قصة الحضارة - ول ديورانت - م 10 ك 7 ف 37

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 14460

قصة الحضارة -> روسو والثورة -> انهيار فرنسا الإقطاعية -> تشريح الثورة -> مقدمة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل السابع والثلاثون: تشريح الثورة 1774-1789

لقد فحصنا فكر فرنسا عشية الثورة-فحصنا فلسفتها، ودينها، وأخلاقها، وسلوكها، وأدبها، وفنها. ولكن هذه كانت أزهاراً هشة نبتت من أرض اقتصادية، ولا قدرة لنا على فهمها إن لم نلم بجذورها، لا لب إننا لن نفهم حقيقة ذلك الزلزال الأساسي الذي أطاح بـ "النظام القديم" دون ان نفحص كل جهاز كم أجهزة الاقتصاد الفرنسي، كل بدوره ولو في إيجاز، ونرى كيف عاونت حالته على مجيء هذه القارعة الكبرى. وعلينا ونحن نعود مرة أخرى إلى تناول الزراعة والصناعة والمالية أن نتذكر أنها ليست لوحات تجريدية قابضة للصدر بل كائنات بشرية حية حساسة. نبلاء وفلاحون ينظمون إنتاج الطعام؛ وميرون وعمال يصنعون السلع؛ ومخترعون وعلماء يصوغون طرائق وأدوات جديدة؛ ومدن تشغى بالمتاجر والمصانع، وربات بيوت مهمومات وجماهير رعاع متمردة؛ وثغور ومراكب تزخر بالتجار، والملاحين، والبحارة، والرجال المغمرين؛ ومصرفيون يغامرون بالمال ويكسبونه ويخسرونه مثل نكير، وبالحياة مثل لافوازييه؛ ثم تدفق الأفكار والسخط الثوريين وضغطهما خلال هذا الكل الهائج المضطرب، أنها لصورة معقدة رهيبة.


النبلاء والثورة

كان عدد الفرنسيين 24.670.000 رجل وامرأة وطفل، وهكذا قدر نكير عدد السكان في 1784(1). فقد تصاعد عددهم من 17.000.000 في 1715 بفضل زيادة إنتاج الطعام وتحسين وسائل حفظ الصحة وانعدام الغزو الأجنبي والحرب الهلية، وحظيت الأمة في مجمعها بازدياد الرخاء خلال القرن الثامن عشر، ولكن أكثر الثراء الطارئ انحصر في الطبقة الوسطى(2).

وكان الفرنسيين ريفيين فيما عدا مليونين من الأنفس، والحياة الزراعية يديرها النظار الملكيون، والمديرون الأقليميون، وكهنة الأبرشيات، والسادة-أي أمراء الإقطاع-الذين قدر عددهم في 1789 بنحو 26.000. هؤلاء وأبناؤهم خدموا وطنهم في الحرب بأسلوبهم الأنيق العتيق (وقد أصبحت السيوف الآن حلية أكثر منها سلاحاً). ولم تبق إلا قلة من النبلاء في البلاط، أما السواد الأعظم فعاشوا في ضياعهم. وزعموا أنهم يكسبون دخلولهم بتوفير الإدارة الزراعية، والرقابة البوليسية، والمحاكم، والمدارس، والمستشفيات، والإحسانات. على أن معظم هذه المهام كانت قد تتلقاها عمال للحكومة المركزية، وكان الملاك من الفلاحين يطورون نظمهم الهادفة إلى الإدارة المحلية، وهكذا باتت طبقة النبلاء عضواً أثيراً، يأخذ الدم الكثير من الكائن الاجتماعي، ولا يعطيه لقاء ذلك إلا القليل بخلاف الخدمة العسكرية. وحتى هذه الخدمة أثارت شكوى عامة، لأن النبلاء أقنعوا لويس السادس عشر (1781) بأن يحرم من جميع المناصب الكبرى في الجيش والبحرية والحكومة كل من لا يظاهره أربعة أجيال من الأرستقراطية. ثم رمى النبلاء فوق هذا بأنهم تركوا مساحات شاسعة من ضياعهم بوراً في الوقت الذي يجوع فيه للخبز الآلاف من سكان المدن. ويصدق على الكثير من بقاع فرنسا هذا الوصف الذي كتبه آرثر ينج عن قطاعي اللوار ونهر شير: "أن الحقول مسرح للإدارة المهلهلة، كما أن البيوت شاهد على الفقر المدقع. ومع ذلك فإن هذه البلاد كلها قابلة جداً للتحسين لو عرفوا ما ينبغي أن يصنعوه بها"(3) وكان عدد غير قليل من النبلاء فقراء، بعضهم لتقص كفايتهم، وبعضهم لسوء طالعهم، وبعضهم لإرهاق أرضهم. وقد التمس كثير من هؤلاء المعونة من الملك، وتلقى العديد منهم منحاً من خزانة الدولة.

أما القنية بمعنى ارتباط الشخص قانوناً بقطعة الأرض وخضوعه بصفة دائمة لمالكها في أداء الرسم والخدمات، فكانت قد اختفت من فرنسا إلى حد كبير في 1789، وبقي نحو مليون من الأقنان أكثرهم على الأملاك الديرية. فلما حرر لويس السادس عشر الأقنان العاملين على الأراضي الملكية (1779)، سوف برلمان فرانسن-كونتيه (في شرقي فرنسا) تسعة أشهر حتى سجل مرسومه. ورفض الاقتداء بالملك كنيسة لوكسوي ودير فونتين، ومجموع ما لديهما أحد عشر ألف قن، ودير سان-كلود في مديرية الجورا الخالية، وكان لديه عشرون ألف قن، وذلك رغم عدة نداءات انضم فيها إلى فولتير عدد من الكنيسيين(5). على أن هؤلاء الأقنان اشتروا حريتهم شيئاً فشيئاً، أو نالوها بالهروب ثم ألغى لويس السادس عشر في 1779 حق المالك في مطاردة الأقنان الآبقين خارج أملاكهم. ومع أن 95% من الفلاحين كانوا أحراراً في 1789، إلا أن السواد الأعظم منهم ظلوا خاضعين لحق أو أكثر من الحقوق الإقطاعية التي تختلف في الدرجة من إقليم لآخر. وكانت تشمل إيجاراً سنوياً (ضوعف في القرن الثامن عشر)، ورسماً نظير حق التوريث، وأجراً عن استعمال مطحن السيد وأقرانه ومعاصره وبرك سمكه-التي كانت كلها حكراً له. وقد احتفظ بحق مطاردة طرائده حتى داخل محاصيل الفلاح، وسيج مساحات متزايدة من الأرض المشاع التي كان الفلاح يحتطب منها ويطلق فيها ماشيته لترعى. أما السخرة فقد خففت في معظم أرجاء فرنسا إلى ضريبة تدفع نقداً، ولكن ظل الفلاح في أوقرن، وشمبانيا، وأرتوا، واللورين، مطالباً بأن يبذل للإقطاعي المحلي كل سنة ثلاثة أيام أو أربعة من العمل الذي لا يتقاضى عنه أجراً، وذلك لصيانة الطرق البرية والجسور والطرق المائية(6). ويمكن القول أن الحقوق الإقطاعية الباقية اقتطعت في جملتها ومتوسطها عشرة في المائة من إنتاج الفلاح أو دخله، ثم اقتطعت ضريبة العشور الكنسية نسبة أخرى تتفاوت بين ثمانية وعشرة في المائة. فإذا أضيف إلى هذا الضرائب المدفوعة للدولة، وضرائب السوق والبيع، والرسوم المدفوعة لكاهن الأبرشية نظير مراسم العماد والزواج والدفن، ولم يبق للفلاح إلا نحو نصف ثمرات كده. ولما كانت قيمة المبالغ النقدية التي يتسلمها السادة الإقطاعيون تتناقص بهبوط قيمة العملة، فقد حاولوا حماية دخلهم بزيادة الرسوم، وإحياء رسوم عفا عليها الدهر، وتسييج المزيد من الأرض المشاع. وكانت جباية الرسوم تعهد عادة إلى ملتزمين محترفين كثيراً مالا يعرفون الرحمة في أداء عملهم. فإذا تشكك الفلاح في حق السيد في رسوم معينة قيل له أنها مدرجة في قوائم الضياع أو سجلاتها. فإذا تحدى صحة هذه القوائم رفع الأمر إلى محكمة الإقطاعية أو إلى البرلمان الإقليمي الذي كان سادة الإقطاع يهيمنون عليهم(7). وحين نشر بونسير، بتشجيع طور جو سرا، (1776) كراسة عنوانها "مساوئ الحقوق الإقطاعية" أوصى فيها باختزال هذه الحقوق، لامه برلمان باريس. وانبرى فولتير لخوض المعركة من جديد وقد بلغ الثانية والثمانين. فكتب يقول: إن اقتراح إلغاء الحقوق الإقطاعية يعدل مهاجمة أملاك السادة أعضاء البرلمان أنفسهم، الذين يمتلك معظمهم إقطاعات... أنها قضية الكنيسة، والنبلاء، وأعضاء البرلمان... متضافرين ضد العدو المشتري-أي الشعب"(8).

على ان هناك ما أمكن أن يقال دفاعاً عن الحقوق الإقطاعية فهي من وجهة نظر النبيل رهن عقاري قبله الفلاح بمحض حريته كجزء من الثمن الذي اشترى به قطعة أرض من مالكها الشرعي-الذي كان في كثير من الحالات قد اشتراها بحسن نية مالكها السابق. وكان بعض النبلاء الفقراء يعتمدون في قوتهم على هذه الرسوم. وكان الفلاح يعاني من شر الضرائب، والعشور، ومطالب الحرب وغاراتها أكثر كثيراً مما يعاني من الرسوم الإقطاعية. استمع إلى أعظم وأشرف الاشتراكيين الفرنسيين وهو جان-جوريه يقول "لو لم يكن في المجتمع الفرنسي في القرن الثامن عشر مساوئ غير تلك البقايا التافهة لذلك النظام (الإقطاعي)، لما دعت الحاجة لثورة تشفي هذا الجرح المتقرح، ولكان اختزال الحقوق الإقطاعية تدريجياً وتحرير الفلاحين كفيلاً بإحداث التغيير بطريقة سلمية(9).

وكان أبرز ملامح طبقة النبلاء الفرنسيين اعترافها بالذنب، إذ لم يقتصر الأمر على انضمام الكثير من النبلاء إلى جماعة الفلاسفة في رفض اللاهوت القديم، بل أن بعضهم كما رأينا سخر من امتيازات طبقتهم التي عفا عليها الزمن(10). وقبل الثورة بسنة عرض ثلاثون نبيلاً أن يتنازلوا عن امتيازاتهم الإقطاعية المالية(11). وكلنا يعرف مثالية الشاب لافاييت الذي لم يكتف بالقتال دفاعاً عن أمريكا بل حال عودته إلى فرنسا خاض بقوة ذلك الكفاح في سبيل الإصلاح السلمي. وقد ندد بالرق، ورصد جانباً من ثروته ليعتق العبيد في جيانا الفرنسية(12). وفشا الجهر بالمبادئ اللبرالية، والدفاع عن الإصلاح، في شطر من الأرستقراطيين لا سيما حاملات الألقاب مثل النبيلات لا مارك، ودبوفليه، ودبريين، ودلكسمبور. ولعب مئات من الأشراف والأساقفة دوراً نشيطاً في الحملات التي شنت لتحقيق المساواة في الضرائب، والحد من الإسراف الحكومي، وتنظيم أعمال البر، وإنهاء السخرة(13). وبذل بعض الأشراف، كدوقة بوربون، معظم ثروتهم للفقراء(14).

على ان هذا كله لم يكن إلا حيلة لطيفة فوق الواقع الواضح للعيان، وه وأن طبقة النبلاء الفرنسيين لم تعد تستأهل قوتها. صحيح أن كثيرين منهم حاولوا الاضطلاع بمسئولياتهم التقليدية، غير أن المفارقة بين التبطل المترف الذي يرتع فيه الإقطاعيون الأثرياء وبين شظف العيش الذي تعانيه الجماهير أشرفت غير مرة على المجاعة، أثارت العداء والاحتقار. وقبل ذلك بزمن مديد أصدر رجل، كان هو نفسه نبيلاً عظيماً، حكم الإعدام على طبقته، فلنستمع إلى رينيه-لوي دفواييه، مركيز دارجنسون، وزير الدولة (1744-47) يكتب حوالي 1752:

"لا بد من القضاء على سلالة السادة العظام قضاء مبرماً. وأعني بالعظام أصحاب الألقاب والأملاك والعشور والمناصب والوظائف، الذين يتبوأون المقام الرفيع رغم أنهم بلا كفايات وأنهم ليسوا بالضرورة راشدين، فهم لذلك عديمو القيمة في كثير من الأحايين... وإني ألاحظ أن الناس يحافظون على سلالة من كلاب الصيد الأصيلة، ولكن متى تدهورت السلالة قضوا عليها"(15). هؤلاء السادة بعينهم، والأغنياء، والمتكبرون، الذين لا وظيفة لهم في الغالب، هم بدأوا الثورة. ذلك أنهم كانوا ينظرون بحسرة إلى العهد الذي سبق ريشليو، يوم كان طبقتهم هي السلطة الحاكمة في فرسنا. وحين أكدت البرلمانات حقها في إبطال المراسم الملكية، انضم نبلاء الدم والسيف إلى نبلاء الرداء-وهم القضاة الوراثيون-في محاولة لإخضاع الملك. وهللوا لخطباء البرلمان الذي رددوا صيحة "الحرية" وشجعوا الشعب وكتاب الكراريس على التنديد بسلطة لويس السادس عشر المطلقة. وليس في وسعنا أن نلومهم على هذا، غير أنهم بإضعافهم سلطة الملك مكنوا 1789 الجمعية التشريعية التي تهيمن عليها الطبقة البرجوازية من أن تستحوذ على السادة في فرسنا. وهكذا دق النبلاء أول مسمار في نعشهم.


الفلاحون والثورة

كان اكثر العمل الزراعي المؤدي على الخمسة والخمسين في المائة من أرض فرنسا الذي يمتلكه النبلاء ورجال الدين والملك، يؤديه محصصون يأخذون المواشي والأدوات والبزاز من المالك ويدفعون له نصف المحصول عادة. وكان هؤلاء المحاصصون بوجه عام فقراء معدمين حتى لقد حكم آرثر ينج على هذا النظام بأنه "لعنة البلاد بأسرها وخرابها"(16)، ومرد ذلك ضعف الحوافز أكثر من قسوة الملاك.

أما أغلبية الملاك الفلاحين الذين زرعوا خمسة وأربعين في المائة من الأرض فقد قضي عليهم بالفقر صغر مساحة أراضيهم، الأمر الذي حد من استعمال الآلات الزراعية استعمالاً رابحاً. وتخلفت التكنولوجيا الزراعية في فرنسا عن نظيرتها في إنجلترا. صحيح كان هناك مدارس زراعية ومزارع نموذجية، ولكن لم يفد منها غير قلة من المزارعين. ولعل ستين في المائة من الملاك الفلاحين كانوا يملكون أقل من الهكتارات الخمسة (نحو ثلاثة عشر فداناً) اللازمة لإعاشة الأسرة، واضطر الرجال للعمل فعلة أجراء على المزارع الكبيرة. وقد ارتفعت أجور فعلة المزارع اثني عشر في المائة بين 1771 و1789، ولكن الأسعار ارتفعت في الفترة ذاتها خمسة وستين في المائة أو أكثر(17). ومع أن الإنتاج الزراعي ارتفع خلال حكم لويس السادس عشر، فإن الأجراء من الفلاحين ازدادوا فقراً، وألفوا برولتارياً ريفية كان في فترات العمالة الراكدة بمثابة معمل تفريخ ينتج حشوداً من المتسولين والمتشردين. وقد ذهب شامفور إلى أنه "لا جدال في أن بفرنسا سبعة ملايين رجل يتسولون، واثني عشر يعجزون عن التصدق"(18).

ولعل فقر الفلاحين قد بالغ الرحالة في وصفه لأن أول ما استرعى ملاحظتهم كان الأحوال الظاهرة؛ فهم لم يروا العملة والسلع المخبأة هرباً من عين مقدر الضريبة. وتتضارب التقديرات المعاصرة لهذه الفترة. فقد وجد آرثر ينج مناطق يعمها الفقر والتوحش والقذارة كما في بريتاني، ومناطق فيها الثراء والكبرياء كما في بيارن(19). ويمكن القول عموماً أن الفقر في ريف فرنسا عام 1789 لم يكن مدقعاً كما كان في إيرلندة، ولا أسوأ منه في أوربا الشرقية أو في بعض الأحيان الفقيرة المزدحمة في المدن "الغنية" في وقتنا الحاضر، ولكنه كان أسوأ منه في إنجلترا أو في وادي بو المعطاء أبداً. وتشير أحدث الدراسات إلى أنه "كان هناك أزمة زراعية في نهاية النظام القديم"(20). فإذا جاء القحط والمجاعة، كما حدث في 1788-89 بلغت معاناة الفلاحين لا سيما في جنوبي فرنسا مبلغاً لم ينج فيه نصف السكان من التضور جوعاً إلا بفضل الصداقات التي وزعتها الحكومة والكهنة.

وكان على الفلاح أن يدفع ما يفرض عليه أداؤه للدولة والكنيسة والنبلاء. ووقعت ضريبة التاي-أي ضريبة الأرض-كلها تقريباً على كاهله. وكان يقدم كل الرجال اللازمين لمشاة الجيش أو جلهم. وقد تحمل عبء احتكار الحكومة للملح. وكان الفضل لجهده في صيانة الطرق والجسور والقنوات. ولعله كان مؤدياً العشور برضى أكثر-فهو رجل "يخاف الله" والعشور تجبى جباية رحيمة، وندر أن اقتضته عشر دخله بالضبط(21)، ولكنه رأى أكثرها يترك الأبرشية ليعول أسقفاً في بلد ناء، أو كنسياً عاطلاً في البلاط، بل حتى علمانياً اشترى حصة في العشور المستقبلة. وقد خفف لويس السادس عشر عبء الضريبة المباشرة على الفلاح، ولكن الضرائب غير المباشرة زيدت في كثير من الأقاليم(22).

فهل كان فقر الفلاح سبب الثورة؟ لقد كان فقره عاملاً درامياً في مركب من أسباب عدة. كان أفقر الفقراء أعجز من أن يثوروا؛ في استطاعتهم أن يرفعوا أصواتهم طلباً للغوث، ولكنهم لا يملكون الوسيلة ولا الهمة لتنظيم الثورة، إلى أن استنفرهم المزارعون الأكثر ثراء وعملاء الطبقة الوسطى، وانتفاضات رعاع باريس. على انه حين وهنت قوى الدولة نتيجة تطور الشعب الفكري، وحين سرت عدوى الأفكار الراديكالية إلى الجيش سرياناً خطراً، وحين لم تعد السلطات المحلية قادرة على الاعتماد على التأييد الحربي يأتيها من فرساي-عندها أصبح الفلاحون قوة ثورية، فتجمعوا، وتبادلوا الشكاوي والعهود، وتسلحوا، وهاجموا القصور الريفية، وأحرقوا بيوت الإقطاعيين المتغطرسين، ودمروا السجلات الإقطاعية التي استشهدوا بها على صحة الحقوق الإقطاعية، هذا العمل المباشر، الذي هدد بتدمير شامل لأملاك الإقطاعيين، هو الذي روع النبلاء فنزلوا عن امتيازاتهم الإقطاعية (4 أغسطس 1789). ووضعوا بذلك نهاية شرعية للنظام القديم.


الصناعة والثورة

في موضوع الصناعة على الأخص تغيم الصورة السابقة للثورة وتتعقد(1). فالصناعة لبيئية-صناعة الرجال والنساء والأبناء في البيت-كانت تخدم التجار الذين يوفرون المادة ويشترون الناتج(2)، والطوائف الحرفية-المعلمون، وعمال اليومية، والصبية-كانت تنتج السلع اليدوية لتلبية الاحتياجات المحلية بنوع خاص. وقد عمرت هذه الطوائف حتى الثورة، ولكن في 1789 كان قد أوهنها غايو الوهن نمو(3) المشروعات الحرة الرأسمالية-وهي شركات كان لها لأن تجمع رأس المال من أي مصدر، وأن تستأجر أي إنسان. وأن تبتكر وتطبق أساليب جديدة في الإنتاج والتوزيع، وأن تتنافس مع أي إنسان، وأن تبيع في أي مكان. وكانت هذه المؤسسات عادة صغيرة ولكنها أخذت تتكاثر، فكان في مرسيليا وحدها عام 1789 ثمانية وثلاثون مصنعاً للصابون، وثمانية وأربعون للقبعات، وثمانية للزجاج، واثنا عشر لتكرير السكر وعشر مدابغ(23). أما في المنسوجات، والبناء، والتعدين، وتصنيع المعادن، فقد اتسعت الرأسمالية وغدت مشروعات واسعة النطاق، وكان كل هذا عادة بفضل شركات المحاصة.

وكانت فرنسا بطيئة في الأخذ بآلات النسيج التي كانت آنئذ تفتتح الثورة الصناعية في إنجلترا، ولكن مصانع نسيج كبيرة كانت تدور دواليبها في آبفيل، وأميان، ورامس، وباريس، ولوفييه، وأورليان، وازدهرت صناعة الحرير في ليون. وكانت صناعات المعمار تقيم تلك العمائر الضخمة ذات الشقق، التي ما زالت تضفي على المدن الفرنسية ملامحها المميزة. وكانت صناعة السفن تشغل آلاف العمال في نانت، وبدرو، ومرسيليا، أما التعدين فكان أكثر الصناعات الفرنسية تقدماً. وقد احتفظت الدولة بجميع الحقوق في التربة السفلية، وأجرت المناجم لأصحاب الامتياز، وفرضت قانون أمن للمعدنين(24)، وحفرت الشركات مداخل للمناجم وصل عمقها إلى ثلاثمائة قدم، وركبت أجهزة غالية للتهوية، والصرف، والنقل، وخلقت أصحاب الملايين. وكان لشركة انزان (1790) أربعة آلاف عامل، وستمائة حصان، واثنتا عشرة آلة بخاري، وكانت تستخرج 310.000 طن من الفحم في العام. وقد وفر استخراج الحديد وغيره من المعادن المادة لصناعة معدنية متسعة. وفي 1787 جمعت شركة كرزور المساهمة رأسمال قدره عشرة ملايين جنيه لاستخدام أحدث الآلات في إنتاج المصنوعات الحديدية، وكانت الآلات البخارية تشغل المنافيخ، والمطارق، والمثاقب، ومكنت السكك الحديدية الجواد الواحد من أن يجر ما كان يحتاج جره من قبل إلى خمسة جياد.

وقد ابتكر الفرنسيون بعض الاختراعات المذهلة في هذه السنين. ففي 1776 رفه المركيز جوفروا عن الجماهير المحتشدة على نهر دوب بمنظر قارب تحركه آلة بخارية، وذلك قبل أن يبحر زورق فولتن "كليرمونت" التجارية في نهر هدسن ذهاباً وإياباً. بل أدهش من هذا كانت الخطوات الولى في غزو الفضاء. ففي 1766 أثبت هنري كافندش أن للهيدروجين كثافة أقل من الهواء، واستنتج جوزف بلاك أن كيساً يملأ بالهيدروجين يستطيع الصعود إلى الجو. وعكف جوزف وإتيين مونجولفييه على تجاربهما على هدى المبدأ القائل بأن الهواء تقل كثافته إذا سخن؛ وفي 5 يونيو 1783، في انونيه قرب ليون، ملأ بالوناً بالهواء المسخن، فارتفع إلى علو ألف وستمائة قدم، ثم هبط بعد عشر دقائق حين برد هواؤه. وصعد بالون مملوء بالهيدروجين صممه جاك-الكسندر شارل من باريس في 27 أغسطس 1783 على مشهد من 300.000 متفرج يهتفون له، فلما هبط على بعد خمسة عشر ميلاً مزقه حشد من القرويين إرباً زاعمين أنه عدو مغير من الجو(25). وفي 15 أكتوبر قام جان-فرانسوا بيلاتر دروزييه بأول طيران مدون للإنسان، مستخدماً بالوناً كبالون مونجولفييه به هواء مسخن، واستمر صعوده أربع دقائق. وفي 7 يناير 1785 طار الفرنسي فرانسوا بلانشار، والفيزيائي الأمريكي جون جفريز، في بالون من إنجلترا إلى فرنسا. وبدأ الناس يتحدثون عن الطيران إلى أمريكا(26).

وزكت مدن فرنسا خلال هذا العهد الحاسم بعد أن غذتها الصناعة والتجارة. فكانت ليون تشغى بالحوانيت والمصانع والمشروعات. وذهل آرثر ينج لفخامة بوردو. وأصبحت باريس الآن مركزاً تجارياً أكثر منه سياسياً، فكانت بمثابة القلب لمجمع اقتصادي يهيمن على نصف عاصمة فرنسا، ومن ثم على نصف اقتصادها. وكان يسكنها عام 1789 نحو 600.000 نسمة(27). ولم تكن وقتها مدينة ذات جمال رائع، وقد وصف فولتير الكثير منها بأنه جدير بالقوط والفندال(28). وقال بريستلي الذي زارها في 1774: "لا أستطيع الزعم بأنه قد راعني شيء منها غير اتساع العمائر العامة وبهائها، وفي مقابل هذا ساءني كثيراً ضيق أكثر الشوارع وقذارتها ونتنها"(29). ومثل هذا الوصف كتبه ينج:

أن تسعة أعشار الشوارع قذر، وكلها خلو من أرصفة المشاة. والمشي-الذي تجده في لندن غاية في الإمتاع والنظافة بحيث تمارسه السيدات يومياً-هو هنا كد وعناء للرجل، وضرب من المحال على المرأة الأنيقة الثياب.. وعربات الركوب كثيرة، وأسوأ من ذلك كثيراً ذلك العدد الهائل من "الكبريلات" التي يجرها حصان واحد ويسوقها الفتيان العصريون ومقلدوهم. بسرعة فائقة... تجعل الشوارع بالغة الخطر... وقد لطخني أنا نفسي رشاش الوحل غير مرة"(30). وأخذت طبقة من العمال الكادحين "برولتاريا: تتشكل في المدن كبيرها وصغيرها، رجال ونساء، وأطفال لقاء أجر بأدوات ومواد ليست ملكاً لهم. ولا يتوافر لدينا إحصاء عنهم، ولكن قدر عددهم في باريس عام 1789 بـ 75.000 أسرة، أو 300.000 فرد(31). وكان هناك أعداد كبيرة بهذه النسبة في آبفيل، وليون، ومرسيليا. وكانت ساعات العمل طويلة والأجور ضئيلة، لأن حكماً أصدره برلمان باريس (12 نوفمبر 1778) حظر على العمال تنظيم أنفسهم. وقد ارتفعت الأجور ما بين عامي 1741 و1789 اثنين وعشرين في المائة، وارتفعت الأسعار خمسة وستين في المائة(32)، ويبدو أن حال العمال تدهور في عهد لويس السادس عشر(33)، فلما قل الطلب، أو اشتدت المنافسة الأجنبية (كما حدث في 1786)، طردت أعداد كبيرة من العمال فأصبحوا كلا على البر والإحسان. وكادت آلاف الأسر تموت جوعاً عندما ارتفع ثمن الخبز، الذي كان قوام نصف طعام الجماهير الباريسية(34). وكان ثلاثون ألف شخص يتلقون الإغاثة العامة في ليون عام 1787، واشتد فقر ثلثي سكان رامس في 1788 عقب أحد الفيضانات، وفي باريس عام 1791 قيدت مائة ألف أسرة على أنها معوزة(35). وكتب مرسييه حوالي 1785 يقول "أن عامة الشعب في باريس ضعاف الأبدان صفر الوجوه صغار الأجسام معوق النمو وكأنهم طبقة تفردت عن سائر الطبقات في الدولة(36).

وألف العمال الاتحادات وأضربوا في تحد لأوامر الحظر ففي 1774 توقفوا عن العمل لارتفاع تكاليف المعيشة بأسرع من الأجور. ودفع الإحباط الكثير من العمال إلى الرحيل عن ليون قاصدين مدناً أخرى، بل مهاجرين إلى سويسرا أو إيطاليا، ولكنهم أوقفوا على الحدود وأعيدوا إلى موطنهم قسراً. وثار العمال، واستولوا على مكاتب البلدية، وأقاموا دكتاتورية قصيرة الأجل من البرولتاريا على الكومون. فاستدعت الحومة الجيش الذي أخمد التمرد، ثم شنق اثنان من زعماء العمال، وعاد المضربون وأرباب العمل على السواء(37). وفي 1786 عادوا إلى الإضراب، مؤكدين أنهم عاجزون عن إعالة أسرهم حتى بمواصلة العمل ثماني عشرة ساعة في اليوم، شاكين من أنهم يعاملون "بأقسى مما تعامل به الحيوانات المنزلية، فحتى هذه تعطى من الطعام ما يكفي لحفظها سليمة قوية"(38). ووافقت سلطات المدينة على منحهم علاوة، ولكنها حظرت أي اجتماع يضم أكثر من أربعة أشخاص. واضطلعت كتيبة مدفعية يتنفيذ هذا الخطر، وأطلق الجند الرصاص على المضربين فقتلوا عدة أشخاص، وعاد المضربون إلى العمل وسحبت العلاوة منهم بعد ذلك(39). وقد نشبت حوادث الشغب احتجاجاً على ارتفاع تكاليف المعيشة، متفرقة طوال النصف الثاني من القرن الثامن عشر. فوقعت منها ستة في نورمنديه بين عامي 1752، و1768؛ وفي 1768 سيطر القائمون بالشغب مماثلة على روان، ونهبوا مخازن الغلال الحكومية، وسلبوا المتاجر، ووقعت أحداث مماثلة في رامس عام 1770، وفي بواتيه عام 1772، وفي ديجون وفرساي وباريس ويونتوار عام 1775، وفي اكس-أن-بروفانس عام 1785، ثم في باريس عامي 1788، 1789(40).

فأي دور إذن لعبه فقر البرولتاريا، أو فقر المدن عموماً، في إحداث الثورة؟ لقد كان في ظاهر سبباً مباشراً، فالعجز في الخبز وما ترتب عليه من شغب في باريس في 1788-89 رفع حمى الشعب إلى درجة كان فيها أفراده على استعداد للمغامرة بحياتهم في تحدي الجيش والهجوم على الباستيل على أن الجوع والغضب يستطيعان إعطاء القوة المحركة، ولكنهما لا يعطيان القيادة، ومن المحتمل أن جوادث الشغب كان يمكن تهدئتها بخفض سعر الخبز لو لك توجه القيادة من الطبقات الأعلى المتمردين للاستيلاء على الباستيل والزحف على فرساي. ثم أن الجماهير لم يكن لديها إلى ذلك الحين أي فكرة عن قلب الحكومة، أو خلع الملك، أو إقامة جمهورية. وكانت طبقة البرولتاريا تتحدث عن المساواة الطبيعية حديثاً يملؤه الأمل، ولكنها لم تحلم بالاستيلاء على الدولة. لقد طالبت بتنظيم الدولة للاقتصاد-بينما عارضته البورجوازية-أو على الأقل بتحديد سعر الخبز، ولكن هذا كان عودة للنظام القديم، لا تقدماً نحو اقتصاد تهيمن عليه الطبقة العاملة. صحيح. أنه حين جد الجد كان رعاع باريس المدافعون بالجوع والمحرضون من الخطباء والعملاء هم الذين استولوا على الباستيل ومنعوا بذلك الملك من استخدام الجيش ضد الجمعية الوطنية، ولكن حين أعادت الجمعية تنظيم فرنسا كان ذلك بإرشاد البورجوازيين وتحقيقاً لأهدافهم.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

البورجوازية والثورة

كان الملمح البارز للحياة الاقتصادية الفرنسية في القرن الثامن عشر هو صعود طبقة التجار ورجال الأعمال. وكانت قد بدأت تزكو أيام لويس الرابع عشر وكولبير، وأفادت أعظم فائدة من الطرق والقنوات الممتازة التي يسرت التجارة، وأثرت على الاتجار مع المستعمرات، وارتفعت إلى مكان مرموق في الوظائف الإدارية (حتى 1781)، وهيمنت على مالية الدولة.

ولكن أزعجتها إلى حد التمرد تلك المكوس التي فرضت لصالح الإقطاعيين أو الحكومة على الطرق والترع، وذلك الفحص المضيع للوقت للشحنات عند كل محطة للمكوس وكان هناك ثلاثون إلى أربعين من هذه المكوس يجب أن يدفعها المركب الذي يحمل بضاعة من جنوبي فرنسا إلى باريس(41). وطالب رجال الأعمال بحرية التجارة داخل الحدود، ولكنهم لم يكونوا واثقين من رغبته في هذه الحرية بين الأمم. ومع ذلك دعم خفض التعريفات التجارة الخارجية وملأ خزائن طبقة التجار. وتضاعفت التجارة تقريباً بين عامي 1763 و1787، ونيفت على بليون فرنك في 1780(42). واكتظت مدن الثغور الفرنسية بالتجار، والشاحنين، والملاحين، والمتاجر، ومعامل التحرير، ومصانع التقطير، وفي تلك المدن كانت طبقة التجار ورجال الأعمال هي الغالبة قبل أن تكرس الثورة تفوقها القومي بزمان. وجاء شطر من الثروة التجارية من قنص العبيد الأفارقة أو شرائهم ونقلهم إلى أمريكا وبيعهم هناك ليعملوا على المزارع الكبيرة، وهو ما كانت عليه الحال في إنجلترا. ففي 1788 شحن تجار الرقيق الفرنسيون 29.506 زنجياً إلى سان-دومنج (هايتي) وحدها"(43). وكان المستثمرون الفرنسيون يمتلكون معظم الأرض والصناعات هناك وفي جواد لوب والمارتنيك. وفي سان-دومنج كان ثلاثون ألفاً من البيض يستخدمون 480.000 عبد(44).وفي 1789 صرحت غرفة بوردو التجارية بالآتي: "أن فرنسا تحتاج إلى مستعمراتها لصيانة تجارتها، ومن ثم تحتاج إلى عبيد حتى تصبح التجارة مجزية في هذا الجزء من العالم، على الأقل إلى أن يعثر على وسيلة أخرى"(45).

واحتاجت المشروعات الصناعية والاستعمارية وغيرها إلى رأس المال، وولدت سلالة متكاثرة من المصرفيين، وعرضت شركات المحاصة السندات، وطرحت الحكومة أسهم القروض، وتطورت المضاربة في بيع وشراء السندات المالية، واستأجر المضاربون صحفيين لبث الشائعات المقصود بها رفع أسعار الأسهم أو خفضها(46). وحظي بعض المصرفيون بثقة شخصية تفوق الثقة في الحكومة، ومن ثم استطاعوا أن يقترضوا بفائدة منخفضة، ويقوضوا الحكومة بفائدة اعلى، ويزيدوا ثروتهم بإمساك دفاترهم لا أكثر-ما دام حكمهم صائباً وما دامت الدولة تدفع ديونها.

وتعاظم ثراء الملتزمين العامين (وهم الماليون الذين كانوا يشترون حق جباية الضرائب غير المباشرة بتقديمهم قرضاً للحكومة) واشتد كره الناس لهم، وذلك لأن الضرائب غير المباشرة، كضرائب البيوع عموماً، كانت أفدح ما تكون على من يضطرون لإنفاق الكثير من دخلهم على ضروريات الحياة اليومية. وكان بعض هؤلاء الملتزمين مثل هلفتيوس ولا فوازييه، رجالاً ذوي نزاهة نسبية وروح وطنية، أسخياء في مساهمتهم في البر والآداب والفنون(47). وتبينت الحكومة مساوئ نظام الالتزام هذا، وخفضت عدد الملتزمين من ستين إلى أربعين في 1780، ولكن عداء الشعب لهم استمر. وقد ألغت الثورة النظام، وكان رأس لافوازييه أحد الرءوس التي تهاوت في هذه العملية.

ولما كان نظام الضرائب قد لعب دوراً قيادياً بين أسباب الثورة، فلا بد لنا من أن نذكر القارئ مرة أخرى الضرائب التي كان الفرنسيون يدفعونها. (1) كانت التاي ضريبة على الأرض والأملاك الشخصية. وقد أعفى الأشراف منها لما يؤدونه من خدمة حربية، وأعفى الأكليروس لأنهم يحفظون النظام الاجتماعي ويصلون من اجل الدولة، وأعفى القضاة وكبار الإداريين، وموظفو الجامعات، ووقع كل الضريبة تقريباً على كاهل ملاك الأرض من الطبقة الثالثة-ومن ثم على الفلاحين في المقام الأول. (2)ضريبة الرءوس وكانت تفرض على كل رأس في الأسرة، ولم يعف منها غير الأكليروس (3)الضريبة العشرينية وكانت ضريبة على الملكية كلها عقارية أة شخصية، ولكن النبلاء تهربوا من شطر كبير منها ومن ضريبة الرءوس باستخدام النفوذ الخاص، أو استخدام المحامين ليعثروا على ثغرات في القانون، وتفادى الأكليروس الضريبة العشرينية بعطاء اختياري دوري للدولة (4)كانت كل مدينة تدفع ضريبة للحكومة وتفرضها على مواطنيها. (5)فرضت الضرائب غير المباشرة بهذه الوسائل: (أ) مكوس النقل. (ب) مكوس الاستيراد والتصدير. (جـ) رسوم الإنتاج على الأنبذة والمسكرات والصابون والجلد والحديد وورق اللعب الخ. (د) الاحتكارات الحكومية لبيع التبغ والملح، فكان على كل فرد أن يشتري كل عام حداً أدنى مقرراً من الملح من الحكومة بالسعر الذي تحدده، وكان دائماً أعلى من سعر السوق. وكانت ضريبة الملح (الجابل) هذه من أكبر أسباب شقاء الفلاح (6)كان الفلاح يدفع ضريبة لينجو من السخرة. وبلغت جملة ما يدفعه الفرد من الطبقة الثالثة في المتوسط من الضرائب اثنين وأربعين إلى ثلاثة وأربعين في المائة من دخله(48).

فإذا أخذنا التجار وأصحاب المصانع ورجال المال والمخترعين والمهندسين والعلماء وصغار البيروقراطين والكتبة وأصحاب الحوانيت والكيميائيين والفنانين والكتبية والمعلمين والمؤلفين والفيزيائيين والمحامين والقضاء من غير ذوي الألقاب-إذ أخذنا هؤلاء جملة باعتبارهم المؤلفين للطبقة البورجوازية، أمكننا أن نفهم كيف أنها في 1789 كانت قد أصبحت أغنى وأنشط شطر من الأمة. ولعلها كانت تملك من الأرض الريفية قدر ما تهملك طبقة النبلاء(49)، وكان في استطاعتها اكتساب النبالة بمجرد شراء إقطاعة نبيلة أو وظيفة من وظائف "السكرتيرين" الكثيرة للملك. وبينا خسرت الطبقة النبيلة النفر والمال بفعل البطالة والإسراف والتحلل البيولوجي، وخسر الأكليروس والأرض الصلبة بصعود العلم والفلسفة، والحياة والناموس الأبيقوريين الحضريين، ازدادت الطبقات الوسطى مالاً وقوة بفضل تطور الصناعة والتكنولوجيا والتجارة والمالية، فملأت بغلاتها أو وارداتها الحوانيت (البوتيكات) التي أدهش بهاؤها الزوار الأجانب الذين ألموا بباريس أولون أورامس أو بوردو(50). وبينما كانت الحروب تفقر الحكومة كانت تغني الطبقة البورجوازية التي قدمت النقل والمواد. وقد انحصرت أكثر الثروة المتعاظمة في المدن؛ وهربت من الفلاحين والعمال وظهرت أوضح ما تكون في التجار والماليين. فكان أربعون تاجراً فرنسياً يملكون في 1789 ثروة جملتها ستون مليون جنيه(51)، وجمع مصرفي واحد هو باري-مونمارتل مائه مليون(52).

أما السبب الأساسي في الثورة فهو تلك المفارقة بين الواقع الاقتصادي والنظم السياسية، وبين أهمية الطبقة البورجوازية في إنتاج الثروة وتملكها وبين إقصائها عن القوة السياسية. وكانت الطبقة الوسطى الراقية على وعي بقدراتها وحساسة للاستخفاف بها. وأحفظها انغلاق طبقة النبلاء الاجتماعي ووقاحتها-كما حدث لامرأة ألمعية هي مدام رولان حين دعيت للمكث حتى تتناول العشاء في بيت أرستقراطي، ثم وجدت الطعام يقدم لها في جناح الخدم(53). ولم يكن بالطبقات الوسطى رغبة في الإطاحة بالملكية، ولكنها تطلعت إلى الهيمنة عليها. ولم يكن بها رغبة قط في الديموقراطية، ولكنها أرادت حكومة دستورية، يمكن أن يحشد فيه ذكاء جميع الطبقات للتأثير في التشريع والإدارة والسياسة. وقد طالبت بالتحرر من هيمنة الدولة أو الطوائف النقابية على الصناعة أو التجارة، ولكنها لم تكره الإعانات المالية الحكومية، أو التأييد من الفلاحين وجماهير المدن لتحقيق أهدافها. وكان لب الثورة الفرنسية هو إطاحة البورجوازية بالنبلاء والأكليروس، وهي بورجوازية استخدمت سخط الفلاحين للقضاء على الإقطاعية، وسخط جماهير المدن لشل جيوش الملك. فلما عقد اللواء للجمعية التأسيسية بعد عامين من الثورة، ألغت نظام الإقطاع، وصادرت أملاك الكنيسة، وأجازت تنظيم التجار، ولكنها حظرت جميع تنظيمات العمال أو تجمعاتهم (14 يونيو 1791)(54).


احتشاد القوى

كانت هذه القوى الثورية كلها خاضعة لتأثير الأفكار، وقد استخدمتها قناعاً للرغبات ومؤججاً لها. وكان يوجد بالإضافة إلى الدعوة لتي نشرها الفلاسفة الفزيوقراطيين شيوعيون مبعثرون واصلوا ووسعوا الاشتراكية التي فصلها في الجيل الماضي موريللي، ومابلي، ولنجيه(56). فسبق بريسو دفارفيل بكتابه "مباحث فلسفية حول حق الملكية" (1780) كتاب بيير برودون "ليست الملكية إلا لصوصية"، إذ زعم أن الملكية الخاصة إنما هي سرقة للممتلكات العامة، فليس هناك "حق مقدس... يبيح أكل طعام عشرين رجلاً بينما يكون نصيب الرجل الواحد غير كاف "والقوانين" مؤامرة الأقوياء على الضعفاء، والأغنياء على الفقراء"(57). وقد اعتذر بريسو فيما بعد عن كتبه الأولى باعتبارها فورات طالب، وأصبح من زعماء الجيروند، وأعدم بالجليوتين لاعتداله (1793). وفي 1789 قبيل الاستيلاء عنوة على الباستيل، أصدر فرانسوا بواسيل "كتاب "تعليم النوع الإنساني بالسؤال والجواب"، قطع الشوط كله إلى الشيوعية، فزعم أن كل الشرور مردها الطبقة المرتزقة، القاتلة للبشر، والمعادية للمجتمع، التي ظلت إلى الآن تحكم الناس وتذلهم وتدمرهم"(58). ولقد استرق الأقوياء الضعفاء، ووضعوا القوانين ليحكموا. واخترعت الملكية، والزواج، والدين، لإضفاء الشرعية على الغصب، والعنف والخداع، وكانت النتيجة أن قلة قليلة هي التي تملك الأرض، بينما تكابد الأغلبية الجوع والبرد. وما الزواج إلا ملكية خاصة في النساء، وليس لإنسان حق في أكثر مما يحتاج إليه، وكل ما زاد على ذلك يجب أن يوزع على كل إنسان حسب حاجته. وعلى العاطلين الأغنياء أن يعملوا أو يجوعوا. ويجب أن تحول الأديرة إلى مدارس(59). أما أطراف هؤلاء الراديكاليين وأبعدهم أثراً فهم فرانسوا-أميل ببايف. فبعد أن أعان النبلاء والأكليروس في تأكيدهم للحقوق الإقطاعية ضد الفلاحين(60)، أرسل إلى أكاديمية آراس (21 مارس 1787) اقتراحاً بأن تقدم جائزة لأفضل مقال يكتب في هذا الموضوع "إذا أخذنا في الاعتبار مجموع المعرفة التي حصلناها الآن، فماذا يكون حال شعب بلغت غرائزهم الاجتماعية حالة تستوجب أن تسود بينهم المساواة الكاملة... التي يكون فيها كل شيء مشتركاً بينهم"(61). غير أن الأكاديمية لم تستجب لاقتراحه، فبين جراكوس بابيف (كما سمى نفسه فيما بعد) في رسالة بتاريخ 8 يوليو 1787 أم كل الناس متساوون بالطبيعة، وأن كل الأشياء مشتركة في الحالة الطبيعية، أما كل التاريخ التالي لهذه الحالة فهو انحطاط وخداع. وقد جمع خلال الثورة أتباعاً كثيرين، وكان على وشك تزعم تمرد على حكومة الإدارة، ولكن عملاءها قبضوا عليه فحكم عليه بالإعدام (1797).

ثم هل كان البناءون الأحرار (الماسون) عاملاً في الثورة؟ لقد سبق ذكر صعود هذه الجمعية السرية في إنجلترا (1717) وأول ظهورها في فرنسا (1734)، وقد انتشرت سريعاً في أوربا البروتستانتية، وأيدها فردريك الثاني في ألمانيا، وجوستاف الثالث في السويد. وحظر البابا كلمنت الثاني عشر (1738) على السلطات الكنسية أو العلمانية الانضمام إلى الماسون أو مساعدتهم، ولكن برلمان باريس رفض تسجيل هذا الأمر البابوي، فجرده بذلك من مفعوله القانوني في فرنسا. وفي 1789 كان هناك 629 محفلاً ماسونياً في باريس، كل منها يضم عادة خمسين عضواً إلى مائة(62)، وبين هؤلاء كثير من النبلاء، وبعض الكهنة، وأخوة لويس السادس عشر، وأكثر زعماء حركة التنوير(63)، وفي 1760 أسس هلفتيوس محفل العلوم، وفي 1770 وسعة الفلكي لالاند إلى "محفل الأخوات التسع" (ربات الفنون). هنا التقى برتولييه، وفرانكلين، وكوندروسيه، وشامفور، وجروز، وأدمون، ثم سييس، وبريسو، وديمولان، ودانتون(64). وكان الماسون من الناحية النظرية يستبعدون من عضويتهم كل "فاسق كافر" وكل "ملحد غبي"(65)، وكان على كل عضو أن يعلن إيمانه بـ "مهندس الكون الأعظم" ولم تشترط في العضو عقيدة دينية غير هذه، وبذلك قصر الماسون بوجه عام لاهوتهم على الربوبية. ويبدو أنهم كانوا أصحاب نفوذ في الحركة التي قامت لطرد اليسوعيين من فرنسا(66). وكان هدفهم المعلن أن ينشئوا جماعة إخوان دولية سرية يترابطون فيها بالاجتماع والطقوس ويتعهدون بتبادل العون وبالتسامح الديني والإصلاح السياسي. وفي عهد لويس السادس عشر دخلوا ميدان السياسة بنشاط، وأصبح عدد من الأعضاء الأرستقراطيين زعماء متحررين في الجمعية الوطنية-لافاييت، وميرابو الأب والإبن، والفيكونت دنواي، ودوق لارشفوكو-ليانكور ودوق أورليان(67).

وأخيراً جاءت الأندية ذات الطابع السياسي الواضح. وقد نظمت أول الأمر على غرار الأندية الإنجليزية-لتناول الطعام، والسمر، والقراءة-ثم أصبحت حوالي عام 1784 مراكز للدعوة شبه الثورة. قال معاصر إنهم في هذه الأندية "يبدون آراءهم بصوت عال ودون قيد في حقوق الإنسان، ومزايا الحرية، والشرور الكبرى الناجمة عن عدم المساواة في ظروف الحياة"(68). وبعد تجمع مجلس الطبقات كون المندوبون عن إقليم برنتي "نادي برتن"، ولم يلبث النادي أن وسع عضويته فشملت غير البرنتيين كميرابو الإبن، وسييس، وبروبسبير. وفي أكتوبر 1789 نقل مقره إلى باريس، وأصبح "جمعية اليعاقبة". وهكذا تضافرت عشرات القوى المتنوعة لأحداث الثورة الفرنسية، وهو ما يحدث في معظم الأحداث البالغة الأهمية في التاريخ. وكان من العوامل الأساسية نمو الطبقات الوسطى عدداً وتعليماً وطموحاً وثراء وسلطاناً اقتصادياً، ومطالبتها بوضع سياسي واجتماعي يتناسب وإسهامها في حياة الأمة ومالية الدولة، وخشيتها من أن تجعل الخزانة سنداتها الحكومية عديمة القيمة بإعلانها الإفلاس. ومما لحق بهذا العامل واستخدامه مساعداً ومهدداً فقر ملايين الفلاحين الذين يستصرخون طلباً للتخفيف من الرسوم والشرائب والعشور، ورخاء عدة ملايين من الفلاحين لهم من القوة ما يكفي لتحدي الإقطاعيين وجباة الضرائب والأساقفة وأفواج الجند، والسخط المنظم الذي استشعرته جماهير المدن التي عانت من التلاعب في إمدادات الخبز، ومن تخلف الأجور عن الأسعار في التصاعد التاريخي للتضخم.

أضف إلى هذا أشتاتاً متشابكة من العوامل المساعدة: إسراف البلاط المكلف، وعجز الحكومة وفسادها، وإضعاف الملكية نتيجة لصراعها الطويل مع البرلمانات وطبقة النبلاء، وانعدام المؤسسات السياسية التي يمكن عن طريقها التعبير عن المظالم على نحو قانوني وبناء، ومستويات الإدارة الرفيعة التي يتوقعها مواطنون شحذت عقولهم المدارس والكتب والصالونات والعلم والفلسفة وحركة التنوير أكثر من أي شعب من الشعوب المعاصرة. هذا فضلاً عن انهيار الرقابة على المطبوعات أيام لويس السادس عشر، وبث أفكار الإصلاح أو الأفكار الثورية على يد فولتير، وروسو، وديدرو، ودالامبير، ودولباخ وهلفتيوس، وموريلليه، وموريللي، ومابلي، ولنجيه، ميرابو الأب، وطورجو، وكوندورسيه، وبومارشيه، وميرابو الإبن، ومئات غير هؤلاء من الكتاب الذين لم يكن لهم قط نظير من قبل عدداً وألمعية وقوة، والذين تغلغلت دعوتهم في كل طبقة باستثناء طبقة الفلاحين-في ثكنات الجيش، وصوامع الرهبان، وقصور الأشراف، وحجرات الانتظار الملكية. يضاف إلى هذا كله ذلك التقلص المدمر الذي أصاب الإيمان في صدق كنيسة كانت قد ساندت الأوضاع الراهنة وحق الملوك الإلهي، وبشرت بفضائل الطاعة والاستسلام، وكدست قدراً هائلاً من الثروة المحسودة في الوقت الذي لا تستطيع الحكومة أن تعثر فيه على وسيلة لتمويل واجباتها المتسعة. ثن انتشار الإيمان بـ "قانون طبيعي" يتطلب عدالة إنسانية لكل عاقل دون نظر للمولد أو اللون أو العقيدة أو الطبقة، و بـ "حالة طبيعية" معطاءة كل الناس فيها متساوون، فضلاء أحرار، سقطوا منها نتيجة لنمو الملكية الخاصة، والحرب، والقانون الذي يزجه لخدمة الطبقة المميزة، أضف إلى هذا ظهور وتكاثر المحامين والخطباء المستعدين للدفاع عن الوضع الراهن أو مهاجمته، ولإثارة مشاعر الشعب وتنظيمها، وتكاثر كتاب النشرات وضراوتهم، والنشاط السري للأندية السياسية، وطموح الدوق أورليان إلى التربع على عرش فرنسا مكان ابن عمه. ثم أجمع هذه العوامل كلها معاً في حكم ملك لطيف خير ضعيف متردد حيره تشابك الصراعات من حوله، والدوافع المتضاربة في داخله، واتركها تفعل فعلها في شعب أشد وعياً بمظالمه، وأحر عاطفة وأقبل للإثارة وأخصب خيالاً من أي شعب آخر تقريباً وعاه التاريخ، ثم لا يلزم لضم هذه القوى وتأجيجها لتحدث انفجاراً ممزقاً إلا حادث يمس الجماهير، ويتغلغل تغلغلاً أعمق من الفكر في أقوى غرائز البشر. وربما كانت هذه هي وظيفة قحط عام 1788 ومجاعته، وشتاء 1788-89 القاسي. لقد تنبأ المركيز دجيريدان في 1781 بأن "الجوع وحده سيولد هذه الثورة الكبرى"(69). وقد وصل الجوع إلى الريف، وإلى لندن، وإلى باريس، وأنشب في الجماهير أظافره في ضراوة تكفي للتغلب على التقاليد، والاحترام، والخوف، ولتوفير مطية لتحقيق أهداف وأفكار رجال ينعمون بالغذاء الطيب. وهكذا تحطمت سدود القانون والعرف والتدين، واندلع لهيب الثورة.