قصة الحضارة - ول ديورانت - م 10 ك 6 ف 28
صفحة رقم : 14027
قصة الحضارة -> روسو والثورة -> إنجلترة جونسن -> المسرحية السياسية -> البنية السياسية
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الثامن والعشرون: المسرحية السياسية 1756-1792
البنية السياسية
كانت الثورة الصناعية أهم عملية أساسية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر في إنجلترا، والصراع السياسي أكثر الدرامات إثارة فيها. فقد جعل عمالقة الخطابة الإنجليزية-شاتام، وبـِرك، وفوكس، وشريدان-هؤلاء جعلوا مجلس العموم مسرحاً لصراعات مريرة خطيرة بين البرلمان والملك، وبين البرلمان والشعب، وبين إنجلترا وأمريكا، وبين ضمير إنجلترا وحكام الهند الإنجليز، وبين إنجلترا والثورة الفرنسية. وكان البناء السياسي إطار المسرحية وأداتها.
كانت حكومة بريطانيا العظمى ملكية دستورية، بمعنى أن الملك كان يوافق ضمناً على أن يحكم وفق القوانين الراهنة والممارسات التقليدية، وألا يضع قوانين جديدة دون موافقة البرلمان. أما الدستور فلم يكن وثيقة بل تراكماً للسوابق بإستثنائين، أولهما المجناكارتا الذي وقعه الملك يوحنا في 1215، والثاني نشأ حين أرفق مؤتمر وستمنستر 1689 (الذي عرض تاج إنجلترا على وليم أورنج وزوجته ماري) بهذا العرض "قانوناً يعلن حقوق وحريات الرعية ويسوي مسألة وراثة التاج" وقد أكد "قانون الحقوق" هذا كما سمي اختصاراً، أن "سلطة وقف القوانين أو تنفيذ القوانين بأمر ملكي دون موافقة البرلمان غير قانونية" وأن "جباية المال للتاج أو لاستعماله بالدعوى الحق الملكي الخاص، دون إذن البرلمان... عمل غير قانوني" ثم أردف: "ونظراً إلى الثقة الكاملة بأن... أمير أورنج سوف يحميهم (أي البرلمان) من انتهاك حقوقهم التي أكدوها هنا، ومن أي اعتداءات أخرى على دينهم وحقوقهم وحرياتهم، فإن.. اللوردات الروحيين والزمنيين ونواب العموم. يقررون أن يكون وليم وماري، أمير وأميرة أورنج، وأن ينادى بهما ملكاً وملكة على إنجلترا وفرنسا وإيرلندة." ومعنى هذا إن وليم الثالث وماري الثانية بقبولهما العرش قبلا ضمناً القيود التي وضعتها أرستقراطية إنجلترا المزهوة القوية على سلطة الملك بهذا التصريح. وحين عرض البرلمان في "قانون تسوية" لاحق (1701)، وبشروط معينة، التاج على "الأميرة صوفيا" (الهانوفرية) وورثتها البروتستانت "افترض أنها هي وهؤلاء الورثة وافقوا بقبولهم العرش على "قانون للحقوق" سلبهم كل حق في وضع القوانين إلا بموافقة البرلمان. وبينما كانت جميع دول أوربا تقريباً حتى 1789 يحكمها ملوك مستبدون يضعون القوانين ويلغونها، كان لإنجلترا حكومة دستورية امتدحها الفلاسفة وحسدها نصف العالم.
وقد قدر تعداد 1801(1) سكان بريطانيا العظمى بتسعة ملايين نسمة ينقسمون إلى الفئات التالية:
1- في القمة 287 نبيلاً ونبيلة زمنيين (علمانيين) بوصفهم رؤساء أسر مجموعها نحو 7.175 شخصاً. وكان داخل هذه الفئة مراتب في ترتيب تنازلي: أمراء الدم (الملكي)، وأدواق، وماركيزات، وايرلات، وفيكونتات، وبارونات. وانحدرت هذه الألقاب إلى الإبن الأكبر جيلاً بعد جيل.
2- ستة وعشرون أسقفاً-"لوردات روحيون" وكان من حقهم هم واللوردات الزمنيون الـ 287 أن يجلسوا في مجلس اللوردات. وقد ألف هؤلاء معاً-وجملتهم 313 أسرة-طبقة النبلاء الأصليين، ويصح استعمال لقب "لورد" لهم جميعاً إلا الأدواق والأمراء. وكان من الممكن اكتساب نبالة دون ذلك رسمية، ودون حق توريثها، بفضل التعيين في الوظائف العليا في الحكومة أو الجيش أو البحرية؛ ولكن كان المتبع عادة أن يعين في هذه الوظائف أشخاص رفعوا إلى مقام النبالة من قبل.
3- نحو 540 بارونتاً، وزوجاتهم، يحق لهم أن يضعوا لقب "سير" و"ليدي" في صدر أسمائهم الأولى، وأن يورثوا هذين اللقبين.
4- نحو 350 فارساً وزوجاتهم يحق لهم استعمال اللقبين السابقين، دون توريثهما.
5- نحو ستة آلاف "سكواير" (e) Squires وهم الـ "Gentry" أو الطبقة الكبرى من ملاك الأرض الرئيسيين. وكان البارونيتات، والفرسان، وهؤلاء الملاك، وزوجاتهم، يؤلفون "الطبقة الدنيا من النبلاء" ويندرجون بوجه عام هم وكبارهم في الطبقة "الأرستقراطية".
6- نحو عشرين ألف "سيد" (جنتلمان "أو سيدة" (ليدي) يعيشون على دخول دون عمل يدوي، لهم شعارات نبالة، ومفروض أنهم من أصل كريم "Gentle"-أي ولدوا في مجموعة الأسر العريقة المقبولة "Gens".
7- وأسفل هؤلاء جميعاً جاءت بقية السكان، الأكليرس الأدنى، وموظفوا الدولة، ورجال الأعمال، والمزارعون، وأصحاب المتاجر، ومهرة الصناع، والعمال، والجنود، والبحارة، كذلك نحو 104.000 من المعدمين الذين يتلقون المعونة من الدولة ونحو 222.000 من "المتشردين، والغجر، والأشرار، واللصوص، والمحتالين، ومزيفي العملة البخسة، داخل السجون أو خارجها، وعامة البغايا"(2).
وقد هيمنت الطبقة الأرستقراطية على الحكومة، دون أن تلقى من المقاومة إلا العارضة بفضل ثرائها (وقد أصاب النبلاء الـ 287 تسعة وعشرين في المائة من الدخل القومي في 1801)(3)، وبروزها في الوظائف العليا مدنية أو حربية. وهيبة عراقتها، وهيمنتها على الانتخابات البرلمانية والتشريع. وكانت إنجلترا من الناحية الانتخابي مقسمة إلى أربعين إقليماً أو مقاطعة ريفية (Counties) و203 مدينة ذات ممثلين (Boroughs). وكان يستثنى من حق التصويت النساء، والمعدمون، والمجرمون المحكوم عليهم، والكاثوليك الرومان، والكويكرز، واليهود، واللاأدريون، وغيرهم ممن لا يستطيعون حلف يمين الولاء لسلطان الكنيسة الإنجليزية وعقائدهم. ولم يكن حق التصويت للبرلمان مخولاً في الأقاليم إلا للملاك البروتستانت الذين يدفعون ضريبة سنوية قدرها أربعون شلناً، ومجموعهم نحو 160.000. ولما كان التصويت علنياً، فإن قليلين جداً من الناخبين كانوا يجرءون على تأييد أي مرشح غير الذي رشحه كبار ملاك الإقليم، ومن ثم لم يكترث بالتصويت إلا نفر قليل نسبياً من الناخبين، وكان الكثير من الانتخابات يتقرر بترتيب يتفق عليه الزعماء دون اقتراع على الإطلاق. وكان كبار ملاك الأرض يرون أن من الإنصاف لهم-وهم يراهنون بالكثير في سياسة الحكومة ومصير الأمة-أن يكون تمثيلهم في البرلمان متناسباً مع ثروتهم. وقد وافق على هذا الرأي معظم صغار الملاك.
أما المدن فقد تمثل فيها تنوع مربك من الأنماط الانتخابية. ففي مدينة وستمنستر (وسط لندن حالياً) كان هناك نحو تسعة آلاف ناخب، وفي مدينة لندن كما كانت مكونة آنئذ ستة آلاف؛ وفي برستل خمسة آلاف؛ ولم تضم أكثر من ألف ناخب سوى اثنتين وعشرين مدينة(4)وفي اثنتي عشرة مدينة كان التصويت من حق جميع الذكور؛ وفي معظم المدن الباقية اقتصر على ذوي الملاك؛ وفي عدة مدن كان المرشحون ينتخبهم "تكتل" بلدي عرف بأنه "أولجركية حضرية من المحامين والتجار والسماسرة وصانعي الجعة، تحصنت في تكتل ينتخب ذاته، وخولت له براءة ملكية الهيمنة وحده على أملاك المدينة"(5). وكان بعض هذه التكتلات يعطي صوته للمرشح (أو المرشحين) الذي يدفع راعيه (أو راعيهم) أغلى ثمن. ففي 1761 أعلنت مدينة صدبري صراحة عن بيع صوتها؛ وفي الانتخاب التالي عرضت بلدية أكسفورد رسمياً أن تعيد انتخاب أعضائها في البرلمان إذا دفعوا ديون البلدية(6). وكان امتياز اختيار المرشح في بعض المدن يملكه بحكم العادة أفراد أو أسر معينة لا تسكن هناك بالضرورة، وآية ذلك أن اللورد كاملفورد كان يفاخر بأنه لو شاء لاستطاع أن ينتخب ساقيه الزنجي للبرلمان(7). وكانت "دوائر الجيب" هذه تباع أحياناً كالسلع. فاشترى اللورد أجرمونت مدهرست ودفع فيها 40.000 جنيه(8)وفي بعض "الدوائر الفاسدة Rotten Boroughs" كانت حفنة من الناخبين تستطيع أن تبعث إلى البرلمان نائباً أو أكثر في حين لم يكن نصيب مدينة لندن غير أربعة. وحتى حين كان حق التصويت للجميع تقريباً وكان العامل الذي يحسم الانتخاب عادة هو الرشوة أو العنف أو إثمال الناخب العنيد بالخمر إلى درجة تعجزه عن الإدلاء بصوته(9). وقد سيطر 111 "راع" على الانتخابات بمختلف الوسائل في 205 مدينة(10). وبلغ عدد الناخبين نحو 85.000 في المدن، و160.000 في الأقاليم-والجملة 245.000.
من هذه الانتخابات المتباينة جاء أعضاء مجلس العموم البالغ عددهم 558 عضواً في 1761. فأرسلت إسكتلندة خمسة وأربعين، وأقاليم إنجلترا وويلز أربعة وتسعين، والمدن 415، والجامعتين نائبين عن كل. وكان مجلس اللوردات يضم آنئذ 224 من كبار النبلاء، علمانيين أو روحيين. وكان "الامتياز البرلماني" "يشمل حق البرلمان في إقرار مشروعات القوانين المقدمة للتشريع، وفي فرض الضرائب وبهذا يملك "قوة المال"، وفي الحكم على مسوغات الأشخاص الذين يطالبون بقبولهم في عضويته، وأن يعاقب-بالسجن إن شاء-أي ضرر يلحق بأعضائه أو أي عصيان لقواعده؛ وأن يتمتع بكامل حرية الكلام، وبما في ذلك الحصانة من العقاب على الألفاظ التي يتفوه بها في البرلمان.
أما انقسام الأعضاء إلى محافظين Tories وأحرار Whigs فكان في 1761 قد فقد تقريباً كل دلالة، وكان الانقسام الحقيقي بين المؤيدين والمعارضين لـ "الحكومة" الحالية، أو الوزراء، أو الملك. وكان المحافظون بوجه عام يحمون مصالح ملاك الأرض؛ والأحرار على استعداد بين حين وحين للنظر في رغبات طبقة رجال العمال؛ وفيما خلا ذلك كان كلا المحافظين والأحرار محافظين على السواء. ولم يشرع أحد الحزبين قوانين لمصلحة الجماهير.
والمشروع لا يصبح قانوناً إلا إذا وافق عليه مجلسا البرلمان ووقعه الملك. وكان الملك يملك "الحق الملكي الخاص" أي السلطات، والامتيازات، والحصانات الممنوحة له بحكم العرف والقانون الإنجليزيين. فكان له سلطات حربية: فهو القائد الأعلى للجيش والبحرية، يستطيع أعلان الحرب، ولكنه يحتاج إلى المخصصات البرلمانية ليخوضها؛ ويستطيع المفاوضة لإبرام المعاهدة وعقد الصلح. وكان له بعض الحقوق التشريعية، فهو يستطيع الامتناع عن الموافقة على مشروع أقره البرلمان-ولكن كان في استطاعة البرلمان أن يحمله على الموافقة بما يملك من قوة المال، وعلى ذلك لم يمارس ذلك الحق إطلاقاً بعد 1714؛ وكان يستطيع الإضافة إلى القوانين بالتصريح أو بالأوامر الصادرة من مجلسه الخاص، ولكنه لا يستطيع تغيير القانون العام، أو استحداث جريمة جديدة؛ أما المستعمرات فيستطيع أن يشرع لها كما يشاء. وكان له سلطات تنفيذية. فله وحده أن يدعو البرلمان أو يؤجله أو يفضه، وكان يعين الوزراء الذين يوجهون السياسة والإدارة. وكان بعض الضجة التي اصطخبت في العقود الأولى (1760-82) من حكم جورج الثالث الذي امتد ستين عاماً يدور حول مدى حق الملك في اختيار الوزراء وتقرير السياسة.
وقد ضيق حق الملك في التشريع ولم يكن ممكناً جعل المشاريع التي يقترحها وزراؤه على البرلمان قانوناً إلا بإقناع مجلسي البرلمان كليهما بقبولهما. وكان هذا يتم بالمساومات السياسية، أو بالوعود بالمناصب أو المعاشات أو بقبضها، أو بالرشوة (في 1770 كان أكثر من 190 عضواً في مجلس العموم يملكون وظائف تعيين في الحكومة). أما الأموال والمكافآت التي تتطلبها هذه العمليات فكان أكثرها يأتي من "القائمة المدنية" للملك، وهي حساب نفقاته لشخصه ولأسرته (المخصصات الملكية)، ولبيوته وخدمه، وللرواتب التي يدفعها، وللمعاشات الممنوحة على سبيل المكافأة. وقد خصص البرلمان لجورج الثالث 800.000 جنيه في العام لهذه القائمة المدنية؛ ولكنه كثيراً ما تجاوز هذا المبلغ في نفقاته؛ وفي 1769 أضاف البرلمان 513.511 جنيهاً، وفي 1777 أضاف 618.340 جنيهاً ليدفع الديون الملكية. وكان بعض مال الملك يستخدم في شراء الأصوات في الانتخابات البرلمانية(11)، وبعضه لشراء الأصوات في البرلمان نفسه. وفي حالات كثيرة كانت الاعتمادات التي يوافق عليها البرلمان للخدمات السرية ترد إلى البرلمان على هيئة رشاوي. فإذا أضفنا إلى هذه التجارة الملكية المال الذي ينفقه في الانتخابات أو التشريع "النوابون" العائدون إلى إنجلترا بثروة جمعوها من الهند، أو رجال الأعمال الساعون إلى عقود حكومية أو إلى تفادي تدخل الحكومة، اكتملت لنا صورة للفساد السياسي منقطعة النظير غربي الأودر، تكشف عن طبيعة البشر كشفاً لا يشرح الصدور.
وينبغي أن نلاحظ هنا بعض التفاصيل الصغيرة للنظام البريطاني. فقد فرضت الضرائب على جميع ملاك الأرض كباراً أو صغاراً؛ وربما كان هذا عاملاً من عوامل الاحترام الذي أبداه عامة الشعب نحو طبقة النبلاء. ولم يسمح البرلمان بجيش دائم-بل سمح بميليشيا فقط؛ وكان هذا عاملاً وكان هذا عاملاً صغيراً في ثراء إنجلترا المتفوق في وقت كانت فرنسا تنفق فيه على جيش دائم عدته 180.000 مقاتل وبروسيا 190.000، وروسيا 224.000. على أنه في زمن الحرب كانت القوات المسلحة تجند دون هوادة سواء بالتطوع أو الإكراه، وكانت انتهاكات الحرية الشخصية نتيجة لهذه العادة، وألوان القسوة الموحشة في حياة الجيش والبحرية، أطيافاً قاتمة تلوث المسرح الإنجليزي.
وفي رأي بلاكستون (حوالي 1765) أن بناء إنجلترا السياسي كان خير ما سمحت به طبيعة الناس وتعليمهم في تلك الحقبة. وقد استشهد بالرأي القديم القائل بأن خير أنواع الحكم ما جمع بين الملكية والأرستقراطية والديموقراطية، وقد وجد هذه كلها "مجتمعة اجتماعاً حسناً وموفقاً" في الدستور البريطاني. ويقول:
"فيما أن السلطة التنفيذية للقوانين عندنا مخولة لشخص فرد، فإن لها كل مزايا القوة والنجاز التي توجد في أكثر الملكيات استبداداً؛ وبما أن تشريع المملكة موكول إلى سلطات متميزة ثلاث، مستقلة كل الاستقلال بعضها عن بعض؛ أولاً الملك، ثانياً اللوردات الروحيين والزمنيين الذين يؤلفون مجلساً أرستقراطياً من أشخاص اختيروا لتقواهم أو عراقتهم أو حكمتهم أو بسالتهم أو ثرائهم؛ ثالثاً مجلس العموم الذي يختاره أفراد الشعب اختياراً حراً من بينهم، مما يجعله نوعاً من الديموقراطية؛ وبما أن هذه الهيئة الكلية التي تحركها مختلف الدوافع والتي تعنى بمختلف المصالح... لها التصرف الأعلى في كل شيء، فلا يمكن أن يكون هناك عمل مزعج يحاوله أي فرع من الفروع الثلاثة إلا حال دونه الفرعان الآخران؛ لأن كل فرع مسلح بسلطة سلبية تكفي لصد أي بدعة تراها غير لائقة أو خطرة. وهنا إذن تكمن سيادة الدستور البريطاني، وتكمن على خير ما يمكن للمجتمع(12).
وقد تبتسم لنزعة المحافظة المشوبة بحب الوطن لفقيه قانوني شامخ ينظر إلى الأمر من موقعه العالي المريح، ولكن أغلب الظن أن حكمه كانت تكرسه تسعون في المائة من الشعب الإنجليزي أيام جورج الثالث.
أبطال الدراما
جورج الثالث
كان أشخاص الدراما من أشهر من حواهم التاريخ الإنجليزي. فعلى القمة جورج الثالث الذي تربع على العرش طوال العوام المنحوسة (1760-1820) التي مرت بإنجلترا خلال الثورتين الأمريكية والفرنسية وحروب نابليون. وكان أول الملوك الهانوفريين المولودين في إنجلترا، أول من نظر إلى نفسه كرجل إنجليزي، وأول من استغرقه الاهتمام بالشئون الإنجليزية. وهو حفيد جورج الثاني، وابن فردريك لويس أمير ويلز العتيد الذي كان قد مات في 1715. وكان ملك المستقبل جورج الثالث آنئذ في الثانية عشرة من عمره. وخافت عليه أمه، أوجستا أميرة ساكسي-جوتا من "شباب الطبقة العليا الأرذال سيئ التربية" الذين كانت تلقاهم، فعزلته عن مثل هذه المعاشرات، ونشأته-واحداً من ثمانية أطفال-في عزلة مانعة عن اللعاب والأفراح والضجيج والتفكير في أترابه وفي جيله. ومن ثم شب هياباً، كسولاً، متديناً، سيئ التعليم، تعساً. وقد قال لأمه اللوامة "لو أنني رزقت ولداً لما جعلته تعساً كما تجعلينني(14)". وقد بث فيه احتقارها لجده لأنه أطاق تسيد البرلمان، وكانت تردد على مسامعه المرة بعد المرة، "كن ملكاً يا جورج!"-وأهابت به أن ينتزع قيادة الحكم النشيطة من جديد.
وهناك رواية متواترة كثيراً ما يشوبها تنسب إلى الفتى الشرف التأثر بكتاب بولنجبروك "مفهوم الملك الوطني" (1749) الذي حث الحكام على "أن يحكموا ولا يكتفوا بأن يملكوا" وأن يسنوا القوانين لتحسين الحياة الإنجليزية(15)(مع "السماح للبرلمان بأن يحتفظ بالسلطات التي يملكها". وقد وصف اللورد وولد جريف جورج في عام 1758، وكان أحد معلميه، بأنه "أمين غاية الأمانة، ولكنه يفتقر إلى العزيمة، ولكنها مشوبة بعناد شديد... وفي طبعة ضرب من الشعور بالتعاسة... مما سيكون مصدراً لقلق دائم"(16). وقد لازمته هذه الصفات إلى نهاية الحقبة التي كان عقله فيها سليماً.
وبعد أن مات أبو جورج وثقت الأرملة صداقتها بجون ستيوورت، ايرل بيوت، أمين الأرواب في البيت الأميري. وكان بيوت في الثامنة والثلاثين في 1751، متزوجاً منذ خمسة عشر عاماً بماري ورتلي منتجيو ابنة الليدي ماري مونتجيو الشهيرة. وفي الأعوام الأخيرة السابقة لارتقاء جورج العرش اتخذ بيوت كبيراً لأمنائه ومعلميه. وكان معجباً بعلم هذا الاسكتلندي ونزاهته، وتقبل مشورته شاكراً، ولقي منه التشجيع على إعداد نفسه للقيادة العدوانية في الحكم. وحين خطر للأمير الشاب أن يعرض الزواج على حسناء في الخامسة عشرة تدعى الليدي ساره لينوكس، أذعن في حزن ولكن في محبة لنصح بيوت بوجوب زواجه من أمير أجنبية تعينه على دعم تحالف سياسي نافع.وكتب إليه يقول "أنني أسلم مستقبلي بين يديك، وأمنع نفسي من التفكير حتى في غرامي الحبيب، وأجتز حزني في صمت، دون أن أكدرك بعد اليوم إطلاقاً بهذه القصة التعسة؛ لأنه لو فرض على الخيار بين فقد صديقي أو حبيبتي، لضحيت بالأخيرة يقيناً، لأنني أقدر صداقتك فوق أي متعة أرضية"(17)وقد أخذ جورج بيوت معه حين ارتقى العرش.
وشهد ملكه خطوباً وكوارث من أفجع ما منيت به إنجلترا في تاريخها، وعليه وقع جانب من التبعة. ومع ذلك كان هو ذاته دون ريب رجلاً مسيحياً، وإنساناً مهذباً عادة، قبل لاهوت الكنيسة الإنجليكانية، وتمسك بطقوسها في إخلاص وتواضع، ووبخ واعظاً للبلاط امتدحه مرة في عظة. وقد حاكى خصومه السياسيين في استعمال الرشوة، وبز معلميه في هذا المضمار، ولكنه كان مثالاً في الفضيلة في حياته الخاصة. وفي جيله الذي اشتهر بالإباحية الجنسية أعطى إنجلترا قدوة في الوفاء الزوجي كانت نقيض لخيانات أسلافه وانحرافات أخوته وأبنائه. وكان آية في اللطف والعطف في طل شيء إلا الدين والسياسة، بسيط العادات والميول وإن كان مسرفاً في العطاء. وقد منع القمار في بلاطه، وكد وكدح في الحكم بعزيمة صادقة، فكان يهتم بالتفاصيل الدقيقة، ويبعث بتعليماته لمساعديه ووزرائه مراراً كل يوم. ولم يكن بيوريتانياً متزمتاً مكتئباً، فقد أحب المسرح والموسيقى والرقص. ولم تعوزه الشجاعة: فقد حارب خصومه السياسيين بعناد طوال نصف قرن؛ وواجه جمهوراً عنيفاً من الرعاع ببسالة في 1780، واحتفظ برباطة جأشه خلال محاولتين للاعتداء على حياته. وقد أقر في صراحة بعيوب تعليمه، وظل إلى النهاية بريئاً نسبياً من الأدب والعلم والفلسفة. وإذا كان ضعيف العقل بعض الشيء فلعل ذلك مرده التواء في الجنينات أو إهمال في معلميه، كما كان مرده مئات الضغوط التي تكتنف الملك.
ومن مآخذه أنه كان يغار من الأكفاء النزاعين إلى الاستقلال برأيهم ويشك فيهم. فلم يستطع قط أن يغتفر لوليم بت الأول ما شعر من تفوق في الرؤية والفهم السياسيين، وفي نفوذ الحكم، وفي قوة الخطابة وبلاغتها. وقد سبق أن رأينا(18) سيرة هذا الرجل الفذ منذ دخوله البرلمان (1735) حتى انتصاره في حرب السنين السبع. وكان في استطاعته أن يكون متغطرساً عنيداً-أكثر كثيراً من جورج الثالث؛ فقد شعر أنه هو الحارس الحقيقي للإمبراطورية التي خلفت تحت قيادته؛ فلما التقى الملكان-الملك الاسمي والملك الفعلي-تلا اللقاء صراع بينهما على العرش. وكان بت رجلاً نزيهاً لم تلوثه الرشوة التي استشرت من حوله، ولكنه لم يفكر في السياسة إلا بلغة المنعة القومية، ولم يسمح لأي عاطفة رحمة أن تثني عزمه على إحراز التفوق الأعظم لإنجلترا. وقد لقب "العامي العظيم" لا لأنه فكر في تحسين ظروف وأحوال عامة الشعب بل لأنه كان أعظم رجل في مجلس العموم؛ على أنه انبرى للدفاع عن الأمريكيين وشعب الهند ضد ظلم الإنجليز وكان كالملك يكره النقد "غير مبال للنسيان أو الصفح"(19)وكان يأبى أن يخدم الملك إلا إذا استطاع أن يسيطر عليه، وقد استقال من الوزارة (1761) حين أصر جورج الثالث على انتهاك اتفاق إنجلترا مع فردريك وعقد صلح منفرد مع فرنسا. وإذا كان قد قهر في النهاية فإن العدو الذي قهره لم يكن غير النقرس.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إدموند برك
ويضارع تأثير بت في السياسة الإنجليزية تأثير إدموند بيرك في الفكر الإنجليزي. وقد اختفى بت من المسرح في 1778، وظهر عليه بيرك في 1761، وظل يشد انتباه المثقفين من الإنجليز في فترات متقطعة حتى عام 1794، وربما كان مولده في دبلن (1729) لأحد المحامين عقبة في طريق كفاحه للمنصب والسلطة السياسيين، فهو لم يكن إنجليزياً إلا بالتبني، ولا عضواً في أي أرستقراطية إلا أرستقراطية الذهن. ولا بد أن كثلكة أمه وأخته كان لها دخل في عطفه طوال حياته على كاثوليك إنجلترا وإيرلندة، وتأكيده الذي لا بنى على الدين بوصفه حصناً لا غنى عنه للأخلاق والدولة. وقد تلقى تعليمه المدرسي في مدرسة للكويكر في بلتيمور، وفي كلية ترنتي بدبلن. وتعلم من اللاتينية ما يكفي للإعجاب بخطب شيشرون ولجعلها الأساس لأسلوبه البلاغي.
وفي 1750 انتقل إلى إنجلترا ليدرس القانون في "مدل تميل". وقد امتدح القانون فيما بعد لأنه "علم يعين على شحذ الفهم وتنشيطه أكثر من جميع ألوان المعرفة مجتمعة" ولكنه ذهب إلى أنه "لا يصلح لفتح مغاليق العقل وتحريره بذات القدر بالضبط، اللهم إلا في أشخاص محظوظي المولد"(20) وحوالي 1775 قبض أبوه عنه الراتب الذي يمده به بحجة أنه يهمل دراسة القانون مؤثراً عليها هوايات أخرى. ويبدو أن أدموند كان قد هوى الأدب، وكان يختلف إلى مسارح لندن وأنديتها الخطابية. وسرت أسطورة زعمت أنه هام بالممثلة الشهيرة بيج ووفنجتن. وكتب إلى صديق في 1757 يقول: "لقد كسرت كل قاعدة، وأهملت كل لياقة"، ووصف "أسلوب حياته" بأنه تتنوع فيه مختلف الخطط، فأنا في لندن، وأنا في أنحاء نائية من الريف، وأنا آخر في فرنسا، وعما قريب في أمريكا أن استجاب لي الله". وفيما خلا هذا لا نعرف عن بيرك شيئاً في سني الاختبار والتجريب تلك، اللهم إلا أنه في 1756، في تعاقب غير مؤكد، نشر كتابين رائعين وتزوج.
وأحد الكتابين عنوانه "دفاع عن المجتمع الطبيعي، أو نظرة إلى ألوان الشقاء والشر التي يجرها على البشر كل نوع من أنواع المجتمع الاصطناعي، خطاب إلى اللورد-بقلم كاتب نبيل متوفي". والمقال الذي بلغت صفحاته نحو خمس وأربعين، هو في عنوانه إدانة قوية لكل أنواع الحكم. فيه من النزعة الفوضوية أكثر كثيراً مما في مقال روسو "الأصل في عدم المساواة" الذي ظهر قبل ذلك بسنة فقط. وقد عرف بيرك المجتمع الطبيعي بأنه " مجتمع أساسه الرغبات والغرائز الفطرية لا أي نظام وضعي"(21). "فتطور القوانين كان انحطاطاً"(22)، وما التاريخ إلا سجلاً للمجازر والغدر والحرب(23)، والمجتمع السياسي متهم بحق بأكبر قسط من هذا الدمار"(24). وكل الحكومات تتبع المبادئ المكيافيلية، وترفض كل الضوابط الأخلاقية، وتعطي المواطنين مثالاً مفسداً للجشع والخديعة واللصوصية والقتل(25). والديموقراطية في أثينا وروما لم تأت بعلاج لشرور الحكم، لأنها سرعان ما انقلبت دكتاتورية بفضل قدرة زعماء الدهماء على الظفر بإعجاب الأغلبيات الساذجة. أما القانون فهو الظلم مقنناً، فهو يحمي الأغنياء المتبطلين من الفقراء المستغلين(26)، ويضيف إلى ذلك شراً جديداً-هو المحامون(27) " لقد أحال المجتمع السياسي الكثرة ملكاً للقلة". فانظر إلى حال عمال المناجم في إنجلترا، وفكر ملياً أكان من الممكن لأن يوجد شقاء كشقائهم في مجتمع طبيعي-أي قبل وضع القوانين-أفينبغي رغم ذلك أن نقبل الدولة، كما نقبل الدين الذي يساندها، على أنها قد استلزمتها طبيعة الإنسان؟ كلا على الإطلاق.
" إن كانت نيتنا أن نخضع عقلنا وحريتنا للاغتصاب المدني، فإنه لا سبيل أمامنا إلا الامتثال بكل ما نستطيع من هدوء للأفكار والتصورات السوقية (الشعبية) المرتبطة بهذا، واعتناق لاهوت السوقة وسياستهم سواء بسواء أما إذا رأينا هذه الضرورة وهمية لا حقيقية، فإننا سننبذ أحلامهم عن المجتمع كما ننبذ رؤاهم عن الدين، ونحرر أنفسنا حرية كاملة"(29). وفي هذا رنين شجاع وإخلاص غاضب من راديكالي شاب، فتي متدين روحاً ولكنه يرفض اللاهوت المقرر، شديد الإحساس بما رأى في إنجلترا من فقر وانحطاط، وصاحب موهبة واعية بذاتها ولكنها لم تزل بغير مكان ولا مقام في خضم العالم. وكل فتى يقظ يمر بهذا الطور في طريقه إلى المنصب، والثراء ثم النزعة المحافظة المرتاعة التي سنجدها في كتاب بيرك "تأملات في الثورة الفرنسية". ونلاحظ أن مؤلف "الدفاع" تخفى وراء اسم مجهول، حتى إلى حد ادعاء الموت. وقد فهم كل القراء تقريباً، بما فيهم وليم وربرتن وايرل تشسترفيلد الكتيب على أنه هجوم صادق على الرذائل الشائعة(30)، ونسبه الكثيرون إلى الفيكونت بولنجيروك، لأن عبارة "كاتب نبيل متوفي" تنطبق عليه إذ كان قد مات عام 1751. وبعد نشر المقال بتسع سنوات رشح بيرك نفسه للانتخاب في البرلمان. وخشي أن تؤخذ فورة أيام الشباب حجة عليه، فأعاد طبع المقال في 1765 بمقدمة جاء في قسم منها "أن الغرض من القطعة الصغيرة التالية كان أن تبين أن... الأدوات (الأدبية) ذاتها التي استخدمت لتدمير الدين قد تستخدم بنجاح مماثل لقلب الحكومة"(31). وقد قبل معظم كتاب سيرة بيرك هذا التفسير على أنه تفسير صادق مخلص، ونحن لا نستطيع أن نوافقهم على رأيهم ولكن نستطيع أن نفهم جهد المرشح السياسي لحماية نفسه من تحامل الشعب، فمن منا يكون له مستقبل لو عرف ماضيه؟
ويعدل "الدفاع" بلاغة ويفوقه حذقاً وبراعة مؤلف بيرك الآخر الذي نشره في 1756 وعنوانه "تحقيق فلسفي في أصل الجليل والجميل"، وقد أضاف إليه في الطبعة الثانية "مقال في الذوق" ولسنا نملك إلا الإعجاب بشجاعة الشاب ذي السبعة والعشرين عاماً الذي عالج هذه الموضوعات المحيرة قبل "لاوكون" لسبنج بعقد كامل. ولعله استرشد باستهلال الجزء الثاني من كتاب لوكريتويس عن "الطبيعة" الذي نصه "يطيب لك حين تلطم الرياح الأمواج في خضم عجاج أن تشهد من البر ما يكابده إنسان آخر من عنت شديد، لا لأنه مبعث بهجة أن تشهد شدة أي إنسان، بل لأنه جميل أن ترى من أي الشرور أنت نفسك قد نجوت". ومن ثم يكتب بيرك: "أن العواطف المشبوبة التي تنتمي لحفظ الذات تدور حول الألم والخطر؛ فهي ببساطة عواطف مؤلمة حين تؤثر أسبابها فينا تأثيراً مباشراً، وهي مبهجة حين يكون لدينا فكرة عن الألم والخطر دون أن نكون فعلاً في ظروف كهذه... وكل ما يثير هذا الابتهاج أسميه جليلاً". ويلي ذلك أن "كل الأعمال المتسمة بالعظيم من الجهد والنفقة والبهاء جليلة.. وكذلك كل الصروح الفائقة الغنى والأبهة... لأن العقل وهو يتأملها يطبق أفكار عظم المجهود اللازم لإنتاج مثل هذه الأعمال على الأعمال ذاتها"(32). والغموض والظلام والخفاء كلها تعين على انبعاث إحساس بالجلال، ومن هنا حرص معماريي العصر الوسيط على ألا يسمحوا إلا للضوء الخافت المصفى بالتسلل إلى كتدرائياتهم. وقد أفاد القصص الرومانتيكي من هذه الأفكار كما نرى في قصة هوراس ولبول "قلعة أوترانتو" (1764) أو قصة آن رادكلف "خفايا أودلفو" (1794). يقول بيرك "أن الجمال اسم سأطلقه على كل الصفات في الأشياء تثير فينا إحساساً بالمحبة والحنان، أو أي عاطفة حارة أخرى قريبة الشبه بهما(33). وقد رفض رد الكلاسيكيين هذه الصفات إلى الانسجام والوحدة والتناسب والتماثل؛ فكلنا نتفق على أن البجعة جميلة مع أن عنقها الطويل وذيلها القصير غير متناسبين مع جسمها. والجميل يكون عادة صغيراً (وبهذا يكون نقيضاً للجليل). "لست أتذكر الآن شيئاً جميلاً لا يتصف بالنعومة"(34)، فالسطح المكسر أو الخشن، والزاوية الحادة أو النتوء الفجائي، كلها تضايقنا وتحد من سرورنا حتى في أشياء تكون جميلة لولا هذا "ومظهر الغلظ والقوة مؤذ جداً للجمال. أما مظهر الرقة، لا بل الهشاشة، فيكاد يكون أساسياً للجمال"(35). واللون يزيد من الجمال لا سيما إذا كان متنوعاً مشوقاً، دون أن يكون وهاجاً أو قوياً... ولم يسأل بيرك هل المرأة الجميلة لأنها صغيرة الحجم ناعمة رقيقة مشرقة، أم أن هذه الصفات تبدو جميلة لأنها تذكرنا بالمرأة، التي هي جميلة لأنها تشتهى.
على أية حال كانت جون نوجنت مشتهاة، فتزوجها بيرك في سنة 1756 المثمرة هذه. وكانت ابنة طبيب إيرلندي. وكانت كاثوليكية، ولكنها لن تلبث أن ارتضت الإنجليكانية مذهباً. وقد لطف طبعها الدمث الرقيق من مزاج زوجها الغضوب.
وفتحت الأبواب أما بيرك بفضل تأثير أسلوب "الدفاع" و "التحقيق" إن لم يكن تأثير حججها. فعينه مركيز روكنجهام سكرتيراً له، رغم أن دوق نيوكاسل حذره قائلاً أن بيرك إيرلندي متوحش، وستيوارتي، وبابوي ويسوعي مستخف(36). وفي أواخر عام 1765 انتخب بيرك لعضوية البرلمان عن دائرة وندوفر بفضل نفوذ اللورد فيرني، "الذي كان يمتلكها"(37). وفي مجلس العموم اشتهر العضو الجديد بأنه خطيب مفوه وأن لم يكن مقنعاً. كان صوته أجش، ولهجته هيبرنية (أي إيرلندية)، وإيماءاته تعوزها الرشاقة، ونكته سوقية أحياناً، واتهاماته حارة مشبوبة في غير موجب. ولم يدرك الناس-إلا حين قرءوا له-أنه إنما يخلق أدباً وهو يتكلم-وذلك بفضل تمكنه من اللغة الإنجليزية، وأوصافه الناصعة، وسعة معرفته وشروحه، وقدرته على تطبيق الرؤية الفلسفية على قضايا الساعة. ولعل هذه المزايا كانت معوقات في مجلس العموم. ويروي لنا جولد سمث أن بعض سامريه "كانوا يحبون أن يروه يتسلل كالثعبان إلى موضوعه"(38)ولكن كثيرين غيرهم ضاقوا ذرعاً بإسرافه في التفاصيل وباستطراداته النظرية، وبخطبه المنمقة، وبجمله المتكررة الضخمة، وبتحليقاته في أجواء التأنق الأدبي؛ فهم يريدون الاعتبارات العملية والموضوعية المباشرة؛ لقد امتدحوا بيانه، ولكنهم تجاهلوا نصيحته. ومن ثم نرى جونسن يرد على بوزويل الذي شبه بيرك بالصقر فيقول: "أجل يا سيدي ولكنه لا يصيد شيئاً"(39)وقد ظل إلى نهاية حياته العملية تقريباً يدافع عن سياسات لا يستسيغها الشعب، ولا الوزارة، ولا الملك. قال: "أنا عليم بأن الطريق الذي أسير فيه ليس طريق الترقي إلى المنصب الرفيع"(40).
ويبدو أنه خلال سنوات قرأ كثيراً وقرأ بفطنة وتمييز. وقد وصفه أحد معاصريه بأنه موسوعي يفيد كل إنسان من ذخيرته العلمية. وقد أثنى عليه فوكس ثناء لا حد له إذ قال: "لو أنه (أي فوكس) وضع في كفة كل المعلومات السياسية التي تعلمها من الكتب، وكل ما اكتسبه من العلم، وكل ما علمته الخبرة بالدنيا وشئونها، ثم وضع في الكفة الأخرى الفائدة التي اكتسبها من تعليم صديقه المبجل وحديثه، لاحتار أيهما يفضل"(41)أما جونسن-وهو الضنين بالمدح عادة-فقد اتفق مع فوكس فقال: "لن تستطيع الوقوف خمس دقائق مع ذلك الرجل تحت مظلة أثناء المطر، ولكنه لا بد مقتنع بأنك كنت تقف مع أعظم رجل رأيته في حياتك"(42). وقد انضم بيرك إلى ندوة جونسن-رينولدز حوالي عام 1758. وندر أن التحم في نقاش ما الناظر الذي لا يقهر، ربما لأنه كان يخشى من حدة طبعه هو كما يخشى من حدة طبعة جونسن؛ ولكنه حين فعل، نكص "الخان الأكبر" (جونسن) على عقبيه. وحين مرض جونسن، وذكر بعضهم بيرك، صاح الدكتور "أن هذا الفتى يستنفر كل قواي، ولو رأيت بيرك الآن لكان في ذلك القضاء علي"(43). ومع ذلك كان الرجلان متفقين على معظم القضايا الأساسية في السياسة والأخلاق والدين. فقد قبلا حكم بريطانيا الأرستقراطي مع أن كليهما كان من العامة؛ واحتقر الديموقراطية لأنها تتويج للكفايات الهزلية؛ ودافعا عن المسيحية التقليدية والكنيسة الرسمية بوصفها معقلين للأخلاق والنظام لا بديل لهما. ولم يفرق بين الرجلين غير ثورة المستعمرات الأمريكية. وقد وصف جونسون نفسه بأنه محافظ (توري)، ورمى الأحرار (الهوجز) بأنهم مجرمون وحمقى.
أما بيرك فزعم أنه حري، ودافع عن مبادئ المحافظين دفاعاً أقوى وأفضل تبريراً من أي رجل في التاريخ الإنجليزي. وبدا أحياناً أنه يؤيد أكثر عناصر النظام القائم عرضة للاعتراض والمساءلة فقد عارض إحداث تغييرات في قواعد انتخاب الأعضاء أو سن القوانين. ورأى أن الدوائر الانتخابية "العفنة" أو دوائر "الجيب" (أي التي يتحكم فيها شخص أو أسرة واحدة (لا غبار عليها ما دامت ترسل رجالاً أكفاء مثله إلى البرلمان. وبدلاً من توسيع حق التصويت. رأى أنه "بخفض العدد سيزداد ثقل ناخبينا واستقلالهم"(44). ومع ذلك احتضن عشرات القضايا التحررية. ودافع عن حرية التجارة قبل آدم سمث، وهاجم النخاسة قبل ولبرفورس. ثم نصح بإزالة المعوقات السياسية المفروضة على الكاثوليك، وأيد التماس المنشقين على الكنيسة الرسمية أو يمنحوا كامل حقوقهم المدنية. وحاول أن يلطف من صرامة قانون العقوبات الوحشية ويخفف من الأعباء التي تنؤ بها حياة الجندي. ودافع عن حرية المطبوعات وإن إكتوى هو نفسه بنارها. ووقف يذود عن إيرلندة وأمريكا والهند في وجه أغلبيات شوفينية. وناصر البرلمان على الملك بصراحة وجرأة أفقدتاه كل أمل في منصب السياسي الرفيع. وقد تختلف معه في آرائه ودوافعه، ولكن لن نستطيع الشك في شجاعته.
تشارلز فوكس
وقد كلفته آخر حرب شعواء شنها في حياته العملية-وهي حرية على الثورة الفرنسية-صداقة رجل طالما كان موضع حبه وإعجابه. وكان هذا الرجل وهو تشارلز جيمس فوكس يرد على محبته بمثلها ويقاسمه أخطار العقل والخلق تقريباً إلا الإنسانية والشجاعة. فبيرك إيرلندي، فقير، محافظ، متدين، متمسك بالأخلاق، وفوكس إنجليزي، غني، راديكالي، لا يبقى من الدين إلا على القدر الذي يتفق والقمار والشراب والخليلات والثورة الفرنسية. كان ثالث أبناء هنري فوكس ولكنه آثرهم عنده، وقد ورث الأب ثروة، وبددها، ثم تزوج ثروة ثانية، وجمع ثالثة وهو كبير صيارفة القوات المسلحة، وأعان بيوت على شراء بعض أعضاء مجلس العموم، وأثيب بلقب البارون هولند، وشهر به خصومه "مختلساً عاماً لملايين لا تفسير لضياعها"(45) أما زوجته كارولين لينوكس فكانت حفيدة تشارلز الثاني من لوير دكيرواي، وهكذا جرى في عروق تشارلز جيمس الدم المخفف لملك استيوارتي خليع وامرأة فرنسية ذات مبادئ أخلاقية متسامحة. وكانت أسماؤه ذاتها ذكريات استيوارتية، ولا بد أنها كانت تخدش مسامع الهانوفريين.
وحاولت الليدي هولند أن تنشئ أبناءها على النزاهة والشعور بالمسئولية، أما اللورد هولند فقد تسامح مع تشارلز في كل نزواته، وقلب من أجله الحكم المأثور رأساً على عقب: "لا تعمل أبداً ما تستطيع تأجيله إلى الغد، ولا تقم بنفسك أبداً بعمل تستطيع أن تجعل إنساناً غيرك يقوم به لك". وما كاد الصبي يناهز الرابعة عشرة حتى أخذه أبوه من كلية إيتن في رحلة أوربية طاف بها على أندية القمار والمنتجعات المعدنية، ورتب له خمسة جنيهات إنجليزية في الليلة للعب القمار. وعاد الفتى إلى إيتن مقامراً راسخ القدمين، وواصل اللعب في أكسفورد. وقد وجد متسعاً من الوقت لإدمان الاطلاع على الآداب الكلاسيكية والإنجليزية على السواء، ولكنه غادر أكسفورد بعد عامين لينفق عامين في الرحلات وتعلم الفرنسية والطليانية، وبدد 16.000 جنيه في نابلي، وزار فولتير في فرنيه، وتلقى منه قائمة بكتب تنيره في اللاهوت المسيحي(47). وفي 1768 اشترى له أبوه دائرة انتخابية، واتخذ تشارلز مقعداً في البرلمان وهو في التاسعة عشرة. وكان هذا مخالفاً كل المخالفة للقانون، ولكن المعجبين من النواب بسحر الشاب الشخصي وتراثه المرتقب كانوا من الكثرة بحيث لم ينجح أي احتجاج على عضويته. وبعد عامين، وبفضل نفوذ أبيه، عين وزيراً للبحرية في وزارة اللورد نورث. وفي 1774 مات الأب والأم وابن أكبر منه، وغدا تشارلز المتصرف الوحيد في ثروة عريضة. وقد شاب مظهره البدني في السنوات نضجه من التسيب ما شاب أخلاقه. فجواربه مرخاة الأربطة، وسترته وصدرته مجعدتان، وقميصه مفتوح عند العنق، ووجه منتفخ محتقن بالإسراف في الطعام والشراب، وكرشه المتضخم يوشك أن يندلق على ركبتيه وهو جالس. وحين نازل وليم آدم في مبارزة رفض نصيحة شاهده بأن يتخذ الوقفة الجانبية المعتادة، إذ قال "أنني غليظ في ناحية غلظي في الأخرى"(48) ولم يحاول إخفاء عيوبه. وكان من الأقاويل الشائعة عنه أنه أثبت أنه ضحية محببة للنصابين والمحتالين من المقامرين. وذات مرة (في رواية جبون) قامر اثنتين وعشرين ساعة في جلسة واحدة خسر فيها 200.000 جنيه. ومن أقوال فوكس أن أعظم اللذات في الحياة بعد الربح هي الخسارة(49). وكان يملك أسطبلاً لخيول السباق، ويراهن بمبالغ كبيرة عليها، وقد كسب منها أكثر مما خسر (كما يريدنا أن نصدق)(50).
وكان أحياناً متسيباً في مبادئه السياسية تسيبه في مبادئه الخلقية وهندامه؛ فقد سمح غير مرة لمنافعه أو خصومته الشخصية أن تقرر مسلكه. وكان أميل إلى الكسل، ولم يكن يعد خطة أو مشروعات قوانينه البرلمانية بالعناية والدرس اللذين تميز بهما بيرك. وكان يملك في ميدان الخطابة مزايا قليلة، ولم يلتمس غيرها. وكثيراً ما كانت خطبه عديمة الشكل كثيرة التكرار، صادمة للنجاة أحياناً. ويقول عنه رتشرد بورسن "كان يقذف بنفسه في معمعان جمله ويكل إليه تعالى مهمة إخراجه منها"(50). ولكنه وهب من سرعة البديهية وقوة الذاكرة ما جعله بالإجماع أقدر مناقش في مجلس العموم. وكتب هوراس ولبول "أن تشارلز فوكس أسقط ساتوون (شاتام) العجوز عن عرش الخطابة"(52).
وكان معاصرو فوكس متسامحين في أخطائه لأن كثيرين شاركوه فيها، وقد أجمعوا تقريباً على الشهادة بفضائله. فقد ظل معظم حياته بعد عام 1774 أميناً للقضايا التحررية مضحياً في سبيلها تضحيات تستهين بالترقي في المنصب وبالشعبية. أما بيرك الذي كان يحتقر الرذيلة فقد أحب فوكس رغم ذلك لأنه رآه مخلصاً في غير أنانية للعدالة الاجتماعية والحرية الإنسانية. قال بيرك "أنه رجل خلق ليحب، ذو طبع غاية في البراءة والبساطة والصراحة وحب الخير، نزيه في اسراف، له مزاج لطيف سمح إلى حد الإفراط، ليس في كيانه بأسره ذرة حقد واحدة(53)وقد أتفق معه جبون فقال "لعله لم يوجد مخلوق أكثر منه تجرداً من لوثة الحقد أو الغرور أو الكذب"(54). ولم يمتنع على هذه الجاذبية التلقائية والسحر الفطري في الرجل غير جورج الثالث.
رتشارد شريدان
وارتبط ببيرك وفوكس في قيادة عنصر الهويج التحرري إيرلندي ثان هو رتشارد برنزلي شريدان. وقد نشر جده توماس شريدان الأول مترجمات عن اليونانية واللاتينية، كتاباً سماه "فن التورية"، ربما سرت عدواه إلى حفيده. أما أبوه توماس شريدان الثاني فكان في رأي البعض لا يفوقه غير جاريك ممثلاً ومديراً للمسرح. وقد تزوج فرانسيس تشيمبرلن، وكانت كاتبة مسرحية وروائية ناجحة. ونال الدرجات العلمية من دبلن وأكسفورد وكمبردج، وحاضر في كمبردج في التعلم؛ وكان الواسطة في الحصول على معاش ملكي لجونسن، وحصل على معاش لنفسه. وألف كتاباً مسلياً عن "حياة سويفت" وغامر بنشر "قاموس عام في اللغة الإنجليزية" (1780) ولما ينقض على نشر قاموس جونسن غير خمسة وعشرين عاماً. وأعان ابنه على إدارة مسرح دوروري لين، وشهده يصعد في دنيا الرومانس والأدب والبرلمان.
وهكذا أتيحت لرتشارد عناصر التفوق الفكري والدراما في بيئته إن لم يكن في دمه. وقد ولد في دبلن (1751)، حين بلغ الحادية عشرة أوفد إلى هارو حيث أقام ست سنين واكتسب تعليماً كلاسيكياً جيداً؛ وحين بلغ العشرين ردد صدى جده بنشره مترجمات عن اليونانية. وفي علم 1771 ذاك بينما كان يعيش في باث مع والديه، وهام حباً بوجه إليزابث آن لنلي الجميلة وصوتها، وكانت في السابعة عشرة، تغني في الحفلات الموسيقية التي يقدمها أبوها المؤلف توماس لنلي. والذين رأوا لوحة من اللوحات التي رسمها لها جينزبرو(55)يدركون أنه لم يكن أمام رتشارد من سبيل إلا الهيام والإنتشاء، ولا أمامها هي أيضاً إذا صدقنا أخته، إذ رأته فتى مليحاً محبباً على نحو لا يقاوم. "كان خداه يشرقان ببريق العافية، وعيناه أبدع العيون في العالم... وله قلب رقيق محب... وقد شرح صدر أفراد الأسرة وأبهجهم ما اتسمت به كتاباته فيما بعد من خيال عابث وظرف أصيل ودعابة لا تؤذي. ولقد أعجبت به ، بل أوشكت أن أعبده. وما كنت لأتردد في أن أضحي بحياتي من أجله"(56).
وكان لإليزابث آن خطاب كثيرون، ومنهم تشارلز أخو رتشارد الأكبر، واشتدت مضايقاته حتى أفضت بها إلى تعاطي الأفيون بغية قتل نفسها. ثم تماثلت للشفاء، ولكنها فقدت الرغبة في الحياة حتى أنعش الحب رتشارد روحها المعنوية من جديد. وهدد ماثيوز باغتصابها، فهربت مع شريدان إلى فرنسا بدافع الخزف والحب معاً، وتزوجته (1772)، ثم لجأت إلى دير قرب ليل في حين عاد رتشارد إلى إنجلترا ليسترضي أباه وأباها. ونازل ماثيوز في مبارزتين، وقد أبقى على حياة ماثيوز في الأول بعد أن انتصر عليه، أما في الثانية فقد أعجز خصمه عن النزال لأنه كان ثملاً بالخمر، وهبط بالمبارزة إلى درك المصارعة ثم عاد إلى باث ملطخاً بالدم والخمر والوحل. وتبرأ منه أبوه، ولكن توماس لنلي أعاد إليزابث آن من فرنسا وبارك زواجهما (1773). وشرع رتشارد وهو في الثانية والعشرين في جمع المال بكتابة التمثيليات إذ أبت عليه كبرياؤه أن يترك زوجته تعوله بالغناء أمام الجمهور. وهكذا أخرجت أولى تمثيلياته "المزاحمون" في 17 يناير 1775 في كوفنت جاردن. وكان حظها سيئاً تمثيلاً واستقبالاً، ثم وفق شريدان إلى ممثل أكفأ يلعب الدور الرئيسي، وكان العرض الثاني (28 يناير) بداية لسلسلة من الانتصارات المسرحية التي حققت الشهرة والثراء لشريدان. وسرعان ما راحت لندن كلها تتحدث عن السير انتوني أبسوليوت، والسير لوشس أوتريجر، والآنسة ليديا لانجويش، وتقلد خلط السيدة مالا يروب بين الألفاظ(58) .
وكان شريدان يملك معيناً لا ينضب من النكت في رأسه، ينثرها على كل صفحة، ويخلع الذكاء والظرف على الخدم والاتباع، وجعل الحمقى يتكلمون كالفلاسفة. ولامه النقاد لأن شخوصه لم تكن دائماً متوافقة مع حديثها، لأن النكت والدعابات التي تفرقع في كل مشهد وتتدفق في كل فم تقريباً قد أثلمت لذعها بالإفراط؛ لا ضير، فقد استطاب النظارة هذا المرح، وهم يستطيبونه إلى يومنا هذا. ثم أحرزت مسرحيته "القهرمانة" نجاحاً أعظم حتى من نجاح "المزاحمون"، وقد قدمت أول مرة في 2 نوفمبر 1775 على مسرح كوفنت جاردن، واستمر عرضها خمساً وسبعين ليلة في موسمها الأول، فحطمت بذلك الرقم القياسي الذي حققته "أوبرا الشحاذ" في 1728، وهو ثلاث وستون ليلة وهالت هذه المنافسة المثيرة ديفد جاريك الذي كان يمثل على مسرح دروري لين، ولكنه لم يستطع أن يجد رداً سريعاً لاذعاً أفضل من إحياء "الاكتشاف" وهي تمثيلية من تأليف أم شريدان التي ماتت قبيل ذلك. وانتشى شريدان بخمرة النجاح، فعرض على جاريك أن يشتري نصيب النصف الذي يملكه في دروري لين؛ وأحس جاريك بأنه تقدم في العمر، فوافق نظير 35.000 جنيه؛ وأقنع شاريدان حماه وصديقاً له أن يساهم كل منهما بمبلغ 10.000 جنيه؛ أما هو فدفع 1.300 جنيه نقداً، ثم جمع الباقي بقرض (1776). وبعد عامين جمع 35.000 جنيه أخرى، وأصبح مالكاً للمسرح هو وشركاؤه، ثم تولى إدارته.
وظن الكثيرون أن ثقته بنفسه جاوزت الحد، ولكن شريدان انتقل إلى نصر حين أخرج (8 مايو 1777) "مدرسة الفضائح" وهي أعظم مسرحيات القرن الثامن عشر نجاحاً. واصطلح أبوه الآن معه بعد أن كان غاضباً عليه منذ فر بحبيته قبل خمس سنوات. وتالا هذه الانتصارات فترة توقف في صعود نجم شريدان. ذلك أن العروض التي قدمت على دروري لين تبين أن الجمهور لا يقبل عليها، ورع الشركاء شبح الإفلاس. وأنقذ شريدان الموقف بمهزلة "فارص" سماها "الناقد" وهي هجاء للدرامات الفاجعة ونقاد الدراما المقنطعين. على أن بطأه المألوف تدخل، فلم يكن قد كتب المشهد الأخير مع أن الافتتاح المحدد لم يبق عليه غير يومين. واستطاع حموه وآخرون بخدعة أن يستدرجوه إلى حجرة في المسرح، وأعطوه ورقاً وقلماً وحبراً وخمراً، وأمروه بالفراغ من التمثيلية، وحبسوه في الحجرة. فخرج ومعه النهاية المطلوبة، فجربها الممثلون ووجدت وافية للغرض، وكان العرض الأول (29 أكتوبر 1779) ابتسامة أخرى جاد بها الحظ على الإيرلندي المتحمس.
ثم تلفت من حوله باحثاً عن عوالم جديدة يغزوها، وقرر أن يدخل البرلمان. ودفع لناخبي ستافورد خمسة جنيهات إنجليزية لكل صوت، وفي 1780 اتخذ مكانه في مجلس العموم لبرلياً متحمساً. وشارك فوكس وبيرك في اتهام وارن هيستنجز، وفي يوم واحد رائع سطع نوره فحجب نورهما جميعاً، وكان أثناء هذا يعيش مع زوجته المثقفة في هناءة وبذخ، مشهوراً بحديثه، وظرفه وحيويته، ولطفه، وديونه. وقد لخص اللورد بايرون هذه العجيبة فقال "كل ما فعله شريدان، أو يريد أن يفعله، رائع، والأفضل من نوعه دائماً. لقد كتب أفضل كوميديا، وأفضل دراما... وأفضل فارص... وأفضل خطاب (مونولوج عن جاريك)، تتويجاً لهذا كله، ألقي أفضل خطبة... تصورها الناس أو سمعها في هذا البلد"(59). ثم أنه كان قد ظفر بحب نساء إنجلترا إلى القلوب واحتفظ بهذا الحب.
كان شاريدان كله الخيال والشعر، ومن العسير أن نصوره في عالم وليم بي الثاني وفي جيله نفسه، ذلك الرجل الذي لم يعترف إلا بالواقع، وسما فوق العاطفة وحكم بغير البلاغة. وقد ولد (1759) في أوج مجد أبيه، وكانت أمه أخت جورج جرنفيل، رئيس الوزراء 1763-65؛ رضع السياسة منذ حداثته، وترعرع في جو البرلمان. وإذ كان هشاً عليلاً في طفولته، فقد أبعد عن ممارسات المدارس "الخاصة" الصارمة واتصالاتها المهيئة لحياة المجتمع، فربي في البيت بإشراف أبيه الدقيق، الذي علمه طريقة الإلقاء بأن جعله يتلو شكسبير أو ملتن كل يوم. فما ناهز العاشرة حتى كان دارساً كلاسيكياً ومؤلفاً لمأساة. ثم أرسل إلى إلى كامبرج حين بلغ الرابعة عشرة، فلم يلبث أن مرض، فعاد إلى بيته، وبعد عام ذهب ثانية، وإذ كان ابناً لشريف من كبار الأشراف فقد تخرج أستاذاً في الآداب عام 1776 دون امتحان. ثم درس القانون في لنكولنزان، ومارس المحاماة برهة قصيرة، ثم رشح للبرلمان في الحادية والعشرين عن دائرة جيب يهيمن عليها سير جيمس لوذر. وكان خطابه الافتتاحي في البرلمان مؤيداً تأييداً قوياً لما اقترحه بيرك من إصلاحات اجتماعية حتى أن بيرك وصف بأنه "ليس شظية من الشجرة العجوز (أي سر أبيه) بل هو الشجرة العجوز بعينها"(60). وإذ كان الابن الثاني لأبيه، فإنه لم ينل غير 300 جنيه راتباً سنوياً، مع المعونة بين الحين والحين من أمه وأخواله؛ وقد شجعت هذه الظروف البساطة الصارمة في سلوكه وخلقه. فتجنب الزواج لأنه نذر نفسه بحملته للسعي إلى السلطان. ولم يلذه قمار ولا مسرح. ومع أنه في مرحلة لاحقة أفرط في الشرب تهدئة لأعصابه بعد صخب السياسة وضجيجها إلا أنه اكتسب شهرة بنقاء الحياة ونزاهة المقصد؛ وكان في وسعه أن يشتري، دون أن يكون في وسع أحد أن يشتره. وما سعى قط إلى الثراء، وندر أن بذل تنازلات للصداقة، ولم تكتشف غير قلة حميمة، وراء تحفظه البارد وضبطه لمشاعره، ما خفي من مرح ودود، بل من حنان ومحبة في بعض الأحايين. وفي مطامع عام 1782، حين أوشكت وزارة اللورد نورث على الاستقالة ضمن "الصبي"-كما لقب بعض النواب بت في تعطف-أحد خطبه إعلاناً فيه شيء من الغرابة: "أما عن نفسي، فلا يمكن أن أتوقع أن أكون عضواً في حكومة جديدة، ولكن لو كانت هذه العضوية في متناولي فإنني لزاماً علي أن أعلن أنني لن أقبل أبداً منصباً ثانوياً"(61)، أي أنه لن يقبل منصب أدنى من المقاعد الستة أو السبعة التي ألغت ما أصبح يسمى "مجلس الوزراء". فلما عرضت الوزارة الجديدة أن تعينه نائباً لوزير خزانة إيرلندة بمرتب 5.000 جنيه في العام رفض، وواصل العيش على إيراده البالغ 300 جنيه. وكان واثقاً من التقدم، وأمل أن يظفر به بفضل كفايته الشخصية، فعكف على العمل بهمة، وأصبح أكثر أعضاء مجلس العموم اطلاعاً في ميادين السياسة الداخلية، والصناعة، والمالية. وبعد عام من إعلانه الفخور قصده الملك لا ليكون مجرد عضو في الحكومة بل ليرأسها. ولم يحظ رجل قط قبله برآسة الوزارة وهو في الرابعة والعشرين؛ وقل من الوزراء من ترك على التاريخ الإنجليزي بصمة أعمق مما ترك.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الملك ضد البرلمان
اختتم جورج الثاني ملكه الذي استغرق ثلاثة وثلاثين عاماً بشعور من النفور البين من السياسة الإنجليزية "لقد سئمت حتى الموت كل هذا الهراء الأبله، وأتمنى من كل قلبي أن يأخذ الشيطان كل أساقفتكم، وأن يأخذ الشيطان وزراءكم، وأن يأخذ الشيطان الجزيرة كلها، على أن أخرج منها وأذهب إلى هانوفر"(62). وقد ألفى راحته في 25 أكتوبر 1760، ودفن في كنيسة وستمنستر. ولقي ارتقاء جورج الثالث العرش يوم وفاة جده الترحيب الحماسي من كل الإنجليز تقريباً ما عدا قلة ما زالت تواقة إلى أسرة ستيوارت. وكان في الثانية والعشرين، فتى وسيماً، مجتهداً، متواضعا. (كان أول ملك إنجليزي منذ حكم هنري السادس يسقط من لقبه دعوى السيادة على فرنسا). وفي خطابه الأول للبرلمان أضاف إلى النص الذي أعده له وزراؤه كلمات ما كان أحد أسلافه الهانوفرين يستطيع أن يفوه بها: "أنني وقد ولدت وربيت في هذا البلد لأفخر بأنني بريطاني". كتب هوراس وليول يقول: أن الملك الشاب يبدو عليه كل مظهر اللطف. ففيه كثير من الكياسة الذي يخفف من الوقار الشديد، وطيبة فائقة تتفجر في جميع المناسبات"(63). وقد زاد من حب الشعب له بالإعلان الذي أصدره في 31 أكتوبر "لتشجيع التقوى والفضيلة، ولمنع وعقاب الرذيلة، والتبذل واللاأخلاقية". وفي 1761 تزوج شارلوت صوفيا أميرة مكلنبورج-ستريلتس، وقد ارتضى خلوها من الجاذبية، فأنجب منها خمسة عشر طفلاً، ولم يجد وقتاً لخيانتها وكان هذا أمراً لا سابقة له في الملوك الهانوفرين.
ولم يحب حرب السنين السبع، يوم كان في الرابعة من عمره، وأحس أن في الإمكان الوصول إلى تسوية ما مع فرنسا. ولكن وليم بت الأول، وزير الدولة للإدارة الجنوبية، والشخصية المسيطرة في وزارة الدوق نيوكاسل، أصر على مواصلة الحرب حتى توهن فرنسا وهنا أمل لها معه في تحدي الإمبراطورية التي خلقتها الانتصارات البريطانية في كندا والهند؛ وقد ألح فوق ذلك على ألا يعقد صالح إلا برضى فردريك الأكبر حليف إنجلترا. وفي مارس 1761 عين الأيرل بيوت وزير الدولة للإدارة الشمالية، وشرع في تنفيذ خطة لعقد صلح منفرد. وعبثاً قاوم بت، فاستقال في 5 أكتوبر. وطيب جورج خاطره بمعاش قدره 3.000 جنيه له ولوريثه، ولقب الشرف لزوجته التي أصبحت الآن البارونة شاتام. وقد رفض بت (حتى عام 1766) النبالة لنفسه لأنه لو حصل عليها لأبعدته عن ساحة عراكه المحببة وهي مجلس العموم. وإذ كان قد أبدى احتقاره للمعاشات، فقد انتقد بشدة على قبوله هذه الرواتب، ولكنها كانت أقل مما كان يكسب، وقد نال آخرون أكثر كثيراً منها مع أنهم يكسبون أقل منه كثيراً.
وفي 26 مايو 1762 اعتزل الدوق نيوكاسل منصبه بعد أن شغل مكاناً مرموقاً في السياسة طوال خمسة وأربعين عاماً. وبعد ثلاثة أيام خلفه بيوت وزيراً أول. واتخذت الآن أهداف الملك الشاب شكلاً ودفعاً. فرأى هو وبيوت أن من حق الملك أن يقرر الخطوط الكبرى للسياسة لا سيما في الشئون الخارجية. أضف إلى ذلك أنه كان تواقاً إلى كسر سلطان بعض الأسر الغنية على الحكومة. وفي 1761، حث عضو قديم في حزب الأحرار يدعى وليم بلتني، إيرل باث، في نبذة غفل عن اسم كاتبها، الملك على ألا يقنع بـ "ظل الملكية، بل يستعمل "امتيازاته القانونية" في كبح جماح "الدعاوي غير القانونية للأولجركية المتحيزة"(64).
وكانت الأغلبية في مجلس العموم تذهب إلى أن على الملك أن يختار وزراءه من الزعماء المعترف بهم للحزب أو العصبة الفائزة في الانتخابات. وأصر جورج على حقه الشرعي في اختيار وزرائه دون اعتبار للحزب، ودون قيود عليه إلا مسئوليته أما الشعب. وكان الأحرار هم الذين دبروا ارتقاء ناخب هانوفر لعرش إنجلترا، وكان بعض المحافظين قد تفاوضوا مع الاستيوارتيين المنفيين. لذلك لم يكن بد من أن يقتصر جورج الأول والثاني في اختيار وزرائهما على الأحرار، وكان أكثر المحافظين قد اعتزلوا في ضياعهم. ولكنهم في 1760 قبلوا الأسرة المالكة الجديدة، وأقبلوا في نفر كبير ليقدموا ولاءهم للملك البريطاني المولد. ورحب بهم جورج، ولم ير مبرراً لعدم تعيينه المحافظين الأكفاء كما يعي الأحرار الأكفاء في المناصب الوزارية. واحتج الأحرار بأنه لو كان الملك حراً في اختيار الوزراء وتقرير السياسة دون أن يكون مسئولاً أمام البرلمان لكان هذا انتهاكاً لمرسوم الحقوق الصادر في 1689، ولصعدت سلطة الملك من جديد إلى المستوى الذي ادعاه تشارلز الأول، ولبطل مفعول ثورتي 1642 و1688. أن للنظام الحزبي عيوبه، ولكنه (في رأي الزعماء) لا غنى عنه للحكومة المسئولة، فهو يوفر لكل وزارة معارضة تراقبها، وتنتقدها، وتستطيع (إذا شاء الناخبون) أن تحل محلها رجالاً مهيأين لتغيير السياسة دون الإخلال باستقرار الدولة. وهكذا تكونت الخطوط لأول صراع كبير بين القوى في الحكم الجديد.
وتحمل بيوت وطأة المعركة. وكان أكثر النقد يعفي الملك، ولكنه لم يعفي أمه، فاتهمتها الأهاجي الساخرة بأنها خليلة بيوت، وأثار هذا التشهير الملك فغضب غضبة مضرية. وعقد بيوت صلحاً منفرداً مع فرنسا، ثم كف عن تقديم المعونة المالية لبروسيا ليكره فردريك على الإذعان، فوصفه فردريك بالوغد الخسيس، وواصل القتال، أما الشعب الإنجليزي فرغم سروره لأن الحرب وضعت أوزارها إلا أنه ندد بالصلح لأنه أفرط في اللين مع فرنسا المغلوبة؛ وسخط بت عليه، وتنبأ بأن فرنسا التي خرجت من الحرب ببحريتها سليمة لم يمسها سوء ستستأنف الحرب على إنجلترا عما قليل-وهو ما فعلته في 1778. وصدق مجلس العموم على المعاهدة، فأغلبية 319 ضد 65. واغتبطت أم جورج بانتصار الإرادة الملكية وقالت "أن أبني الآن ملك على إنجلترا حقاً وفعلاً"(66).
كان الملك الجديد حتى الآن يشتهر بالنزاهة. ولكنه حين رأى الأحرار يشترون الأصوات البرلمانية، ويستأجرون الصحفيين لمهاجمة سياساته، صمم على أن يبزهم في هذا المضمار. فسخر ماله وقوة رعايته لإغراء المؤلفين من أشباه سمولت بالدفاع عن أهداف الوزارة وتصرفاتها. ولعل بيوت كان يفكر في أمثال هذه الخدمات حين أقنع الملك في يوليو 1762 بأن ينفح صموئيل جونس بمعاش، ولم يخب ظنه في الكاتب. ولكن ما من متشيع للوزير استطاع أن يضارع خطب جون ولكس اللاذعة الذكية، أو هجائيات تشارلز تشرشل الضارية، أو قدح "جونيوس" الغفل من التوقيع. "وظهرت الآن كل يوم، نثراً وشعراً، طعون في البلاط فاقت في جرأتها وغلها أي طعن نشر لسنوات كثيرة"(67).
وأخذ البرلمان نقود الملك وأعطاه أصواتاً، ولكنه كره كبير وزرائه، لأنه اسكتلندي لم يرق إلى مقام السلطة جزاء على خدمة طويلة لحزب من الأحزاب في مجلس العموم. واشتد شعور الكراهية لإسكتلندة في إنجلترا التي لم تزل تذكر غزو 1745 الاسكتلندي. ثم أن بيوت كان قد أغدق الغنائم السياسية على بني جلدته: فعين روبرت آدم معمارياً للبلاط، وآلن رمزي مصوراً للبلاط (متجاهلاً رينولدز)؛ وأجرى معاشاً على جون هيوم الكاتب المسرحي الإسكتلدني، في حين ضن على توماس جراي بكرسي الأستاذية. وأعربت جماهير لندن عن شعورها بشنوق جزمة عسكرية ثقيلة Jackboot أو إحراقها (كناية عن Bute) وبالهجوم على مربكة الوزير، فكان يضطر إلى إخفاء وجهه حين يختلف إلى المسرح. ونفرت أهل الريف منه ضريبة فرضها على عصير التفاح (السيدر)، فبات بيوت أبغض وزير وعاه التاريخ الإنجليزي. فلما أن عجز عن التصدي لهذا السيل الجارف، وتحطم بدناً وروحاً، وأدرك أنه لا يصلح لمعارك السياسة ودسائسها، استقال (8 أبريل 1763) بعد أقل من سنة وهو كبير وزراء الملك.
أما خلفه جورج جرنفل فعانى من خطوب ثلاثة: فقد هاجمه في الصحف جون ولكس الذي لا يقهر (1763 وما بعدها)؛ وحصل على موافقة البرلمان (مارس 1765) على قانون الدمغة الذي كان أول ما نفر المستعمرات الأمريكية؛ وأصيب في عهده جورج الثالث بأول نوبات جنونه. ذلك أن إخفاق بيوت واستقالته حطما أعصاب الملك وفلا عزيمته، ولم يسبغ عليه زواجه أي سعادة، وكان جرنفل معتداً برأيه إلى حد مؤلم، لا بل يكاد يكون مسيطراً. ثم تماثل جورج للشفاء بعد قليل، ولكنه لم يعد بعدها يشعر بأن فيه من العافية ما يكفي لمقاومة أولجركية الأحرار التي هيمنت على معظم البرلمان والصحافة. فلجأ إلى حل وسط، ودعا المركيز روكنجهام-وهو من الأحرار-لتأليف وزارة جديدة.
وشرع المركيز بموافقة البرلمان خلال سنه عدة قوانين مهدئة، ربما عملاً باقتراحات أشار بها سكرتيره إدموند بيرك. فألغيت أو عدلت ضريبة الدبس (السيدر)، وألغيت ضريبة الدمغة، وأعان التجارة إبرام معاهدة مع روسيا، وهدئ الهياج الذي نشب حول ولكس، ويبدو أن هذا التشريع لم تسخر الرشوة لدفعه قدماً. أما الملك فقد ساءه إلغاء الضريبة، والتنازلات التي قدمت لولكس؛ وعليه ففي 12 يوليو 1766 أقال وزارة روكنجهام، وعرض النبالة على بت، وطلب إليه أن يضطلع بالحكم. ووافق بت. غير أن "نائب العموم العظيم" كانت صحته قد تضعضعت، وكذلك عقله. وضحى الآن بما بقي له من شعبيته بقبوله لقب إيرل شاتام، فتخلى بذلك عن مكانه في مجلس العموم. وكان له في هذا بعض العذر: فقد أحس بأنه أضعف من أن يثبت لتواترات مجلس العموم وصراعاته، أما مجلس اللوردات فسيتاح له فيه فراغ أكثر وسيكون التوتر فيه أقل. واتخذ منصباً هادئاً نسبياً هو منصب وزير الخاتم الملكي، وسمح لصديقه دوق جرافتن أن يشغل منصب الرئيس الأعلى للخزانة، وهو أبرز المناصب الوزارية اسمياً. على أن زملاء بت لاحظوا أنه يقرر السياسة دون أن يشاورهم أو رغم معارضتهم، وقد تنفس كثيرون الصعداء حين ذهب إلى بات ملتمساً تهدئة آلام النقرس الذي يشكوه. وقد حقق هذا الهدف ولكن بعقاقير شوشت عقله. فلما عاد إلى لندن لم يكن في حال تسمح له بالاهتمام بالسياسة. وفي أكتوبر 1768 استقال، وأصبح جرافتن كبيراُ للوزراء.
وفي فترة الفوضى السياسة هذه (1766-68) تكتل لفيف عرفوا بـ "أصدقاء الملك" ليدعموا أهداف الملك. فأرشدوا جورج في توزيع الغنائم لقاء تأييد نائليها لسياسته، واستخدموا كل وسيلة لانتخاب مرشحين وتقديم وزراء موالين للآراء الملكية. فلما تورط جرافتن في مصاعب وأخطاء فاضحة ضاعفوا من ارتباكه حتى استقال (27 فبراير 1770). وفي 10 فبراير أحرزوا أعظم نصر لهم إذ بدأ فردريك نورث سني خدمته الأثنتي عشرة وزيراً للخزانة (وهو معروف لنا اللورد نورث، وإن لم يرث هذا اللقب إلا في 1790). كان نورث رجلاً ضعيفاً وإن لم يكن شريراً. وإحساسه بالولاء والرحمة هو الذي أبقاه في منصبه وأكسبه مكاناً غير كريم في التاريخ. وقد ابتسم له الحظ لأنه كان ابن إيرل جلفورد، فحظي بكل مزايا التعليم والاختلاط بالمجتمع الراقي، وأصبح نائباً في مجلس العموم ولما يجاوز الثانية والعشرين، واحتفظ بمقعده في قرابة أربعين عاماً. وأكتسب صداقة الكثيرين بفضل تواضعه ولطفه ودماثته وظرفه ولكنه اتبع الجانب المحافظ في ثبات غالى فيه حتى لم يسر أحداً سوى الملك. فقد أيد قانون الدمغة وطرد ولكس، وواصل الحرب مع أمريكا (إلى مراحلها الأخيرة) ودافع عن سياسات جورج الثالث حتى وهو يشك في حكمتها، وعد نفسه عاملاً للملك، لا عاملاً للبرلمان فضلاً على أن يكون عاملاً للشعب؛ ويبدو أنه كان مخلصاً في اعتقاده أن للملك الحق التشريعي في اختيار وزرائه وتوجيه السياسة. وبفضل نورث ولباقته في سياسة مجلس العموم-وبفضل استخدام الأموال التي أقرها البرلمان-حكم جورج الثالث إنجلترا طوال عقد من ذلك القرن، وعن طريق عملاء نورث اشترى المقاعد والأصوات، وباع المعاشات والمناصب، وأعان الصحفيين بالمال، وحاول أن يقيد الصحافة بالأغلال. وأنه لمحط لشجاعته وعناده أن تتطلب هزيمته تكتل جهود جون ولكس، و "جونيوس"، وبيرك، وفوكس، وشريدان، وفرانكلن، وواشنطن ضده ليقهروه.
4- البرلمان ضد الشعب
نقرً في يومية جبون بتاريخ 23 سبتمبر 1762: "تناول الكولونيل ولكس الغداء معنا... وندر أن التقيت في حياتي برفيق خير منه. فقد أوتي حيوية لا ينضب معينها وذكاء وروح فكاهة لا حد لهما، وقدراً وافراً من المعرفة، ولكنه كان ممعناً في الخلاعة والمجون مبدأ وممارسة على حد سواء: فخلقه معيب، وحياته تلوثها كل الموبقات، وحديثه طافح بالتجديف والبذاءة ثم هو فخور معتز بهذه الأخلاق-لأن الخجل ضعف تغلب عليه منذ أمد بعيد. وقد أخبرنا هو نفسه أنه مصمم في فترة الانشقاق العام أن يصبح ثرياً"(69). هذا رأي محافظ كان يقترع في صف الحكومة طوال الأعوام الثمانية التي كان فيها عضواً في مجلس العموم، ولم يستطع أن يتعاطف بسهولة مع عدو سافر للبرلمان والملك، فياض بالحيوية... على أن ولكس لو سئل لسلم بمعظم هذه التهم. ذلك أنه كان قد نبذ أخلاقيات المسيحية كما نبذ لاهوتها، واستمتع بالجهر بمذهبه في اللذة أمام نواب يشاركونه أخلاقه ولكنهم يفزعون من صراحته.
كان جون ولكس ابناً لمقطر ملت في كلاركنويل بشمالي لندن. تلقى تعليماً حسناً في أكسفورد ولايدن، كفى لإثارة دهشة جونسن من إلمامه بالآداب الكلاسيكية ومن تأدبه بـ "آداب السادة"(70)فلما بلغ العشرين تزوج "سيدة تكبرني مرة ونصف"، ولكنها "ذات ثراء عريض"(71)وكانت من جماعة المنشقين على الكنيسة الإنجليكيانية، وتميل إلى التقوى المكتئبة؛ فأقبل على الشرب والخليلات. وحوالي عام 1757 انضم إلى السير فرانسيس داشوود، وبب دودنجتن، وجورج سلوين، والشاعر تشارلز تشرشل، وإيرل ساندوتش الرابع في "ناد لنار الجحيم" يلتئم شمله في دير مدمنهام البندكتي على ضفاف التيمز قرب مارلو. هناك راحوا وهو ينتحلون صفة "رهبان مدمنهام المجانين" يقلدون في سخرية الطقوس الكاثوليكية بإقامة "قداس أسود" للشيطان، ويطلقون العنان لميولهم التجديفية الشهوانية(72).
وأنتخب ولكس نائباً للبرلمان عن دائرة ايلزبري (1757) بفضل نفوذ رفاقه وبإنفاق 7000 جنيه. وانضم أولاً لبت الأب، ثم لخصوم بيوت بعد عام 1760. ولما كان بيوت يعين بالمال مجلة سمولت "البريطاني"، فقد بدأ ولكس، مستعيناً بتشرشل، في يونيو 1762 إصدار مجلة أسبوعية معارضة سماها "بريطاني الشمال" اكتسبت قراء كثيرين بفضل حيوية أسلوبها وخفته، وضراوة هجماتها على الوزارة. وفي عدد منها نفى في إسهاب-أي أنه أذاع-الشائعة التي ارتجفت بأن بيوت خالل أم الملك. وفي العدد 45 (23 أبريل 1763) ندد بيوت لأنه خرق اتفاق إنجلترا مع بروسيا بإبرامه صلحاً منفرداً مع فرنسا، وبادعائه، في "خطاب العرش" الذي ألقاه الوزير باسم الملك، أن هذه المعاهدة باركها فردريك الأكبر.
"أن هذا الأسبوع قد أعطى الجمهور مثالاً على وقاحة الوزارة-هو أشد ما حاولته وزارة من قبل تسيباً واستهتاراً... على البشرية. ذلك أن "خطاب الوزير" الذي ألقاه الثلاثاء الماضي لا نظير له في سجلات تاريخ هذا البلد. ولست أدري هل الدجل والخداع أعظم على الملك أم على الأمة. فكل صديق لهذا البلد لا بد يحزن لأن ملكاً أوتي هذا العدد الكبير من الخلال العظيمة المحببة... يمكن حمله على التصديق باسمه المقدس على أبغض القرارات، وعلى أشد التصريحات العامة حيفاً... وأنا واثق من أن جميع الأجانب، لا سيما بروسيا، سينظرون إلى الوزير نظرة الازدراء والاشمئزاز، فقد جعلنا مليكنا يصرح بالآتي: "لقد تحققت كل توقعاتي تحقيقاً كاملاً بفضل النتائج الطيبة التي جناها تاجي المختلفون من المعاهدة النهائية وقد اقتنعت الدول المشتبكة في حرب مع أخي الفاضل ملك بروسيا الموافقة على شروط التسوية التي وافق عليها ذلك الملك العظيم" والمغالطة المخزية في هذه العبارة كلها ظاهرة للناس جميعاً، لأنه من المعروف أن ملك بروسيا... قد خذله رئيس وزراء إنجلترا الاسكتلندي خذلاناً خسيساً... أما عن تصديق البرلمان "تصديقاً كلياً" الذي هو موضع فخر ينطوي على غرور شديد، فإن العالم يعرف كيف تم الحصول عليه. والدين الكبير على "القائمة المدنية"... يعلن بوضوح تام صفقات الشتاء"(73).
ومع أن ولكس كان قد فسر "خطاب الملك" على أنه في الحقيقة خطاب بيوت، إلا أن جورج الثالث فهم المقالة على أنها إهانة شخصية، وأمر اللوردين هاليفاكس واجرمونت، وزيري الدولة آنئذ-بالقبض على جميع الأشخاص الضالعين في نشر العدد 45 من "بريطاني الشمال". فأصدر أمراً عاماً بالاعتقال- أي أمراً لا يسمي الأشخاص الذين يعتقلون، وبناء على عباراته الغامضة زج في السجن تسعة وأربعون شخصاً منهم ولكس (30 أبريل 1763)، رغم دعوى الحصانة بوصفه نائباً في البرلمان. ووضع طابع المجلة واسمه وليمز في المشهرة، ولكن حشداً من الناس هتفوا له شهيداً وجمعوا مائتي جنيه لإعانته. وكلب ولكس إلى محكمة الدعاوى العامة أمراً قضائياً من أوامر "هابياس كوريس"، وحصل عليه، ودافع عن قضيته، ونال من قاضي القضاة تشارلز برات (وكان صديقاً لبت) أمراً بإطلاق سراحه تأسيساً على أن اعتقاله فيه انتهاك لحق عضو البرلمان، ورفع ولكس الدعوى على هاليفاكس وآخرين للقبض غير القانوني وللأضرار بماله، وحصل على تعويض قدره 5000 جنيه وأنهت إدانة برات للتفويضات العامة ذلك الاستعمال السيئ للسلطة الذي لأبغضه البريطانيون بغض الفرنسيين لأوامر القبض المختومة.
وشاء ولكس أن يعاند القدر، فاشترك مع توماس بوتر (ابن رئيس أساقفة كنتربري) في تأليف "مقال عن المرأة" وهو معارضة شعرية ساخرة لقصيدة بوب "مقال عن الإنسان (الرجل)". وكان خليطاً من البذاءة والتجديف، مزوداً بحواشي تنبئ بعلم الشاعر الواسع وتنسج على المنوال ذاته، ونسب المقال إلى الأسقف وليم روبرتن، الذي كان قد أضاف هوامش لقصيد بوب. وطبع المقال الصغير في مطبعة ولكس في بيته، لكنه لم ينشر، غير أن ثلاثة عشرة نسخة طبعت خصيصاً لبضعة أصدقاء، وحصل وزراء الملك على تجارب الطبع، وأقنعوا إيرل ساندوتش بأن يقرأها على مجلس اللوردات، ففعل الإيرل (15 نوفمبر)، الأمر الذي أضحك الأشراف، وكانوا عليمين بما اشتهر به ساندوتش من خلاعة وتهتك. ويخبرانا وليول بأنهم "لم يستطيعوا الاحتفاظ برزانتهم" وساندوتش ماض في القراءة، ولكنهم وافقوا على أن القصيدة "قذف فاضح بذيء فاسق"، وطلبوا إلى الملك أن يقدم ولكس للمحاكمة بتهمة التجديف. وحين أخبر ساندوتش ولكس بأنه سيموت إما شنقاً أو من مرض سري، أجاب "ذلك يا مولاي اللورد رهن بمن أعانق-مبادئك أم خليلتك"(75).
وفي ذلك اليوم ذاته-يوم 15 نوفمبر-قام ولكس في مجلس العموم ليسجل شكوى من إهدار حقه البرلماني بالقبض عليه. ولكن المجلس صوت ضده، وأمر البرلمان الجلاد بأن يحرق علناً العدد 45 من "بريطاني الشمال". وفي اليوم السابع عشر تحدى صموئيل مارتن ولكس للمبارزة، وكان قد سبه في ذلك العدد. فالتقيا في هايد بارك، وجرح ولكس جرحاً خطيراً، وألزم الفراش شهراً. وأدان أهالي لندن مارتن باعتباره قاتلاً مأجوراً، وأحدثوا شغباً حين حاول الجلاد أن يحرق العدد 45، وأصبح الهاتفان "ولكس والحرية" و "العدد الخامس والأربعون" شعارين على تمرد شعبي صاعد ضد الملك والبرلمان(76). ثم حاول اسكتلندي مسعور قتل ولكس، فرحل إلى فرنسا (26 ديسمبر). وفي 19 يناير 1764 طرد رسمياً من البرلمان. وفي 21 فبراير صدر ضده حكم في محكمة "كنجز بنش" بأنه مذنب بإعادة طبع العدد 45 وبطبع "مقال عن المرأة"، ودعي للمثول وتلقى الحكم عليه، فلم يحضر؛ وفي أول نوفمبر أعلن أنه خارج عن القانون. وظل ولكس أربع سنوات شريداً في فرنسا وإيطاليا يخشى أن يسجن سجناً مؤبداً إن عاد إلى إنجلترا. وفي روما التقى مراراً بفنكلمان، وفي نابلي قابل بوزويل الذي وجده رفيقاً مسلياً: "إن سخرياته المرحة الحية في المواضيع الأخلاقية حركت روحي المعنوية حركة ليست غير سارة"(77). وفي طريقه عوداً إلى باريس زار ولكس فولتير في فرنيه، وسحر أظرف رجل في أوربا بظرفه وخفة روحه.
ثم فتح رجوع الأحرار إلى السلطة بزعامة روكنجهام وجرافتن لوكس باب الأمل في العفو عنه. وتلقى تأكيدات سرية بأنه لن يمس بسوء إذا لزم الصمت. فعاد إلى إنجلترا (1768) وأذاع من لندن ترشيحه للبرلمان. فلما أن خسر تلك المعركة، التمس انتخابه للبرلمان من مدلسكس، وحصل على أغلبية كبيرة بعد حملة صاخبة؛ وكانت تلك المقاطعة التي تحول أكثرها حضراً (وهي تضم الآن شمال غربي لندن) معروفة بميولها الراديكالية وعدائها للرأسمالية الصاعدة. وفي 20 أبريل مثل ولكس أما المحكمة متوقعاً إلغاء الحكم بخروجه على القانون؛ وألغي الحكم؛ ولكن حكم عليه بغرامة قدرها ألف جنيه وبالسجن اثنين وعشرين شهراً. فأنقذه حشد غاضب من ضباط الشرطة وحملوه في موكب نصر طافوا به شوارع لندن. وبعد أن هرب من المعجبين، سلم نفسه للسجن في سانت جورجز فيلدز. وتجمع الغوغاء هناك في 10 مايو وأرادوا إطلاق سراحه ثانية. فأطلق الجند النار على مثيري الشغب، وقتل منهم خمسة وجرح خمسة عشر.
وفي 4 فبراير 1769 طرده مجلس العموم ثانية، فانتخبته دائرة مدلسكس ثانية (16 فبراير)، وطرد من جديد، فعادت مدلسكس وانتخبته (13 أبريل)، هذه المرة بأغلبية 1.143 ضد 296 لهنري لوتريل؛ وأعطى البرلمان المقعد للوتريل على أساس أو ولكس بعد أن طرد من البرلمان فقد أهليته شرعاً للنيابة في دورة ذلك البرلمان. وهوجم لوتريل وهو يغادر مجلس العموم؛ ولم يجرؤ على الظهور في الشوارع(78). وأرسلت سبع عشرة مقاطعة ومدن كثيرة خطابات موجهة إلى العرش تشكو من أن حقوق الملاك الأحرار في اختيار ممثليهم في مجلس العموم قد انتهكت انتهاكاً صارخاً. أما الملك الذي كان قد أيد الطرد بقوة فقد تجاهل الالتماسات، وقال عضو يدعى الكولونيل إسحاق باريه في البرلمان أن تجاهل الالتماسات "قد يعلم الشعب التفكير في الاغتيال"(79) . وخلع جون هورن توك، الذي أسلم إيمانه لسخر فولتير، ثوبه الديني وصرح بعد إقصاء ولكس مراراً بأنه سيصبغ رداءه (رداء القساوسة) الأسود بالحمرة.
وتزعم توك تنظيم "جماعة المؤيدين لملتمس الحقوق، (1769) التي كان هدفها العاجل إطلاق سراح ولكس، وأداء ديونه، ورده إلى البرلمان. ونشرت الجماعة دعوة في محافل عامة لحل البرلمان الراهن لفساده الذي لا يرجى صلاحه، ولعدم استجابته للإرادة العامة؛ وطالبت ببرلمانات سنوية تنتخب بالتصويت العام للذكور البالغين، وبمسئولية الوزارات أما البرلمان في سياساتها ومصروفاتها(80). ونادت بأن على كل مرشح أن يقسم اليمين بألا يقبل أي ضرب من ضروب الرشوة، ولا أي وظيفة أو معاش أو مكافأة أخرى من التاج، وبأن على كل عضو أن يدافع عن آراء ناخبي دائرته ولو ناقضت آراءه، وبضرورة رفع المظالم عن إيرلندة، وبأن يكون للمستعمرات الأمريكية وحدها حق فرض الضرائب على شعبها(81). وفي يوليو 1769، رفع وليم تكفورد عمدة لندن وكبار موظفيها الرسميين إلى الملك خطاباً يلوم مسلك وزرائه لأنه هادم للدستور الذي أعطي بموجبه بيت هانوفر عرش إنجلترا. وفي 14 مايو 1770 أرسلوا إلى الملك احتجاجاً استخدم لغة الثورة: "أن أغلبية أعضاء مجلس العموم-الواقعين تحت التأثير الخفي والخبيث الذي أحبط كل النوايا الحسنة وأوحى بكل النوايا السيئة في جميع الحكومات المتعاقبة-هؤلاء حرموا شعبكم من أعز حقوقهم. لقد اقترفوا عملاً أفدح تدميراً في عواقبه من فرض تشارلز الأول ضريبة السفن، أو سلطة منح المعاشات التي ادعاها جيمس الثاني لنفسه"(82). وقد ناشد الخطاب الملك أن يعيد "الحكومة الدستورية... وأن تقصي أولئك الوزراء الأشرار عن مجالسك إلى الأبد"(83) وأن يحل البرلمان الحالي. أما الملك المحنق فقد صاح ويده على سيفه "دون ذلك سيفي هذا"(84). وبدت لندن لا باريس قاب قوسين من الثورة في 1770.
وفي هذه الدوامة الملتهبة من دوامات السياسة قذف "جونيوس" بأشد الرسائل إثارة للفتنة في تاريخ إنجلترا. وقد أفلح في إخفاء هويته حتى عن ناشريه إخفاءاً تاماً، حتى أنه إلى يومنا هذا لا يعرف أحد من هو، وأن حزر معظمهم أنه السر فيليب فرانسيس، الذي سنلتقي به الخصم اللدود لوارن هيستنجز. وكان المؤلف قد وقع بعض رسائله باسم "لوشس"، وبعضها باسم "بروتس"، أما الآن فقد انتحل الاسم الأوسط "لوشس جونيوس بروتس؛ الذي يقول ليفي أنه خلع ملكاً (حوالي 510 ق.م.) وأسس الجمهورية الرومانية. وتدل فحولة لغة هذه الرسالة على أن "جونيوس" أوتي تعليم السادة وإن لم يؤت حسن أدبهم. والراجح أنه كان غنياً، لأنه لم يتقاض أجراً على رسائله التي وسعت قوتها ونقدها اللاذع من توزيع صحيفة "المعلن العام" توسيعاً غل الربح الوفير، وهي الصحيفة التي ظهرت فيها من 21 نوفمبر 1768 إلى 21 يناير 1772.
وفي مقاله "إهداء للأمة الإنجليزية" الذي صدر به المؤلف "رسائل جونيوس" (1772) أعلن هدفه وهو "تأكيد حرية الانتخاب، والدفاع عن حقكم أنتم دون غيركم في اختيار ممثليكم "واتخذ نقطة انطلاقه إقصاء ولكس المتكرر، واعتقال كل من له صلة بالعدد 45 من "بريطاني الشمال" بأمر اعتقال عام. "وأن حرية الصحافة هي الحصن المنيع لجميع الحقوق المدنية والسياسية والدينية للرجل الإنجليزي، وحق المحلفين... جزء أساسي من دستورنا" ومن هذه الزاوية انتقد المؤلف أسس الحكومة البريطانية: "أن سلطة الملك، واللوردات، ونواب العموم، ليست سلطة تعسفية. فهم ليسوا إلا أمناء على التركة لا مالكيها. والملكية المطلقة قائمة فينا نحن... وأنا موقن بأنكم لن تتركوا لمشيئة سبعمائة شخص، أفسدهم التاج على نحو مفضوح، الفصل في مستقبل سبعة ملايين من نظرائهم، أيكونون أحراراً أم عبيداً"(85).
ومضى جونيوس يتهم حكومة جرافتن (1768-70) ببيع المناصب وإفساد البرلمان بالإنعامات والرشا. هنا أصبح الهجوم مباشراً وبلغ من الاحتدام حداً يشعر بأنه تصميم على الانتقام لإساءة أو إهانة شخصية. "تقدم أيها الوزير الفاضل وقل للعالم بأي نفوذ زكي مستر هاين لمثل هذه الإمارة الخارقة على رضى جلالته؛ وماذا كان ثمن الامتياز الذي اشتراه؟... إنك تعرض بخسة الرعاية الملكية للمزاد... أو تظن أن في الإمكان أن تفلت هذه الكبائر دون اتهام؟ أنها حقاً مصلحتك إلى الدرجة القصوى أن تحتفظ بمجلس العموم الحالي. فهم إذ باعوا الأمة جملة، سيحمونك ولا ريب في التجزئة، لأنهم وهم يناصرون جرائمك يرعون أيضاً جرائمهم هم"(86). واستمر الهجوم بعد استقالة جرافتن بزمن طويل، كما نقرأ في الرسالة المؤرخة 22 يونيو 1771. لست أستطيع بأي مظهر مهذب من مظاهر اللياقة أن أصفك بأنك أنذل وأخس رجل في المملكة. لا يا سيدي، فلست أحسبك كذلك. فسيكون لك منافس وخطر في ذلك الضرب من الشهرة... ما دام هناك رجل واحد حي يحسبك جديراً بثقته، صالحاً لأن يوكل إليك أي قسط في حكومته."
وبدا أن هذا وصف لجورج الثالث ذاته بأنه "أخس رجل في المملكة" وكان جونيوس قد عمد من قبل في الرسالة الخامسة والثلاثين إلى مهاجمة الملك "بإباء وحزم، ولكن دون احترام": "سيدي، أن الخطب الذي منيت به حياتك... أنك لم تكن لتلم قط بلغة الحقيقة حتى سمعتها في شكاوي شعبك. على أن الوقت لم يفت لتصحيح خطأ تعليمك". ونصح جونيوس جورج بأن يقيل وزراءه المحافظين، ويسمح لولكس بأن يشغل المقعد الذي أنتخب له. "أن على الملك إن كان يفتخر بسلامة حقه في التاج أن يتذكر أن اكتسب بثورة، وأنه قد يضيع بأخرى"(87).
وقبض على هنري وودفول الذي نشر هذه الرسالة في صحيفة "المعلن العام" بتهمة القذف المحرض على الفتنة. ورفض المحلفون إدانته وهم يعكسون مشاعر الطبقة الوسطى، فأفرج عنه بعد دفع المصاريف. وكان جونيوس قد بلغ الآن قمة تهوره وقوته. ولكن الملك صمد للهجوم، ودعم مركزه بتعيينه لرياسة الوزارة اللورد نورث اللطيف الثابت الجأش. وواصل جونيوس رسائله حتى 1772، ثم ترك ساحة القتال. ويلاحظ أنه في 1772 ترك السر فيليب فرانسيس وزارة الحربية (التي كان جونيوس قد أظهر معرفة وثيقة بشئونها) ورحل إلى الهند.
وتنتمي الرسائل إلى التاريخ الأدبي لإنجلترا كما تنتمي إلى تاريخها السياسي، ذلك أنها مثال حي على الأسلوب الذي كان في قدرة الكثير من رجال السياسة البريطانيين أن يرتفعوا أو يتدنأوا إليه حين يلهبهم الغضب ويحميهم التخفي وراء الأسماء المستعارة. فهنا إنجليزية رفيعة اختلطت بالسب، ولكن السب ذاته آية في الطعن المرهف. أو الإجرام الحاد. ولست تجد هنا شفقة، ولا سماحة، ولا تفكيراً في أن الحزب الذي تنتمي إليه رامي الاتهام يشارك المتهم خطيئته وذنبه. ونحن نتعاطف مع السر وليم دراير الذي كتب يقول رداً على الرسالة المؤرخة 21 يناير 1769 "أن المملكة تشغى بعدد غفير من اللصوص المجرمين الذي يسطون على خلق الأفراد وفضيلتهم بحيث لم يعد إنسان شريف واحد في مأمن، ولا سيما لأن هؤلاء القتلة الحقراء الجبناء يطعنون في الظلام دون أن تكون لديهم الشجاعة للتوقيع بأسمائهم الحقيقية على كتاباتهم الشريرة الحقودة"(88).
وقد تميز تحرك الصحافة البريطانية صوب حرية ونفوذ متعاظمين بصراع آخر في هذه السنوات. وذلك أن بعض الجرائد بدأت حوالي 1768 ف يطبع تقارير عن الخطب الكبرى التي تلقى في البرلمان. وكان أكثر هذه التقارير متحيزاً وغير دقيق، وبعضها وهمياً، وبعضها محشواً بالبذاءات. وفي فبراير 1771 شكا الكولونيل جورج أونسلو إلى مجلس العموم من أن مجلة أشارت إليه بعبارة "الوغد الحقير" و "ذلك الحشرة التافهة الخسيسة" فأمر المجلس في 12 مارس بالقبض على الطابعين. فقاوموا، وقبضوا على من أرادوا اعتقالهم وأتوابهم إلى عضوين في البلدية (أحدهما ولكس) وبراس كروبنتي عمدة لندن. وأبطل العمدة محاولة اعتقال الطابعين بحجة أن مراسم المدينة تحظر اعتقال لندني إلا بناء على أمر اعتقال يصدره أحد قضاة المدينة، فأمر البرلمان بسجن العمدة في برج لندن، ولكن جماهير العامة هبوا يؤيدونه، وهاجموا مركبات النواب، وهددوا الوزراء، وصفروا للملك استهزاءً، ثم أغاروا على مجلس النواب. فأطلق سراح العمدة، وهتف له جمع غفير. واستأنفت الصحف تقاريرها عن المناقشات البرلمانية. وكف البرلمان عن توجيه الاتهام للطابعين. وفي 1774 بدأ لوك هانسارد بموافقة البرلمان ينشر فوراً وبدقة يوميات مجلس العموم، وواصل نشرها حتى وفاته في 1828.
وقد أثر الانتصار التاريخي الذي أحرزته الصحافة البريطانية في طابع المناقشات البرلمانية، وأسهم في جعل النصف الثاني من القرن الثامن عشر العصر الذهبي للبلاغة الإنجليزية. وأصبح الخطباء أشد حذراً، وربما أكثر رغبة في الإثارة، حين شعروا أن الناس يستمعون إليهم ف يطول الجزر البريطانية وعرضها. وغدا يعض التقدم صوب الديموقراطية أمراً لا مفر منه بعد أن اتسع انتشار الإعلام والفكر السياسيين، ووجدت طبقة رجال الأعمال، والمجتمع المفكر، والراديكاليون الصاعدون، في الصحافة صوتاً ازداد جرأة وفاعلية زيادة مطردة، حتى قهر الملكية ذاتها. واستطاع الناخبون أن يعرفوا الآن إلى أي حد أحسن نوابهم الدفاع عنهم وعن مصالحهم في وضع القوانين وإلغائها. لقد استمر الفساد ولكنه تقلص، لأنه كان في الإمكان فضحه بجهر أكثر. وغدت الصحافة سلطة ثالثة قادرة أحياناً على حفظ التوازن بين الطبقات في الأمة أو في الأحزاب في البرلمان. وأصبح للرجال القادرين على شراء الصحف أو الهيمنة عليها قوة تعدل قوة الوزراء.
على أن الحرية الجديدة كمعظم الحريات أسيء استعمالها مراراً، فباتت أحياناً أداة تسخرها أهداف أشد أنانية وتحزباً، ومعارضة أشد سوقية وعنفاً، من أي أهداف أو معارضة ظهرت من قبل البرلمان، وعندها استحقت النعت الذي نعتها به شاتام-"الفاجرة المرخصة"(89) وكان إلزاماً أن يؤدبها هي الأخرى صوت رابع هو الرأي العام، الذي كانت الصحافة مع ذلك جزئياً مصدره، وفي حالات كثيرة مضللة، وأحياناً صوته. وبدأ الرجال والنساء المجردون من الألقاب يجهرون بآرائهم في السياسة وأساليب الحكم بعد أن تسلحوا بمعرفة أوسع، وتجمعوا في محافل عامة. ونافست مناقشاتهم بين الحين والحين مناقشات البرلمان أثراً في التاريخ. واستطاع الآن المال أن يطالب بحق الحكم كشرف الأصل سواء بسواء، وبين الفريقين المتصارعين يسمع صوت الشعب بين الحين والحين.
أفرج عن ولكس في 17 أبريل 1770، فأضيأت بيوت كثيرة كأنما تحتفل بعيد، وعلق العمدة على منزله لافتة تحمل كلمة "الحرية" في حروف ارتفاعها ثلاث أقدام(90). ولم يلبث ولكس أن انتخب عضواً في البلدية ثم عمدة، وفي 1774 انتخبته مدلسكس مرة أخرى للبرلمان. ولم يجرؤ النواب الآن على أن يحرموه مقعده، فاحتفظ به طوال الانتخابات حتى 1790. وتزعم لفيفاً صغيراً من "الراديكاليين" في البرلمان، طالبوا بالإصلاح البرلماني وبإعطاء "الطبقات الدنيا" حق التصويت.
"ينبغي في رأيي أن يتاح لكل عامل حر في هذه المملكة حق تمثيله في البرلمان وينبغي بتر دوائر الحضر الحقيرة التافهة، التي نصر على وصفها بأنها الجزء العفن في دستورنا، وأن يسمح للمدن التجارية الغنية الأهلة بالسكان-مثل برمنجهام ومانشستر وشفيلد وليدز وغيرهما-بإرسال نوابها لمجلس الأمة العظيم... أريد يا سيدي برلمانياً إنجليزياً يعبر عن الإحساس الحر، غير متحيز، لسواد الشعب الإنجليزي"(91).
وقد انتظر البرلمان ستة وخمسين عاماً لتقبل هذه الإصلاحات. ورفض ولكس أن يرشح نفسه للانتخاب في 1790، ثم اعتزل الحياة العامة. ومات في 1797 وقد بلغ السبعين، فقيراً كما ولد، لأنه كان شديد الأمانة في جميع مناصبه(92).
إنجلترا ضد أمريكا
في 1750 بلغ سكان المستعمرات الإنجليزية في أمريكا الشمالية قرابة 1.750.000 نسمة، أما سكان إنجلترا وويلز فكانوا نحو 6.140.000(93)ولما كان معدل النمو في المستعمرات أعلى بكثير منه في الوطن الأم، فإن المسألة لم تكن إلا مسألة وقت حتى يتمرد الابن على أبيه. وكان مونتسكيو قد تنبأ بأن هذا سيحدث في 1730، بل إنه تنبأ بالضبط بأن الانفصال ستسببه القيود المفروضة على التجارة الأمريكية. وحوالي 1747 تنبأ المركيز دارجنسن بأن المستعمرات ستثور على إنجلترا وتكون جمهورية وتصبح إحدى الدول العظيمة. وبعد أن انتزعت إنجلترا كندا من فرنسا في حرب السنين السبع بقليل قال فرجين لرجل إنجليزي: "ستندم إنجلترا سريعاً على أنها أزالت الكابح الوحيد الذي يستطيع أن يبقي على خوف مستعراتها. فهي لم تعد في حاجة لحمايتها، وستطالب إنجلترا المستعمرات بالمساهمة في الأعباء التي عملت على إثقالها بها، وسترد المستعمرات بالقضاء على كل تبعية لإنجلترا"(94). وكان التاج البريطاني يدعى سلطة نقض القوانين التي توافق عليها مجالس المستعمرات. ولم يلجأ كثيراً لاستعمال تلك السلطة، ولكن حين وافق مجلس كارولينا الجنوبية على قانون يفرض ضريبة باهظة على استيراد العبيد، "لشعوره بالخطر الاجتماعي والسياسي العظيم الناجم عن تكاثر العبيد الهائل في المستعمرة" ألغى التاج القانون لأن "تجارة العبيد من أربح فروع التجارة الإنجليزية"(95)أما في الشئون الاقتصادية فقد ادعى البرلمان حق التشريع للإمبراطورية البريطانية كلها، وكانت قوانينه عادة تحابي الوطن الأم على حساب المستعمرات. وكان هدفه جعل أمريكا مصدراً للسلع التي لا تنتج بسهولة في إنجلترا، وسوقاً للمصنوعات البريطانية(96). وقد ثبط نمو صناعات المستعمرات التي ستنافس صناعات إنجلترا فحظر على سكان المستعمرات صناعة الأقمشة، والقبعات، والبضائع الجلدية، والمنتجات الحديدية(97). وهكذا أعلن ايرل شاتام، الذي كان فيما خلا هذا كبير الود للمستعمرات، أنه لن يسمح بأن يضع مسمار واحد في أمريكا دون إذن البرلمان(98). ومنعت المستعمرات من إنشاء أفران الصلب أو مصانع القاطرات.
وفرضت قيود عديدة على التجار الأمريكيين فهم لا يستطيعون شحن البضائع إلا في السفن الإنجليزية، ولا بيع التبغ والقطن والحرير والبن والسكر والأرز وكثير غيرها من السلع إلا للممتلكات البريطانية، ولا استيراد البضائع من القارة الأوربية إلا بعد أن ترسي على ساحل إنجلترا، وبعد أن تدفع مكس الميناء، ثم تنقل إلى سفن بريطانية. وحماية لتصدير المصنوعات الصوفية الإنجليزية إلى المستعمرات الأمريكية، حرم على تجار المستعمرات بيع مصنوعات المستعمرات الصوفية خارج المستعمرة التي أنتجتها(99). وفرض البرلمان ضريبة باهظة (1733) على واردات أمريكا من السكر أو الدبس (المولاس) المجلوبة من أي مصدر غير مصادر البريطانية. وتفادى المستعمرون لا سيما في مساتشوستس بعض هذه اللوائح بالتهريب، وببيع الغلات الأمريكية خفية للأمم الأجنبية؛ وحتى الفرنسيين أثناء حرب السنين السبع. ولم يمتثل لشرط المرور بالثغور الإنجليزية إلا عشرة في المائة أو نحوها من كميات الشاي التي تستوردها سنوياً للمستعمرات الأمريكية؛ وجملتها 1.500.000 رطل. وكان قدر كبير من الوسكي الذي تنتجه معامل تقطير مساتشوستس في 1750، وعددها ثلاثة وستون، يستعمل السكر والمولاس المهربين إليها من جزر الهند الغربية الفرنسية(101). وتبريراً لهذه القيود قال البريطانيون أن الأمم الأوربية الأخرى فوضت نطيرها على مستعمراتها، حماية لأهلها أو مكافأة لهم، وأن الغلات الأمريكية تتمتع باحتكار فعلي للسوق الإنجليزية بفضل إعفائها من رسوم الاستيراد، وأن إنجلترا جديرة ببعض العائد الاقتصادي نظير تكاليف الحماية التي وفرتها بحريتها لسفن المستعمرات، وجيوشها للمستعمرين ضد الفرنسيين والهنود في أمريكا. وكان طرد القوة الفرنسية من كندا والقوة الأسبانية من فلوريدا قد حرر الإنجليز من أخطار طالما هددتهم، ومن ثم شعرت إنجلترا أن لها الحق في أن تطلب إلى أمريكا أن تعينها على سداد الدين الباهظ-البالغ 140.000.000 جنيه-الذي استدانته بريطانيا العظمى في حرب السنين السبع. ورد المستعمرون بأنهم قدموا عشرين ألف جندي لتلك الحرب، وأنهم هم أنفسهم اقترضوا ديناً بلغ 2.500.000 جنيه.
على أية حال قررت إنجلترا أن تفرض الضرائب على المستعمرين. ففي مارس 1763 اقترح جرنفل على البرلمان المطالبة بلصق طابع دمغة على جميع ما يصدر في المستعمرات من وثائق قانونية، ومستندات، ودبلومات، وورق لعب، وكمبيالات، وعقود، ورهون، وبوالص تأمين، وجرائد، ويقتضي دفع رسم عن طابع الدمغة للحكومة البريطانية. وأشار باترك هنري في فرجينيا، وصموئيل آدمز في مساتشوستش، برفض هذه الضريبة بحجة أن الإنجليز بحكم تقاليدهم الموروثة-المجناكارتا، والعصيان الكبير لتشارلز الأول، و "ملتمس الحقوق-لا يحق فرض ضريبة عليهم إلا بموافقتهم أو بموافقة ممثليهم الشرعيين. فكيف يتأتى إذن أن تفرض على المستعمرين الإنجليز ضريبة من برلمان ليس لهم فيه ممثلون؟ ورد البريطانيون بأن صعوبات السفر والمواصلات تجعل تمثيل الأمريكيين في البرلمان أمراً غير ممكن عملياً، وقالوا أن الملايين من الإنجليز البالغين ظلوا قروناً يقبلون في ولاء أن يفرض البرلمان الضرائب عليهم رغم أنهم لم يكن لهم صوت في انتخابه، وقد أحسوا بما ينبغي أن يحس به الأمريكيون-وهم أنهم ممثلون فعلاً في البرلمان، لأن أعضاءه يعدون أنفسهم ممثلين للإمبراطورية البريطانية كلها.
غير أن المستعمرين لم يقتنعوا. وإذا كان البرلمان قد احتفظ بسلطة فرض الضرائب مرتكزاً للهيمنة على الملك فإن المستعمرات دافعت عن حقها دون سواها في فرض الضرائب على ذواتها بديلاً وحيداً للظلم المالي يقع عليهم من رجال لم يروهم قط ولا وطئت أقدامهم قط التراب الأمريكي. وتهرب المحامون من شرط استعمال الوثائق المدموغة، ووضعت بعض الصحف صورة جمجمة ميت في المكان الذي يفترض أن تظهر عليه الدمغة، وبدأ الأمريكيون يقاطعون البضائع البريطانية، وألغى التجار طلباتهم من المنتجات البريطانية. ورفض بعضهم سداد ديونهم لإنجلترا حتى يلغى قانون الدمغة(102). وأخذت عذارى المستعمرات العهد على أنفسهن بألا يقبلن خطايا لا ينددون بقانون الدمغة(103). واشتد سخط الشعب حتى بلغ إثارة الشغب في عدة مدن؛ ففي نيورك شنقت دمية تمثل الحاكم (وهو معين من قبل الملك)، وفي بوسطن أحرق بيت مساعد الحاكم، توماس هتشنسن، وأكره موزعو الدمغة على الاستقالة من وظائفهم تحت التهديد بشنقهم. وشعر التجار البريطانيون بوقع المقاطعة، فطالبوا بإلغاء القانون. وأرسلت الالتماسات إلى الحكومة من لندن وبرستل ولفربول وغيرها من المدن، مقررة أن كثيرين من رجال الصناعة الإنجليز سيفلسون إن لم يلغ القانون، وكان الآلاف من العمال قد طردوا فعلاً للافتقار إلى الطلبات من أمريكا. وربما كان من قبيل الإقرار بهذه الالتماسات أن يعود بت بعد مرض طويل إلى البرلمان عودة درامية ويصرح قائلاً (14 يناير 1766) "رأيي أن هذه المملكة لا حق لها في فرض ضريبة على المستعمرات". وقد سخر من "الفكرة التي تزعم أن المستعمرات ممثلاً فعلاً في المجلس" فلما قاطع جورج جرنفل زاعماً أنه يلمح بتشجيع الفتنة رد بت في تحد قائلاً "إني مغتبط لأن أمريكا قد قامت"(104).
وفي 18 مارس أقنع اللورد روكنجهام البرلمان بإلغاء ضريبة الدمغة. ورغبة في استرضاء "أصدقاء الملك" أضاف إلى الإلغاء "قانوناً له صفة الإعلان" يؤكد من جديد سلطة الملك في أن يضع بموافقة البرلمان قوانين ملزمة للمستعمرات، وسلطة البرلمان في فرض الضرائب على المستعمرات البريطانية. وقبل الأمريكيون الإلغاء، وتجاهلوا قانون الإعلان. وأصبحت المصالحة الآن ممكنة. ولكن في يوليو سقطت وزارة روكنجهام، وفي وزارة جرافتن التي تلتها جدد تشارلز تاونسهند، وزير المالية، محاولة إلزام المستعمرات بدفع نفقات القوات الإدارية والحربية اللازمة لحمايتها من اختلال النظام في داخلها أو الهجوم عليها من الخارج. ففي 13 مايو 1767 اقترح على البرلمان فرض رسوم جديدة على الزجاج والرصاص والورق والشاي، الذي تستورده أمريكا، على أن يستخدم الملك حصيلة هذه الرسوم في دفع رواتب الحكام والقضاة الذين يعينهم لأمريكا، فإذا كان هناك فائض وجه للإنفاق على الجنود البريطانيين هناك. ووافق البرلمان. ومات تاونسهند بعدها بشهور.
وقاوم الأمريكيون الرسوم الجديدة باعتبارها ضرائب مقنعة. وكانوا يتحكمون في جنود الملك وحكامه بجعلهم معتمدين إلى حد كبير في إعالتهم على الأموال التي توافق عليها مجالس المستعمرات، فتسليم قوة المال هذه للملك معناه تسلم إدارة الحكومة الأمريكية للسلطة الملكية، وأجمعت المجالس على الحض على مقاطعة البضائع البريطانية من جديد، ولقيت الجهود المبذولة لجمع الرسوم الجديدة مقاومة عنيفة، وحاول اللورد نورث حلاً وسطاً بإلغاء جميع الرسوم التي فرضها تاونسهند فيما عدا رسماً على الشاي قدره ثلاث بنسات على الرطل، وأرخى المستعمرون مقاطعتهم، ولكنهم صمموا على ألا يشربوا من الشاي إلا المهرب. فلما حاولت ثلاثة سفن تملكها شركة الهند الشرقية تفريغ 289 صندوقاً من الشاي في بوسطن، صعد إلى السفن خمسون مستعمراً حانقاً متنكرين في زي هنود الموهوك، وتغلبوا على مقاومة ملاحيها، وأفرغوا شحنتها في البحر (16 ديسمبر 1773). وعطلت حوادث الشغب في ثغور أمريكية أخرى المزيد من الجهود لتفريغ شاي الشركة.
وبقية القصة أكثر يخص أمريكا، ولكن الدور الذي لعبه فيها ساسة بريطانيا وخطباؤها وكتابها ورأيها العام هو عنصر حيوي في تاريخ إنجلترا وكما أن أقلية كبيرة نشيطة في أمريكا طالبت بالولاء للوطن الأم ولحكومته، فإن أقلية في إنجلترا يمثلها في البرلمان شاتام، وبيرك، وفوكس، وهوراس ولبول، وولكس، ناضلت لإقرار سلام بشروط في مصلحة أمريكا، بينما كان الجمهور عموماً يؤيد الإجراءات الحربية التي اتخذتها وزارة اللورد نورث. ورأى البعض في انقسام الرأي العام الإنجليزي على هذا النحو إحياء للمعارضة التي قامت بين الملكيين والبرلمانيين في 1642. وناصرت الكنيسة الإنجليزية الحرب ضد المستعمرين مناصرة كاملة، وكذلك المثوديون سيراً وراء زعيمهم ويسلي، ولكن كثيراً من المنشقين غير هؤلاء أسفوا على هذا الصراع لأنهم تذكرواأن أغلبية من المستعمرين تحدرت من جماعات منشقة. ووافق جبون جونسون على إدانة المستعمرات، ولكن ديفد هيوم حذر بريطانيا وهو على وشك الموت من أن محاولة إكراه أمريكا ستفضي إلى كارثة(105)أما أصحاب المصالح التجارية فقد مالوا إلى تأييد الملك لأن طلبات الحرب تجلب لهم الأرزاق. وقال بيرك في حزن أن الحرب "قد أصبحت بديلاً للتجارة حقاً... والطلبات الضخمة على الإمدادات والبضائع من كل نوع... ترفع معنوية عالم التجارة، وتغري التجار بألا يروا في الحرب الأمريكية نكبتهم بقدر ما هي موارد ثرائهم"(106). وخشي الأحرار أن تقوي الحرب المحافظين على حزبهم، والملك على البرلمان، وفكر أحد الأحرار وهو دوق رتشموند في الرحيل إلى فرنسا قرارا من الاستبداد الملكي(107)وكان في مسلك جورج الثالث ما يبرر مثل هذه المخاوف بعض التبرير. فقد اضطلع بمهمة الحرب كاملة، حتى بتفاصيلها الحربية، وأطاع اللورد نورث والوزراء الآخرون قيادة الملك وإن ناقض هذا رأيهم الخاص في حالات كثيرة، وأحس الملك أنه لو نجح الأمريكيون لواجهت لإنجلترا الثورة في مستعمرات أخرى، ولانحصرت آخر الأمر في جزيرتها، على أن اللورد شاتام حذر البرلمان من أن قمع أمريكا سيكون انتصاراً لمبادئ تشارلز الأول وجيمس الثاني. وفي 20 نوفمبر 1777، بعد أن عانت الجيوش البريطانية هزائم كثيرة في امريكا، وكانت فرنسا تعين المستعمرات بالمال، استمع شاتام وهو القادم إلى مجلس اللوردات كأنما من القبر إلى "خطاب العرش" الوزاري بضيق متعاظم، وقام ليلقي خطاباً يعد من أروع ما سجلته البلاغة البريطانية من خطب، ففيه اجتمع التاريخ والأدب. قال:
"إنني يا سادتي اللوردات أقف لأعرب عن مشاعري عن هذا الموضوع البالغ الجد والحظر.. فلست أستطيع الموافقة على خطاب أعمى ذليل يوافق ويحاول أن يكرس الإجراءات الرهيبة التي هالت فوقنا العار والخطوب-والتي جلبت الخراب إلى أبوابنا.. هذه أيها السادة لحظة خطرة هائلة! ليس الوقت وقت تزلف.. فلطف التزلف لا يجدي الآن... ومن الضروري الآن إعلام العرش بلغة الصدق.. هذا أيها السادة واجبنا، أنه الوظيفة الأصلية لهذا الاجتماع النبيل، المعتمد في انعقاده على سمعتنا بالأمانة والوفاء بالوعود في هذا البرلمان، وهو المجلس الوراثي للتاج. فمن هو الوزير-وأين هو الوزير-الذي جرؤ على أن يقترح على العرش تلك اللغة العنيدة، غير الدستورية التي ألقيت اليوم منه؟ إن اللغة التي اعتدناها من العرش هي طلب المشورة من البرلمان... أما اليوم، وفي هذا الطارئ البالغ الخطورة. فإنه لم توضع ثقة في مشورتنا الدستورية، ولم تطلب نصيحة من عناية البرلمان الرصينة المستنيرة، ولكن التاج، من ذاته ووحده، يعلن تصميماً باتاً على مواصلة إجراءات... مملاة ومفروضة علينا... جلبت الخراب والاحتقار على هذه الإمبراطورية التي كانت بالأمس مزدهرة بالأمس فقط، كان في استطاعة إنجلترا أن تثبت أمام العالم كله، أما الآن فليس هناك أحد بلغ من المسكنة ما يغريه بتقديم الاحترام لها..."
"أيها السادة، أنكم لا تستطيعوا قهر أمريكا.. قد تزدادون غلواً في بذل النفقة والجهد المفرطين، وقد تجمعون وتكومون كل ما تستطيعون شراءه أو اقتراضه من معونة، وقد تتاجرون وتقايضون مع كل ملك ألماني حقير ضئيل يبيع رعاياه ويرسلهم إلى الذبح..، قد تفعلون هذا كله، ولكن جهودكم تظل إلى الأبد باطلة عاجزة-ويضاعف من بطلانها وعجزها هذا العون المرتزق الذي تعتمدون عليه، لأنه يهيج عقول أعدائكم إلى حد الكراهية التي لا شفاء منها. ولو كنت أمريكياً، كما أنا إنجليزي، ورأيت جندياً أجنبياً يرسي في أرض وطني، لما وضعت سلاحي-أبداً-أبداً-أبداً-أبداً!(108).
أما بيرك فقد سخرّ كل ملكات جد له في محاولة ثني البرلمان والوزارة بحد سياسة القوة ضد أميركا. وقد مثل من 1774 إلى 1780 في البرلمان مدينة برستل التي عارض تجارها الحرب مع أمريكا أول الأمر(109)، كذلك كان في هذه الفترة وكيلاً براتب لولاية نيويورك(110). ولم ينكر حق البرلمان في فرض الضرائب على المستعمرات كما أنكره شاتام، ولم يؤيد لجوء المستعمرين إلى نظريات تجريدية في "الحق الطبيعي". ولكنه نزل بالمسألة إلى حيث يستطيع الرجال العمليون أن يفهموه: فهل فرض الضرائب على أمريكا ممكن عملياً؟ وفي خطابه عن الضرائب الأمريكية (19 أبريل 1774) لم يكتف بإدانة قوانين تاونسنهند بل أدان أيضاً ضريبة البنسات الثلاثة على الشاي، وحذر من أن إضافة ضرائب على القيود الصناعية والتجارية المفروضة فعلاً على أمريكا ستحمل المستعمرين على المضي في ثورة من شأنها أن تمزق الإمبراطورية البريطانية الوليدة وتلوث سمعة البرلمان.
فلما هزم في هذه القضية جدد في 22 مارس 1775 طلب المصالحة. وقال إن التجارة مع أمريكا قد تضاعفت عشر مرات بين عامي 1704 و1772(111)-ثم تساءل أمن الحكمة تمزيق تلك التجارة وربما التضحية بها بالحرب؟ وقال أنه يخشى أن الحرب مع المستعمرين ستترك إنجلترا ومعرضه للهجوم من عدو أجنبي، وهو ما حدث في 1778. ووافق على أن تمثيل الأمريكيين في البرلمان جعله أمراً غير ممكن عملياً، ولكنه اكتفى بأن يطلب بالا تعتمد إنجلترا على الضرائب بل على المنح الاختيارية من مجالس المستعمرات، وقد تزيد هذه المنح على حصيلة الضرائب المباشرة بعد خصم نفقات جمعها بالقوة(112).
على اقتراحه هذا رفض بأغلبية 270 ضد 78، ولكن كان عزاء له أن يكسب لقضيته بلاغة وحذق تشارلز جيمس فوكس، وهكذا بدأت صداقة وثقت عراها الثورة الأمريكية وفصمتها الثورة الفرنسية. وقد وصف جيون خطاب فوكس الذي ألقاه في 31 أكتوبر 1776 بأنه أقدر ما ألقاه في حياته من خطب، وذهب هوراس ولبول إلى أنه "من أروع خطب فوكس وأشدها حيوية"(113)وقد وقف ولبول في صف دعاة المصالحة، ورثى لانهيار الحنكة السياسية البريطانية في ظل حكومة اللورد نورث، وفي 11 سبتمبر 1775 كتب إلى هوراس مان يقول: "تقرر أن يجتمع البرلمان في العشرين من الشهر القادم ويصوت على إرسال 26.000 بحار. فياله من قرار دموي! ليت شعري بأي صنوف العذاب لا بد من صيانة الحرية في أمريكا! وفي إنجلترا ما الذي يستطيع إنقاذ الحرية؟ إيه إنجلترا المجنونة، المجنونة! أي جنون أن تنبذ كنوزها، وتضيع ثروتها الطائلة، وتضحي بحريتها، ليكون ملكها الحاكم المطلق لصحاري لا نهاية لها في أمريكا، وجزيرة في أوربا مفتقرة إلى المال، منزوحة السكان، ومن ثم فاقدة الأهمية!"(114).
على أن الذي أقنع الشعب الإنجليزي، ثم حكومته، بأفكار السلام لم تكن حماسة شاتام ولا بيرك ولا فوكس، بل انتصارات المستعمرات وتحركاتها الدبلوماسية. وكان استسلام بورجوين في ساراتاجوا (17 أكتوبر 1777) نقطة التحول، ولأول مرة قدرت إنجلترا تحذير شاتام "لن تستطيعوا قهر أمريكا" فلما اعترفت فرنسا بـ "ولايات أمريكا المتحدة" وانضمت إلى الحرب ضد إنجلترا (6 فبراير 1778) أيد رأي الساسة الفرنسيين رأي شاتام، وأضف ثقل الأسلحة الفرنسية والبحرية الفرنسية المجددة إلى العبء الملقى على كاهل الأمة البريطانية بل أن اللورد نورث ذاته تخاذل، ورجا الأذن له بالإستقالة، ولكن الملك الذي أغرقه بهباته أمره بالبقاء في منصبه.
وشعر الكثيرون من الإنجليز البارزين أنه لن يستطيع إقناع المستعمرات بالعدول عن تحالفها مع فرنسا إلى الإتحاد مع إنجلترا ثانية إلا حكومة يتزعمها ايرل شاتام. ولكن جورج أبى أن يستمع لهذا الرأي. فقد قال لنورث "أني أصرح تصريحاً قاطعاً بأنه ما من شيء يحملني على التعامل شخصياً مع اللورد شاتام"(115)وجاء الأيرل إلى مجلس اللوردات لآخر مرة في 7 أبريل 1778 مستنداً إلى عكازين وابنه وليم، وقد اكفهر وجهه إيذاناً بدنو منيته، وضعف صوته حتى لم يكد يسمع. وعاد ينصح بالمصالحة، ولكنه عارض "تقطيع أوصال هذه الملكية العريقة النبيلة جداً" بمنح الاستقلال لأمريكا(116)ورد الدوق رتشموند بأن هذا المنح وحده هو السبيل إلى رد أمريكا عن حلفها مع فرنسا. وحاول شاتام أن ينهض ويتكلم ثانية، ولكنه سقط مصاباً بنوبة فالج، ومات في 11 مايو 1778 وقرر البرلمان أن يشيع في جنازة عامة وأن يقام قبر ونصب في كنيسة وستمنستر. ولقد كان بإجماع الناس أعظم الإنجليز في جيله. وتلاحق الأحداث لتكمل الكارثة التي تنبأ بها. ففي يونيو 1779 انضمت أسبانيا إلى فرنسا في الحرب ضد إنجلترا؛ وحاصرت جبل طارق وأرسلت أسطولها ليشارك في الهجوم على السفن البريطانية. وفي أغسطس دخل أسطول صغير مشترك قوامه سفن فرنسية وأسبانية القنال الإنجليزي؛ واتخذت إنجلترا أهبتها فيما يشبه الحمى لمقاومة الغزو، غير أن المرض أعجز أسطول العدو وأكرهه على الالتجاء إلى برست. وفي مارس 1780 اتحدت روسيا والدنمرك والسويد في إعلان بالحياد المسلح "أقسم على المقاومة ما درجت عليه إنجلترا من اعتلاء ظهور السفن المحايدة بحثاً عن بضائع العدو، ولم تلبث دول محايدة أخرى أن وقعت الإعلان. واستمر تفتيش الإنجليز للسفن الهولندية، وقد وجد الدليل على اتفاقات سرية بين مدينة أمستردام ومفاوض أمريكي. وطالبت إنجلترا بمعاقبة موظفي أمستردام ولكن الحكومة الهولندية رفضت، فأعلنت عليها إنجلترا الحرب (ديسمبر 1780). وأصبحت الآن كل دول البلطي والأطلنطي تقريباً متحالفة على إنجلترا التي كانت بالأمس متسلطة على جميع البحار.
وعكس مراج البرلمان تكاثر الكوارث. وتصاعد الاستياء من إحباط الملك لرغبة وزيره في إنهاء الحرب. ففي 6 أبريل 1780 كان جون دننج قد قدم لمجلس العموم اقتراحاً يعلن "أن نفوذ التاج ازداد، وهو في ازدياد، وينبغي الحد منه"، ووافق المجلس على الاقتراح بأغلبية 233 صوتاً ضد 215. وفي 23 يناير 1781 اتخذ بت الابن كرسيه في المجلس، وفي خطابه الثاني ندد بالحرب مع أمريكا ناعتاً إياها بأنها "جد ملعونة، شريرة، همجية، قاسية، منافية للطبيعة، ظالمة، شيطانية"(117). ورحب فوكس مبتهجاً ببت في صفوف المعارضة، غير متوقع أن هذا الفتى سيكون عما قليل أقوى أعدائه.
وفي 19 أكتوبر 1781 استسلم اللورد كورنواليس لواشنطن في يوركتاون. وصاح اللورد نورث "رباه، لقد انتهى كل شيء!" ولكن الملك أصر على مواصلة الحرب. وفي فبراير ومارس 1782 جاءت الأنباء بأن الأسبان استولوا على منورقة، والفرنسيين على عدد من جزر الهند الغربية. وارتفعت الأصوات الغاضبة في الاجتماعات العامة التي انعقدت في طول إنجلترا وعرضها مطالبة بالسلام. وهبطت أغلبية نورث في مجلس العموم إلى اثنين وعشرين، ثم إلى تسعة عشر، ثم إلى واحد-في التصويت على اقتراح "بأن المجلس لا يستطيع بعد الآن وضع ثقته في الوزراء الحاليين" (15 مارس 1782)، ووضع هذا سابقة تاريخية لطريقة البرلمان في الالزام بتغيير الوزارة. وفي 18 مارس كتب نورث إلى جورج الثالث رسالة أنبأه فيها في الواقع أن السياسة الملكية نحو أمريكا، ومحاولة توطيد سيادة الملك على البرلمان، كليهما قد فشل.
"إن جلالتكم على بينة من أن الملك الجالس على عرش هذا البلد لا يستطيع إن كان حصيفاً لأن يعارض القرار المدروس الذي يستقر عليه مجلس العموم... لقد أعرب أعضاء البرلمان عن مشاعرهم، ومشاعرهم-صائبة كانت أم مخطئة-لا بد في النهاية أن تكون لها الغلبة. إن جلالتكم. لن تفقدوا أي كرامة لو سلمتم"(118).
وفي 20 مارس 1782، بعد اثنتي عشر سنة من الخدمة الصابرة والخضوع، استقال اللورد نورث. وكتب جورج الثالث الذي تحطمت روحه خطاب اعتزال ولكنه لم يرسله. وقبل وزارة من الأحرار المنتصرين: روكنجهام، وإيرل شلبيرن، وتشارلز جيمس فوكس، وبيرك، وشريدان. ولما مات روكنجهام (أول يوليو) خلفه شلبيرن وزيراً للخزانة. واستقال فوكس وبيرك وشريدان الذين كانوا يكرهون شلبيرن. وشرع شلبيرن في الترتيبات اللازمة لإبرام معاهدة صلح (باريس، 30 نوفمبر 1782، باريس وفرساي 20 يناير و3 سبتمبر 1783) نزلت إنجلترا بمقتضاها عن منورقة وفلوريدا لأسبانيا، وعن السنغال لفرنسا، ولم تقتصر على الاعتراف باستقلال المستعمرات الأمريكية بل بحقها في جميع الأراضي الواقعة بين الأليجني وفلوريدا والمسسبي والبحيرات العظمى.
وكان الشعب الإنجليزي تواقاً للسلام، ولكن ساءه النزول عن هذه الأقاليم الكثير للمستعمرات، وبلغ النقد الموجه لشلبيرن من المرارة حداً حمله على تقديم استقالته (24 فبراير 1783) ولما كان الشقاق بين شلبيرن وفوكس قد قسم حزب الأحرار إلى شيع لم يكن لإحداها من القوة ما يتيح لها الهيمنة على البرلمان، فقد وافق فوكس على تشكيل وزارة ائتلاف مع عدوه القديم اللورد نورث. وأصبح بيرك صيرفياً للقوات المسلحة ثانية. أما شريدان الذي لم يفق من ديونه قط فقد عين وزيراً للخزانة. وكان فوكس وبيرك يفحصان منذ فترة مسلك الإنجليز في الهند، واحتمل ذلك البلد الآن محل أمريكا بوصفه أشد المشاكل إلحاحاً في السياسة البريطانية.
إنجلترا والهند
كانت شركة الهند الشرقية البريطانية قد أعيد تنظيمها في 1709 باسم الشركة المتحدة لتجار إنجلترا المتجرة مع الهند الشرقية". وقد خولهما المرسوم الذي حصلت عليه من الحكومة البريطانية احتكار التجارة البريطانية مع الهند. وكان يدير شئونها رئيس وأربعة وعشرون مديراً ينتخبهم سنوياً "مجلس الملاك" لكل مساهم فيه بخمسمائة جنيه أو أكثر من صوت واحد. وقد أصبحت الشركة في الهند منظمة حربية كما كانت منظمة تجارية، وقاتلت الجيوش الهولندية والفرنسية والوطنية للظفر بنصيب من إمبراطورية المغول المتهاوية، وفي حرب من هذه الحروب استولى سراج الدولة، حاكم البنغال، على كلكتا من الشركة، وحبس 146 أوربياً في "جحر كلكتا الأسود"-وهو حجرة طولها ثمانية عشر وعرضها أربعة عشر قدماً، ليس فيها غير طاقتين صغيرتين، ومات من السجناء 123 أثناء الليل (20-21 يونيو 1756) من الحر أو الاختناق.
وقاد روبرت كلايف حاكم قلعة سانت ديفيد قوة صغيرة لاسترداد كلكتا للشركة وشارك في المؤامرة التي دبرها مير جعفر، وهو نبيل في بلاط سراج الدولة، للإطاحة بهذا الحاكم، ثم استطاع بتسعمائة أوربي و2.300 جندي من الوطنيين أن يهوم خمسين ألف مقاتل في بلاسي (23 يونيو 1757) وأعدم سراج الدولة، وعين مير جعفر مكانه حاكماً على البنغال. ودخل كلايف العاصمة مرشداباب دخول الفاتحين، وبدت له مدينة لا تقل عن لندن حجماً وربما أكثر منها ثراء. ورأى في خزانة الحاكم أكداساً لا تصدق من الروبيات والجواهر والذهب والفضة وغيرها من الذخائر. فلما طلب إليه أن يحدد مكافآته عن تنصيب جعفر حاكماً، طلب 160.000 جنيه لنفسه، 50.000 لجيشه وبحريته، 24.000 جنيه لكل عضو من أعضاء مجلس إدارة الشركة، و1.000.000 جنيه تعويضاً عن الخسائر التي لحقت بأملاك الشركة في كلكتا. وهذه هي المناسبة التي أشار إليها كلايت حين أنبأ مجلس العموم أن يعجب من اعتداله(119). وقد تلقى من مير جعفر هدايا جملة قيمتها 200.000 جنيه(120) واعترف به حاكماً بريطانياً للبنغال.
أما الشركة فقد اعترف بها مالكة مطلقة لمساحة حول كلكتا مقدارها 882 ميلاً مربعاً نظير دفع إيجار سنوي قدره 27.000 جنيه لمير جعفر. وفي 1759 وافق مير جعفر على أن يحوّل لكلايف كل عام الإيجار المدفوع من الشركة لقاء العون الذي قدمه له في إخماد فتنة. فلما أمنت الشركة شر المنافسة، راحت تستغل الرعايا الخاضعين لحكمها في غير شفقة واستعانت بأسلحتها المتفوقة لتكره الحكام الهنود على دفع ثمن باهظ لقاء الحماية البريطانية. وإذ كان كبار موظفيها بمنأى عن إشراف الحكومة البريطانية، وبمأمن من حصين من الوصايا العشر شرقي السويس فقد حققوا أرباحاً ضخمة من التجارة، وعادوا إلى إنجلترا سراة في وسع الرجل منهم أن يشتري "دائرة جيب" أو عضواً في البرلمان دون أن تضار ثروته ضرراً بالغاً.
وعاد كلايف إلى إنجلترا في 1760 وقد بلغ الخامسة والثلاثين متوقعاً أن ينعم فيها بالشهرة والثراء "فاشترى من الدوائر الانتخابية ما يكفي للسيطرة على جبهة في مجلس العموم، وانتخب هو نفسه نائباً عن شروزبري. غير أن بعض مديري شركة الهند الشرقية الذين شعروا أنه سرق فوق ما تبرره سنه، اتهموه باستخدام وثائق مزورة في تعامله مع سراج الدولة، ومير جعفر. غير أن نبأ وصل إلى لندن بأن الثورات الوطنية، وفساد الموظفين وارتشاءهم، وعجز الإدارة-كلها تهدد مركز الشركة في الهند، فأعيد كلايف على عجل إلى كلكتا (1765) حاكماً للبنغال. وهناك كافح لوقف الفساد بين مساعديه، والتمرد بين جنده، وانتفاضات الحكام الوطنيين المتكررة على الشركة. وفي 12 أغسطس 1765 أقنع شاه علم المغولي بأن يعطي الشركة الإشراف المالي المطلق على ولايات البنغال، وبهار، وأوريسا، التي تضم من السكان ثلاثين مليوناً وتغل إيراداً سنوياً قدره 4.000.000 جنيه. وهذا، بالإضافة إلى انتصار كلايف في بلاسي، خلق الإمبراطورية البريطانية في الهند.
وبعد أن تحطمت صحة كلايف من جراء نضال امتد عامين، عاد إلى إنجلترا في يناير 1767. وتجدد هجوم بعض مديري الشركة عليه، وأيد الهجوم موظفون كان قد كبح محاولات ابتزازهم للمال. ثم شارك نبأ مجاعة كبرى في الهند، وهجمات الوطنيين على معاقل الشركة، في إحداث ذعر مني من جرائه نفر من أقطاب الإنجليز بخسائر فادحة. وفي 1772 فحصت لجنتان برلمانيتان شئون الهند، فأماطتا اللثام عن ضروب من الابتزاز والقسوة جعلت هوراس ولبول يصيح: "لقد فقدنا الأسبان في بيرو! لقد قتلنا، وخلعنا الحكام، ونهبنا؛ واغتصبنا.. أجل، فما قولكم في مجاعة البنغال التي هلك فيها ثلاثة ملايين من الأنفس وسببها احتكار موظفي شركة الهند الشرقية للمؤن؟"(121) وفي 1773 طالبت إحدى لجنتي الفحص كلايف بأن يفسر لمجلس العموم الطرق التي استخدمها والمكاسب التي حققها في الهند. فسلم لهم بجميع الوقائع تقريباً، وكان دفاعه عنها أن العادات المحلية وضرورات الموقف بررتها، ثم أضاف أن على الأعضاء حين يجيئون ليدينوا شرفه ألا ينسوا شرفهم. وصوت المجلس بأغلبية 155 ضد 95 بأنه تلقى 234.000 جنيه خلال إدارته الأولى للبنغال، ولكنه "في الوقت نفسه أدى لوطنه في الواقع خدمات جليلة جديرة بالثناء"(122)وبعد عام انتحر كلايف غير متجاوز التاسعة والأربعين (22 نوفمبر 1774):
وفي 1773 استصدر اللورد نورث من البرلمان قانوناً تنظيمياً أقرض الشركة سلفة مقدارها 1.400.000 جنيه لينقذها (هي ومساهميها من النواب) من الإفلاس، وأخضع جميع الأقاليم التي تحكمها الشركة في الهند لرآسة البنغال على أن تكون هي بدورها مسئولة أمام الحكومة البريطانية وعين وارن هيستنجز حاكماً على البنغال.
وكان قد ارتقى إلى منصبه هذا من أصول متواضعة. فقد ماتت أمه وهي تلده، وانطلق أبوه إلى حياة المغامرة ثم الموت في جزر الهند الغربية. وأرسل أحد أعمامه الغلام إلى مدرسة وستمنستر، ولكن العم مات في 1749، وأبحر وارن وهو في السابعة عشرة طلباً للثراء في الهند. وتطوع في الخدمة العسكرية تحت قيادة كلايف، وشارك في استرداد كلكتا، وأبدى اجتهاداً وكفاية في الإدارة، فعين في المجلس الذي يدير شئون الشركة في البنغال. وفي 1764 عاد إلى إنجلترا. وبعد أربعة أعوام أقنعه المديرون بالانضمام إلى مجلس مدراس. وفي طريقه إلى الهند التقى بالبارون إيمهوف وزوجته ماريون التي أصبحت خليلة هيستنجر ثم زوجته. وقد أبلى في مدراس، وفي 1774 بدأ حكمه المضطرب والياً على البنغال.
وعكف على عمله بهمة، ولكن أساليبه كان دكتاتورية، وكان في بعض تصرفاته ما أتاح للسر فيليب فرانسيس مادة لتوجيه الهجمات إليه في مجلس البنغال، كما وجهها بيرك بعد ذلك في البرلمان. ذلك أنه حين أعادت قبائل المراتا المشاه علم إلى عرش المغول في دلهي فحول إليهم ملكية الأقاليم التي خصصها له كلايف من قبل في كورا والله آباد، باع هيستنجز هذه الأقاليم إلى حاكم أود، لقاء خمسين لك من الروبيات (20.000.000 دولار؟) وكلف جنود الشركة بمساعدة الحاكم في استعادة الإقليم. وسمح له بالاستعانة بجنود الشركة في غزو وتملك إقليم روهلخند، الذي كان حاكمه مديناً له (على حد قول هذا)، وتسلمت الشركة مبلغاً كبيراً لقاء استخدام هؤلاء الجنود. وكان في تصرف هيستنجز خرق واضح للأوامر الصادرة إليه من مديري الشركة(123)، ولكن هؤلاء المديرين كانوا يقدرون أي حاكم بمقدار المال الذي يبعث به إلى إنجلترا.
واتهم موظف هندي يدعى ننكومار هيستنجز بقبوله الرشوة، وصدق فرانسيس وغيره من أعضاء المجلس التهمة، وادعوا أنه "ما من ضرب من ضروب الاختلاس رأى الحاكم المحترم أن من المعقول الامتناع عنه"(124). وقبض على ننكومار بتهمة التزوير، وأدين، وأعدم (1775). واشتبه في أن هيستنجز قد استخدم نفوذه في التأثير على قاضي القضاة السير ايليا ايمبي (وكان زميلاً له في الدراسة في ونشستر) ليوقع على المتهم عقوبة صارمة على نحو غير مألوف. وفي 1780 رقي هيستنجز ايمبي إلى وظيفة إضافية تغل له 6.500 جنيه في العام. وقد أفضى تراشق هيستنجز وفرانسيس بالتهم إلى مبارزة جرح فيها فرانسيس جرحاً خطيراً.
ثم رأى حيدر علي، مهراجا ميسور، في الخلافات بين هيستنجز ومجلسه فرصة لطرد الشركة من الهند. فهاجم حصون الشركة بدعم من الفرنسيين، وأحرز بعض الانتصارات المنذرة بالخطر (1780). فأرسل هيستنجز الجند والمال من البنغال لمقاومته، ومات حيدر على (1782) ولكن ابنه تيو صاحب واصل الحرب حتى انهزم نهائياً في 1792. ولعل رغبة هيستنجز في تمويل هذه الحملات هي التي ألجأته إلى حيل لجمع المال أفضت إلى اتهامه. ذلك أنه طالب شايت سنغ، راجا بنارس، بإعانة حرب تضاف إلى الدخل الذي كان ذلك الإقليم يدفعه للشركة سنوياً. واعتذر الراجا بعجزه عن الاستجابة. فقاد هيستنجز قوة صغيرة إلى بنارس (1781)، وخلع سنغ واقتضى مثلي الدخل من خلفه. ثم إن حاكم أوده المتراخي في سداد ما فرضته عليه الشركة، أوضح أن في استطاعته السداد إذا ساعدته الشركة على إلزامه أمه وجدته، بيحومي (أميرتي) أوده، بتسليمه بعض التركة التي خلفها لهما أبوه وقدرها 2.000.000 جنيه. وكانت أمه قد سلمته من قبل مبلغاً كبيراً بعد أن تعهد بألا يطلب المزيد، وبذلت الشركة مثل هذا التعهد رغم اعتراض هيستنجز. ونصح هيستنجز الحاكم بتجاهل التعهد وأرسل جنود إلى الشركة إلى فيظبار، وأكره خدام الأميرتين الأغوات بالتعذيب على تسليم الثروة (1781)، فدفع الحاكم منها ديونه للشركة.(125)
وعاد السر فيليب فرانسيس أثناء ذلك إلى إنجلترا بعد أن شفي من جراحه (1781)، وشرح للمديرين ولأصدقائه في البرلمان ما اعتبره من الجرائم التي اقترفها هيستنجز. وفي 1782 وجه مجلس العموم اللوم إلى هيستنجز وغيره من وكلاء الشركة لأنهم "في حالات عديدة تصرفوا بطريقة بغيضة مجافية لشرف الأمة وسياستها"، ثم أمر المديرين باستدعائهم وأصدر المديرون الأمر، ولكن مجلس المؤسسين أبطله، ربما لأن ثورة ميسوره كانت مستمرة.
وفي نوفمبر 1783 قدم تشارلز جيمس فوكس للبرلمان، بوصفه وزير دولة للشئون الخارجية في الوزارة الائتلافية، "مشروع قانون لإصلاح الهند "لو ووفق عليه لوضع شركة الهند الشرقية تحت هيمنة مندوبين تعينهم الوزارة. وعلت شكوى النقاد بأن القانون سيتيح للأعضاء الأحرار (الهويجز) أمثال فوكس وبيرك معيناً من الغنائم تأتيهم بها هذه الرعاية. ومر القانون من مجلس العموم، ولكن الملك أرسل إلى مجلس اللوردات يقول أنه سيعد أي رجل يصوت للمشروع عدواً له، فصوتوا ضده بأغلبية 95 إلى 76. وأودع نواب العموم احتجاجاً رسمياً يقرر أن هذا التدخل الملكي في التشريع عدوان صارخ على حق أعضاء البرلمان. وأقال الملك الوزارة الائتلافية (18 ديسمبر 1783) مدعياً أنها فقدت ثقة البرلمان، ودعا وليم بت، الذي كان في الرابعة والعشرين، لتأليف حكومة جديدة. وحل جورج الثالث البرلمان معتقداً أن في استطاعته الفوز في انتخاب قومي (23 مارس 1784) وأمر عملاءه ببث الرغبات والعطايا الملكية بين الناخبين ضماناً لعودة أغلبية محافظة. وجاء البرلمان الذي التأم شمله في 18 مايو مؤيداً لبت والملك تأييداً ساحقاً.
كان بت نابغة في الحكم والإدارة السياسيين وقد حقق له تفانيه البالغ في أداء الواجب، وإلمامه المفصل بدقائق الأمور، وما عود نفسه عليه من التأمل الدقيق والحكم الحذر، تفوقا سرعان ما سلم به كل زملائه الوزراء تقريباً. وأصبح لإنجلترا الآن لأول مرة "رئيس" وزراء بعد روبرت ولبول (الذي كان ابنه قد أطلق عليه هذا اللقب في 1773)(126)، لأن زملاء بت لم يكونوا يتخذون أي إجراء هام دون موافقته. والواقع أنه انشأ "حكومة مجلس الوزراء"-ومؤداها المداولة الجماعية والمسئولية الموحدة لكبار الوزراء تحت رياسة واحدة. ومع أن بت تقلد المنصب مؤيداً للسلطة الملكية، إلا أن جده واجتهاده، وسعة معلوماته رفعته شيئاً فشيئاً إلى مكان كان فيه مرشداً للملك أكثر منه تابعاً. وبعد نوبة الجنون الثانية التي أصابت الملك (1788) كان بت هو الذي حكم إنجلترا فعلاً.
وقد مكنه إلمامه غير العادي بالتجارة والمال من إصلاح خزانة أبهظها خوض حربين ضروسين في جيل واحد إبهاضاً خطراً. وكان بت قد قرأ آدم سمث، ثم استمع إلى التجار ورجال الصناعة، فخفض الرسوم على الواردات، وعقد بعد المفاوضة مع فرنسا معاهدة تنص على خفض التعريفات الجمركية (1786)، وشرح صدر أقطاب الصناعة بتصريحه بأن الصناعيين ينبغي أن يكونوا عموماً معفين من الضرائب ثم عوض عن هذا بفرض الضرائب على الاستهلاك على الأوشحة والشاش والقفازات والقبعات والشموع والأرائك والملح والنبيذ والآجر والقرميد والورق والشبابيك، وقد لجأت بيوت كثيرة إلى تكسية بعض نوافذها بالخشب خفضاً للضريبة(127). فما وافى عام 1788 حتى ووزنت الميزانية، ونجت إنجلترا من الإفلاس الحكومي الذي كان مفضياً بفرنسا إلى الثورة. وكان بت قبل الانتخاب قد قدم للبرلمان "مشروع قانون الهند الأول" الذي هزم. فقدم الآن مشروعاً ثانياً: خلاصته أن يدير مجلس إشراف يعينه الملك العلاقات السياسية لشركة الهند الشرقية، أما العلاقات والرعاية التجارية فتترك في أيدي الشركة خاضعة لحق النقض الملكي. وأقر البرلمان المشروع (9 أغسطس 1784) وظل يهيمن على الشئون البريطانية-الهندية حتى 1858. أما فوكس وبيرك فقد رأيا في هذا الترتيب استسلاماً مخزياً لشركة اشتهرت بالفساد والإجرام. وكان لبيرك أسباب خاصة تدعوه للسخط. ذلك أن راعيه اللورد فرني، وأخاه رتشارد بيرك، وقريبه وليم بيرك، كانوا من قبل مستثمرين في شركة الهند الشرقية، ثم نزلت بهم خسائر فادحة من جراء تقلبات أسهمها(128). وحين ذهب وليم بيرك إلى الهند زكاه إدموند لدى السر فيليب فرانسيس قائلاً أنه يحبه حباً جماً. فعين وليم صرافاً للرواتب، وتبين أنه "لا يقل فساداً عن غيره"(129). وحين عاد فرانسيس إلى إنجلترا أفضى إلى بيرك وفوكس برأيه في إدارة هيستنجز، وكان من المصادر الذي استقى منها بيرك معرفته غير العادية بالشئون الهندية. ولعل هجوم الهويجز اللبراليين على هيستنجز كان بعض ما دفعهم إليه الرغبه في تشويه سمعة وزارة بت والإطاحة بها(130).
وفي يناير 1785 استقال هيستنجز وعاد إلى إنجلترا. وراوده الأمل في أن تشفع له السنون الطويلة التي أنفقها في الإدارة، وإصلاحه مالية الشركة حتى استطاعت الوفاء بديونها، وإنقاذه للقوة البريطانية في مدراس وبومباي، في معاش يثاب به، إن لم يكن ف يلقب نبالة يشرف به. وفي ربيع 1786 طلب بيرك إلى مجلس العموم تقديم السجلات الرسمية لحكم هيستنجز في الهند. ورفض تقديم بعض هذه السجلات، وأعطاه الوزراء بعضها الآخر. وفي أبريل طرح أمام المجلس بياناً بالتهم الموجهة إلى حاكم البنغال السابق. وقرأ هيستنجز على المجلس رداً مفصلاً. وفي يونيو قدم بيرك تهماً تتصل بحرب روهلخند، وطلب توجيه الاتهام إلى هيستنجز، ولكن مجلس العموم رفض تقديمه للمحاكمة. وفي 13 يونيو روى فوكس قصة شايت سنغ، وطلب تقديم هيستنجز للمحاكمة. وفاجأ بت مجلس وزرائه بالإدلاء بصوت في صف فوكس وبيرك، وحذا حذوه كثيرون من الوزراء الأعضاء في حزبه، ولعله رسم هذه السياسة ليفصل الوزارة عن مصير هيستنجز. ووفق على اقتراح تقديمه للمحاكمة بأغلبية 119 إلى 79. وقطع سير الدراما تأجيل البرلمان وحفظ القضايا الأخرى، ولكنها استؤنفت باستحسان عظيم في 7 فبراير 1787، يوم ألقى شريدان خطاباً قال فوكس وبيرك وبت فيه أنه أفضل خطاب سمع في مجلس العموم طوال تاريخه(131)، (عرض على شريدان ألف جنيه نظير نسخة مصححة من الخطاب، ولكنه لم يجد قط وقتاً للقيام بهذه المهمة، ولا نعرف الخطاب إلا من الخلاصات المخفضة) وقد روى شريدان قصة سلب أميرتي أوده ونهبهما بكل ما أوتي من فن رجل ولد للمسرح، وبكل ما تضطرم به نفس رومانسية من غيرة وحماسة. وبع أن استغرق في خطابه أكثر من خمس ساعات، طالب بتوجيه الاتهام إلى هيستنجز.. وصوت بت ثانية في صف المحكمة، وووفق على الاقتراح بأغلبية 175 إلى 68. وفي 8 فبراير عين المجلس لجنة من عشرين-على رأسهم بيرك وفوكس وشريدان-لإعداد بنود الاتهام. وقدمت البنود، وفي 9 مايو أمر المجلس "المستر بيرك، باسم مجلس العموم.. أن يذهب إلى محكمة مجلس اللوردات ويوجه الاتهام للسيد وارين هيستنجز... بالجرائم والانحرافات الجسيمة". وقبض على هيستنجز وجيء به أمام اللوردات، ولكن أطلق سراحه بكفالة.
ثم بدأت محاكمته، بعد أن تعطلت طويلاً، في 13 فبراير 1788 في قاعة وستمنستر. وكل عشاق الأدب سيتذكرون وصف ماكولي الرائع(132)للحشد التاريخي: اللوردات جلوساً وهم في فرائهم وذهبهم بوصفهم المحكمة العليا لمملكة، وأمامهم هيستنجز شاحب اللون مريضاً، وقد بلغ عمره الثالثة والخمسين، وطوله خمسة أقدام وست بوصات، ووزنه 122 رطلاً، والقضاة تتوج هاماتهم بواريك تغطي آذاناهم، والأسرة المالكة، وأعضاء مجلس العموم، والشرفات غاصة بالسفراء والأميرات والدوقات، ومسز سيدونز بجمالها المهيب، والسر جوشوا رينولدز وسط العديد من وجوه القوم الذين صورهم، وفي جانب جلست اللجنة التي سميت الآن "المديرين" تتأهب لتقديم حجج الاتهام. ثم قرأ الكتبة بيان التهم وجواب هيستنجز، وراح بيرك في أقوى خطاب ألقاه في حياته، على مدى أربعة أيام، يصب فوق رأس المتهم سيلاً متدفقاً من الاتهامات. وأخيراً، في 15 فبراير، دوى في القاعة التاريخية صوته مجلجلاً يطالب في حماسة بالاتهام:
إني أتهم السيد وارين هيستنجز بجرائم وانحرافات جسيمة. إني أتهمه باسم نواب بريطانيا العظمى... الذي خان ثقتهم البرلمانية.. إني أتهمه باسم شعب الهند، الذي هدم قوانينه وحقوقه وحرياته، ودمر ثرواته، وأقفر وطنه وخربه. إني أتهمه باسم قوانين العدل الأزلية التي انتهكها، وبمقتضى هذه القوانين... إني أتهمه باسم الطبيعة البشرية ذاتها، والتي اعتدى عليها بقسوة، وألحق بها الأذى وظلمها في الجنسين جميعاً، وفي كل عمر للناس، ومقام، ومركز، وحال من أحوال الحياة(133).
ومضت المحاكمة تتخللها عشرات المقاطعات، وبيرك، وفوكس، وشريدان، وغيرهم يروون قصة ولاية هيستنجز. فلما شاع أن شريدان سيقدم الدليل في قضية بيجومي أوده، ظهر 3 يونيو، غصت الشوارع المؤدية إلى قاعة وستمنستر من الثامنة صباحاً بالناس، وفيهم كثير من علية القوم، وكلهم تواق للعثور على وسيلة الدخول للقاعة. وباع البعض ممن حصلوا من قبل على تصريحات بالدخول تصريحاتهم بخمسين جنيهاً إنجليزياً (1.500 دولار؟) للتصريح. وفهم شريدان أن القوم يتوقعون منه درامياً، فأداه. وخطب في أربع جلسات، وفي آخر يوم (13 يونيو 1788)، بعد أن ظل يخطب خمس ساعات، وقع إعياء بين ذراعي بيرك الذي عانقه. أما جبون الذي كان في الشرفة فقد وصف شريدان بأنه "ممثل قدير" ولاحظ أن الخطيب كانت عليه أمارات العافية حين ألم به المؤرخ صباح الغد(134). وكان ذلك الخطاب قمة المحاكمة. وكانت كل تهمة من قائمة التهم الطويلة تقتضي البحث والتحقيق؛ ولم يتعجل اللوردات مهمتهم، ولعلهم تباطأوا ليزيلوا الأثر الذي خلفته البلاغة، ويدعوا الاهتمام بالقضية ينصرف إلى أحداث أخرى، وجاءت الأحداث، فقد جن الملك جورج في أكتوبر 1788، وجن على نحو خطير تماماً، إذ فدحه ضغط المحاكمة وسوء سلوك ولده. فقد كان جورج أوغسطس فردريك، أمير وليز، فتي بديناً، طيب القلب، سمح النفس، متلافاً، عاشقاً للنساء، وكان قد احتفظ بسلسلة متصلة من الخليلات، وتجمعت عليه ديون أداها أبوه أو الأمة. وفي 1875 تزوج سراً بالسيدة ماريا آن فتز هربرت، الكاثوليكية الرومانية التقية، التي ترملت من قبل مرتين، وكانت تكبر الأمير بست سنين. واقترح الأحرار بزعامة فوكس تأليف مجلس وصاية يرأسه الأمير، الذي ظل ساهراً ليلتين في انتظار إعلان بعد أهلية الملك. ولكن جورج الثالث شوش الموقف بفترات من سلامة العقل قطعت حالة جنونه، وكان خلالها يتحدث عن جاريك وجونسن، ويغني لقطات من هندل، ويعزف على الناي. وفي مارس 1789 شفي، ونفض عنه سترته الضيقة، وأستأنف مراسم الحكم. وجاءت الثورة الفرنسية بمنصرف آخر عن المحاكمة. فقد تخلى بيرك عن مطاردة هيستنجز وخف لنجدة ماري أنطوانيت. واتى تطرف خطبه وغلوها على البقية الباقية من شعبيته، وراح يشكو من تسلل أعضاء البرلمان إلى خارج القاعة متى بدأ الكلام. وكان أكثر الصحف يناوئه، وقد اتهمها بأن 200.000 جنيه قد استخدمت في شراء الصحفيين ليهاجموه ويدافعوا عن هيستنجز؛ وما من شك في أن شطراً كبيراً من ثروة هيستنجز قد أنفق في هذا السبيل(135)ولا بد أن بيرك لم يفاجأ حين برأ مجلس اللوردات ساحة هيستنجز (1795) في نهاية المطاف، بعد مضيّ سنوات ثمان على الاتهام. وكان شعور الناس العام أن الحكم عادل: صحيح أن المتهم كان من نواحي كثيرة مذنباً، ولكنه استنقذ الهند لإنجلترا، وعوقب بمحاكمة حطمت صحته وآماله، وخلفته ملوث السمعة مفلساً.
وعمر هيستنجز بعد موت جميع متهميه. وأنقذته شركة الهند الشرقية من الإفلاس بالموافقة على إعطائه منحة قدرها 90.000 جنيه. فاسترد ضيعة أسرته الوراثية في ديلز فورد، وأصلحها، وعاش في بذخ شرقي. وفي 1813 طلب إليه الإدلاء بشهادته عن شئون الهند أمام مجلس العموم، فقوبل فيه بالتصفيق والاجلال، ونوه بخدماته، ومحيت أوزاره مع الزمن. وبعد أربع سنوات رحل عن هذه الدنيا، ولم يبق حياً من جيله الصاخب غير فرد واحد-هو الملك الأعمى المعتوه.
إنجلترا والثورة الفرنسية
بعد أن أوشك بيرك على استنفاد قوته في الحرب ضد شركة الهند الشرقية، ناصب الثورة الفرنسية العداء الشخصي، وخلال هذه الحملة الجديدة شارك بقسط كبير في الفلسفة السياسية. وكان قد تنبأ بالثورة قبل نشوبها بعشرين عاماً؛ "بهذا الضيق والحيرة البالغين تنوء كل مالية فرنسا، وتفوق نفقتها مواردها في كل ناحية، بحيث لم يعد مناص لك إنسان... نظر في شئونها بأقل اهتمام أو علم، من أن يترقب في كل لحظة حدوث اضطراب هائل في النظام بأجمعه ليس من اليسير التكهن بآثاره على فرنسا بل على أوربا جميعها"(136). وفي 1773 زار فرنسا، وفي فرساي رأى ماري أنطوانيت وكانت آنئذ زوجة لولي العهد، ولم ينس قط رؤياه تلك للجمال والغض والسعادة النضرة والكبرياء الشابة. وقد خلص إلى رأي طبيب في النبالة الفرنسية، وأطيب منه في الكهنوت الفرنسي. وصدمته دعوة جماعة الفلاسفة المناوئة للكثلكة، بل المناوئة للدين في حالات كثيرة، وحين عاد إلى إنجلترا حذر مواطنيه من الإلحاد لأنه "أبشع وأقسى لطمة يمكن أن توجه إلى المجتمع المتمدن"(137).
فلما أن اندلعت نيران الثورة أفزعه ذلك التهليل الذي لقيته من صديقه فوكس، الذي هتف لسقوط الباستيل باعتباره "أعظم حدث وقع في العالم و... أفضله(138). وكانت الأفكار الراديكالية المنبعثة من الحملات التي شنها ولكس وجمعية مؤيدي الحقوق قد انتشرت في إنجلترا ببطء. واقترح كاتب مغمور في 1761 الشيوعية دواء لكل الأدواء الاجتماعية إلا تكاثر السكان الذي خشي أن يبطل كل الجهود المبذولة للتخفيف من الفقر.(139)وتكونت في 1788 جمعية إحياء ذكرى ثورة 1688، وضمت بين أعضائها نفراً بارزاً من رجال الدين والنبلاء. فلما التئم شملها في 4 نوفمبر 1789، بلغ انفعالها وتأثرها بواعظ موحد يدعى رتشرد برابس حداً جعلها تبعث برسالة تهنئة للجمعية الوطنية في باريس، معربة عن الأمل في أن "المثل العظيم الذي ضربته فرنسا" قد "يشجع أمماً أخرى على توكيد الحقوق الثابتة لبني الإنسان"(140)ووقع الرسالة ايرل ستانهوب الثالث، رئيس الجمعية ونسيب وليم بت. وأثارت العظة والرسالة مخاوف بيرك وغضبه. وكان ناهز الستين ووصل إلى حقه في أن يكون محافظ النزعة. وكان رجلاً متديناً يملك ضيعة كبيرة. لذلك لن ير في الثورة الفرنسية "أدهش ثورة وقعت في العالم إلى يومنا هذا"(141)فحسب، بل أعتى عدوان على الدين والملكية والنظام والقانون. وفي 9 فبراير 1790 أخبر مجلس العموم أن لو حدث أن أي صديق له وافق على أي إجراءات من شأنها أن تدخل إلى إنجلترا ديموقراطية كتلك التي تتشكل في فرنسا، لأنكر صداقته مهما طال رسوخها وعزت مكانتها. وهدأ فوكس الخطيب بإطرائه المشهور لبيرك كأفضل معلم له. وتأجلت القطيعة بينهما حيناً. وفي نوفمبر 1790 نشر بيرك "تأملات في الثورة الفرنسية" على شكل رسالة (بلغ طولها 365 صفحة) إلى "سيد في باريس" وأصبح بيرك الآن بطل إنجلترا المحافظة، وهو الذي كان قد تزعم الأحرار خلال الثورة الأمريكية؛ وأعرب جورج الثالث عن ابتهاجه بخصمه القديم. وغدا الكتاب إنجيل الملوك والأرستقراطيات فبعثت كاترين الكبرى، التي كانت يوماً ما صديقة جماعة الفلاسفة وحبيبتهم، تهنئاتها للرجل الذي كان قد نوى خلعهم عن عروشهم.(142).
وقد استهل بيرك كتابه بالإشارة إلى الدكتور برايس وجمعية إحياء ذكرى الثورة. ثم تأسف أسفاً شديداً على دخول رجال الدين حلبة المناقشات السياسية، وقال إن مهمتهم إرشاد النفوس إلى المحبة المسيحية لا إلى الإصلاح السياسي، وأنه لا يثق بحق تصويت الذكور العام الذي يدافع عنه برايس، فرأيه أن الأغلبية ستكون أشد طغياناً من الملوك، وأن الديموقراطية ستنحط إلى حكم الغوغاء، فالحكمة ليست في الكثرة بل في الخبرة. والطبيعة لا تعرف شيئاً عن المساواة، وما المساواة السياسية إلا أكذوبة بشعة لا يسفر بثها الأفكار الكاذبة والتطلعات الباطلة في رجال كتب عليهم السير في المسالك المجهولة للحياة الشاقة إلا عن تفاقم عدم المساواة الحقيقي، الذي لن تقوى إطلاقاً إلى إزالته"(143). والأرستقراطية لا محيص عنها، كلما أعرقت أجادت أداء وظيفتها، وهي أن توطد في صمت ذلك النظام الاجتماعي الذي بدونه يستحيل الاستقرار والأمان والحرية(144). والملكية الوراثية نظام حسن لأنها تهب الحكومة وحدة واستمراراً بدونهما تتردى علاقات المواطنين القانونية والاجتماعية في سيل محموم مضطرب. والدين حسن لأنع يعين على كبح تلك الدوافع غير الاجتماعية التي تستعر كأنها النار من تحت سطح الحضارة، والتي لا سبيل إلى ضبطها إلا بالتعاون المتواصل بين الدولة والكنيسة، وبين القانون والعقيدة، وبؤين الخوف والاحترام. وأولئك الفلاسفة الفرنسيون الذين قوضوا الإيمان الديني بين صفوف شعبهم المتعلمة إنما يحلون بحماقة تلك اللجم التي حالت بين الرجال وبين أن يصبحوا وحوشاً.
وقد أسخط بيرك انتصار الغوغاء في فرساي على "ملك معتدل شرعي" وعلى معاملته "بضراوة وعدوان وإهانة فاقت أي شيء" ثار به شعب على أشد المغتصبين على القانون وأكثر الطغاة تعطشاً للدماء(145). وهنا تقع الصفحة الشهيرة التي إنتشينا لها في شبابنا:
"لقد مضت الآن ستة أو سبعة عشر عاماً منذ رأيت ملكة فرنسا في فرساي وكانت يومها زوجة ولي العهد، والحق أنه ما من منظر أبهج من هذا حط على هذا الكوكب الذي بدت وكأنها لا تمسه إلا مساً رفيقاً. لقد رأيتها فوق الأفق بقليل، تجمل وتبهج الدائرة الراقية التي همت بالتحرك فيها-ساطعة كنجمة الصبح، فياضة بالحياء، والبهاء، والفرح. أية ثورة تلك! وأي قلب يجب أن تضمه جوانحي حتى أتأمل دون انفعال ذلك السمو وذلك السقوط! لم يخطر ببالي يوم كانت تجمع بين ألقاب التبجيل وألقاب الحب المتحمس، البعيد، المشرب بالاحترام، أنها ستضطر يوماً ما إلى حمل ذلك الترياق القاطع ضد الخزي، المخفي في ذلك الصدر، ولا خطر ببالي أنني سأعيش لأرى خطوباً كهذه نصيبها في أمة من الرجال البواسل، أمة من رجال كلهم شرف وكلهم شهامة. كنت أظن أن عشرة آلاف سيف لا بد قافزة من إغمادها لتثأر حتى لنظرة واحدة تهددها بالإهانة. ولكن عصر الفروسية ولى، وخلفه عصر السوفسطائيين والاقتصاديين والحسابيين، وانطفأ مجد أوربا إلى الأبد"(146).
وضحك السر فيليب فرانسيس على هذا كله وقال إنه هراء رومانسي، وأكد لبيرك أن ملكة فلورنسا امرأة فاجرة لعوب(147). وكذلك رآها كثير من الإنجليز الوطنيين، على أن هوراس ولبول أكد أن بيرك صور ماري أنطوانيت "بالضبط كما بدت لي أول مرة رأيتها وهي ولية للعهد"(148).
فلما واصلت الثورة مسيرتها واصل بيرك هجومه فنشر "رسالة لعضو في الجمعية الوطنية" (يناير 1791) اقترح فيها أن تتحد حكومات أوربا لكبح جماح الثورة ورد ملك فرنسا إلى سلطته التقليدية. وروع الاقتراح فوكس، وفي 6 مايو، في مجلس العموم، انتهى الصديقان اللذان حاربا كتفاً إلى كتف في حملات كثيرة جداً بتفرق طريقهما تفرقاً درامياً. فقد كرر فوكس ثناءه على الثورة. ولكن بيرك قام محتجاً وقال "ليس من الحكمة في أي وقت، خصوصاً في سني هذه، أن أستفز الأعداء، أو أعطي فرصة لأصدقائي ليتخلوا عني، ولكن إذا كان ولائي القوي الثابت للدستور البريطاني يضعني في هذه الورطة فإني على استعداد لركوب هذه المغامرة. "فأكد له فوكس أن الخلافات في الرأي بينهما لا تنطوي على فصم لأواصر الصداقة. وأجاب بيرك "كلا كلا، إن فيها فقداً للأصدقاء. إني أعرف ثمن سلوكي.. لقد انتهت صداقتنا."(149)ولم يعد بعدهما للكلام مع فوكس إلا رسمياً فيما أكرها عليه من اتحاد الموقف في محاكمة هيستنجز.
وقد قدم بيرك في كتاباته عن الثورة الفرنسية تعبيراً كلاسيكياً لفلسفة محافظة. وأول مبادئها عدم الثقة بمنطق فرد أياً كان ذكاؤه إذا تعارض مع تقاليد النوع الإنساني. فكما أن الطفل لا يستطيع فهم أسباب المحاذير والنواهي الأبوية، فكذلك لا يستطيع الفرد، وما هو إلا طفل بالقياس إلى النوع، أن يفهم دائماً أسباب العادات والتقاليد والأعراف والقوانين التي تجسد تجربة أجيال كثيرة. والحضارة تستحيل "إذا ارتكزت ممارسة جميع الواجبات الأخلاقية، وأسس المجتمع، على جعل أسبابها ومبرراتها واضحة ثابتة بالبرهان لكل فرد".(150) لا بل حتى "الأحكام المسبقة" لها فائدتها، فهي تحكم سلفاً على المشكلات الحاضرة على أساس الخبرة الماضية.
فالعنصر الثاني من عناصر المحافظة إذن هو "حق التقادم": فالتقليد أو المؤسسة يجب احترامها احتراماً مضاعفاً وعدم تغييرها إلا نادراً إذا كانت مكتوبة فعلاً أو مجسمة في نظام المجتمع أو هيكل الحكومة. والملكية الفردية مثال على حق التقادم وعدم معقولية الحكمة في الظاهر. فإنه ليبدو من غير المعقول أن تملك أسرة واحدة ثروة كبيرة وأخرى ثروة ضئيلة، وأمعن في اللامعقولية أن يسمح للمالك بتوريث ثروته لخلقه الذين لم يحركوا اصبعاً في كسبها، ومع ذلك تبين بالتجربة أن الناس بوجه عام لن ينهضوا للعمل والدرس، ولا للتحضير الشاق المكلف، ما لم يصفوا ثمرات جهودهم بأنها ملكهم الخاص، لهم أن ينقلوها لغيرهم، إلى حد كبير، كما يشاءون. وقد أثبتت التجربة أن تملك الثروة أفضل ضمان يكفل حكمة التشريع واستمرار الدولة.
فليست الدولة مجرد تجمع أشخاص في مكان ما في لحظة ما، إنما هي تجمع أفراد على مدى الزمن المستطيل "إن المجتمع هو حقاً تعاقد... شركة لا بين الأحياء فحسب، بل بين الحياء، والأموات، والذين سيولدون"(115). وذلك الاستمرار هو وطننا. في هذا الكل الثلاثي قد تكون الأغلبية الراهنة أقلية بمضي الزمن، ويجب على المشروع أن يراعي حقوق الماضي (خلال "حق التقادم") وحقوق المستقبل، رعايته لحقوق الحاضر الحي. والسياسة هي، أو ينبغي أن تكون، فن المواءمة بين أهداف الأقليات المتضاربة وصالح الجماعة المستمرة. ويضاف إلى هذا أنه ليس هناك حقوق مطلقة، فما هذه إلا تجريدات ميتافيزيقية لا تعرفها الطبيعة، وليس هناك إلا الرغبات، والقوى، والظروف، و "الظروف تضفي على كل مبدأ سياسي لونه المميز وأثره الفارق"(152) والمصلحة أهم أحياناً من الحقوق "ينبغي أن تكيف السياسة لا وفق الحجج البشرية [المجردة] بل وفق الطبيعة البشرية، التي ليس العقل فيها إلا جزءاً وليس أكبر جزء على الإطلاق(153). "يجب أن ننتفع بما يوجد من مواد(154)".
هذه الاعتبارات كلها يوضحها الدين . قد لا تكون عقائد دين من الأديان وأساطيره ومراسمه متفقة مع عقلنا الحاضر، ولكن هذا ليس بذي بال إذا اتفقت وحاجات المجتمع الماضية والحاضرة والمستقبلة. والتجربة قاطعة في أن عواطف الناس المشبوبة لا يمكن السيطرة عليها إلا بتعاليم الدين وشعائره "إذا نحن كشفنا عريناً [أطلقنا غرائزنا] بنبذ ذلك الدين المسيحي الذي كان... مصدراً عظيماً للمدنية بيننا.. فإننا نخشى (ليقيننا بأن الفكر لا يطيق فراغاً) أن تحل محله خرافة خرقاء، مؤذية، محطة(155)".
ورفض الكثير من الإنجليز نزعة بيرك المحافظة باعتبارها تمجيداً للركود(156)، ورد عليه توماس بين بقوة في كتابه "حقوق الإنسان (1791-92). ولكن إنجلترا التي عاصرت شيخوخة بيرك رحبت عموماً بعبادته للسلف. فلما مضت الثورة الفرنسية في طريقها قدماً إلى مذابح سبتمبر، وأعدم الملكة والملك، وحكم الإرهاب، شعرت الكثرة العظمى من البريطانيين بأن بيرك أحسن التنبؤ بعواقب التمرد والكفر، وتشبثت إنجلترا قرناً كاملاً بدستورها، دستور الملك، والأرستقراطية، والكنيسة الرسمية، وبرلمان يفكر بلغة السلطات الإمبراطورية لا الحقوق الشعبية رغم أنها تخلصت من دوائرها الانتخابية، العفنة ووسعت حق التصويت. وبعد الثورة عادت فرنسا من روسو إلى مونتسكيو، وصاغ جوزف دميستر آراء بيرك للفرنسيين التائبين صياغة جديدة.
وواصل بيرك إلى النهاية حملته من أجل حرب مقدسة، واغتبط حين أعلنت فرنسا الحرب على بريطانيا العظمى (1793). وأراد جورج الثالث أن يثيب عدوه القديم على خدماته الأخيرة فيرفعه إلى مقام النبالة ويخلع عليه لقب اللورد بكنزفيلد الذي شرفه دزرايلي فيما بعد، فرفض بيرك، ولكنه قبل معاشاً قدره 2.500 جنيه (1794). فلما بدأ الحديث يتردد عن إجراء مفاوضات مع فرنسا، أصدر "أربع رسائل عن سلام مع قتلة الملوك" (1797 وما بعدها)، طالب فيها بحرارة أن تستمر الحرب. ولم يطفئ لهيب ناره غير الموت (8 يوليو 1797). واقترح فوكس أن يدفن في كنيسة وستمنستر، ولكن بيرك كان قد ترك تعليمات بأن يشيع في جنازة غير رسمية ويدفن في كنيسة بكنزفيلد الصغيرة. وقد ذهب ماكولي إلى أنه أعظم إنجليزي منذ ملتن-وهو رأي ربما تجاهل شاتام؛ أما اللورد مورلي فقد وصفه في حذر أكثر، بأنه "أعظم أساتذة الحكمة المهذبة في لغتنا"،(157)وهو رأي لعل تجاهل لوك. على أية حال كان بيرك تجسيداً لما تاق إليه المحافظون عبثاً طوال عصر العقل-رجلاً استطاع الدفاع عن العرف بالبراعة التي دافع بها فولتير من قبل عن العقل.
الأبطال يتقاعدون
حين تقدمت الثورة الفرنسية وجد تشارلز جيمس فوكس نفسه واحداً من أقلية متضائلة في البرلمان وفي الوطن. وانحاز كثيرون من حلفائه إلى الرأي القائل بوجوب انضمام إنجلترا إلى بروسيا والنمسا في مقاتلة فرنسا. وبعد إعدام لويس السادس عشر وجد فوكس نفسه وقد انقلب على الثورة ولكنه ظل على معارضته الدخول في الحرب. فلما اندلعت الحرب رغم ذلك عزى نفسه بالشراب، وقراءة الآداب القديمة، وبالزواج (1795) من السيدة اليزابث أرمستد، خليلته السابقة (وخليلة اللورد كافندش، واللورد داربي، واللورد كولموندلي)، التي أدت عنه ديونه(158). وقد رحب بصلح أميان (1802)، وقام برحلة في فرنسا، فاستقبل هناك بأسباب التكريم الحكومية والشعبية، واستقبله نابليون مواطناً للحضارة. وفي 1806 تقلد وزارة الخارجية في "وزارة جميع المواهب"، وقد جاهد ليحتفظ بالسلام مع فرنسا، وأيد تأييداً قاطعاً حملة وليرفورس على تجارة الرقيق. وحين تناهى إليه نبأ مؤامرة دبرت لاغتيال نابليون أرسل إلى الإمبراطور تحذيراً بطريق تاليران، ولعل فوكس كان واجداً سبيلا التوفيق بين طمع بونابرت وأمن إنجلترا لولا انهيار صحته. ولكن في يوليو 1806 أعجزه داء الاستسقاء، وأخفقت سلسلة من الجراحات المؤلمة في وقف سير المرض، فتصالح مع الكنيسة الرسمية، وفي 13 سبتمبر مات مبكياً عليه من أصدقائه وأعدائه، وحتى من الملك. لقد كان أوفر رجال جيله حظاً من المحبين.
وسبقه إلى أقباء كنيسة وستمنستر بت الابن الذي شاخ قبل أوانه. فقد وجد هو أيضاً أنه لن يستطيع احتمال خطو الحياة السياسية السريع إلا بنشوة السكر تنسيه همومه من حين إلى حين. وكانت سلامة عقل جورج الثالث القلقة مشكلة دائمة، فكل صراع خطير في وجهات النظر بين الملك ووزيره قد يخل باتزان الرأس المتوج بأمير ويلز وصياً، يطرد بت ويستدعي فوكس ليحل محله. وعليه فقد تحلى بت عن خططه في الإصلاح السياسي، وسحب معارضته لتجارة الرقيق، حين وجد أن في هاتين المسألتين، كما في كثير غيرهما من المسائل، كان جورج مصمماً بروح المشاكسة على تخليد الماضي. وركز بت عبقريته على التشريع الاقتصادي، الذي خدم فيه الطبقة الوسطى الصاعدة. ثم قاد إنجلترا على كره شديد-في حرب ضد من سماهم "أمة من الملحدين"(159)ولم يحسن البلاء وزيراً للحرب. فحين خشي أن يغزو الفرنسيون أيرلندة، حاول تهدئة الإيرلنديين ببرنامج من الوحدة البرلمانية والتحرير الكاثوليكي، ولكن الملك تصلب، واستقال بت (1801). ثم عاد (1804) ليرأس ووزارته ثلنية. ولم يكن كفوءاً لمقارعة نابليون، فلما جاء نبأ نصر الفرنسيين في أوسترلتز (2 ديسمبر 1805) ذلك النصر الذي جعل نابليون سيد القارة، انهار بت جسداً وروحاً. وحين وقع بصره على خريطة لأوربا قال لصديق له "اطو هذه الخريطة، فلن يكون هناك حاجة إليها هذه السنين العشر"(160). ومات في 23 يناير 1806، فقيراً فقراً مشرفاً، غير متجاوز السادسة والأربعين.
ثم اقتضت الحياة وقتاً أطول لتقضي على شريدان. وكان قد انضم إلى بيرك وفوكس في الدفاع عن أمريكا وفي خوض معركة هيستنجز، وأيد فوكس في التصفيق للثورة الفرنسية. غير أن الزوجة التي كان سحرها ودماثة طبعها حديثاً محبباً بين أصدقائه، والتي جعلت من جمالها منبر خطابة لتعينه على الظفر بكرسي في البرلمان، هذه الزوجة ماتت بالسل وهي في الثامنة والثلاثين من عمرها (1792). فانهار شريدان. وقال أحد معارفه عنه "رأيته الليلة بعد الليلة يبكي كأنه طفل"(161)وقد وجد بعض العزاء في الفتاة التي أنجبتها له، ولكنها ماتت في السنة ذاتها. وفي شهور الحزن تلك واجه مهمة إعادة بناء مسرح دروري لين الذي لم يعد مأموناً لقدمه وتداعي مبانيه، ولكي يمول هذه العملية تحمل نفقات باهظة. وكان قد وعد نفسه العيش المترف؛ الذي عجز دخله عن الإنفاق عليه، لذلك استدان ليواصل أسلوب حياته. وحين كان دائنوه يحضرون إليه ليطالبوه بديونهم كان يحتفي بهم كانهم اللوردات، ويقدم إليهم الشراب والتحية المهذبة والنكتة الذكية ثم يصرفهم في حال من الرضى يكاد ينسى الدائن دينه. وقد ظل نشيطاً في البرلمان حتى 1812 حين أخفق في إعادة انتخابه. وكان من قبل يتمتع بالحصانة من الاعتقال بصفته عضواً في مجلس العموم، أما الآن فقد أطبق عليه دائنوه، واستولوا على كتبه، وصوره، ومجوهراته، وأخيراً أوشكوا على حمله إلى السجن لولا أن طبيبه حذرهم من أن شريدان قد يموت في الطريق. ثم قضى نحبه في 7 يوليو 1806 وهو في الخامسة والستين. وقد عاوده الغنى في مأتمه، لأن سبعة لوردات وأسقفاً شيعوه إلى مقبرة وستمنستر.
أما الملك نصف المجنون فقد عمر بعدهم أجمعين، بل عمر حتى رأى انتصار إنجلترا في واترلو وإن لم يعلم به. وقد أدرك بحلول عام 1783 أنه أخفق في محاولته جعل الوزراء مسئولين أمامه لا أمام البرلمان. وأضنته صراعاته الطويلة التي لم يكن كفء لها مع مجلس العموم، وأمريكا، وفرنسا. وفي 1801 و1804 و1810 انتكس إلى جنونه، وظفر في النهاية بتلك الشعبية التي حرمها أيام كفاحه، مشوبة بالشفقة على رجل رأى إنجلترا تصاب بالهزائم الكثيرة ولم يتح له أن يشهد انتصارها. وكان موت ابنته أميليا (1810) الأثيرة لديه ما أكمل القطيعة بينه وبين دنيا الواقع. وفي 1811 كف بصره وبات مجنوناً جنوناً لا شفاء منه، وظل معزولاً تفرض عليه الحراسة حتى مات (29 يناير 1820).