قصة الحضارة - ول ديورانت - م 10 ك 6 ف 29
صفحة رقم : 14104
قصة الحضارة -> روسو والثورة -> إنجلترة جونسن -> الشعب الإنجليزي -> أساليب الحياة الإنجليزية
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل التاسع والعشرون: الشعب الإنجليزي 1756-1789
1- أساليب الحياة الإنجليزية
حسبنا هذا القدر عن الحكومة، فلننظر الآن في أحوال الشعب. أولاً تأمل أشكال بنيتهم. فما من شك في أن رينولدز تسامى بها، فأظهرنا غالباً على المحظوظين حملة ألقاب النبالة، وأضفى على أجسادهم البدينة بهاء من أرواب الشرف وشاراته. ولكن استمع إلى جوته يصف الإنجليز الذين شاهدهم في فايمار! "يا لهم من قوم ملاح الوجوه رائعي السمت!"-وأقلقه الخوف من أن يصرف هؤلاء البريطانيون الشبان، المملوؤن ثقة في أنفسهم، الذين تفيض عنهم السلطة عفواً، الفتيات الألمان عن الافتتان بالرجال الألمان(1). وقد احتفظ كثيرون من هؤلاء الشبان بقوامهم حتى تقدم بهم العمر، ولكن الكثيرين انتفخت كروشهم وخدودهم حين خلفوا ملاعب مدارسهم إلى لذات المائدة، وتفتحوا كأنهم الورود الحمراء القانية، وكافحوا في هدأة الليل ذلك النقرس الذي غذوه أثناء النهار المرح. وقد ضاع شيء من الخشونة الإليزابيثية في القصف الذي رافق عودة الملكية. أما النساء الإنجليزيات فقد أصبحن أجمل مما كن في أي وقت مضى، على لوحات الرسامين على الأقل: قسمات دقيقة، شعر تجمله الأزهار والأشرطة، وأسرار غامضة يغلفها الحرير، وقصائد من الشعر كلها رشاقة وجلال. وكانت فوارق الزي الطبقية في طريقها إلى الزوال بفضل ما جد من وفرة في الثياب القطنية التي تنتجها المصانع المتكاثرة، ولكنه ظلت على حالها في المناسبات الرسمية. وقد ركب اللورد ديرونتووتر إلى موضع إعدامه في سترة قرمزية وصدرية موشاة بالذهب(2). أما البواريك فكانت دولتها تدول، ثم اختفت حين فرض بت الثاني الضرائب على المسحوق الذي يزيل رائحتها الكريهة، ولكنها عمرت على رءوس الأطباء، والقضاة، والمحامين، وعلى رأس صموئيل جونسن؛ وقنع معظم الرجال الآن بشعرهم الطبيعي يلملمونه على أقفيتهم في ضفيرة معقودة بشريط. وحوالي 1785 أطال بعض الرجال سراويلهم من الركبة إلى ربلة الساق؛ وفي 1793 تركوها تصل إلى الكاحل تقليداً للهان-كيلوت الفرنسيين الظافرين، هكذا ولد الرجل العصري، أما النساء فظللن يغطين صدورهن بالمخرمات حتى يشرفن على الاختناق، ولكن التنورة المطوقة أخذت تفقد ذيوعها وعرضها، وبدأت الفساتين تتخذ تلك الخطوط الإنسيابية التي استهوتنا أيام الشباب.
أما النظافة فلم تكن من الإيمان إلا فيما ندر، لأن الماء كان ترفاً. فالأنهار جميلة ولكنها عادة ملوثة، وكان التيمز أشبه بالمصرف(3). وكان الماء يفرغ في مواسير ببيوت لندن ثلاث مرات في الأسبوع نظير ثلاث شلنات للكوارتر(4)، وكان لبعض المنازل مراحيض آلية، وقليل منها كان له حمامات بماء جار. وكان معظم المراحيض (التي درج القوم على تسمية الواحد منها أريحا) خارج الأسوار، مبنية فوق حفر مكشوفة ترسل نزها خلال التربة إلى آبار يأتي منها قدر كبير من ماء الشرب(5). على أن العناية بالصحة العامة أخذت تتحسن، والمستشفيات تكثر، وهبطت وفيات الأطفال من أربعة وسبعين في كل مائة مولود عام 1749 إلى واحد وأربعين عام 1809(6). ولم يكن أحد من الناس يشرب الماء إذا استطاع الحصول على شراب أكثر أمناً. وكانت الجعة تعد طعاماً، لا غنى عنه لأي عمل شاق، أما النبيذ فدواء مفضل، أما الويسكي فموقد متنقل، وأما السكر فخطيئة عرضية، إن لم تكن جزءاً ضرورياً لمسايرة المجتمع. قال الدكتور جونسن "أذكر الأيام التي كان فيها جميع الأشخاص المهذبين من أهل لتشفيلد يسكرون كل ليلة، ولم يسؤ رأي الناس فيهم لسكرهم هذا"(7). وكان بت الثاني يحضر إلى مجلس العموم مخموراً، واللورد كورنواليس يذهب إلى الأوبرا ثملاً(8). وكان بعض سائقي عربات الأجرة يزيدون دخولهم بطواف الشوارع في جوف الليل والتقاط السادة "المبسوطين" وتوصيلهم لبيوتهم. ثم تناقص السكر بتقدم القرن، واضطلع الشاي ببعض مهمة تدفئة الأوصال وإطلاق الألسنة. وزادت واردات الشاي من مائة رطل عام 1668 إلى أربعة عشر مليون رطل عام 1786(9). وكانت مشارب القهوة الآن تقدم الشاي أكثر من القهوة.
أما وجبات الطعام فكانت شهية، دامية، هائلة الحجم. وكان الغداء يقدم حوالي الساعة الرابعة عصراً لعلية القوم، ثم أخر شيئاً فشيئاً إلى السادسة باقتراب القرن من نهايته. وقد يهدئ رجل مستعجل جوعه بشطيرة (ساندوتش). وقد اتخذت هذه البدعة اسمها من إيرل ساندوتش الرابع الذي ألف أن يتناول شريحتين من الخبز بينهما لحم متحاشياً قطع القمار بالغداء. أما الخضراوات فتؤكل على مضض. وقد قال جونسن لبوزويل في 1773 "أن التدخين انتهت موضته"، ولكن القوم كانوا يتناولون التبغ نشوقاً. وشاع استعمال الأفيون مسكناً أو علاجاً.
وكان في وسع الرجل الإنجليزي وهو على المائدة أن يشرب حتى ينطلق لسانه، وعندها قد يضارع الحديث نظيره في صالونات باريس ظرفاً ويبزه جوهراً. وذات يوم (9 أبريل 1778) اجتمع فيه جونسون، وجبون، وبوزويل، وآلن رمزي، وغيرهم من الأصدقاء، في بين السر جوشوا رينولدز، قال الدكتور (جونسون) ملاحظاً "أشك في إمكان جمع شمل لفيف كهذا الذي يجلس حول هذه المائدة في باريس في أقل من نصف سنة"(10). وكانت المحافل الأرستقراطية تؤثر الحديث الظريف على حديث العلماء، وتفضل سلوين على جونسن. وكان جورج سلوين أوسكار وايلد القرن الثامن عشر. وقد طرد من أكسفورد (1745) لأنه "زعم في زندقته أنه يتقمص شخصية المخلص المبارك، ولأنه سخر من سر القربان المقدس"(11)، ولكن هذا لم يحل بينه وبين الحصول على وظائف شرفية مجزية في الإدارة الحكومية، أو الجلوس والنوم في مجلس العموم من 1747 إلى 1780، وكان له العديد من الأصدقاء، ولكنه لم يتزوج قط. وكان ولوعاً بمشاهدة تنفيذ أحكام الإعدام، ولكنه تغيب عن مشهد إعدام رجل كان سمياً لتشارلز جيمس فوكس، عدوه السياسي الذي كان يتطلع إلى رؤيته يتأرجح على حبل المشنقة-قال "أنني حريص على ألا أحضر "البروفات" أبداً"(12). وقد ظل هو وهوراس ولبول صديقين حميمين طوال ثلاثة وستين عاماً دون أن تكدر صفو صداقتهما سحابة أو امرأة.
أما الذين لم يستمتعوا بمناظر الإعدام فكان في وسعهم أن يتخيروا ما طاب لهم من بين عشرات الملاهي الأخرى، من لعبة الورق المسماة "هويست" أو مشاهدة قتال الطيور، إلى سباقات الحفل أو النزال بين خصوم للظفر بجائزة. وكان الكريكت الآن اللعبة القومية. وكان الفقراء يبددون أجورهم في الحانات، والأغنياء يقامرون بثرواتهم في الأندية أو البيوت الخاصة ويقول ولبول عن جلسة قمار في بيت الليدي هرتفورد "إنني خسرت ستة وخمسين جنيهاً في لحظات"(13). وقد أطلق جيمس جلراي، في رسومه الكاريكاتورية الشهيرة على أمثال هؤلاء المضيفات "بنات فرعون"(14) وكان تقبل الخسائر في هدوء أول الصفات المطلوبة في الرجل الإنجليزي المهذب، حتى ولو انتهى به الأمر إلى إطلاق الرصاص على رأسه.
ولقد كان ذلك العالم عالم الرجل، قانونياً واجتماعياً وأخلاقياً. فكان الرجال يستمتعون بمعظم لذاتهم الاجتماعية مع غيرهم من الرجال، ولم ينظم لعضوية الجنسين حتى عام 1770. وكان الرجال يثبطون الثقافة والفكر في النساء، ثم يشكون من عجز النساء عن الحديث المثقف. ومع ذلك وفقت بعض النساء في تثقيف عقولهن. فتعلمت السيدة إليزابث كارتر التكلم باللاتينية والفرنسية والإيطالية والألمانية، ودرست العبرية والبرتغالية والعربية، وترجمت ابكتيتس بدراية باليونانية ظفرت بثناء جونسون. وقد احتجت على عزوف الرجال عن مناقشة الأفكار مع النساء، وكانت إحدى السيدات اللائي جعلن "ذوات الجوارب الزرقاء" (أي النساء المثقفات) حديث المثقفين من أهل لندن.
وقد أطلق هذا اللقب أول مرة على الاجتماعات المخلطة في بيت السيدة اليزابث فزي بشارع هرتفورد بحي مايفير. في هذه اللقاءات المسائية حظر لعب الورق وشجع النقاش في الأدب. والتقت السيدة فزي ذات يوم ببنيامين ستيلنجفليت، الذي اشتهر فترة قصيرة بأنه شاعر وعالم نباتي وفيلسوف، فدعته إلى حفل استقبالها القادم، فاعتذر بأنه لا يملك ملابس تصلح لأن يحضر بها حفلة. وكان يرتدي جورباً أزرق. فقالت له "لا تهتم باللباس، تعال لابساً جواربك الزرقاء". وذهب. ويروي بوزويل "أن حديثه كان غاية في الروعة حتى... ألف القوم أن يقولوا.. "لا نفعل شيئاً بدون الجوارب الزرقاء"، وهكذا ثبت اللقب شيئاً فشيئاً"(15)، وأصبح يطلق على جماعة السيدة فزي "جماعة الجوارب الزرقاء" Bas Bleu Society. وكان يختلف إليهم جاريك وولبول، وذات مساء روع جونسن الحاضرين جميعاً بحديث من أحاديثه الفخمة الطنانة.
أما "ملكة الزرق" كما لقبها جونسون فهي إليزابث روبنسن مونتاجيو. وكانت زوجة إدوارد مونتاجيو، حفيد إيرل ساندوتش الأول وقريب إدوارد ورتلي مونتاجيو، زوج السيدة ماري الهوائية التي نوهنا بها في صفحات سالفة(16). وكانت إليزابث مفكرة، ودارسة، ومؤلفة، وقد دافع مقالها "كتابات شكسبير وعبقريته" (1769) في سخط عن الشاعر القومي ضد نقد فولتير القاسي. وكانت غنية في وسعها أن تضيف زوارها على مستوى رفيع. وقد جعلت من الحجرة الصينية التي في بيتها الواقع في ميدان باركلي الملتقى المحبب لمفكري لندن وحسانها، فأم الندوة رينولدز وجونسون وبيرك وجولدسمث وجاريك وهوراس ولبول وفاني وبيرني وهانا مور؛ وهناك التقى الفنون بالمحامين، والأساقفة بالفلاسفة، والشعراء بالسفراء. وكان "الطاهي البارع" الذي استخدمته السيدة مونتاجيو يطهو لهم من الطعام ما يشرح لهم صدورهم جميعاً، ولكن لم يكن يقدم للجماعة مسكر، وكان السكر محظوراً. وكانت تلعب دور الراعية لبراعم المؤلفين، وتنثر هباتها يمنة ويسرة. وفتح غيرها من سيدات لندن-كالسيدة ثريل، والسيدة بوسكاوين، والسيدة مونكتون-بيوتهن للموهبة والجمال. وغدا المجتمع مزدوج الجنس، وبدأ ينافس باريس في شهرة صالوناته وعبقريتها.
2- الأخلاق الإنجليزية
يقول آدم سمث "في كل مجتمع رسخ فيه التمييز بين مراتب الناس يوماً رسوخاً تاماً، كان هناك على الدوام مخططان أو نظامان للأخلاق ساريان في الوقت معاً، يمكن أن يسمى الواحد الصارم أو المتزمت، والآخر المتحرر، أو إن شئت المتحلل. أما الأول فتعجب به وتبجله عامة الشعب بوجه عام، وأما الثاني... فيلقي تقديراً واعتناقاً أكثر ممن نسميهم المجتمع العصري"(17)وقد وصف جون وسلي، الذي كان ينتمي للطبقة المتزمتة، الأخلاق الإنجليزية في 1757 بأنها خليط من التهريب، والإيمان الكاذبة، والفساد السياسي، والسكر، والقمار، والغش في المعاملات، والخداع والتحايل في المحاكم، والخنوع في رجال الدين، ومحبة العالم بين الكويكرز، واختلاس أموال البر سراً(18). وتلك شنشنة نعرفها منذ القدم.
وكان التمييز بين الجنسين يومها كما هو اليوم غير كامل إطلاقاً. فحاول بعض النساء أن يكن رجالاً، وكدن ينجحن في هذه المحاولة؛ ونسمع عن حالات تنكر فيها النسوة في هيئة الرجال واحتفظن بهذا المظهر الخداع حتى مماتهن؛ والتحق بعضهن بالجيش أو البحرية بوصفهن رجالاً، وكن يسكرن ويدخن ويشتمن الرجال، ويقاتلن في المعارك، ويحتملن الجلد بشجاعة الرجال(19). وحوالي 1772 انتشر الغنادير Macaronis في شوارع لندن. وكانوا شباناً أرسلوا شعورهم في خصلات معقوصة طويلة، يلبسون ثياباً غالية ذات ألوان لافتة للنظر و "يعاشرون البغايا بغير حرارة"، وقد وصفهم سلوين بأنهم "ضرب من الحيوان لا هو بالذكر ولا بالأنثى، ولكنه جنس بين بين"(20) وكان للواط مواخيره، رغم أن الأفعال الجنسية الشاذة كان عقابها الإعدام إن اكتشفت وثبت ارتكابها.
وقد زكا المعيار الأخلاقي المزدوج. فكانت مئات المواخير ترفه عن الرجال المنتفخين، ولكن هؤلاء الرجال كانوا يسمون انعدام العفة في المرأة جريمة لا يكفر عنها غير الموت. فانظر إلى جولدسمث الرقيق يقول؛ "إذا تدنت امرأة جميلة إلى إتيان الحماقة ثم اكتشفت بعد الأوان أن الرجال خوافون-فأي تميمة تستطيع أن تهدئ اكتئابها، وأي حيلة يمكن أن تمحو ذنبها؟ لا حيلة تجدي لإخفاء ذنبها، ولمواراة عارها عن أعين الناظرين، ولإتاحة الندم لحبيبها وإشعاره بالوجيعة-لا حيلة إلا الموت"(21).
وقد نصحوا بالزواج الباكر واقياً من هذه الكوارث وأجاز القانون زواج البنات في الثانية عشرة، والصبيان في الرابعة عشرة. وتزوج معظم نساء الطبقات المتعلمة صغاراً وأجلن انحرافاتهن، ولكن المعيار المزدوج كان يكبح جماحهن. استمع إلى جونسون يقول في الزنا (1768): "أن اختلاط الأنساب لب هذه الجريمة، فالمرأة التي تحنث بعهود الزواج أشد إجراماً من الرجل الحانث بعهوده. حقاً أن الرجل مجرم أمام الله، ولكنه لا يؤذي إمأته أذى بالغاً جداً إن لم يهنها، أي إذا تسلل مثلاً إلى مخدعها لفرط شهوته. على الزوجة يا سيدي ألا يسوئها هذا كثيراً. ولن أستقبل في بيتي ابنة لي هربت من زوجها لهذا السبب. وينبغي للزوجة أن تحاول إصلاح حال زوجها ببذل المزيد من الاهتمام بإرضائه. سيدي، أن الرجل لن يترك زوجته حتى في حالة واحدة من مائة حالة، ويذهب إلى مومس، ما لم تهمل زوجته في إمتاعه"(22).
وكانت الفكرة المسلم بأنها شيء عادي تماماً في حلقة بوزويل وأصحابه هي أن يختلف الرجل إلى المومسات بين الحين والحين. وكان الزنا في الطبقة الأرستقراطية-وحتى في الأسرة المالكة-واسع الانتشار. فكان الدوق جرافتن يعاشر نانسي بارسونز علانية وهو كبير الوزراء، ويصحبها إلى الأوبرا على مرأى من الملكة(23). أما الطلاق فنادر، ولا سبيل للحصول عليه إلا بقانون برلماني، ولما كان هذا يكلف "عدة آلاف من الجنيهات" فإنه كان ترف الأغنياء، ولم يسجل في الفترة من 1670 إلى 1800 غير 132 إذن بالطلاق(24). وكان الظن بوجه عام أن أخلاق العامة خير من أخلاق أشرافهم، ولكن جونسن ذهب إلى العكس (1778): "لا يقل الزنا والخيانة والزوجية بين الزارع عنهما بين النبلاء" و "على قدر ما لاحظت، كلما علا مقام السيدات وازددن ثراء، كن أفضل تهذيباً وأكثر عفة"(25). وقد صور أدب ذلك العصر الفلاح، كما نرى في فيلدنج وبيرنز، يشارك كل نهاية أسبوع تقريباً في الحفلات الصاخبة ويسرف في الشراب، وينفق نصف أجره في الحانات، وبعضه على المومسات. ولقد كانت كل طبقة تأثم وفق طرائقها ومواردها.
وكان الفقراء يقتتلون بقبضات أيديهم وبالنبابيت، والأغنياء بالطبنجات والسيوف. وكانت المبارزة مسألة تتصل بالشرف في طبقة النبلاء. فقد بارز فوكس آدم، وشلبيرن فولرتن، وبت الثاني تيرني؛ وكان عسيراً على المرء أن يجوز حياة النبالة دون جرح واحد على الأقل. وتشهد القصص الكثيرة على هدوء السادة البريطانيين ورباطة جأشهم في هذه اللقاءات. وقد أكد اللورد شلبيرن لشاهديه اللذين ساورهما القلق حين أصابه جرح في أصل فخذه "لست أظن أن الليدي شلبيرن سيزيدها هذا الجرح سوءاً"(26).
وشر من تجلل الأخلاق الجنسية ما شاع من ضراوة الاستغلال الصناعي: ذلك الاستهلاك القاسي للحياة الإنسانية في سبيل التكالب على الأرباح؛ واستخدم الأطفال في سن السادسة في المصانع أو تطهير المداخن؛ وإفقار الآلاف من الرجال والنساء فقراً مدقعاً يكرههم على بيع أنفسهم إلى العبودية لا أجر لها نظير الرحلة إلى أمريكا؛ والحماية الحكومية لتجارة الرقيق باعتبارها مصدراً غالباً من مصادر ثروة إنجلترا.
وكان التجار يبحرون إلى أفريقيا من لفربول وبرستل ولندن-كما يبحر غيرهم من هولندا وفرنسا-فيشترون الزنوج ويقتنصونهم، ويشحنونهم إلى جزر الهند الغربية، ويبيعونهم هناك، ثم يعودون إلى أوربا بشحنات رابحة من السكر أو التبغ أو الروم. وبحلول عام 1776 كان التجار الإنجليز قد حملوا إلى أمريكا ثلاثة ملايين من العبيد، ويضاف إليهم 250.000 ماتوا في الرحلة وقذف بهم في البحر. وقد منحت الحكومة إعانة سنوية قدرها 10.000 جنيه للشركة الأفريقية وخليفتها "الشركة المنظمة" لدعم قلاعهما ومحطاتهما في أفريقيا، بحجة أنهما "أنفع ما كونه تجارنا من شركات لهذه الجزيرة"(27). وحظر جورج الثالث (1770) على حاكم فرجينيا "أن يوافق على أي قانون يحرم أو يعوق استيراد شحنات العبيد على أي وجه"(28). وفي 1771 كان في إنجلترا نحو أربعة عشر ألف زنجي جلبهم سادتهم المستعمرون أو أبقوا منهم، وقد استخدم بعضهم خدماً في البيوت دون أن يكون له حق في تقاضي الأجور(29). وبيع البعض في المزادات العلنية، كما حدث في لفربول علم 1766(30). على أن محكمة إنجليزية قضت في 1772 بأن العبد يصبح حراً تلقائياً في اللحظة التي يطأ فيها أرض إنجلترا(31).
ثم تنبه ضمير إنجلترا ببطء إلى التناقض بيم هذه التجارة وأبسط أوامر الدين أو الأخلاق. فندد بها ألمع العقول في بريطانيا: جورج فوكس، ودانيال ديفو، وجيمس طومسن، ورتشرد ستيل، والكسندر بوب، ووليم بالي، وجون وسلي، ووليم كوبر، وفرنسيس هتشسن، ووليم روبرتسن، وآدم سمث، وجوسيا ودجوود، وهوراس ولبول، وصموئيل جونسون، وإدموند بيرك، وتشارلز جيمس فوكس. أما أول معارضة منظمة للرق فقد قامت بها طائفة الكويكرز في إنجلترا وأمريكا؛ ففي 1761 حرموا من عضويتهم كل مشتغل بهذه التجارة، وفي 1783 كونوا جمعية "لإغاثة وتحرير العبيد الزنوج في الجزر الهند الغربية، ولتثبيط تجارة الرقيق على ساحل أفريقيا"(32). وفي 1783 ألف جرانفل شارب لجنة للتعجيل بإلغاء تجارة الرقيق؛ وفي 1789 بدأ وليم ولبرفورس حملته الطويلة في مجلس العموم لإنهاء التجارة الإنجليزية في العبيد. وقد أقنع التجار المجلس المرة بعد المرة بتأجيل مشروعه، ولم يصدر المجلس القانون الذي حرم على أي سفينة أن تحمل عبيداً من أي ثغر في الممتلكات البريطانية بعد أول مايو 1807، أو لأي مستعمرة بريطانية بعد أول مارس 1808، إلا عام 1807. أما في ميدان الأخلاق السياسية فإن إنجلترا كانت الآن في الحضيض. فقد زكا نظام الدوائر الانتخابية العفنة، وعرض الدهاقنة من ولاة الهند السابقين لها أثماناً باهظة. وقد أسف فرانكلين أسفاً شديداً على نشوب الحرب الأمريكية لسبب غريب: "لم لم يتركوني امضي في طريقي؟ لو أنهم (أي المستعمرين) أعطوني ربع المال الذي أنفقوه على الحرب، لحصلنا على استقلالنا دون أن نريق قطرة دم. كنت أشتري البرلمان كله، وحكومة بريطانيا بأسرها"(34). واستشرى الفساد في الكنيسة، والجامعات، والقضاء، والوظائف المدنية، والجيش والبحرية، ومجالس الملك. وكان النظام العسكري أشد صرامة منه في أي بلد أوربي آخر(35)ربما باستثناء بروسيا، فإذا سرح المقاتلون لم يتخذ أي إجراء لتيسير انتقالهم إلى حياة نافعة ملتزمة بالقانون.
أما الخلاق الاجتماعية فقد تأرجحت بين الطيبة الأصيلة في الفرد الإنجليزي ووحشية الغوغاء المستهترة. وقد وقعت في الفترة من 1765 إلى 1780 تسع فتن كبرى، وكلها تقريباً في لندن، وسنرى مثلاً منها بعد قليل. وكانت الحشود تهرول للفرجة على مشهد الشنق كأنهم في يوم عيد، وقد يرشون الجلاد ليعنف في جلد سجين(36). وكان قانون العقوبات أشد القوانين صرامة في أوربا. أما اللغة في جميع الطبقات تقريباً فكانت تنحو إلى العنف والسوقية. واشتبكت الصحف في معارك رهيبة من القدح والافتراء. وكان الكل تقريباً يقامرون، ولو في اليانصيب القومي، والكل تقريباً يشربون حتى يثملوا.
واتحدت عيوب الخلق الإنجليزي مع صفته الأساسية-وهي النشاط الشديد والعافية العارمة. وقد أنفقها الفلاح وعامل المصنع في العمل الشاق، وأبدتها الأمة في كل أزمة إلا واحدة. فمن هذه العافية انبثقت الشهية المفرطة، وروح المرح، واللجوء إلى المومسات والمشاجرات في الحانات والمبارزات في الميادين، وعنف المناقشات البرلمانية، والقدرة على المعاناة في صمت، ومفاخرة كل إنجليزي بأنه بيته قلعته التي لا يسمح باقتحامها إلا بمقتضى القانون. وحين هزمت إنجلترا في هذا العصر، كان الذي هزمها هم الإنجليز الذي إزدرعوا في أمريكا ذلك الولع الإنجليزي بالحرية. وقد لاحظت مدام دوفان وضوح الفروق بين الأفراد في الإنجليز الذي التقت بهم، والذين لم تبصر معظمهم قط. قالت "كلهم نسيج وحده، ولا تجد منهم اثنين على شاكلة واحدة. أما نحن (الفرنسيين) فعلى النقيض منهم تماماً، فإذا رأيت فرداً من حاشيتنا فكأنك رأيت الكل"(37). وقد وافق على رأيها هوراس ولبول فقال "من المؤدك أنه ما من بلد آخر ينجب كما تنجب إنجلترا هذا العدد الكبير من الشخصيات المنفردة المتميزة"(38)ثم انظر إلى الرجال الذين رسمهم رينولدز: فهم لا ينفقون إلا في الاعتزاز بوطنهم وطبقتهم، وفي تورد وجوههم، وفي تصديهم الجسور للعالم. لقد كانت سلالتهم سلالة قوية حقاً.
3- الإيمان والشك
ظلت الجماهير الإنجليزية وفية لعقيدتها المسيحية في مختلف صورها. وكان أوسع الكتب قراءة بعد الكتاب المقدس "الأعياد والأصوام" تصنيف نلسن. وهو دليل للسنة الكنسية(39). وقد طبع كتاب جونسون "صلوات وتأملات" الذي نشر بعد وفاته أربع طبعات في أربع سنين. وكان الدين في الطبقات العليا يحظى بالاحترام بوصفه وظيفة اجتماعية، ومعوناً على الأخلاق، وذراعاً للحكومة، ولكنه كان قد فقد تصديق الفرد له في دخيلة نفسه وضاع كل سلطان له على السياسة. وكان الملك يعين الأساقفة، أما القساوسة فيعينهم كبار ملاك الأرض ويجرون عليهم أرزاقهم. وكان هجوم الربوبيين على الدين قد هدأت فورته إلى حد مكن بيرك من أن يتساءل في 1790 "من ممن ولدوا في السنين الأربعين الأخيرة قرأ كلمة واحدة مما كتبه كولنز، تولاند، وتندال، وتشب، ومورجن، إلى آخر تلك السلالة التي سمت نفسها أحرار الفكر؟"(40).
ولكن إذا لم يكن أحد قد انبرى للرد عليه فربما لأن هؤلاء المتمردين كانوا قد كسبوا المعركة، وأن المتعلمين لم يبالوا الموضوعات القديمة لكونها قد بت فيها وماتت. وقد وصف بوزويل جيله في 1765 (ناسياً عامة الشعب) بأنه "عصر اشتد ولع الناس فيه بالشكوكية حتى لكأنهم يتفاخرون بتضييق دائرة إيمانهم ما استطاعوا"(41). وقد رأينا سلوين يسخر من الدين في أكسفورد، وولكس في مدمنام آبي. وقد روت الليدي هستر ستانهوب أن بت الابن "لم يذهب إلى الكنيسة قط في حياته"(42). ولن يكون فرضاً على الواعظ أن يكون مؤمناً بما يعظ. كتب بوزويل في 1763 يقول "بين رجال الدين كثيرون من غير المؤمنين الذين إذ رأوا الدين مجرد نظام سياسي فهم ينظرون إلى الوظيفة الكهنوتية ذات الدخل نظرتهم إلى أي وظيفة مدنية، ويسهمون بجهودهم للإبقاء على هذا الوهم المفيد"(43). يقول جبون "أن إقرارات العقيدة القويمة، ومواد الإيمان، يوقعها رجال الدين العصريون بزفرة أو بابتسامة"(44).
وقد أتاحت أندية العصرية تخفيفاً من الامتثال العلني لعقيدة الكنيسة. فانضم كثيرون من الطبقة الأرستقراطية لمحفل أو آخر من محافل الماسون الأحرار. وقد أدانت هذه المحافل الإلحاد لسخفه، واشترطت في أعضائها إيماناً بالله، ولكنها غرست فيهم التسامح في الخلافات القائمة على غير ذلك من عقائد الدين(45). وفي جمعية برمنجهام القمرية كان رجال الصناعة من أمثال ماثيوبولتن وجيمس وات وجوسيا ودجوود يستمعون دون فزع إلى هرطقات جوزف بريستلي وإرازمس داروين(46). على أن ضجة الربوبية كانت قد ولت، وقبل جميع أحرار الفكر تقريباً هدنة لا يتدخلون بمقتضاها في الدعوة للإيمان ما دامت الكنيسة تغضي شيئاً ما عن الإثم. وتجنبت الطبقات العليا الإنجليزية-بما فطرت عليه من حس بالنظام والاعتدال-ذلك التطرف المستهتر الذي اندفع إليه حركة التنوير الفرنسية، فقد أدركت ما بين الدين والحكم من وحدة حميمة، وأوتيت من القصد ما عصمها من إحلال نظام بوليسي لا آخر له محل أخلاقية غيبية.
وإذ كان الأساقفة الأنجليكان الآن خداماً للدولة كما كان الكرادلة الكاثوليك، فقد رأوا أن لهم الحق في قسط من متع الدنيا. وقد هجا كوبر في أبيات لاذعة(47)رجال الدين الذين كانوا يتهافتون تهافت رجال السياسة على الوظائف الدينية الأكثر مغنماً أو الملحقة بوظائفهم؛ ولكن غير هؤلاء كثيرون عاشوا حياة العكوف الهادئ على واجباتهم، وعديدون كانوا المدافعين الأكفاء المتبحرين عن الإيمان. وقد كشف كتاب بالي "مبادئ الفلسفة الأخلاقية والسياسية" (1785) عن روح سمحة ذات أفق واسع وتسامح عقيدي، وعرض كتابه "البراهين على المسيحية" (1794) عرضاً مقنعاً البرهان القائم على القصد في الكون. وقد لقي الترحيب في صفوف الأكليروس رجال ذوو ميول للتحرر الفكري ما داموا يعظون بجوهر الدين ويكونون القدوة الأخلاقية في مجتمعاتهم(48).
أما المنشقون على الكنيسة الإنجليكانية-من المعمدانيين ومشيخيين ومستقلين (بيورتان)_فقد تمتعوا بالتسامح الديني ما داموا متمسكين بمسيحية التثليث؛ ولكن حظر شغل الوظائف السياسية أو الحربية، أو الالتحاق بجماعة أكسفورد أو كمبردج، على من لا يعترف بالكنيسة الإنجليكانية وموادها التسع والثلاثين. واستمر انتشار المثودية بين الطبقات الدنيا. وفي 1784 فصمت هذه الكنيسة عراها الواهية مع الكنيسة الرسمية. ولكنها كانت أثناء ذلك قد بثت "الحركة الإنجيلية" في قلة من رجال الدين الإنجليكان، الذين أعجبوا بزعيمها وسلي، ووافقوه على أن الإنجيل ينبغي أن يبشر به بالضبط كما سلم إلينا في العهد الجديد، دون تنازلات للنقد العقلاني أو النصي.
وظل تذكر إنجلترا لمؤامرة البارود والثورة الكبرى، وحكم جيمس الثاني، يبقى في سجلات الدولة على تلك القوانين القديمة التي شرعت ضد اتباع كنيسة روما الكاثوليكية. ولم يعد أكثر هذه القوانين يطبق، ولكن معوقات كثيرة ظلت مفروضة على الكاثوليك. فهم مثلاً لا يستطيعون شراء أو وراثة أرض شرعياً إلا بالتحايل القانوني ويدفع ضريبة مضاعفة على أملاكهم. وقد حظر عليهم الخدمة في الجيش والبحرية، واحترف المحاماة، والتصويت أو الترشيح للبرلمان، وجميع المناصب الحكومية. ومع ذلك كان عددهم في ازدياد. وفي 1786 كان منهم سبعة من كبار النبلاء، واثنان وعشرون بارونتياً و150 "جنتلماناً". وكان يحتفل بترتيل القداس في البيوت الخاصة، ولم يسجل غير حالتين أو ثلاث من حالات الاعتقال عقاباً على هذه الجريمة طوال الستين عاماً التي حكمها جورج الثالث.
وفي 1778 قدم السر جورج سافيل للبرلمان مشروع قانون هدفه "التخفيف عن الكاثوليك" فهو يبيح شراء الكاثوليك للأرض ووراثتهم لها، والتطوع في القوات المسلحة دون التخلي عن مذهبهم. وأجيز المشروع، ولم يلق معارضة تذكر من الأساقفة الإنجليكان في مجلس اللوردات. ولم يكن ينطبق إلا على إنجلترا، ولكن في 1779-اقترح اللورد نورث تطبيقه على إسكتلندة. فلما بلغ نبأ هذا الاقتراح إقليم السهول الاسكتلندية، اندلعت الفتن في إدنبرة وجلاسجو (يناير 1779)، وأحرقت عدة بيوت يسكنها الكاثوليك وسويت بالأرض، ونهبت وحطمت حوانيت التجار الكاثوليك، كذلك هوجمت بيوت البروتستانت الذين أعربوا عن عطفهم على الكاثوليك-مثل المؤرخ روبرتسن-ولم يخمد أوار الفتنة إلا حين أذاع قضاة إدنبرة أن قانون التخفيف عن الكاثوليك لن يطبق على إسكتلندة.
ثم تبنى عضو اسكتلندي في البرلمان يدعى اللورد جورج جوردن قضية "لا بابوية في إنجلترا" ففي 29 مايو 1780 رأس اجتماعاً لـ "جمعية البروتستانت" التي خططت لمسيرة جماهيرية لتقديم ملتمس بإلغاء قانون التخفيف الصادر في 1778. وفي 2 يونيو أحاط ستون ألف رجل يرتدون أشرطة زرقاء معقودة بمبنى البرلمان واعتدى على كثير من الأعضاء وهم في طريقهم إلى المبنى، وحطمت مركبات مانسفيلد وثيرلو، وستورمونت، ووصل بعض اللوردات النبلاء إلى كراسيهم بغير باروكاتهم شعثاً يرتعدون خوفاً(49). ودخل جوردن وثمانية من اتباعه مجلس العموم، وقدموا ملتمساً، قيل أنه يحمل 120.000 توقيع، يدعو لإلغاء القانون، ويطالب بإجراء عاجل هو البديل الوحيد لغزو الغوغاء للمجلس. فقاوم الأعضاء، وأرسلوا في طلب الجند لكبح جماح الغوغاء، وغلقوا جميع الأبواب، وأعلن قريب لجوردن أنه قاتله في اللحظة التي يقتحم فيها القاعة دخيل، ثم وافق المجلس على رفع الجلسة حتى 6 يونيو. ووصل الجند وأفسحوا طريقاً للأعضاء ليعودوا إلى بيوتهم. وأتلفت محتويات كنيستين كاثوليكيتين تخصان قساوسة سردينيين وباقاريين، وكوم أثاثهما في نار أشعلت في الشوارع. ثم تفرق الجمع، ولكن في 5 يونيو نهب القائمون بالشغب كنائس أجنبية أخرى وأحرقوا عدة بيوت خاصة.
وفي 6 يونيو عاد الغوغاء إلى التجمع، واقتحموا سجن نيوجيت، وأطلقوا سراح السجناء، واستولوا على ترسانة سلاح، وساروا وهم مسلحون مخترقين شوارع العاصمة. وتحصن النبلاء بمتاريس في بيوتهم. وهنأ هوراس ولبول نفسه على حمايته دوقة في "قلعته" بميدان باركلي(50). وفي 7 يونيو نهب وأحرق المزيد من البيوت، واقتحم الرعاع معامل تقطير الخمور، وأطفأوا ظمأهم بغير قيود، واحترق نفر منهم وهم رقود سكارى في الأبنية المحترقة. ورفض قضاة لندن المخول لهم وحدهم السلطة القانونية على الحرس البلدي أن يأمروهم بإطلاق النار على الجمع. واستنفر جورج الثالث مليشيا المواطنين، وأمرهم بإطلاق النار كلما استعمل الرعاع العنف أو هددوا باستعماله. وظفر عضو البلدية جون ولكس بالعفو من الملك، وفقد شعبيته لدى الجماهير، إذ امتطى جواداً وانضم إلى المليشيا في محاولة تفريق الجمع. فلما هاجم المشاغبون المليشيا أطلقوا الرصاص فقتلوا منهم اثنين وعشرين، ولاذ الباقون بالفرار.
وفي 9 يونيو اندلعت الفتنة من جديد ونهبت البيوت وأحرقت-سواء الكاثوليكية أو البروتستانتية، ومنع جنود الإطفاء من إخماد النيران(51). وأخمد الجند الفتنة بعد أن قتل فيها 285 رجلاً وجرح 173؛ وقبض على 135 من المشاغبين، وشنق واحد وعشرون. وقبض على جوردن وهو يفر إلى إسكتلندة، وأثبت أن لم يكن له ضلع في حوادث الشغب، فأفرج عنه، وحصل بيرك على موافقة مجلس العموم على إعادة تأكيد قانون التخفيف عن الكاثوليك في إنجلترا. ووسع قانون صدر في 1791 التسامح الشرعي في شئون العبادة والتعليم الكاثوليكيين، ولكن الكنائس الكاثوليكية حظر عليها أن يكون لها برج أو جرس(52).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
4- بلاكستون وبنتام والقانون
زعم فقيه ضليع أن "نشر كتاب بلاكستون "التعليقات" يعد من بعض الوجوه أبرز حدث في تاريخ القانون"(53)وهذا رأي فيه تحيز للوطن، ولكنه يعيننا على بيان مبلغ الرهبة والإجلال اللذين كان الطلاب المتحدثون بالإنجليزية، حتى عصرنا هذا، يتناولون بهما كتاب "تعليقات على قوانين إنجلترا" الذي نشره وليم بلاكستون في أربعة مجلدات وألفي صفحة في 1765-69. وقد أثنى عليه القراء رغم حجمه هذا أو بسببه، أثراً جليلاً من آثار العلم والحكمة، فكان كل لورد يقتنيه في مكتبته، وأحبه جورج الثالث حباً جماً بوصفه تمجيداً للملوك.
أما بلاكستون هذا فكان أبن تاجر لندني أتاح له ثراؤه أن بعلم ابنه في أكسفورد ثم يرسله إلى "المدل تمبل" ليمارس المحاماة-وقد وردت محاضراته في أكسفورد (1753-63) تناقضات القوانين وسخافتها إلى شيء من النظام المنطقي، ثم بسطت النتيجة بوضوح وتشويق. وفي 1761 أنتخب عضواً في البرلمان، وفي 1763 عين محامياً عاماً للملكة شارلوت، وفي 1770 بدأ خدمته قاضياً في محكمة الدعاوي العامة. وإذ كان مدمناً للدرس كارهاً للحركة، فقد أصابه تحلل هادئ تدريجي ولكنه سابق لأوانه، ومات في 1780 بالغاً السابعة والخمسين. وكان لرائعته الكبرى فضائل محاضراته: الترتيب المنطقي، والعرض الناصع، والأسلوب الرشيق، وقد امتدحه خصمه اللدود جريمي بنتام، لأنه الرجل الذي "علم القضاء أن يتكلم لغة الدارس والجنتلمان، وهذب ذلك العلم العصبي، ونفض غبار المنصب ونسيج العناكب"(54). وقد عرف بلانكستون القانون بأنه "قاعدة للعمل يمليها كائن أعلى"(55)، وكان يدين بتصور مثالي مستقر للقانون، يراه مؤدياً في مجتمع ما الوظيفة التي تؤديها قوانين الطبيعة في العالم؛ وكان ميلاً إلى التفكير في قوانين إنجلترا على أنها تضارع قوانين الجاذبية في جلالها وخلودها.
وقد أحب إنجلترا والمسيحية على الصورة التي وجدهما عليها، وما كان ليسلم بأي عيب في واحدة منهما. وكان أكثر سنية من الأسقف واربرتن، وأكثر ملكية من جورج الثالث. "ليس ملك إنجلترا أكبر قاض للأمة فحسب، بل هو بالضبط القاضي الوحيد لها، الذي له أن يرفض أي مشروعات قوانين، ويبرم أي معاهدات،.... ويعفو عن أي جرائم شاء، إلا إذا كان الدستور قد نص بصراحة أو بحكم النتيجة المنطقية الواضحة على استثناء أو قيد ما"(56)ووضع بلاكستون الملك فوق البرلمان وفوق القانون، فليس الملك "غير قادر على ارتكاب الخطأ فحسب، بل حتى على التفكير الخطأ"-وهي عبارة عني بها بلاكستون أنه ليس هناك قانون فوق الملك يمكن أن يدان به الملك. ولكنه أبهج كبرياء إنجلترا بأسرها حين عرف "الحقوق المطلقة لكل إنجليزي: حق الأمن الشخصي، وحق الحرية الشخصية، وحق الملكية الشخصية"(57). وقد سر جيل بلاكستون سروراً عظيماً بتصوره القانون الإنجليزي نظاماً صالحاً على الدوام لأنه في النهاية مبني على الكتاب المقدس بوصفه كلمة الله، ولكن هذا التصور ثبط تطوير القضاء الإنجليزي وإصلاح قانون العقوبات والسجون؛ غير أن من مفاخره أنه امتدح جهود هوارد التي بذلها لتحسين الأحوال في السجون البريطانية(58).
وقد فهم هوارد المسيحية لا على أنها نظام قانوني بل نداء للقلب. ذلك أن الأحوال في السجن المحلي أفزعته حين عين مأموراً في بدفورد (1773) فالمأمور ومساعدوه لا رواتب لهم، ورزقهم على ما يقتضون من السجناء من رسوم؛ فكان السجين إذا قضى مدة عقوبته لا يفرج عنه إلا بعد أن يدفع جميع الرسوم المطلوبة منه، وكان الكثيرون يظلون رهن السجن شهوراً بعد أن تتبين للمحكمة براءتهم. وقد وجد هوارد في رحلاته من مقاطعة إلى مقاطعة مظالم مماثلة أو أسوأ. فكان المدينون الذين يقصرون في الوفاء بدينهم، والمذنبون لأول مرة، يلقون معاً في مكان واحد مع مدمني الجريمة. وكان أكثر السجناء يوثقون بالأغلال التي تثقل أو تخف حسب الرسم الذي يدفعونه. وكانت جراية السجين في اليوم خبزاً ثمنه بنس أو بنسان، فإذا أراد مزيداً من الطعام فعليه أن يدفع ثمنه أو يعتمد فيه على الأقرباء أو الأصدقاء. أما الماء فجرايته للسجين ثلاثة بنسات في اليوم للشرب والاغتسال. ولا يزود السجناء بوسائل للتدفئة في الشتاء، أما في الصيف فتهوية لا تذكر. وكان النتن الذي يفوح من هذه الزنزانات من الشدة بحيث ظل لاصقاً بثياب هوارد بعد خروجه منها بزمان. وكانت "حمى السجون" وغيرها من الأمراض تفتك بالكثير من السجناء، وكان البعض يموت بالجوع البطيء(59). وفي سجن نيوجيت بلندن كان خمسة عشر إلى عشرين سجيناً ينزلون حجرة طولها ثلاثة عشر وعرضها خمسة وعشرون قدماً.
وفي 1774 قدم هوارد للبرلمان تقريره عن خمسين سجناً زراها، ووافق مجلس العموم على قانون يشترط الإصلاحات الصحية في السجون، وتوفير الرواتب للسجانين، والإفراج عن جميع السجناء الذين لم تجد هيئة المحلفين الكبرى شكاوي مقدمة للمحكمة ضدهم. وفي 1775-76 زار هوارد سجون القارة، فوجد سجون هولندا خيرها تجهيزاً وترفقاً نسبياً بالسجناء، ومن أسوئها سجون هانوفر التي يحكمها جورج الثالث. وقد أيقظ ضمير الأمة من سباته كتاب هوارد "حالة السجون في إنجلترا وويلز... ووصف لبعض السجون الأجنبية" (1777). فوافق البرلمان على تخصيص صندوق لـ "مؤسستين إصلاحيتين" تبذل فيهما محاولة لإصلاح السجناء بالمعاملة الفردية والعمل الخاضع للملاحظة، والتعليم الديني. واستأنف هوارد رحلاته، وروى نتائجها في طبعات جديدة من كتابه. وفي 1789 جاب أنحاء روسيا، وفي خرسون أصيب بحمى المعسكرات ومات (1790). ولم تثمر جهوده للإصلاح إلا نتائج متواضعة. فقانون 1774 أهمله معظم السجانين والقضاة. ولم تظهر أوصاف سجون لندن في 1804 و1817 أي تحسين منذ عصر هوارد، "لعل الأحوال أصبحت أسوأ لا أحسن"(60)، وكان على الإصلاح أن ينتظر. ووصف دكنز لسجن نيو مارشالسيا في قصته "دوريت الصغيرة"(1855).
أما جريمي بنتام فإن جهوده المتنوعة لإصلاح القانون والحكومة والتعليم بذل أكثرها بعد هذه الفترة، ولكن كتيه "مقال صغير عن الحكومة" (1776) مكانه هنا، لأنه في المقام الأول نقد لبلاكستون. فقد احتقر عبادة الفقيه للتقاليد الموروثة، وذكر أن "ما رسخ الآن كان يوماً بدعة"(61)، ونزعة المحافظة الحاضرة إنما هي تبجيل للراديكالية الماضية؛ إذن فالذين يدعون إلى الإصلاحات لا يقلون وطنية عن أولئك الذين يرتعدون فرقاً لفكرة التغيير. "في ظل حكومة القوانين ما هو شعار المواطن الصالح؟ أن يطيع في دقة وأن ينفذ في حرية"(62). وقد رفض بنتام رأي بلاكستون في السيادة الملكية؛ فالحكومة الصالحة توزع السلطات، وتشجع كلاً منها على كبح شطط غيرها، وتسمح بحرية الصحافة، والتجمع والمعارضة السلميتين. والثورة في نهاية المطاف قد تحدث للدولة ضرراً أقل مما يحدثه الخنوع المبلد للطغيان(63). وقد نشر هذا الكتيب سنة الإعلان الأمريكي للاستقلال.
وقد شرح بنتام في هذا المقال ذاته "مبدأ السعادة العظم" الذي أطلق عليه جون ستيوارت مل في 1863 اسم "مذهب المنفعة". "أن أعظم سعادة لأكبر عدد هو مقياس الحق والباطل"(64)، وينبغي الحكم على جميع المقترحات والممارسات الأخلاقية والسياسية بمقتضى "مبدأ المنفعة" هذا، لأن "وظيفة الحكومة أن تزيد من سعادة المجتمع"(65). وقد اقتبس بنتام "مبدأ السعادة" هذا من هلفتيوس، وهيوم، وبريستلي، وبكاريا،(66)وتكونت وجهة نظره العامة من قراءته لجماعة الفلاسفة(67).
وفي 1780 ألف كتاب "مقدمة لمبادئ الأخلاق والتشريع" الذي نشره في 1789، وضمنه عرضاً لأفكاره أكثر تفصيلاً وفلسفة. وقد رد كل فعل واع إلى الرغبة في اللذة أو الخوف من الألم، وعرف السعادة بأنها "الاستمتاع باللذة، والأمان من الألم"(68). ولاح أن هذا يبرر الأنانية المطلقة، غير أن بنتام طبق مبدأ السعادة على الأفراد كما طبقه على الدول، فهل أفضى فعل الفرد إلى أعظم قدر من السعادة له؟ في رأيه أن الفرد في المدى البعيد ينال أعظم لذة أو أقل ألم بتوخيه الإنصاف مع أخوانه البشر.
وقد مارس بنتام ما بشر به، لأنه كرس حياته لسلسلة طويلة من مقترحات الإصلاح: التصويت العام للذكور البالغين المتعلمين، والاقتراع السري، والبرلمانات السنوية، وحرية التجارة، والنظافة الصحية العامة، وتحسين أحوال السجون، وتطهير القضاء، وإلغاء مجلس اللوردات، وتحديث القانون وجمعه وتنسيقه في لغة مفهومة لغير القانونيين، وتوسيع القانون الدولي (وبنتام هو مخترع هذا المصطلح)(69). وقد خرج إلى النور الكثير من هذه الإصلاحات في القرن التاسع عشر، وأكثر الفضل في ذلك لمجهود "اتباع مذهب المنفعة" و "الراديكاليين الفلاسفة" من أمثال جيمس وجون ستيوارت مل، وديفد ريكاردو، وجورج جروت.
كان بنتام آخر صوت من أصوات حركة التنوير، والمعبر بين فكر القرن الثامن عشر المحرر وإصلاحات القرن التاسع عشر. ولقد وثق بالعقل ثقة أكثر حتى من ثقة جماعة الفلاسفة به، وظل أعزباً لآخر حياته مع أنه كان أحب الرجال وألطفهم. وحين مات (6 يونيو 1832) وهو في الرابع والثمانين أوصى بأن تشرح جثته في حضرة أصدقائه. فشرحت، وما زال هيكله محفوظاً في الكلية الجامعية بلندن، مرتدياً ثياب بنتام المألوفة(70). وغداة موته وقع الملك "قانون الإصلاح" التاريخي الذي جسد الكثير من مقترحاته.
5- المسرح
أ - التمثيل
كان هذا النصف الثاني من القرن الثامن عشر غنياً في المسرح فقيراً في الدراما. فقد شهد لفيفاً من أروع الممثلين في التاريخ، ولكنه لم ينجب غير كاتبين مسرحيين اثنين أفلتت أعمالهما من منجل الحصاد: شريدان الذي ودعناه منذ هنيهة، وجولد سمث الذي سيختص بركن تحت سماء الأدب. وربما كان هذا القحط في التمثيليات الجادة سبباً ونتيجة للإحياء الشكسبيري الذي استمر حتى نهاية القرن. وقد عانى الكتاب المسرحيون من أذواق النظارة. فقد كان هناك نقاش كثير للتقنية والفن التمثيليين، ونقاش قليل للتقنية والفن التأليفيين. وكان أجر المؤلف، وهو في الغالب مكافأته المادية الوحيدة، حصيلة الحفلة الثالثة، وإن كان هناك حفلة ثالثة. على أن بعض الممثلين والممثلات أثروا ثراء رؤساء الوزارة. وكان في استطاعة الهاتفين المأجورين أن يقضوا على أي مسرحية جيدة بافتعالهم الضوضاء المعادية، أو أن يجعلوا المسرحية الحقيرة تنجح نجاحاً مثيراً. ولم يظفر بعروض تمتد عشرين ليلة في موسم واحد إلا اكثر المسرحيات حظاً. وكانت الحفلات تبدأ في السادسة أو السادسة والنصف، وتحتوي عادة على مسرحية من ثلاث ساعات، وتمثيلية هزلية ساخرة "فارص" أو إيمائية "بانتومايم". أما المقاعد فتكلف من شلن إلى خمسة، ولا حجز غلا بإرسال خادم يشتري التذكرة ويشغل المقعد حتى يحضر السيد أو السيدة. وكانت كل المقاعد بنوكاً بغير ظهور(71)، وكان بعض النظارة المقربين يجلسون على خشبة المسرح حتى أنهى جاريك هذا العبث المنكر (1764). أم الإضاءة فكلها بالشموع في ثريات "تظل مضاءة طوال البرنامج. وكانت الملابس قبل عام 1782 هي ملابس القرن الثامن عشر الإنجليزية دون اعتبار لزمان المسرحية أو مكانها. فكان كاتو، وقيصر، ولير، يبدون في سراويل للركبة وشعور مستعارة.
وازدهر المسرح، سواء في لندن أو في "الأقاليم"، رغم معارضة رجال الدين ومنافسة الأوبرا والسرك. وكانت بات وبرستل ولفربول ونتنجهام ومانشستر وبرمنجهام ويورك وإدنبرة ودبلن تملك مسارح جيدة؛ وكان لبعضها فرقها الخاصة، وإذ كانت الفرق الكبرى تجوب البلاد، فإن كل مدينة تقريباً شهدت التمثيل الجيد. وقد أثارت لندن المنافسة الحادة بين مسرحيين رئيسيين. ففي 1750 مثل: كلاهما "روميو وجولييت" كل ليلة في ذات الأسبوعين، وأدى الأدوار الرئيسية سبرانجو باري وسوزانا كبر في مسرح كوفنت جاردن، وجاريك ومس بيلامي في مسرح دورري لين. ثم كان لصموئيل فوت مسرحه الصغير في هايماركت، حيث تخصص في التقليد الهجاء، وكانت تقليداته لجاريك شقاء طال أمده في حياة ديفد.
ولم تشهد خشبة المسرح الإنجليزي قط من قبل هذا العدد الغفير من الممثلين الأفذاذ. وقد استهل تشارلز ماكلين هذا العصر المجيد في 1741 بإخراجه تمثيليات شكسبير؛ وكان أول ممثل قدم شيلوك شخصية جادة وإن ظل وغداً لا يرحم (ولم يمثل شيلوك بشيء من العطف حتى جاء هنري إرفنج). ثم اختتم جون فيليب كمبل هذا الإحياء الشكسبيري الذي استغرق قرناً كاملاً. وكانت أعظم ساعات تجلبه حين مثل هو وأخته ساره مسرحية مكبث على مسرح دورري لين في 1785.
وازدانت خشبة المسرح الآن بنفر من الممثلات الجديرات بالذكر. منهن بج وفنتن التي وهبت الجمال المثير في قوامها وطلعتها، ولكنها عاشت عيشة منحلة، وأصابتها النقطة في منتصف التمثيلية (1757) وماتت قبل أوانها غير متجاوزة السادسة والأربعين (1760). ثم كتي كلايف التي ظلت تمثل مع فرقة جاريك اثنتين وعشرين سنة، وقد أدهشت لندن بأخلاقها التي كانت مضرب المثل، وبعد أن هجرت خشبة المسرح (1769) عاشت ست عشرة سنة في بيت أعطاها إياه هوراس ولبول في تويكنام. أما مسز هانا برتشارد فكانت تحتل مكان الصدارة بين الممثلات التراجيديات قبل أن تبزها مسز سيدونز في أداء دور الليدي مكبث؛ وقد أفنت عمرها في التمثيل، ولم تقرأ كتاباً قط (فيما روى)؛ وقد وصفها جونسون بأنها "بلهاء مهملة"(72)، ولكنها عمرت بعد الكثيرات من الحسان، وظلت تمثل حتى قبل موتها ببضعة شهور. وتألقت مسز فرانسيس آبنجتن في أدوار بياتريس وبورشيا، وأوليفيا، وديدمونه، ولكن أشهر أدوارها كان دور الليدي تيزل في مسرحية "مدرسة الفضائح"، وقد اكتسبت ماري روبنسون اسمها الشعبي "برديتا" بفضل إجادتها تمثيل ذلك الدور في "قصة الشتاء"؛ وكانت خليلة لأمير ويلز وغيره من العشاق الأقل شأناً، وصورها رينزلدز وجينزبرو ورومني.
أما ربة المسرح الواعية بقدرها فكانت سارة كمبل سيدونز. ولدت لممثل جوال في خان بويلز (1755). وتزوجت في الثامنة عشرة بالممثل وليم سيدونز، ثم لمعت وهي في التاسعة عشرة في مسرحية أوترواي "فينيسيا المصونة". ثم استخدمها جاريك بعد سنة، ولكن النقاد حكموا بأن "قدرتها لا ترقى إلى مستوى المسرح اللندني"، ونصحها هنري وودوارد الذي كان يمثل الأدوار الهزلية لجاريك بأن تعود إلى مسارح الريف فترة. ففعلت، وظلت ست سنوات تمثل في البنادر. فلما أن دعيت ثانية إلى دروري لين عام 1782، أدهشت كل إنسان بتطورها ممثلة. وكانت البادئة بارتداء زي العهد الذي تمثله في أدوارها. ولم يلبث جاريك أن فضلها في تمثيل الأدوار الشكسبيرية، وبهتت لندن من الجلال والأسى اللذين سمت بهما بدور الليدي مكبث. وقد اكتسبت حياتها الخاصة احترام وصداقة كبار معاصريها، وكتب جونسون اسمه على هدب ثوبها في اللوحة التي صورها فيها رينولدز ربة للمأساة، وقد وقع من نفسه "بالغ تواضعها وكياستها" حين زارته(73). وواصل أخوان وأخت لها واثنتان من بنات اخوتها مشاركة أسرة كمبل في المسرح حتى 1893، وبفضلها وبفضل جاريك ارتفع مقام الممثلين الاجتماعي، وحتى في بلد كإنجلترا جعل من الفوارق الطبقية روح الحكومة وأداتها.
ب- جاريك
كل الذين عرفوا أخبار جونسون يذكرون أن ديفد جاريك ولد في لتشفيلد (1717)، والتحق بمدرسة جونسون في ايديال (1736)، ورافقه في هجرتهما التاريخية إلى لندن (1737). وإذ كان يصغر جونسون بسبع سنين، فإنه لم يكسب قط صداقة جونسون الكاملة، لأن أكبر الرجلين سناً لم يستطع أن يغفر لديفد كونه ممثلاً وغنياً.
فلما بلغ جاريك لندن انضم إلى أخيه في استيراد النبيذ وبيعه. واقتضاه هذا زيارات متكررة للحانات، وهناك التقى بالممثلين، فاستهواه حديثهم؛ وتبع بعضهم إلى ابسويتش حيث سمحوا له بلعب أدوار صغيرة. وتعلم فن التمثيل بسرعة فائقة حتى اضطلع بعد قليل بتمثيل الدور الرئيسي في "رتشارد الثالث" في مسرح غير مرخص بجود مانز فيلدز بالطرف الشرقي للندن. وقد استطاب ذلك الدور لأنه كان ضئيل الحجم مثل الملك الأحدب، ولأنه استسمع بالموت على خشبة المسرح وقد لقي أداؤه من حسن الاستقبال ما جعله يهجر تجارة الخمور، الأمر الذي أخزى أقاربه في لتشفيلد وأحزنهم. ولكن وليم بت الأب ذهب وراء الكواليس ليهنئه. أما الكسندر بوب، الذي كان صاحب عاهة مثل رتشارد، فقد قال لمشاهد آخر، "إن هذا الفتى لم يكن له نظير قط، ولن يكون له منافس أبداً"(74). فهنا ممثل سكب كل جسمه وروحه في الدور الذي يؤديه؛ ممثل تقمص رتشارد الثالث بوجهه وصوته ويديه وهيكله المحطم وعقله الماكر وأهدافه الشريرة؛ ممثل لا يكف عن لعب دوره حين يتكلم الآخرون، وينساه بمشقة إذا ترك خشبة المسرح. وسرعان ما غدا حديث رواد مسارح لندن، فذهب علية القوم لمشاهدته، وتعشى معه اللوردات، وكتب توماس جراي يقول "في جودمانز كفيلدز اثنا عشر دوقاً كل ليلة"(75)وأعلن آل جاريك بلتشفيلد في زهو قرابة ديفد لهم.
ثم جرب بعد هذا دور لير (11 مارس 1742)، ففشل؛ فقد كان فيه من نشاط الحركة ما منعه من تمثيل دور شيخ في الثمانين، ولم يكن قد اكتسب وقار الملوك. على أن الفشل هذبه وتبين أنه عظيم النفع له. فأقلع عن لعب الدور حيناً، ودرس المسرحية، ودرب نفسه على تعبيرات سحنة لير التعس، ومشيته الهزيلة، وبصره المضعضع، ونبراته الحادة الباكية. وفي أبريل عاود التجربة. ورأى النظارة أنه تغير تماماً، فبكوا وهتفوا، ذلك أن جاريك خلق دوراً آخر من الأدوار التي ستذكر الناس باسمه قرابة قرن من الزمان. وصفق الناس جميعاً إلا جونسون الذي انتقد التمثيل زاعماً أنه مجرد بانتومايم، وهوراس ولبول الذي زعم أن في تعبيرية جاريك غلواً، وجراي الذي أسف على الهبوط من الانضباط الكلاسيكي إلى الانفعالية والعاطفية الرومانتيكيين. وشكا الدارسون من أن جاريك لم يمثل نصاً شكسبيرياً خالصاً بل طبعة مراجعة منقحة، أحياناً بقلم جاريك نفسه؛ فنصف أبيات رتشارد الثالث كما مثلها كتبه كولي كبر(76)، وآخر فصل في "هاملت" كما مثله قد غير فيه وبدل ليقدم خاتمة رقيقة للمأساة.
في ذلك الموسم (1741-42) لعب جاريك ثمانية عشر دوراً-وهو عمل جبار يدل على ملكات خارقة في التذكر والتركيز. وكان إذا مثل امتلأ المسرح برواده؛ فإذا لم يكن له دور خلا نصفه. وعانت المسارح المرخصة من تناقص روادها. وأكره مسرح جودمانز فيلدز بتدابير من وراء الستار على أن يغلق أبوابه. فوقع جاريك لموسم 1742-43 عقداً مع مسرح دروري لين حين أسقط في يده بدون خشبة المسرح، نظير 500 جنيه-وكان راتباً قياسياً لممثل. ثم رحل إلى دبلن أثناء ذلك لموسم الربيع. وكان هندل قد استهوى أهل المدينة لتوه بأوراتوريو "المسيا" (13 أبريل 1742)؛ فغزاها الآن جاريك وبج وافنجتن بشكسبير. فلما عادا إلى لندن أقاما في معيشة واحدة، واشترى جاريك خاتم الخطبة. ولكن غاظها منه شحه، وغاظه منها إسرافها. فبدأ يسائل نفسه أي زوجة تراها منبعثة من ماضي بج المخلط. واحتفظ بالخاتم، ثم افترقا (1744).
ولقد كان تمثيله في دروري لين استهلالاً لعهد جديد في الفن. كان يبذل لكل دور يؤديه قصارى طاقته وحرصه المتواصل على أن تتوافق كل حركة من حركات جسمه وكل نبرة من نبرات صوته مع شخصية الدور. ولقد بث الحيوية كلها في رعب مكبث وفزعه، حتى ظل هذا الدور، أكثر من أي من أدواره الأخرى، باقياً في ذاكرة الشعب. وأحل محل الأسلوب الخطابي الذي جرى عليه قدامى التراجيديين كلاماً أكثر طبيعية. وقد أحرز حساسية في تعبير الشخصية كانت تتغير مع أيسر تغيير في التفكير أو المزاج في النص. وقال جونسون ملاحظاً بعد سنوات، "إن ديفد يبدو أكثر سناً مما هو بكثير، لأن وجهه كانت مهمته ضعف مهمة أي رجل آخر، فهو لا يستقر أبداً"(77). ثم هناك تعدد قدراته، فقد لعب الأدوار الكوميدية تقريباً بكل العناية والكمال اللذين بذلهما في لعب دور مكبث أو هملت أو لير.
وبعد أن قضى جاريك خمسة مواسم ممثلاً وقع (9 أبريل 1747) عقداً يقسم إدارة دروري لين بينه وبين جيمس ليسي: فيضطلع ليسي بالأعمال الإدارية، ويختار جاريك التمثيليات والممثلين ويدير البروفات. وخلال فترة إدارته التي امتدت تسعة وعشرين عاماً أخرج خمساً وسبعين مسرحية مختلفة، وكتب هو نفسه مسرحية (بمشاركة جورج كولمان)، وراجع أربعاً وعشرين تمثيلية لشكسبير، وألف عدداً كبيراً من المقدمات، والخواتيم، والفارصات، وكتب للصحف مقالات غفلاً من الإمضاء تدعم عمله وتشيد به. وكان يقدر البرلمان، وكيف اختياره للمسرحيات وفق أعظم قدر من السعادة لأعظم عدد من رواد المسرح. وقد أحب التصفيق كما لا بد أمن يحبه الممثلون والكتاب ورتب الأدوار ليحظى بأكثره. وكان رأي ممثليه أنه مستبد بخيل، وشكوا من أنه يغمطهم أجورهم بينما هو ثري. ولقد أقر النظام والانضباط بين أفراد فيهم غيرة وإفراط في الحساسية ويشرف كل منهم على العبقرية أو يطيل التفكير فيها. وكانوا يتذمرون، ولكن أبهجهم أن يبقوا معه، لأنه ما من فرقة أخرى أبلت هذا الحسن في التصدي لرياح الحظ وتقلبات الذوق.
وفي 1794 تزوج جاريك إيفا ماريا فاجيل، وهي راقصة من فيينا قدمت إلى إنجلترا باسم "الآنسة فيولليت" وظفرت بالتصفيق والاستحسان الحار على أدائها في باليهات الأوبرا. وكانت كاثوليكية تقية، وظلت كذلك، وقد ابتسم جاريك لاعتقادها بقصة القديسة أو رسولاً والأحد عشر ألف عذراء(78)، ولكنه احترم إيمانها لأنها عاشت أمينة لناموسه الأخلاقي. ولقد فعلت الكثير بمحبتها ووفائها لتخفيف التوتر الذي تنطوي عليه حياة الممثل المدير. فأغدق ثراءه عليها، واصطحبها في سياحات بالقاهرة، وابتاع لها بيتاً غالياً في قرية هامتن. وهناك، وفي بيته اللندني على أدلفي تراس، كان يستضيف زائريه في بذخ، وأسعد الكثير من اللوردات وكبار الأجانب أن ينزلوا ضيوفاً عليه. وهناك كان يقصف ويمرح مع فاني بيرني، وآوى هانا مور.
وفي 1763 اعتزل التمثيل إلا في المناسبات الخاصة. قال "الآن سأقعد وأقرأ شكسبير"(79). وفي 1768 اقترح وخطط واشرف على أول مهرجان لشكسبير في ستراتفورد-أن-ايفن. وواصل إدارته لدروري لين، ولكنه وجد غضبات الممثلين ومشاجراتهم تزداد ضغطاً على أعصابه الشائخة. وعليه ففي مطلع عام 1776 باع نصيبه في الشركة لرتشارد برنسلي شريدان، وفي 7 مارس أعلن أنه سيتقاعد بعد قليل. وظل ثلاثة اشهر بعد هذا الإعلان يقوم بتمثيل الوداع لأدواره الحبيبة ويحظى بسلسلة من الانتصارات لعل ممثلاً آخر لم يعرفها قط على امتداد التاريخ. وقد أثار رحيله عن خشبة المسرح من الحديث في لندن قدر ما أثارته الحرب مع أمريكا. وفي 10 يونيو 1776 اختتم حياته المسرحية بإعانة مالية وهبها لصندوق الممثلين العجزة.
ومد له في الأجل ثلاث سنين أخر. ثم مات في 20 يناير 1779 بالغاً الثانية والستين. وفي أول فبراير حمل جثمانه إلى كنيسة وستمنستر على أكتاف أفراد نبلاء بريطانيا، ووري ركن الشعراء عند قدمي تمثال شكسبير.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
6- لندن
بدت لندن أول مرة لجونسن (1737) في صورة ملؤها الاشمئزاز الشديد الغيور على الفضيلة.
"الحقد هنا يأتمر مع السلب وسوء الحظ، ويثور رعاع أحياناً، ويشب حريق أحياناً، وطغام أوباش يختبئون هنا. ويجوس محام يلتمس فريسة، وبيوت هاوية ترعد من فوقك، وامرأة كافرة تغرقك حديثاً يزهق روحك(80).
هذه بالطبع كانت بعض جوانب لندن اختيرت وقوداً لغضب الشباب الذي لم يجد له مكاناً بعد.
ولكن جونسن وصف لندن بعد ذلك بثلاث سنوات بأنها "مدينة اشتهرت بالثراء والتجارة ووفرة الخيرات وبكل لون من ألوان الكياسة والأدب، ولكنها تعج بأكوام القذارة التي لو رآها إنسان متوحش لأخذته الدهشة"(81). ذلك أن السلطات البلدية في ذلك الحين كانت تترك مهمة تنظيف الشوارع للمواطن، الذي أوصي بأن يحتفظ بالمظهر الأنيق للرصيف-أو التراب-أمام منزله. وفي 1762 رتبت قوانين وستمنستر للرصف تنظيف البلدية للشوارع، وجمع القمامة، ورصف الطرق الرئيسية وترميمها، وإنشاء نظام للمجاري تحت الأرض. وسرعان ما نهجت أقسام أخرى من لندن هذا النهج. فكانت الطرقات المرتفعة تحمي المشاة، والبالوعات تصرف مياه الشوارع. وشقت الشوارع الجديدة في خطوط مستقيمة، وبنيت البيوت بناء أصلب وأمتن، وأطلقت العاصمة الوقور رائحة ألطف.
وخلت المدينة من مصلحة عامة للحريق، ولكن شركات التامين احتفظت بفرق خاصة للإطفاء بالخراطيم، للحد من خسائرها. وكان تراب الفحم والضباب أحياناً يتضافرا ليلبدا المدينة بغطاء قاتم صفيق يستحيل على المرء معه أن يميز صديقه من عدوه. فإذا انجلت السماء أشرقت بعض الشوارع الحوانيت الزاهية. وفي حي الستراند كانت أكبر وأغنى المتاجر في أوربا تعرض وراء نوافذها منتجات نصف العالم. وغير بعيد منها قامت مئات الحوانيت التي تشغى بعشرات الحرف، ثم انبثت هنا وهناك الفواخير ومصانع الزجاج ودكاكين الحدادين ومعامل الجعة. وأسهمت ضوضاء الصناع والتجار، والعربات والجياد، والباعة الجائلين والمغنين في الطرقات، في ضجيج الحياة وفي الإحساس بها. فإذا أراد المرء مكاناً أهدأ وهواء أنقى ففي وسعه أن يمشي الهوينا في حديقة سانت جيمس، أو يتطلع إلى السيدات الفاتنات يطوحن تنانيرهن الفضفاضة ذات اليمين وذات الشمال ويعرضن أحذيتهن الحريرية في البلمل. وفي الصباح يستطيع المرء شراء الحليب الطازج من فتيات يحلبن الأبقار على عشب الحديقة. وفي المساء قد يجوس كبوزويل بحثاً عن فتاة من بنات الهوى أو ينتظر هبوط الليل الذي يستر كثرة من الأوزار. وأكثر بعداً ناحية الغرب يستطيع أن يركب جواداً أو عربة في هايد بارك. ثم هناك منتجات اللهو الكبرى. فوكسهول بحشودها الزاهية، وأفدنة حدائقها ومماشيها المشجرة، ورانلاج بقاعتها الفسيحة المدرجة، حيث عزف موتسارت وهو طفل في الثامنة.
وكان للفقراء مشارب للجعة، وللطبقتين الوسطى والعليا أندية، وللجميع حانات. فكان هناك حانة "البورز هد" و "المايتر" حيث كان يتعشى الخان الأكبر (جونسون)، وحانة الجلوب الحبيبة إلى قلب جولد سمث، وحانة الشيطان التي رفهت عن نفر من مشاهير الرجال من (بن) جونسون إلى (صموئيل) جونسون. وكان هناك مكانان باسم "تيركس هد" (رأس التركي) أحدهما حانوت قهوة في الستراند، والآخر حانة في شارع جرارد، أصبحت مقراً لـ "النادي". وكانت النساء يختلفن إلى الحانات كالرجال، وبعضهن معروضات للبيع. وفي أندية كنادي هوايت أو نادي ألماك (الذي أصبح نادي بروكس) كان سراة القوم يستطيعون الشراب ولعب القمار في خلوة من نفر مختار. ثم هناك المسارح بكل ما تتيحه منافساتها من إثارة ويبعثه نجومها من تألق وبهاء.
وقامت المواخير على مقربة من المسارح. فشكا الوعاظ من أنه "إلى التمثيليات والفواصل الموسيقية المذكورة تختلف عادة أعداد غفيرة من سفلة القوم وعاطليهم وشذاذهم، وبعد أن ينتهي التمثيل ينطلقون إلى بيوت الدعارة"(82). وكانت أكثر الطبقات التي في طاقتها الاختلاف إلى المومسات تتعامل معهن تعامل الزبائن الدائميين، وتجمع على الأغضاء عن هذه العادة باعتبارها لا محيص عنها في الحالة الراهنة لتطور الذكور. وكان هناك بعض الغواني الملونات اللاتي اجتذبن الزبائن حتى من طبقة النبلاء. ويصف بوزويل اللورد بمبورك وقد أنهكت قواه بعد ليلة قضاها في ماخور للسود(83).
واستمر وجود الأحياء الفقيرة المزدحمة، ولم يكن أمراً غير عادي أن تعيش أسرة من أسر الطبقات الدنيا في حجرة واحدة من حجرات المبنى.
وكان أفقر القوم يسكنون أقباء رطبة غير مدفأة، أو عليات يتسرب الماء من أسطحها؛ والبعض ينامون على أسرة في الجدران وفي مداخل البيوت أو تحت السقائف. قال جونسن للآنسة رينولدز إنه "وهو عائد إلى مسكنه نحو الساعة الأولى أو الثانية صباحاً كثيراً ما رأى أطفالاً فقراء ينامون على العتبات والأكشاك وأنه ألف أن يضع بنسات في أيديهم ليشتروا بها فطورهم"(84). وأخبر قاض جونسون أن أكثر من عشرين لندنياً في الأسبوع يموتون جوعاً(85). وكانت الأوبئة تتفشى في المدينة بين آن وآن. ومع ذلك ازداد سكانها من 674.000 عام 1700 إلى 900.000 في 1800(86)، ربما بسبب هجرة الفلاحين الذين لا يملكون أرضاً، وبسبب نمو التجارة والصناعة.
وغص التيمز وأرصفته بالسفن التجارية وشحناتها. كتب معاصر يقول "إن سطح التيمز بأكمله يغص بصغار السفن، والصنادل، والزوارق، والمراكب الخفيفة، الغادية الرائحة، وتحت الكباري الثلاثة غابة من الصواري تمتد أميلاً بطولها حتى ليخيل إليك أن سفن العالم كله قد احتشدت هنا"(87). وقد أضيف كبيران جديدان في هذه الفترة: بلاكفرايرز وباترسي. وقد رسم المصور كاناليتو الذي قدم إلى لندن من البندقية (1747 و1751) مناظر بهية للمدينة وللنهر؛ وأتاحت النسخ المطبوعة من هذه المناظر للأوربيين المتعلمين التعرف على نمو لندن التي أصبحت أهم ثغر في العالم المسيحي.
ولم يعرف التاريخ منذ أيام روما القديمة مدينة بلغت هذه المبلغ من الاتساع والثراء والتعقد (باستثناء القسطنطينية). ففي قصر سانت جيمس الملك والملكة وحاشيتهما، والبلاط ومراسمه؛ وفي الكنائس الأساقفة السمان يتمتمون بعبارات منومة، والمصلون المتـّضعون يستريحون من عناء الواقع ويطلبون العون الإلهي؛ وفي البرلمان اللوردات وأعضاء مجلس العموم يمارسون لعبة السياسة وبيادقهم أرواح البشر؛ وفي قصر العمدة يضع العمدة ومعاونوه ذو البزة الرسمية اللوائح الخاصة بالكنائس والمواخير، ويتساءلون عن السبيل إلى السيطرة على الوباء القادم أو شغب الغوغاء التالي؛ وفي الثكنات الجنود يقامرون ويفسقون وينجسون الهواء؛ وفي الحوانيت الخياطون يقوسون ظهورهم، والسباكون يستنشقون الرصاص، والصاغة والساعاتيون والأساكفة والحلاقون والخمارون يهرولون لتلبية مطالب السيدات والسادة؛ وفي جراب ستريت أو فليت ستريت الكتاب المأجورون يتملقون زبائنهم، ويسقطون الوزارات، ويتحدون الملك؛ وفي السجون رجال ونساء يموتون بالعدوى أو يرقون إلى جرائم أشد نكراً؛ وفي المباني الحقيرة والأقباء قوم جياع عاثروا الحظ مهزومون يستكثرون من أشباههم في شوق وبغير توقف.
ورغم هذا كله أحب جونسون وكاتب سيرته لندن. فقد أعجب بوزويل بـ "الحرية والنزوات... والشخصيات العجيبة، وبما في دنيا التجارة واللهو من شدة الزحام والعجلة والصخب، وبالعدد الغفير من الملاهي العامة، والكنائس الرفيعة والأبنية الباذخة، ورضى المرء وهو ينفذ ما يحلو له من خطط دون أن يعرفه أو يلحظه أحد"(88)-هذا الانغمار في الزحام انغماراً حامياً حاناً للشخصية المجهولة. أما حونسون الذي استطاب وعمق "التدفق الشديد لحديث لندن" فقد حسم الأمر بسطر واحد كان حجة في بابه "إذا مل إنسان لندن فقد مل الحياة"(89).