قصة الحضارة - ول ديورانت - م 10 ك 6 ف 30

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 14140

قصة الحضارة -> روسو والثورة -> إنجلترة جونسن -> عصر رينولدز -> الموسيقيون

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثلاثون: عصر رينولدز 1756-1790

الموسيقيون

أولعت إنجلترا بالموسيقى الرائعة، ولكنها عجزت عن إنجابها. لقد تكاثر تذوقها. ففي اللوحة التي رسمها زوفاني "أسرتا كوبر وجور" نرى الدور الذي لعبته الموسيقى في البيوت الراقية. ونسمع عن مئات المغنين والعازفين الذين جمعوا معاً لحفلة تخليد ذكرى هندل في 1784. وقد أعلنت "المورننج كرونكل" في عدد 30 ديسمبر 1790 إعلاناً للشهور التالية عن سلسلة من "حفلات موسيقية يؤديها المحترفون"، وسلسلة أخرى من "حفلات للموسيقى القديمة"، و "حفلات موسيقية للسيدات المتبرعات" في أمسيات الآحاد، وعن أوراتوريوات مرتين في الأسبوع، وست حفلات للموسيقى السمفونية يقودها المؤلف بشخصه-جوزف هايدن(1). وهذا ينافس ثروة لندن الموسيقية اليوم. وكما أن البندقية ألفت من اليتامى فرقاً للإنشاد، فكذلك كان "أطفال المبرة" في كتدرائية القديس بولس يحيون حفلات موسيقية سنوية كتب هايدن عنها يقول:

"لم تؤثر في أي موسيقى أخرى في حياتي هذا لتأثير الشديد"(2)، وكانت الحفلات الموسيقية والأوبرات الخفيفة تقدم في قاعة رانيلاج وفي حدائق ماريلبون. وقدمت اثنتا عشرة جمعية من هواة الموسيقيين حفلات عامة. وذاع حب الإنجليز للموسيقى ذيوعاً اجتذب الكثير من العازفين والمؤلفون إلى الجزيرة-جيمنياني، وموتسارت، وهايدن، ويوهان كرستيان باخ؛ ومكث فيها باخ ولم يرحل عنها.

وفتر الميل إلى الأوبرا الجادة في إنجلترا بعد أن أتخمها هندل. ثم عاد شيء من التحمس لها حين استهل جوفاني مانتزولي موسم 1764 بأوبرا "اتسيو"، وقد وصف بيرني صوته بأنه "أقوى وأضخم سوبرانو سمع على مسرحنا منذ فارينللي"(3)وكان هذا على ما يبدو آخر انتصار للأوبرا الإيطالية في إنجلترا في ذلك القرن. فلما احترقت دار الأوبرا الإيطالية في لندن (1789) اغتبط هوراس ولبول وتمنى ألا يعاد بناؤها أبداً(4). وإذا كان العهد قد خلا من المؤلفين الموسيقيين الجديرين بالذكر فإنه أنجب مؤرخين موسيقيين بارزين صدرت أعمالهم في ذات السنة (1776) "سنة العجائب" التي ظهر فيها كتاب "اضمحلال وسقوط الدولة الرومانية" و "ثروة الأمم"، فضلاً عن الإعلان الأمريكي للاستقلال. فكتاب السر جون هو كنز ذو الأجزاء الخمسة "التاريخ العام لعلم الموسيقى وممارسته" عمل ينبئ عن دراسة مدققة، ومع أنه هو نفسه لم يكن موسيقياً (إذ كان محامياً ثم قاضياً) فإن معاييره ثبتت وسط تقلبات الرأي الناقد. أما المؤرخ الثاني "تشارلز بيرني" فكان عازف أرغن في كاتدرئية القديس بولس وأكثر معلمي الموسيقى زبائن في إنجلترا. وقد أكسبته طلعته الوسيمة وشخصيته المحبوبة فضلاً عن ثقافته المتعددة صداقة جونسون وجاريك وبيرك وشريدان وجبون ورينولدز-الذي رسم له لوحة جذابة دون أن يتقاضى عنها أجراً(5). وقد جاب أرجاء فرنسا وألمانيا والنمسا وإيطاليا ليجمع المواد لكتابه "التاريخ العام للموسيقى"، وتكلم كلام خبير على المؤلفين الموسيقيين الذين كانوا يومها على قيد الحياة. وحوالي 1780 قال أن "شيوخ الموسيقيين يشكون من غلو شبابهم، وشبابهم يشكو من جفاف الشيوخ وخشونتهم"(6).


المعماريون

اشتبك البناءون الإنجليز الآن في منافسة ساخنة بين الإحياء القوطي والإحياء الكلاسيكي. ذلك أن بهاء الكاتدرائيات القديمة، وفخامة الزجاج الملون الآثارية، والأطلال المكسوة باللبلاب والمتخلفة من أديرة العصر الوسيط في بريطانيا، كل أولئك حفز الخيال ليصور العصور الوسطى في صورة الكمال، وتوافق مع الإنتقاض الرومانتيكي المتزايد على طراز الثنائيات الكلاسيكية، والأعمدة الجامدة، والقواصر الثقيلة . فاستخدم هوراس ولبول سلسلة من معماري المرتبة الثانية ليعيدوا بناء بيته "ستروبريس هل" في توبكنام بطراز وحلية قوطيين (1748-73)، وأنفق أعواماً من الاهتمام البالغ ليجعل من بيته الحفيظ على الطراز المضاد للطراز البلاديوي. وكان يضيف إليه الحجرات عاماً بعد عام حتى أكتمل له منها اثنتان وعشرون وبلغ طول إحداهما-وهي "قاعة الفنون" التي ضمت مجموعات تحفة-خمساً وستين قدماً. وغلب عليه استعمال الشرائح الخشبية المكسوة بالجص بدلاً من الحجر، ويتضح لنا-حتى من أول نظرة-ما هذا الطراز من هشاشة قد تغتفر في الحلية الداخلية ولكنها لا تغتفر في البناء الخارجي. وقد وصف سلوين قصر ستروبري هل هذا بأنه "قوطي هش مثل كعكة الزنجبيل"(7)، وقدر ظريف آخر أن ولبول عمر بعد تهدم ثلاثة مجموعات من الأسوار المفرجة التي(8)اقتضى الأمر ترميمها المرة بعد المرة.

على أن بلاديو وفتروفيوس ظلا رغم هذه التجارب الربين الحارسين للعمارة الإنجليزية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر كما كان في نصفه الأول. وقد تدعمت الروح الكلاسيكية بفضل الحفائر التي أجريت في صركولانيوم وبومبي، وذاعت بفضل الأوصاف المنشورة عن الأطلال الكلاسيكية التي عثر عليها في أثينا وتدمر وبعلبك. ودافع السر وليم تشيمبرز عن الرأي البلاديوي في كتابه "بحث في العمارة المدنية" (1759) وعزز النظرية بالتطبيق حين أعاد تشييد "سومرست هاوس" (1776-86) بواجهة عريضة فيها النوافذ بطراز النهضة والأروقة الكورنثية المعمدة. ثم وفدت من إسكتلندة أسرة لامعة من اخوة أربع هو جاك وروبرت وجيمس ولليم آدام ليهيمنوا على العمارة الإنجليزية في نصف القرن الذي نحن بصدده. وقد ترك روبرت أقوى البصمات على جيله. فقد أنهى دراسته في جامعة إدنبرة، ثم أنفق ثلاث سنين في إيطاليا حيث التقى ببيرانيزي وفنكلمان. وقد لاحظ أن القصور الخاصة التي امتدحها فتروفيوس قد اختفت من روما، وانتهى إليه أن واحداً منها ما زال سليماً نسبياً، وهو قصر دقلديانوس في سبالاتو (وهي الآن سبليت في يوغوسلافيا) فاتخذ سمته إلى تلك العاصمة الدلماشية العتيقة، وأنفق خمسة أسابيع يقيس ويرسم، ثم ألقت السلطات القبض عليه ظناً منها أنه جاسوس، ثم أفرج عنه، وألف كتاباً عن أبحاثه، وقفل إلى إنجلترا وقد عقد العزم على استعمال الطرز الرومانية في العمارة البريطانية. ففي 1768 استأجر هو وأخوته مساحة من الأرض المنحدرة بين الستراند والتيمز لتسعة وتسعين عاماً، وشيدوا فوقها "أدلفي تراس" الشهير-وهو حي من شوارع بديعة وبيوت جميلة فوق جسر تدعمه البواكي والعقود الرومانية الضخمة؛ هنا عاش بعض الدراميين الكبار، من جاريك إلى برنادشو. كذلك صمم روبرت بعض القصور المشهورة، مثل قصر "بيوت" المسمى لوتن هو "أي بيت لوتن، على ثلاثين ميلاً شمالي لندن). قال جونسون "هذا أحد الأماكن التي لا أندم على أنني جئت لأشهدها(9)"، ومعروف أنه كان رجلاً عسير الإرضاء.

وقد انتصرت الطرز الكلاسيكية بوجه عام على الأحياء القوطي، وشيد كثير من قصور هذا العهد الكبرى، مثل كارلتن هاوس بلندن، وهيروود هاوس بيور كشير، بالطراز الكلاسيكي الحديث. ولم يعمر ولبول ليشهد عودة الطراز القوطي مكللاً بالنصر والبهاء في داري البرلمان (1840-60).


ودجوود

لم يقنع الأخوة آدم بتصميم المباني وما احتوته من داخلها، بل صنعوا بعضاً من أجمل أثاث العصر. غير أن ألمع الأسماء في هذا المضمار هو اسم توماس تشينديل، الذي نشر في 1754 وهو في السادسة والثلاثين كتاب "مرشد الجنتلمان ونجار الأثاث"، الذي كان لفن صناعة الأثاث ما كانه كتاب رينولدز "أحاديث" لفن التصوير. وكانت المنتجات التي تفرد بها هي المقاعد ذات "الظهور الشريطية" الرقيقة والقوائم الجذابة. ولكنه أبهج النبلاء والنبيلات في عهد جورج الثالث كذلك بالخزائن، والمكاتب، والمناضد، ودواليب الكتب، والمرايا، والموائد، والأسرة ذات الأعمدة الأربعة-كلها أنيق، وأكثرها مبتكر، هش رقيق عموماً.

وظلت هذه الرقة طابع فن منافسه جورج هبلوايت، وخلفهما توماس شيراتون. وبدا أنهم اعتنقوا نظرية بيرك التي زعمت أن الجمال يجب أن يكون هشاً رقيقاً، في الفن كما هو في الحياة. أما شيراتون فقد دفع الخفة والرشاقة إلى الذروة، وتخصص في الخشب الملون وغيره من المنتجات البديعة التجزع. وكان يصقلها في أناة، ويلونها في رقة، ويكفتها أحياناً بزخارف معدنية. وقد أورد في "قاموس الأثاث" (1802) قائمة حوت 252 من "كبار صناع الأثاث" يشتغلون في لندن أو قربها. ونافست الطبقات العليا في إنجلترا الآن نظائرها الفرنسية في صقل أثاثها وتجهيزاتها الداخلية. وكانوا أسبق من الفرنسيين في تصميم الحدائق والبساتين. وقد لقب لانسلوت براون "Capability" (أي القدرة) لأنه كان يفطن بسرعة كبيرة للقدرات التي تتيحها أرض زبونه للتصميمات الغريبة-والغالية؛ وبهذه الروح صمم الحدائق في بلنهيم وكيو. واتجهت موضة الحدائق الآن إلى الطراز الدخيل، أو غير متوقع، أو البهي المنظر. واستعملت نماذج مصغرة من الهياكل القوطية والباجودات الصينية زخارف خارجية؛ وأدخل السر وليم تشيمبرز في زخرفة حدائق كيو (1757-62) الهياكل القوطية، والجوامع المغربية، والباجودات الصينية (المتعددة الأدوار). وكانت الجرار الجنائزية حليات محببة للحدائق، تضم أحياناً رفات أصدقاء رحلوا عن هذه الدنيا.

أما فنون الخزف فقد تطورت تطوراً كاد يكون ثورياً. فكانت إنجلترا تنتج زجاجاً لا يقل جمالاً عن أي زجاج مصنوع في أوربا(10). وكانت مصانع الخزف في تشلسي وداربي تصنع الأشكال المبهجة بالبرسلان، بطراز سيفر عادة. ولكن أنشطة مراكز الخزف كانت "المدن الخمس" في ستافورد شير-لا سيما بير سليم وستوك-أن-ترنت. وقبل مجيء جوسيا ودجوود كانت هذه البضاعة فقيرة في طرائقها ومكاسبها؛ وكان الخزافون أجلافاً جهلة، قذفوا وسلي بالوحل حين وعظهم أول مرة، وكانت بيوتهم عششاً وسوقهم تسدها طرقات لا سبيل إلى اختراقها. وفي 1755 اكتشفت في كورنوول رواسب غنية من الكاولين-وهو طفل أبيض قاس كالذي يستعمله الصينيون؛ ولكن الموقع كان يبعد مائتي ميل عن المدن الخمس.

وقد بدأ ودجوود وهو في التاسعة من عمره (1739) العمل على دولاب الخزاف. ولم يتلق من التعليم إلا القليل، ولكنه قرأ كثيراً. وألهمته دراسته لكتاب "كايلوس" "مختارات من الآثار المصرية والأترورية واليونانية والرومانية والغالية" (1752-67) الطموح إلى تقليد الأشكال الزخرفية الكلاسيكية ومنافستها. وفي 1753 بدأ العمل بمصنعه الخاص في "أيفي هاوس"، وبنى حوله قرب بيرسليم مدينة أطلق عليها اسم إتروريا، وبهمة المحارب وبصيرة لأجل الدولة شن حرباً على الظروف التي عوقت هذه الصناعة. ورتب وسيلة أفضل لنقل الكاولين من كورنوول إلى مصانعه، وشن حملة لإصلاح الطرق وشق القنوات، وأسهم في دفع نفقاتها، وصحت نيته على أن يفتح مسالك من المدن الخمس إلى العالم. وكانت سوق الخزف الجميل الإنجليزية حتى ذلك العهد يسيطر عليها خزف مايسون وديفلت وسيفر، فاستولى ودجوود على السوق المحلية، ثم على جانب كبير من السوق الأجنبية، وما وافى عام 1763 حتى كانت مصانع خزفه تصدر كل عام 550.000 قطعة لأوربا وأمريكا الشمالية. وأوصت كاترين الكبرى على طقم للمائدة من ألف قطعة.

وبحلول عام 1785 كانت مصانع خزف ستافورد شير تشغل 15.000 عامل. وأدخل ودجوود تخصص العمل، وأرسي الانضباط في المصنع، ودفع أجوراً حسنة، وبنى المدارس والمكتبات. وكان يصر على جودة الصناعة، وقد وصف كاتب ترجم له قديماً بأنه كان يدب في أرجاء ورشته على ساقه الخشبية، وتحطم بيده كل إناء يظهر به أي عيب صغير؛ وفي مثل هذه الحالات كان يكتب بالطباشير عادة على مقعد الصانع المهمل هذا التحذير "هذا لا يرضي جوسيا ودجوود"(11)وابتكر العدد الدقيقة، وجلب الآلات البخارية لتحريك ماكناته. ونتيجة لإنتاجه الواسع للخزف التجاري، بطل الاستعمال العام لمعدن البيوتر في إنجلترا. وتفاوت إنتاجه بين مواسير الفخار لمجاري لندن، وأبدع وأدق الأواني للملكة شارلوت. وكان يقسم أوانيه المعروضة للبيع إلى "النافع" و "الزخرفي" ولصنع الخزف الزخرفي كان يقلد النماذج الكلاسيكية في غير مواربة، كما يرى في فازاته العقيقية الفاخرة، ولكنه طور أيضاً أشكالاً من بنات أفكاره، خصوصاً خزف اليشب الشهير ذا الأشكال الإغريقية المنقوشة نقشاً رقيقاً باللون الأبيض على أرضية زرقاء. وقد جاوز اهتمامه وحماسته الخزف بكثير. فهدته تجاربه التي أجراها للعثور على أخلاط من التراب والكيماويات اكثر إرضاء له، وعلى طرائق أفضل للحريق، إلى اختراع "البيرومتر" لقياس درجات الحرارة المرتفعة. وإتاح له هذا الاختراع وغيره من البحوث عضوية الجمعية الملكية (1783) وكان عضواً سابقاً في جمعية إلغاء الرق، وقد صمم ختمها وصنعه. وقام بحملة لتعميم حق التصويت للذكور وللإصلاح البرلماني، وناصر المستعمرات الأمريكية من بداية ثورتها إلى نهايتها. ورحب بالثورة الفرنسية بشيراً بفرنسا أسعد حالاً وأعظم رخاء.

وقد هدته فطنته إلى تكليف جون فلاكسمان بعمل الرسوم الجديدة المهذبة ومن هذه المهمة انتقل فلاكسمان إلى توضيح أعمال هومر وأسخيلوس ودانتي برسوم قائمة على أساس من فن رسامي الفازات اليونان. وهي رائعة في خطوطها، ولكنها لافتقارها إلى الجسم واللون لا تزيد في جاذبيتها عن جاذبية المرأة مجردة من اللحم. وانتقل بعض هذا البرود إلى تماثيل فلاكسمان، كما نرى في تمثاله لنلسن في كاتدرائية القديس بولس، ولكنه في تمثال "كيوبيد وماربيسا"(12)الرخامي حقق أشكالاً فائضة بالحياة في عمل من أفضل تقليدات التماثيل الكلاسيكية. ثم أصبحت التماثيل الجنائزية مجال تخصصه، فأقامها لتشاترتن في برستل، ولرينولدز في كاتدرائية القديس بولس، ولباولي في كنيسة وستمنستر. وقام في إنجلترا بالدور الذي قام به كازانوفا في إيطاليا-وهو المحاولة الكلاسيكية الحديثة لالتقاط رشاقة براكستيليس الناعمة الشهوانية من جديد.

وهناك أقل، وحياة أكثر، في التماثيل النصفية التي نحتها جوزف نولكنز لأعلام الإنجليز. وقد ولد في لندن لأبوين فلمنكيين، ودرس فيها حتى بلغ الثالثة العشرين، ثم قصد روما، حيث عاش واشتغل عشر سنين يبيع العاديات الأصلية والمزيفة(13). فلما عاد إلى إنجلترا، نحت تمثالاً نصفياً لجورج الثالث وفق فيه توفيقاً لم يلبث أن كثر الطلب عليه. فجلس إليه ستيرن وجاريك وفوكس وبت الثاني، كذلك جلس إليه جونسون، وكان في ذلك ما أسفوا عليه أحياناً، لأن نولكنز لم يجامل أحداً في نحت تمثاله. وقد سخط جونسون قائلاً أن المثال أظهره وكأنه تعاطى مسهلاً(14).

كان العصر عصر حفارين شعبيين، وكان الجمهور شديد الاهتمام بالشخصيات القوية التي وطئت مسرح السياسة وغيره من المسارح، وقد نثرت في طول إنجلترا وعرضها نسخ مطبوعة من صور أشكالها ووجوههم. وكادت رسوم جيمس جلري الكاريكاتورية تبلغ في أذاها مبلغ رسائل جونيس؛ وقد أعترف فوكس بأن هذه الرسوم أنزلت به "أذى أكثر من المناقشات في البرلمان"(15). وصور توماس رولاند سن الرجال وحوشاً، ولكنه رسم أيضاً مناظر طبيعية مبهجة، وأضحك أجيالاً عديدة بكتابه "سياحات الدكتور سنتاكس". أما بول ساند باي وإدموند داير فقد طورا الرسم بالألوان المائية حتى كاد يبلغ القمة في الصقل. وكان البريطانيون العائدين من سياحتهم الكبرى "في أوربا" يجلبون معهم نسخ الرسوم المطبوعة والمحفورات والصور الزيتية وغيرها من التحف. وانتشر تذوق الفن، وتكاثر الفنانون، ورفعوا هاماتهم، وأجورهم، ومكانتهم في المجتمع، وأنعم على بعضهم بلقب الفروسية. ومنحت جمعية تشجيع الفن والصناعة والتجارة (1754) المبالغ الطيبة جوائزها للفنانين الوطنيين، ونظمت المعارض. وعرض المتحف البريطاني مجموعاته في 1759. وفي 1761 افتتحت جمعية قائمة بذاتها للفنون معارض سنوية. وما لبثت أن انقسمت إلى محافظين ومجددين. فألف المحافظون أكاديمية لندن الملكية بمرسوم و 5.000 جنيه من جورج الثالث. وجعلوا جوشوا رينولدز رئيساً لها ثلاثة وعشرين عاماً. وهكذا بدأ العصر العظيم للتصوير الإنجليزي.


جوشوا رينولدز

وكان قائد المسيرة هو رتشارد ولسن، الذي ولد لقسيس ويلزي، وقدم إلى لندن في الخامسة عشرة من عمره، وكسب قوته برسم الأشخاص. وفي 1749 قصد إيطاليا، وفيها وفي فرنسا استوعب تراث نيقولا بوسان وكلود لوران، وتعلم أن يؤثر تصوير الأحداث الـتاريخية والمناظر الطبيعية على تصوير الأشخاص. فلما عاد إلى إنجلترا رسم مناظر طبيعية مشرقة الجو ولكنها مكدسة بالأرباب والربات وغيرها من الأطلال الكلاسيكية. وتميزت بالجمال صورة "نهر التيمز في تويكنام"(16) التي تلتقط روح نهار صيف إنجليزي - المستحمون يسترخون، والأشجار والزوارق الشراعية لا يكاد يحركها النسيم المترقرق. غير أن الإنجليز لم يقبلوا على شراء صور المناظر الطبيعية، فقد أرادوا لوحات تخلد وجوههم في عنفوانهم. ولكن ولسن أصر على رأيه، وعاش فقيراً في حجرة نصف مؤثثة في توتنام كورت رود، وخفف مرارته بالشراب. وفي 1776 أنقذته الأكاديمية الملكية إذ عينته أميناً لمكتبتها. وخلف له موت أخ له ثروة صغيرة في ويلز، فأنفق سنيه الأخيرة هناك مغموراً حتى لقد أغفلت الصحف كلها نبأ موته (1782).

وعلى النقيض من هذا كانت حياة رينولدز في فنه مهرجاناً موصولاً من أسباب التشريف والثراء، فقد أسعده الحظ بمولده (1723) لقسيس ديفونشيري يدير مدرسة لاتينية ويعشق الكتب التي عثر بينها على "مقال في فن فنون التصوير" (1719) من تأليف جوناثان رتشاردسن. وقد ألهبه الكتاب رغبة في أن يكون مصوراً ووافقه أبواه العطوفان على اختياره إرضاء له، فأوفداه إلى لندن ليتلمذ على توماس هدسن، وهو رجل ديفوني تزوج بابنة رتشاردسن وكان يومها أروج مصور للأشخاص في إنجلترا. وفي 1746 مات أبوه، وأقام الفنان الشاب مع أختيه في بلدة هي اليوم بليمث. في ذلك الثغر الشهير التقى بالملاحين وضباط البحرية وصورهم وكون صداقات غالية. فلما كلف الكابتن أوجستس كيبل بحمل الهدايا إلى داي الجزائر، عرض على جوشوا أن ينقله مجاناً إلى مينورقة، لأنه علم لأن الشاب يتوق للدرس في إيطاليا. ومن مينورقة شق رينولدز طريقه إلى روما (1750).

وأقام بإيطاليا ثلاث سنين يرسم وينسخ الصور. وجهد ليكتشف الطرق التي استعملها ميكل أنجيلو وروفائيل في حذقهما للخط واللون والضوء والظل والنسيج والعمق والتعبير والمزاج. وقد دفع الثمن، فبينما كان ينسخ روفائيل في بعض حجرات الفاتيكان غير المدفأة أصيب ببرد وأنه أضر بأذنه الداخلية. ثم انتقل إلى البندقية، حيث درس تتسيانو، وتنتوريتو، وفيرونيزي، وتعلم كيف يضفي وقار الأدواج البنادقة على أي إنسان يصوره. وفي طريق عودته إلى وطنه توقف شهراً في باريس، ولكنه وجد في فن التصوير الفرنسي المعاصر من الأنوثة ما لا يسيغه ذوقه. وبعد أن قضى شهراً في ديفون استقر به المقام مع أخته فرانسيس في لندن (1753)، وهناك أقام ما بقي من عمره.

وللتو تقريباً استرعى الأنظار بصورة أخرى للكابتن كبيل(17)-وسيماً متحمساً، آمراً ناهياً؛ هنا أعيد التقليد الفانديكي حتى تصبح اللوحات صوراً متألقة للأرستقراطية. ولم يمضي عامان حتى بلغ عدد زبائنه 120 زبوناً، واعترف به القوم أبرع مصور في إنجلترا. وكان عيبه التيسير. فقد أصبح شديد الاستغراق والخبرة بتصوير الأشخاص حتى افتقد الوقت والمهارة لرسم الصور التاريخية أو الأسطورية أو الدينية. وقد أجاد رسم بعضها، مثل "الأسرة المقدسة" و "ربات الحسن الثلاثة"(18)ولكن الهامة لم يكن فيها. كذلك لم يكن بزبائنه حاجة إلى هذه الصور، فقد كانوا كلهم تقريباً بروتستانتاً يستنكرون الصور الدينية لأنها تشجع عبادة الأوثان فيما يزعمون؛ وقد أحبوا الطبيعة، ولكنهم أحبوها ذيلاً تلحق به أشخاصهم أو رحلات، وكانوا يتمنون أن يروا أنفسهم دائمي الشباب على جدرانهم، مخلفين انطباعاً قوياً على ذراريهم. ومن ثم أقبلوا على رينولدز، ألفان منهم عدداً، وأرسلوا إليه أزواجهم وأبناءهم، وأحياناً كلابهم. ولم ينصرف أحد من هؤلاء حزيناً، لأن خيال رينولدز اللطيف استطاع دائماً أن يعوضهم عما حرمتهم الطبيعة. ولم يحدث على مدى التاريخ أن حفظ جيل أو طبقة حفظاً كاملاً كذلك الذي تراه في لوحات رينولدز الباقية وعددها 630 "فهنا رجال الدولة الذين عاشوا في ذلك العصر المفعم حيوية: هنا بيوت في مهرجان من اللون(19)، وبيرك في اكتئاب عاجله وهو بعد في الثامنة والثلاثين، وفوكس مستكرشاً، حزيناً، هماماً في الرابعة والأربعين... وهنا الكتاب: ولبول، وستيرن، وجولد سمث(20)وهو يبدو حقيقة مثل "بل المسكين"، وجبون بوجنتيه الممتلئتين اللتين حسبتهما المركيزة دودفان-التي لم تبصر إلا بيديها-مقعدة طفل"(21)وبوزويل(22)فخوراً كأنه خلق جونسون، ثم جونسون نفسه، مصوراً في حب خمس مرات، وجاساً في 1772 إلى رينولدز ليرسم له أشهر ما رسم من صور الرجال(23). وهنا أعلام المسرح: جاريك "نهباً بين ربتي التراجيديا والكوميديا المتنافستين"، وماري روبنسن في دور برديتا، والسيدة آبنتن في دور ربة الكوميديا، وسارة سيدونز في دور ربة التراجيديا(24)، وقد نقد أحد المتحمسين رينولدز سبعمائة جنيه (18.200 دولار؟) ثمناً لهذه الرائعة الفاخرة.

ويغلب على هذا المتحف الذي لا ضريب له كثرة عدد النبلاء-أولئك الذين أعطوا نظاماً اجتماعياً لشعب نزاع إلى الفردية، واستراتيجية ظافرة للسياسة الخارجية، ودستوراً مقيداً للملك فانظر إليهم أول الأمر في صباهم الحلو، كصورة توماس لستر ذي الأثني عشر ربيعاً-هذه الصورة التي رسمها رينزلدز واسمها "الصبي الأسمر" تتحدى صورة "الصبي الأزرق" التي رسمها جنينزبرو. ثم أوجسطس كبيل ذاته الذي كان رائع السمت وهو كابتن في 1753، ولكنه انتفخ كثيراً وهو أميرال في 1780. وقد وفق رينولدز برغم هذه البدانات، وبرغم الحرير والمخرمات التي اكتسوا بها، في تحويل الشجاعة والكبرياء غير الملموستين إلى لون وخط. خذ مثلاً جسم اللورد هينفيلد المتين وشخصيته القوية، ويبدو جسوراً في اللون الأحمر البريطاني، ممسكاً بالمفتاح إلى جبل طارق الذي دافع عنه دفاعاً مستميتاً ضد حصار الأسبان والفرنسيين الذي امتد أربعة أعوام.

وهكذا تنتهي بنا المسيرة إلى أولئك الربات بين النساء "الدياي جينايكون" اللائي وجدهن رينولدز في زوجات النبلاء البريطانيين وبناتهم. وإذ كان عزباً فقد كان حراً في أن يجبهن جميعاً بعينيه وفرشاته، ويخلع عليهن بهاء وجلالاً بلباس فضفاض رقيق في خفة الزغب، خليق بأن يجعل فينوس تواقة إلى كساء عريها. فانظر إلى الليدي اليزابث كبيل، مركيزة تافيستوك، وقد ارتدت ثياب القصور التي لبستها قبل سنين يوم كانت إشبينة للعروس الملكة شارلوت، ترى ماذا تكون بغير تلك الطيات من الحرير الملون تطوق ساقين لا يمكن على أية حال أن تختلفا كثيراً عن ساقي زانتيب (زوجة سقراط)؛ وكان رينولدز أحياناً يجرب ما تستطيع فرشاته أن تصنع بالمرأة وهي في ثياب بسيطة؛ فصور ماري بروس دوقة رتشموند في عباءة عادية تخيط رسماً في وسادة(25)؛ هذا وجه يمكن أن يلم بأحلام فيلسوف. وفي ما يقرب من هذه البساطة في الملبس والصورة الجانبية الملائكية نرى السيدة بوفري تصغي إلى السيدة كريوي(26). وكان هناك جمال أعمق حتى من هذا في وجه إيما جلبرت، كونتيسة مونت ادجكوم، الهادئ الرقيق(27)، وقد دمرت هذه اللوحة الجميلة بفعل غارات العدو في الحرب العالمية الثانية.

وكان لكل هؤلاء النسوة تقريباً أطفال، لأنه كان جزءاً من التزام الأرستقراطية الاحتفاظ بالأسرة والملكية في استمرار لا تنفصم عراه. وهكذا صور رينولدز الليدي إليزابث سبنسر، كونتيسه بمبورك، مع ابنها ذي السنين الست، وهو الذي سيصبح فيما بعد اللورد هربرت(28)؛ وصور السيدة إدوارد بوفري مع ابنتها جورجيانا ذات السنين الثلاث(29)؛ وصور هذه الأبنه، بعد أن أصبحت دوقة ديفونشير (الحسناء المرحة التي اشترت بالقبلات أصوات الناخبين لفوكس لانتخابات البرلمان) مع ابنتها ذات السنين الثلاث، وهي جورجيانا أخرى أصبحت فيما بعد كونتيسة كارليل(30).

وأخيراً، وربما أكثرهن جميعاً جاذبية، الأطفال أنفسهم، متحف كامل منهم، وكلهم تقريباً رسمه متفرداً كروح لا تكرار لها، وفهمه بتعاطف في تساؤل الصبي وعدم اطمئنانه. ويعرف العالم رائعة رينولدز في هذا القطاع، وهي "عصر البراءة"(31)، التي رسمها في 1788، في آخر سني إبصاره؛ بيد أن السرعة التي بلغ جمالها في الوصف رسمها في 1758 للورد روبرت سبنسر وهو في الحادية عشرة(32). وبعدها راح يرسم الأطفال في كل عمر: في سنتها الأولى الأميرة صوغيا ماتيلده؛ وفي سنته الثانية الغلام وين مع حمله؛ وفي الثالثة الآنسة باولز مع كلبها؛ وفي الرابعة الغلام كريوي في تقليد كامل لهنري الثمن؛ وفي نحو هذه السن "الفتاة بائعة الفراولة"(33)؛ وفي الخامسة ولدا بروميل، وليم وجورج (الذي أصبح فيما بعد يلقب "بو بروميل")؛ وفي السادسة الأمير وليم فردريك؛ وفي السابعة اللورد جورج كونواي؛ وفي الثامنة الليدي كارولين هوارد؛ وفي التاسعة فردريك، ايرل كارليل؛ وهكذا قدما إلى الشباب والزواج والإنجاب. وقد اعترف رينولدز بإيثاره زبائنه من ذوي الألقاب، "أن التدرج البطيء للأشياء بالطبع يجعل الأناقة والتهذيب آخر أثار الغنى والسلطة"(34) ولا قبل إلا الأغنياء بدفع الجنيهات الثلاثمائة التي يطلبها أجراً عن "لوحة كاملة الطول مع طفلين"(35). أياً كان المر، فإنه كان قد وقه على منجم ذهب، وما لبث دخله أن ارتفع إلى 16.000 جنيه في العام. وفي 1760 اشترى بيتاً في رقم 17 ميدان لستر، وكان يومها أرقى أحياء لندن، فأثثه تأثيثاً فاخراً، وجمع له الصور من صنع قدامى الفنانين، واتخذ مرسماً له قاعة في سعة صالة الرقص. وكان للي مركبته الخاصة، تجملها اللوحات المرسومة والعجلات المذهبة، وطلب إلى أخته أن تركبها طائفة بالمدينة، لأنه كان يعتقد أن مثل هذا الإعلان عن الثراء كفيل بأن يأتي بالمزيد(36).

وفي 1760 منح لقب الفروسية. وكان يلقى الترحيب في كل مكان يحل به ضيفاً، واستضاف هو نفسه أصحاب العبقرية والجمال والنبل؛ وكان يلتقي على مائدته من رجال الأدب عدد يفوق ضيوف أي رجل آخر في إنجلترا(37). وقد أهداه جولد سمث قصيدته "القرية المهجورة" وأهداه بوزويل "حياة صموئيل جونسون". ورينولدز هو الذي أسس في 1764 "النادي" ليتيح لجونسون منبراً من نظائره. ولا بد أنه أحب جونسون، فقد رسم له صوراً كثيرة جداً. ورسم لنفسه أكثر. غير لأنه لم يوهب وسامة الطلعة، فقد كان وجهه شديد الحمرة به ندوب من جدري أصابه في طفولته؛ وكانت ملامحه جافية، وشفته العليا شوهتها كبوة في مينورقة. وفي الثلاثين رسم نفسه وهو يظلل عينيه ويحاول اختراق تيه من الضوء والظل ليلتقط الروح الكامنة وراء وجه(38). ثم صور نفسه في الخمسين وهو في رداء الدكتوراه، لأن جامعة أكسفورد كانت قد منحته لتوها الدكتوراه في القانون المدني. وأبدع هذه السلسلة صورته المحفوظة في قاعة الصور القومية، التي رسمها حوالي 1775، وفيها يبدو وقد غدا وجهه أكثر تهذيباً، ولكن شعره خطه الشيب، ويده مضمومة إلى أذنه، لأنه كان في طريقه إلى الصمم. وحين أسست أكاديمية الفنون الملكية في 1768 أنتخب رينولدز رئيساً لها بالإجماع. وظل خمسة عشر عاماً يفتتح موسمها بحديث إلى الطلاب. وكان بوزويل من الأصدقاء الذين جلسوا في الصف الأمامي في حديثه الأول (2 يناير 1769). وقد أدهشت الكثيرين ممن استمعوا إلى هذه الأحاديث بلاغتها الأدبية، وظن بعضهم أن بيرك أو جونسون كتبها له، ولكن السر جوشوا كان قد تعلم الكثير من اتصالاته، وانشأ له أسلوباً وتفكيراً خاصين. وبالطبع شدد على أهمية الدرس بوصفه أكاديمياً، واستنكر الفكرة التي تزعم أن العبقرية قد تغني صاحبها عن التعلم وبذل الجهد الشاق، وازدرى "شبح الإلهام هذا"، وأصر على أن "الجهد هو الثمن الوحيد للشهرة الراسخة"(40). ثم أنه "ينبغي اغتنام كل فرصة لاستنكار ذلك الرأي السوقي الباطل-وهو أن القواعد أغلال تقيد العبقرية"(41) ويجب أن يمر التطور الطبيعي للفنان بمراحل ثلاث: أولاً: مرحلة الوصاية-تعلم القواعد، والرسم، والتلوين، والتشكيل؛ ثانياً: دراسة كبار الفنانين الذين نالوا الاستحسان على طوال الزمن، وبطريق هذه الدراسات "تلتئم الآن أسباب الكمال المتناثرة بين مختلف الفانين في فكرة عامة واحدة تقضي إلى تعديل ذوق الطالب وتوسيع خياله. والمرحلة الثالثة والأخيرة تحرر الطالب من الخضوع لأي سلطان إلا ما يرى بنفسه أن العقل يؤيده(42). وعندها فقط ينبغي له أن يجدد ويبدع. "فإذا أحسن إرساء حكمه وإثراء ذاكرته، استطاع أن يجرب قوة خياله دون أن يعروه خوف. والعقل الذي درب على هذا النحو يمكنه أن يشبع رغبته في الحماسة المفرطة ويغامر باللعب على حدود الأغراب الشديد"(43).

وكان هوجارث قد رفض "قدامى الأساتذة" ولقبهم "الأساتذة السود"، وأشار بتصوير الطبيعة تصويراً واقعياً. أما رينولدز فذهب إلى أن هذه الخطوة ينبغي أن تكون مجرد إعداد لفن أكثر مثالية. "أن الطبيعة نفسها يجب عدم الغلو في نقلها.. ومطمح المصور الأصيل لا بد أن يكون أوسع من هذا. فبدلاً من محاولته الترويج عن البشر بالأحكام الدقيق لتقليده، عليه أن يحاول تحسينها بسمو أفكاره... وعليه أن يكافح لبلوغ الشهرة بأسره للخيال"(44). أن كل شيء في الطبيعة ناقص قاصر عن إدراك الجمال، وفي صميمه عيب أو نقص ما، والفنان يتعلم أن يحذف هذه العيوب من إبداعاته، وهو يجمع في مثل أعلى واحد مزايا الكثير من الأشكال الناقصة؛ "أنه يصحح الطبيعة بذاتها، وحالتها الناقصة بحالتها الأكثر كمالاً.. وهذه الفكرة، فكرة الحالة الكاملة للطبيعة، التي يسميها الفنان "الجمال المثالي" هي المبدأ الرئيسي العظيم الذي تؤدي العمال العبقرية طبقاً له. ولكي يميز الفنان الناقص من الكامل، والرفيع من الخسيس، ولكي يدرب الخيال ويهذبه ويرفعه، يجب أن يثري نفسه بالأدب والفلسفة، وبـ "حديث الرجال المثقفين والمبدعين"(45). وكذلك فعل رينولدز.


وفي 1782 أصيب بالنقطة، ثم شفي شفاء جزئياً من إصابته. وواصل التصوير سبع سنين أخرى. ثم غامت عينه اليسرى، وسرعان ما فقدت البصر. وفي 1789 بدأت اليمنى في الضعف، فوضع فرشاته، وقد ملأه جزعاً وقنوطاً أن يضاف العمى الكامل تقريباً إلى نصف الصمم الذي ألحأه منذ سنته السابعة والعشرين إلى استعمال بوق الأذن. وفي 10 ديسمبر 1790 ألقى آخر أحاديثه. وقد أعاد تأكيد إيمانه بالمبادئ الأكاديمية والمحافظة التي نادى بها في أحاديثه القدم عهداً، وجدد نصيحته بدرس الخط على اللون، والمصورين القدامى قبل محاولة التجديد. ثم اختتم بالثناء الحار على ميكل أنجيلو: "لو أتيح لي الآن أن أبدأ الحياة من جديد، لاقتفيت خطى ذلك الفنان العظيم، فلثم هدب ثوبه، والتقط الطفيف من مواطن كماله، فيه فخر وامتياز كافيان لرجل طموح... ويخيل إلي، في شعور لا يخلو من الغرور، أن هذه الأحاديث تشهد بإعجابي بهذا الرجل الملهم حقاً، وأود أن تكون آخر كلمة أفوه بها في هذه الأكاديمية ومن هذا المكان، هي اسم ميكل أنجيلو"(46).

وتوفي المصور الآسف في 23 فبراير 1792، وشرف تسعة نبلاء بحمل رفاته إلى كاتدرائية القديس بولس.



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ثوماس جينزبرو

كان رينولدز رجل دنيا، لا يتردد في تقديم فروض الاحترام التي يقتضيها قبوله في المجتمع، أما جينزبرو فكان ذا نزعة فردية حارة، تسخطه التضحيات التي تطالب بها شخصيته وفنه ثمناً للنجاح. وكان أبواه من المنشقين على الكنيسة الرسمية، وورث توماس عنهما استقلال الروح دون أن يرث التقوى. وتروي القصص عن هروبه من المدرسة في مسقط رأسه صدبري ليجوب أرجاء الريف راسماً رسوماً تخطيطية للشجر والسماء، وللماشية ترعى في الحقول أو تشرب عند البركة. فلما فرغ من رسم جميع الأشجار في منطقته وهو بعد في الرابعة عشرة، حصل على إذن من أبيه ليذهب إلى لندن ويدرس الفن. وهناك درس نساء المدينة، كمال نستنتج من نصيحته التي بذلها في تاريخ لاحق لممثل شاب: "لا تسرح في شوارع لندن، متوهماً أنك تلتقط لمحات من "الطبيعة" على حساب بدنك. تلك كانت أول مدرسة لي، أنا عميق الخبرة بالنساء، فاسمح لي إذن أن أحذرك"(47).

وفجأة، وهو ما يزال في التاسعة عشرة، ألفى نفسه زوجاً لفتاة اسكتلندية في السادسة عشرة تدعى مارجريت بور. وتجمع أكثر الروايات على أنها كانت ابنة غير شرعية أحد الأدواق، ولكنها كانت تملك دخلاً قدره مائتا جنيه في السنة(48). وفي 1748 استقر بهما المقام في ابستش. وهناك التحق بناد موسيقي لأنه كان مولعاً بالموسيقى، وكان يعزف على عدة آلات-"أنني أرسم لوحات للأشخاص لأكسب قوتي، ولمشاهد الطبيعة أنني أحبها، وأعزف الموسيقى لأنني لا أملك منع نفسي من العزف"(49)وقد وجد في مصوري "اللاندسكيب" (المناظر الطبيعية) الهولنديين دعماً لولعه بالطبيعة. وكلفه فليب تكنيس، حاكم قلعة لاند جارد القريبة منه، بأن يصور القلعة، والتلال المجاورة لها، وهاروتش، ثم نصحه بأن يلتمس عملاء أغنى وأكثر في مدينة بات. فلما بلغها جينزبرو (1759) بحث عن الموسيقيين لا المصورين، وسرعان ما أدخل يوهان سبستيان باخ في عداد أصدقائه. ذلك أنه كان يملك روح الموسيقى وحساسيته، وتراه في لوحاته يحول الموسيقى إلى دفء للون ورشاقة الخط. وكان باث بعض مجموعات الصور الجيدة، فاستطاع الآن أن يدرس لوحات الطبيعة التي رسمها كلود لوران وجسبار بوسان، ولوحات الأشخاص التي رسمها فاندريك، وأصبح الوريث وأسلوب فاندريك الإنجليزي-لوحات أشخاص تضيف رهافة بالغة في الفن إلى تفرد الشخصية وأناقة الملبس. وفي باث أنتج بعضاً من أفضل فنه. وكان آل شريدان يسكنونها، فرسم جينزبرو زوجة رتشارد الشابة الفاتنة(50) ثم أفاض كل صنعته الآخذة في النضج على لوحة "النبيلة مسز جراهام"(51)التي أتاح له رداؤها الأحمر بثناياه وطياته أن يبرز أرق تدريجات اللون والظل. وحين عرضت هذه اللوحة في الأكاديمية الملكية بلندن (1777) خيل لكثر من المشاهدين أنها تبز أي لوحة رسمها رينولدز. وحوالي عام 1770 أضفى جينزبرو البهاء على صورة غلام يدعى جوناثان بتال، وهو ابن تاجر حديد، فغيره إلى "الصبي الأزرق"-وهي لوجه دفع فيها متحف صور هنتنجتن 500.000 دولار. وكان رينولدز قد أعرب عن اقتناعه بأنه لا يمكن رسم لوحة شخصية مقبولة باللون الأزرق، وقبل غريمه الصاعد التحدي وانتصر؛ وأصبح اللون الأزرق بعدها لوناً مفضلاً في التصوير الإنجليزي.

ورغب كل وجوه باث الآن في أن يصورهم جينزبرو. ولكنه، كما قال لصديق، "لقد مللت تصوير الأشخاص، وبي رغبة شديدة في أن آخذ كماني وأنطلق إلى قرية جميلة، حيث أستطيع رسم مشاهد الطبيعة وأستمتع بالبقية الباقية من عمري في هدوء ودعة"(52). ولكنه عوضاً عن هذا نزح إلى لندن (1774) واستأجر مسكناً فاخراً في شومبيرج هاوس، بشارع بل مل، ودفع فيه 300 جنيه في السنة، فهو لا يرضى بأن يتفوق عليه رينولدز في مظهره. وتشاجر مع الأكاديمية على عرض صوره، وظل أربع سنين (1773-77) رافضاً عرض لوحاته فيها؛ وبعد علم 1783 لم يتيسر مشاهدة لوحاته الجديدة إلا في الافتتاح السنوي لمرسمه. وبدأ نقاد الفن حرباً غير كريمة من المقارنات بين رينولدز وجينزبرو. وكان رينولدز عموماً يفضل عليه، ولكن الأسرة الملكة أثرت جينزبرو، فصور أفرادها جميعاً. ولم يلبث نصف الإنجليز يجري في عروقهم الدم الأزرق أن تقاطروا على شومنرج هاوس طلباً للخلود القلق في الصور. ورسم جينزبرو الآن شريدان، وبيرك، وجونسون، وفرانكلين، وبلاكستون، وبت الثاني، وكلايف... ولكي يوطد مكانته، ويدفع إيجاره، راض نفسه على الانقطاع لرسم الأشخاص.

وقد وجده زبائنه رجلاً صعب الإرضاء. ومن ذلك أن أحد اللوردات غالى في خيلائه بينما كان جالساً إلى جينزبرو، فصرفه دون أن يرسمه، وكانت ملامح جاريك كثيرة الحركة والتغير (فهذا كان نصف سر تفوقه ممثلاً) بحيث لا يستطيع المصور أن يجد تعبيراً يطول فترة تكفي للكشف عن الرجل. ولقي هذا العنت في تصوير صموئيل فوت، منافس جاريك. وصاح جينزبرو تباً لهما من وغدين! إن لهما وجه كل إنسان إلا وجههما"(53) ثم وجد صعوبة مختلفة في تصوير السيدة سيدونز "لعن أنفك يا سيدتي! أنه بلا نهاية"(54) وكان يصفو مزاجه مع النساء، فهو شديد الإحساس بجاذبيتهن الجنسية، ولكنه تسامى بها إلى شعر من الألوان الناعمة والعيون الحالمة.

فلما أن فاض لديه المال بعد نفقات مسكنه الغالية رسم المناظر الطبيعية التي كان الطلب على لوحاتها قليلاً. وكثيراً ما كان يضع زبائنه الجلوس.-أو الوقوف-ومن خلفهم منظر ريفي، كما نرى في لوحته "روبرت أندروز وزوجته" (التي بيعت بمبلغ 364.000 دولار في مزاد 1960). وإذ منعته زحمة العمل من الذهاب إلى الريف والرسم في مواجهة الطبيعة الحية، فقد جلب إلى مرسمه أصول الشجرة والحشائش البرية والأغصان والأزهار والحيوانات، ثم نظمها في لوحة(55)-مع دمى ألبسها ثياباً لتبدو كأنها ناس، ومن هذه الأشياء؛ ومن ذكرياته، ومن خياله، رسم المناظر الطبيعية. وكان فيها نوع من الافتعال، وشكلية وانتظام ندر أن يوجدا في الطبيعة، ومع ذلك فالنتيجة أوحت بجو من شذى الريف وسكينته. وفي أخريات عمره رسم بعض "الصور الغريبة" التي لم يدع أنه توخى فيها الواقعية، ولكنه أطلق العنان لمزاجه الرومانتيكي؛ وفي إحداها، وهي "فتاة الكوخ ومعها كلب وإبريق" كل العاطفة التي تجيش بها لوحو جروز "الإبريق المكسور" وكلتا الصورتين رسمت في 1785(56). ولا يستطيع أن يقدر جينزبرو حق قدره غير فنان. كان في أيامه يعد أقل تقديراً من رينولدز، ويعاب على رسمه أنه مهمل، وعلى تكويناته أنها تفتقد الوحدة، وعلى أشكاله أنها غير صحيحة الأوضاع؛ ولكن رينولدز نفسه أثنى على التألق الخفيف الذي اتسم به تلوين مزاحمه. وكان يصاحب فن جينزبرو شعر وموسيقى لم يستطع مصور الأشخاص العظيم فهمه في حرارة، لقد كان لرينولدز عقل أكثر ذكورة، وتفوق على منافسه في رسم الرجال؛ أما جينزبرو فكان روحاً أكثر رومانسية، أثر تصوير النساء والصبيان. لقد فاته التدريب الكلاسيكي الذي تلقاه رينولدز في إيطاليا، وافتقد الاتصالات المنبهة التي أثرت عقل رينولدز وفنه. وكان جينزبرو مقلاً في قراءته، قليل الاهتمامات الفكرية، يتجنب جماعة الأدباء والظرفاء الذين التفوا حول جونسون. وكان سمح النفس ولكنه متهور نزاع إلى الانتقاد، وما كان يمكن قط أن يستمع في صبر لمحاضرات رينولدز أو أحكام جونسون. ومع ذلك احتفظ بصداقة شريدان إلى النهاية.

فلما تقدم به العمر ران عليه الغم والاكتئاب، فالنفس الرومانسية تقف عاجزة أمام الموت ما لم تكن متدينة. وفي كثير من لوحات الطبيعة التي رسمها جينزبرو تقحم شجرة ميتة نفسها "تذكرة الموت" وسط الورق الغض والعشب الوافر. ولعله ظن أن السرطان يخترقه، وأحسن بمرارة متزايدة لفكرة عذاب يستطيل إلى هذا الحد. وقبل أن يموت بأيام كتب رسالة مصالحة إلى رينولدز وطلب إلى أكبر الرجلين أن يزوره. وجاء رينولدز، وتبادل الرجلان الحديث الودي وهما اللذان لم يتشاجرا بشخصيهما بقدر ما كانا موضوع نزاعات بين رجال أقل منهم شأناً. وحين افترقا قال جينزبرو "وداعاً حتى نلتقي في الآخرة، وفي صحبتنا فانديك"(57)ومات في 2 أغسطس 1788 بالغاً الحادية والستين.

وشارك رينولدز شريدان في حمل جثمانه إلى فناء كنيسة كيو. وبعد أربعة أشهر أثنى عليه رينولدز في حديثه الرابع عشر ثناء منصفاً. وقد ذكر بصراحة العيوب كما ذكر الحسنات في فن جينزبرو، ولكنه أضاف "لو أتيح لهذه الأمة أن تنجب من العباقرة عدداً يكفي لإكسابنا الامتياز الرفيع ،امتياز "مدرسة إنجليزية"، فإن اسم جينزبرو سينحدر إلى الأجيال القادمة، في تاريخ الفن، فناناً من الرعيل الأول في تلك المدرسة الصاعدة"(58). أما جورج رومني فقد كافح ليبلغ شعبية رينولدز وجينزبرو، ولكن عيوب تعليمه وخلقه ألزمته مكاناً اكثر تواضعاً. وقد افتقد التعليم المدرسي بعد الثانية عشرة، فاشتغل في ورشة نجارة أبيه بلانكاشير حتى بلغ التاسعة عشرة. وقد أكسبته رسومه المال الذي تلقى به دروساً في التصوير من فنان متبطل في بلدته. فلما بلغ الثانية والعشرين مرض مرضاً خطيراً، فلما شفي تزوج ممرضته، ولكنه لم يلبث أن ضاق بها، فهجرها بحثاً عن رزقه، ولم يرها سوى مرتين في الأعوام السبعة والثلاثين التالية، ولكنه كان يرسل إليها بعض مكاسبه. وقد كسب ما يكفي لزيارة باريس وروما، حيث تأثر بالنزعة الكلاسيكية الحديثة. فلما عاد إلى لندن اجتذب رعاية رعاة الفن بقدرته على إلباس زبائنه في رشاقة أو وقار. وكان منهم إيما ليون، التي أصبحت فيما بعد الليدي هاملتن، وقد بلغ من افتتان رومني بجمالها أنه صورها في صورة إلاهة، وكاسندرا، وسورسي، والمجدلية، وجان دارك، والقديسة. وفي 1782 رسم صورة لليدي سذرلاند، نقد عنها 18 جنيهاً؛ وقد بيعت مؤخراً بمبلغ 250.000 دولار. وفي 1799 عاد إلى زوجته محطم الجسد والعقل، فعاودت تمريضه كما فعلت قبل أربع وأربعين سنة. وطال به الأجل ثلاثة أعوام من الشلل، ثم مات في 1802. وبفضل رينولدز وجينزبرو انطلقت إنجلترا الآن، في نصف القرن الذي نحن بصدده، في التصوير كما انطلقت في السياسة والأدب، في تيار الحضارة الأوربية المتدفق.