قصة الحضارة - ول ديورانت - م 10 ك 7 ف 34

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 14317

قصة الحضارة -> روسو والثورة -> انهيار فرنسا الإقطاعية -> البهاء الأخير -> ورثة العرش

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الكتاب السابع: انهيار فرنسا الإقطاعية 1774-1789

الفصل الرابع والثلاثون: البهاء الأخير 1774-1783

ورثة العرش 1754-1774

كان لويس السادس عشر الابن الثالث للدوفن لوي دفرانس، الذي كان الإبن الشرعي الوحيد للويس الخامس عرش. وقد لقب الدوفن بلويس البدين لأنه كان أكولاً. وقد حاول التغلب على سمنته بلبصيد، والسباحة، وقطع الأشجار، ونشر الخشب، واشتغال بالحرف اليدوية(1). واحتفظ طول حياته باحترامه للكنيسة ، وكان أعز أصدقائه هم القساوسة، وكان شديد الخجل من فسق أبيه. وقد أدمن القراءة، وقرأ فيما قرأ مونتسكيو وروسو، وآمن بالرأي القائل "إن الملك ليس إلا الوكيل على موارد الدولة"(2). وضن على نفسه برحلة خلال فرنسا، لأن "شخص بجملته لا يساوي ما تكلفه الرحلة للشعب الفقير"(3). ومما يجدر بالملاحظة أن الكثير من خلقه وعاداته وأفكاره تنحدر إلى ولده لويس السادس عشر.

أما زوجته، ماري-جوزيف السكسونية، المرأة الفاضل الخلق، القوية البدن، فقد ولدت ثمانية أطفال، ومنهم لوي-جوزيف، ودوق برجنديه، الذي قتل في حادث عام 1761، ولوي-أوجست، ودوق بيري، المولود في 23 أغسطس 1754، والذي سيصبح لويس السادس عشر، ولوي-ستانسلاس، كونت بورفانوس، المولود في 1755، والذي سيصبح لويس الثامن عشر، ثم شارل-فيليب، كونت دارتوا، والمولود في 1757، والذي سيصبح شارل العاشر. فلما مات أبوهم عام 1765 أصبح لوي-أوجست، البالغ أحد عشر عاماً، وارثاً للعرش.

وكان غلاماً عليلاً، جباناً خجولاً، ولكنه اكتسب الصحة والعافية بفضل سنوات الحياة الريفية والطعام البسيط. وكان كأبيه فيه من الطيبة أكثر مما فيه من الذكاء. وكان يحسد أخوته على ذكائهم المتفوق، وكانوا يتجاهلون تماماً كبر سنه. وإذ كان فيه من الحياء ما يمنعه من الرد على الهجوم فقد أغرق نفسه في الرياضة والحرف. فتعلم الرماية بمنتهى الدقة، ومنافسة الصناع في استعمال يديه وأدواته. وقد أعجب بمهارات الصناع الذين يخدمون القصر، وأحب التحدث إليهم والعمل معهم، واتخذ شيئاً من طباعهم وحديثهم. ولكنه أحب الكتب أيضاً. واستهواه فنليون بنوع خاص؛ وحين بلغ الثانية عشرة ركب مطبعة في قصر فرساي، وبمساعدة أخويه (وكانا في التاسعة والحادية عشرة) جمع حروف مجلد صغير نشره في 1766 بعنوان "حكم أخلاقية وسياسية مستقاه من تليماك" ولم يحب جده لويس الخامس عشر هذه الحكم وقال "انظر إلى ذلك الولد الكبير، سوف يكون القاضي على فرنسا وعلى نفسه، ولكني على أية حال لن أعيش حتى أرى ذلك"(4). فكيف السبيل إلى تحويل هذا الأمير الصانع ملكاً؟ أيمكن العثور على زوجة منبهة له تهبه الشجاعة والأباء، وتلد له ملوكاً من البوربون للمستقبل؟ وأما الحاكم الحالي فكان في شغل عن هذا بمدام دوباري، ولكن شوازيل وزير الخارجية تذكر أيامه التي قضاها قفي بلاط فيينا، وتذكر أرشيدوقة مرحة تدعى ماريا أنطونيا يوزيفا، كانت آنئذ (1758) في الثالثة من عمرها، فلعل زواجها من لوي-أوجست ينفخ روحاً جديدة في ذلك الحلف النمساوي الذي أضعفه الصلح المفرد بين فرنسا وإنجلترا (1762)، وكان الأمير فون مانتور قد أسر بمثل هذه الأفكار للكونت فلوريموند مرسي دارجنتو، وهو نبيل من لييج ذو ثراء عريض وقلب طيب، وكان سفيراً للنمسا في فرساي. واستمع لويس الخامس عشر للنصيحة التي أجمعا عليها، وأرسل (1769) رسمياً إلى ماريا تريزا يطلب يد ماريا أنطونيا للوي-أوجست وأسعد الإمبراطور أن تبارك اتحاداً كانت هي نفسها قد خططت له منذ أمد بعيد. وأما الدوفن الذي لم يؤخذ رأيه في الأمر، فقد قبل طائعاً هذا الاختيار الذي رتب له. وحين أنبئ بأن خطيبته أميرة حسناء، قال في هدوء "ليتها حسنة الخلال"(5).

ولدت بفيينا في 2 نوفمبر 1755. ولم تكن بالطفلة الوسيمة. فجبينها مفرط الارتفاع، وأنفها مسرف في الطول والتدبب، وأسنانها غير منتظمة، وشفتها السفلى غليظة. ولكن سرعان ما عرفت أن دمها أزرق، فتعلمت أن تمشي مشية من ولدت لكي تكون ملكة، وأعادت الطبيعة بأكسير الشباب العجيب حين أدركت سن البلوغ لف جسمها لفاً ساحراً، حتى غدت بشعرها الأشقر الحريري، وبشرتها الزنبقية الوردية، وعينيها الزرقاوين العابثتين المتألقتين، و "عنقها الإغريقي" على الأقل لقمة لذيذة لولي العهد، إن لم تكن طبقاً شهياً للملك. وكان ثلاث من شقيقاتها الخمس اللاتي يكبرنها قد هيأت لهن الإمبراطورة بدهائها زيجات لينة: فماريا كرستينا تزوجت الأمير ألبرت السكسوني، الذي أصبح دوق ساكسي-تيشن، وتزوجت ماريا أماليا فرديناند دوق بارما، وأصبحت ماريا كارولينا ملكة على نابلي. أما أخوهن يوزف فكان شريكاً في حكم الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وكان أخوهن ليوبولد غراندوقاً لتسكانيا. فلم يبق لماريا أنطونيا غير أن تصبح ملكة على فرنسا.

ولقد أهملت بعض الشيء بوصفها أصغر أطفال ماريا تريزا الأحياء، فلما بلغت الثالثة عشرة تعلمت بعض الإيطالية، ولكنها لم تكن تحسن كتابة الألمانية ولا الفرنسية. أما التاريخ فلم تعرف منه شيئاً تقريباً، ولم تحرز في الموسيقى غير تقدم متواضع مع أن جلوك كان معلمها. وحين قرر لويس الخامس عشر قبولها زوجة لحفيده أصر على أن تطعم ضد الجدري، وبعث بالأب فرمون ليعجل لتعليمها. وكان تقرير فرمون عنها أن "خلقها وقلبها ممتازان" وأنها "أذكى مما كان يظن عموماً" ولكنها "على شيء من الكسل، طائشة للغاية، عسيرة التعليم... فهي لا ترغب في التعليم إلا إذا سليت"(7)ولكنها أحبت الرقص، والعدو مع كلابها في الغابات.

وكانت الإمبراطورة التي أضنتها الهموم عليمة بأنها تكل مصير الحلف لأيد أوهن من أن تضطلع بتبعة كهذه. وظلت طوال شهرين قبل إبرام الزواج المرتقب تأتي بماريا أنطونيا لتنام معها في حجرتها، حتى تبث في ابنتها في جو أمسياتهما الحميم شيئاً من حكمة الحياة وفن الملك. وقد وضعت لها قائمة قواعد لتهدئ سلوكها في الأخلاق والسياسة. وكتبت للويس الخامس عشر ترجوه أن يغضى عن مآخذ العروس العزيزة التي ستبعث بها لحفيده، أما ولي العهد فقد وجهت إليه رسالة تفيض باهتمام الأم المفرط ومخاوفها: قالب:Quotation

وفي 19 ابريل 1770، في كنيسة الأوغسطينيين بفيينا، عقد بالوكالة قران الفتاة المتألقة الحسن، الخلية البال، البالغة أربعة عشر عاماً، على لوي-أوجست ولي عهد فرنسا، واتخذ أخوها فرديناند مكان الدوفن. وبعد يومين قادت قافلة من سبع وخمسين مركبة و366 جواداً ولية العهد مروراً بقصر شونبرون، وودعتها الإمبراطورة الوداع الأخير، هامسة لها أن "تكوني كريمة جداً مع الفرنسيين حتى يستطيعوا القول بأنني أرسلت لهم ملاكاً"(9). وضم الموكب 132 شخصاً-وصيفات ومصصفات للشعر، وخياطات. وأتباعاً، وكهنة للقصر، وجراحين، وصيادلة، وطباخين، وخدماً، وخمسة وثلاثين رجلاً ليعنوا بالخيل التي كانت تبدل أربع مرات أو خمساً في اليوم خلال الرحلة الطويلة إلى فرنسا. وبعد ستة عشر يوماً وصل الموكب إلى كيل على الرين قبالة ستراسبورج. وعلى جزيرة في النهر استبدلت ماريا بثيابها النمساوية ثياباً فرنسية، وتركها أتباعها النمساويين قافلين إلى فيينا، وحل محلهم حاشية من السيدات والخدم الفرنسيين، وأصبحت ماريا أنطونيا منذ الآن ماري أنطوانيت. وبعد الكثير من المراسم أدخلت ختراسبورج بين قصف المدافع ورنين أجراس الكنائس وهتاف الشعب وبكت وابتسمت واحتملت المراسم الطويلة في صبر، فلما بدأ العمدة خطاباً بالألمانية قاطعته قائلة: "لا تتكلموا بالألمانية أيها السادة، فمنذ الآن لا أفهم لغة غير الفرنسية" وبعد أن سمح لها الموكب بالراحة يوماً بدأ رحلته عبر فرنسا. وكان الترتيب أن يذهب الملك وولي العهد مع كثير من الحاشية إلى كومبين على اثنين وخمسين ميلاً شمال شارقي باريس ليقابلوا موكب ولية العهد. ووصل الموكب في 14 مايو. وقفزت العروس من مركبتها، وجرت نحو لويس الخامس عشر، وانحنت إلى الأرض، وظلت كذلك حتى أقامها الملك وهدأها وطمأنها بعبارة كريمة "لقد أصبحت عضواً في الأسرة يا سيدتي، لأن لوالدتك روح لويس الرابع عشر"(10). وبعد أن قبلها على وجنتيها قدمها إلى ولي العهد، الذي قبلها بالمثل ولكن ربما بلذة أقل. وفي 15 مايو بدأ الموكبان المجتمعان الرحلة إلى فرساي، وهناك، في 16 مايو، أكد زفاف رسمي ذلك الزفاف بالوكالة الذي عقد قبل شهر. في تلك الليلة أقيمت مأدبة عظيمة في دار الأوبرا الجديدة، ونبه الملك ولي العهد إلى أنه يفرط في الأكل. فأجاب "إنني دائماً يحسن نومي بعد عشاء طيب". وهذا ما حدث إذ أنه استغرق في النوم بمجرد دخوله فراش الزوجية.

وقد نام بهذه السرعة في ليال متعاقبة، وفي أصباح متعاقبة كان يستيقظ مبكراً لينطلق إلى صيده. وألمع مرسي دارجنتو إلى النمو السريع الحديث الذي طرأ على لوي-أوجست قد أخر تطوره الجنسي، وأنه لا حيلة في الأمر إلا الانتظار. وكتبت ماريا تريزا إلى ابنتها بعد أن أنبئت بالموقف تقول "كلاكما صغيرا جداً! أما أثر هذا على صحتكما فكله يعمل للخير. وسيكسبكما مزيداً مكن القوة"(11). وزاد بعض أطباء ولي العهد الطين بلة بأنباءه بأن الرياضة والطعام الطيب سيحفزان نموه الجنسي، ولكن حدث العكس، فقد جعلاه أكثر بدانة وميلاً للنعاس. وأخيراً، وفي أواخر عام 1770، حاول ولي العهد أن يحقق اكتمال الزواج بالدخول على زوجته. ولكنه فشل، وكانت النتيجة الوحيدة للمحاولة ألماً مخيباً للآمال. وأبلغ كونت أراندا، السفير الأسباني، ملكه بالآتي "يقولون إن عائقاً تحت القلفة يجعل محاولة الجماع مؤلمة جداً" أو "أن القلفة سميكة جداً بحيث لا تستطيع التمدد بمرونة اللازمة للانتصاب"(12). واقترح الجراحون إزالة العائق بجراحة شبيهة بالختان، ولكن ولي العهد رفض(13)وكرر محاولاته، دون أن يبلغ من ورائها إلا الإثارة والإذلال له ولزوجته. وظل الموقف على هذا الحال. وعمق إحساس ولي العهد بقصوره الزوجي شعوره بالنقص، ولعل هذا الشعور شارك في جعله ملكاً كثير التردد عديم الثقة بنفسه.

وأغلب الظن أن سني الإحباط الزوجي السبع هذه أثرت في خلق ماري أنطوانيت وسلوكها. وذلك أنها كانت عليمة بأن رجال البلاط ونساءه يسخرون من سوء طالعها، وأن أكثر فرنسا ترميها بالعقم وهي تجهل السبب. ومن ثم فقد آست بزيارات للأوبرا أو المسرح في باريس، وأسرفت في لبس الثياب الفاخرة الغالية، وتمردت على الاختلاط الكثير بالبلاط بكل مراسمه وبروتوكوله، وآثرت الصداقات الحميمة مع نفوس متعاطفة مثل الأميرال لامبال. وظلت طويلاً تأبى الحديث إلى مدام دباري، إما لاشمئزازها من أخلاقها وإما بدافع الحسد لأن امرأة أخرى تظفر بالحب هذا الظفر الكبير ويكون لها هذا النفوذ القوي على الملك. وفي 10 مايو 1774 مات لويس الخامس عشر. واندفعت الحاشية إلى مسكن ولي العهد. فوجدوه هو وولية العهد راكعين وهما يبكيان ويصليان. وقال الفتى ذو التسعة عشر ربيعاً وهو يبكي "اللهم احمنا! فنحن أصغر من أن نحكم!" وقال لصديق، "يا له من عبء! إنني لم أتعلم شيئاً، وإني لأشعر كأن الكون سيسقط فوقي"(14). وفي جميع أرجاء فرساي وباريس، ثم إلى أبعد ما سرى النبأ في فرنسا، هتف الرجال والنساء "مات الملك، يحيى الملك!" وكتب باريسي متفائل على تمثال لهنري الرابع هذه الكلمة "قام"(15)، لقد قام الملك العظيم من بين الأموات لينقذ فرنسا مرة أخرى من الفوضى والفساد والإفلاس والهزيمة.


الحكومة

ترى ماذا كان خطب الحكومة؟ إنها لم تبلغ في استبدادها ما بلغته حكومة بروسيا، ولا في فسادها ما بلغته حكومة إنجلترا، وكان جهازها البيروقراطي وإدارتها الإقليمية يضمان نفراً من الرجال الأفاضل وكثيراً من الرجال الأكفاء. ومع ذلك أخفقت ملكية البوربون في أن تلاحق تطور الشعب الاقتصادي والفكري. ونشبت الثورة الفرنسية بأسرع مما نشبت في غيرها لأن الطبقات الوسطى كانت قد بلغت شأناً من الذكاء أبعد مما بلغته في أي أمة معاصرة أخرى، وفرض فكر مواطنيها اليقظ المتنبه مطالب على الدولة أكثر حدة مما كان على أي حكومة في ذلك العصر أن تلبيه.

وكان فردريك الثاني ويوزف الثاني، وكلاهما نصير متحمس للفلسفة والملكية المطلقة، قد أدخلا في الإدارة السياسية لبروسيا والنمسا قدراً من النظام والكفاية لم يكن وقتها متوافراً في بلد كفرنسا يحب الاسترخاء واليسر اللاتينيين. "واستشرى الاضطراب والفوضى في كل مكان"(16)، ففي فرساي تنازع مجلس الملك في اختصاصه مع الوزراء، الذين تنازعوا فيما بينهم لأن وظائفهم تداخلت ولأنهم تنافسوا على الأموال العامة ذاتها، ولأنه لم تفرض عليهم من فوق سلطة توفق بين سياستهم. وانقسمت الأمة في ناحية إلى دوائر Bailllages أو Senechaussees في مجال القضاء، وفي أخرى إلى أقسام مالية (Geanéralités) في المالية، وفي ناحية ثالثة إلى إدارات (Gouvernements) في الجيش، وفي رابعة إلى أبرشيات Paroisses وأقاليم Provinces في الكنيسة. وفي كل قسم مالي كان الناظر الملكي يصطدم بالحاكم و "البرلمان" الإقليمي. وفي جميع أرجاء فرنسا اصطدمت مصالح المنتجين الريفيين مع مصالح المستهلكين الحضريين والأغنياء مع الفقراء، والنبلاء مع البرجوازيين، والبرلمانت مع الملك، ومست الحاجة إلى قضية موحدة للصفوف وإرادة آمرة، ولم تتوفر القضية إلا في 1792، ولا الإرادة إلا في 1799.

وكان القانون من أسوأ مظاهر الحياة الفرنسية، ومع ذلك كان القضاة من أفضلها. واتبع جنوب فرنسا القانون الروماني، وشملها القانون العام والإقطاعي. يقول دتوكفيل "إن العدالة كانت معقدة، مكلفة، بطيئة"(18)-رغم أن هذه شكوى عامة في جميع البلاد. وكانت السجون قذرة، والعقوبات وحشية، والتعذيب القضائي ظل مسموحاً به في 1774. وكان القضاة غير قابلين للعزل، منصفين غير قابلين للرشوة عادة. وقد ذهب السر هنري مين إلى أن رجال القضاء في فرنسا "من حيث جميع الصفات المطلوبة في المحامي، والقاضي، والمشرع، يبزون كثيراً نظراءهم في طول أوربا وعرضها"(19). وكانوا يشغلون مناصبهم مدى الحياة، ومن حقهم توريثها لأحد الأبناء. ووجد أكفأهم طريقه إلى البرلمانات الإقليمية، واختبر أغناهم وأعظمهم نفوذاً أعضاء في برلمان باريس. وما وافى عام 1774 حتى كانت طبقة "نبلاء الرداء القضائي"-أي القضاة الوارثيون قد انتهت إلى اعتبار نفسها مساوية إلا أقل قليلاً لطبقة "نبلاء السيف" في الكرامة والاستحقاق. ولم تسمح بعضوية البرلمانات إلا لمن ولدوا في إحدى الطبقتين الأرستقراطيتين.

كان من رأي مونتسكيو أن "الهيئات الوسيطة" بين الملك والشعب هي كوابح مفيدة على السلطة الأوتقراطية، وحدد قوتين من هذه الهيئات هما النبلاء ملاك الأراضي والقضاة ولكي تقوم البرلمانات بهذه الوظيفة الكابحة طالبت بسلطة التصديق (أو التسجيل) على أي مرسوم ملكي، أو رفضه حسبما يتفق في رأيها أو يتعارض مع القوانين والحقوق الراسخة. وأعربت عدة برلمانات إقليمية، خصوصاً برلمانات جرينوبل، وروان، وربن، عن مبادئ شبه ديموقراطية، أحياناً بعبارات مقتبسة من روسو عن "الإرادة العامة" و "الموافقة الحرة للأمة"، من ذلك أن برلمان رين أعلن في 1788 "أن الإنسان ولد حراً، وأن الناس في الأصل متساوون؛ و "أن هذه الحقائق ليست في حاجة إلى إثبات"(20)، على أن البرلمانات كانت بوجه عام المدافع القوي عن فوارق الطبقات وامتيازاتها. وقد شاركت نزاعاتها مع السلطة الملكية في الإعداد للثورة، ولكن حين اقتربت الثورة انحازت إلى النظام القديم، وسقطت بسقوطه.

وكانت السلطة الملكية من الناحية النظرية مطلقة. فالملك وفقاً للتقليد البوربوني هو المشرع الأوحد، وهو السلطة التنفيذية الرئيسية، وهو المحكمة العليا، وفي استطاعته أن يأمر بالقبض على أي شخص في فرنسا وحبسه إلى أجل غير مسمى دون إبداء السبب أو السماح بمحاكمته، وحتى لويس السادس عشر الرقيق القلب كان يرسل من قصره أوامر الاعتقال المختومة هذه. وكان الملك قد ورث مؤسسة غالية التكلفة، تعد نفسها هيئة لا غنى عنها إدارة الحكومة وهيبتها. ففي 1774 كان بلاط فرساي يضم الأسرة المالكة و886 نبيلاً، هم ونساؤهم وأبناؤهم، يضاف إليهم 295 طاهياً، و56 صياداً، و47 موسيقياً وثمانية معماريين، وأشتات من السكرتيرين، وكهنة القصر، والأطباء والسعاة والحراس...، يبلغون في مجموعتهم ستة آلاف شخص، مع عشرة آلاف جندي يرابطون عن كثب. وكان لكل عضو في الأسرة المالكة بلاطه أو بلاطها الخاص، وكذلك كان لبعض النبلاء الممتازين، أمثال أمير كونديه وأمير كونتي ودوق أورليان ودوق بوربون. واحتفظ الملك بعدة قصور-في فرساي، ومارلي، ولامويت، ومودون، وشوازي، وسان-أوبير، وسان-جرمان، وفونتبلو، وكومبيين، ورامبوييه. وكان من المألوف أن ينتقل من قصر إلى آخر، بعض الحاشية الذين يحتاجون إلى المسكن والطعام، وفي 1780 بلغت نفقات مائدة الملك 3.660.491 جنيهاً(21).

وكانت رواتب موظفي البلاط معتدلة، ولكن المنح والعلاوات كانت مطاطة؛ من ذلك أن المسيو أوجار-وكان سكرتيراً في إحدى الوزارات-لم يجاوز راتبه تسعمائة جنيه في العام، ولكنه اعترف بأن الوظيفة غلت له كل عام 200.000 جنيه خالصة. وغلت عشرات الوظائف الشرفية المال لأعضاء الحاشية بينما كان العمل يؤديه مرءوسوهم، مثال ذلك أن مسيو ماشو كان يقبض ثمانية عشر ألف جنيه نظير التوقيع بإسمه مرتين في العام(22). وأجريت عشرات المعاشات التي بلغت جملتها 28.000.000 جنيه كل عام على النبلاء ذوي النفوذ أو محاسبيهم(23). وكانت عشرات الدسائس تدبر لتقرير المحظوظ الذي سيظفر بكرم الملك وسخائه الطائش. وكان يتوقع منه أن يعين الأسر النبيلة القديمة التي أعسرت، وأن يقدم المهور لبنات النبلاء عند زواجهن. وكان كل من أبناء لويس الخامس عشر الأحياء يتلقى ما يقرب من 150.000 جنيه في العام. وكان راتب كل وزير دولة يرقى إلى 150.000 جنيه في العام، إذ كان المفروض فيه أن يفتح باب الضيافة على مصراعيه. كل هذا السفه في الإنفاق، وكل هذه المعاشات، والهبات، والواتب، والمناصب الشرفية، كانت تدفع من إيرادات تؤخذ من حياة الأمة الاقتصادية. وقد كلف البلاط فرنسا مبلغاً جملته خمسون مليون جنيه في العام-وهو عشر مجموع إيراد الحكومة(24).


الملكة العذراء

وكانت ماري أنطوانيت أكثر أعضاء البلاط إسرافاً. ذلك أنها وقد ارتبطت بزوج عنين، وحرمت الرومانس، ولم تشغلها علاقات غرامية، راحت تتسلى حتى عام 1778 بالغالي من الثياب، والجواهر، والقصور، والأوبرات، والمسرحيات، والمراقص. وكانت تخسر الثروات في القمار، وتهب الثروات للمحاسيب في كرم متهور. وقد أنفقت 252.000 جنيه على ثيابها في عام واحد (1783)(25)، وأتاها مصممو الأزياء بالغريب الطريف من الأثواب المسماة "المباهج الطائشة" أو "العلامات المكبوتة" أو "الرغبات المقنعة"(26). وكان مصففات الشعر يعكفن الساعات فوق رأسها يصعدن شعرها حتى يبلغ ارتفاعات يبدو ذقنها فيها وقد توسط قامتها، وقد قررت هذه "التسريحة العالية"، كما قررت معظم الأشياء التي ابتدعتها، زي نبيلات البلاط، فزي باريس، فزي عواصم الأقاليم.

أما شغفها بالحلي والمجوهرات فقد أوشك أن يكون هوساً. ففي 1774 ابتاعت من بومر، وهو الجواهري الرسمي للتاج، أحجاراً كريمة قيمتها 360.000 جنيه(27). وأهداها لويس السادس عشر طقماً من العقيق، والماس والأساور، وثمنه 200.000 جنيه(28). وفي 1776 كتب مرسي دارجنتو إلى ماريا تريزا يقول: "مع أن الملك أعطى الملكة في شتى المناسبات ما يساوي أكثر من 100.000 "أيكو" من الماس، ومع أن جلالتها تملك الآن مجموعة هائلة، إلا أنها مصممة على شراء حلق على شكل الثريا من بومر. ولم أخف عن جلالتها أنه كان أحكم في الظروف الاقتصادية الراهنة لو تجنبت هذا لإنفاق الباهظ، ولكنها لم تستطع مقاومة رغبتها-وإن أجرت الصفقة في حذر مخفية أمرها عن الملك"(29).

وبعث ماريا تريزا إلى ابنتها بتوبيخ صارم، واكتفت الملكة بالتزين بحليها في المناسبات الرسمية فقط، ولكن الشعب لم يغتفر لها قط هذا التبذير المفرط في ضرائبه، وبعد حين سيصدق أنها وافقت على شراء القلادة الماسية الشهيرة. أما الملك فقد أغضى عن مواطن الضعف في زوجته لأنه كان يعجب بها ويحبها، ولأنه كان شاكراً لها صبرها على عجزه الجنسي. فدفع لها ديون القمار التي استدانتها من جيبه الخاص وشجع زياراتها لأوبرا باريس، وإن علم أن مرحها المعلن على الملأ يزعج شعباً ألف في ملوكه الوقار والحشمة. ودفعت الحكومة نفقات ثلاث حفلات مسرحية، وحفلتي رقص، وعشائين رسميين في البلاط مرتين كل أسبوع تقريباً، يضاف إلى هذا أن الملكة كانت تحضر المراقص المقنعة في باريس أو في البيوت الخاصة. لقد كانت هذه السنوات 1774-77 فترة تبديد وإسراف على حد قول أمها بصراحة. وإذ كانت الملكة لا تجني من وراء مغازلات زوجها في الليل سوى الرغبة توقظ دون إشباع، فقد شجعته على النوم مبكراً (مقدمة ساعة الحائط أحياناً لتعجيل ذهابه للفراش) حتى تستطيع مشاركة الأصحاب ألعاباً قد تمتد الليل بطوله. وكانت زاهدة في الأدب، واهتمامها بالفن قليل، وأكثر منه اهتمامها بالدراما والموسيقى، وكانت تجيد الغناء والتمثيل وتعزف على الهارب، وتؤدي بعض صوناتات موتسارت على الكلافيكورد(30).

وبين هذه العيوب جميعها كان واحد فقط عيباً جوهرياً-ذلك هو التبذير نتيجة للسأم والإحباط، ولطفولة وصبى ألفا الترف وجهلا الفقر. وقد زعم الأمير لين (الذي ربما كان فيه من صفات الجنتلمان أكثر مما فيه من صفات المؤرخ) أنها ما لبثت أن تخلصت من شغفها بالثياب الغالية، وأن خسائرها في القمار بولغ فيها، وأن ديونها ترجع إلى سخائها غير الحكيم بقدر ما ترجع إلى إنفاقها الطائش(31). وناصبها البلاط والصالونات العداء لأنها نمساوية، ولم يكن الحلف مع النمسا من قبل محبوباً على الإطلاق. وكانت ماري أنطوانيت، التي لقبت بـ "النمساوية" تجسيداً لذلك الحلف، وقد اشتبه الفرنسيون، ولهم بعض الحق، في أنها تخدم المصالح النمساوية، على حساب فرنسا أحياناً. ولكن حتى مع هذا، فإن حيويتها الشابة، ومرحها ورقة قلبها، كلها كسبت قلوباً كثيرة. حدث مرة أن جاءت مدام فيجيه-لبرون، الحبلى منذ شهور كثيرة، لتصورها (1779)، وبينما كانت المصورة عاكفة على رسمها أسقطت بعض أنابيب الألوان، وللتو قالت لها الملكة لا تنحني، "لأنك بعيدة جداً عنها" ثم التقطت بنفسها الأنابيب(32). وكانت أنطوانيت ترعى مشاعر غيرها عادة. ولكنها أحياناً، في مرحها الطائش كانت تضحك من لأزمات غيرها أو عيوبهم. وكانت تستجيب بغاية السرعة لكل رجاء، "أنها لم تعرف بعد خطر الاستسلام لكل دافع كريم"(33).

مثل هذه المخلوقة المفعمة بالحيوية، والتي كانت الحياة والحركة عندها مرادفين، لم تخلق لخطو مراسم البلاط، ذلك الخطو البطيء والحذر. وسرعان ما تمردت عليه، والتمست البساطة واليسر في البتي تريانون وحوله، وكان على ميل من قصر فرساي. وفي 1778 أهدى لويس السادس عشر الملكة هذا الملتقى ملكاً خالصاً لها، تستطيع أن تخلو فيه مع أخصائها، ووعد لويس أنه لن يتطفل عليهم إلا إذا دعي. ولما لم يكن في المبنى غير غرف ثمان، فقد أمرت الملكة ببناء بعض الأكواخ بقربه لأصحابها وخططت لها الحدائق المحيطة به على النمط "الطبيعي"-بممرات ملتفة، وأشجار منوعة، ومخابئ، وجداول حمل إليه الماء في أنابيب من مارلي بتكلفة غالية. ولاستكمال حلم روسو في العودة إلى الطبيعة أمرت بإقامة ثماني مزارع صغيرة في الحديقة الملاصقة، ولكل منها كوخها الريفي، وأسرتها الفلاحة، وكوم سباخها، وأبقارها. هناك كانت تقلد راعيات الغنم فتلبس عباءة بيضاء، ومنديلاً لن الشاش، وقبعة من الخوص، وكانت تحب أن ترى اللبن يحلب بالملاطفة من خير الضروع في آنية من برسلان سيفر. وكانت هي وأصدقاؤها يعزفون أو يلعبون ألعاباً داخل البيتي ترينون، وعلى الخمائل يولمون الولائم للملك أو لكبار الزوار. وهناك وفي القصر الملكي أيضاً. وكانت الملكة تخرج المسرحيات التي تلعب أدواراً هامة في بعضها-كدور سوزان في "زواج فيجارو"، ودور كوليت في "عراف القرية" فتبهج الملك بتنوع مواهبها وجاذبيتها.

فلما خشيت تقول المتقولين إن هي أسرفت في حرية الاختلاط بالرجال، كونت مع بعض النساء صداقات حميمة بلغت من الوثاقة ما وجه النميمة وجهة أخرى. فجاءت أولاً ماري-تريز وسافوا-كارنيان، أميرة لامبال، الرقيقة، الحزينة، الهشة. وكان قد انقضى عليها سنتان في ترملها مع أنها لم تجاوز الحادية والعشرين. وكان زوجها-وهو ابن دوق بنتييفر حفيد لويس الرابع عشر-يعاشر الخليلات ويختلف إلى المومسات بعد زواجه بقليل، فأصيب بالزهري ومات به بعد أن اعترف بآثامه لزوجته في تفصيل مقزز. ولم تفق قط من المحنة الطويلة التي ابتلاها بها ذلك الزواج، وظلت تعاني من التقلصات العصبية ونوبات الإغماء حتى مزقها إرباً جمهور من غوغاء الثورة في 1792-وانعطفت ماري أنطوانيت نحوها بدافع الشفقة أول الأمر، ثم تعلمت أن تحبها حباً حاراً، فتلقاكما كل يوم، وتكتب لها رسائل الإعزاز مرتين في اليوم أحياناً. وفي أكتوبر 1775 عينت الأميرة مشرفة على بيت الملكة، وأقنعت الملك رغم اعتراضات طورجو بأن يقرر لها راتباً سنوياً قدره 150.000 جنيه. ثم كان للأميرة أقرباء وأصدقاء، التمسوا منها أن تستخدم نفوذها لدى الملكة، وعن طريقها لدى الملك، لنيل المناصب أو الهبات. وبعد عام تركت أنطوانيت محبتها لها تذبل واتخذت صديقة أخرى.

وكانت هذه الصديقة الجديدة، واسمها يولند دبولا سترون زوجة الكونت جول دبوليناك، عريقة المنبت رقيقة الحال؛ كانت خلوة، صغيرة الجسم، طبيعية، وما كان أحد ليخامره الظن إذا رآها بأن فيها هذا الشره للمال الذي أيأس طورجو من موازنة الميزانية ما دامت الملكة تجد متعة في صحبتها الظريفة. فلما قاربت الكونتيسة موعد الوضع أقنعتها الملكة بأن تنتقل إلى لاموييت، وهي فيللا ملكية بقرب قصر فرساي، وهناك كانت تزورها كل يوم حاملة إليها الهدايا دائماً تقريباً. فلما أصبحت الكونتيسة أماً لم تضن عليها الملكة بشيء،: 400.000 جنيه لتسوية ديونها، ومهر لابنتها قدره 800.000 جنيه، وسفارة لأبيها، ومال، وحلي، وفراء، وتحف فنية لشخصها، وأخيراً (1780) دوقية وضيعة بيتش، لأن الكونت كان تواقاً لأن يصبح دوقاً. وقال مرسي دارجنتو للملكة آخر الأمر أنها تستغل، وأن الدوقة الجديدة لا تبادلها محبتها، واقترح على الملكة، التي وافقت على اقتراحه، أن تطلب إلى مدام دبولنياك على سبيل الامتحان أن تطرد من بطانتها الكونت دفودروي الذي كانت أنطوانيت تمقته، فأبت المدام، وانصرفت أنطوانيت عنها إلى صداقات أخرى. وهكذا انضم آل بولنياك إلى صفوف أعدائها، واصبحوا مصدراً للافتراءات التي لوثت بها الحاشية وكتاب الكراريس اسم الملكة.

وكان كل شيء تقريباً تأتيه يخلق لها الأعداء. فأفرد الحاشية يتحسرون على الهبات التي تغدقها على محاسبيها، لأن هذا معناه أن يقل عطاؤهم، وشكوا من أنها أكثرت الغياب عن مهامها في البلاط حتى فقدت هذه المهام بهاءها وقل الإقبال على حضورها. ولامها الآن كثيرون ممن عابوا من قبل غرامهما القديم بالثياب الغالية، لأنها قررت زياً جديداً تميز ببساطة الملبس. وقالوا أن هذا نذير بإفلاس نجار الحرير في ليون وخياطي باريس(34). وكانت قد أقنعت الملك بإقالة الدوق ديجيون (1775) الذي تزعم أنصار مدام دوباري، وكان للدوق متعاطفون كثيرون، كونوا نواة أخرى من الأعداء. وبعد عام 1776 شن كتاب الكراريس الباريسيون على الملكة حملة قدح قاس لا هوادة فيه(35)-وكان كثير منهم يتلقون المعلومات والمال من بعض الحاشية(36)، فوصفها بعض الكتاب بأنها الخليلة، وفي وقت أو آخر، لكل ذكر موجود في فرساي(37). وقد تساءلت كراسة عنوانها "تأنيب للملكة". كم مرة تركت فراش الزوجية وقبلات زوجك لتسلمي نفسك للباخوسيات أو السواطير ولتندمجي معهم في متعتهم الوحشية؟"(38).

وصورت كراسة أخرى تبذيرها بوصف الحائط في البتي تريانون زعمته مكسواً بالماس(39). واتهمتها الشائعات بأنها قالت خلال حوادث الشغب التي وقعت بسبب شح الخبز عام 1788 "إذا لم يكن لديهم خبز فليأكلوا كعكاً"، ويجمع المؤرخون على أنها لم تذنب قط بقول تلك الملاحظة القاسية(40)، فهي على العكس أسهمت بسخاء من جيبها الخاص في التخفيف عن الشعب. وأشد وأنكى حتى من هذا كله ما شاع وذاع بين الجماهير من أنها عاقر. تقول مدام كمبان الوصيفة الأولى لمخدع الملكة: "حين ولد ابن للكونت دارتوا عام 1777، تبع نساء السوق وبائعات السمك الملكة حتى باب مسكنها ذاته، مؤكدات حقهن في الدخول إلى القصر الملكي في مناسبات الولادات الملكية، وطفقن يصحن بأشد العبارات غلظة وسوقية قائلات أن من واجبها هي، لا سلفتها، أن تأتي بورثة للتاج الفرنسي. وعجلت الملكة بإغلاق بابها دون هؤلاء العجائز الشكسات الوقحات. واعتكفت في حجرتها معي تندب حظها التعس"(41). فأنى لها أن تشرح للشعب أن الملك عنين؟

وانتظرت فرنسا إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة ليأتي ويزيل هذه العقدة. وفي أبريل 1777 وصل يوزف الثاني فرساي متخفياً تحت اسم الكونت فون فالكنشتين. ووقع في غرام الملكة، وقال لها "لو لم تكوني أختي لما ترددت في أن أتزوج ثانية ليكون لي رفيق ساحر مثلك"(42). ثم كتب لشقيقتهما ليوبولد يقول: "لقد أنفقت معها الساعة تلو الساعة، دون أن الحظ مرور الزمن... أنها امرأة ساحرة نبيلة، ما زالت صغيرة بعض الشيء، طائشة قليلاً، ولكنه في صميمها كيسة فاضلة.. كذلك فيها جرأة ورهافة أدهشتاني، واستجابتها الأولى صائبة دائماً، ولو أنها أطاعتها... واهتمت اهتماماً أقل بالقيل والقال... لبلغت مرتبة الكمال. ولها رغبة قوية في متع الحياة، ولما كانت ميولها معروفة، فإن ضعفها يستغل..

"ولكنها لا تفكر إلا في متعتها، ولا تحب الملك، وقد ثملت بإسراف هذا البلد... وهي تسوق الملك بالقوة لأشياء لا يريد فعلها... فهي باختصار لا تؤدي واجبات الزوجة أو الملكة"(43).

وقد أضحت السبب في أنها والملك ينامان في حجرتين منفصلتين، فهو يحب النوم مبكراً، وقد وجد كلاهما من الحكمة تجنب الإثارة الجنسية. وزار يوزف الملك وأحبه كثيراً. وكتب لليوبولد يقول "هذا الرجل فيه ضعف ولكنه ليس أبله. فله أفكار وحكم سديد، ولكن عقله وجسمه ضعف فاتران. وهو يتحدث بشكل معقول، ولكن ليس به رغبة في التعليم ولا حب للاستطلاع. والواقع أن لحظة "انطلاق النور" لم تأت بعد، والأمر لا زال مفتقراً إلى الشكل"(44). وتحدث الإمبراطور إلى لويس حديثاً لم يجرؤ أحد من قبل على مصارحته به، فأشار إلى أن العائق في قلفة الملك يمكن إزالته بجراحة بسيطة وإن كانت مؤلمة، وأن على الملك لوطنه ديناً هو أن ينجب أبناء، ووعد لويس بأن يستسلم لمبضع الجراح.

وقبل أن يغادر يوزف فرساي كتب ورقة "تعليمات" للملكة. وهي وثيقة جديرة بالتنويه.

"إنك تكبرين، ولم يعد لك عذر من صغر السن. فما مصيرك إذا أخرت (صلاح أمرك) أكثر من هذا؟.. فحين يعانقك الملك، وحين يتحدث إليك، ألا تبدين الضيق، بل حتى النفور؟ هل خطر ببالك يوماً أي أثر لا بد أن تخلفه في الشعب... علاقاتك الحميمة وصداقاتك؟... هل وزنت النتائج الرهيب لألعاب الحظ، وما تجمع من أصحاب وما يضربونه من مثل؟...".

وقال عن ولعها بالمراقص التنكرية في باريس:

لم الاختلاط بحشد من الفاسقين، والمومسات، والأغراب، تستمعين إلى ملاحظاتهم، وربما تبدين مثلها؟ يا له من تبذل؟... إنك تتركين الملك وحيداً الليل كله في فرساي بينما تندمجين في المجتمع وتخالطين أوشاب الباريسيين؟ إنني في الحق أرتعد خوفاً على سعادتك، لأن هذا لا يمكن أن يؤول إلى خيرك المدى الطويل، وستنشب ثورة قاسية ما لم تتخذي الخطوات لتجنبها"(45).

وتأثرت الملكة من لومه. فكتبت إلى أمها بعد رحيله: "لقد ترك رحيل الإمبراطور فراغاً لا أستطيع ملأه، ولقد كنت سعيدة جداً خلال تلك الفترة القصيرة حتى ليبدو الأمر كله وكأنه حلم من الأحلام. ولكن الشيء الذي لن يكون حلماً عندي هو كل النصيحة الحكيمة... التي بذلها لي، والتي نقشت على صفحة قلبي إلى الأبد"(46). على أن الذي أصلحها حقاً لم تكن النصيحة بل الأمومة. ذلك أن لويس استسلم في ذلك الصيف من عام 1777، دون مخدر من أي نوع فيما يبدو، لجراحة نجحت نجاحاً تاماً. واحتفل بعيد ميلاده الثالث والعشرين (23 أغسطس 1777) باستكمال علاقته الزوجية في النهاية. وكان فخوراً سعيداً. وأسر لعمة عذراء قائلاً "أنني أستمع كثيراً بهذه اللذة ويؤسفني حرماني منها هذا الزمن الطويل"(47). على أن الملكة لم تحبل إلا في أبريل 1778. وأنهت النبأ إلى الملك بطريقتها المرحة: "مولاي، لقد جئت أشكو إليك أحد رعاياك الذي بلغت به الجرأة أن يرفسني في بطني"(48). فلما أدرك لويس المعنى الذي ترمي إليه ضمها بين ذراعيه. وراح الآن أكثر من أي وقت مضى يستجيب لنزواتها ويمنحها كل سؤال لها. وكان يزور مسكنها عشر مرات في اليوم ليطلع على آخر بلاغ عن سير الوريث المرتقب. وقالت ماري أنطوانيت للملك وقد طرأ عليها تحول جسدي ونفسي غامض "منذ الآن أريد أن أعيش حياة غير التي عشتها من قبل. أريد أن أحيا حياة أم، وأرضع طفلي، وأكرس نفسي لتربيته"(49).

وبعد معاناة شديدة، زادتها شدة قابلة تفتقر إلى المهارة، وضعت الملكة في 19 ديسمبر 1778 وأسف الوالدان على أن الولي بنت، ولكن أسعد الملك أن مغاليق الحياة فتحت، وكان على ثقة من أن الابن قادم في الوقت المناسب. أما الأم الشابة فقد اغتبطت لأنها حققت ذاتها في نهاية المطاف. وكتبت لماريا تريزا في 1779 (وكانت الأم في بداية عامها الأخير) تقول: "لماما العزيزة أن ترضى كل الرضى عن سلوكي. وإذا كنت ملومة في الماضي، فالسبب أنني كنت غرة طائشة. أما الآن فإنني أكثر تعقلاً، وأنا شديدة الوعي بواجبي"(50). ولم يصدق البلاط ولا الشعب، ولكن-كما كتب الكونت سيجور "من الحقائق المسلم بها أنها بعد مولد طفلها الأول بدأت شيئاً فشيئاً تعيش حياة أكثر انتظاماً، وتشغل نفسها على نحو جاد. وهي أشد حرصاً على تجنب أي شيء من شأنه أن يثير القيل والقال... وحفلاتها المرحة أقل عدداً، وأقل صخباً... والإسراف يخلي مكانه للبساطة، والأرواب الفاخرة تحل محلها الفساتين التيلية الصغيرة"(51). ولقد كان جزءاً من العقاب الطويل الذي عوقبت به ماري أنطوانيت أن شعب فرنسا أبى أن يدرك أن الفتاة المدللة المستهترة قد غدت أماً حنوناً حية الضمير. فلا شيء يضيع هباء، ولكن كل شيء لا بد أن يدفع ثمنه.

وكانت عليمة بأن القانون الفرنسي يحرم النساء من العرش. لذلك رحبت بالحمل الثاني، وتمنت على الله ولداً. ولكنها عانت من سقط بلغ من شدته أنه أفقدها معظم شعرها(52). ولكنها كررت المحاولة، وفي 22 أكتوبر 1781 ولدت غلاماً سمي لوي- جوزف- زافير. وتشكك الساخرون في نسب الطفل، ولكن الملك السعيد شرب عنهم صفحاً وصاح "ولدي الدوفن! ولدي!".


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الملك الطيب

كان لويس النقيض لزوجته في كل شيء إلا السن. وكانت رشيقة، سريعة الخاطر، خفيفة الحركة، لعوباً، مندفعة، جياشة، طائشة، مسرفة، مؤكدة لذاتها، متكبرة، ملكة دائماً؛ وكان بطئ الحركة، بليداً، متردداً، رزيناً، هادئاً، كادحاً، مقتصداً، متواضعاً، عديم الثقة بنفسه، كل ما فيه ينطق بأنه ليس ملكاً. كان يحب النهار، وعمله، وصيده، وكانت تهوى الليل، ومائدة القنار، والمرقص. ومع ذلك لم يكن زواجهما بالزواج التعس بعد سنوات التجربة الأولى تلك، فقد كانت الملكة وفية لزوجها، والملك شغوفاً بزوجته، وحين جاء الحزن أحكم الجمع بينهما في شخص واحد.

كانت قسماته سوية، ولعله كان يكتسب الوسامة لو حد من وزنه. وكان طويل القامة، خليقاً بأن يكون له سمات الملوك لولا أن شاب مشيته كتفان متأرجحتان وخطوة ثقيلة. وكان يشكو ضعفاً في بصره زاده ارتباكاً وثقل الحركة، وندر أن كان شعره منتظماً. ذكرت مدام كمبان أن "شخصه كان مهملاً جداً"(54) وكان مفتول العضل قوي البدن، وقد رفع مرة أحد أتباعه بذراع واحدة. وكان نهماً، معتدلاً في شرابه، ولكنه كان أحياناً يثمل بالطعام، فيقتضي الأمر إعانته على الذهاب إلى فراشه(55). وكان له هوايات قليلة، ونشوات طرب قليلة، وساعات ألم مفرط قليلة. ولم يكن شعوره شعور الراحة واليسر مع الفرنسيين المحيطين به، الذين دربوا على يقظة الذهن وسرعة البديهة في الحديث؛ على أنه في أحاديثه الخاصة وقع موقعاً طيباً من رجال كيزوف الثاني بفضل سعة معرفته وسداد حكمه. استمع إلى الأمير هنري البروسي، شقيق فردريك الأكبر يقول: "إن الملك أدهشني... فلقد أنبئت أن تعليمه قد أهمل، وأنه لا يعرف شيئاً، وأنه قليل الذكاء. ولكني ذهلت أن أرى وأنا أتحدث معه أنه يعرف الجغرافيا معرفة جيدة جداً، وأن له أفكاراً صائبة في السياسة، وأن سعادة شعبه كانت دائماً ماثلة في فكره، وأنه يفيض بالإدراك السليم الذي هو في الملك أعظم قيمة من الذكاء اللامع، ولكنه كان مسرفاً في عدم الثقة بنفسه"(56).

وكان لويس يقتني مكتبة حسنة أفاد منها، فقرأ وترجم جزءاً من كتاب جبون "اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها"(57)، ولكنه نحاه عنه حين تبين نزعته المعارضة للمسيحية. وقرأ وأعاد قراءة كتاب كلارندون "تاريخ التمرد" كأنه يحس في دخيلة نفسه بأنه سيكرر مصير تشارلز الأول. قال "لو كنت في مكانه لما امتشقت الحسام قط في وجه شعبي"(58). ولكي يرشد رحلة بيروز الباسفيكية (1785) كتب تعليمات مفصلة نسبها وزراؤه إلى علماء أكاديمية العلوم(59). وكان على صلة وثيقة بمختلف وزرائه لا سيما في الشئون الخارجية. وأعجب واشنطن وفرانكلين بسداد حكمه(60). وكانت نواحي ضعفه في الإرادة في الفكر، ولعلها ارتبطت بثقل غذائه ووزنه. ومن أهم صفاته عجزه عن مقاومة الإلحاح أو الخلوص من التفكير إلى التنفيذ. وكان هو نفسه يمارس الاقتصاد، ولكن كان فيه من اللطف ما منعه من فرضه على الآخرين، وكان يوقع بالموافقة على صرف مئات اللوف من الفرنكات استجابة لأمر زوجته.

على أن الفضائل لم تعوزه. فهو لن يتخذ خليلة، وكان فيه وفاء لأصدقائه ربما باستثناء طورجو "أغلب الظن أنه لم يفقه غير طورجو من رجال جيله في حب الشعب أعظم حب"(61). ففي يوم اعتلائه العرش أمر المراقب العام للمالية بتوزيع 200.000 فرنك على الفقراء، وأضاف "إن وجدت هذا أكثر مما تسمح به حاجات الدولة فخذه من راتبي"(62). وقد منع جمع "ضريبة التتويج" التي كانت تجعل من استهلال حكم الملك عبئاً جديداً على الأمة. وفي 1784 حين كانت باريس تعاني من الفيضانات والأوبئة، خصص ثلاثة ملايين من الفرنكات لإعانة الشعب. وخلال شتاء قارس البرد للفقراء يوماً بعد يوم بأن يغيروا على مطبخه ويصيبوا منه طعاماً. وكان مسيحياً لقباً، وواقعاً، والتزاماً بالشعائر، فكان يتبع كل الطقوس الكنسية وقواعدها بحذافيرها، ويصوم الصيام الكبير كله رغم ولعه بالطعام. وكان متديناً دون التعصب أو إعلان عن النفس، فهو الذي منح الحقوق المدنية لبروتستانت فرنسا رغم سنيته وتدينه. وقد حاول التوفيق بين المسيحية والحكم، وذلك أمر ليس في الدنيا أصعب منه.

وكان عليه أن يعيش عيشة الملك مظهراً رغم حبه البساطة، فيجوز مراسم استيقاظ الملك Levée ويدع الاتباع والحاشية يلبسونه ثيابه، ويتلو صلوات الصباح في حضرتهم، ويستقبل الناس، ويرأس المجلس الملكي، ويصدر المراسم، ويحضر حفلات الغداء أو العشاء، والاستقبال، والرقص-مع أنه لم يكن يرقص. ولكنه عاش كأي مواطن صالح على قدر ما سمح به منصبه وشهيته. وقد وافق روسو على أن من واجب كل إنسان أن يتعلم حرفة يدوية، فتعلم عدة حرف، من صناعة الأقفال إلى البناء. وتخبرنا مدام كمبان أنه "سمح لصانع أقفال من عامة الشعب بدخول مسكنه الخاص، وكان يصنع معه المفاتيح والأقفال، وكثيراً ما كانت يداه اللتان اسودتا من هذا الضرب من العمل مثار لوم بل توبيخ حاد من الملكة في حضرتي"(63). وكان يستهويه كل شيء يتصل بالبناء، فيعين عمال القصر على نقل المواد، والعوارض، وبلاط الرصف. وكان يحب أن يقوم بترميم ما يحتاج إلى ترميم في مسكنه بيديه هو، وكان زوجاً صالحاً كأزواج أوساط الناس. وقد احتوت إحدى حجراته على أدوات الجغرافيا، والكرات الأرضية، والخرائط الجغرافية-التي رسم بعضها بنفسه؛ واحتوت حجرة أخرى أدوات للشغل في الخشب، وجهزت ثالثة بكير وسندان، وأشتات كثيرة من الأدوات الحديدية. وقد عكف شهوراً على صنع ساعة حائط ضخمة تسجل الشهور واوجه القمر والفصول والسنين. وشغلت مكتبته عدة حجرات.

وقد أحبته فرنسا، حتى إلى موته وبعد موته، لأن الذي أعدمه بالجليوتين في 1793 لم تكن فرنسا بل باريس. وفي تلك السنين الأولى كان الترحيب به عاماً تقريباً. كتب فردريك الأكبر لدالامبير "أن لديكم ملكاً طيباً جداً، وأنا أهنئكم عليه من كل قلبي. فالملك الحكيم الفاضل خليق بأن يخشاه منافسوه أكثر من ملك لا يملك من الفضائل غير الشجاعة". وأجاب دالمبير "أنه يحب طيبة القلب، والإنصاف، والاقتصاد، والسلام... أنه بالضبط ما كان ينبغي أن نصبوا إليه في ملكنا لو لم يمنحنا إياه قدر كريم"(64). ووافق فولتير على هذا الرأي: "كل ما صنعه لويس منذ توليه العرش حببه لفرنسا"(65). وقد استعاد جوته في شيخويخه ذكر هذا الاستهلال الميمون: "في فرنسا أبدى ملك جديد خيرّ أحسن النوايا. لتكريس نفسه للقضاء على مفاسد كثيرة، ولتحقيق أنبل الأهداف، وهي إدخال أسلوب في الاقتصاد السياسي من تظن وكفء، والاستغناء عن كل سلطة تعسفية، والحكم بالقانون والعدالة وحدهما. وقد عمت الدنيا أبهج الآمال، ووعد الشباب الواثق نفسه والنوع الإنساني كله بمستقبل زاهر مشرق"(66).


وزارة طورجو 1774 - 1776

كان اول هم للويس السادس عشر أن يعثر على وزراء أكفاء أمناء يصلحون الفوضى التي استشرت في الإدارة والملية. وكان الشعب يطالب في إلحاح بعودة "البرلمانات" التي أقصبت، فأعادها، وأقال موبيو الذي حاول من قبل لأن يحل محلها هيئة أخرى، ورد إلى فرساي لرآسة وزارته جان- فردريك فلبو، كونت موريبا، الذي كان وزيراً للدولة من 1738 إلى 1749، وأقيل لأنه عرض في أهجوة ساخرة بمدام دبومبادور، فعاد الآن إلى السلطة بعد أن بلغ الثالثة والسبعين. وكان اختياراً كريماً ولكنه غير موفق، لأن موريبا بعد أن عاش عقداً على وضعيته الريفية، كان قد فقد صلته بتطور فرنسا في اقتصادها وفكرها، وكان فيه من الظرف أكثر مما فيه من الحكمة. أما للشئون الخارجية فقد اختار الملك ذو العشرين شارل جرافييه، كونت ديفرجين، ولوزارة الحربية الكون كلود- لوي دسان- جرمان، ولوزارة البحرية آن- روبير- جاك طورجو، بارون دلولن.

وقد رأيناه في صفحات سابقة لاهوتياً، ومحاضراً في المسيحية والتقدم، وصديقاً للفزيوقراطيين وجماعة الفلاسفة الفرنسيين، وناظراً ملكياً مقداماً خيراً في ليموج. وقد حذر أتقياء القصر لويس من استخدام طورجو لأنه كافر سبق أن شارك في "الموسوعة" بمقالاته(67)، ومع ذلك ففي 24 أغسطس 1774 رفعه الملك إلى أدق مناصب الحكومة- وهو منصب المراقب العام للمالية وحل محل طورجو في البحرية جابرييل دسارتين، الذي أنفق في خفة على بناء أساطيل ستساعد على تحرير أمريكا، والذي أعتمد على طورجو في تدبير المال اللازم لبنائها.

وكان طورجو رجلاً فرنسياً من معدن شبيه بالذي وجده لويس الرابع عشر في كولبير، كرس نفسه لخدمة وطنه، واتسم ببعد النظر، والعكوف على العمل بغير ملل، ونقاء اليد وطهارتها. وكان فارع الطول حسن الصورة، ولكن اعوزته رقة آداب الرجال الذين صقلتهم الصالونات- وإن رحبت به الآنسة لسبيناس ترحيباً حاراً. وكان قد ضحى بصحته في سبيل عمله، وفي كثير من الوقت الذي كان عاكفاً فيه على إعادة صنع اقتصاد فرنسا كان يلزم مسكنه بسبب النقرس.. وقد حاول أن يضغط ربع قرن من الإصلاحات في وزارة واحدة قصيرة الأجل لأنه أحس بأن أستزاره قلق مزعزع. وكان في السابعة والأربعين حين تقلد وزارته، وفي التاسعة والأربعين حين فقدها، وفي الرابعة والخمسين حين ودع الحياة.

وقد آمن مع الفزيوقراطيين بتحرير الصناعة والتجارة ما أمكن من التنظيم الحكومي أو النقابي، وبأن الأرض مصدر الثروة الوحيد، وبأن ضريبة واحدة على الأرض هي أعدل الطرق وأكثرها عملية لجمع إيراد الدولة، وبأنه ينبغي إلغاء جميع الضرائب غير المباشرة. ثم أنه أخذ عن جماعة الفلاسفة تشككهم الديني وتسامحهم، وثقتهم في العقل والتقدم، وأملهم في إصلاح الأمور عن طريق ملك متنور. فإذا كان الملك صاحب ذكاء وإرادة صالحة، يقبل الفلسفة مرشداً وهادياً له، كان هذا ثورة سلمية، تفضل كثيراً الثورة العنيفة الفوضوية التي لا تكتفي بالقضاء على المفاسد بل تطيح بالنظام الاجتماعي ذاته، فالآن إذن حان وقت وضع نظرية فولتير، "النظرية الملكية" هذه موضع الاختبار. ومن ثم نرى جماعة الفلاسفة يشاركون الفزوقراطيين ابتهاجهم بتقلد طورجو زمام الأمور. وذهب طورجو إلى كومبيين في 24 أغسطس 1774 ليشكر لويس السادس عشر على تعيينه وزيراً للمالية. وقال له "إنني لا أبذل نفسي للملك بل للرجل الأمين". وأجاب لويس وهو يأخذ يدي طورجو في يديه "لن يخيب ظنك"(68). وفي مساء ذلك اليوم بعث الوزير إلى الملك رسالة بينت النقاط الأساسية في برنامجه قال:

"لا إفلاس، معلناً كان أو مقنعاً.

لا زيادة في الضرائب، والسبب حالة شعبك...

لا قروض،... لأن كل قرض يقتضي في نهاية أجل مسمى إما

الإفلاس وإما زيادة الضرائب..."

ولتلبية هذه النقاط الثلاث لا يوجد غير سبيل واحد وهو خفض الإنفاق عن الإيراد، وخفضه بقدر يكفي ضمان وفر في كل عام مقداره عشرون مليوناً تخصص لاستهلاك الديون القديمة. وبغير هذا ستدفع أول طلقة نار بالدولة إلى هاوية الإفلاس. (وقد التجأ نكير فيما بعد إلى القروض، وأفضت حرب 1778 بفرنسا إلى الإفلاس). وبعد أن تبين طورجو أن إيرادات الحكومة السنوية 213.500.000 فرنك، ومصروفاتها 235.000.000 فرنك، أمر بشتى ضروب الوفر، وأصدر تعليمات بألا يصرف مبلغ من الخزانة لأي غرض دون علمه أو موافقته، وكان هدفه تنشيط الاقتصاد بإرساء دعائم حرية المشروعات، والإنتاج، والتجارة، خطوة خطوة. وبدأ بمحاولة لإصلاح الزراعة. وكانت الحكومة قد أشرفت على التجارة في الغلال تجنباً لتذمر أهل المدن، فنظمت بيعها من المزارع لتاجر الجملة، ومن تاجر الجملة لتاجر التجزئة، وحددت سعر الخبز. ولكن انخفاض الأسعار التي دفعت للفلاح ثبطت همته عن زرع المزيد من الغلال، وثنت غيره عن الاشتغال بالزراعة، فظلت مناطق شاسعة من أرض فرنسا صالحة للزراعة دون زرع، وعطلت ثروة الأمم الممكنة عند منبعها. وبدأ إصلاح الزراعة في نظر طورجو أول خطوة في إحياء فرنسا. ذلك أن إطلاق يد المزارع في بيع غلته بأي سعر يستطيع الحصول عليه سيرفع من دخله ويحسن وضعه الاجتماعي، ويزيد قوته الشرائية، وينهض به من الحياة البدائية الوحشية التي وصفها من قبل لابرويير في عصر لويس الرابع عشر الذهبي(70).

ومن ثم ففي 13 سبتمبر 1774 استصدر طورجو من المجلس الملكي مرسوماً أطلق تجارة الغلال في كل مكان عدا باريس حيث قدر أن رد فعل أهل المدينة سيكون محرجاً. وكان ديون دنمور قد قدم للمرسوم بديباجة تشرح الهدف منه، وهو "تنشيط وتوسيع زراعة الأرض، التي تعد غلتها أكثر ثروات الدولة حقيقة وضماناً، والاحتفاظ بوفرة في الغلال عن طريق مخازنها واستيراد الغلال ممن الخارج... والقضاء على الاحتكار... وإيثاراً للمنافسة الحرة" وهذه المقدمة التفسيرية كانت هي ذاتها تجديداً يعكس ظهور الرأي العام كقوة سياسية. ورحب فولتير بالمرسوم فاتحة لعصر اقتصادي جديد، وتنبأ بأنه سيزيد بعد قليل من رخاء الأمة(71). ثم أرسل مذكرة إلى طورجو قال فيها: "أن عليل فرنيه العجوز يشكر الطبيعة لأنها مدت في أجله حتى يرى مرسوم 13 سبتمبر 1774. وهو يقدم احترامه لواضعه، ويرجو له التوفيق"(72).

على ان هذا الترحيب خرج عليه رأي معارض ينذر بالسوء. ففي ربيع 1775 جاء مصرفي سويسري يعيش في باريس ويدعى جاك نكير إلى طورجو يحمل مخطوطاً "عن قانون الغلال وتجاراتها"، وسأل إن كان من الممكن نشره دون إضرار بالحكومة. وقد زعم نكير في كراسته أن قدراً من الإشراف الحكومي على الاقتصاد لا بد من أن أريد ألا يفضي حذق القلة الفائق إلى تركيز الثروة في طرف وتكثيف الفقر في الطرف الآخر، واقترح أن تستأنف الحكومة الإشراف والتنظيم إذا رفعت حرية التجارة من سعر الخبز فوق رقم معين. أما طورجو، الواثق من نظرياته، والمحبذ لحرية النشر، فقد أخبر نكير بأن ينشر المخطوط ويدع الشعب يحكم(73). فنشره نكير.

ولم تقرأه جماهير المدن ولكنها اتفقت نعه في الرأي. فحين ارتفع سعر الخبز في ربيع 1775 اندلعت حوادث الشغب في عدة مدن. ففي الأقاليم المحيطة بباريس، والتي تتحكم في انسياب الغلال إلى العاصمة، راح بعض الرجال يتنقلون بين المدن ويحرضون الناس على التمرد. وأحرقت العصابات المسلحة مزارع المزارعين والتجار وقذفت بالمخزون من الغلال في نهر السين، ثم حاولت منع الغلال المستوردة من إكمال طريقها من هافر إلى باريس، وفي 2 مايو قادت جمعاً محتشداً إلى أبواب القصر في فرساي. وأعتقد طورجو أن هذه العصابات يستخدمها الموظفون البلديون أو الأقليميون الذين نقدوا وظائفهم بانتهاء الإشراف الحكومي والذين كان هدفهم أن يخلقوا في باريس أزمة غلال ترفع سعر الخبز وتكره الحكومة على العودة إلى التجارة الخاضعة لهيمنتها(74). وظهر الملك على شرفة من شرفات القصر وحاول الكلام، ولكن ضجة الجمع طغت على كلامه. على أنه منع جنوده من إطلاق النار على الشعب، وأمر بخفض سعر الخبز. ولكن طورجو أكد أن هذا التدخل في قوانين العرض والطلب سيفسد محاولة اختبارها؛ وكان واثقاً من أنه إذا تركت لها حرية العمل فإن المنافسة بين التجار وأصحاب المخابز ستهبط بأسعار الخبز عما قليل. وألغى الملك أمره بخفض السعر. وفي 3 مايو تجمعت حشود غاضبة في باريس وبدأت تنهب المخابز. وأمر طورجو مليشيا باريس بحماية المخابز ومخازن الغلال، وبإطلاق النار على أي شخص يحاول القيام بأعمال عنف. ثم حرص في الوقت نفسه على وصول الغلال الأجنبية إلى باريس والأسواق. وأكرهت هذه المنافسة المستوردة المحتكرين الذين حبسوا غلالهم توقعاً لارتفاع الأسعار على الإفراج عن مخزونهم، فانخفض سعر الخبز، وهدأ النمر. وقبض على نفر من زعمائه، وشنق اثنان منهم بأمر البوليس. وخرج طورجو ظافراً من "حرب الدقيق" هذه. ولكن إيمان الملك بمبدأ عدم التدخل اهتز، وأحزنه شنق هذين الشخصين في ميدان جريف. ولكن سرته الإصلاحات التي يجريها طورجو في ماليو الحكومة. فلم يمض يوم على مرسوم الغلال بدأ الوزير العجول إصدار الأوامر للوفر في مصروفات الدولة، ولتحصيل الضرائب تحصيلاً أكثر كفاءة، وللإشراف إشرافاً أدق على الملتزمين العموميين، ثم ينقل الاحتكارات الأهلية في المركبات العامة، ومركبات البريد، وصنع البارود، إلى الدولة. واقترح، ولكن لم يتح له الوقت لإنشاء "بنك للخصم" وهو مصرف لخصم الأوراق التجارية، وتلقي الودائع، وإعطاء القروض، وإصدار البنكنوت الذي تدفع قيمته عند إبرازه، وقد اتخذ هذا البنك نموذجاً لبنك فرنست الذي نظمه نابليون في 1800. فلم تحل نهاية عام 1775 حتى كان طورجو قد خفض المصروفات 66.000.000 جنيه، وأنقص الفائدة على الدين الأهلي من 8.700.000 إلى 3.000.000 جنيه. واستعيدت الثقة بالحكومة حتى استطاع أن يقرض 60.000.000 جنيه من الماليين الهولنديين بفائدة أربعة في المائة، ويسدد بهذه الطريقة ديوناً كانت الحظانة تدفع عنها فائدة من سبعة إلى اثنتي عشرة في المائة. وأوشك أن يوازن الميزانية، ولكنه لم يفعل هذا بزيادة الضرائب بل بالحد من الفساد، والإسراف، وعدم الكفاءة، وكثرة الفاقد.

وفي هذه الإصلاحات وغيرها لم يلق طورجو كبير عون من موربيا، ولكنه لقي العون الكثير من كرتيان وماليرب، الذي التقينا به من قبل حامياً للموسوعة ولروسو. فقد أرسل، بوصفه الآن رئيساً لمحكمة المعونات (التي تختص بالضرائب غير المباشرة)، إلى لويس السادس عشر (6 مايو 1775)، مذكرة تشرح المظالم التي ينطوي عليها جمع الضرائب بواسطة الملتزمين العموميين، وتحذر الملك من الكراهية التي يولدها استخدامهم. وأشار بتبسيط القوانين وتوضيحها، وقال "ليس هناك قوانين حسنة غير القوانين البسيطة" وتعلق قلب الملك بماليرب، فعينه وزيراً لبيت الملك (يوليو 1775) وحث هذا اللبرالي المسن لويس على تأييد طورجو، ولكنه نصح طورجو بألا يحاول الإسراف في إصلاحاته في وقت واحد، لأن كل إصلاح سيخلق له أعداء جدداً. وأجاب مراقب المالية العام. وماذا تريدني أن أفعل؟ أن حاجات الشعب هائلة، ونحن في أسرتي نموت بالنقرس في الخمسين"(75).

وفي يناير 1776 فاجأ طورجو فرنسا بستة مراسيم صدرت باسم الملك، قرر إحداها أن تشمل حرية التجارة في الغلال باريس، وألغى العدو الكبير من المناصب المتصلة بتلك التجارة، وانضم الموظفون المطرودون على هذا النحو إلى صفوف أعدائه. وألغى مرسومان أو عدلا الضرائب المفروضة على الماشية والشحوم، فاغتبط الفلاحون. وألغى الرابع السخرة- وهي أيام اثنا عشر أو خمسة عشر يفرض فيها الشغل المجاني على الفلاحين كل عام لصيانة الكباري، والقنوات، والطرق؛ وتقرر أن يتقاضى الفلاحون منذ الآن أجراً عن هذا العمل من حصيلة ضريبة تفرض على جميع الأملاك غير الكنسية؛ واغتبط الفلاحون، وشكا النبلاء. وأثار طورجو المزيد من الاستياء بالديباجة التي وضعها في فم الملك. "إننا لو استثنينا عدداً قليلاً من الأقاليم... لوجدنا أن كل طرق المملكة تقريباً شقت بتسخير أفقر شطر من رعايانا. فالعبء كله وقع إذن على أولئك الذين لا يملكون غير أيديهم ولا تهمهم هذه الطرق إلا بدرجة ثانوية جداً. أما الذين يهتمون بها حقاً فهم ملاك الأرض، وكلهم تقريباً أشخاص يتمتعون بامتيازات، وأملاكهم تزداد قيمتها بشق الطرق. فإذا أكره الفقير دون سواه على صيانة هذه الطرق، وإذا أكره على بذل وقته وجهده دون أجر، كان ذلك معناه أن عدته الوحيدة ضد الفقر والجوع انتزعت منه لإلزامه بالعمل لمنفعة الأغنياء"(76). فلما أوضح برلمان باريس أنه سيرفض تسجيل هذا المرسوم، كاد طورجو يعلن الحرب الطبقية".

"إنني رغم عدائي للاستبدادية الآن كما كنت دائماً، فإني لن أني عن أن أقول للملك، وللبرلمان، وللأمة بأسرها إن لزم الأمر، أن هذا أمر من تلك الأمور التي يجب أن تقررها إرادة الملك المطلقة، ولهذا السبب: وهو أن هذه القضية هي في صميمها قضية بين الأغنياء والفقراء. والآن ممن يتألف البرلمان؟ من رجال أغنياء إذا قورنوا بالسواد الأعظم من الشعب، وكلهم نبلاء لأن مناصبهم تحمل النبالة. ثم البلاط، الذي يشتد في احتجاجه- ممن يتألف؟ من كبار النبلاء، الذين يملك أغلبهم ضياعاً ستخضع للضريبة... ونتيجة لذلك فلا اعتراض البرلمان... ولا حتى تذمر الحاشية يجب أن ينال من القضية على أي وجه... وما دام الشعب لا صوت له في البرلمانات، فإنه لا بد أن يرى الملك في القضية رأيه هو بعد الاستماع إلى هذه البرلمانات، ولا بد أن يحكم لصالح الشعب، لأن هذه الطبقة أتعس طبقاته"(77). أما آخر المراسيم الستة فقد ألغى الطوائف الحرفية. وكانت قد أصبحت أرستقراطية عمالة، لأنها أشرفت على جميع الحرف تقريباً، وحدت من الدخول في عضويتها بإشتراطها رسوم التحاق عالية، ثم قيدت فوق ذلك الصلاحية لاختيار معلمي الحرف. وقد عطلت الاختراع، وعرقلت التجارة بالمكوس أو بحظر المنتجات المتنافسة التي تدخل في نطاقها. وقد نددت طبقة المتعهدين أو المقاولين الصاعدة- وهم رجال يوفرون المبادأة، ورأس المال، والتنظيم، ولكنهم يطالبون بحرية استئجار أي عامل، سواء من المنتمين للوظائف الحرفية أو غيرهم، وبيع سلعهم في أي سوق في متناولهم- هذه الطبقة نددت بالطوائف الحرفية لأنها احتكارات تقيد التجارة. أما طورجو، التواق إلى دعم التنمية الصناعية بإطلاق حرية الاختراع، والمشروعات، والتجارة، فقد شعر أن الاقتصاد القومي سيفيد من إلغاء الطوائف المالية. وقد جاء في ديباجة هذا المرسوم:

"كانت ممارسة الحرف والصنائع في جميع المدن تقريباً مركزة في أيدي عدد قليل من المعلمين المتحدين في نقابات، والذين كان لهم وحدهم حرية صنع وبيع سلع الصناعة الخاصة التي ينفردون دون غيرهم بامتيازهم. فالذي كرس نفسه لأي صناعة أو حرفة لم يكن في استطاعته ممارستها بحرية إلا بعد وصوله إلى مرتبة معلم الحرفة، التي لا سبيل له إليها إلا بعد الخضوع لواجبات طويلة مملة لا حاجة إليها، وبعد أداء إبتزازات متكاثرة تحرمه من جزء من رأس المال الضروري لإنشاء تجارة أو تجهيز ورشة. أما العاجزون عن توفير هذه النفقات فمصيرهم العيش القلق تحت سلطان المعلمين، ولا خيار أمامهم إلا الحياة في ضنك... أو نقل صناعة قد تكون ذات نفع لوطنهم إلى بلد أجنبي".

وكان لهذه التهم الموجهة إلى النقابات الحرفية ما يبررها على قدر علمنا ولكن طورجو استرسل في إجراءاته فحظر على جميع معلمي الحرف وعمال المياومة والتلاميذ الصناعيين تكوين أي اتحاد أو جمعية(79). لقد آمن إيماناً مطلقاً بحرية المشروعات والتجارة، ولم يتوقع أن يكون حق التنظيم هو الوسيلة الوحيدة التي يستطيع بها الصناع أن يجمعوا ضعفهم كأفراد في قوة جماعية للمساومة مع أصحاب العمل المنظمين. وقد أحس أن كل الطبقات ستفيد في المدى الطويل بتحرير رجال الأعمال من القيود الإقطاعية والنقابية والحكومية المفروضة على المشروعات. وأعلن أن جميع الأشخاص في فرنسا- حتى الأجانب- أحراراً في الاشتغال بأي صناعة أو تجارة. وفي 9 فبراير 1776 رفعت المراسيم الستة إلى برلمان باريس. فلم يوافق إلا على واحد منها ألغى المناصب الصغيرة، ورفض الموافقة على تسجيل الباقي، وخص بمعارضته إنهاء السخرة باعتباره افتئاتاً على الحقوق الإقطاعية(80). وبهذا القرار الذي اتخذ بالتصويت جهر البرلمان بأنه حليف طبقة النبلاء والصوت المعبر عنهم، وهو الذي زعم من قبل أنه حامي الشعب من الملك. ودخل فولتير المعمعة بكراسة هاجمت السخرة والبرلمان وأيدت طورجو، فأمر البرلمان بمصادرة الكراسة. ودافع بعض وزراء الملك عن البرلمان، فوبخهم لويس في لحظة ثبات وجلد قائلاً "أرى جيداً أنه ليس هنا من يحب الشعب غيري وغير مسيو طورجو"(81). وفي 12 مارس دعا البرلمان إلى "سرير عدالة" (وهو المجلس القضائي العالي) في فرساي، وأمره بتسجيل المراسيم. واحتفلت مواكب من العمال بانتصار طورجو.

وأبطأ المراقب العام خطو ثورته بعد أن أرهقته الأزمات المتكررة. فلما طبق حرية التجارة الداخلية على صناعة النبيذ (أبريل 1776) لم يشك غير المحتكرين. ثم حث الملك على إرساء دعائم الحرية الدينية. وأصدر تعليماته إلى ديون دنيمور بأن يضع خطة لتكوين مجالس انتخابية في كل أبرشية، يختارها كل من ملك أرضاً قيمتها ستمائة جنيه أو يزيد، وهذه المجالس المحلية تنتخب ممثلين في مجلس كنتوني، تنتخب ممثلين في مجلس إفليمي، ينتخب نواباً في مجلس الأمة. وكان طورجو مؤمناً بأن فرنسا ليست على استعداد للديموقراطية، فاقترح ألا تعطى هذه المجالس إلا وظائف عن طريق هذه المجالس يحاط الملك علماً بحال المملكة وحاجاتها. كذلك قدم طورجو للملك تخطيطاً للتعليم العام بصفته المدخل الذي لا بد منه للمواطنة المستنيرة. وقال: "مولاي، إنني أجرؤ على التأكيد بأنه لن تمضي سنتان حتى تتبدل أمتك فلا تتعرف عليها الأمم، وبفضل التنوير والأخلاق الطيبة... ستسمو فوق جميع الدول الأخرى"(82) ولكن الوزير أعوزه الوقت. والملك أعوزه المال، لإخراج هذه الأفكار إلى حيز الوجود.

وكانت مراسيم طورجو- وديباجتها- قد ألهبت غضب جميع الطبقات ذات النفوذ عليه خلا التجار ورجال الصناعة، الذين زكوا في ظل الحرية الجديدة. والواقع أنه كان يحاول أن يحدث بطريق سلمي تحرير رجال الأعمال، وهو النتيجة الاقتصادية الأساسية التي أسفرت عنها الثورة الفرنسية. ومع ذلك عارضه بعض التجار سراً لأنه تدخل في احتكاراتهم. وعارضه الأشراف لأنه أراد أن يفرض كل الضرائب على الأرض، ولأنه يستعدي الفقراء على الأغنياء. وأبغضه البرلمان لأنه أقنع الملك بإبطال قرارات نقضه. ولم يثق به رجال الدين زاعمينه كافراً يندر أن يختلف عن القداس، ويدافع عن الحرية الدينية. وحاربه الملتزمون العموميون لأنه حاول أن يحل محلهم موظفون حكوميين في جمع الضرائب غير المباشرة. وساء الماليين حصوله على القروض من الخارج بفائدة 4%. وكرهته بطانة الملك لأنه سخط على إسرافهم، ومعاشاتهم، ووظائفهم الفخرية. أما موريبا، وهو الأعلى منه منصباً في الوزارة، فلم يغتبط بسلطان المراقب العام للمالية واستقلاله المتزايدين. وكتب السفير السويدي يقول "إن طورجو يجد نفسه الهدف لحلف رهيب جداً"(83).

أما ماري أنطوانيت فقد رضيت عن طورجو أول الأمر، وحاولت أن توفق بين نفقاتها واقتصادياته. ولكن سرعان ما استأنفت (حتى 1777) إسرافها في الثياب والعطايا. ولم يخف طورجو فزعه من مطالبهم من الخزنة، وكانت الملكة إرضاء لآن بولنياك قد حصلت على تعيين صديقهم الكونت دجين سفيراً لفرنسا في لندن؛ وهناك دخل في معاملات مالية مشبوهة. وانضم طورجو إلى فرجين في الإشارة على الملك باستدعائه؛ وأقسمت الملكة لتنتقمن منه.

وكان للويس السادس عشر أسبابه الخاصة لفقد الثقة في الوزير الثوري. ذلك أن الملك كان يحترم الكنيسة، وطبقة النبلاء، وحتى البرلمانات، وكانت هذه المؤسسات قد رسخت في التقاليد وتقدست بمرور الزمن، فإقلاقها معناه خلخلة ركائز الدولة؛ ولكن طورجو كان قد أقصاها كلها. فهل تراه على حق وكل هؤلاء على ضلال؟ وشكا لويس سراً من وزيره: "إن أصدقاء فقط هم الأكفاء، وأفكارهم فقط هي الصائبة"(84). وفي كل يوم تقريباً كانت الملكة أو أحد أفراد الحاشية يحاول إثارته على المراقب العام. فلما رجاه طورجو أن يقاوم هذه الضغوط ولم يجب لويس، عاد إلى منزله وكتب إلى الملك (30 أبريل 1776) رسالة كانت الفاصلة في مصيره:

«

"مولاي: لن أخفي عنكم أن قلبي مجروح جرحاً عميقاً بسبب صمت جلالتكم يوم الأحد الماشي... ذلك أنني ما كنت لاستصعب أمراً من الأمور ما دمت أؤمل الاحتفاظ بتقدير جلالتكم لصواب ما أفعل. واليوم أي جزاء ألقى؟ أن جلالتكم ترون كم يستحيل علي المضي في طريقي قدماً ضد من يؤذونني بالشر الذي يصنعونه بي، وبالخير الذي يمنعونني من فعله بتعطيل جميع إجراءاتي، ومع ذلك فإن جلالتكم لا تمنحوني عوناً ولا عزاء. وأنا أجرؤ يا مولاي على القول بأنني لا أستحق هذا الجزاء... "إن جلالتكم... قد دفعتم بافتقاركم إلى الخبرة. وأنا عليم بأنكم وأنتم في الثانية والعشرين، وفي منصبكم هذا، لا تملكون المرانة على الحكم على الرجال، وهي مرانة يحصل عليها الأفراد العاديون بفضل الاختلاط المعتاد مع نظائرهم؛ ولكن هل سيتاح لكم مزيد من الخبرة بعد أسبوع، بعد شهر؟ وألا يمكن أن تتخذوا القرار الحاسم حتى تتوافر لكم هذه الخبرة البطيئة؟. "مولاي، إنني مدين لمسيو موريبا الذي قلدتموني إياه، ولن أنسى له هذه اليد ما حييت، ولن أقصر أبداً في الاحترام الواجب له. ولكن أتعلمون يا مولاي مبلغ ضعف شخصية المسيو دموريبا؟- وكم تسيطر عليه أفكار من يلتفون حوله. إن الناس كلهم يعرفون أن مدام دموريبا، بتفكيرها الأضعف كثيراً من شخصيتها، توحي إليه دائماً بإرادتها... وهذا الضعف هو الذي يدفعه إلى الموافقة دون تردد على سخط الحاشية علي، والذي يجردني من كل سلطة تقريباً في إدارتي... "مولاي، لا تنس أن الضعف هو الذي أطاح برأس تشارلز الأول على المقصلة... والذي جعل من لويس الثالث عشر عبداً متوجاً،... والذي جر على الحكم السالف كل ويلاته.. مولاي، إنهم يعدونك ضعيفاً، وقد أتى وقت خشيت فيه أن يكون في خلقك هذا العيب، ومع ذلك رأيتك في مناسبات أكثر من هذه عسيراً تبدي شجاعة أصيلة... أن جلالتكم لن تستطيع الاستسلام إرضاء لمسيو دموريب دون لأن تكون غير صادق مع نفسك...". » –  طورجو

ولم يرد الملك على هذه الرسالة. فقد أحس أن عليه الآن أن يختار بين موريبا وطورجو، وأن طورجو يطلب خضوع الحكومة التام تقريباً لإرادته. وعليه ففي 12 مايو 1776 أرسل إلى طورجو أمراً بأن يستقبل. وفي اليوم ذاته، وخضوعاً لإرادة الملكة وآل بوليناك، رفع الكونت دجين إلى مرتبة الدوقية. فلما سمع ماليرب بإقالة طورجو قدم استقالته. وقال له لويس "إنك رجل محظوظ. ليتني أنا أيضاً أستطيع ترك منصبي"(86). وما لبث معظم من عينهم طورجو أن طردوا من مناصبهم. وصعقت ماريا تريزا لهذه التطورات، ووافقت فردريك وفولتير على أن سقوط طورجو نذير بانهيار فرنسا(87)، وقد أحزنها الدور الذي لعبته ابنتها في الأمر، وأبت أن تصدق تنصل الملكة من التبعية، وكتب فولتير إلى لاهارب يقول: "لم يبق لي إلا أن أموت بعد أن ذهب مسيو طورجو"(88).

أما طورجو فقد عاش بعد إقالته عيشة هادئة في باريس، يدرس الرياضة، والفيزياء، والكيمياء، والتشريح. وكان يلتقي كثيراً بفرانكلين، وقد كتب له "مذكرة في الرسوم" ثم اشتدت عليه وطأة النقرس حتى أكرهه بعد 1778 على الاستعانة بعكازين في شميه. ومات في 18 مارس 1781 بعد سنوات حفلت بالألم وخيبة الأمل. ولم يدر بخلده أن القرن التاسع عشر سيقبل معظم أفكاره ويطبقها. وقد أجمل ماليرب وصفه في حب فقال: "كان له رأس فرانسيس بيكن، وقلب لوبيتال"(89).


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وزارة نكير الأولى 1776-1781

خلف طورجو في رقابة مالية كلوني دنوي، الذي رد السخرة والكثير من النقابات الحرفية، ولم ينفذ مراسيم الغلال.. وألغى المصرفيون الهولنديون موافقتهم على إقراض فرنسا ستين مليوناً من الجنيهات بسعر أربعة في المائة، ولم يكشف الوزير الجديد طريقة لاجتذاب المال إلى خزانة الدولة خيراً من إنشاء يانصيب قومي (30 يونيو 1776). فلما مات كلوني (أكتوبر)، أقنع مصرفيو باريس الملك بأن يستدعي إلى خدمته الرجل الذي كان أكفاء نقاد طورجو.

كان جاك نكير بروتستانتياً، ولد في جنيف عام 1732 وأرسله أبوه-وكان أستاذاً للقانون في أكاديمية جنيف-إلى باريس ليعمل كاتباً في مصرف اسحاق فرنيه. فلما تقاعد فرنيه أقرض نكير المال ليفتتح مصرفاً خاصاً به. وضم نكير ماله إلى مال رجل سويسري آخر، فأصابا نجاحاً بتقديم القروض للحكومة والمضاربة في الغلال. وحين ناهز نكير الثلاثين كان غنياً، محترماً، أعزباً. ولم يتمن الآن مزيداً من الثراء بل منصباً رفيعاً، وفرصة للخدمة الممتازة والشهرة القومية، وهذا يقتضيه زوجة وبيناً يكون نقطة ارتكاز، أو قاعدة عمليات. ومن ثم تودد إلى المركيزة فرمنو الأرملة، فرفضته، ولكنا جاءت من جنيف بسوزان كورشوا الجميلة الموهوبة التي كانت قبيل ذلك قد أفلتت من الزواج بأدوارد جبون. ووقع نكير في غرام سوزان، وتزوجها في 1764. ويعد وفاؤهما المتبادل طوال الحياة حافلة بالأحداث من ألمع الأضواء في مشكال ذلك العصر المضطرب. وأقاما بيتاً فوق مصرفه، وهناك افتتحت صالوناً (1765) ودعت إليه الكتاب ورجال العمال، أملاً في أن تعبد هذه الصداقات طريق زوجها وتنيره.

وكان نكير نفسه يتحرق شوقاً للتأليف، فبدأ بكتابة "مديح لكولبير" الذي توجته الأكاديمية الفرنسية. واعتزل الآن عمله ودخل المعترك السياسي بذلك المقال "في قانون الغلال" الذي عارض سياسة طورجو في عدم التدخل الحكومي. وظفر الكتيب بثناء ديدرو، الذي لعله استمتع بفقرة تكلم فيها المؤلف كما يتكلم الاشتراكيون، وكانت قد قرأ رويو. وقد هاجم نكير:

«

"قوة الطبقة المالكة التي تمكنها من أن تدفع نظير جهد العامل أبخس أجر لا يكاد يكفي لغير الحاجات الماسة... إن كل المؤسسات المدنية تقريباً أقامها الملاك. ولنا أن نقول إن قلة من الناس-بعد أن قسموا الأرض فيما بينهم-شرعوا القوانين تكتلاً وضماناً لهم ضد الكثرة... ولهؤلاء أن يتساءلوا. "أي معنى تعنيه لها قوانين الملكية التي شرعتموها؟-فنحن لا نملك أملاكاً؛ أو قوانينكم في العدالة؟-فنحن لا نملك شيئاً ندافع عنه. أو قوانينكم في الحرية؟-فإننا سنموت جوعاً إن لن نعمل غداً".» – نكير

وفي 22 أكتوبر 1776 عين لويس السادس عشر نكير "مديراً للخزانة الملكية" بناء على تزكية موريبا. وكان تعييناً يشوبه الاعتذار. فقد احتج بعض الأساقفة على السماح لبروتستانتي سويسري بأن يتحكم في مال الأمة، فأجاب موريبا، "في وسع رجال الدين أن يشاركوا في اختيار الوزراء إذا هم دفعوا ديون الدولة"(91). وستراً لهذا الواقع عين كاثوليكي فرنسي يدعى تابور دريو مراقباً عاماً للمالية له الرآسة الاسمية على نكير. وتضاءلت معارضة الأكليروس حين جعل نكير تدينه واضحاً جلياً. وفي 29 يونيو 1777 استقال تابور، وعين نكير مديراً عاماً للمالية. وقد رفض أن يتقاضى راتباً، بل أقرض مليوني جنيه من ماله الخاص(92). ولكنه ظل محروماً من لقب الوزير، ولم يسمح له بعضوية المجلس الملكي.

وقد وفق في حدود خلقه وسلطته. ذلك أنه درب على علاج مشكلات الصيرفة لا مشكلات الدولة، وكان في قدرته تكثير المال بنجاح أكثر من سياسة الرجال. وقد أرسى في الإدارة المالية نظاماً وحسابات ووفراً أفضل، وألغى أكثر من خمسمائة وظيفة شرفية ومنصب زائد عن الحاجة. وإذ كان حائزاً على ثقة المجتمع المالي، فقد استطاع طرح أسهم بقروض أكسبت الخزانة 148.000.000 جنيه خلال عام واحد. ثم دعم بعض الإصلاحات الصغيرة، فخفف من المظالم في فرض الضرائب، وحسن المستشفيات، ونظم بنوك الرهونات لتقرض الفقراء المال بفائدة منخفضة، وواصل جهود طورجو للحد من نفقات البلاط، والبيت الملكي، والملكة. ورد إلى الملتزمين العموميين جميع الضرائب غير المباشرة (1780)، غير أنه اختزل عددهم وأخضعهم لفحص ورقابة أدق. وقد أقنع لويس السادس عشر بأن يسمح بإنشاء المجالس الإقليمية في بري، وجرينوبل، ومونتوبان، ووضع سابقة هامة إذ اتخذ التدابير لجعل ممثلي الطبقة الثالثة (التي تنتظم الطبقتين الوسطى والدنيا) في هذه المجالس مساوين لمثلى النبلاء والأكليروس مجتمعين. على أن الملك كان يختار أعضاء هذه المجالس، ولم يسمح بأي سلطة تشريعية. وقد ظفر نكير بنصر هام حين أقنع الملك بأن يعتق من بقي من الأقنان على الأراضي الملكية، وأن يهيب بجميع السادة الإقطاعيين أن يحذو حذوه. فلما رفضوا أشار نكير عليه بغلاء القنية كلها في فرنسا، مع دفع التعويضات للسادة، ولكن الملك الذي كان حبيس تقاليده أجاب بأن حقوق الملكية نظام بلغ من الرسخ مبلغاً يعسر معه إلغاءه بمرسوم(93). وفي 1780، وتحت إلحاح نكير أيضاً، أمر الملك بإنهاء التعذيب القضائي، وإلغاء السجون السلفية، وفصل السجناء الذين جرموا فعلاً عن أولئك الذين لم يحاكموا بعد، وفصل كلتا الفئتين عن الأشخاص المقبوض عليهم بسبب الدين. هذه وغيرها من إنجازات وزارة نكير الأولى تستحق عرفاناً أكثر مما ناله عموماً. فإذا سألنا لم لم يعمل مبضعه بأعمق وأسرع مما أعمله، وجب أن نتذكر أن طورجو قد لقي اللوم على تعجله والاستكثار من الأعداء في وقت واحد. وقد انتقد نكير على طرحه القروض بدلاً من جمع الضرائب، ولكنه أحس بأن الشعب قد فرض عليه من الضرائب ما يكفي.

وقد أحسنت مدام كمبان تلخيص موقف الملك من وزرائه، وهي اللصيقة دائماً بهذه الدراما المتطورة "لقد حكم طورجو، ماليرب، ونكير، بأن هذا الملك المتواضع البسيط في عاداته، لن يتردد في التضحية بحقه الملكي في سبيل عظمة شعبه الحقيقية؛ لقد كان قلبه ينعطف به نحو الإصلاح، ولكن تحيزاته ومخاوفه، ومطالب الأشخاص الأتقياء وأصحاب الامتيازات الملحة جعلته جباناً، وأكرهته على التخلي عن خطط أوحى بها إليه حبه للشعب"(94). ومع ذلك فقد جرؤ على أن يقول في إعلان عام (1780) لعل نكير كان قد أعده له، إن "الضرائب المفروضة على أفقر شطر من رعايانا.. وقد زادت بنسبة تفوق كثيراً سائر الرعايا الباقين. "وأعرب عن آماله ألا يحسب الأغنياء أنفسهم مظلومين إذا وجب عليهم، بعد أن يردوا إلى المستوى العام (الضرائب)، أن يؤدوا الفروض التي كان لا بد أن يشاركوا فيها غيرهم منذ زمان بقدر أكبر من المساواة"(95). وكان يرتعد إذا خطر بباله فولتير، ولكن روحه التحررية شكلها على غير وعي منه ذلك العمل الذي قام به فولتير، وروسو، وجماعة الفلاسفة بوجه عام لفضح المفاسد القديمة ولبعث الحياة الجديدة في المشاعر الإنسانية التي ارتبطت من قبل بالمسيحية. ففي هذا النصف الأول من حكمه بدأ لويس السادس عشر إصلاحات كان خليقاً بها لو اتصلت واتسعت شيئاً فشيئاً أن تتفادى الثورة. ثم إنه في عهد هذا الملك الضعيف نرى فرنسا التي سلبتها إنجلترا ممتلكاتها وأذلتها في عهد أسلافه-تكيل الضربات بجرأة وبنجاح لبريطانيا الفخور، وتعين بعملها هذا على تحرير أمريكا.


فرنسا وأمريكا

اتفقت الفلسفة هذه المرة مع الدبلوماسية. فمؤلفات فولتير، وروسو، وديدرو، ورينال، وعشرات غيرهم أعدت الذهن الفرنسي لمناصرة تحرير المستعمرات كما ناصر التحرير الفكري، وكان الكثيرون من الزعماء الأمريكيين-كواشنطن، وفرانكلين، وجفرسن-أبناء للتنوير الفرنسي. ومن ثم فحين قدم سيلاس دين إلى فرنسا (مارس 1776) ملتمساً قرضاً للمستعمرات الثائرة، كان الرأي العام الفرنسي شديد التعاطف معه، وراح بومارشيه في تحمسه يرسل المذكرة تلو المذكرة إلى فرجين يحثه فيها على مد يد المعونة لأمريكا.

وكان فرجين نبيلاً يؤمن بالملكية والأرستقراطية، وليس بينه وبين الجمهوريات أو الثورات ود، ولكنه كان تواقاً للثأر من إنجلترا لفرنسا. غير أنه لم يرض بالموافقة على أي معونة سافرة لأمريكا، لأن البحرية البريطانية كانت لا تزال أقوى من الفرنسية رغم ما أنفقته عليها سارتين، وكان في مقدورها تدمير السفن الفرنسية إذا كانت الحرب سافرة إلا أنه أشار الملم بالإذن ببعض المعونة السرية، وحجته لها في أمريكا أو قربها أسطول قادر على الاستيلاء متى شاء على الممتلكات الفرنسية والأسبانية في البحر الكاريبي. أما إذا أمكن المطاولة في الثورة، فإن فرنسا ستقوى، وإنجلترا تضعف، وتستطيع البحرية الفرنسية استكمال تجديدها. أما لويس فكان يرتعد فرقاً لفكرة تقديم المعونة لثورة ما، وحذر فرجين من أي عمل سافر قد يفضي إلى حرب مع إنجلترا(96).

وفي أبريل كتب فرجين إلى بومارشيه يقول:

«

"سنعطيك سراً مليوناً من الجنيهات، وسنحاول الحصول على مبلغ مماثل من أسبانيا. (وقد حصلوا على هذا المبلغ) وبهذين المليونين عليك أن تؤلف شركة تجارية، وتزود الأمريكيين على مسؤوليتك بالسلاح والذخيرة والأجهزة، وسائر الأشياء التي يحتاجون إليها لمواصلة الحرب. وستسلمك ترسانتنا السلاح والذخيرة، ولكنك ستعوضها أو تدفع ثمنها. وإياك أن تطلب مالاً من الأمريكيين، لأنهم لا يملكون المال، ولكن أطلب مقابلاً غلات أرضهم، التي سنساعدك على بيعها في هذا البلد"(97).

وبهذا المال اشترى بومارشيه المدافع والبنادق والبارود والثياب والأجهزة اللازمة لخمسة وعشرين ألف رجل، ثم أرسل هذه البضائع إلى ميناء كان دين قد جمع فيه عدة قراصنة أمريكيين وأعاد تجهيزهم. وقد شجع وصول هذه المعونة أو الوعد الوثيق بها المستعمرين على إصدار إعلان الاستقلال (4 يوليو 1776). فلما ترجم الإعلان إلى الفرنسية، وتداوله الناس بموافقة الحكومة الفرنسية الضمنية، استقبلته جماعة الفلاسفة بحماسة وفرح، وكذلك تلاميذ روسو الذين تبينوا فيه أصداء من "العقد الاجتماعي".» – فرجين

وفي سبتمبر عين الكونجرس الأمريكي. بنيامين فرانكلين وآرثر لي-ليمضيا إلى فرنسا مندوبين، وينضما إلى دين، ويلتمسا لا المزيد من الإمداد فحسب، بل التحالف السافر إن أمكن. ولم تكن هذه أول مرة ظهر فيها فرانكلين في أوربا. ذلك أنه في 1774 ذهب إلى إنجلترا ولم يكن قد بلغ التاسعة عشرة، وقد اشتغل طباعاً، ونشر دفاعاً عن الإلحاد(98)، وعاد إلى فيلادلفيا والربوبية، وتزوج، وانضم إلى جماعة الماسون، وظفر بشهرة دولية بوصفه مخترعاً وعالماً. وفي 1757 أوفد إلى إنجلترا ممثلاً لمجلس بنسلفانيا في نزاع ضرائبي. ومكث في إنجلترا خمس سنين، والتقى بجونسن وغيره من وجوه القوم، وزار إسكتلندة، والتقى بهيوم وروبرتسن، ونال درجة عالية من جامعة سانت أندروز، وأصبح منذ الآن الدكتور فرانكلين. ثم عاد إلى إنجلترا من 1766 إلى 1776، وخطب في مجلس العموم معارضاً ضريبة الدمغة، وحاول المصالحة، ثم عاد إلى أمريكا حين رأى أن الحرب واقعة. وقد شارك في صياغة إعلان الاستقلال.

وصل فرانكلين إلى فرنسا في ديسمبر 1776 ومعه حفيدان له، وكان الآن في السبعين، ويبدو وكأنه الحكمة ذاتها مجسمة، والعالم كله يعرف ذلك الرأس الضخم والشعر المشتعل الخفيف، والوجه الشبيه بالبدر عند بزوغه المشرق. وأهال عليه العلماء أسباب التكريم، وادعى الفلاسفة والفزيوقراطيين أنه واحد منهم، ورأى المعجبون بروما القديمة فيه سنسناتوس، وسكيبو الأفريقي، والكاتوين، وقد بعثوا من مراقدهم، وصففت نبيلات باريس شعورهن في لمة مجعدة تقليداً لقبعته المصنوعة من فرو القندس؛ ولا ريب أنهن سمعن بغرامياته الكثيرة. وأذهلت الحاشية بساطة عاداته، ولباسه، وحديثه، ولكن بدلاً من أن يبدو مضحكاً في زيه القريب من زي الريفيين، كان اختيالهم في المخمل والحرير والمخرم هو الذي تبدى الآن كأنه محاولة فاشلة لإخفاء الواقع وراء مظهر كاذب. ومع ذلك قبلوه هم أيضاً، لأنه لم يستعرض أحلاماً لحكومات مثالية، بل تكلم بتعقل وإدراك سليم، وأظهرالوعي الكامل بالمصاعب والحقائق, كان يدرك أنه بروتستانتي، ربوبي، جمهوري، يطلب العون من بلد كاثوليكي وملك تقي.

وقد باشر مهمته في حذر وحيطة. فلم يغضب أحداً، وأبهج كل إنسان. وقدم فروض الاحترام لا لفرجين فقط بل لميرباو الأب ولمدام دودفان، ولمع رأسه الأصلع في الصالونات وفي أكاديمية العلوم. وشرف نبيلاً شاباً هو الدوق دلاروشفوكو أن يكون سكرتيره. وكانت الجموع تجري وراءه حين يظهر في الشوارع. ولقيت كتبه ترحيباً واسعاً حين ترجمت ونشرت "أعمالاً كاملة" وطبع من كتاب واحد "تقويم وتشرد المسكين" ثماني طبعات في ثلاثة أعوام. واختلف فرانكلين إلى محفل "النوف سير" الماسوني ومنح العضوية الفخرية، وإعانة الرجال الذين التقى بهم هناك على كسب فرنسا في حلف مع أميركا. ولكنه لم يستطع أن يطلب للتو المعونة السافرة من الحكومة. وكان جيش واشنطن يتقهقر أمام السر وليم هاو، وبدا أن معنوية الجيش تحطمت. وبينما كان فرانكلين ينتظر أحداثاً أكثر يمناً أقام في باسي، وهي إحدى ضواحي باريس اللطيفة، وراح يدرسslash ويفاوض، ويكتب نشرات الدعاية تحت أسماء مستعارة، ويستضيف طورجو، ولافوازييه، وموريلليه، وكاباني، ويغازل مدام دودتو في سانوا ومدام هلفتيوس في أوتوى، ولا عجب فقد كان في هاتين المرأتين فتنة جعلتهما جذابتين بغض النظر عن تقدمهما في العمر.

وكان بومارشيه وغيره أثناء ذلك يرسلون الإمداد إلى المستعمرات، وضباط الجيش الفرنسيون يتطوعون للقتال تحت إمرة واشنطن. كتب سيلاس دين في 1776 "تتكاثر علي تكاثراً رهيباً طلبات الضباط الراغبين في الذهاب إلى أمريكا... ولو كان لدي عشر سفن هنا لملأتها كلها بركاب لأمريكا"(99). والعالم كله يعرف كيف ترك المركيز لافاييت، البالغ من العمر تسعة عشر عاماً، زوجة مخلصة حبلى ليرحل (ابريل 1777) ويقاتل بلا راتب جيش المستعمرات. وقد اعترف لواشنطن قائلاً "إن الشيء الوحيد الذي أتعطش إليه هو المجد"(100)، وفي سبيل المجد أقتحم كثيراً من المخاطر وألوانا من الهوان، وجرح في براند يواين، وشارك في أهوال فالي فورج، وظفر بالمحبة الحارة من واشنطن رغم تحفظه المعهود.

وفي 17 أكتوبر 1777 هزم جيش للمستعمرين عدته عشرون ألف مقاتل قوة مؤلفة من خمسة آلاف جندي بريطاني وثلاثة آلاف مرتزق ألماني قادمين من كندا في ساراتوجا وأكرهها على الاستسلام. فلما بلغ نبأ هذا الانتصار الأمريكي فرنسا وجدت مطالبة فرانكلين، ودين، ولي، بإبرام حلف قبولاً بين مشيري الملك. غير أن نكير عارض إذ كره أن يرى ميزانيته التي قاربت التوازن تقلبها نفقات الحرب رأساً على عقب. إلا أن فرجين وموريبا ظفرا بموافقة لويس السادس عشر التي بذلها على مضض حين حذراه من أن إنجلترا-التي كانت عليمة منذ زمن طويل بالعون الفرنسي لأمريكا ومستاءة منه-قد تبرم صلحاً مع مستعمراتها وتوجه كامل قوتها الحربية ضد فرنسا. وعليه ففي 6 فبراير 1778 وقعت الحكومة الفرنسية معاهدتين مع "ولايات أمريكا المتحدة" أرست إحداهما علاقات التجارة، والمعونة، واشترطت الأخرى سراً أن ينضم الموقعان في الدفاع عن فرنسا إذا أعلنت عليها إنجلترا الحرب، ولا يبرم طرف صلحاً دون موافقة الآخر، ويواصل كلاهما قتال إنجلترا حتى يتحقق استقلال أمريكا.

وفي 20 مارس استقبل لويس المبعوثين الأمريكيين، ولبس فرانكلين جوارب حريرية طويلة لهذه المناسبة. وفي أبريل وصل جون آدمز ليحل محل دين ، وأقام مع فرانكلين في باسي، ولكنه وجد الفيلسوف العجوز في شغل بالنساء عن مهامه الرسمية. فتشاجر معه، وحاول العمل على استدعائه لأمريكا، ففشل، وعاد إلى أمريكا. وعين فرانكلين وزيراً مفوضاً لدى فرنسا (سبتمبر 1779). وفي 1780، حين كان يبلغ الرابعة والسبعين، عرض الزواج دون جدوى على مدام هلفتيوس البالغة إحدى وستين سنة.

وأحب الفرنسيون كلهم تقريباً هذه الحرب عدا نكير. فقد كان عليه أن يجمع الأموال الطائلة التي أقرضتها فرنسا لأمريكا: مليون جنيه في 1776، وثلاثة ملايين أخرى في 1778، ومليوناً آخر في 1779، وأربعة في 1780، وأربعة في 1781، وستة في 1782(101). وبدأ مفاوضات سرية مع اللورد نورث (أول ديسمبر 1779) أملاً في العثور على صيغة للصلح(102). وكان عليه بالإضافة إلى هذه القروض أن يجمع المال لتمويل حكومة فرنسا وجيشها، وبحريتها، وبلاطها. وبلغت جملة ما اقترضه من المصرفيين والشعب 530.000.000 جنيه(103). وقد لاطف الأكليروس حين أقرضوه أربعة عشر مليوناً، ترد أقساطاً قيمتها مليون جنيه كل عام. وظل يرفض فرض الضرائب، مع أن ثراء الطبقات العليا كان يمكن أن يجعل هذا الإجراء غير مؤلم نسبياً، وسيشكو من خلفوه في منصبه من أنه ألقى على عاتقهم هذه الضرورة التي لا محيص عنها. وقد حاباه الماليون لأنه منحهم على قروضهم معدلات الفائدة العالية التي طالبوا بها بحجة أنهم إنما يغامرون بأخطار متزايدة، أخطار عدم استرداد قروضهم على الإطلاق. ورغبة في تنمية الثقة في المجتمع المالي، نشر نكير بموافقة الملك في يناير 1781 "تقريراً مقدماً للملك" هدفه إطلاع الملك والأمة على إيرادات الحكومة ومصروفاتها، وقد أضفى على الصورة إشراقاً بإسقاطه النفقات الحربية وغيرها من المصروفات "غير العادية"، وإغفاله الدين القومي. وأقبل الجمهور على شراء "التقرير" بمعدل ثلاثين ألف نسخة في اثني عشر شهراً. وحيا الناس نكير ساحراً للمالية أنقذ الحكومة من الإفلاس. وطلبت كاترين الكبرى من جريم أن يؤكد لنكير "إعجابها الذي لا حد له بكتابه وبمواهبه"(104). غير أن البلاط غضب لأن "التقرير المقدم للملك" فضح الكثير جداً من مفاسد الماضي المالية، وكشف عن الكثير جداً من المعاشات التي تدفعها الخزانة. وهاجم بعضهم الوثيقة زاعماً أنها ليست إلا مديحاً للوزير بقلمه، وغار موريبا من نكير غيرته من طورجو من قبل وانضم إلى غيره في التوصية بإقالته. أما الملكة فدافعت عنه وإن ساءتها إجراءات الوفر التي اتخذها، ولكن فرجين سماه ثائراً(105). واشترك النظار الملكيون في اتهام نكير ومحاولة إسقاطه مخافة أن يحفظ التقويض سلطتهم بإنشاء المزيد من المجالس الإقليمية. وعمل نكير ذاته على سقوطه بأنه سيستقيل ما لم يمنح لقب الوزير وسلطته كاملين مع كرسي في المجلس الملكي، وقال موريبا للملك أنه لو أجيب نكير إلى طلبه هذا لتخلى جميع الوزراء الآخرين عن مناصبهم. واستسلم لويس، وأخلى سبيل نكير (19 مايو 1781) وحزنت باريس كلها لسقوطه إلا البلاط. وبعث يوزف الثاني بعزائه، ودعته كاترين الثانية للحضور وإدارة مالية روسيا(106).

وفي 12 أكتوبر 1779 انضمت أسبانيا إلى فرنسا ضد إنجلترا. وأوشك الأسطولان الفرنسي والأسباني المجتمعان، ببوارج مجموعها 140، أن يعدلا بوارج البحرية البريطانية وعددها 150(107)، وقطعا على بريطانيا سطوتها على البحار. وقد أثر هذا التغيير في ميزان القوة البحرية تأثيراً حيوياً في الحرب الأمريكية. ذلك أن الجيش البريطاني الرئيسي في امريكا، وعدته سبعة آلاف مقاتل يقودهم اللورد كورنواليس، احتل موقعاً حصيناً في يوركتون على نهر يورك قرب خليج تشيزابيك. وكان لافاييت برجاله الخمسة آلاف وواشنطن برجاله الأحد عشر ألفاً (بما فيهم ثلاثة آلاف فرنسي تحت إمرة الكونت روشامبو) قد التقيا عند يوركتون واستوليا على كل المداخل البرية الميسورة. وفي 5 سبتمبر 1781 هزم أسطول فرنسي بقيادة الكونت دجراس أسطولاً إنجليزياً صغيراً في الخليج، ثم أغلق كل مهرب مائي على قوة كورنواليس الأقل عدداً. فلما استنفد كورنواليس ذخيرته استسلم هو وجميع رجاله (19 أكتوبر 1781). واستطاعت فرنسا أن تزعم أن دجراس، لافاييت، ورشاميو قد لعبوا أدواراً كبرى في ذلك الحدث الذي تبين أنه الفاصل في الحرب.

وطلبت إنجلترا الصلح. وأوفد شلبيرن بعثتين منفصلتين إلى الحكومة الفرنسية والمبعوثين الأمريكان ي فرنسا، آملاً أن يثير أحد الحليفين على الآخر. وكان فرجين (1781) قد فكر من قبل في الصلح مع إنجلترا على أساس اقتسام معظم أمريكا الشمالية بين إنجلترا وفرنسا وأسبانيا(108)، وبدأ تفاهماً مع أسبانيا ليبقي وادي المسسبي تحت السيطرة الأوربية(109). وفي نوفمبر 1782 اقترح تأييد الإنجليز في سعيهم لإقصاء الولايات الأمريكية من مصايد الأسماك النيوفوندلندية(110). كانت هذه المفاوضات متفقة تماماً مع السوابق الدبلوماسية، ولكن المبعوثين الأمريكيين أحسوا حين علموا بها أن الوضع يبرر عملهم بمثل هذه السرية. واتفق فرجين وفرانكلين على أن لكل حلف أن يتعامل مع إنجلترا مستقلاً عن الآخر، على أن يوقع طرف أي معاهدة صلح دون موافقة الطرف الآخر(111).

أما المفاوضون الأمريكان-خصوصاً جون جاي وفرانكلين-فقد لعبوا اللعبة الدبلوماسية بمهارة فائقة، فلم يكسبا للولايات المتحدة الاستقلال فحسب، بل حق استعمال المصايد النيوفوندلندية، ونصف البحيرات العظمى، وكل المنطقة الشاسعة الغنية الواقعة بين جبال الليجاني والمسسبي، وكانت هذه الشروط أفضل كثيراً مما توقع الكونجرس الأمريكي الحصول عليه. وفي 30 نوفمبر 1782 وقع جاي، وفرانكلين، وآدمز، معاهدة تمهيدية مع إنجلترا، كانت من الناحية الرسمية انتهاكاً للاتفاق المبرم مع فرجين، ولكنها اشترطت ألا يكون لها صلاحية حتى تبرم إنجلترا الصلح مع فرنسا. وشكا فرجين، ثم قبل الوضع. وفي 3 سبتمبر 1783 وقعت المعاهدة النهائية "باسم الثالوث الأقدس غير المنقسم"(112)-بين إنجلترا وأمريكا في باريس، وبين إنجلترا وفرنسا وأسبانيا في فرساي. وبقي فرانكلين في فرنسا سفيراً للولايات المتحدة حتى 1785. فلما قضى نحبه في فيلادفيا (17 أبريل 1790) لبست الجمعية التأسيسية الفرنسية الحداد عليه ثلاثة أيام.

وقد أفلست الحكومة الفرنسية نتيجة للحرب وأفضى ذلك الإفلاس إلى الثورة. فقد بلغ مجموع ما أنفقته فرنسا على الصراع بليوناً من الجنيهات، وكانت الفائدة على الدين القومي تجر الخزانة يوماً فيوماً إلى هاوية العجز عن السداد. على أن ذلك الدين كان مشكلة ببين الحكومة والأغنياء لا تكاد تؤثر في الشعب، الذي أثرى كثير من أفراده بفضل تنشيط الصناعة وقد أوذيت الملكية-لا الأمة-أذى بليغاً، وإلا فكيف يستطيع التاريخ تعليل النجاح الذي ثبت به اقتصاد فرنسا الثائرة وجيوشها لنصف أوربا من 1792 إلى 1815؟

لا ريب في أن روح فرنسا قد رفعت. فقد رأى رجال الدولة في صلح 1783 بعثاً ظافراً أقامها من كبوتها عام 1763. أما جماعة الفلاسفة فقد هللوا للنتيجة ورأوها انتصاراً لآرائهم، والحق، كما قال توكفيل "أن الأمريكيين بدوا كأنهم نفذوا ما حلم به كتابنا"(113).و رأى الكثير من الفرنسيين في الإنجاز الذي حققته المستعمرات إرهاصاً يبشر بانتشار الديموقراطية في أوربا كلها. وسرت الأفكار الديموقراطية حتى إلى الطبقة الأرستوقراطية والبرلمانات. وأصبح إعلان الحقوق الذي أصدره مؤتمر فرجينيا الدستوري في 12 يونيو 1776، وقانون الحقوق الذي ألحق بالدستور الأمريكي، من بعض الوجوه نموذجين حذا حذوهما إعلان حقوق الإنسان الذي أعلنته الجمعية التأسيسية الفرنسية في 26 أغسطس 1789.

ولقد كان البهاء الأخير لفرنسا الإقطاعي، وأوج فروسيتها، أن تموت وهي تعين على إرساء دعائم الديموقراطية في أمريكا. صحيح أن معظم رجال الدولة الفرنسيين كانوا يفكرون بلغة بعث قوة فرنسا وحيويتها. غير أن حماسة النبلاء من أمثال لافاييت وروكامبو كانت الحقيقة لأمراء فيها. فلقد خاطروا بحياتهم غير مرة في سبيل الدولة الوليدة. كتب الكونت سيجور الشاب يقول "لم أكن قط الوحيد الذي خفق قلبه لصوت استيقاظ الحرية وهي تكافح للتخلص من السلطة الاستبدادية"(114). ونزل النبلاء الشهير عن حقوقهم الإقطاعية في الجمعية التأسيسية (4 أغسطس 1789) صور ومهد له هنا سلفاً. لقد كان ضرباً باسلاً من الهارا-كيري، بذلت فيه فرنسا المال والدم لأمريكا، ونالت لقاء ذلك دفعة جديدة قوية للحرية.