة باسم الكلتات Culottes والجوارب كما يفعل أبناء الطبقات العليا لذا فقد أطلق على هؤلاء العمال اسم "الطبقة التي لا ترتدي كلوتات Sans Culottes" وقد لعبت هذه الطبقة دورا فعالا (دراماتيا) في الثورة الفرنسية. وقد أدى تدفق الذهب والفضة من العالم الجديد وإصدار النقود الورقية بشكل متكرر إلى ارتفاع الأسعار في أنحاء أوروبا كلها، ففي فرنسا ارتفعت الأسعــار فيما بين عامـي 1741 و 1789 بمقدار 65% بينما لم ترتفع الأجور سوى 22%(14)، وفي ليون Lyons كان هناك 30.000 شخص معفون من الخدمة في سنة 1787، وكان في باريس 100.000 أسرة مدرجة باعتبارها في حالة عوز في سنة 1791 . وكان من الممنوع إنشاء اتحادات عمال ذوات أهداف اقتصادية ومن هنا تتالت الإضرابات. وكلما اقترب ميعاد الثورة كان مزاج العمال وحالتهم النفسية يزدادان توترا واكتئابا وميلاً إلى الثورة والتمرد، ولم يكن ينقصهم سوى بندقية وزعيم ليستولوا على الباستيل ويغزوا قصر التوليرى Tuileries ويعزلوا الملك.

ومن المسلم به أن الفلاحين في فرنسا في سنة 1789 كانت حالهم أفضل مما كانت عليه قبل قرن من الزمان عندما بالغ لا برويير La Bruyére قائلاً: إنه لا يكاد يميز بينهم وبين البهائم(15).

وكان حال الفلاحين الفرنسيين في سنة 1789 أفضل من حال الفلاحين في سائر أنحاء أوروبا، ربما باستثناء فلاحي شمال إيطاليا. وكان نحو ثلث الأراضي الزراعية مملوكا للفلاحين، وكان ثلث آخر تتم زراعته بتأجير الأرض من النبلاء والإكليروس (رجال الدين) وأفراد الطبقة البورجوازية، أو بنظام المزارعة (المشاركة في المحصول، هذا لقاء ملكيته للأرض وذاك لقاء عمله فيها) أما ثلث الأرض الزراعية الباقي فكان يقوم على زراعته أجراء تحت إشراف الملاك أو من ينوب عنهم. وشيئا فشيئا أصبح عدد الملاك محصوراً فلم يكن أمامهم سوى الزراعة أو الرعي، بينما تكاليفهما غدت مرهقة، وأصبحت المنافسة حادة بينهم خاصة مع وجود الأرض العامة (المشاع) Common Land التي كان من حق الفلاحين - سابقا - أن يرعوا فيها وأن يجمعوا منها الحطب .

وكان حائزو الأرض من الفلاحين كلهم ملزمين بدفع رسوم إقطاعية فيما عدا قلة قليلة كانوا يمتلكون أراضي معفاة من أي التزام أو واجب أمام السيد الإقطاعي، إذ كان الفلاحون - خلا هذه القلة الآنف ذكرها- ملزمين بناء على عقد بينهم وبين صاحب العزبة بأن يعملوا لديه عدة أيام كل عام بدون أجر (بنظام السخرة (Corvee) لمساعدته في زراعة أرضه وإصلاح الطرق في عزبته، ومع هذا فقد كانوا يدفعون له رسوم مرور عند استخدامهم هذه الطرق. وكانوا يدفعون له بدلية (رسما بدليا لقاء الإعفاء من أداء خدمات معينة) وكانت قيمة هذه البدلية معتدلة وكانوا يدفعونها كل سنة نقدا أو عينا، وإذا باع الواحد منهم ممتلكاته طالبه السيد الإقطاعي بمبلغ يساوي 10% أو 15% من الثمن الذي تقاضاه(16). وكانوا يدفعون له لقاء صيدهم الأسماك من المياه التابعة له، وإذا رعوا أنعامهم في حقله، وكانوا يدفعون له رسما في كل مرة يستخدمون فيه طاحونته أو مخبزه أو معصرته التي تستخدم في استخراج الزيت أو إعداد عصير العنب ليصير نبيذا.

ولأن هذه الرسوم كانت محددة على وفق القانون، فقد أصبحت قيمتها متدنية بسبب التضخم فشعر المالك أن لديه مسوغا في استنزاف هؤلاء الفلاحين بقسوة كلما ارتفعت الأسعار(17).

وكان على الفلاح أن يدعم الكنيسة التي تبارك محصوله وتهيء أطفاله للطاعة والإيمان وتشرف حياته بالطقوس والأسرار المقدسة، بأن يدفع لها سنويا العشور (Tith وإن كانت عادة ما تكون أقل من العشر) من محصوله وما ينتجه. وكانت الضرائب التي تفرضها الدولة عليه أشد وطأة من العشور والمستحقات الإقطاعية، فقد فرضت الدولة ضريبة الرأس كما فرضت عليه نصف العشر Vingtieme عن دخله السنوي، وفرضت عليه ضريبة المبيعات عن كل ما يشتريه من مشغولات ذهبية وفضية أو منتجات معدنية أو كحول أو ورق أو نشا..... وفرضت عليه مصلحة الملح أن يشترى كل عام كمية محددة من الملح من الحكومة بالسعر الذي تحدده (أي تحدده الحكومة). وعلى هذا فقد كان العبء الأساسي لدعم الدولة والكنيسة - زمن الحرب وزمن السلم - يقع على كاهل الفلاحين، أما النبلاء والإكليروس فقد كانوا يجدون طرائق قانونية أو غير قانونية للتخلص من كثير من هذه الضرائب وكان الشباب الأثرياء يمكنهم زمن الحرب أن يدفعوا "البدلية" (مبلغ لقاء عدم التحاقهم بالقوات المقاتلة) .

وكان من الممكن تحمل هذه الضرائب والعشور والمستحقات الإقطاعية طالما كان المحصول طيباً، لكن حالهم يصبح بائساً في أثناء الخراب الذي تسببه الحروب أو تقلبات المناخ فيصبح المحصول غير مجز ويضيع شقاء العام هباء، ساعتها يبيع الفلاحون الملاك أراضيهم أو عملهم أو كليهما للمغامرين المحظوظين المغرمين بشراء الأراضي الزراعية.

واتسم عام 1788 بكثرة مصائبه التي انهالت عليهم بلا رحمة، فقد أدى الجفاف الشديد إلى نقص شديد في المحصول ودمرت العواصف المصحوبة بالبَرَد 180 ميلا من الأراضي الزراعية الخصبة عادة من نورماندي Normandy إلى شامبني Champagne، وكان شتاء 1788slash1789 هو أقسى شتاء مر بالبلاد منذ ثمانين عاما، ففنيت آلاف من أشجار الفاكهة، وشهد ربيع سنة 1789 فيضانات مدمرة، أما الصيف فكان مصحوبا بمجاعة في المقاطعات تقريبا كلها. وبسبب الأعمال الخيرية التي قدمتها الدولة والكنيسة والأفراد حصل الجوعى على الطعام فلم يمت من الجوع إلا عدد قليل، لكن الملايين أنفقوا في هذه المجاعة كل ما يملكون، وشهدت كان Caen ورون Rouen وأورليان Orle`ans ونانسي Nancy وليون Lyons جماعات تتقاتل كالحيوانات للحصول على القمح، وشهدت مارسيليا 8000 جائع عند بواباتها يهددون بغزو المدينة وسلبها. وفي باريس شهد حي سان (القديس) أنطوان St.Antoine - حي الطبقة العاملة 30.000 معوز في حاجة إلى إعانة(81).

وفي هذه الأثناء أدت اتفاقية تيسير التجارة مع بريطانيا العظمى (1786) إلى إغراق فرنسا بالمنتجات الصناعية البريطانية الأرخص سعرا من المنتجات الفرنسية فأدى هذا إلى تعطل آلاف العمال الفرنسيين عن العمل - لقد فقد 25.000 عامل فرنسي عملهم في ليون، و 46.000 في إميان Amiens و 80.000 في باريس(91). وفي مارس سنة 1789 رفض الفلاحون دفع الضرائب بالإضافة إلى المخاوف من إفلاس الدولة .

وقد قابل آرثر يونج Arthur Young الذي كان يقوم برحلة في مقاطعات فرنسا في يوليو سنة 1789 - فلاحة فرنسية كانت تشكو من الضرائب والمستحقات الإقطاعية اللتين تجعلانها دوما على حافة الإملاق ، لكنها أضافت قائلة إنها تعلم "أنه لا بد أن يقوم عدد كبير من الناس بعمل شيء من أجل هؤلاء البؤساء ... لأن الضرائب والرسوم تسحقنا"(20) لقد سمعوا أن الملك لويس السادس عشر Louis كان رجلاً طيبا راغبا في إصلاح الفساد وحماية الفقراء. لقد كانوا يتطلعون بأمل إلى فرساي Versailles ويدعون بطول العمر للملك.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

2- الحكومة

كان لويس السادس عشر رجلاً طيبا، لكنه يصعب - إلا قليلاً - اعتباره ملكا صالحا، فلم يكن الرجل يتوقع أن يصبح حاكما (ملكا)، فقد كان هو الابن البكر لأبيه الذي مات مبكراً 1795، وقد جعله موت جده لويس الخامس عشر 1774 سيدا لفرنسا وهو على حافة العشرين. ولم يكن لديه رغبة في حكم الرجال فقد كان بارعا في استخدام الأدوات والآلات وكان صانعا للأقفال ويجيد إصلاحها بشكل ممتاز، وكان يفضل الصيد على الحكم، فلم يكن يعتبر اليوم الذي لا يصطاد فيه أيّلا إلا يوما ضائعا غير محسوب من عمره ففي الفترة من سنة 1774 إلى سنة 1789 طارد 1.247 أيلا، وقتل 189.251 طريدة، ومع هذا فقد كان لا يحب إصدار أوامر بإعدام البشر، وربما يكون قد فقد عرشه لأنه منع حرسه السويسري من إطلاق النار في 10 أغسطس سنة 1792 وكان بعد أن يعود من رحلات الصيد يأكل بشراهة حتى يملأ معدته عن آخرها، وكانت طاقة معدته لتحمل مزيد من الطعام في ازدياد مستمر، وأصبح نتيجة لذلك بدينا لكنه كان قويا، وقد أصابت ماري أنطوانيت Marie Antoinette في حكمها على زوجها عندما قالت:"الملك ليس جبانا، بل يتحلى بقدر كبير جدا من الشجاعة الكامنة لكن الخجل يربكه وتعوزه الثقة بالنفس .. وهو يخاف من القيادة .. لقد عاش كالطفل وفي حالة قلق دائم وهو تحت رعاية لويس الخامس عشر، وظلت هذه حاله حتى بلغ الواحدة والعشرين. لقد عمقت هذه القيود المفروضة عليه جبنه"(12).

وكان حبه لمليكته جزءاً من الأسباب التي ألحقت الدمار به لقد كانت جميلة فخمة تزين بلاطه بجاذبيتها ومرحها، وغفرت له تباطؤه في عقد قرانه بها. لقد كان الملك ذا عضو تناسلي محكم الإغلاق بمعنى أن قلفته أو غرلته(ü) كانت ملتصقةً التصاقا شديدا بعضوه وكان هذا يسبب له ألماً لا يحتمل إذا ما أنعظ. وقد حاول مرات عدة طوال سبع سنوات، وكان يتحاشى العملية الجراحية البسيطة التي يمكن أن تحل مشكلته إلى أن حثه في سنة 1777 أخو الملكة جوزيف الثاني Joseph النمساوي على إسلام ذكره للسكين وما أن فعل حتى صارت أمور ذكره على ما يرام.

وربما كان الشعور بالذنب الذي يعتريه عنيفا حينا، وهوناً حيناً هو الذي جعله متسامحا جداً مع زوجته؛ متسامحاً إزاء مقامرتها ومغامرتها في لعب الورق (الكوتشينة)، متسامحا إزاء مبالغتها في اقتناء الثياب، متسامحا إزاء رحلاتها المتكررة إلى باريس لحضور الأوبرا، وتحمل صداقتها الأفلاطونية بالكونت فون فيرسن Count Von Fersen وصداقتها للأميرة دى لامبل de Lamballe وممارستها السِّحاق معها في ظل هذه الصداقة. لقد كان الملك بتكريسه نفسه لزوجته بشكل واضح يسلي حاشيته ويسعدها لكن هذا كان مدعاة لخجل أجداده. وكان الملك يقدم لها الجواهر الغالية، لكنها - وكذلك فرنسا- كانت أكثر حاجة إلى طفل. وعندما أتى الأطفال أثبتت أنها أم صالحة وانشغلت بمتاعبهم وقللت من غلوائها، واعتدلت في أمورها كلها خلا كبريائها، وتدخلها المتكرر في أمور الدولة (شئون الحكم)، وفي هذه كان لها بعض العذر لأن لويس كان قلما يحسم الأمور أو يحدد المسار أو يختار بين البدائل بل كان غالباً ينتظر الملكة لتنظم له تفكيره، وكان بعض أفراد الحاشية يتمنون لو كان له قدرتها على تقدير الأمور بسرعة واستعدادها للقيادة.

لقد فعل الملك كل ما استطاع لمواجهة المصائب والأزمات التي سببها له سوء الأحوال الجوية والمجاعة والشغب بسبب عدم توفر الخبز، والثورات ضد الضرائب، ومطالب النبلاء والبرلمان، ونفقات البلاط والإدارة وزيادة العجز في الخزانة.وظل طوال عامين (1774-1776) يسمح لتورجو Turgot بتطبيق نظرية الفيزيوقراط (الطبيعيين) والتي مؤداها أن إطلاق الحرية للمشروعات الخاصة والمنافسة وعدم إعاقة قوانين السوق المتحكمة - قانون العرض والطلب - سينعش الاقتصاد الفرنسي ويضيف عوائد جديدة للدولة، وأنه من الضروري تطبيق هذه النظرية على أجور العمال وأسعار البضائع. لكن أهل باريس قد اعتادوا التفكير في أن الحكومة هي الملاذ الوحيد الذي يحميهم من جشع المضاربين في السوق، لذا فقد عارضوا إجراءات تورجو Turgot وقاموا بأعمال شغب، واعترتهم البهجة عند سقوطه (أي سقوط حكومة تورجو).

وبعد أن لبث الملك عدة شهور مترددا مشوش الفكر استدعى جاك نيكر Jacques Necker وهو خبير مال سويسري يدين بالمذهب البروتستانتي ومقيم في باريس ليكون مشرفا على أمور الخزانة (1777-1781).

وفي ظل هذا الغريب غير الكاثوليكي(ü) نفذ الملك لويس برنامجا شجاعا لإصلاحات صغرى؛ فقد سمح بتشكل مجالس (جمعيات) منتخبة على المستوى المحلي ومستوى المقاطعات لتعبر عن أهالي هذه المناطق لتكون كجســر يسـد الفجـوة بين الشـعب والحكومة. وأعلن الملك رفضه لنظام السخرة Corveé، وكان إعلانه هذا صدمة لطبقة النبلاء، بل لقد أعلن في بيان أمام الجمهور (1780)" أن الضرائب المفروضة على القطاعات الأشد فقرا من رعايانا قد زادت زيادة كبيرة أكثر بكثير مما زادت فيه الضرائب على القطاعات الأخرى جميعا" وعبر عن "أمله في أن يفكر الأغنياء في تحمل الأعباء التي كان يجب أن يشاركوا الآخرين في حملها منذ مدة طويلة"(22) وقام الملك بتحريــر الأقنـان (عبيــد الأرض) في ممتلكاته ولكنه قاوم ما حثه نيكر عليه بتطبيق ذلك على الأقنان في أراضي النبلاء والإكليروس. وأسس الملك مراكز للرهن (مراهن) لتقرض الأموال للفقراء (بعد إيداع رهن) بنسبة ربح 3%، ومنع استخدام أساليب التعذيب مع الشهود ومرتكبي الجرائم. ووعد بالغاء الزنزانات في فينسين Vincennes وأن يدمر الباستيل Bastille ضمن برنامج لإصلاح السجون.

ورغم أن الملك كان تقيا متمسكا بكاثوليكيته(ü) إلا أنه سمح بقدر كبير من الحرية الدينية للبروتستانت واليهود . ورفض أن ينزل العقاب بأصحاب الأفكار الحرة، بل لقد سمح لمؤلفي الكتيبات (مصدري النشرات) الغلاظ الذي لا يرحمون أن يصفوه بأنه ديوث، ويصفوا زوجته بأنها بغي ويصفوا أولاده بأنهم أولاد زنا. ومنع حكومته من التجسس على مراسلات المواطنين الخاصة.

وأرسل لويس مساعدات مالية ومادية بلغ إجمالي قيمتها 240.000 دولار للمستعمرات الأمريكية دعماً لها في نضالها من أجل الاستقلال، وقد أيده في هذا بحماس بومارشيه Boaumarchais والفلاسفة(üü) Philosophes، بينما كان نيكر معارضا (بحجة أن ذلك سيعجل بإفلاس فرنسا إفلاسا كاملا). لقد كان الأسطول الفرنسي وكتائب لافايت Lafayette وروشامبو Rochambeau هي التي ساعدت واشنطن Washington على حصار كورنويلز Cornwallis في يوركتون York town وإرغامه على التسليم ومن ثم كانت القوات الفرنسية سببا في إنهاء الحرب. لكن الأفكار الديمقراطية عبرت المحيط الأطلنطي إلى فرنسا، وبينما كانت خزانتها تئن من وطأة الديون الجديدة، جرى طرد نيكر Necker من الحكومة عام 1781 وراح حاملو السندات من الطبقة البورجوازية يصرخون متذمرين مطالبين بضبط مالية الحكومة.

وفي هذه الأثناء راح برلمان باريس يضغط على دعواه بحقه في الاعتراض على المراسيم الملكية. وغالبا ما كان لويس- فيليب - جوزيف Louis - Philippe - Joseph دوق أورليان Orleans - ابن عمه فهو منحدر مباشرة من الأخ الأصغر للويس الرابع عشر - يخطط علنا للاستيلاء على العرش. وراح لويس - فيليب - جوزيف يوزع عن طريق كوديرلو دى لاكلو Choderlos de Laclos وغيره من الوكلاء عنه النقود والوعود على السياسيين وكتاب النشرات (الكتيبات) والخطباء والعاهرات (المومسات).

لقد أباح لأتباعه التسهيلات والبلاط وحدائق قصره الملكي والمقاهي والحانات ومخازن الكتب ونوادي القمار لتكون في خدمة الجماهير التي تجمعت هناك نهارا وليلا ووصلت الأخبار من فرساي Versailles بسرعة. حملها بعض أفراد الحاشية. فظهرت النشرات (الكتيبات) هناك في كل ساعة ودوى الخطباء بخطبهم من فوق المنصات والمناضد والكراسي، وحبكت المؤامرات لعزل الملك.

وانزعج الملك من فكرة عزله فاستدعى نيكر Necker وولاه وزارة المالية (1788)، وأصدر بناء على حث نيكر له دعوة للفرنسيين بأن ينتخبوا ممثليهم من النبلاء ورجال الدين والعوام ويرسلوهم إلى فرساي ليشكلوا مجلس طبقات الأمة (لم ينعقد مجلس طبقات الأمة منذ سنة 1614) ليقدم له المشورة والدعم لمواجهة مشاكل المملكة. وكانت دعوة الملك لعقد مجلس طبقات الأمة هي الملاذ الأخير والخطير الذي اضطر للجوء إليه والذي قد يؤدي إلى إنقاذ عرشه أو الإطاحة به. وقد أصدر الملك دعوته هذه في 8 أغسطس سنة 8871.

وثمة بعض الملامح الجديرة بالملاحظة حول هذه الدعوة التاريخية التي وجهتها الحكومة لأنها طوال نحو قرنين من الزمان لم تكن تفكر في طبقة العوام إلا باعتبارهم مجرد دافعي ضرائب وموردي طعام ، و- دوريا- وقود حرب. وقد أعلن الملك في البداية بناء على حث نيكر له أن طبقة العوام لا بد أن يكون لها ممثلون (نواب) بقدر عدد نواب الطبقتين الأخريين (طبقة النبلاء وطبقة الأكليروس)، في هذا الاجتماع القادم. وكانت طبقة النبلاء معترضة على هذا الإعلان الملكي. أما الأمر الثاني: أن تكون الانتخابات في فرنسا أقرب ما تكون إلى نظم الانتخابات العالمية بالنسبة للبالغين؛ فأي رجل يبلغ السابعة والعشرين من عمره أو أكثر، يكون قد دفع في العام الماضي أي ضرائب للحكومة مهما قلت قيمتها، له حق التصويت في المجالس المحلية Local assemblies التي ستنتخب ممثليها لتمثيل المنطقة في باريس. والأمر الثالث أن الملك أضاف إلى دعوته طلبا من المجالس المنتخبة كلها أن تقدم له تقارير(ü) Cahiers لتحديد المشكلات وطلبات كل طبقة في كل مقاطعة (أو إقليم (district مع اقتراحات وتوصيات لعلاج هذه المشكلات ورسم سبل للإصلاح. ولم يحدث أبداً قبل ذلك - فيما تعي ذاكرة الفرنسيين - أن طلب أي من ملوكهم مشورة شعبه.

ومن بين 615 تقريراً حملها النواب للملك، بقي منها 545 . وكلها تقريبا تعبر عن ولائها للملك بل وتعاطفها معه باعتباره رجلاً حسن النوايا بشكل ظاهر، لكن هذه التقارير كلها أو العرائض تقريبا قد اقترحت عليه أن يشرك معه في مشاكله وسلطاته مجلسا منتخبا ليكون معه ملكية دستورية. ولم يرد في تقرير واحد من هذه التقارير أي ذكر لحق الملوك الإلهي في الحكم. وطالبت التقارير جميعا بنظام قضائي قائم على المحاكمة أمام هيئة محلفين، وطالبت بخصوصية الرسائل(عدم جواز اطلاع السلطات عليها) وتخفيف الضرائب وإصلاح القانون. أما التقارير التي كتبها النبلاء فقد اشترطت أن يجلس أفراد كل طبقة بمعزل عن الطبقتين الأخريين في مجلس طبقات الأمة القادم، وأن تصوت كل طبقة على حدة، وألا يصبح أي إجراء قانونيا إلا بعد موافقة الطبقات الثلاث. أما تقارير(عرائض) الإكليروس فدعت إلى نبذ التسامح الديني وأن تشرف الكنيسة - وبمفردها - على التعليم. وعكست تقارير الطبقة الثالثة (طبقة العوام) - مع اختلاف في درجة التركيز على عنصر أو آخر - مطالب الفلاحين في تخفيض الضرائب، وإلغاء القنانـــة (عبودية الأرض) والعوائد الإقطاعيـــة وتعميم التعليم الحــــــر وحماية المزارع من الدمار الذي تلحقه أنعام السادة وممارستهم الصيد فيها، وطالب أفراد الطبقة الوسطى بإتاحة الفرص للموهوبين بصرف النظر عن الأصل وبإلغاء رسوم الانتقال، وبامتداد نظام الضرائب ليشمل النبلاء والإكليروس، واقترح بعضهم أنه يجب على الملك أن ينهي العجز المالي بمصادرة الأملاك الكنسية وبيعها. لقد ظهرت الخطوط العريضة للمراحل الأولى للثورة الفرنسية - بالفعل- في هذه التقارير (العرائض Cahiers ).

وقد ظهر في هذه الدعوة المتواضعة التي وجهها الملك لمواطنيه بعد ملحوظ عن التجرد والحياد، فبينما كان من حق كل مواطن خارج باريس أن يدلى بصوته ما دام قد دفع ضرائب، فلم يكن من حق الباريسي أن يدلي بصوته إلا اذا كان قد دفع ضريبة رأس قيمتها ست ليفرات(ü) Livres أو يزيد. ربما تردد الملك ومستشاروه في أن يتركوا للخمسمائة الف عامـل "الطبقة التي لا يرتدى أفرادها كلوتات قصيرة وإنما سراويلات (بناطيل) تصل إلى كواحل الأقدام(üü) Sans Culottes (انتخاب رجال يمثلون في مجلس طبقات الأمة أفضل مصدر للمعلومات للعاصمة (يكونون كاستخبارات داخل المجلس). فمشكلة الديمقراطية المتمثلة في أن الكيف إنما هو ضد الكم والمتمثلة في الحصول على الكفاءات العقول الذكية (brains) بالتَّشَمُّم المحسوب (باستخدام الجواسيس) قد ظهرت هنا في الفترة التي سبقت الثورة مباشرة، قبل إعلان الديمقراطية في سنة 3971م. وعلى هذا فقد ترك أولئك الذين لا يرتدون كلوتات(üüü) (العمال) خارج الحركة الشرعية للأحداث، وأدى هذا إلى أن تشعر هذه الطبقة أنه بالعنف وحده - ذلك العنف الذي يستطيعونه بسبب عددهم الكبير - يمكنهم أن يكونوا قاسماً مشتركا في كل ما ترغب الإرادة العامة للشعب التعبير عنه. كانوا هم الذين استولوا على الباستيل في سنة 1789، وهم الذين أطاحوا بالملك في سنة 1792، وهم الذين شكلوا حكومة فرنسا سنة 1793 .