قصة الحضارة - ول ديورانت - م 10 ك 7 ف 36

صفحة رقم : 14412

قصة الحضارة -> روسو والثورة -> انهيار فرنسا الإقطاعية -> عشية الثورة -> الدين والثورة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل السادس والثلاثون: عشية الثورة 1774-1789

الدين والثورة

كانت الكنيسة الكاثوليكية من الناحية المالية أسلم مؤسسة في البلاد، تملك نحو 6% من الأرض، وأملاكاً أخرى تقدر قيمتها في مجموعها بمبلغ يتفاوت بين بليوني جنيه وأربعة بلايين، وتغل دخلاً سنوياً قدره 120.000.000 جنيه(1). يضاف إلى هذا 123.000.000 جنيه من العشور التي تجبى على غلات الأرض وماشيتها(2). وكانت هذه الدخول في نظر الكنيسة لازمة لأداء مختلف وظائفها-وهي دعم الحياة الأسرية، وتنظيم التعليم (قبل 1762)، وتربية الأخلاق، وتأييد النظام الاجتماعي، وتوزيع الصدقات، ورعاية المرضى، وتوفير الأديرة ملاذاً للنفوس النزاعة للتامل أو العازفة عن السياسة يحميها من الفوضى الزحام واستبداد الدولة، وغرس مزيج حكيم من الخوف، والرجاء، والتسليم، في نفوس ضرب عليها الفقر أو المشقة أو الحزن نتيجة لعد المساواة الطبيعية بين البشر.

كل أولئك زعمت أنها تفعله بواسطة أكليروسها الذي كان قوامه نحو نصف في المائة من السكان. وكان عدد رجاله قد تقلص منذ عام 1779(3)، وأصاب الأديرة اضمحلال خطير. ويروون إن "رهبان كثيرون كانوا يحبذون الأفكار الجديدة، ويقرأون مؤلفات الفلاسفة"(4). وهجر مئات الرهبان حياة الرهبنة ولم يحل محلها جدد، وتقلص عددهم في فرنسا بين 1766 و1789 من 26.000 إلى 17.000، وفي أحد الأديرة من ثمانين إلى تسعة عشر، وفي آخر من خمسين إلى أربعة(5). وقد أغلق مرسوم ملكي صادر عام 1766 جميع الأديرة التي تضم أقل من تسعة نزلاء، ورفع السن المسموح بها لنذر الرهبنة من ست عشرة سنة إلى إحدى وعشرين سنة للرجال، وإلى ثماني عشرة للنساء. وكانت أخلاق الرهبان منحلة. كتب رئيس أساقفة تور في 1778: "أن الأخوة الرماديين (الفرنسسكان) في حالة انحطاط في هذا الإقليم، ويشكو الأساقفة من خلاعتهم وما في حياتهم من فوضى"(6). أما أديرة الراهبات فكانت في حالة طيبة. وكان هناك 37.000 راهبة يضمهن 1.500 دير في فرنسا عام 1774(7)، وكانت أخلاقهن فاضلة، وقد نشطن لمهامهن في تعليم الفتيات، والخدمة في المستشفيات، وتقديم المأوى للأرامل، والعوانس، والنساء اللائي تحطمن في معركة الحياة.

وحسن حال الأكليروس من غير الرهبان مادياً في مقار الأسقفيات وساء في الأبرشيات. وقد كان هناك الكثير من الأساقفة المخلصين المجتهدين، وبعض الكسالى المتشبثين بمتع الحياة الدنيا. وقد وجد بيرك أثناء زيارته لفرنسا عام 1773 بعض الأساقفة ممن يعيبهم الجشع، ولكن السواد الأعظم منهم وقعوا من نفسه خير الموقع بعلمهم ونزاهتهم(8). وقد خلص مؤرخ ألم بكتب الفصائح إلى هذا الحكم "يمكن القول بصفة عامة أن الرذائل التي استشرت في جسم الأكليروس كله خلال القرن السادس عشر قد اختفت في القرن الثامن عشر. وكان قساوسة الريف عادة رجالاً ذوي أخلاق كريمة، متقشفين، فضلاء(9)رغم قانون التبتل"، وقد شكا كهنة الأبرشيات هؤلاء من الكبرياء الطبقية في الأساقفة، كانوا كلهم نبلاء، ومن إلزامهم بتحويل الجزء الأكبر من العشور إلى الأسقف، وما ترتب على ذلك من فقر ألجأ القساوسة إلى أن يفلحوا الأرض كما يخدمون الكنيسة. وقد تأثر لويس السادس عشر من احتجاجاتهم، وأمر برفع رواتبهم من خمسمائة جنيه في العام إلى سبعمائة. فلما أقبلت الثورة أيد كثيرون من صغار الكهنة الطبقة الثالثة. كذلك ظاهر بعض الأساقفة الإصلاح السياسي والاقتصادي، ولكن أكثرهم ظل صلباً لا يلين في عدائه لأي تغييرات في الكنيسة أو الدولة(10).

وحين أشرفت خزانة فرنسا على الإفلاس ظهر ثراء الكنيسة مناقضاً لفقر الدولة تناقضاً مغرياً بالعدوان عليه، وبدأ أصحاب الصكوك الذين تشككوا في قدرة الحكومة على دفع فائدة قروضهم أو أصولها يرون في نزاع أكلاك الكنيسة السبيل الأوحد لإصلاح مالية البلاد. والتقى رفض العقيدة المسيحية المنتشر مع هذا الدافع الاقتصادية.

وزكا الإيمان الديني في القرى، وخبا في المدن؛ وفي المدن احتفظت نساء الطبقتين الوسطى والدنيا بتدينهن التقليدي. قالت مدام فيجيه-ليرون مسترجعة ذكرى ماضيها "كانت أمي تقية جداً. وكنت أنا أيضاً تقية في قرارة نفسي. وقد ألفنا دائماً أن نستمع إلى القداس المطول ونختلف إلى خدمات الكنيسة"(11). وكانت الكنائس تكتظ بالمصلين في الآحاد والأعياد الدينية(12). ولكن عدم الإيمان بين الرجال كان قد تسلط على نصف العقول القائدة. وفي أوساط النبلاء أصبحت الشكوكية المرحة زياً راج حتى بين النساء. كتب مرسييه في كتابه "صورة باريس" في 1783 يقول: "ولم يحضر أفراد المجتمع العصري القداس طوال السنوات العشر الماضية، فإذا حضروا فلكيلا يصدموا شعور أتباعهم الذين يعرفون أنهم يفعلون هذا إرضاء لهم"(13)، وحذا القطاع الأعلى من الطبقة الوسطى حذو الأرستقراطيين. أما في المدارس "فإن مدرسين كثيرين سرت إليهم عدوى الإلحاد بعد عام 1771"(14)، وأهمل كثير من الطلاب حضور القداس وقرأوا كتب الفلاسفة. وفي 1789 صرح الأب بونفاكس بأن "أخطر فضيحة، والفضيحة التي ستجر أوخم العواقب، هي الهجر التام تقريباً للتعليم الديني في المدارس العامة"(15). وقد قيل عن إحدى الكليات أن "ثلاثة من البلهاء فقط" هم الذين يؤمنون بالله(16). أما بين الأكليروس فقد اختلف الإيمان عكسياً باختلاف الدخول. فالأساقفة "قبلوا المبادئ النفعية التي قال بها جماعة الفلاسفة، واحتفظوا بالمسيح واجهة ساترة فقط"(17). وكان مئات من رؤساء الأديرة مثل مابليه، وكوندياك، وموريلليه، ورينال، هم أنفسهم "فلاسفة"، أو معتنقين للشكوك السارية. ثم أساقفة كتاليران لم يتظاهروا بالإيمان المسيحي إلا قليلاً؛ ورؤساء أساقفة مثل لومنيه دبريين، شكا لويس السادس عشر من عدم أيمانهم بالله(18). وقد رفض لويس أن يكلف قسيساً بتعليم ولده مخافة أن يفقد الغلام إيمانه الديني(19).

وواصلت الكنيسة مطالبتها بالرقابة على المطبوعات. ففي عام 1770 أرسل الأساقفة إلى الملك مذكرة تناولت "العواقب الخطيرة لحرية التفكير والنشر"(20). وكانت الحكومة في عهد لويس الخامس عشر قد تساهلت في تطبيق القوانين التي منعت دخول البروتستانتي إلى فرنسا، فكان منهم الآن مئات في المملكة، يحيون في ظل قيود سياسية، وفي زيجات لا تعترف بها لدولة، وفي خوف كل يوم من أن تطبق عليهم في أي لحظة قوانين لويس الرابع عشر القديمة. وفي يوليو 1775 التمس مؤتمر من رجال الدين الكاثوليك من الملك أن يحظر اجتماعات البروتستانت، وزيجاتهم، وتعليمهم، وأن يحرم البروتستانت من جميع المناصب العامة؛ كذلك طلب خفض السن التي يسمح فيها بنذر الرهبنة إلى السادسة عشرة(21). وناشد طورجو لويس السادس عشر أن يغفل هذه المقترحات، وأن يخفف إن البروتستانت قيودهم، فشارك الكهنة في الحملة لإقصائه. وفي 1781 أحرقت الطبعة الثانية من كتاب رينال "التاريخ الفلسفي لجزر الهند الشرقية والغربية" بأمر من برلمان باريس، ونفي المؤلف من فرنسا. وهاجمت السوربون بوفون لأنه وصف تطوراً طبيعياً للحياة. وفي 1785 طالب الأكليروس بالحكم بالسجن المؤبد على الأشخاص الذين يدانون ثلاث مرات بالإلحاد(22).

غير أن الكنيسة التي أوهن بأسها قرن من الهجمات لم تعد قادرة على الهيمنة على الرأي العام، ولا على الاعتماد على "الذراع العلمانية" في تنفيذ أوامرها. فبعد أن ظل لويس السادس عشر شديد القلق بسبب يمين التتويج التي اقسمها لمحق الهرطقة، أذعن لضغط الأفكار اللبرالية وأصدر في 1787 مرسوماً للتسامح أعده ماليرب: "أن عدالتنا لا تسمح لنا بأن نحرم بعد اليوم من حقوق الدولة المتحضرة رعايانا الذين لا يعترفون بالكاثوليكية"(23). وقد أبقى المرسوم على حرمان غير الكاثوليك من المناصب العامة، ولكنه أعطاهم جميع الحقوق المهنية الأخرى، وسمح لهم بالمهن الحرة، وأضفى الشرعية على زيجاتهم الماضية والمستقبلية، وأباح لهم الاحتفال بخدماتهم الدينية في لمنازل الخاصة. ويجب أن نضيف أن أسقفاً كاثوليكياً هو لالوزرن أيد بقوة تحرير البروتستانت وإطلاق الحرية الكاملة للعبادة الدينية"(24). ولم تكن هناك طبقة في مدن فرنسا أبغض إلى أقلية الذكور المتعلمة من الأكليروس الكاثوليك. يقول توكفيل أن الكنيسة كانت مكروهة "لا لأن القساوسة زعموا أنهم ينظمون شئون العالم الآخر، لا لأنهم كانوا ملاكاً للأرض، وأصحاب ضياع وعشور وحكاماً في هذا العالم"(25)وكتب فلاح إلى نكير في 1788 يقول: "إن الفقراء يقاسون البرد والجوع بينما يرتع كهنة الكاتدرائيات في رغد من العيش ولا يفكرون إلا في تسمين أنفسهم كأنهم خنازير ستذبح للفصح"(26). وغاظ الطبقات الوسطى إعفاء ثروة الكنيسة من الضرائب.

ولقد كانت معظم الثورات السابقة ثورات أما على الدولة وإما على الكنيسة، وندر أن نشبت ضدهما معاً في وقت واحد. فالقبائل الهمجية أطاحت بروما، ولكنها قبلت الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. والسوفسطائيون في اليونان القديمة ودعاة الإصلاح البروتستانتي في أوربا القرن السادس عشر، رفضوا الدين السائد، ولكنهم قبلوا الحكومة القائمة. أما الثورة الفرنسية فإنها هاجمت الملكية والكنيسة جميعاً، واضطلعت بمهمة ومخاطرة مزدوجة، هي مهمة الإطاحة بالركيزتين الدينية والدنيوية للنظام الاجتماعي القائم. فهل من عجب أن يركب فرنسا الجنون عقداً من الزمان؟


الحياة على شفا الثورة

أدرك الفلاسفة أنهم قد رفضوا الأسس اللاهوتية للأخلاق ملتزمون أدبياً بالعثور على أساس آخر، على نسق آخر يحمل الناس على السلوك الكريم بوصفهم مواطنين، وأزواجاً، وآباء، وأبناء(27). ولكنهم لم يكونوا إطلاقاً واثقين من إمكان السيطرة على هذا الحيوان البشري دون ناموس أخلاقي مكرس تكريساً فوق طبيعي. وانتهى فولتير وروسو إلى الاعتراف بالضرورة للأخلاق لإيمان ديني شعبي. وكتب مابليه إلى جون آدمز في 1783 في "ملاحظات على حكومة... الولايات المتحدة الأمريكية" عام 1783 منبهاً إلى أن عدم المبالاة بأمور الدين، مهما كان غير ضار بالأفراد المتتورين العقلانيين، إلا أنه وبيل على أخلاق الجماهير. ورأى أن على الحكومة أن تضبط وتوجه فكر هؤلاء "الأطفال" كما يفعل الآباء مع أبنائهم الصغار(28). أما ديدرو ففي النصف الثاني من حياته فكر ملياً في وضع أخلاقيات طبيعية، ثم اعترف بفشله: "بل أنني لم أجرؤ على أن أخط أول سطر.. ولست أخالني كفئاً لهذا العمل الجليل"(29). ولنسأل الآن أي ضرب من الأخلاق ساد فرنسا بعد أربعين عاماً حفلت بالهجمات على المعتقدات فوق الطبيعية؟ وفي جوابنا على هذا السؤال يجب ألا نصور النصف الأول من القرن الثامن عشر في صورة مثالية. ولقد قال فونتنيل قبيل موته في 1757 إنه يتمنى لو مد في أجله ستون سنة أخرى "لأرى النهاية التي تنتهي إليه الخيانة الزوجية المستشرية والخلاعة وتحلل جميع الروابط"(30). فإذا كانت تلك العبارة (التي لعلها لم تنصف الطبقتين الوسطى والدنيا) تعطي صورة صادقة لأخلاق الطبقة العليا في فرنسا قبل "الموسوعة" (1751)، فلن نكون محقين إذا عزونا إلى جماعة الفلاسفة العيوب التي شابت الأخلاق في النصف الثاني من القرن. ذلك أن عوامل أخرى غير اضمحلال الإيمان الديني كانت توهن قوة الناموس الأخلاقي القديم. فتكاثر الثروة مكن الناموس من الإنفاق على آثام كانت من قبل غالية التكاليف. وقد صور لنا رستيف دلابربتون بورجوازياً فاضلاً يتحسر على تدهور الخلق الفرنسي بانتقال السكان من القرى والمزارع إلى المدن(31)؛ وكان الشبان يهربون من النظام المفروض عليهم في الأسرة، والمزرعة، والناحية، إلى حياة المدن بما فيها من اتصالات وفرص مؤذية، واختفاء للشخصية بين حشود المدينة. وفي كتابه "ليالي باريس" وصف رستيف باريس الثمانينات كأنها درجور هائل عنيف يعج بالأحداث المنحرفين، وصغار اللصوص، ومحترفي الإجرام، والبغايا إناثاً وذكوراً. وذهب تين إلى أن فرنسا في 1756-88 ابتليت "بالمتشردين" والمتسولين، وبكل ضروب النفوس العنيدة... الكريهة، القذرة، الشرسة، المتوحشة، التي ولدها النظام؛ وقد تجمعت كالحشرات على كل قرحة اجتماعية"(32). وكانت حثالة الكائن الاجتماعي هذه نتائج الطبيعة البشرية وحكم البوربون، ولا يمكن أن تعزى إلى الفلسفة أو انطفاء شعلة الإيمان. وربما كان بعض القمار الذي ازدهر في باريس (كما في لندن) مرتبطاً بعد الإيمان، ولكن الجميع شاركوا فيه، أتقياء وعصاة على حد سواء. وفي 1776 ألغيت جميع ألوان اليانصيب الخاص لتدمج في "اليانصيب الملكي". ومع ذلك يجوز أن نعزو إلى حد معقول شطراً من الفوضى الجنسية في الطبقات العليا إلى الإلحاد. ففي كتاب شودرلو دلاكلو "العلاقات الغرامية الخطرة" (1782) نجد أشرافاً وهميين يتبادلون الملاحظات في فن الإغواء، ويضعون الخطط لفض بكارة فتاة في الخامسة عشرة بمجرد تركها الدير، ويعتنقون فلسفة العدمية الأخلاقية. وحجة البطل، الفيكونت فالمون، أن جميع الناس أشرار في رغباتهم على السواء، ولكن أكثرهم يخفقون في تحقيقها لأنهم يسمحون للتقاليد الأخلاقية أن تخوفهم. ويقول فالمون أن الرجل العاقل يسعى إلى اشباع أي أحاسيس تعده بأعظم لذة، ويحتقره كل النواهي الأخلاقية(33). ويحضرنا في هذا المقام أن بعض السوفسطائيين اليونان توصلوا إلى مثل هذه النتائج بعد أن نبذوا آلهتهم(34).

وفلسفة انعدام الحس الأخلاقي هذه، كما يعرف العالم كله الآن غلا فيها غلواً مقززاً الكونت دساد-الذي يسمى خطأ عادة بالمركيز دساد. وقد لود في باريس عام 1740، وخدم في الجيش اثنتي عشرة سنة، وقبض عليه وحكم عليه بالإعدام بتهم اللواط (1772)، ثم فر، وقبض عليه، وفر ثانية، وقبض عليه من جديد، ثم حكم عليه بالسجن في الباستيل. وهناك ألف عدة قصص وتمثيليات، فيها من الفحش والبذاءة ما أتسع خياله: وأهمها "جوستين" (1791)، و"قصة جولييت، أو ازدهار الرذيلة" (1792). وهو يزعم أنه ما دام أفله غير موجود، فإن العاقل من سعى إلى إشباع كل رغبة ما استطاع دون أن يجر عليه عقوبة أرضية. وكل الرغبات خيرة على السواء، وكل الفوارق الأخلاقية أوهام؛ والعلاقات الجنسية الشاذة مشروعة؛ وهي ليست في حقيقتها شاذة؛ والجريمة ممتعة لو تجنبت افتضاح أمرك؛ وقل أن تجد شيئاً ألذ من ضربك فتاة جميلة. ولم يصدم القراء بانعدام الحس الأخلاقي عند دساد كما صدموا بإلماعه إلى أن القضاء المبرم على النوع الإنساني لن يصيب الكون بأي أذى يذكر حتى أنه "لن يقف مسيره أكثر مما لو باد نوع الأرانب البرية أو البيئية كله"(35). وفي 1789 نقل دساد إلى مستشفى للأمراض العقلية في شارنتون، ثم أفرج عنه في 1790، وحكم عليه بالعودة في 1803 لاستعصاء شفائه، ومات في 1814. وقد يدفع الفلاسفة بأن هذا الانعدام للحس الأخلاقي هو استنتاج خلقي لنقدهم اللاهوت المسيحي، وأن العقل السليم يقر الالتزامات لأدبية سواء دان أو لم يدن بالإيمان الديني، وقد أقرها كثيرون. وكان بين سكان فرنسا-بل سكان باريس-الأسوياء في تلك السنين عناصر كثيرة للتجدد الأخلاقي: ازدياد رقة العاطفة والحنان، وانتصارات الحب الرومانسي على زيجات المصلحة، والأم الشابة ترضع طفلها بفخر، والزوج يتودد إلى زوجته، والأسرة ترد إلى سابق وحدتها باعتبارها أسلم منبع للنظام الاجتماعي. وكثيراً ما كانت هذه التطورات ممتزجة ببقايا من العقيدة المسيحية، أو بفلسفة روسو نصف المسيحية، ولكن ديدرو الملحد أيدها تأييداً حماسياً.

وقد أعقب موت لويس الخامس عشر انتقاض على إباحيته الجنسية. وضرب لويس السادس عشر المثل الطيب ببساطة لباسه وحياته، وبوفائه لزوجته، وبإدانته للقمار. وشاركت الملكة ذاتها في زي البساطة، وقادت حركة إحياء الحساسية ورقة العواطف. وجرت الأكاديمية الفرنسية على منح جائزة كل سنة للفضيلة البارزة(36). وكان أكثر الأدب مذهباً، ونحيت قصص كريبيون الابن جانباً، وقررت قصة برناردان دسن-بيير "بول وفرجيني" طابع الطهارة الخلقية في الحب. وعكس الفن الأخلاق الجديدة، ومجد جروز ومدام فيجيه-لبرون الأطفال والأمومة.

وغذت المسيحية والفلسفة معاً نزعة إنسانية بثت المئات من أعمال البر والخير. وفي شتاء 1784 القارس خصص لويس السادس عشر ثلاثة ملايين من الجنيهات لإغاثة الفقراء؛ وشاركت ماري أنطوانيت بمائتي ألف من جيبها الخاص، وحذا الكثيرون حذوها. وساعد الملك والملكة على تمويل مدرسة الصم والبكم التي أسسها الأبيه دليبيه في 1788 لتعليم أبجديته الجديدة التي ابتكرها للصم والبكم، ومدرسة الأطفال المكفوفين التي افتتحها فالنتان هاوي في 1784. وأسست مدام نكير (1778) ملجأ ومستشفى للفقراء، ظلت تشرف عليهما بشخصها عشرة أعوام. ووزعت الكنائس، وأديرة الرهبان والراهبات، الطعام والدواء. وفي هذا العهد تشكلت حملة لإلغاء الرق.

كذلك كانت آداب السلوك كالأخلاق انعكاساً لعصر روسو. فهي لم تبلغ قط في عهد ملوك البوربون هذا المبلغ من الديموقراطية. صحيح أن الفوارق الطبقية ظلت قائمة، ولكن خفف منها لطف أعظم ومجاملة أوسع. وكان الموهوبون من الرجال، الذين لا يحملون ألقاب شرف، يلقون الترحيب في أعرق البيوت محتداً. ومرة قفزت الملكة من مركبتها لتعين حوذياً جريحاً، ورفع الملك وأخوه الكونت دارتوا بكتفيهما العجلة ليساعدا عاملاً على تخليص عربته من الوحل. وأصبح اللباس أبسط: فاختفت البواريك، وتخلى السادة، إلا في البلاط، من مطرزاتهم، ومخرماتهم، وسيوفهم، بحيث كان من العسير في عام 1789 أن ينبئ المرء عن طبقة رجل من زيه. وحين استهوى فرانكلين فرنسا استسلم له حتى الخياطون؛ وظهر الناس في الشوارع "يلبسون على الطريقة الفرانكلينية قماشاً خشناً، وحذاء سميكاً"(37).

أما سيدات الطبقة البورجوازية فتزين في لباسهن تزين سيدات البلاط. وبعد 1780 نبذت النساء الطوق الحديدي الثقيل، ولكنهن حصن قوامهن بتنانير قاسية يلبسنها متراكبة كالأحجية الصينية المعقدة. وقصرت الصدارات من أمام، ولكن الصدر كان عادة يغطى بمنديل مثلث يسمونه (رباط)، وفي الإمكان تكثيف هذه المناديل لستر النهود الصغيرة، ومن ثم سماها الفرنسيون المناديل "الغشاشة" أو "الكاذبة"(38). وظلت تسريحات الشعر عالية، ولكن حين فقدت ماري أنطوانيت معظم شعرها أثناء حمل لها أحلت العقاص محل تسريحة "البرج"، وانتشرت هذه الموضة الجديدة من البلاط إلى باريس. وكان هناك مائتا طراز لقبعات النساء؛ وكان بعضها هياكل ضعيفة من السلك، والريش، والأشرطة، والأزهار، والخضر الاصطناعية، ولكن النساء اتبعن في أوقاتهن الأكثر دعة واسترخاء الطراز الذي ابتدعته الملكة في البتي اريانون، والذي يغطي الرأس بوشاح بسيط. وفي أعظم الثورات قاطبة لبس بعض النساء الأحذية الواطئة أو الإخفاف المريحة(39).

ورافق هذا التغيير إلى لباس أروح وأيسر أسلوب في العيش أصح. وأقبلت قلة متزايدة على "العيشة الطبيعية": فلا مشدات، ولا خدم، ومزيد من الحياة في الهواء الطلق، وهروب من المدن إلى الريف كلما أمكن. كتب آرثر ينج يقول "كل من يملك بيتاً في الريف يهرع إليه، ومن لا يملك يزور من يملك. والثورة التي قلبت آداب السلوك الفرنسية هي ولا ريب من أفضل الملامح التي أخذوها عن إنجلترا. وقد زاد ادخالها يسراً سحر مؤلفات روسو"(40). غير أن الكثير من هذا "الرجوع إلى الطبيعة" كان كلاماً أو عاطفة أكثر منه عملاً أو واقعاً، وظلت الحياة في باريس تجري في سباق مجنون مع الحفلات الموسيقية، والأوبرات، والتمثيليات، وسباقات الخيل، ورياضات الماء، وألعاب الورق، والرقص، والحفلات الراقصة، والدردشة، والصالونات.


الصالونات Salonniéres

جملت النساء الفرنسيات اضمحلال الإقطاعية لا بمفاتن أشخاصهن وأزيائهن فحسب، بل بقدرتهن التي لا تبارى على جعل المجتمع الفرنسي جزءاً حيوياً من الحياة الفكرية للأمة، لا مجرد اجتماعات للثرثرة والقيل والقال. كتب جبون بعد أن وصل في 1777 ما انقطع بينه وبين صالونات باريس يقول:

"لو أتيح ليوليانوس الآن أن يلم من جديد بعاصمة فرنسا (حيث ولد عام 331م). لاستطاع أن يتبادل الحديث مع علماء وعباقرة قادرين على فهم تلميذ من تلاميذ اليونان وعلى تعليمه، ولعله مغتفر تلك الحماقات اللطيفة التي تند عن أمة يوهن روحها الحربية قط حبها للترف، وهو لا بد مصفق لكمال ذلك الفن الرفيع الذي يرقق ويهذب ويجمل علاقات الحياة الاجتماعية"(41). ثم أضاف في إحدى رسائله "لقد بدا لي دائماً أن النساء في لوزان، كما في باريس، أرقى كثيراً من الرجال"(42).

وكانت قدامى الصالونيات يخيلن المسرح على كره. فمدام جوفران ماتت عام 1777 كما سبق القول. أما مدام دوفان فقد أوشكت أن تتم عبور القرن من أوله لآخره، فقد دخلت التاريخ بوصفها إحدى خليلات الوصي على العرش(43). وافتتحت صالوناً اتصل نشاطه من 1739 إلى 1780، وكانت قد خسرت معظم سباع الأدب، إذ ظفرت بهم جولي دلسبيناس والصالونات الجديدة، وقد وجد هوراس ولبول-الذي قدم إليها لأول مرة في 1765-تشكيلتها من الشيوخ الأرستقراطيين مملة لا تثير اهتمامه. "إنني أتناول عشائي هناك مرتين كل أسبوع، وأحتمل عشراءها المملين كلهم لأجل خاطر الوصي على العرش"(44)، وهو يعني ذكرياتها المرحة لفترة الوصاية الرائعة تلك التي قررت طابع المجتمع الفرنسي والأخلاق الفرنسية طوال الستين عاماً التالية. أما هي ذاتها (في عبارة هوراس) "فلذيذة (في الثامنة والستين)، تواقة لمعرفة ما يجري كل يوم توقي لما جرى في القرن الماضي".

وقد أعجب بفكرها إعجاباً مفرطاً-لأنه لم يلتق قط بمثل هذا الذكاء اللامع في نساء إنجلترا مازلن مقهورات مكبوتات-حتى لقد ألف أن يلم بها كل يوم، وقدم لها من التحية والإطراء ما بدا معيداً شبابها الذهبي. وأفردت هي له مقعداً خاصاً يحجز له دائماً، ووفرت له التدليل بكل لون من ألوان اهتمام المرأة ورعايتها. وإذ كان في طبيعتها بعض الذكورة، فإن رقته الأنوثية تقريباً لم تسوءها. واستطاعت وهي عاجزة عن رؤيته أن تشكل صورتها عنه كما يشتهيها قلبها ثم أحبت تلك الصورة. أما هو فلم يستطع قط وهو المبصر أن ينسى شيخوختها وعجزها البدني. وحين عاد إلى إنجلترا راحت تدبج له رسائل فيها من حرارة الحب ما يقرب مما في رسائل جولي دلسبيناس إلى جيبير، مكتوبة بأروع ما أبداه ذلك العصر من نثر. وقد حاولت ردوده على رسائلهاأن تكبح فرحتها، وكان يقشعر فرقاً إذا خطر له ما قد يفعله كتاب إنجلترا الهجاءون (مثل سلوين) بمثل هذه الأكلة المثيرة لشهية الهجاء. واحتملت لومه، وأكدت حبها من جديد، ووافقت على أن تسميه صداقة، ولكنها أكدت له ان الصداقة في فرنسا كثيراً ما تكون أعمق وأقوى من الحب. "أنني ملكك أكثر مني ملك نفسي... وددت لو استطعت أن أبعث إليك بروحي بدلاً من رسالة. وأني لأبذل السنين من عمري عن طيب خاطر لأضمن وجودي على قيد الحياة حين تعود إلى باريس "وقد شبهته بمونتيني "وهذا أسمى مديح في وسعي أن أخصك به، لأني لا أجد فكراً يعدل فكره إنصافاً ونصوعاً"(45).

ثم عاد إلى باريس في أغسطس 1767. وانتظرته في انفعال العذارى "أخيراً، أخيراً، لم يعد يفرقنا بحر. لا أستطيع أن أحمل نفسي على أن أصدق أن رجلاً له شأنك في الحياة، ويداه على عجلة حكومة عظمى، وإذن على عجلة أوربا، وفي وسعه.. أن يترك كل شيء ليحضر ويرى عرافة عجوزاً في ركن دير. أنه حقاً لأمر بالغ السخف، ولكنني مسحورة... فتعال يا معلمي! ليس هذا حلماً-فأنا أعلم ـإنني صاحية-سأراك اليوم!" وأرسلت مركبتها ليستقلها، فوافاها على الفور. وظل ستة أسابيع يطربها بحضوره ويحزنها بتحذيراته. فلما عاد إلى إنجلترا لم تستطع أن تفكر إلا في رجوعه إلى باريس، "ستجعل غروبي أجمل وأسعد كثيراً من ظهيرتي أو فجري. أن تلميذتك، المطيعة طاعة طفل، لا أمنية لها إلا أن تراك"(46).

وفي 30 مارس 1773 طلب إليها أن تكف عن الكتابة(47). ثم لانت قناته واستؤنفت الرسائل بينهما. وفي فبراير 1775 طلب إليها أن ترد إليه جميع رسائله، فامتثلت، مع إلماعة رقيقة إلى رغبتها في أن يرد إليها رسائلها "سيكون لديك ما يكفي لإنارة أحاسيسك الحارة مدى طويلاً أن أضفت إلى رسائلك كل الرسائل التي تلقيتها مني وسيكون هذا إنصافاً ولا ريب، ولكني أترك هذا الأمر لحكمتك"(48). ولم يبق من رسائله الثمانمائة إليها غير تسع عشرة، أما رسائلها فقد احتفظ بها كلها، ونشرت بعد موت ولبول. وحين سمع أن معاشها توقف عرض أن يعوضه من إيراده الخاص، ولكنها لم تر ضرورة لهذا. وقد زاد انهيار غرامها من قتامة ذلك التشاؤم الطبيعي لامرأة فقدت ألوان الحياة ولكنها عرفت أموالها الضحلة والعميقة. فقد استطاعت حتى في عامها، أن أتنفذ ببصيرتها خلال الظاهر الأنيق لتصل إلى أنانية البشر التي لا يدركها التعب. وقد سألت ولبول "يا معلمي المسكين، ألم تلق غير الوحوش، والتماسيح، والضباع؟ أما أنا فلا أرى غير الحمقى، والبله، والكذابين، والقوم الحاسدين، والغادرين أحياناً.. أن كل من أراه هنا يذبل روحي. فلست أجد في أحد فضيلة، ولا إخلاصاً، ولا بساطة"(49). ولم يبق لها غير إثارة من إيمان ديني يعزيها. ومع ذلك فقد واصلت حفلات عشائها، مرتين في الأسبوع عادة، وكثيراً ما كانت تتغذى خارج مسكنها، ولو هروباً من سأم أيام مظلمة كالليالي.

وأخيراً كفت عن التشبث بالحياة بعد أن تعلمت أن تكرهها، وراضت نفسها على تقبل الموت. وكانت الأمراض التي تبتلي بها الشيخوخة قد تفاقمت واصطلحت عليها، فشعرت وهي في الثالثة والثمانين بأنها أضعف من أن تقاومها. واستدعت كاهناً وأسلمت نفسها للأمل دون كبير إيمان. وفي أغسطس 1780 بعثت بآخر رسالة إلى ولبول تقول:

"إنني اليوم أسوأ حالاً... ولست أخال لهذه الحال معنى إلا النهاية. وليس في من القوة ما يكفي للإحساس بالخوف، وبما أنه قدر على ألا أراك مرة أخرى فليس لدي ما أسف عليه... فسل نفسك يا صديقي ما استطعت. ولا تبتئس لحالتي... وسوف تأسف علي، لأن المرء يطيب له أن يعرف أنه محبوب"(50).

وماتت في 23 سبتمبر تاركة لولبول أوراقها وكلبها.

وواصلت الكثيرات غيرها من الصالونيات هذا التقليد الجليل: السيدات دودتو، ودبينيه، ودني، ودجنليس، ولكسمبور، وكوندورسيه وبوفليه، وشوازيل، وجرامون، وبوهارنيه (زوجة عم لجوزفين)، يضاف إليهن جمعاً آخر صالونات ما قبل الثورة، وهو صالون مداد نكير العظيم. وقد بدأت حوالي 1770 حفلات استقبالها في الجمعة من كل أسبوع، ثم أضافت الثلاثاء بعد ذلك وفيه كانت الموسيقى هي الغالبة على الندوة؛ وهناك قسمت المدعوين للعشاء حرب جلوك-بلتثيني حزين، ثم وحدت بينهم الآنسة كليرون بتلاوتها فقرات من أحب أدوارها التمثيلية إليها. وفي الجمع كان رواد الصالون يلتقون بديدرو، ومارمونتيل، وموريليه، ودالامبير (بعد موت جولي)، وسان-لامبير، وجريم (بعد موت مدام دبينيه)، وجبون، وزينال، وبوفون، وجويبير، وجالياني، وببجال، وأنطوان توما صديق سوزان الأديب الأثير لديها. وفي أحد هذه الاجتماعات (أبريل 1770) طرقت فكرة إقامة تمثال لفولتير. هناك كان ديدرويكتت هرطقاته، وهناك كاد يصبح رجلاً مهذباً مصقولاً. وكتب إلى مدام نكير يقول "مما يؤسفني أن الحظ لم يواتني بمعرفتك في وقت أسبق، وإلا لكنت بلا ريب بعثت في إحساساً بالنقاء والرقة يسري من نفسي إلى كتبي"(51). ولم يبد غيره رأيهم فيها بمثل هذا الثناء. فمارمونتيل مثلاً، وهو الذي ظل صديقاً لها خمسة وعشرين عاماً، وصف سوزان في مذكراته بهذه العبارات: "لم تؤت شيئاً من مفاتن الشابات الفرنسيات لجهلها بآداب باريس وعادتها.. فلا ذوق في لباسها، ولا يسر في حركاتها، ولا سحر في أدبها، وكان ذهنها، كما كان تعبير وجهها، ثابتين ثباتاً مفرطاً بحيث أفتقد الخفة والرشاقة. وكان أكثر صفاتها جاذبية هي المجاملة، والإخلاص، ورقة الفؤاد"(52). ولم تحبها نساء الطبقة الأرستقراطية. مثال ذلك أن البارونة دوبركيرش التي زارت آل نكير مع الغراندوق بول في 1782 لم تر فيها "ببساطة أكثر من مربية"(53)، أما المركيزة دكريكي فقد مزقتها إرباً في صفحات مشحونة بالغل الظريف(54)، ولا بد أن مدام نكير أوتيت الكثير من الخصال الطيبة حتى ظفرت بحب جبون الدائم، ولكنها لم تتغلب تماماً على تراثها الكلفني إطلاقاً، فظلت متزمتة صارمة التدين رغم ثرائها، ولم تكتسب قط ذلك المرح الراقي الذي توقعه الرجال الفرنسيون من النساء.

وفي 1766 أنجبت الفتاة التي أصبحت فيما بعد مدام دستال. وقد غدت هذه الفتاة جرمين تكير-التي شبت وترعرعت بين الفلاسفة والحكام-عالمة وهي في العاشرة. وجعلها نبوغها المبكر مفخرة لأبويها إلى أن أرهق مزاجها العنيد العصبي أعصاب أمها. وقد أخضعت سوزان ابنتها لنظام صارم لأن الأم كانت تزداد غلواً في المحافظة كل يوم، فتمردت الفتاة، وأصبح الشقاق في هذا البيت الأنيق منافساً للفوضى الضاربة في مالية الدولة. وأضافت إلى تعاسة الأم تلك المصاعب التي لقيها نكير في محاولته تفادي إفلاس الحكومة رغم الحرب الأمريكية، وكرهها لكل نقد توجهه إليه الصحافة، حتى بدأت سوزان تحن إلى الحياة الهادئة التي كانت تحياها في سويسرا.

وفي 1786 تزوجت جرمين، واضطلعت ببعض واجبات المضيفة في صالون أمها. غير أن الصالون الفرنسي كان آخذاً في الاضمحلال فالنقاش الأدبي كان يخلي مكانه للسياسة المتحمسة المتحزبة. كتبت سوزان إلى صديقة في 1786 تقول "ليس عندي أنباء أدبية أسوقها إليك، فحديث الأدب لم يعد الآن موضة العصر، والأزمة بالغة الشدة، والناس لا يهتمون بلعب الشطرنج وهم على شفا جرف هار"(56). وفي 1790 انتقلت الأسرة إلى كوبيه، وهو قصر ريفي اشتراه نكير على سواحل بحيرة جنيف الشمالية. وهناك ملكت مدام دستال، وعانت مدام نكير سنوات من مرض عصبي أليم على حياتها في 1794.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الموسيقى

كتب موتسارت من باريس في أول مايو 1778: "من حيث الموسيقى أراني محاطاً بوحوش ضارية لا أكثر... سل أي شخص شئت-شريطة ألا يكون فرنسي المولد-فإذا كان له أي علم بالموضوع أجاب بهذا الجواب بالضبط.. سأكون شاكراً الإله القدير إذا هربت دون أن يفسد ذوقي"(56). وهذا الحكم صارم ولكن جريم وجولدوني وافقا عليه(57). إلا أن هؤلاء النقاد الثالثة كانوا كلهم أجانب. وقد عكس الذوق الموسيقي للباريسيين من علية القوم آدابهم، فمال إلى القصد في التعبير والرتابة في الشكل، وظل يردد أصداء عصر لويس الرابع عشر. ومع ذلك ففي هذه السنوات الأولى للحكم الجديد بالضبط فقد نصف الباريس قصدهم، وربما آدابهم، في وطيس المعركة الدائرة حول بكيني وجلوك. تأمل رسالة جولي ليسبيناس المؤرخة 22 سبتمبر 1774، "أنني أشاهد باستمرار "أورفي وأوريديتشي" وأنا تواقة إلى الاستماع مراراً وتكراراً في اليوم لذلك اللحن الذي يمزق نياط قلبي "لقد فقدت حبيبتي أوريديتشي"(58). أن باريس لم تكن صماء لا تستطيب الموسيقى، وإن زاد ما استوردته منها على ما أنتجته.

وفي 1751 قدم فرانسوا-جوزف جوسيك، البالغ سبعة عشر ربيعاً، من موطنه هاينو إلى باريس يحمل خطاب تقديم إلى رامو. وحصل له الفنان العجوز على وظيفة قائد للأوركسترا الخاص الذي يديره الكسندر-جوزف دلابويلنيير. وألف جوسيك لهذه "الفرقة" (1754 وما بعدها) سمفونيات سبقت سمفونية هيدن الأولى بخمس سنوات، وفي 1754 نشر رباعيات سبقت رباعية هيدن بسنة. وفي 1760 قدم في كنيسة سان روش "قداس الموتى" الذي استحدث فكرة العزف على آلات نفخ "التوبا" خارج الكنيسة. ولم يكن لإقدام جوسيك وتعدد مواهبه نهاية. ففي 1784 أسس "مدرسة الغناء الملكية"، التي أصبحت نواة كونسرفتوار باريس الموسيقي الذائع الصيت. وقد حقق نجاحاً متواضعاً في الأوبرا، الهازلة منها والجادة. ثم تكيف مع الثورة، وألف بعضاً من أشهر أغانيها، ومنها "ترنيمة للكائن الأعلى" لاحتفال روبسبيير (8 يونيو 1794). وعمر بعد انحسار جميع الموجات السياسية، ومات في 1829 بالغاً من العمر خمسة وثمانين عاماً.

أما أبرز شخصية في أوبرا ذلك العهد الفرنسية فهو أندريه جريتري. وكان أجنبياً ككثيرين غيره من أقطاب الموسيقى الفرنسية في القرن الثامن عشر، فقد ولد في لبيج عام 1741 لعازف كمان. ويروى أنه في ألو مرة تناول القربان طلب إلى الله أن يدعه يموت لتوه ما لم يكتب له أن يكون رجلاً صالحاً وموسيقياً عظيماً. في ذلك اليوم سقطت عارضة خشبية على رأسه وجرحته جرحاً خطيراً، ثم تماثل للشفاء، واستنتج أن السماء تعده بمستقبل سام(59). وكان منذ عامه السادس عشر يعاني دورياً من نزيف داخلي، يتقيأ فيه ستة أقداح من الدم في اليوم، وكان عرضة للإصابة بالحمى وبالهذيان ينتابه بين الحين والحين، وكاد أحياناً يجن لعجزه عن وقف نغمة موسيقية من التردد في رأسه دون توقف. ولعلنا نغتفر حتى الموسيقى الرديئة لرجل لقي كل هذا العذاب واحتفظ رغم ذلك بابتهاجه طوال اثنتين وسبعين سنة.

وحين كان في السابعة عشرة ألف ست سموفنيات كانت من الجودة بحيث حصلت له من كاهن إحدى الكاتدرائيات على المال اللازم لسفره إلى روما. وقطع الطريق كله على قدميه فيما روته "المذكرات" الجذابة التي نشرها عام 1797(60)، وخلال الأعوام الثمانية التي أقام فيها بروما حمله نجاح برجوليزي على تأليف الأوبرات الهازلة. فلما جاء باريس (1767) لقي التشجيع من ديدرو، وجريم وروسو. ودرس فن الآنسة كليرون المسرحي، واكتسب مهارة غير عادية في مواءمة موسيقاه لنبرات الحديث الدرامي وتغيراته، وحقق في أوبراته رقة ونعومة غنائيين كأنهما انعكاس لروح روسو، وللعودة إلى البساطة ورقة العاطفة في الحياة الفرنسية. وظل محتفظاً بشعبيته طوال الثورة، التي أمرت بنشر مؤلفاته على نفقة الحكومة، وكانت الجموع الثورية تتغنى بألحان من أوبراته. وقد منحه نابليون معاشاً. وقد أحبه الجميع لأن حظه من وصمات العبقرية كان ضئيلاً؛ فهو رقيق القلب، ودود، أنيس، متواضع، يذكر منافسيه بالخير، ويؤدي ديونه. وقد أحب روسو مع أن روسو أساء إليه، واشترى الإرميتاج في شيخوخته، وهو الكوخ الذي أقام فيه روسو من قبل. في ذلك الكوخ، في 24 سبتمبر 1813، بينما كان نابليون يحارب أوربا كلها، مات جريتري.


الفن في عصر لويس السادس عشر

واصل "طراز لويس السادس عشر"، الذي بدأ تقريباً مع مولد لويس السادس عشر (1754)، انتقاضه على شذوذات الباروك المعقدة ورقائق الروكوك الأنثوية، وتحرك صوب الخطوط الرجولية والنسب السمترية لفن كلاسيكي محدث ألهمته حفائر هركولانيوم وحماسة فنكلمان للفن اليوناني-الروماني. وأشهر مثال على الطراز الجديد في العمارة هوا لبتي تريانو، ومن الطريف المسلي أن تتفق مدام دوباري وماري أنطوانيت، على ما بينهما من عزوف عن المخالطة، في الاستمتاع بهذا التقدير المتواضع للنظام والبساطة الكلاسيكيتين. ومثال جميل آخر هو "قصر اللجيون دونور" الحالي، والذي بناه باسم "الأوتيل سالم" (1782) بيير روسو على ضفة السين اليسرى. وهناك نتاج أضخم لهذا الطراز هو "قصر العدالة" الذي أعيد بناؤه في 1776؛ بمصبعاته الفاخرة من الحديد المشغول في واجهة "الكوردمية". أما "مسرح الأوديون القومي" (1779) فقد اتخذ نمطاً دورياً قاتماً؛ وألطف منه المسرح الذي شاده في أميان (1778) جاك روسو بطراز جمع بين الطراز الكلاسيكي وطراز النهضة. وقد بنى فكتور لوي في بوردو (1775) على النمط الكلاسيكي مسرحاً ضخماً وصفه آرثر ينج بأنه "إلى حد كبير أفخم مسرح في فرنسا، ولم أر مسرحاً يدانيه"(61). أما الزخرف الداخلي فقط احتفظ بالأناقة الفرنسية. وكان زي النسيج المزدان بالرسوم في طريقه إلى الزوال إلا لتغطية الكراسي ذات الذراعين والأرائك؛ وكان ورق الجدران المرسوم يصل من الصين، ولكنه استعمل أساساً في المخادع، وقسمت جدران الصالونات عادة إلى حشوات من الخشب المشغول، والمنقوش أو المزين بأشكال أو زخارف نباتية عربية تضارع خير نظائرها في إيطاليا. وأبدع الأثاث المصنوع في فرنسا في عهد لويس السادس عشر صممه ونفذه ألمانيان هما جان-هنري رينزنر ودافيد رونتجن؛ وتحوي مجموعة ولسن نماذج رائعة صنعت لماري أنطوانيت والبتي تريانون. وازدهر فن النحت، وامتد العمر ببيجال، وفالكونيه، وجان-جاك كافييري من أيام لويس الخامس. أما أوجستن باجو، الذي كان قد بدأ العمل في ذلك العهد، فقد نال الآن ما يستجقه من تقدير. وقام بتكليف من لويس السادس عشر بنقش الزخارف للباليه-رويال. وللباليه-بوربون. وفي تمثاله "هجران بسيخي"(62)حاول التوفيق بين عنصرين في العهد الجديد-العاطفة الرقيقة والشكل الكلاسيكي. ثم نقل فنه-وزوج ابنته-لكلوديون، واسمه الحقيقي كلود ميشيل. وقد شق كلوديون طريقاً إلى الثراء بمجموعات من التيرا-كوتا (الطين التضيح) فيه شائبة من الشهوانية، وبلغ أوجه بتمثال لمونتسكيو(63). وكل نشوة الجسد تغني في تمثاله "الحورية والساطير" المحفوظ بمتحف المتروبولتان للفنون في نيويورك. على أن أعظم نحاتي العصر هو جان-أنطوان أودون. وكان أبوه بواباً، ولكن في مدرسة للفن. وإذا كانت فرساي مسقط رأس جان، فقد تنفس النحت من التماثيل التي بثها لويس الرابع عشر في حدائق لنوتر. وبعد أن درس على بيجال فاز بجائزة روما وهو في العشرين، فانطلق إلى إيطاليا (1760). وقد اغتبط البا كلمنت الرابع عشر بتمثال "القديس برونو" الذي نحته في روما اغتباطاً شديداً فعلق عليه بقوله "إن القديس يود أن ينطق لولا أن قواعد رهبنته تفرض الصمت"(64). وفي باريس نحت أو صب سلسلة متعاقبة من تماثيل ديانا. وتمثال برونزي منها في مجموعة هنتنجتن يعد آية في القسمات الكلاسيكية والرشاقة الفرنسية. وأشهر منه تمثال "ديانا العارية" "البرونزي المحفوظ الآن باللوفر، وقد ضن عليه بمكان في "صالون" 1785، ربما (كما قال ناقد) "لأنها كانت أكثر جمالاً وعرياً من أن تعرض على الجماهير"(65)، وأرجح من هذا السبب أن التمثال انتهك الفكرة التقليدية عن ديانا التي تصفها بالعفة.

وقد وجد أودون ككثيرين غيره من فناني القرن الثامن عشر في تصوير معاصريه ربحاً يفوق تصوير الربات اللائي لا تنتهك حرماتهن. على أنه قرر أن يكون منصفاً للحقائق وأن يظهر الشخصية لا الوجه. وكان ينفق ساعات كثيرة في حجرات التشريح بمدارس الطب لدراسة التشريح، وكان يقيس رأس من يصوره بعناية كلما استطاع، ثم ينحت تمثاله أو يصبه وفق هذه المقاييس، وحين أثير سؤال عن جثة نبشت في باريس وهل هي حقيقة جثة جون بول جونز كما قيل، قورن شكل الجمجمة ومقاييسها بشكل الصورة التي صبها أودون في 1781 ومقاييسها، وبلغ من توافق الشكلين أن عد التطابق مؤكداً(66). وقد نحت من رخام التمثال الذي صنعه لميرابو كل غارات الجدري، وأبرز كل الظلال والتجاعيد، بل توقد العينين وعمقها، والشفتين تنفرجان استعداداً للكلام. وسرعان ما أسعد الجبابرة الثورة أن يجلسوا إليه ليصنع تماثيلهم، فنقلهم إلينا بأمانة أحالت الرخام والبرونز إلى لحم التاريخ وروحه. وهكذا نستطيع الآن أن نرى فولتير، وروسو، وديدرو، ودالامبير، وبوفون، وطورجو، ولويس السادس عشر، وكاترين الثانية، وكاليوسترو، ولافاييت، ونابليون، وناي. وحين قدم فولتير إلى باريس عام 1778 صنع له أودون عدة تماثيل تصوره: منها تمثال نصفي برونزي محفوظ الآن في اللوفر، ويبدو فيه الإرهاق والكلال، وتمثال نصفي شبيه به في متحف فكتوريا وألبرت، وآخر في مجموعة ولس، ثم رأس مبتسم مهذب مثالي الشكل طلبه فردريك الأكبر، وأشهر الكل ذلك التمثال الذي قدمته مدام دني إلى الكوميدي-فرانسيز: تمثال فولتير جالساً في روب فضفاض، أصابع نحيلة تمسك بذراعي المقعد، وشفاه رقيقة، وفم أهتم، وفي العينين الحزينتين ما زالت آثاره من مرح-أنه واحد من التماثيل العظيمة في تاريخ الفن. وفي ذلك العام، حين سمع أودون بوفاة روسو، هرع إلى أرمنون-فيل وصب قناعاً لغريم فولتير الميت، ومنه صنع التمثال النصفي المحفوظ الآن باللوفر، وهو أيضاً آية من آيات الفن.

وكان هناك أبطال أمريكيون أيضاً، وقد صنع أودون رءوساً تمثلهم نابضة بالحياة حتى أن قطع العملة المسكوكة في الولايات المتحدة ما زالت تحمل صورة لواشنطن، وفرانكلين، وجفرسن. وحين عاد فرانكلين إلى أمريكا عام 1785 ذهب أودون معه؛ وأسرع إلى مونت فرنون وأقنع واشنطن، الرجل المشغول النافذ الصبر، بأن يجلس إليه في فترات متقطعة على مدى أسبوعين، وهكذا صنع التمثال الذي يزدان به مبنى برلمان الدولة في رتشموند بفرجينيا-رجل من الجرانيت، تجلله انتصارات غالية وأعباء باقية. هنا أيضاً نجد ذلك الاتحاد بين الجسد والروح الذي هو علامة فن أودون وخاتمه. مثل هذا النحت كان من الجائز أن يجعل التصوير بالقياس إليه ترفاً صغيراً لولا أو حروز وفراجونار واصلا العمل هذا العهد وخلال الثورة، لولا أن المصور جاك-لوي دافيد صعد إلى مقام الدكتاتورية على جميع الفنون في فرنسا في انطلاقة نيزكيه كانطلاقة نابليون. وقد تعلم تقنيته من عمه البعيد فرانسوا بوشيه، وأصبح رساماً من الطراز الأول، وأستاذاً أتقن الخط والتأليف أكثر من إتقانه اللون. وقد أدرك بوشيه أن تغير الأخلاق من بومبادور ودوباري إلى ماري أنطوانيت كان يقلص الطلب على الصور التي تبرز النهود والأرداف، ف نصح دافيد بأن يذهب ويلتقط الأسلوب الكلاسيكي المحدث البسيط في مرسم جوزف فيان، الذي كان يرسم الجند الرومان والنساء الأبطال. وفي 1775 وافق دافيد فيان إلى روما. وهناك أحس بتأثير فنكلمان ومنجز، والمنحوتات القديمة في متحف الفاتيكان، والأطلال التي كشف عنها في هركولانبوم وبومبي. وقد قبل مبادئ الكلاسيكية المحدثة، واتخذ النحت اليوناني نموذجاً يحتذيه في تصويره.

فلما قفل إلى باريس عرض سلسلة من الموضوعات الكلاسيكية المرسومة بصرامة: أندروماك تبكي على جثمان هكتور (1783)، وقسم الهوارتيين (1785)، وموت سقراط (1787)، وبروتس عائداً من الحكم بالموت على أنبائه (1789)(67). (وتقول الأسطورة التي رواها ليفي أن لوشياس جونيوس بروتس، حين كان بريتوراً لجمهورية روما الفتية (509 ق.م)، حكم على أبنائه بالإعدام لتآمرهم على إعادة الملوك إلى عرش روما)، وكان دافيد قد رسم هذه الصرة الأخيرة في روما، فلما عرضها على الأكاديمية في باريس حظر عرضها، ولكن جمهور الفن احتج، وأخيراً عرضت اللوحة، فزادت من حمى العصر الثورية. ورأت باريس في هذه الرسوم، وفي الأخلاقيات الصارمة التي عبرت عنها، ثورة مزدوجة-على الروكوك الأرستقراطية والطغيان الملكي. وأصبح دافيد البطل الراديكالي لأستوديوهات باريس.

وقد أنتخب أثناء الثورة عضواً في المؤتمر، وفي يناير 1793 صوت بالموافق على إعدام الملك. ثم قتل أحد المتشيعين للملكية عضواً آخر من نواب المؤتمر صوت بالموافقة مثل دافيد (20 يناير 1793)، فعرض جثمانه على الجماهير شهيداً جمهورياً، ورسم دافيد "آخر لحظات لبوليتييه". وعلق المؤتمر اللوحة في قاعته. وحين قتلت شارلوت كورداي مارا (13 يوليو 1793) صور جافيد الميت راقداً في حمامه نصف مغمور في الماء، وندر أن كان التصوير ممعناً في تصويره للواقع إلى هذا الحد، أو في تعمده إثارة المشاعر. وقد أرست اللوحتان سجل شهداء الثورة. وعمل دافيد بحماسة لدانتون وروبسبير، ومكافأة له عين مديراً لجميع ضروب الفن في باريس.

فلما أن تقلد نابليون زمام السلطة بلقب "القنصل" الروماني، رسم دافيد له بالذات الحماسة التي رسم بها لزعماء الإرهاب. فرأى في بونابرت ابن الثورة، الذي يقاتل ليمنع ملوك أوربا من رد ملك نظيرهم إلى عرش فرنسا. وحين نصب نابليون نفس إمبراطوراً (1804) لم يفتر إعجاب دافيد به، وعينه نابليون مصوراً للبلاط الإمبراطوري فرسم له المصور عدة صور مشهورة: نابليون يعبر الألب؛ نابليون يتوج جوزفين؛ وتوزيع النسور؛ وقد علقت هذه اللوحات الضخمة بعد ذلك على جدران حجرات قصر فرساي. وأظهر دافيد أثناء ذلك تعدد مواهبه بلوحتين رائعتين رسم فيهما مدام ريكامييه والبابا بيوس السادس(68). فلما رد آل بوربون نفي دافيد باعتباره من قتلة الملك، فاعتكف في بروكسل، حيث وافته زوجته لتشاركه منفاه (وكانت قد هجرته في 1791 لتحمسه للثورة). وعاد الآن إلى المواضيع الكلاسيكية، وإلى أسلوب التصوير النحتي الذي حبذه منجز.

وفي 1825 أختتم وهو في السابعة والسبعين حياة من أروع ما عرف تاريخ الفن.

ومن لوحاته لوحة تصور مدام فيجيه-لبرون، التي رفضت الثورة وآثرت الملوك والملكات. وقد نشرت وهو تدنو من عامها السابع والثمانين (1755-1842) مذكرات تروي وصفاً لطيفاً لشبابها، وتذكر قصة محزنة لزواجها، ويوميات برحلتها الفنية الطويلة، وصورة لامرأة فاضلة يصدمها عنف التاريخ. وقد مات أبوها وهي في الثالثة عشرة، وكان مصور أشخاص، ولم يترك لها مالاً، ولكن إليزابث كانت تلميذة شديدة الذكاء، فاستطاعت وهي بعد في السادسة عشرة أن تكسب دخلاً طيباً من صورها. وفي 1776 تزوجت مصوراً آخر اسمه بيير البرون، وكان ابن أخ بعيد لشارل لبرون الذي كان مدير الفنون للويس الرابع عشر. وبدد زوجها ثروتها وثروته (كما تقول) "بشغفه الجامح بالنساء السيئات الخلق، وبولعه بالقمار"(69). وقد ولدت له ابنة، ثم هجرته بعد ذلك بقليل.

وفي 1779 رسمت صورة لماري أنطوانيت، التي بلغ إعجابها بها أن جلست لها لترسمها في عشرين لوحة. وتوثقت الصداقة بين المرأتين فكانتا تشتركان في غناء الألحان الرقيقة التي كان جريتري يستدر بها العبرات من عيون باريس. وقد فتح كل الأبواب أمام المصورة الجذابة هذا العطف الملكي وما تميز بها عملها من أناقة مهذبة، وما لبثت كل سيدة ثرية أن اشتاقت للجلوس إليها لتصويرها. وكانت تتقاضى أتعاباً يسر لها ارتفاعها الاحتفاظ بشقة غالية وصالون يختلف إليه خيرة موسيقيي باريس. وقد ذهبت ثلاث مرات لتصور مدام دوباري في لوفسيين رغم صداقتهما للملكة. وفي المرة الثالثة (14 يوليو 1789) سمعت قصف المدافع في باريس. فعادت إلى المدينة لتجد أن الباستيل سقط، وأن جماهير الغوغاء الظافرة تحمل الرءوس النبيلة على أسنة الرماح الملطخة بالدماء. وفي 5 أكتوبر بينما كان حشد آخر من الغوغاء يسير صوب فرساي ليأسر الملك والملكة، جمعت ما استطاعت جمعه من متاعها وبدأت ثلاثة عشر عاماً من النفي الاختياري. وقد رسمت في روما لوحتها المعروفة التي تصورها وتصور ابنتها(70). وفي نابلي رسمت الليدي هاملتن في صورة باخوسية(71). ورسمت في فيينا، وبرلين، وسانت بطرسبرج، وحين أنهت الثورة شوطها قفلت إلى فرنسا (1802). وهناك عمرت أربعين سنة أخرى بعد أن انتصرت على غير الدهر كلها، وأحسنت صنعاً بموتها قبل أن تندلع الثورة من جديد.


الأدب

أنجب الأدب الفرنسي في الحقبة القصيرة الواقعة بين 1774، 1789 بعض الآثار المذكورة التي مازالت تجد القراء وتحرك العقول: منها "الحكم" لشامفور، وبول وفرجيني لبرناردان دسان-بيير، والعلاقات الغرامية الخطرة لشودرلو دلاكلو (التي تكلمنا عنها بما فيه الكفاية)، ومجلدات رستيف دلابريتون الكاشفة على مل فيها من فوضى. تلك كانت جزراً انبعثت من بحر أدبي يموج بالمدارس والمكتبات، ومجموعات القراء، والمحاضرات، والصحف، والمجلات، والنشرات، والكتب، فيض من المداد فيه الزبد وفيه الخمير لم يعرف العالم له نظيراً من قبل. ولم يكن يلم بالقراءة من الشعب الفرنسي غير قلة قليلة(72)، ومع ذلك كان الملايين منهم متعطشين للمعرفة جياشين بالأفكار. واتسع الطلب على الموسوعات، وخلاصات العلم الوافية، وملخصات المعرفة، وكان جماعة الفلاسفة والمصلحون يعلقون الآمال العراض على نشر التعليم. وكان أكثر التعليم لا يزال في أيدي رجال الدين رغم إقصاء اليسوعيين وإشراف الدولة على المدارس. أما الجامعات المتصلة في تقاليدها الدينية والسياسية فكانت قد تبلدت وساءت سمعتها، وكانت في نهاية القرن بادئة لتوها في الالتفاف إلى العلوم. غير أن المحاضرات العامة في العلم كانت تجد رواداً حريصين عليها، وكانت المدارس التقنية في ازدياد. وكان كل تلاميذ الكليات تقريباً من الطبقة الوسطى، أما شباب النبلاء فآثروا إحدى الأكاديميات الحربية الأثنتي عشرة التي أنشأها سان-جرمان عام 1776 أو بعده (وفي واحدة منها-بمدينة بريين-كان نابليون بونابرت يتلقى دروسه). ويروون أن طلبة الكليات "كثيراً ما ألفوا التنظيمات لتأييد المظاهرات السياسية"(73)، ولما كان عدد خريجي الكليات في تلك الفترة يجاوز طاقة الاقتصاد الفرنسي على استخدامهم، فقد بات الخريجون العاطلون مصدراً للسخط والتذمر، وألف هؤلاء الرجال نشرات أججت نيران الثورة. وكان للأغنياء مكتبات خاصة في مقار تحسد عليها، تضم كتباً تجلد تجليداً فاخراً وتقرأ أحياناً. أما أفراد الطبقتين الوسطى والدنيا فكانوا ينتفعون بالمكتبات المتنقلة، او يشترون كتبهم-وكلها تقريباً ورقية الغلاف-من الأكشاك أو الحوانيت. وفي 1774 قدر المبيع من الكتب في باريس بأربعة أمثال المبيع في لندن الآهلة بعدد أكثر كثيراً من السكان(74)، وذكر رستيف دلابريتون أن القراءة قد جعلت عمال باريس "عنيدين"(75). أما الصحف فكانت تنمو عدداً وحجماً وتأثيراً. وكانت صحيفة "الجازيت دفرانس" القديمة، التي أنشئت في 1631، لا تزال الأداة الرسمية-وغير الموثوق بها-في نقل الأنباء السياسية. وكانت صحيفة "المركيز دفرانس" التي بدأت في 1672 باسم "المركيز جالان" توزع في 1790 ثلاثة عشر ألف نسخة، وهو توزيع كان يعد ممتازاً؛ وقد وصفها ميرابو بأنها أكفأ الصحف الفرنسية(76). وفي 1777 صدرت "الجورنال دباري"-وهي أول الصحف اليومية الفرنسية، أما صحيفة "المونيتور" الأوسع شهرة فلم تصدر إلا في 24 نوفمبر 1789. وكان هناك الكثير من الصحف الإقليمية، مثل "الكوربيه دبروفانس" التي كان يحررها ميرابو الابن.

وكانت النشرات أو الكراريس فيضاناً غامراً اكتسح في النهاية كل شيء أمامه. ففي الشهور الأخيرة من عام 1788 صدر منها نحو 2.500 في فرنسا(77).

وكان لبعضها تأثير تاريخي، مثل كراسة الأبيه سبيس "ما الطبقة الثالثة" أو كراسة كامي دمولان "فرنسا الحرة". حتى إذا جاء يوليو من عام 1789 وجدنا الصحافة أعظم قوة في فرنسا. وقد وصفها نكير في 1784 بأنها "قوة غير مرئية تملي أوامرها على المدن والمحاكم على السواء، وحتى في قصور الملوك، رغم أنها بلا مال، وبلا سلاح، وبلا جيش"(78). ولعبت الأغاني دوراً في الدعوة والتحريض، وقد وصف شامفور الحكومة بأنها ملكية مقيدة بالأغاني الشعبية(79).

وطوى تيار الثورة شامفور نفسه فانتقل من كونه "شخصاً مرضياً عنه" في البلاط إلى المشاركة في اقتحام الباستيل. وقد ولد لبدال ريفي (1741)، وقدم إلى باريس وكسب قوته بالحيلة والظرف. وكانت النساء يسكنه ويطعمنه لا لشيء إلا للاستمتاع بإثارة حديثه، وقد كتب عدة مسرحيات، أبهجت إحداها ماري أنطوانيت كثيراً فأقنعت الملك بأن يمنحه معاشاً قدره ألف ومائتا جنيه. وعين سكرتيراً لأخت للويس السادس عشر، وتلقى راتباً إضافياً قدره ألفا جنيه في العام. وبدا أن كل شيء يربطه بالقضية الملكية، ولكن في 1783 التقى بميرابو، فما لبث أن انقلب لاذعاً للحكومة. وهو الذي اقترح على سبيس العنوان اللافت الذي وضعه على كراسته الشهيرة.

وفي هذه الأثناء، وبوحي من لارشفكوكو، وفوفنارج، وفولتير، دون بإيجاز وعلى عجلة "حكماً" أفصحت عن نظرته الساخرة إلى العالم. وقد قالت مدام هلفتيوس التي ظلت تستضيفه في بيتها بسيفر طوال سنين أربع "كلما جرى حديث بيني وبين شامفور في الصباح، كان الحزن يغمرني بقية اليوم"(80). وقد رأى الحياة خدمة ينخدع بها الأمل "أن الأمل دجال لا يفتأ، يحتال علينا، أما أنا فإن سعادتي لم تبدأ إلا يوم طلقت الأمل"(81). "لو أن الحقائق القاسية، والاكتشافات المحزنة، وأسرار المجتمع-التي تتألف منها معرفة رجل الدنيا الذي بلغ الأربعين-عرفها هذا الإنسان نفسه وهو في العشرين، لأصابه اليأس، أو لبات إنساناً فاسداً عن عمد"(82).

وقد سخر شامفور من العقل، وهو الذي جاء في ختام عصر العقل، ورأى فيه سيداً على العاطفة أقل منه أداة للشر. "أن الإنسان في حالة المجتمع الراهنة يبدو أكثر فساداً بسبب عقله منه بسبب عواطفه المشبوبة"(83). أما عن النساء "فمهما بلغ سوء أي رأي الرجل فيهن، فما من امرأة لا يسوء رأيها فيهن على رأيه"(84). والزواج فخ، "أن الزواج والعزوبة كليهما مجلبة للعناء: وينبغي أن نفضل منهما ما ليست متاعبه بغير دواء"(85). "أن النساء لا يمنحن للصداقة إلا ما يقترضنه من الحب"(86). و "الحب الذي يوجد في المجتمع ليس إلا تبادل أوهام واحتكاك بشرتين"(87). فلما خرج شامفور من القصور والبيوت الفاخرة إلى شوارع باريس اشتد تشاؤمه. "باريس، مدينة اللهو واللذة، حيث يموت أربعة أخماس الناس حزناً... المكان الذي تفوح نتنه وليس فيه إنسان ينبض قلبه بالحب"(88). والعلاج الوحيد لهذه الأحياء الفقيرة هو العقم. "من سوء حظ النوع الإنساني، وحسن حظ الطغاة، أن الفقراء والتعساء لا يملكون غريزة الكبرياء التي يملكها الفيل، فهو لا يتوالد وهو أسير"...(89). وكان أحياناً يسترسل في الحلم بمثل أعلى "من الضروري الجمع بين النقائض: حب الفضيلة دون اكتراث للرأي العام، والميل للعمل دون اكتراث للشهرة، وحب المرء لصحته دون اكتراث للحياة"(90). وقد خطر له في بضع سنين أن يضفي على الحياة معنى بتكريس نفسه للثورة، ولكن خمس سنين من التعامل مع ميرابو، ودانتون، ومارا، وروبسبيير، أحيت يأسه من جديد وبدا له يومها أن شعار الثورة "الحرية، والمساواة، والإخاء" أصبح معناه "كن أخي وإلا قتلتك"(91). واختار الانضمام إلى صفوف الجبروند، وراح يسوط الزعماء الأكثر تطرفاً بدعابته المتهورة. فقبض عليه، ثم أفرج عنه بعد قليل. فلما رأى نفسه مهدداً بالقبض عليه ثانية، ضرب نفسه بالرصاص وطعن نفسه. ومد في أجله حتى 13 أبريل 1794 ثم مات بعد أن قال لسييس، "أني منطلق في النهاية من هذا العالم الذي لا بد فيه للقلب أما أن ينكسر أو يتقسى".

وإذا كان تأثير فولتير هو الغالب عند شامفور، فإن تأثير روسو كان كاملاً وسافراً في جاك-هنري برناردان دسان-بيير. ففي الحادية والثلاثين (1768) كلف بوصفه مهندساً بمهمة حكومية في الأيل دفرانس، المسماة الآن موريتبوس. وفي تلك الجزيرة الجبيلة، المطيرة، الكثيرة الثمر، وجد ما خاله "حالة طبيعية" التي تخيلها روسو-رحالاً ونساء يعيشون ملتصقين بالأرض لم تلوثهم رذائل المدينة. فلما عاد إلى فرنسا (1771) أسبح صديقاً مخلصاً لجان-جاك، وتعلم أن يحتمل غضباته، وأن يرى فيه مخلصاً ثانياً للبشرية. وفي كتابه "رحلة إلى الأيل دفرانس" (1773) وصف حياة سكان الجزيرة البسيطة وإيمانهم الديني الذي يشددهم. وقد رأى أسقف أكس في هذا الكتاب انتقاضاً سليماً على فولتير، وحصل للمؤلف على معاش ملكي قدره ألف جنيه. واستجاب برناردان بكتاب عنوانه "دراسات للطبيعة" (1784)، وآخر عنوانه "توافقات الطبيعة" (1796)، وصف فيهما عجائب حياة النبات والحيوان، وزعم أن الأمثلة الكثيرة للتوفيق، والهدف، والخطة، تثبت وجود عقل أعلى. وفاق روسو في تمجيده للوجدان فوق العقل. "كما تقدم العقل أتانا بالدليل على تفاهتنا، وبدلاً من أن يهدئ أحزاننا بأبحاثه، فهو كثيراً ما يزيدها بنوره.. أما الوجدان... فيعطينا دافعاً سامياً، وهو إذ يخضع عقولنا يصبح أنبل الغرائز وأكثرها إشباعاً في حياة البشر"(93).

وقد ألحق برناردان بالطبعة الثانية من "الدراسات" (1788) رواية سماها "بول وفرجيني" ظلت واحدة من عيون الأدب الفرنسي خلال التقلبات الكثيرة التي اعترت الذوق الأدبي، وخلاصتها أن امرأتين فرنسيتين حبليين تنزلان موريتيوس، إحداهما مات زوجها، والأخرى هجرها حبيبها. وتلد الواحدة بول والأخرى فرجيني. ويشب الطفلان ويترعرعان في واد في الجبل، وسط مناظر رائعة ينتشر فيها أريح الأزهار الطبيعية. ويشكل أخلاقهما حب الأم وتعاليم الدين. حتى إذا بلغا الحلم أحب أحدهما الآخر- إذ ليس حولهما أحد غيرهما. وتبعث فرجيني إلى فرنسا لتتسلم إرثاً، وهو أمر لا يحدث كثيراً في الحالة الطبيعية. فيعرض عليها هناك الزواج والثراء العريض إن أقامت في فرنسا، ولكنها ترفضهما لتعود إلى موريتيوس وبول. ويعدو بلو هابطاً إلى الشاطئ ليرى سفينتهما وهي تدنو من البر، وتغمره الفرحة بخواطر الحب والسعادة، ولكن السفينة تجنح إلى مياه ضحلة فترتطم بالقاع وتحطمها عاصفة. وتغرق فرجيني وهي تحاول الوصول إلى البر، ويموت بول حزناً عليها. والكتيب قصيدة منثورة، رواها المؤلف ببساطة في الأسلوب، ونقاء وموسيقى في اللغة لا يفوقها كتاب في الأدب الفرنسي. ووافقت تقواه ورقة عاطفته مزاج الجبل، ولم يزعج أحداً أن لهاتين المرأتين الفاضلتين ولطفليهما عبيداً(94). وهلل القوم لبرناردان خلفاً أصيلاً لروسو، وكتبت إليه النساء بنغمة الإعجاب الحار التي طيبت من قبل خاطر مؤلف "أميل". وحذا برناردان حذو روسو فلم يستغل شهرته، بل تجنب مخالطة المجتمع، وعاش عيشة هادئة بين الفقراء. وتركته الثورة دون أن تمسه بسوء. وفي إبان عنفها تزوج وهو في الخامسة والخمسين من فيليستيه ديدو، البالغة اثنتين وعشرين ربيعاً، فولدت له طفلين سميا بول وفرجيني. وبعد أن ماتت فيليستيه تزوج ثانية وهو في الثالثة والستين من شابة تدعى ديزيريه وبيلبو، رعته في حب حتى مات في 1714. وقبل رحيله شهد بزوغ نجم شاتوبريان الذي تلقى من يديه مشعل الرومانسية والتقوى الفرنسيتين وحمله إلى القرن التاسع عشر. هذت وقد ظهرت في هذا العصر كتب أقل شأناً لم يعد الناس يقرءونها اليوم، ولكنها شاركت في إعطاء الجيل صوته ولونه. ومن ذلك أن الأبيه جان-جاك بارتلمي أصدر وهو في الثانية والسبعين (1788) كتاباً سماه "رحلة الفتى أناخارسس في اليونان" بعد أن عكف على تأليفه ثلاثين عاماً، وقد زعم الكتاب أنه وصف لطبيعة اليونان وآثارها ومؤسساتها وعاداتها وعملاتها في القرن الرابع قبل المسيح، كما رآها رحالة سكوذي. وقد صعد الكتاب إلى قمة الموجة الكلاسيكية، وكان من أبرز الكتب الكلاسيكية الناجحة في ذلك العصر، وكاد يرسي أصول علم العملات في فرنسا.

ونافس شعبيته كتاب آخر هو "الأطلال، أو تأملات في ثورات الإمبراطوريات" الذي أصدره الكونت كونستانتان دفولني في 1791 بعد أن قضى أربع سنوات من الرحلة في مصر والشام. وحين رأى حطام الحضارات القديمة تساءل "من يستطيع أن يؤكد لنا أن مثل هذا الخراب لن يكون يوماً ما مصير بلادنا؟" وقد نتردد الآن في إعطاء جواب متفائل عن هذا السؤال، ولكن فولني الذي جاء في ختام عصر العقل، والذي ورث كما ورث كوندوريسيه كل آماله البشرية، أخبر قراءه أن سقوط تلك الإمبراطوريات القديمة مرده جهل شعوبها الذي نجم عن صعوبة نقل المعرفة من إنسان إلى آخر ومن جيل إلى جيل. أما الآن فقد ذللت هذه الصعوبات باختراع الطباعة. فكل ما يلزم منذ الآن لتفادي تدمير الحضارة هو بث المعرفة على نطاق واسع، الأمر الذي يفضي بالناس والدول إلى المواءمة بين دوافعهم غير الاجتماعية والصالح العام. وفي هذا التوازن بين القوى ستخلي الحرب مكانها للتحكيم، "وسيصبح النوع الإنساني بأسره مجتمعاً عظيماً واحداً، أسرة واحدة تحكمها روح وقوانين عامة، وتتمتع بكل السعادة التي في مقدور الطبيعة البشرية"(95). والآن نصل إلى سيرة عجيبة هي سيرة نيقولا-إدمون رستيف دلابريتون، الذي لقبه بعض معاصريه "روسو البالوعات" و "فولتير خادمات المخادع"، وهو مؤلف نحو مائتي كتاب، طبع الكثير منها بيديه وبمطبعته، وبعضها فيه فحش متعمد، وكلها يؤلف صورة تفصيلية لأخلاق وعادات الطبقات الدنيا في عهد لويس السادس عشر.

ففي كتاب "حياة أبي" (1779) أعطانا وصفاً صور فيه أباه إدمون في صورة مثالية مشربة بالحنان، هذا الأب تذكر أن له "طلعة هرقول ورقة صبية"(96). أما الإبن فقد سجل حياته هو في ستة عشر كتاباً مستفيضة عنوانها "مسيو نيقولا" (1794-97)، اختلطت فيها الحقيقة بالخيال عن تقلبات حياته وغرامياته وأفكاره. وقد ولد في بيت بمزرعة (1737) في ساسيه "التي سمى قسم منها لابريتون)، على عشرين ميلاً من أوكسير، ويروى أنه حين بلغ الحادية عشرة أصبح أباً لأول مرة(97). وفي الرابعة عشرة أحب جانيت روسو، وكان في السابع عشرة، وبدأ إعجابه الذي امتد طوال حياته بأقدام الأنثى "مان شعوري نحوها رقيقاً كما كان حاداً.. وكانت قدمها الجميلة شيئاً لا أستطيع مقاومته"(98). ولعل الرغبة في تخليصه من شراك كهذه هي التي أوحت بإيفاده إلى أوكسير (1751) ليعمل تلميذاً لطابع. وسرعان ما أغوى زوجة معلمه، ولكن لا سند لنا لهذه الواقعة غيره. ثم يقول إنه في الخامسة عشرة كان له خمس عشرة "خليلة". وبعد أربع سنين من هذه الرواية انتقل إلى باريس، وهناك استخدم طابعاً باليومية يكسب فرنكلين ونصفاً في اليوم، وهو أجر مكنه من الحصول على طعامه ودفع أجر مومس بين الحين والحين، وكان إذا قلت موارده نام مع الخادمات(99). وفي 1760 حين كان في السادسة والعشرين تزوج امرأة تكاد تقاربه خبرة، واسمها أجنيس لوبيك، ثم تبين أن كليهما غير وفي لصاحبه. وتم طلاقهما في 1784، لا بسبب هذه الزلات، بل لأن كليهما وقع في شرك التأليف، وكانا يتنافسان على الورق والمداد والشهرة.

وكان نيقولا قد بدأ حياته كاتباً في 1767 بقصته "قدم فانشيت" التي كانت قدم الصبية هي "أبرز ملامحها Piéce De Résistance" وكان أول عمل أدبي ناجح له هو "الفلاح المنحرف" (1775) وهو يقص بالرسائل كيف انحرف الفلاح إدمون بعد انتقاله إلى باريس متأثراً بحياة المدينة وفسوقها. فليعلمه ملحد يدعى جودي داراس أن الله أسطورة وأن الأخلاق أكذوبة، وأن كل اللذات مشروعة، وأن الفضيلة عبء ثقيل لا مبرر له على الحقوق الطبيعية لرغباتنا، وأن أول واجباتنا أن نعيش ملء حياتنا ما استطعنا العيش(100). وقبض على أراس، فيقول له إدمون "يوجد إله"، ويشنق أراس غير نادم ولا تائب. وقد سمى أحد معاصري المؤلف هذا الكتاب "علاقات الناس الغرامية الخطرة"(101)، وذهب رستيف إلى أنه سيعيش ما عاشت اللغة الفرنسية(102)وفي كتاب مرافق سماه "الفلاحة المنحرفة" (1784) واصل الهجوم على انعدام المسئولية الأخلاقية ومفاسد حياة المدينة. وقد استعمل حصيلته من كتبه ليرفع مقامه درجة أو اثنتين على السلم الاجتماعي الفاسق.

أما أهم أعمال رستيف فهو "المعاصرات" الذي طال حتى بلغ خمسة وستين مجلداً (1780-91). وكان لهذه القصص القصيرة عنوان فرعي جذاب هو "مغامرات أجمل نساء عصرنا"-وفيه وصف لحياة وغراميات وآداب بائعات الزهر، وبائعات القسطل، وبائعات الفحم، والخياطات، والحلاقات، بلغ من الواقعية والدقة مبلغاً أتاح للنساء الحقيقيات أن يتبين أنفسهن فيه ويلعن المؤلف حين يلقينه في الشوارع(103). ومثل هذا المشهد العريض من الحياة البشرية لم يقدمه كاتب في الأدب الفرنسي حتى جاء بلزاك. وقد أدان النقاد إدمان رستيف على "الموضوعات المنحطة"، ولكن سياستيان مرسييه، الذي كان كتابه "لوحة باريس". (1781-90) يعرض مسحاً للمدينة أفضل ترتيباً، حكم بأنه "أعظم قصاصينا غير منازع"(104). وقبيل نشوب الثورة بدأ رستيف يسجل في "ليالي باريس" (1788-94) الأحداث التي شهدها (أو تخيلها) في جولاته الليلية. وهنا أيضاً كان أهم ما لاحظه الأعماق السفلى لباريس-الشحاذين، والحمالين، والنشالين، والمهربين، والمقامرين، والسكارى، وخاطفي الأطفال، واللصوص، والمنحرفين، والبغايا، والقوادين، والمنتحرين. وقد زعم أن حظه من السعادة كان ضئيلاً، ومن الشقاء موفوراً، وصور نفسه بطلاً منقذاً في حالات كثيرة. وقد ألم بالمقاهي القريبة من الباليه-رويال، ورأى الثورة تتشكل، وسمع كامي ديمولان يدعو الناس دعوته المشهورة إلى حمل السلاح، ورأى الدهماء الظافرين يجوبون المدينة عرضين رأس دلوني مأمور سجن الباستيل المفصول عن جسده، ورأى النساء يزحفن على فرساي لأسر الملك(105). ثم لم يلبث أن مل العنف والإرهاب وعدم الأمان. وتعرض غير مرة لخطر القبض عليه، ولكنه نجا بإعلانه الولاء للثورة. أما في مجالسه الخاصة فكان يندد بهذا كله ويتمنى لو أمكن "رد لويس السادس عشر الطيب إلى مكان السلطة"(106). وقد عنف في لوم روسو لأنه أطلق العنان لانفعالات الشباب والجهال والعاطفيين، "أن كتابه أميل هو الذي رمانا بهذا الجيل المغرور، العنيد، الوقح، المتصلب، الذي يعلو صوته على من هم أكبر منه سناً فيسكتهم"(107).

وهكذا تقدم به العمر وندم على أفكار شبابه لا على خطاياه. وفي 1794 عاد فقيراً كما كان، غنياً في ذكرياته وحفدته فقط؛ وقد وضع في المجلد الثامن من "المسيو نيقولا" "تقويماً" بالرجال والنساء الذين عرفهم في حياته ومنهم عدة مئات من العشيقات، وأكد من جديد إيمانه بالله. وفي 1800 أخبرت الكونتيسة بوهارنيه نابليون بأن رستيف يعاني شظف العيش وأن حجرته ليس بها نار تدفئها، فبعث إليه نقوداً وخادماً وحارساً، ثم عينه (1805) في وظيفة بوزارة الشرطة. وفي 8 فبراير 1806 مات رستيف وقد بلغ الثانية والسبعين. واشتركت الكونتيسة وعدة أعضاء من المجمع الفرنسي (الذي كان قد رفض انضمامه إليه) مع جمع العامة البالغين ألفا وثمانمائة في تشييعه إلى مثواه الأخير.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بومارشيه

كتب أرثر ينج في 1788 يقول "كلما خبرت المسرح الفرنسي وجدتني مضطراً إلى الاعتراف بتفوقه على مسرحنا، سواء في عدد ممثليه الأكفاء، أو في نوعية الراقصين والمغنين والأشخاص الذين تعتمد عليهم صناعة المسرح، وكلهم راسخ القدم على نحو رائع"(108). وكانت الحفلات التمثيلية تحيا كل ليلة، بما فيها ليالي الأحد، في التياتر-فرانسيه الذي أعيد بناؤه في 1782، وفي كثير من المسارح الإقليمية. وجاءت الآن فترة خلت فيها خشبة المسرح من فحول الممثلين فقد مات لوكان، وتقاعدت صوفي أرنو في 1778؛ ثم استهل تالما الذي سيصبح أثير نابليون حياته المسرحية مع الكوميدي-فرانسيز في 1787، وحقق أول انتصار له في مسرحية ماري-جوزف شنييه "شارل التاسع" في 1789. وكان أحب كتاب العصر المسرحيين إلى الشعب ميشيل جان سيدين الذي ألف كوميديات عاطفية استأثرت بالمسرح الفرنسي طوال قرن من الزمان. ونحن نحييه وننتقل إلى الرجل الذي نفخ الحياة في "فيجارو" بمساعدة موتسارت وروسيني، وأعطى الحرية لأمريكا (في زعمه).

وقد عاش هذا الرجل، وهو بيير-أوجستن كارون، كما عاش فولتير، أربعة وعشرين عاماً دون أن يعرف أسمه التاريخي. وكان أبوه صانع ساعات في ضاحية سان-ديني الباريسية. وبعد أن تمرد قليلاً راض نفسه على احتراف حرفة أبيه. فلما بلغ الحادية والعشرين اخترع ضرباً جديداً من الهروب مكنه من أن يصنع "ساعات ممتازة بلغت غاية ما يناسب من الصغر والتسطح"(109). وقد أبهج لويس الخامس عشر بعينة منها، وصنع لمدام بومبادور ساعة كانت من الصغر بحيث أمكن إدخالها في خاتمها، وزعم أن هذه أصغر ما صنعه الصانعون من الساعات إطلاقاً. وفي 1755 اشترى من مسيو فرانكيه المسن وظيفته التي كان يشغلها بوصفه أحد المشرفين على المائدة الملكية الذين كانوا يقومون على خدمة الملك خلال تناوله الطعام؛ ولم تكن بالوظيفة المرموقة، ولكنها أتاحت لبيير مدخلاً إلى البلاط. وبعد عام مات فرانكيه، فتزوج بيير أرملته (1756) وكانت تكبره بخمس سنين. وإذ كانت تلك تملك لإقطاعية صغيرة، فقد أضاف بيير اسم الإقطاعة إلى اسمه، فأصبح بومارشيه، فلما ماتت زوجته (1757) ورث أملاكها.

ولم يكن قد حظي بأي تعليم ثانوي على الإطلاق، ولكن الجميع-حتى الأرستقراطيين الذين ساءهم تسلقه السريع-أقروا بتيقظ ذهنه وسرعة خاطره. والتقى في الصالونات والمقاهي بديدرو، ودالامبير، وغيرهما من جماعة الفلاسفة، فنهل من التنوير. وقد استرعى انتباه بنات لويس الخامس عشر العوانس تحسين أدخله في نظام دواسة الهارب، وفي 1759 بدأ يعطيهن دروساً في الهارب. وطلب المصرفي جوزف بآري-دوفرينه إلى بومارشيه أن يستعين بالآنسات الملكيات في الحصول على تأييد لويس الخامس عشر للمدرسة الحربية التي كان رجل المال يديرها، وأفلح بيير في الأمر، فأعطاه باري-دوفرنيخ أسهماً قيمتها ستون ألف فرنك. يقول بومارشيه "لقد أطلعني على أسرار عالم المال... وبدأت أجمع ثروتي بإرشاده، وعملاً بنصيحته دخلت في مضاربات عديدة، أعانني في بعضها بماله أو باسمه"(110). وهكذا أصبح بومارشيه فيلسوفاً من أصحاب الملايين، مقتدياً في هذا وفي كثير غيره بالسوابق التي وضعها فولتير. فما وافى عام 1771 حتى بلغ من الثراء ما أتاح له شراء وظيفة سكرتارية شرفية لدى الملك، جاءته بلقب النبالة. وسكن منزلاً رائعاً في شارع كونديه أنزل فيه أباه وأخوته الفخورين.

وكان له أختان أخريان تعيشان في مدريد-إحداهما متزوجة والأخرى-واسمها ليزيت-مخطوبة لخوزيه كالافيجو أي فخاردو المحرر المؤلف الذي ظل ست سنوات يؤجل الزواج غير مرة. وفي مايو 1764 خرج بومارشيه في رحلة طويلة راكباً عربة البريد نهاراً وليلاً إلى العاصمة الأسبانية. فعثر على كلافيجو، ووعده هذا بأنه سيتزوج ليزيت عما قليل، ولكنه زاغ متنقلاً من مكان إلى مكان. وأخيراً أدركه بيير، وطالبه بالتوقيع على عقد الزواج، فاعتذر خوزيه بحجة أنه تناول لتوه مسهلاً، وكان القانون الأسباني يعتبر أي عقد يوقع في ظرف كهذا باطلاً. فهدده بومارشيه، فاستعدى عليه كلافجيو قوى الحكومة، وهزم الفرنسي الذكي بسلاح التسويف والمماطلة. فلما أقلع عن المطاردة، حول جهوده إلى ميدان التجارة وكون عدة شركات، إحداهما لإمداد المستعمرات الأسبانية بالعبيد الزنوج. (ونسي أنه قبل سنة واحدة فقط كتب قصة ذم فيها الرق)"(111). وتحطمت هذه الخطط جميعها على صخرة الموهبة الأسبانية، موهبة التسويف والتأجيل. على أن بيير استمتع أثناء ذلك بالصحبة الطيبة وبخليلة تحم لقب النبالة، وخبر من العادات الأسبانية ما أعانه على تأليف تمثيلياته عن حلاق أشبيلي. أما ليزيت فقد وجدت حبيباً آخر، وقفل بومارشيه إلى فرنسا خاوي الوفاض إلا من الخبرة. وقد كتب مذكرات رائعة عن رحلته، وألف منها جوته مسرحيته "كلافيجو" كما أسلفنا.

وفي 1770 مات باري-دوفرنيه تاركاً وصية أقر فيها بأنه مدين لبومارشيه بخمسة عشر ألف فرنك. ونازع أهم الورثة وهو الكونت دلابلاش على صحة هذه الفقرة مدعياً أنها مزورة. وأحيل النزاع على برلمان باريس، فعين المستشار لوي-فالنتن جوزمان ليبدي رأيه فيه. في هذا الظرف الحرج كان بومارشيه نزيل السجن نتيجة شجار عنيف مع الدوق دشولن على خليلة. فلما أفرج عنه مؤقتاً، أرسل "هدية" من مائة جنيه ذهبي (لوي دور)، وساعة مرصعة بالماس، إلى السيدة جوزمان أغراء لها على أن تمهد السبيل لاستماع زوجها إليه، فطلبت خمسة عشر جنيهاً ذهبياً أخرى أجر "سكرتير"، فأرسلها. وظفر بالمقابلة، ولكن المستشار اتخذ قراراً ضده، فأعادت السيدة جوزمان كل شيء إلا الخمسة عشر جنيهاً ذهبياً، وأصر بومارشيه على ردها هذا المبلغ أيضاً، واتهمه جوزمان بتقديم الرشوة. فعرض بيير الأمر على الشعب في سلسلة من "المذكرات" فيها من الحيوية والظرف ما أكسبه ثناء عريضاً باعتباره مجادلاً بارعاً إن لم يكن رجلاً أميناً كل الأمانة. وقد قال فولتير عنها: لم أر قط شيئاً أقوى ولا أجرأ ولا أفكه ولا أطرف ولا أشد إذلالاً لخصومه. فهو يحارب "دستة" منهم في وقت واحد ويحصدهم حصداً"(112). وأصدر البرلمان حكماً برفض دعواه في حقه في الميراث (6 أبريل 1773)، واتهمه في الواقع بالتزوير، وحكم عليه بدفع 56.300 جنيه نظير التعويض والديون.

فلما أفرج عن بومارشيه (8 مايو 1773) استخدمه لويس الخامس عشر جاسوساً في بعثة إلى إنجلترا ليمنع تداول نشرة فاضحة في حق مدام دوباري. فنجح في مهمته، وواصل اشتغاله عميلاً في عهد لويس السادس عشر الذي كلفه بأن يعود إلى لندن ويرشو جوليلمو انجيلوتشي كي يمتنع عن إصدار نشرة في حق ماري أنطوانيت. وسلم انجليلوتشي المخطوطة نظير 35.000 فرنك ورحل إلى نورمبرج؛ واشتبه بومارشيه في حيازته نسخة ثانية، فتبعه عبر ألمانيا، وأدركه قرب نويشتات، وأكرهه على تسليمه النسخة، ثم هاجمه قاطعاً الطريق، فدفعهما عنه، ولكنه جرح، وشق طريقه إلى فيينا، حيث قبض عليه بوصف جاسوساً، وقضى في السجن شهراً، ثم أطلق سراحه، فركب قافلاً إلى فرنسا.

ولكن مغامرته الجريئة التالية أحق بمكان في التاريخ. ذلك أن فرجين أوفده في 1775 إلى لندن ليستطلع له حقيقة الأزمة المتصاعدة بين إنجلترا وأمريكا. وفي سبتمبر بعث بومارشيه إلى لويس السادس عشر بتقرير تنبأ بنجاح الثورة الأمريكية، وأكد وجود أقلية مناصرة للأمريكيين في إنجلترا.

وفي 29 فبراير 1776 وجه إلى الملك رسالة أخرى، أوصى فيها بإرسال المعونة الفرنسية سراً إلى أمريكا، بحجة أنه لا سبيل أمام فرنسا لحماية نفسها من التبعية إلا بإضعاف شوكة إنجلترا(113). ووافق فرجين على هذا الرأي، ورتب كما رأينا أن يمول بومارشيه لتزويد المستعمرات الإنجليزية بالعتاد الحربي. وفرغ بومارشيه بحملته لهذه المغامرة. فنظم شركة "روددريج هورتاليه وشركائه". وراح يتنقل بين الثغور الفرنسية ويشتري السفن ويجهزها ويشحنها بالمؤونة والعتاد، ويجند الضباط الفرنسيين المدربين للجيش الأمريكي، وينفق (في زعمه) عدة ملايين من الجنيهات من ماله الخاص فوق المليونين اللذين أمدته بهما الحكومتان الفرنسية والأسبانية. وقد أبلغ سايلاس دين الكونجرس الأمريكي (29 نوفمبر 1776) "أنني ما كنت لأستطيع إنجاز مهمتي لولا جهود مسيو بومارشيه الذكية السخية التي يعتريها الكلل، هذا الرجل الذي تدين له الولايات المتحدة من جميع الوجوه، أكثر من دينها لأي رجل آخر على هذا الجانب من المحيط"(114). وفي نهاية الحرب قدر سايلاس أن أمريكا تدين لبومارشيه بمبلغ 3.600.000 فرنك. أما الكونجرس الذي افترض أن كل العتاد كان منحة من الحلفاء، فقد رفض الطلب، ولكنه في 1835 دفع 800.000 جنيه لورثة بومارشيه. ثم وجد أنه خلال هذا النشاط المحموم وقتاً لكتابة المزيد من المذكرات الموجهة إلى الشعب والتي يحتج فيها على مرسوم البرلمان الصادر في 6 أبريل 1773. وفي 6 سبتمبر 1776 ألغى ذلك المرسوم، وردت إلى بومارشيه كل حقوقه المدنية. وفي يوليو 1778 أصدرت محكمة في اكس-أن-بروفانس حكماً لصالحه في النزاع على وصية باري-دوفرنيه، واستطاع بومارشيه أن يحس أنه في النهاية برأ أسمه.

ولم تكفه كل هذه المغامرات في الحب، والحرب، والتجارة، والقضاء، فقد بقي عالم لم يغزه بعد، هو عالم الكلام، والأفكار، والطباعة، وعليه ففي 1767 قدم للكوميدي-فرانسيز أولى تمثيلياته "أوجني"، وقد عرضت في 29 يناير 1769، واستقبلها النظارة استقبلاً حسناً، ولكن النقاد رفضوها. ثم سقطت تمثيلية أخرى هي "الصديقان" (13 يناير 1770) رغم الأعداد المألوف، "لقد ملأت الصالة بأفضل العمال، بأيد كالمجاديف، ولكن جهود العصبة المتآمرة" غلبته(115). ذلك أن جمعية الأدباء التي يتزعمها فريرون قاومته باعتباره دخيلاً، ومجرماً مزمناً انقلب كاتباً مسرحياً، تماماً كما ناصبه بلاط فرساي العداء لأنه صانع ساعات انقلب نبيلاً. ومن ثم نراه في مسرحيته التالية يجعل فيجارو يصف "جمهورية الأدب" بأنها "جمهورية الذئاب، الذين لا يفتأ بعضهم ينشب مخالبه في رقاب البعض الآخر... كل الحشرات، والبعوض الصغير والكبير، والنقاد، وكل الحاسدين من الصحفيين، والكتابيين، والرقباء"(116). ولقي بومارشيه في المسرح كما لقي في الحياة جيشاً من الأعداء فهزمهم جميعاً. وفي أروع لحظات الإبداع التي جادت بها عبقريته المتعددة المناحي تصور شخصية فيجارو الحلاق، والجراح، والفيلسوف، اللابس صدرية من الستان وسراويل ركوب، وقيثارته المعلق على كتفه، وذهنه المتوقد على استعداد لتذليل أي صعوبة، وذكاؤه يخترق حجب النفاق والأكاذيب والمظالم التي تلوث عصره. ويمكن القول أن فيجارو من ناحية لم يكن خلقاً جديداً، إنما هو أسم وشكل جديدان لشخصية مألوفة هي شخصية الخادم الذكي في الكوميديا اليونانية والرومانية، وفي الكوميديا ديلارتي الإيطالية، وفي شخصية موليير "سجاناريل" ولكنه كله كما عرفناه من صنع بومارشيه إلا الموسيقى، لا بل حتى الموسيقى كانت أصلاً من صنعه. فقد ألف أول الأمر "حلاق أشبيليه" أوبرا هازلة عرضها على الكوميدي-ايتاليين في 1772 فرفضت، ولكن موتسارت تعرف إلى هذه الموسيقى حين كان في باريس(117). وعدل بومارشيه الأوبرا إلى كوميديا، فقبلها الكوميدي-فرانسيز وحدد تاريخاً لإخراجها ولكن سجن المؤلف (24 فبراير 1773) اضطر الفرقة لتأجيل عرضها. فلما أفرج عنه إستؤنف إعدادها للعرض ولكنها أجلت لأن مؤلفها وجهت إليه التهمة من البرلمان. غير أن النجاح الذي لقيه دفاع بومارشيه عن نفسه في "مذكراته" حدا بالمسرح مرة أخرى إلى ترتيب إخراجها، فأعلن أنها ستعرض في 12 فبراير 1774. ويقول جريم "نفدت كل المقاصير حتى الحفلة الخامسة"(118). ولكن حظرت التمثيلية في اللحظة الأخيرة بحجة أنها قد تحث تأثيراً ضاراً بالقضية المعلقة في البرلمان.

ومضت سنة أخرى، وجاء ملك جديد خدمه بومارشيه ببسالة معرضاً حياته للخطر غير مرة، فأعطى الإذن، وفي 23 فبراير 1775 وصلت "حلاق أشبيليه" آخر الأمر إلى خشبة المسرح. غير أن الحظ لم يحالفها، فقد كانت مفرطة الطول، وكانت الإثارة التي مهدت لها قد جعلت جمهور النظارة يتوقع منها فوق ما ينبغي. وعليه ففي يوم واحد راجعها بومارشيه واختصرها في عملية جراحية رائعة، فنقيت الكوميديا من التعقيدات المشوشة، وأخليت الفكاهة من الإسهاب في الحديث، وأزال بومارشيه العجلة الخامسة من العربة على حد قوله-وحققت التمثيلية انتصاراً في المساء الثاني ووصفتها مدام دودفان التي كانت تحضر الحفل بأنها "نجحت نجاحاً مفرطاً.. ولقيت من الاستحسان والتصفيق ما جاوز كل الحدود"(119). ثم تحداه الأمير كونتي أن يكتب تتمة للمسرحية يبدو فيها فيجارو شخصية أكثر تطوراً ونضجاً. وكان المؤلف مستغرقاً الآن في دور المنقذ لأمريكا، فلما أنجز تلك المهمة عاد إلى المسرح وأخرج كوميديا خلقت تاريخاً أكثر درامية حتى من "طرطوف" مولبير. ففي هذه الكوميديا-زواج فيجارو-نرى الكونت المافيفا وروزينا، وهما شخصيتا حلاق أشبيلية-يقضيان عدة سنين في حياتهما الزوجية، وكان قد مل المفاتن التي سحرته خلال الكثير من المواقف المعقدة، وانصرف الآن إلى مغامرة هي إغواء سوزان، خادمة الكونتيسة وخطيبة فيجارو الذي أصبح كبير خدم الكونت وقهرمان القصر الريف. ويقوم تابع في الثالثة عشرة يدعى شيروبان بدور أشبه باللحن الرشيق المصاحب للموضوع الرئيسي وذلك بعشقه الغرير للكونتيسة التي يبلغ عمرها ضعف عمره. أما فيجارو فقد تحول فيلسوفاً، ويصفه بومارشيه بأنه "العقل موشحاً بالمرح والملح"(120). ويكاد هذا أن يكون تعريفاً للروح الغالية ولحركة التنوير.

يقول لسوزان "ولدت لأكون رجل بلاط"، فإذا رأت في هذه الوظيفة "حرفة عسيرة" أجابها "مطلقاً. الاستقبال، والأخذ، والطلب-هذا هو السر في كلمات ثلاث"(121). وفي المناجاة التي جعلها روسيني تدوي في جنبات العالم كله يخاطب نبلاء أسبانيا (وفرنسا) باحتقار يوشك أن يكون ثورياً، "ما الذي صنعتموه لتناولا هذا الحظ الوفير؟ لقد كلفتم أنفسكم مشقة أن تولدوا، لا أكثر، وفيما عدا ذلك فأنتم قوم عاديون تماماً، في حين أنني أنا، التائه وسط الجماهير، كما علي في سبيل تحصيل قوتي فقط أن أستعين بقدر من العلم والحساب يفوق ما أنفق في حكم أسبانيا كلها هذه السنين المائة المنقضية"(122). وهو يهزأ بالجنود الذين "يقتلون ويقتلون في سبيل مصالح يجهلونها تماماً. "أما أنا فأريد أن أعرف لماذا يشتد غضبي"(123)، وحتى النوع الإنساني ينال ما يستحقه من قصاص: "أن يشرب وهو غير عطشان، وأن يمارس الحب في جميع المواسم-هذا وحده ما يميزنا عن سائر الحيوان"(124). ثم يكيل شتى الضربات لبيع الوظائف العامة، وسلطة الوزراء التعسفية، واخفاقات العدالة، وحالة السجون، والرقابة على الفكر واضطهاده "مسموح لي أن أنشر ما أشاء، شريطة ألا أذكر في كتاباتي لا الحكام، ولا دين الدولة، ولا السياسة، ولا الأخلاق، ولا الموظفين، ولا المالية، ولا الأوبرا، ولا... أي شخص ذي خطر، على أن أخضع لتفتيش رقيبين أو ثلاثة"(125). واتهمت فقرة جنس الذكور بأنهم مسئولون عن البغاة-وهي فقرة حذفها الممثلون، وربما لأنها اقتربت قرباً شديداً من أسباب ترفيههم-: أن الرجال يخلقون العرض بطلباتهم، ثم يعاقبون بقوانينهم النساء اللائي يلبين هذا الطلب"(126). أما حبكة التمثيلية فلم تكتف بإظهار الخادم أذكى من سيده-فهذا تقليد مألوف جداً بحيث لا يسيء لأحد-بل أنها فضحت الكونت النبيل فأظهرته رجلاً زانياً بكل ما في الكلمة من معنى.

وقبل الكوميدي-فرانسيز "زواج فيجارو" في 1781، ولكن لم يتيسر إخراجها حتى 1784. ذلك أنها حين تليت على مسامع لويس السادس عشر احتمل بروح الفكاهة المتسامحة ما تخللها من هجاء عارض، ولكن حين سمع المناجاة وما اشتملت عليه من هزء بطبقة النبلاء وبالرقابة، أحس أنه لا يسعه السماح بأن تهان هذه المؤسسات الأساسية علانية، فصاح قائلاً "هذا شيء بغيض، ويجب ألا يمثل أبداً. أن السماح بعرضه ليعدل تدمير الباستيل. فهذا الرجل يسخر من كل شيء يحب احترامه في أي حكومة"(127). ثم حظر تمثيل المسرحية. وقرأ بومارشيه أجزاء منها في بيوت خاصة، فأثار هذا فضول القوم, ورتب بعض الحاشية أن تمثل أما البلاط، ولكن هذا أيضاً حظر في اللحظة الأخيرة. وأخيراً أذعن الملك للاحتجاجات والالتماسات، ووافق على اعتماد تمثيلها علناً بعد أن ينقي الرقباء النص بعناية. وكانت حفلة العرض الأولى (27 أبريل 1784) حدثاً تاريخياً. وبدت باريس كلها مصممة على حضور هذه الحفلة الأولى. واقتتل الأشراف والعامة على دخول المسرح، وحطمت البوابات الحديدة، وهشمت الأبواب، واختنق ثلاثة أشخاص. وكان بومارشيه موجوداً، وقد سعد بهذا الشجار. وبلغ من نجاح المسرحية أنها مثلت ستين مرة دون انقطاع، وكان المسرح يغض بالنظارة في كل حفلة تقريباً. أما الحصيلة فلم يسبق لها نظير، وتصدق بومارشيه بنصيبه كله-البالغ 41.999 جنيهاً(128).

ولقد رأى التاريخ في "زواج فيجارو" إرهاصاً بالثورة، ووصفها نابليون بأنها "الثورة وقد أخذت تفعل فعلها"(129). ودخلت بعض عباراتها في خميرة العصر. وقد أنكر بومارشيه في المقدمة التي صدت بها بعد ذلك المسرحية المنشورة أي قصد ثوري، واستشهد بفقرات من كتاباته دافع فيها عن الملكية والأرستقراطية. فهو لم يطلب هدم المؤسسات القائمة بل القضاء على المظالم المتصلة بها، وتوفير العدالة المتكافئة لجميع الطبقات، ومزيداً من حرية الفكر والنشر، وحماية الفرد من أوامر القبض المختومة وغيرهما من ضروب شطط السلطة الملكية. وقد رفض الثورة كما رفضها معبوده فولتير لأنها دعوة إلى الفوضى وطغيان الرعاع.

وواصل دراسة أعمال فولتير طوال شتى الاضطرابات العارمة التي اكتنفته. وأدرك أزجه الشبه بينه وبين الشيخ-ولكن لعله لم يدرك البعد-: ذلك المركب الذي يجمع بين النشاط الذهني المحموم والدراية البارعة بأمور المال، وذلك الاحتقار للشكوك والوساوس الخلقية، وتلك الشجاعة في محاربة الظلم والمحن والشدائد. واعتزم أن يحفظ أعمال فولتير وينشرها طبعة جامعة كاملة. وكان على يقين من أن هذا غير ميسور في فرنسا حيث حظر الكثير من مؤلفات فولتير. لذلك ذهب إلى موريا وأخبره أن كاترين الثانية مزمعة إصدار طبعة فرنسية في سانت بطرسبيرج. وقال إن هذا سيكون وصمة عار على فرنسا، وأدرك الوزير المعنى المراد، ووعد بالإذن بتداول طبعة كاملة. وكان كتبي باريسي يدعى شارل-جوزف بانكوك قد حصل على حقوق طبع مخطوطات فولتير التي لم تنشر، فاشتراها بومارشيه بمبلغ 160.000 فرنك. ثم جمع كل ما وجده من مؤلفات فولتير المنشورة، واستورد حروف باسكرفيل الطباعية من إنجلترا، واشترى مصانع للورق من الفوج. وظفر بكوندورسيه معلقاً ومترجماً لفولتير. واستأجر حصناً قديماً في كيل، عبر الرين من ستراسبورج، وركب المطابع، وأخرج طبعتين رغم مئات المحن والشدائد، إحداهما في سبعين مجلداً من قطع الثمن، والأخرى في اثنين وتسعين مجلداً من القطع الإثني عشري (1783-90). وهذا أضخم مشروع طباعي حاوله إنسان حتى ذلك التاريخ في أوربا، بما في ذلك "الموسوعة". وطبع بومارشيه خمسة عشر ألف مجموعة وهو يتوقع بيعاً عاجلاً لها، فلم يبع منها غير ألفين، ومن جهة بسبب الحملات التي شنها البرلمان والأكليروس على المشروع(130)، ومن جهة ثانية بسبب الاضطرابات السياسية في 1788-90، ومن جهة ثالثة لأن قلقة مركز الناس المالي منعتهم من شراء المجموعة الغالية الثمن-وزعم بومارشيه أنه خسر في هذه المغامرة مليوناً من الجنيهات. على أنه أخرج أيضاً طبعة من أعمال روسو.


أما الثورة التي أعان على الإعداد لها فكانت نكبة عليه. ذلك أنه في 1789 بنى لنفسه ولزوجته الثالثة قصراً غالي التكلفة تجاه الباستيل، ملأه بالبديع من الأثاث والرياش وأحاطه بفدانين من الأرض. ونظر الرعاع الذين أثاروا الشغب مراراً في المنطقة شزراً إلى هذا الترف، فأغاروا على بيته مرتين، وأصبح بومارشيه الذي اكتمل الآن صممه وشاخ قبل الأوان مهدداً باعتباره أرستقراطياً. لذلك بعث بملتمس إلى كومون باريس يعلن فيه إيمانه بالثورة، غير أنه قبض عليه رغم ذلك (23 أغسطس 1792) ثم افرج عنه بعد قليل. إلا أنه عاش في خوف من الاغتيال لا يفتأ يؤرقه. ثم دارت عجلة الخطر فكلفته حكومة الثورة (1792) بالسفر إلى هولندا وشراء المدافع للجمهورية. على أن المفاوضات أخفقت وصودرت أملاكه في غيابه، وقبض على زوجته وابنته (5 يوليو 1794)، فهرع قافلاً إلى باريس، وحصل على الإفراج عنهما، وسمح له باسترداد أملاكه. وعاش بعد ذلك ثلاث سنين محطم الجسد لا الروح، ورحب بصعود نجم نابليون. ثم مات في 18 مايو 1799 بالنقطة وقد بلغ السادسة والسبعين. وندر حتى في تاريخ فرنسا أن عاش رجل الحياة بمثل هذا الملء والتنوع والمغامرة.