قصة الحضارة - ول ديورانت - م 10 ك 5 ف 26
صفحة رقم : 13959
قصة الحضارة -> روسو والثورة -> الشمال البروتستنتي -> من جنيف إلى استوكهولم -> السويسريون
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل السادس والعشرون: من جنيف إلى استوكهولم
السويسريون 1754-1798
إن الذي استمتعوا منا بالهدوء وسط جنة الطبيعة في سويسرة، وبالإلهام من شجاعة شعبها وأمانته، يشق عليهم أن يدركوا أن من تحت الخلق الهادئ، والفلاحة الصابرة، والصناعة المستقرة التي أعجبت بها أوربا وتعجب بها الآن، كانت تمكن الصراعات الطبقية-صراعات بين الجنس والجنس، وبين اللغة واللغة، وبين العقيدة والعقيدة، وبين الإقليم والإقليم، وبين الطبقة والطبقة. وكان السويسريون في نطاقهم المتواضع قد اقتربوا جداً من تحقيق ذلك المثل الأعلى الذي صوره الأب سان-بيير وحلم به بروسو وكانط: وهو الاتحاد الكونفدرالي يعقد بين دويلات مستقلة في شئونها الداخلية، ملتزمة بالعمل الموحد في علاقاتها بالعالم المحيط بها. في 1760 تكون الاتحاد الهلفيتي لدعم الولاء للأمة أكثر من الإقليم، ولتوحيد الحركات المبعثرة للإصلاح السياسي.
وقد قدر فولتير-الذي كان يعيش عن كثب-سكان سويسرا في 1767 بـ 720.000 نسمة(1). وكان أكثرهم يفلح الأرض أو يزرع الكروم، ويسطب المنحدرات إلى ما يقرب من قمم الجبال. وكانت صناعة النسيج في نمو مطرد لا سيما في إقليم سانت جالن وكانتون زيوريخ؛ وكانت مراكز صناعية أخرى بسبيلها إلى التشكل في جلاروس، وبرن، وبازل؛ أما جنيف ونويشاتل فكانتا المركزين العظيمين لصناعة الساعات. وأنشأ الوكلاء المنتشرون في أرجاء أوربا من لندن إلى الآستانة (التي كان بها ثمانية وثمانون منهم) لجنيف تجارة صادر حققت الثراء السريع للمدينة الواقعة على الرون. وكثرة المصارف لأن الماليين السويسريين كانوا قد اكتسبوا سمعة دولية بالأمانة.
وكانت أغلب الكفاءات، كما هي الحال في كل بلد، مركزة في أقلية الرجال، فأدى هذا إلى تركيز الثروة. وكانت الكانتونات بصفة عامة تحكمها أولجركيات تسلك مسلك أي طبقة حاكمة. فلإشراف رعاة أسخياء للآداب والعلوم والفنون ولكنهم يقاومون كل خطوة للتوسع في حق الانتخاب. وقد اتهم جبون، الذي يسكن لوزان، أولجركية برن بأنها تثبط الصناعة في الأقاليم التابعة لها، وتبقى على هبوط مستوى المعيشة فيها عملاً بالمبدأ اللائق "إن الرعايا الفقراء المطيعين خير من الأغنياء المتمردين"(2). وقد نظمت جماعات لإلغاء الامتيازات الاقتصادية أو السياسية غير مرة، ولكنها صدرت بقوة الدولة والكنيسة المتحالفتين(3). واضطربت أحوال جنيف آناً بعد آن نتيجة حرب الطبقات طوال القرن الثامن عشر. وساد فها سلام نسبي من 1737 إلى 1762، ولكن إحراق المجلس البلدي لكتاب إميل (1762) فجر الدعوة لتوسيع حق التصويت. وعضد الحركة روسو وفولتير، بعد جدل كثير نزلت طبقة الإشراف للطبقات الوسطى عن قسط صغير في الحكم.
وقد خلف هذا ثلاثة أرباع السكان مجردين تماماً من حق التصويت-الوطنيون (أو الأهالي) وهم الأشخاص المولودون في جنيف ولكن الأبوين من غير الوطنيين. وهؤلاء حرموا أيضاً من معظم المهن، ومن المناصب الحربية، ومن الارتقاء معلمين في النقابات الحرفية؛ وقد منعوا من توجيه الملتمسات إلى المجلس الأكبر والمجلس الأصغر اللذين يحكمان الجمهورية. غير أنهم أثقلوا بالضرائب. وفي 4 أبريل 1766 ذهب وفد من "الوطنيون" إلى فرنيه وطلبوا إلى فولتير أن يساعدهم في نيل حق التصويت. فقال لهم: "يا أصدقائي، إنكم تؤلفون أكثر الطبقات عدداً في مجتمع مستقل كادح، وأنتم ترسفون في العبودية ولا تطلبون إلا أن تتمتعوا بميزاتكم الطبيعية، أي أن تمنحوا هذا الطلب المتواضع لا أكثر. وسأعنيكم بكل ما أملك من نفوذ...
فإذا أكرهتم على الرحيل عن وطن يثري على حساب كدكم، فسأستطيع تقديم العون لكم وحمايتكم في مكان آخر"(4). ولكن الطبقتين الأرستقراطية والبورجوازية اتحدتا في مقاومة نداء "الوطنيين"، وكل ما استطاعه فولتير هو أن يرحب في مستعمرته الصناعية بكل من وفد عليه من الصناع الساخطين (1768). وفي 1782 هب الوطنيين في ثورة أطاحت بطبقة الإشراف وأقامت حكومة نيابية. ولكن النبلاء استنجدوا بفرنسا وبرن سردينيا؛ فتدخلت هذه الدول، وأخمد التمرد، وردت الأولجركية إلى الحكم. وكان على الوطنيين أن ينتظروا مجيء الثورة الفرنسية لتأتيهم بالحرية.
وأنجبت الكانتونات في ثلث القرن الذي نحن بصدده بعض الشخصيات ذات الشهرة الدولية. فكان يوهان هاينريش بستالوتسي أحد الأفراد النادرين الذين يتخذون العهد الجديد مرشداً للسلوك. وقد اتفق مع روسو على أن المدنية أفسدت الإنسان، ولكنه أحس أن الإصلاح يمكن أن يأتي لا عن طريق القوانين والنظم الجديدة، ولكن بإعادة تكوين السلوك الإنساني بالتربية. ومن ثم كان طوال حياته يرحب بالأطفال لا سيما الفقراء منهم، وخصوصاً المشردين؛ يؤويهم ويعلمهم، ويطبق في تعليمهم المبادئ التحررية التي احتواها كتاب روسو "إميل"، مع أفكار من عنده. وقد بسط آراءه في كتاب كان أكثر الكتب انتشاراً بين قراء ذلك الجيل. فالبطلة في كتابه "ليونهارد وجرترود" (1781-85) تصلح قرية بأسرها بمحاولة معاملة الناس كما لو كان المسيح يعاملهم، وبتعليم أطفالها في مراعاة صابرة لغرائزهم واستعداداتهم الفطرية. ومن رأي بستالوتسي أن يعطي الأطفال من الحرية القدر الذي تسمح به حقوق الآخرين. فينبغي أن يبدأ التعليم المبكر بالقدوة، وأن يعلم الطفل بالأشياء والحواس، والخبرة، لا بالكلمات أو الأفكار أو الصم. وقد مارس بستالوتسي طرائقه في مدارس سويسرية شتى، ولا سيما في ايفردون. وهناك زاره تاليران، ومدام دستال، وغيرهما؛ ومنها انتشرت نظرياته في طول وأوربا وعرضها. على أن جوته شكا من أن مدارس بستالوتسي تكون أشخاصاً فرديي النزعة، وقحاء، مغرورين، متمردين(5).
وهناك انجليكا كاوفمان، المولودة في كانتون جريزون، والتي نافست مدام فيجيه لبرون بوصفها أشهر فنانة في جيلهما. فكانت تجيد الرسم، فضلاً عن إتقانها العزف، حتى وهي في الثانية عشرة، إجادة حملة الأساقفة والنبلاء على أن يجلسوا إليها لتصورهم. وفي الثالثة عشرة (1754) اصطحبها أبوها إلى إيطاليا حيث واصلت دراساتها، واحتفى بها القوم أينما ذهبت تقديراً لمهاراتها وإعجاباً بسحر شخصها. وحين دعت إلى إنجلترة عام 1766 أثارت ضجة بتصويرها جاريك. وأغرم السير جوشوا رينولدز جداً بـ "الآنسة اينجل"، وصورها، فصورته بدورها. وقد شاركت في إنشاء الأكاديمية الملكية للفنون، التي كلفتها هي وغيرها في 1773 بتزيين كتدرائية القديس بولس. وفي 1781 قفلت إلى روما، حيث (1788) سلكت جوته في عداد أصدقائها الأوفياء. وماتت هناك في 1807، وكان مأتمها الذي نظمه كانوفا حدثاً من أحداث العصر، وشيعها مجتمع الفنانين بأكمله إلى مثواها الأخير.
أما أبرز شخصيات الجيل السويسرية بعد روسو فهو يوهان كاسبار لافاتر. ولد في زيورخ في 1741، وأصبح راعياً بروتستنتياً، واحتفظ طوال حياته بأحر الولاء للمسيحية التقليدية. وقد رأينا محاولاته لهداية جوته ومندلسون. ولكنه لم يكن دجماطيقياً، فقد احتفظ بصداقاته عبر الحدود الدينية والقومية، واحترمه كل من عرفه، وأحبه الكثيرون(6). وقد ألف كتباً فيها ورع صوفي، وشرح سفر الرؤيا شرحاً مغرباً في الخيال، وآمن بالقوى المعجزية للصلاة ولكاليوسترو، وأعطى زوجته علاجات "تنويمية" عملاً بإرشادات مزمير. وكان أخص دعاواه أن خلق الإنسان يمكن الحكم عليه من ملامح وجهه ومحيط دماغه. فأثار اهتمام جوته وهردر بآرائه، وقد أسهما بمقالات لكتابه "شذرات في الفراسة" (1775-78) وقد درس نظرات الأفراد البارزين، وأدمغتهم، وأشكالهم، وربط بين ملامح الجمجمة والوجه وصفات نوعية للعقل والخلق. وقد قبلت تحليلاته واستنتاجاته على نطاق واسع، ولكنها الآن مرفوضة بوجه عام. على أن المبدأ العام الذي نادى به، وهو أن الصفات السيكولوجية تشارك (مع الهواء والبيئة والغذاء والمهنة الخ..) في تشكيل الجسم والوجه، مازال يحوي قدراً كبيراً من الحقيقة، فكل وجه إنما هو ترجمة ذاتية.
ةكان لافاتر جزءاً من حركة إزهار شملت روسو، والشاعر والعالم ألبرشت فون هالر، والشاعر والمصور سلومون جسنر، والمؤرخ يوهان فون مولر، وهوراس دسوسير، الذي بدأ رياضة تسلق الجبال بارتقائه جبل مون بلان في 1787 بعد محاولات اتصلت سبعة وعشرين عاماً. وأحست الكنتونات خلال ذلك برياح الثورة تهب عليها عبر الحدود من فرنسا. وفي 1797 انضم فردريك سيزار ولاهارب، الذي كان معلماً خاصاً لحفيدي كاترين الكبرى، إلى بيتر أوخس عضو نقابة التجار في بازل، في دعوة حكومة الثورة الفرنسية لتساعدهما على إنشاء جمهورية ديمقراطية في سويسرة. وقد مهدت الطريق لهذه الخطوة ثورة محلية في برن وفو (يناير 1798)؛ فعبر جيش فرنسي الحدود في 28 يناير، ورحب به أكثر السكان السويسريين محرراً لهم من الأولجركية، وفي 19 مارس أعلنت "جمهورية هلفيسية واحدة لا انقسام لها". فأطاحت بكل امتيازات الكانتونات والطبقات والأشخاص، وجعلت سويسرة كلها سواء أمام القانون. وكان زيورخ أطول الأقاليم مقاومة، وفي الهياج الشديد الذي تلا ذلك أصيب بطلق ناري الشيخ الأمين لافاتر (1799)، فمات في 1801 متأثراً بجرحه تأثراً بطيئاً.
الهولنديون 1715-1795
أعجب الناس جميعاً بالهولنديين. وقد وصف المسرحي الدنمركي هولبرج، الذي زار الأقاليم المتحدة (هولندة) و "بلجيكا" في 1704، هذه البلاد وصفاً تحمس فيه على الأخص لقنواتها التي كانت زوارقها كما قال "تنقلني من مكان لآخر" في هدوء عذب و "تمكنني من إنفاق كل ليلة في مدينة كبيرة، حتى أنني كنت أستطيع في الأمسية ذاتها أن أذهب إلى الأوبرا أو المسرح وصولي رأساً"(7). وقد أعربت عن مثل هذا السرور الليدي ماري ورتلي مونتجيو بعد اثني عشر عاماً فقالت:
"إن هذا البلد كله (هولندة) يبدو وكأنه حديقة فسيحة الأرجاء: فالطرق كلها حسنة الرصف، تظللها على الجانبين صفوف الأشجار، وتحفها قنوات واسعة غاصة بالزوارق الغادية الرائحة... وكل الشوارع (في روتردام)... معتنى بنظافتها جداً... حتى أنني جلت بأرجاء المدينة كلها تقريباً أمس، متنكرة، في خفى دون أن تنالني لوثة قذر واحدة، وترى الخادمات الهولنديات يغسلن الطوار...بعناية تفوق عناية خادماتنا بغسل غرف نومنا. ومراكب التجار تصل (على القنوات) حتى أبواب البيوت. والدكاكين والمتاجر نظيفة بهية إلى حد مدهش، غاصة بمقادير هائلة من السلع الجميلة"(8).
على أن هذه التقارير الوردية وصفت هولندة قبل أن تحس بالآثار الاقتصادية لانتصارها على لويس الرابع عشر في حرب الوراثة الأسبانية. ففيها أراقت دمها ومالها إلى ما يقرب الإنهاك؛ فتضخم دينها العام، وفقدت كثيراً من تجارة النقل التي ذهبت إلى حلفائها العسكريين الذين كانوا رغم تحالفهم العسكري معها منافسين لها في التجارة-وإلى ألمانيا. وهبطت أرباح شركة الهند الشرقية من أربعين في المائة إلى 1715 إلى اثني عشر ونصف في المائة في 1737، وأرباح شركة الهند الغربية الهولندية من خمسة في المائة في 1700 إلى اثنين في المائة في 1740(9). وجرت حرب السنين السبع مزيداً من الأذى. ذلك أن مصرفيي أمستردام أثروا بفضل القروض المرتفعة الفائدة التي أقرضوها للدول المحاربة، ولكن صلح 1763 أنهى هذه النعمة الكبرى، فأفلس كثير من المصارف الهولندية، وتضرر نتيجة لذلك كل مشروع تجاري كبير. كتب بوزويل الذي كان في هولندة في 1763 يقول "إن الكثير من كبريات المدن تضعضعت إلى حد محزن... وأنت تلتقي بمجموع من القراء الذين يتضورون جوعاً وهم عاطلون"(10). وزيدت الضرائب فأفضى ذلك إلى هجرة رأس المال والعناصر البشرية الصلبة؛ وفي هذه الفترة امتزجت دماء المستعمرين الهولنديين والألمان في جنوب أفريقيا وانبعث البوير ببطء نتيجة الامتزاج.
وجاء الانتعاش بفضل خلق الهولنديين وجدهم وأمانتهم. فقد عكف شعب هادئ قوي مدبر على فلاحة أرضه، وتشحيم طواحين هوائه، ورعي أبقاره، وتنظيف معامل ألبانه، وإنتاج ألوان لذيذة من الجبن الشهي الكريه الرائحة؛ وكانت هولندة سباقة بين دول أوربا في مضمار الزراعة العلمية(11). واستعادت دلفت سوق البرسلان الذي فقدته. واسترد مصرفيو أمستردام الهولنديون واليهود ما اشتهروا به من جدارة بالثقة وقدرة على التصرف؛ فأقرضوا المال بقليل من الفائدة والمخاطرة، وحصلوا على عقود رابحة بدفع رواتب الجند وتموينهم؛ ولجأت الحكومات ورجال الأعمال إلى أمستردام طلباً للقروض، وندر أن ردوا فارغين؛ وطوال ذلك القرن المضطرب كله تقريباً كانت بورصة أمستردام المركز المالي للعالم الغربي. كتب آدم سمث حوالي عام 1775 يقول: "إن إقليم هولندة... بالنسبة إلى مساحة أرضه وعدد سكانه، بلد أغنى من إنجلترة"(12).
وأكثر ما راع فولتير في 1725(13) كان تعايش مختلف الأديان تعايشاً لم يكدر صفوه مكدر. فهنا كان كاثوليك سنيون وكاثوليك جانسنيون (ألم يكن جانسن نفسه هولندياً؟)، وبروتستنت أرمينيون من القائلين بحرية الإرادة، وبروتستنت كلفنيون من القائلين بالقضاء والقدر، ومعمدانيون من القائلين بتجديد العماد، وسوينيون، وإخوان مورافيون ويهود، ثم حفنة من أحرار الفكر يصطلون في دفء التنوير الفرنسي(14). وكان أكثر القضاة من البروتسنت، ولكنهم "كانوا يأخذون النقود بانتظام من الكاثوليك" كما يقول مؤرخ هولندي "للإغضاء عن ممارستهم شعائر دينهم والسماح لهم بشغل مناصبهم"(15). وكان الكاثوليك الآن ثلث السكان الذين بلغ عددهم ثلاثة ملايين. أما الطبقات العليا، الملمة بأديان كثيرة بفضل اشتغالها بالتجارة، فقد تشككت في هذه الأديان كلها، ولم تسمح لها بالتدخل في القمار، والشراب، والشره في الطعام، وشيء من الفسق المتستر على الطريقة الفرنسية(16).
وكانت الفرنسية لغة المثقفين. وكثرت المدارس، واشتهرت جامعة لايدن بدراساتها في الطب التي أحيت ذكر بويهافي العظيم. وكان في كل المدن جمعيات للفنون، ومكتبات، و "قاعات للخطابة" تعقد مباريات دورية في الشعر. وكان تجار التحف الهولنديون يتمتعون بشهرة أوربية بكنوزهم وتزييفاتهم(17). وكان عصر الفن الهولندي الذهبي قد ولى بموت هوبيما (1709)، ولكن كورنيلس تروست كان على الأقل صدى يردد عظمته. وربما كان أروع نتاج الفن الهولندي في هذا العصر هو الزجاج الرقيق المنقط أو المحفور بأبر من الماس(18). وكانت أمستردام عشاً للناشرين، بعضهم شرفاء وبعضهم قراصنة. وهبط النشاط الخلاق في الأدب إلى مستوى منحط النصف الأول من القرن الثامن عشر، ولكن حوالي 1780 غذت حركة إحياء للأدب شاعراً مطبوعاً هو فلليم بلدريدك.
ويروي بوزويل أن صديقاً له أخبره أنه سيجد الهولنديين "سعداء في غبائهم"(19)؛ ولكن بوزويل كتب من أوترخت يقول "إننا نعقد اجتماعات متألقة مرتين في الأسبوع، وحفلات خاصة كل مساء تقريباً.. وفي زمرتنا سيدات جميلات محبوبات هن من الكثرة بحيث لا تستطيع الصحائف الكثيرة أن توفيهن حقهن من الثناء"(20) وأروع الصفحات في مذكرات بوزويل السريعة الموجزة عن هولندة تلك التي تصف غرامه المتردد بزيليده أو "حسناء زويلين"-وهي ايزابيللا فان تويل. وكانت تنتمي إلى أسرة عريقة مرموقة؛ فأبوها "سيد زويلين وفستبروك" كان أحد حكام إقليم أوترخت. وقد تلقت من التعليم فوق ما تحتمل، فباتت تجر بهرطقاتها في فخر، وهزأت بالتقاليد، والأخلاق، والدين، ومراتب الشرف، ولكنها فتنت الناس جميعاً بحسنها ومرحها وصراحتها المثيرة. وقد أحجمت عن الزواج المهذب الوفي، وكتبت تقول "لو لم يكن لي أب ولا أم لما تزوجت.. ولا اغتبطت كل الاغتباط بزوج يتخذني كخليلته؛ ولقلت له "لا تنظر إلى الوفاء على أنه واجب. فما ينبغي أن يكون لك غير حقوق العاشق وغيرته"(21). فأجاب بوزويل أشد الفاسقين إلحاحاً في أوربا "يا للعار يا زيليدتي، أي أوهام هذه" ولكنها أصرت على موقفها "إني لأوثر أن أكون غسالة لحبيبي، وأن أسكن علية، على حرية أسرنا الكبيرة الجرداء وآداب سلوكها المهذب"(22).
وجازت زيليدة سلسلة من العلاقات الغرامية التي خفتها وحيدة مثخنة بجراح لا تبرحها. وراحت تهدئ أعصابها بالأفيون وهي بعد في الرابعة والعشرين. وحين بلغت الثلاثين (1771) تزوجت سان-هياسنت دشاربير، وهو معلم خاص سويسري، وذهبت لتعيش معه قرب لوزان. فلما وجدته قاصراً من الناحية الفكرية، وقعت في أربعيناتها في حب رجل يصغرها بعشر سنين، فقضى وطره منه ثم هجرها. والتمست التنفيس في كتابة قصة أسمتها "كاليست" (1785-88)، طرب لها سانت-بيف أي طرب. وحين بلغت السابعة والأربعين، التقت في باريس ببنجامن كونستان، وكان فتى في العشرين، فأغوته بفكرها (1787) وكتب يقول "إن لمدام شاربير أسلوباً غاية في الأصالة والحيوية ف النظر إلى الحياة، واحتقاراً عميقاً جداً للتعصب، وفكراً بالغ القوة، وتفوقاً على أوساط الناس عارماً محتقراً... حتى أنني على غرابة أطواري وتكبري مثلها... وجدت في حديثها لذة لا عهد لي بها قط... وقد انتشينا باحتقارنا للنوع الإنساني"(23). وسار الحال على هذا المنوال حتى عام 1794 حين وجد بنجامن نشوة جديدة مع مدام دستال. واعتكفت زيليدة في عزلة مرة، وماتت في الخامسة والستين، بعد أن خلقت خواء الحياة الدنيا واستنفدته.
ولو شاءت لوجدت غذاء للتشاؤم في التاريخ السياسي للأقاليم المتحدة في القرن الثامن عشر. ذلك أن حكم البلاد بعد موت وليم الثالث (1702) احتكرته أولجريكه من كبار رجال الأعمال انصرفوا إلى فرض الضرائب على الشعب ومحاباة الأقرباء والدس والتآمر. كتب كاتب هولندي في 1737 يشكو هذه الحال فقال "إن المواطنون ممنوعون من المشاركة في الحكومة... ولا يطلب منهم نصيحة ولا رأي في إدارة شئون الدولة"(24). وقد تكشف العجز الحربي لهذا النظام حين دخلت هولندة حرب الوراثة النمساوية (1743) فغزاها جيش فرنسي ولم يلق مقاومة تذكر، وسلمت مدن كثيرة دون جدال. كتب المرشال دنوال يقول "علينا أن نتعامل مع شعب غاية في اللطف والكرم"(25) على أنهم لم يكونوا كلهم كذلك، فقد ارتفعت أصوات معظم المواطنين مطالبة بزعيم حربي ينقذ البلاد على نحو ما فعل وليم الثالث في 1672، ونصب سليله غير المباشر، وليم الرابع أمير أورانج، حاكماً للأقاليم السبعة، وقائداً للجيش، وأميراً للبحرية (3 مايو 1747)؛ وفي أكتوبر جعلت هذه المناصب وراثية في أسرته، ومعنى ذلك أن الملكية أعيدت في واقع الأمر، غير أن وليم الرابع كان فيه من التمسك بالخلق المسيحي ما لا يجعله قائداً حربياً صالحاً؛ فلم يستطع أن يعيد النظام إلى الجيوش، وتوالت الهزائم يقفو بعضها بعضاً، وفي معاهدة إكس-لا-شابل (1748) كانت هولندة محظوظة لاحتفاظها بأراضيها سليمة، ولكنها عادت خربة من الناحية الاقتصادية ومات وليم بالحمرة وهو في الأربعين (1751)، وقامت أرملته الأميرة آن-بالوصاية على العرش إلى أن ماتت (1759)، ثم حكم لودفج إرنست أمير بروزويك-فوفلنبوتل البلاد حكماً صارماً كفئاً حتى بلغ وليم الخامس سن الرشد (1766).
وفي الحرب الدائرة بين إنجلترة والمستعمرات الأمريكية احتجت هولندة على عدوان البريطانيين على السفن الهولندية، وانضمت إلى روسيا في "الحياد المسلح" المبرم في 1780؛ وأعلنت إنجلترة عليها الحرب، واستولت على جميع السفن الهولندية تقريباً، وفي معاهدة باريس (1783) كادت مصالح هولندة أن تغفل، فنزلت عن نجاباتام (في جنوبي الهند) لإنجلترة، وسمحت للإنجليز بحرية الملاحة في جزر ملقا. وهكذا لم تعد هولندة تلعب دوراً بين الدول.
ودمرت هذه الخطوب شعبية وليم الخامس. ثم إن نجاح الثورة في أمريكا حفز الأفكار الديمقراطية في الأراضي الواطئة، وأفضى إلى قيام حزب "الوطنيين" المناهض للأسرة الحاكمة. وكانت القلة صاحبة المال تمتص ثروة الأمة المتناقصة خلال كل تغيير في الحكومة امتصاصاً ألجأ رجالاً كثيرين إلى التسول ونساء كثيرات إلى البغاء في المدن التي كانت يوماً ما مزدهرة يسودها النظام. وفي 1783. تكونت سراً جماعات من "الرماة الأحرار" في أمستردام ولاهاي للإعداد للثورة. وفي 1787 استولى "الوطنيون" على السلطة، ولكن وليم الخامس أعيد إلى عرشه بفضل تدخل بروسيا المسلح. ثم نفخت الثورة الفرنسية الحماسة من جديد في أفئدة الوطنيين، فدعوا فرنسا لتخف لنجدتهم. وعليه ففي 1794 غزت الجيوش الفرنسية هولندة، وبطشت بالجيش الهولندي، وفر وليم الخامس إلى إنجلترة، وانضم أنصار الثورة الهولنديون إلى الفرنسيين في تنظيم الجمهورية البتافية (1795-1806). وفي 1815 أعاد ابن وليم الخامس بيت أورنج-ناساو إلى السلطة باسم الملك وليم الأول، وأسلاله يتربعون على عرش هولندة اليوم (1967).
الدنمركيون 1715-1797
بلغ عدد سكان الدنمرك حسب أول تعداد رسمي للبلاد (1769) 825.000 نسمة، يضاف إليهم 727.600 في النرويج التي ظلت خاضعة للملوك الدنمراكيين حتى 1814. وكان كل الفلاحين تقريباً في النرويج يملكون أراضيهم، وفيهم كبرياء ككبرياء الفيكنج. أما الدنمرك فكان نصف فلاحيها أقناناً، والنصف الآخر خاضعين للرسوم الإقطاعية. وجهد الملوك لكبح جماح هذا الإقطاع، ولكنهم كانوا معتمدين مالياً على الإشراف، واستمرت القنية حتى 1787. في هذا النظام لم تلق التجارة ولا الصناعة تشجيعاً يذكر، ولم تنم طبقة وسطى ذات شأن؛ وأفاد فتح قناة كيل (1783) الإنجليز والهولنديين أكثر مما أفاد الدنمركيين. وفي 1792 كانت الدنمرك أول دولة أوربية تلغي النخاسة في ممتلكاتها.
وكما سيطر النبلاء على الدولة كذلك سيطرت الكنيسة على المنابر والطباعة، وأملت أن تسيطر على العقول أيضاً. فحرمت الرقابة الصارمة التي امتدت من 1537 إلى 1849 كل ما يطبع أو يقال مما لا يتفق والتعاليم اللوثرية القويمة؛ وصودر الكثير من الكتب غير اللاهوتية، كقصة جومة "آلام فرتر" لأنها خطر يهدد الأخلاق العامة. وزاد من القيود المعطلة لنمو الأدب استعمال الألمانية في البلاط، واللاتينية في الجامعات، والفرنسية في الآداب البحتة-التي لم يكد يوجد منها شيء. وكان تدشين الأدب الدنمركي بالتأليف باللغة القومية، وإدخال بصيص من التنوير إلى الدنمرك، من مآثر ألمع دنمركي في القرن الثامن عشر.
وتستطيع كل من النرويج والدنمرك أن تنسب إليها لودفج فون هولبرج، لأن ولد في برجن (3 ديسمبر 1684). وبعد أن تلقى العلم في المدرسة اللاتينية المحلية، عبر الماء ليلتحق بجامعة كوبنهاجن. ولكن سرعان ما نضب ماله؛ فقفل إلى النرويج واشتغل مدرساً خصوصياً في أسرة قسيس ريفي. فلما أن ادخر ستين طالراً انطلق ليرى الدنيا من حوله. فنراه في 1704 في هولندة، وفي 1706-1708 كان يعلم نفسه في مكتبات أكسفورد. فلما عاد إلى كوبنهاجن ألقى محاضرات لم تأته بأكثر كثيراً من تعليم الذات، وعاش أثناء ذلك على التدريس الخصوصي، واغتذى بالطموح. وفي 1714 عينته الجامعة أستاذاً دون راتب، غير أن منحة خاصة أتاحت له الجولان عامين في ربوع إيطاليا وفرنسا، على قدميه أكثر الوقت. فلما آب من أروع رحلة بين الرحلات الرائعة كلها، عين أستاذاً للميتافيزيقا، وهي مادة أبغضها، ثم للاتينية والبيان، وأخيراً (1730) للتاريخ والجغرافيا اللذين أحبهما.
ولقد خلق الأدب الدنمركي في لحظات فراغه. فحتى زمنه لم يكن في الدنمركية شيء سوى الأغاني الشعبية والفارصات والترانيم والكتب العقيدية الشعبية. وألف هولبرج مكتية صغيرة من القصائد والهجائيات والقصص والأبحاث بالدنمركية في السياسة والقانون والتاريخ والعلوم والفلسفة. ولم ينافسه غير فولتير في تعدد جوانبه. وقد استعمل الهزل كما استعمله فولتير ليسوط به الأساتذة المزهوين من عباد الدراسات الكلاسيكية، والمحامين الذين يقيدون حركة العدالة بأغلال الدقائق التقنية، ورجال الدين المتزاحمين بالمناكب على المال والمنصب، والأطباء الذين ييسرون دخول المرضى إلى الأبدية. وتناول كل أعمدة المجتمع هؤلاء تقريباً بالتشهير في أول آثاره الأدبية الكبرى، وهو ملحمة ساخرة سماها بيدرباس (1719). وأوجع بعض كبار الدنمركيين وخز هذا الهجاء، فناشدوا الملك فردريك الرابع أن يصادر الكتاب باعتباره ضاراً بالأخلاق مستهزئاً بالقساوسة؛ وقرئ على الملك أول قسم في الملحمة كطلبه، فحكم بأنها "عمل بريء مسل"، غير أن المجلس الملكي أحاط هولبرج بأنه كان خيراً لو أن القصيدة لم تكتب قط(26).
وعلى ذلك انصرف إلى المسرح. ففي 1720 افتتح ممثل فرنسي اسمه إتيين كابيون في كوبنهاجن أول مسرح دنمركي. فلما افتقد المسرحيات الدنمركية الجديرة بالإخلاتج استورد الدرامات من فرنسا وألمانيا. غير أنه استشف من "بيدربارس" أن هولبرج يملك المواد والموهبة اللازمة للكوميديا، فلجأ إليه ليمد المسرح الجديد بتمثيليات باللغة العامية، ولم ينقض عام حتى كان هولبرج قد ألف خمس تمثيليات، وفي ثمانية أعوام ألف عشرين، كلها غني في صور الأعراف والعادات المحلية غني حمل خلفه العظيم آدم أو هلنشليجر على أن يقول فيه "إنه عرف كيف يصور الحياة البورجوازية لمدينته كوبنهاجن بأمانة عظيمة بحيث لو انشقت الأرض وابتلعت هذه المدينة، وبعد مائتي عام أميط اللثام عن كوميديات هولبرج، لاستطاع المرء أن يعيد بناء العصر منها، على نحو ما نعرف أيام روما القديمة من أطلال بوميي وهركيولانيوم(27).
ونقل هولبرج القوالب والأفكار عن بلوتوس وترنس وموليير والكوميديا ديللارتي التي شهدها في إيطاليا. وبعض كوميدياته تمثلياته من فصل واحد ذات موضوعات تافهة فقدت قوة دفعها، مثل "رحلة سجاناريل إلى أرض الفلاسفة"(28). وبعضها ما زال يحتفظ بقوته، مثل "يبي رجل التل" التي نعرف منها أن الفلاحين حين يظفرون بالسلطة يكونون أشد بغساً من سادتهم. وبعضها تمثيليات مكتمة الدول مثل "رازموس مونتاثوس"، وهي هجائية مرحة تسخر بتنطع العلماء، وبغطرسة اللاهوتيين وبجهل العوام، مع مسحه خبيثة من صراحة الريفيين وصدقهم، مثل قول لسبيد لأبيها بعد أن سمعت بأن خطيبها عائد من الجامعة "إذن فقد صدق حلمي.. لقد حلمت أنني نمت معه البارحة"(29) على أن مسرح كوبنهاجن رغم هذه الكوميديات المرحة أغلق أبوابه في 1727 لافتقاره إلى الدعم الشعبي. وكان آخر ما مثل فوق خشبته مسرحية هولبرج "مأتم الكوميديا الدنمركية".
لقد صدم زملاءه من أساتذة الجامعة بالكتابة للمسرح؛ أما الآن فقد ألان جانبهم بمؤلفات تاريخية يسرت للقراء الدنمركيين ثمرات الدراسات الأوربية الغربية. وكانت كتبه "تاريخ للدنمرك" (1732-1735)، تاريخ عام للكنيسة" (1727-1747)، و "تاريخ لليهود" منصفات، ولكنها متقنة. والتمس هولبرج التخفف من هذه الجهود في رائعته. "رحلة نيلس كليم السفلية" (1741). وقد كتبها نثراً لاتينياً لتصل إلى القراء الأوروبيين، فوصلت، ولكن بطريق الترجمة: ترجمها ينز باجيزبن إلى الدنمركية فطبعت الترجمة ثلاث مرات، وظهر منها بالألمانية عشر طبعات، بالسويدية، والهولندية، والإنجليزية، وثلاث، وبالفرنسية والروسية اثنتان، وبالمجرية واحدة. هذه "الرحلة السفلية" هي التي جعلت هولبرج "سويفت الدنمرك" وفولتيرها" معاً.
والقصة تروي أن الضوضاء المنبعثة من كهف تثير فضول نيلس، فيصمم على استقصاء مصدرها ويدليه أصحابه بحبل ينقطع، "وبسرعة مذهلة دفع بي إلى أعماق الهاوية"(30). ثم يعثر في قشرة الأرض على مساحة مكشوفة أو قبة سماوية فيها شمس وكواكبها السيارة، ونجوم كثيرة. ويسقط صوب أحد هذه الكواكب فيصبح قمراً تابعاً له ويدور حوله عاجزاً، ولكنه يمسك بنسر يحمله حتى يهبط في رفق على الكوكب بوتو (أي يوتويا) مقلوبة. هنا يجد الأشجار هي النوع السائد، وهي غنية بعصارتها العاقلة، ولسوء الحظ "كانت الشجرة التي تسلقتها... هي زوجة العمدة"(31). ولبوتو بعض القوانين الممتازة. فالناس الذين "يتجادلون علانية حول صفات الكائن الأعظم وماهيته ينظر إليها على أن يهم مساً من الجنون"، فيعالجون بفصدهم لتهبط حامهم، ثم يحبسون حتى "يفيقوا من هذا الهذيان بـ"(32). والأمهات في بوتو يرضعن أطفالهن-وهي فكرة سبقت بعشرين سنة دعوة روسو للأمهات إرضاع أطفالهم من ثديهن. وفي إقليم كوكليكو تحكم النساء الدولة، ويعني الرجال بشئون البيت أو يصبحون بغايا، وللملكة "حريم" من ثلاثمائة شاب وسيم. وينفق الفلاسفة في كوكليو وقتهم في محاول الوصول إلى الشمس، ولا يهتمون اهتماماً يذكر بشئون الدنيا. وفي إقليم ميكولاك تجد الناس كلهم ملحدين، "يقارفون أي شيء يستطيعون إخفاءه عن الشرطة"(33) ويقع نيلس على كتاب بعنوان "رحلة تانيان إلى العالم السفلي" يصف أوربا وعاداتها الغريبة: الرءوس التي تكسبوها البواريك الضخمة، والقبعات المحمولة تحت الأذرع (كما يفعل نبلاء فرنسا)، "والكعكات الصغيرة أوالقرابين تحمل مروراً بالشوارع ويقول الكهان أنها آلهة، والناس الذين خبزوها... يحلفون على الإيمان بأن هذه القرابين خلقت الدنيا"(34).
وقد اشتملت "الرحلة السفلية" على انتقادات للعقيدة المسيحية، ودعت إلى إطلاق حرية العبادة لجميع المذاهب، ولكنها أوصت بالإيمان بالله، وبالجنة، وبالنار، باعتبارها ركائز ضرورية لناموس أخلاقي لا تفتأ تهاجمه مطالب النفس والجسد هجوماً شرساً(35). ورقى العلم فردريك الخامس المصلح الذي انصلح أمره باروناً في 1747؛ واستمتع هولبرج بلذة التمرد في سبابه والرضي يعنه في شيخوخته التي اختتمت سنة 1754. وما زال إلى اليوم إمام الأدب الدنمركي.
على أن البعض قد يخصون بهذا المقام يوهان إيفالد الذي ضارعت حياته حياة بايرون وكيتس وشلي مغامرة ومعاناة وقصراً. وقد ولد في كوبنهاجن في 1743 لقسيس لوثري، وتمرد على المتزمتين من الكبار، ووقع في غرام آرنسي هوليجارد وهو في السادسة عشرة، وهجر مهنة اللاهوت لأنه استبطأ ثمراتها، وتطوع في الجيش البروسي ثم النمساوي، وصمم على الظفر بالثروة والمجد اللذين ينيلانه آرنسي عروساً. ولكن الحرمان والمرض أتلفا صحته، فعاد إلى كوبنهاجن واللاهوت، وزوجت آرنسي ثروة أعجل، وسكب إيفالد قلبه في الشعر والنثر. فكتب أول مأساة دانمركية أصيلة سماها "رولف كراجي" (1770)، ويبلغ قمة الشعر الدنمركي في القرن الثامن عشر بمسرحية "موت بالدر" (1773) وهي دراما ملحمية بالشعر. على أن جهده لم أته إلا بالكفاف، فاعتكف في عزلة ريفية، وراح يجتر سلسلة من الأوصاب، ثم أنعشه معاش من الحكومة آخر الأمر. وقد رد على الصنيع بتمثيلية "صيادي السمك" (1776) التي احتوت أغنية شعبية وطنية مطلعها "وقف الملك كرستيان إلى جوار الصاري العالي" التي أصبحت أنشودة الدنمركيين القومية المفضلة(36). وكانت دعوة إيفالد إلى المجد، ووداعه للحياة، ومات في 1781 إثر مرض طويل أليم غير متجاوز الثامنة والثلاثين. ويعد السكندنافيون "من أعظم شعراء الشمال الغنائيين، بل ربما أعظمهم قاطبة"(37).
وبتقدم القرن الثامن عشر أصبح التقدم السياسي للدنمرك جزءاً من الدراما الحديثة المتصلة أبداً بين التقاليد المتوارثة والتجربة. وقد مزج كرستيان السادس (حكم 1730-46) بين القوى المتعارضة. فدفع هو ووزراؤه التنمية الاقتصادية قدماً باستجلاب الغزالين والنساجين لإنشاء صناعة النسيج، وبتكوين الشركات القومية للاتجار مع آسيا وأمريكا، وبفتح مصرف كوبنهاجن (1744). ونشروا التعليمين الابتدائي والثانوي، وأسسوا الأكاديميات لتشجيع الأدب والعلم. على أنهم جددوا قانوناً قديماً يلزم بحضور بخدمات الصلات اللوثرية، وأغلقوا جميع المسارح وساحات الرقص، ونفوا الممثلين، ومنعوا الحفلات التنكرية.
وأبقى فردريك الخامس (حكم 1746-66) ابن كرستيان على هذه القوانين ولكنه خفف من وطأتها بروحه اللطيفة وحبه للذات الحسية. ففي 1751 استقدم من هانوفر يوهان هارفنج أرنست فون بيرنشتورف، الذي وفق وهو رئيس للوزراء في رفع مستوى الأمانة والكفاءة في الإدارة، وأصلح شأن الجيش والبحرية، وأبعدهما عن حرب السنين السبع، وحرك مياه الثقافة الدنمركية الراكدة بجلب الأساتذة والشعراء والفنانين والعلماء؛ وقد رأينا كلويشتوك يقبل هذه الدعوة. وفي 1767 توج الكونت فون بيرنشتورف سياسته الخارجية السلمية بإقناع كاترين الكبرى بتوقيع اتفاقية نزلت بمقتضاها للدنمرك عن هولشتين-جوتورب.
ومات فردريك الخامس في الثالثة والأربعين (1766) بعد أن أنهكته لذاته. وقد زوج ابنه كرستيان السابع (حكم 1766-1808) على عجل وهو بعد في السابعة عشرة من كارولين ماتيلدا أخت جورج الثالث ملك إنجلترة، وقد أفاضت إشراقاً على حياة العاصمة الاجتماعية، ولكن زوجها نصف المجنون أهملها إيثاراً لحياة الخلاعة، وانزلقت كاترين إلى غرام مأساوي من طبيب البلاط يوهان فريدريش شتروينزي. وكان ابناً لأستاذ لاهوت في هاله، فدرس فيها الطب، وفقد إيمانه الديني كما يفقده أكثر الأطباء. وقد دان بحظوته عند الملك لبراعته في علاج العواقب الاكلينيكية لغراميات الملك، وعند الملكة لتوفيقه في الأتيان بكرستيان السابع إلى فراشها بما يكفي لإنجاب وريث للعرش. فلما تردى عقل الملك في درك الاكتئاب وعدم المبالاة، وزادت سلطة الملكة في الحكومة، وسمحت لطبيبة بإدارة سياستها كما سمحت له بالاستمتاع بحظوتها فغدا (1770) حاكم الدولة الفعلي. وخرجت الأوامر من القصر الملكي ممهورة من شتروينزي باسم الملك "غير المتمال قواه العقلية". وطرد برنشتورف، فاعتكف بهدوء في ضياعه بألمانيا. وكان شتروينزي قد قرأ مؤلفات جماعة "الفلاسفة" الفرنسيين، وعلى مبادئهم نوى أن يشكل الحياة الدنمركية من جديد. فألغى استغلال النبلاء لامتيازاتهم، وأنهى الرقابة على المطبوعات، وأسس المدارس، وطهر المصالح الحكومية من الرشوة والاستغلال، وأعتق الأقنان، وحرم التعذيب القضائي، وأعلن التسامح لجميع الأديان، وشجع الآداب والفنون، وأصلح القانون والمحاكم والبوليس، والجامعة، والمالية، ووسائل حفظ الصحة البلدية... ثم ألغى معاشات كثيرة تخفيفاً من الدين العام، ورصد دخول المؤسسات الدينية للإنفاق على الأغراض العامة.
"ولكن النبلاء تآمروا ليسقطوه، واستغلوا حرية النشر لاستنزاف شعبيته.
وكره الأتقياء من الدنمركيين التسامح الديني لأنهم رأوه كفراً، ورددت أحاديثهم عن شترونيزي أنه أجنبي دخيل ليس لسلطته سند غير فراش الملكة. وفي 17 يناير 1772 أقنع لفيف من ضباط الجيش الملك بأن شتروينزي والملكة يبيتان قتله فوقع أمراً بالقبض عليهما. ورحلت كارولين إلى كرونبورج قلعة هاملت. أما شتروينزي فألقي في السجن، وبعد خمسة أسابيع من المعاناة اعترف بزناه مع الملكة. وفي 28 أبريل 1772 قطع إرباً على مقصلة على مرأى من جمهور محبذ لهذا العقاب. وسمح لكارولين بعد إلحاح جورج الثالث بالاعتكاف في تسليله بهانوفر، حيث ماتت في 10 مايو 1775 وهي بعد في الرابعة والعشرين.
وقلد المتآمرون الفائزون الحكم لأوفى جولد برج، المعلم الخاص للأمير فردريك. ود قاد جولدبرج خلال اثني عشر عاماً من الحكم حركة انتفاض وطنية على النفوذ الأجنبي في الحكومة واللغة والتعليم، وفتح باب المناصب للعامة، وأعاد القنية، والتعذيب القضائي، وسيادة الكنيسة اللوثرية، والتوجيه الديني للجامعة. ووكلت الشئون الخارجية لأندرياس بيتر فون برنشتورف، ابن أخي الكونت فون برنشتورف ومحسوبه. فلما نصب الأمير فردريك نفسه وصياً (1784) طرد جولدبرج: وأصبح أندرياس فون برنشتورف رئيس الوزراء وظل كذلك إلى يوم مماته. وبإرشاده الحكيم ألغيت القنية الثانية (1787)، وأنهيت النخاسة في المملكة الدنمركية، وأطلقت حرية القيام بالمشروعات الاقتصادية. فلما مات برنشتورف (1797) كانت الدنمرك قد ثبتت أقدامها على الطريق إلى ذلك الرخاء السلمي الذي جعلها محسودة من العالم كله.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
السويديون
السياسة 1718 - 1771
كانت حياة شارل الثاني عشر المثيرة مأساة للسويد. ذلك أن مراميه لم تسترشد بموارد وطنه بل بظمئه للمجد. وقد احتمله الشعب السويدي بشجاعة وهو يأتي على قوتهم البشرية وثروتهم، ولكنهم كانوا يدركون قبل موته بزمان أن مصيره الفشل المحقق. فقد نزلت السويد بمقتضى معاهدات ستوكهولم (1718-20) عن دزقيتي بريمن وفرمن لهانوفر، وعن الجزء الأكبر من بومرانيا لبروسيا. وبمقتضى صلح نيستاد (1721) نزلت عن ليفونيا واستونيا وامجرمانلاند وكاريليا الشرقية لروسيا. وقضى على سلطة السويد على أرض القارة، وأكرهت على التقهقر إلى شبه جزيرة غنية بالمعادن وصلابة الخلق القومي، متطلبة الجهد الشاق والمهارة المثابرة ثمناً للحياة.
وقد أضعفت خزيمة شارل شوكة الملكية، وأتاحت للنبلاء أن يستردوا سيطرتهم على الحكومة. فأعطى دستور 1720 السلطة الغالبة لمجلس نيابي أو "دايت" مؤلف من أربع "طبقات" أو مجالس. مجلس نبلاء "ريدارهوس" قوامه رؤساء الأسر النبيلة كلها؛ ومجلس قساوسة-من الأساقفة مضافاً إليهم نحو خمسين مندوباً ينتخبهم اكليروس الأبرشيات من بينهم؛ ومجلس سكان المدن، من نحو تسعين مندوباً يمثلون الموظفين الإداريين وأقطاب رجال الأعمال في المدن؛ ومجلس فلاحين، من مائة مندوب تقريباً يختارون بواسطة المزارعين من ملاك الأرض الأحرار ومن بينهم. وكانت كل طبقة تجلس منفصلة عن غيرها، ولا يمكن أن يصبح أي مشروع قانوناً ما لم توافق عليه ثلاث طبقات؛ ولم يكن لطبقة الفلاحين في حقيقة الأمر قوة تشريعية إلا بموافقة طبقتين أخريين. وخلال اجتماعات المجلس النيابي كانت "لجنة سرية" من خمسين نبيلاً، وخمسة وعشرين قسيساً، وخمسة وعشرين نائباً عن المدن تحضر مشروعات القوانين جميعها، وتختار الوزراء، وتهيمن على السياسة الخارجية. وقد أعفى النبلاء من الضرائب، واحتكروا حق شغل مناصب الدولة العليا(38). فإذا لم يكن المجلس منعقداً سير دفة الحكم "راد" (مجلس) من ستة عشر أو أربعة وعشرين رجلاً يختارهم المجلس النيابي ويسألون أمامه. وكان الملك يرأس هذا المجلس وله صوتان، وفيما عدا هذا لم يكن له سلطة التشريع. وتضافرت روسيا وبروسيا والدنمرك لتأييد هذا الدستور لأنه يحبذ سياسة السلام ويكبح النزعات الحربية للملوك الأقوياء.
ولم تعد الملكية وراثية بل أصبحت انتخابية. وبعد موت شارل الثاني عشر (30 نوفمبر 1718) كان مآل العرش بالوراثة إلى كارل فريدريش دوق هولشتين جوتورب، وهو ابن لأخت شارل الكبرى؛ ولكن الجلس النيابي المنعقد في يناير 1719 لأول مرة في عشرين سنة، أعطى التاج لأولريكا اليانورا وهي أخت لشارل، بعد أن وافقت على التخلي عن سياسة الاستبداد الملكي التي مارسها أخوها. ولكن حتى مع هذه الموفقة تبين أنها عسيرة القياد، وفي 1720 أقنعت بالنزول عن العرش لزوجها الحاكم فردريك الأول أمير هسي-كاسل الذي أصبح الآن فردريكاً الأول ملك السويد. وبفضل الإرشاد الحكيم الذي بذله الكونت آرفيد برنهارد هورن-وكان مستشاراً للدولة-أتيح للسويد ثمانية عشر عاماً من السلام لترأ فيها من جراح الحرب.
غير أن الأباة من السويديين سخروا من سياسته السلمية ولقبوا أشياعه "الطواقي" وهم يعنون بهذا اللقب أنهم خرفون نيام بينما تتراجع السويد إلى المؤخرة في ركب الدول. وقام ضد هؤلاء حزب "القبعات" الذي كونه الكونت كارل جيلنبورج.، وكارل تسين، وغيرهما. وتسلط هذا الحزب على المجلس النيابي في 1738، وحل جيلنبورج محل هورن. وإذ كان مصمماً على إعادة السويد إلى سابق مكانها بين الدول، فإنه جدد التحالف المتقادم مع فرنسا التي أرسلت معوناتها المالية للسويد لقاء معارضتها لمطامع روسيا؛ وفي 1741 أعلنت الحكومة الحرب على روسيا، أملاً في استرداد أقاليم البلطيق التي استولى عليها بطرس الأكبر، ولكن لا الجيش ولا البحرية كانا معدين الإعداد الكافي، وقد أعجز المرض رجال البحرية، وسلم الجيش فنلنده كلها أمام الزحف الروسي. على أن القيصرة اليزابث، الحريصة على كسب تأييد السويد، وافقت على رد معظم فنلنده إذا عين ابن عمها ادولفس فردريك أمير هولشتين-جوتورب للعرش السويدي. وبهذه الشروط أنهى صلح آبو الحرب (1743). فلما مات فردريك الأول (1751) ارتقى ادولفس فردريك العرش.
ولم يمض وقت طويل حتى علمه مجلس الطبقات أنه ملك بالاسم لا بالفعل. فقد نازعه حقه في تعيين النبلاء الجديد، أو اختيار أعضاء بلاطه، وهدد بالاستغناء عن توقيعه أنه اعترض على التوقيع على قوانين أو وثائق معينة. وكان الملك رجلاً لين العريكة، ولكن كان له زوجة متكبرة آمرة هي لويزة أولريكا أخت فردريك الأكبر. وحاول الملك والملكة الثورة على سلطة المجلس. ولكن الثورة أخفقت، وعذب عملاؤها وقطعت رءوسهم أما الملك فعفى عنه لأن الشعب كان يحبه. وأما لويزة فعزت نفسها بحب الأدب وبرزت في مضاره. وقد صادقت لينايوس وجمعت من حولها لفيفاً من الشعراء والفنانين نشرت خلالهم أفكار التنوير الفرنسي. وعين المجلس النيابي معلماً جديداً لابنها ذي الأعوام العشرة، وأصدر إليه تعليمات بأنه يحيط ملك المستقبل جوستافس الثالث بأن الملوك في الدول الحرة لا يحتفظون بعروشهم إلا إذا سمح لهم بشروط، وأنهم إنما تخلع عليهم الأبهة والجلال "لتشريف المملكة لا لأجل الشخص الذي يتفق أن يشغل المكان الأول في الموكب "وأنه" بما أن بريق البلاط ووهجه "قد يضللهم بأوهام العظمة، فإنهم يحسنون صنعاً أن هم تفقدوا أكواخ الفلاحين بين الحين والحين، ورأوا الفقر الذي يدفع تكاليف الأبهة الملكية"(39).
وفي 12 فبراير 1771 مات أدولفس فردريك ودعا المجلس جوستافس الثالث ليأتي من باريس ويتمثل لمراسم الملكية.
جوستافس الثالث
كان أكثر الملوك جاذبية بعد هنري الرابع ملك فرنسا. وإذ كان وسيماً مرحاً، عاشقاً للنساء والفنون والسلطة، فقد لمع وتوهج خلال تاريخ السويد كأنه الشحنة الكهربية دافعاً إلى الحركة كل العناصر الحيوية في حياة الأمة. وكان قد أحسن تعليمه على يد كارل تسين، ودللته أمه المولعة به. وكان من حيث الفكر نابغاً مرهفاً، ومن حيث الخيال والحس الجمالي موفور الحظ، لا يستقر على حال لفرط طموحه وكبريائه، فليس من اليسير أن يكون المرء أميراً متواضعاً. ونقلت إليه أمه عشقها للأدب الفرنسي، فقرأ فولتير بنهم، وبعث إليه بعبارات الاحترام، وحفظ الهنريادة عن ظهر قلب. وكان السفير السويدي في باريس يوافيه بكل مجلد من "الموسوعة" عند صدوره. ودرس التاريخ باهتمام وافتتان، وأطربته سير جوستافس فازا، وجوستافس أدولفس، وشارل الثاني عشر؛ وبعد أن قرأ عن هؤلاء الرجال لم يطق أن يكون ملكاً خاملاً. وفي 1766، زوجة المجلس للأميرة صوفياً مجدلينا ابنة فردريك الخامس ملك الدنمرك دون أن يؤخذ رأيه، ولا رضى أبويه. وكانت خجولاً دمثة الطبع تقية ترى المسرح مكاناً للإثم؛ أما هو فكان شكاكاً، يحب الدراما، ولم يغتفر قط للمجلس إقحامه في هذا الزواج المتنافر. وهدأ المجلس ثائرته مؤقتاً بمنحة طيبة تتيح له الرحلة إلى فرنسا (1770-71).
وتوقف في كوبنهاجن، وهمبورج، وبروزويك، ولكن باريس كانت مقصده. وتحدى غضب لويس الخامس عشر بزيارة شوازيل المنفى، وانتهك التقاليد بزيارة مهام دوباري في قصره الريفي في لوفيسيين. والتقى بروسو، ودالامبير،-ومارمونتيل، وجريم، ولكن ظنه فيه خاب وكتب لأمه يقول "تعرفت إلى جميع الفلاسفة" وأني لأجد كتبهم ألطف كثيراً من أشخاصهم"(40) وسطع نجماً من نجوم الشمال في صالونات السيدت في جوفران ودودفان ودلسبيناس ودبينييه ونكير. وتلقى وسط انتصاراته نبأ يفيد أنه أصبح ملك السويد. فلم يتعجل الرجوع، بل أقام في باريس ردحاً أتاح له الحصول على معونات مالية كبيرة للسويد من حكومة فرنسا المشرفة على الإفلاس، و300.000 جنيه لاستعماله الشخصي في ترويض أعضاء مجلس الأمة. وفي الطريق إلى أرض الوطن توقف ليرى فردريك الأكبر الذي أنذره بأن بروسيا ستدافع-بالسلاح إن اقتضى الأمر-عن ذلك الدستور السويدي الذي قيد سلطات الملك تقييداً شديداً.
ووصل جوستافس إلى ستوكهولم في 6 يونيو. وفي الرابع عشر افتتح أول مجلس أمة في عهده بكلام جميل أشبه بذلك الذي افتتح به ملك آخر معوق، هو جورج الثالث، برلمانه الأول في 1760. قال "إنني قد ولدت ونشأت بين ظهرانيكم تعلمت منذ نعومة أظفاري أن حب وطني، وأني لأعده أعظم امتياز أنني ولدت سويدياً، وأكبر شرف أن أكون المواطن الأول لشعب حر"(41). وقد أكسبته بلاغته ووطنيته تجاوباً حاراً من الأمة، ولكنهما لم تحركا قلوب رجال السياسة. وفاز حزب الطواقي-أصدقاء الدستور وروسيا-الذين تمولهم كاترين الثانية بأربعين ألف جنيه، بأغلبية في ثلاث من مجالس الطبقات الأربع. ورد جوستافس باقتراض 200.000 جنيه من المصرفيين الهولنديين ليشتري انتخاب مرشحه رئيساً للمجلس. ولكن كان عليه أن ينتظر تتويجه، فراجعت مجالس الطبقات التي يسيطر عليها حزب الطواقي يمين التتويج ليربط الملك بتعهد يلتزم فيه بقرار "أغلبية مجالس الطبقات" وأن تكون الكفاية وحدها أساساً لجميع الترقيات. وقاوم جوستافس نصف عام هذه الخطوة نحو الديمقراطية، وأخيراً وقع (مارس 1772)، ولكنه في دخيلة نفسه اعتزم الإطاحة بهذا الدستور الكريه لأول بادرة تسنح له.
وقد مهد أرضه بتوطيد شعبيته. ففتح أبوابه للجميع، و "أغدق الهبات كأنه يتلقاها"، ولم يصرف أحداً غير راض. وقد وافقه نفر من قادة الجيش على أنه لا يستطيع تخليص السويد من تسلط روسيا وبروسيا-اللتين كانتا في هذا الوقت بالذات (5 أغسطس 1772) تقطعان أوصال بولندة-إلا حكومة مركزية قوية لا يعوق حركتها مجلس أمة مرتش. وساهم فرجيين السفير الفرنسي بمبلغ 500.000 دوقاتية في نفقات الانقلاب. وفي 18 أغسطس رتب جوستافس أن يقابله ضباط الجيش في الترسانة صباح الغد. وجاء مائتان منهم، فطلب إليهم أن ينضموا إليه في الإطاحة بنظام حكم فاسد قلق يدعى عمه أعداء السويد، فوافقوا كلهم على أن يتبعوه إلا واحداً. أما الخارج على الإجماع، وهو رودبيك الحاكم العام، فقد ركب مخترقاً شوارع ستوكهولم داعياً أفراد الشعب إلى حماية حريتهم، ولكنهم ظلوا غير مكترثين، لأنهم كانوا معجبين بجوستافس، ولم يحبوا هذا المجلس الذي كان في رأيهم يستر أولجركية من النبلاء ورجال الأعمال وراء أشكال ديمقراطية. وقاد الملك الشاب (وقد بلغ السادسة والعشرين) الضباط إلى ثكنات حرس ستوكهولم فتحدث إليهم حديثاً بلغ من الإقناع مبلغاً جعلهم يتعهدون بتأييده. وبدأ أنه يكرر خطوة فخطوة الطريقة التي أوصلت كاترين الثانية إلى السلطة قبل عشر سنوات.
فلما التأم شمل مجلس الأمة في 21 أغسطس وجد ساحته يحيط بها الرماة والقاعة نفسها قد احتلها الجنود. ووبخ جوستافس في خطاب صنع التاريخ مجالس الطبقات لأنها لوثت نفسها بالتناحر الحزبي والرشوة الأجنبية، وأمر بأن يقرأ عليها الدستور الجديد الذي أعدوه معاونوه. وقد احتفظ هذا الدستور بملكية مقيدة، ولكنه وسع سلطات الملك، فخول له الهيمنة على الجيش والبحرية والعلاقات الخارجية، وله وحده حق تعيين الوزراء وإقالتهم، ولا يجتمع مجلس الأمة إلا بدعوة منه، وله أن يفضه متى شاء، ولا يناقش المجلس إلا ما قدمه له الملك، ولكن لا يصبح مشروع قانوناً دون موافقة المجلس، ويحتفظ المجلس بالإشراف على المالية عن طريق مصرف السويد وحق فرض الضرائب. وليس للملك أن يخوض حرباً هجومية دون موافقة المجلس. والقضاة يعينهم الملك ثم يصبحون غير قابلين للعزل، ويحمي حق "الهابياس كوريس" كل الأشخاص المعتقلين من تعطيلات القضاء. وطلب جوستافس إلى النواب أن يقبلوا هذا الدستور، وأقنعتهم أسنة الحراب فقبلوه، وأقسموا يمين الولاء. وشكر الملك المجلس وفضه واعداً بدعوته من جديد خلال ستة أعوام. واختفى حزباً الطواقي والقبعات. وقد تم الانقلاب في سرعة لم يرق فيها دم، وبرضى الشعب على ما يلوح. "وقدهتفوا لجوستافس محرراً لهم وأغرقوه دعاء... وتعانق الناس وهم يذرفون دموع الفرح"(42). واغتبطت فرنسا، أما روسيا وبروسيا فهددتا بالحرب لرد الدستور القديم. ولكن جوستافس لم يهتز، وتراجعت كاترين وفردريك، مخافة أن تعرض الحرب مغانهما البولندية للخطر.
وسلك جوستافس في العقد التالي مسالك الملك الدستوري-أي أنه خضع للقانون الموضوع. وقام بإصلاحات نافعة، وتبوأ له مكانا بين حكام القرن "المستبدين المستنيرين". وأشاد به فولتير باعتباره "الوريث الجدير باسم جوستافس العظيم"(43). وأما طورجو الذي كان يعاني الإحباط في فرنسا. فقد طاب نفساً حين رآى سياساته الاقتصارية تنجح في السويد، حيث أجيزت حرية التجارة في الغلال، وأطلق عقال الصناعة من نظم النقابات الحرفية التي شلت حركتها. وحفز التجارة تنظيم المواني الحرة على البلطيق ومدن الأسواق الحرة في الداخل. واستشير ميرابو الأب في تحسين الزراعة، وكلف لمرسييه ولا ريفيير بوضع خطة للتعليم العام(44). وأرسل جوستافس إلى فولتير نسخة من الأمر الذي كفل حرية النشر (1774)، وكتب يقول "إنك أنت الذي يجب أن تسدي إليك الإنسانية الشكر على تحطيم تلكك العقبات التي ألقاها الجهل والتعصب في طريق تقدمها(45) وقد أصلح القانون والقضاء، وألغى التعذيب، وخفف العقوبات، وثبت العملة. ثم خفف الضرائب على الفلاحين، وأعاد تنظيم الجيش والأسطول، ومنح التسامح لجميع المذاهب المسيحية ولليهود في ثلاث مدن كبرى منهياً بذلك احتكار المذهب اللوثري لتقوى السويديين؛ فلما أن دعا مجلس الأمة للانعقاد في 1778، وافق المجلس على سنوات حكمه الست الأولى دون أن يخرج صوت واحد على الإجماع وكتب جوستافس إلى صديق له "لقد بلغت أسعد مراحل حياتي العملية. فأفراد شعبي مقتنعون بأنني لا أبغي شيئاً غير زيادة رفاهيتهم وتوطيد دعائم حريتهم"(46).
التنوير السويدي
وفي زحمة هذا النشاط التشريعي والإداري، أسهم الملك بكل قلبه في ذلك التفجر الرائع للآداب والعلوم، الذي أوقف السويد على قدم المساواة مع التطورات الفكرية الأوربية في القرن الثامن عشر. وكان هذا عصر لينايوس في النبات، وشيليه وبرجمان في الكيمياء، وقد أشدنا بذكرهما في غير هذا الموضع-ولكن ربما كان من واجبنا أن ندرج في قائمة العلم رجلاً من ألمع السويديين في زمانه، وهو إيمانويل سويد نبورج، لأنه اشتهر أول ما اشتهر بوصفه عالماً. فقد أنجز عملاً أصيلاً في الفيزياء والفلك والجيولوجيا والبليونتولوجيا وعلم المعادن والفسيولوجيا وعلم النفس. وحسن المضخة الهوائية باستعمال الزئبق؛ وإجاد وصف المغنطيسية والوميض الفوسفوري؛ واقترح نظرية سديمية قبل كانط ولابلاس بزمان؛ وسبق البحث الحديث في الغدد الصماء. وبين قبل أي عالم آخر بمائة وخمسين عاماً أن حركة المخ متزامنة مع التنفس لا مع النبض. وحدد مكان عمليات العقل الراقية في سحاء المخ، وحدد لأجزاء معينة من المخ وظيفة التحكم في أعضاء معينة من الجسم(47). وخطب مجلس الخطباء في النظام العشري، وإصلاح العملة، وموازنة التجارة. وبدا أن عبقريته كلها موجهة إلى العلم. ولكنه حين خلص إلى أن دراساته تقوده إلى نظرية ميكانيكية للعقل والحياة، وأن هذه النظرية مفضية إلى الإلحاد، انتقص على العلم بقوة وتحول إلى الدين. وفي 1745 بدأ يرى رؤى للجنة والنار، وانتهى به الأمر إلى تصديق هذه الرؤى حرفياً، فوصفها في رسالته "السماء وعجائبها والجحيم" وأخبر قراءه الذين يعدون بالألوف أنهم في الجنة لن يكونوا أرواحاً مجردة من جسومها بل رجالاً ونساء حقيقيين من لحم ودم، يستمتعون بمباهج الحب الجسدية والروحية. جمعاً. ولم يعظ، ولا ألف مذهباً أو شيعة، ولكن تأثيره انتشر في طول أوربا وعرضها، فتأثر به ويسلي، ووليم بليك، وكولردج، وكارليل، وإمرسن، وبراوننج، وأخيراً (1788) كون أتباعه "كنيسة أورشليم الجديدة".
على أن السويد رغم معارضته أسلمت عقلها أكثر فأكثر للتنوير. وسرعان ما أسفر استيراد المؤلفات الفرنسية والإنجليزية أو ترجمتها عن علمنة للثقافة وتهذيب للذوق والأشكال الأدبية. ووجدت النزعة التحررية الجديدة في عهد جوستافس الثالث وأمه قبولاً واسعاً في الطبقتين والوسطى والعليا، حتى بين كبار رجال الدين، الذين بدأوا يبشرون بالتسامح وبعقيدة ربوبية بسيطة(48). وكانت الشعارات السائدة في كل مكان هي "العقل"، و "التقدم"، و "العلم" و "الحرية" و "الحياة الطيبة هنا على الأرض". ونظم لينايوس وغيره الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم في 1739، وأسس كارل تسين الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة في 1733. وكانت الأكاديمية الملكية للآداب البحتة قد عاشت فترة قصيرة على عهد الملكة لويزا أولريكا، فأحياها جوستافس (1784) بوقف سخي، ووجهها لمنح مدالية كل عام قيمتها عشرون دوقاتية لأفضل إنتاج سويدي في التاريخ أو الشعر أو الفلسفة، وفاز هو نفسه بأول جائزة كوفئ بها على ثنائه لنارت تورشتنسن ألمع قواد جوستافس أدولفس. وفي 1786 أسس الملك، (على حد قوله) "أكاديمية جديدة لتهذيب لغتنا وصقلها، على غرار الأكاديمية الفرنسية، ويطلق عليها اسم الأكاديمية السويدية، وتتألف من ثمانية عشر عضواً. "وأمدت هذه الأكاديمية هي وأكاديمية الآداب البحتة بالمال اللازم لصرف المعاشات للدارسين والمؤلفين السويديين(49). وكان جوستافس يساعد شخصياً رجال الأدب أو العلم أو الموسيقى؛ وقد أشعرهم بأن وجوده حق لهم، ورفعهم إلى مقام اجتماعي جديد بدعوتهم إلى بلاطه، ثم حفزهم بمنافسته إياهم.
وكان في السويد دراما قبل عهده، لا سيما بتشجيع من أمه، ولكنها كانت تزوده بالممثلين الفرنسيين الذين يقدمون المسرحيات الفرنسية. فصرف جوستافس الفرقة الأجنبية، واستنهض المواهب الوطنية لإخراج تمثيليات لمسرح سويدي حقاً. وتعاون هو نفسه مع يوهان فيلاندر في تأليف أوبرا "تيطس وبيليه"، وعرضت أول مرة في 18 يناير 1773، واستمر عرضها ثماني وعشرين ليلة. ثم انصرف الملك إلى السياسة ثمانية أعوام. غير أنه عاد إلى تناول القلم من جديد في 1781 وألف سلسلة من التمثليات ما زالت تحتفظ بمكانة مرموقة في الأدب السويدي، وأولى هذه التمثيليات-المسماة (أريحية جوستافس أدولفس، 1782)-كانت فاتحة الدراما السويدية. وكان الملك يستقي موضوعاته من سجلات التاريخ، وقد علم شعبه تاريخ أمتهم كما علم شكسبير الإنجليزي. وفي 1782 بنى على حساب الدولة مسرح منيف للدراما والموسيقى. وكان حوستافس يكتب مسرحياته نثراً، ثم يصوغها يوهان كلجرين شعراً، ثم يدفعها إلى مؤلفين موسيقيين أجانب ليضعوا موسيقاها، وهكذا أصبحت تمثيلياته أوبرات. وكانت أشهى ثمرات هذا التعاون "جوستاف أدولف وإيبا براهي" التي أحبت ذكرى قصة غام القائد العظيم، وجوستاف فازا، التي وصفت تحرير أول جوستاف للسويد من الحكم الدنمركي. وبفضل هذه القيادة الملكية، وبفضل ثلاث جامعات (أوبصالا، وآبو، ولوند) دخلت السويد حركة تنويرها الخاصة. ومهد للحركة أولوف فون دالين بتمهيد أديسوني (أي على طريقة جوزف أديسون) بكتابته غفلاً من التوقيع، ونشره دورياً (1733-34) مجلة دن سفنسكا أرجوس" التي ناقس فيها كل شيء إلا السياسة، بأسلوب صحيفة سبكتيتور المهذب، وابتهج كل قارئ تقريباً بما كتب، ووافق مجلس الأمة على إجازة الكتب الذي طلع الآن من مخبئه. وعينته الملكة لويزة أولريكا شاعراً للبلاط ومعلماً لابنها الذي أصبح جوستافس الثالث. فقيد المنصب شاعريته وبلدها، ولكنه أتاح له من الوقت والمال ما أعانه على كتابة رائعته في تاريخ السويد، وهو أول تاريخ نقدي للملكة السويد.
وكانت أطرف الشخصيات في كوكبة الشعراء الجديدة امرأة تسمى هدفيج نوردنفليشت، وهي للسويد قريع لسافو، وأسبانيا، وشارلوت برونتي في أوطانهن. وقد أفزعت أبويها المتزمتين بقراءتها المسرحيات والشعر، فعاقباها، ولكنها لم تنته، وكتبت شعراً فيه من الحلاوة والفتنة ما أكرههما على أن يروضا نفسيهما على هذه الفضيحة. ولكنهما أجبراها على الزواج من ناظر ضيعتهما، وكان رجلاً حكيماً دميم الوجه، قالت "كنت أحب أن أصغي إليه فيلسوفاً، ولكن منظره عاشقاً كان لا يحتمل"(50). وتعلمت أن تحبه، ولكنه لم يلبث أن مات بين ذراعيها بعد زواجهما بثلاث سنين. وأنهى قسيس وسيم حدادها بخطبتها، فأصبحت زوجاً له، واستمتعت "بأسعد حياة تتاح لإنسان فإن في هذا العالم الناقص"، ولكنه مات بعد سنة، وكان هدفيج تجن حزناً عليه. فاعتكفت في كوخ على جزيرة صغيرة، وبثت حزنها ف قصائد حظيت بقبول حسن حملها على الانتقال إلى ستوكهولم حيث ظلت تصدر كل سنة (1744-50) "حكماً للنساء، بقلم راعية من الشمال" وأصبح بيتها صالوناً يلتقي فيه صفوة المجتمع والفكر. وحذا حذوها الشعراء الشبان أمثال فردريك جلينبورج وجوستاف كروتز في اتخاذ الأسلوب الفرنسي الكلاسيكي وفي اعتناق التنوير. وفي 1758، حين بلغت الأربعين، وقعت في غرام يوهان فشرشتروم، وكان في الثالثة والعشرين، واعترف لها بأنه يحب امرأة غيرها، ولكنه حين رأى هيدفج وحيدة مبتئسة عرض عليها الزواج. فرفضت هذه التضحية، وحاولت إغراق نفسها حلاً للمشكلة، فأنقذت، ولكنها ماتت بعد ثلاثة أيام. وما زالت "راعية الشمال" علماً من أعلام الأدب السويدي.
وحذا كروتز حذو خيالها الرومانسي المحلق بمجموعة رقيقة جداً من الأغاني سماها "أتيس وكاميللا" (1762). ظلت سنين كثيرة أعظم ما يعجب به القراء من قصائد في هذه اللغة. فكاميللا، بوصفها كاهنة لديانا، تنذر للعفة، ولكن أتيس الصياد يراها فتهفو في نفسه إليها ويضرب في الغابات يائساً. وتتحرك عاطفة كاميللا أيضاً فتسأل ديانا "أليس ناموس الطبيعة مقدساً قداسة أملاك؟" ثم تصادف أيلاً جريحاً فتعني به وتخفف ألمه، فيعلق يدها، ويتوسل إليها أن أتيس أن تهبه امتيازات مماثلة، فتوبخه، فيقفز من جرف عال طلباً للموت، ولكن كيوبيد يعترض سقطته، وتحنو عليه كاميللا وترضى بعناقه، غير أن ثعباناً ينشب نباه في صدرها المرمري، فتموت بين ذراعي أتيس. ويمتص أتيس السم من جرحها فيشرف على الموت. وتلين قناة ديانا، فتردهما إلى الحياة، وتحل كاميللا من نذورها العذرية، وينتهي كل شيء نهاية سعيدة. وقد أشاد بهذه القصيدة الرعوية المثقفون السويديون كما أشاد بها فولتير، ولكن كروتز انصرف إلى السياسة وأصبح مستشاراً للسويد.
وإذا كان هدفيج نورد نفليشت هي سافو السويد، فإن كارل بلمان كان روبرت بيرنز السويد. نشأ في أحضان العز والتقوى، ولكنه تعلم أن يفضل أغاني الحانات المرحة على ترانيم بيته الكئيبة. ففي الحانات كانت حقائق الحياة والوجدان تعلن دون اكتراث بالتقاليد واللياقة، وفيها يعري الخمر كل نفس فتتيح للحقيقة أن تكتشف بين الوهم والغضب. وكان أكثر الشخصيات بعثاً للأسى في هذا الحطام البشري يان فريدمان، الذي كان يوماً ما صانع ساعات البلاط، والذي حاول الآن أن ينسى في الشراب فشل زواجه. وأكثرها مرحاً ماريا كليشتروم، ملكة الأعماق السفلى. وقد غني بلمان أغانيهم معهم، وألف الأغاني عنهم، وأنشدها أمامهم على أنغام موسيقى من تأليفه. وقد شاب بعض أغانيه شيء من التحلل، فوبخه كيلجرين، الأمير غير المتوج لشعراء العصر. ولكن حين أعد بلمان "رسائل فريدمان" للطبع (1790) قد كلجرين لهذه الرسائل الشعرية بمقدمة حماسية، وحظي الكتاب بجائزة من الأكاديمية الملكية السويدية. واستمع جوستافس الثالث إلى بلمان في سرور، ولقبه "أناكريون الشمال" ومنحه وظيفة شرقية في الحكومة. على اغتيال الملك (1792) ترك الشاعر بغير مورد، فتردى في مهاوي الفقر، وحبس للدين، ثم أفرج عنه بمعونة أصدقائه. وبينما كان مشرفاً على الموت بالسل وهو في الخامسة والخمسين أصر على زيارة حانته الأثيرة لآخر مرة، وراح يغني فيها حتى بح صوته. ولم يلبث أن وافته منيته في 11 فبراير 1795. ويعده البعض "أكثر الشعراء السويديين أصالة" و "بالإجماع أعظم شاع في زمرة الشعراء" الذين شرفوا هذا العهد(51).
ولكن الرجل الذي أقر معاصروه بأنه لا يفضله سوى الملك في حياة العصر الفكرية هو يوهان هنريك كليجرين. كان ابناً لقسيس، ولكنه تنكر للعقيدة المسيحية، وسار في ركاب التنوير الفرنسي، ورحب بكل لذائذ الحياة ومتعها بأقل قدر من الندم. وكان أول كتبه "ضحكى"، أغنية طويلة للفرح، بما فيه أفراح العشق؛ وقد أشاد كليجرين بالضحك باعتباره "العلامة الوحيدة الإلهية المميزة للبشرية" وناشده أن يصحبه حتى آخر أيامه(52). وفي 1778، وهو في السابعة والعشرين، اشترك مع كارل بيتر لنجرين في تأسيس مجلة "بريد ستوكهولم"، وقد جعل قلمه المرح هذه المجلة الصوت الغالب في الحياة العقلية السويدية على مدى سبعة عشر عاماً؛ وفي صفحاتها بسط التنوير الفرنسي سلطانه كاملاً، وشرف الأسلوب الكلاسيكي باعتباره أسمى معيار للتفوق. وسخرت المجلة من الرومانسية الألمانية، وامتدحت خليلات كلجرين في قصائد أفزعت المحافظين في البقاع النائية. على أن اغتيال مليكه المحبوب انتزع من فلسفة اللذة التي دان بها الشاعر. وفي 1795 أفلت منه زمام إحدى علاقاته الغرامية فعمقت حتى أصبحت حباً صادقاً. وبدأ كيلجرين يعترف بحقوق الرومانس، والمثالية، والدين، وعدل من إدانته لشيكسبير وجوته، ورأى أن رأس الحكمة قد يكون مخافة الله (رغم كل شيء). على أنه حين مات (1795) غير متجاوز الرابعة والأربعين. طلب ألا تقرع لموته نواقيس(53) وهكذا عاد في النهاية ابناً لفولتير.
ومن النواحي السحرة في خلقه استعداده لفتح أعمدة مجلته لمعارضي آرائه. وكان أعنفهم توماس توريلد، الذي أعلن الحرب على التنوير باعتباره الإعجاب الفج بالفكر السطحي. وقد روع توريلد ستوكهولم وهو في الثانية والعشرين بكتابه "العواطف المشبوبة" الذي قال عنه أنه "يحوي القوة الكاملة لفلسفتي والبهاء كله لخيالي-طليقاً، نشوان، رائعاً". وصرح بأن "حياته بأسرها مكرسة... للكشف عن الطبيعة وإصلاح العالم"(54). والتف حوله نفر من الأدباء المتمردين الذين أججوا نارهم بوقود الحركة الزوبعية وفضلوا كلوبشتوك على جوته، وشكسبير على راسين، وروسو على فولتير. فلما أخفق توريلد في كسب جوستافس لصفه، هاجر إلى إنجلترة (1788)، وغذى روحه بجيمس طومس، وإدوارد يونج، وصموئيل رتشردسن، وانضم إلى المتطرفين الذين ناصروا الثورة الفرنسية. وفي 1790 قفل إلى السويد ونشر دعوة سياسية حملت الحكومة على نفيه وبعد أن قضى عامين في ألمانيا سمح له بالعودة إلى السويد حيث استكان إلى كرسي في الجامعة.
وقد لمع في سماء الأدب نجوم آخرون، منهم كارل جوستاف آف ليوبولد الذي سر الملك بما اتسم به شعره من شكل كلاسيكي وطابع مهذب؛ ومنهم بنجت ليدنر الذي آثر الرومانس كما آثره توريلد. وقد طرد من جامعة لوند لمغامراته الطائشة (1776)، ثم واصل دراساته وانحرافاته في روشتوك، فوضع على ظهر سفينة مبحرة إلى جزر الهند الشرقية، ولكنه هرب منها، وعاد إلى السويد، وأثار انتباه جوستافس بديوان من القصص الخرافية الشعرية؛ وقد عين سكرتيراً للكونت كرويتز في سفارة باريس، وهناك درس النساء أكثر من السياسة، فأرسل إلى وطنه، حيث مات فقيراً في الخامسة والثلاثين (1793). وقد كفر عن حياته بثلاثة دواوين تضطرم بنار بايرونية. ثم هناك شاعرة متواضعة هي آنا ماريا لنجرين، زوجة مساعد كليجرين في تحرير مجلة بريد ستوكهولم. فقد أسهمت فيها بشعر أكسبها ثناءً خاصاً من الأكاديمية الملكية السويدية. ولكنها لم تسمح لبرة شعرها أن تعوقها عن أداء واجباتها المنزلية؛ وفي قصيدة موجهة إلى ابنة وهمية نصحتها بأن تتجنب السياسة والمجتمع وتقنع بواجبات البيت ومباهج الحياة البيتية.
ونسأل الآن، هل قامت في الفن السويدي أي حركة تتجاوب مع الأدب والدراما؟... قليلاً ما... ومن أمثلتها أن كارل جوستاف التسيني زخرف بالروكوك (حوالي 1750) القصر الملكي الذي بناه أبوه نيقوديموس تسودين في 1693097، وجمع مجموعة وافرة من الصور والتماثيل هي الآن جزء من متحف ستوكهولم القومي. وحفر يوهان طوبياس زرجيل بالأسلوب الكلاسيكي تمثالاً لفينوس وآخر لفون سكران (وهو إله الحقول والقطعان)، وخلد في الرخام ملامح يوهان باش الغليظة. وكان هناك أربعة مصورين في أسرة باش: لورنتس الأكبر، وأخوه يوهان، وأخته أولريكا، ولورنتس الأصغر، وصور كل منهم الملكية والنبالة، وكانوا جانباً متواضعاً في التنوير الرائع الذي ازدان به هذا الحكم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الاغتيال
كان الملك ذاته هو الذي ختم هذا الازدهار الرائع ختاماً حزيناً. ذلك أن الثورة الأمريكية التي عضدتها فرنسا أعظم تعضيد بدت له خطراً يتهدد كل الملكيات، فوصف المستعمرين بأنهم "رعايا متمردون" وأقسم أنه لم يعترف بهم أمة حتى يحلهم ملك إنجلترة من يمين الولاء له(55). وراح في العقد الأخير من عمره يحكم زمام السلطة الملكية أكثر فأكثر، ويحيطها بالاحتفالات والمراسم، ويقصي معاونيه الأكفاء ذوي العقول المستقلة ليحل محلهم خداماً له يمتثلون لرغباته دون تردد أو معارضة. وبدأ يقيد الحرية التي منحها للمطبوعات. وحين وجد زوجته امرأة غبية خاملة انغمس في مغازلات(56) صدمت الرأي العام الذي كان يتوقع من ملوك السويد أن يكونوا للأمة قدوة في المحبة والولاء الزوجيين. ثم نفر الشعب بتقريره احتكار الحكومة لتقطير المسكرات، وتهرب الفلاحون الذين ألفوا أن يقطروا شرابهم بأنفسهم من هذا الاحتكار بعشرات الحيل. وقد أنفق مالاً متزايداً على الجيش والبحرية، وكان يتأهب بشكل ظاهر للحرب مع روسيا. فلما جمع مجلس الأمة مرة ثانية (6 مايو 1786) افتقد في طبقاته ذلك الإجماع الذي وافق به مجلس 1787 على قوانينه، ورفض المجلس مقترحاته كلها تقريباً، أو عدلها تعديلاً أفقدتها قيمتها، فاضطر الملك إلى إلغاء احتكار الحكومة لتقطير الخمور. وفي 5 يوليو فض المجلس وقرر أن يحكم البلاد دون موافقته.
وكانت هذه الموافقة طبقاً لدستور 1772 ضرورية في أي حرب إلا الحرب الدفاعية. وكان جوستافس ينوي الهجوم على روسيا. فما السبب؟ لقد علم أن روسيا والدنمرك قد وقعتا (12 أغسطس 1774) معاهدة سرية للعمل الموحد ضد السويد. وزار كاترين الثانية في سانت بطرسبرج في 1777، ولكن تظاهرهما بالصداقة لم يخدع المضيفة ولا ضيفها. فلما تكاثرت انتصارات روسيا على تركيا، خشي جوستافس إذا لم يقم بعمل لإنهائها أن توجه الإمراطورية عاجلاً جيوشها الضخمة غرباً بأمل إخضاع السويد لمشيئتها على نحو ما فعلت ببولندة، فهل من سبيل لإحباط تلك الخطة؟ لا سبيل في رأي الملك إلا أن تعان تركيا بهجوم جناحي على سانت بطرسبرج. وساعده السلطان على اتخاذ هذا القرار بعرضه على السويد إعانة قدرها مليون قرش كل سنة على امتداد السنوات العشر التالية إذا انضمت إليه في الجهد المبذول لكبح جماح كاترين. وعلل الملك نفسه بأن السويد قد تستطيع الآن أن تسترد ما أسلمته لبطرس الأكبر في 1721. وعليه ففي 1785 بدأ جوستافس في تجهيز جيشه وبحريته للحرب. وفي 1788 أرسل إلى روسيا إنذاراً نهائياً طالب فيه برد كاريليا وليفونيا للسويد، وبرد القرن لتركيا. وفي 24 يونيو أبحر قاصداً فنلندة. وفي 2 يوليو، تولى في هلسنجفورس قيادة قواته لا متجمعة، وشرع في الزحف على سانت بطرسبرج.
ولكن الحظ خانه في كل شيء فالأسطول أوقفه أسطول روسي صغير في معكرة غير حاسمة تجاه جزيرة هوجلاند (17 يوليو). وتمرد في الجيش 113 ضابطاً، متهمين الملك بأنه حنث بعهده بألا يشن حرباً هجومية دون موافقة مجلس الأمة، ووافدوا مبعوثاً إلى كاترين يعرضون عليها أن يضعوا أنفسهم تحت حمياتها وأن يتعاونوا معها في جعل فنلندة السويدية والروسية دولة مستقلة. وجردت الدنمرك على عجل خلال ذلك جيشاً يهاجم جوتبورج، أغنى مدينة في السويد. وتقبل جوستافس هذا الغزو باعتباره تحدياً يستنفر شعبه، ووجه نداءه إلى الأمة لا سيما الفلاحين الصلاب أهل مناطق التعدين المسمين "ديلز" ليعطوه جيشاً جديداً أكثر ولاء له، وذهب بشخصه مرتدياً الزي الذي يتميز به رجال الديلز ليخطبهم من فناء الكنيسة في قرية مورا وهو الفناء الذي التمس فيه جوستافس فازا معونتهم في 1521. واستجاب الشعب، وتألفت أفواج المتطوعين في مائة مدينة، وفي سبتمبر ركب الملك الذي كان يقاتل لأجل حياته السياسية 250 ميلاً في ثمان وأربعين ساعة، وشق طريقه إلى جوتبرج، واستنفر الحامية لتواصل دفاعها ضد اثني عشر ألف من الدنمركيين الذين يحاصرونها. وتحول الحظ إلى جانبه. ذلك أن بروسيا التي كرهت أن تترك تخضع لروسيا هددت بشن الحرب على الدنمرك، فانسحب الدنمركيون من الأرض السويدية. وعاد جوستافس ظافراً إلى عاصمته.
أما وقد اشتد ساعده بجيش جديد موال له فقد دعا مجلس الأمة للانعقاد في 26 يناير 1786. وأيد سبعمائة عضو من أعضاء مجلس النبلاء-وعددهم 950-الضباط المتمردين، ولكن المجالس الأخرى-القساوسة، وأهل المدن، والفلاحين-ناصروا الملك بأغلبية ساحقة. وأعلن جوستافس الحرب السياسية على النبلاء بتقديمه لمجلس الأمة "قانوناً للوحدة والأمن" أنهى كثيراً من امتيازات الطبقة الأرستقراطية، وفتح باب المناصب كلها تقريباً للعامة، وأعطى الملك سلطات ملكية مطلقة في التشريع والإدارة والحرب والسلم. وقبلت الطبقات الثلاث الدنيا القانون، أما طبقة النبلاء فقد رفضته باعتباره غير دستوري. واعتقل جوستافس واحداً وعشرين نبيلاً، ومنهم الكونت فردريك آكسل فون فرسن والبارون كارل فردريك فون بكلين-وأحدهما رجل شريف الخلق غير فعال، والآخر ذكي غادر. ولكن سلطة المال ظلت في يد مجلس الأمة، وكانت موافقة المجالس الأربعة جميعها شرطاً لإقرار الاعتمادات المالية. ووافقت مجالس الطبقات الثلاث الدنيا على المال الذي طلبه الملك-للفترة التي يراها ضرورية-لمواصلة الحرب ضد روسيا، أما مجلس النبلاء فرفض أن يوافق على الاعتمادات لأكثر من سنتين. وفي 17 أبريل دخل الملك مجلس النبلاء، واتخذ مقعد الرئيس، وطلب إلى النبلاء أن يوافقوا على قرار المجلس الثلاثة الأخرى. ورجحت كفة الرافضين، ولكن الملك أعلن أن اقتراحه فاز. وشكر النبلاء على تأييدهم الكريم، ثم خرج بعد أن خاطر باغتباله بأيدي النبلاء الساخطين.
وأحس الآن أنه مطلق اليد في خوض الحرب. فأعاد فيما بقي من عام 1789 بناء الجيش والأسطول. وفي 9 يوليو 1790 التقت بحريته في بالبحرية الروسية في الجزء السفنسكوندي من خليج فنلندة، وأحرز أعظم نصر حاسم في تاريخ السويد البحري، وخسر الروس ثلاثاً وخمسين سفينة و9.500 رجل. واستعدت كاترين الثانية لعقد الصلح وهي ما تزال مشغولة بالترك، فوافقت بمقتضى معاهدة فارالا (15 أغسطس 1790) على أنها جهودها للهيمنة على سياسة السويد، وأعيدت الحدود إلى ما كانت عليه قبل الحرب. وفي 19 أكتوبر 1791 أقنعها جوستافس بأن تبرم معه حلفاً دفاعياً تعهدت فيه بأن ترسل للسويد كل عام 300.000 روبل.
ولا ريب في أن خوف العدوين القديمين المشترك من الثورة الفرنسية حولهما إلى هذه المشاركة الجديدة. وتذكر جوستافوس في عرفان أن فرنسا كانت الصديق الوفي للسويد طوال 250 عاماً، وأن لويس الخامس عشر ولويس السادس عشر أمداه بمعونة بلغت 38.300.000 جنيه بعد عامي 1772 و1789. واقترح تأليف عصبة من الأمراء والملوك تغزو فرنسا وتعيد الملكية إلى سابق قوتها، وأوفد هانز آكسل فون فرسن (وهو ابن عدوه الكونت فون فرسن) ليدبر فرار لويس السادس عشر من باريس، وذهب بنفسه إلى إكس-لا-شابل ليقود جيش الحلفاء، وسمح للمهاجرين الفرنسيين بالالتجاء إلى معسكرة. وقدمت كاترين المال دون الرجال. ورفض ليوبولد الثاني التعاون، وقفل جوستافس إلى ستوكهولم ليحمي عرشه.
ذلك النبلاء الذين قضى على سيادتهم السياسية لم يرتضوا الهزيمة. وكانوا يرون في حكم جوستافس الاستبدادي انتهاكاً صريحاً للقانون الذي أقسم من قبل على مساندته. وأطل يعقوب انكارشتروم التفكير في سقوط طبقته، "لقد فكرت كثيراً في أنه قد يكون هناك سبيل مشروع لجعل الملك يحكم وطنه وشعبه بمقتضى القانون ومحبة الخير، ولكن كل الأدلة قامت ضدي... فخير أن يغامر إنسان بحياته في سبيل المصلحة العامة". وفي 1790 حوكم بتهمة التحريض "لقد عقدت هذه المحنة... عزمي على أن أموت خيراً من أن أحيا حياة تعسة، حتى إن قلبي الذي طبع في غير هذا على الحساسية والمحبة انقلب قاسياً أشد القسوة فيما يتصل بهذه الفعلة الشنيعة"(57). وانضم بكلين-كونت كارل هورن-وغيره إلى المؤامرة التي بيتت قتل الملك.
وفي 16 مارس 1792، وهو تاريخ يذكر بقيصر ذكرى مشئومة، تلقى جوستافس رسالة تحذره من الذهاب إلى مرقص تنكري حددت له تلك الليلة في المسرح الفرنسي. وذهل الملك نصف مقنع، ولكن الأوسمة التي حملها على صدره كانت تشي بمقامه. فتعرف عليه أنكارشتروم، وأطلق عليه النار، ثم فر هارباً. وحملوا جوستافس إلى مركبة مضوا بها إلى القصر الملكي مخترقين جمعاً هائجاً مضطرباً. وكان ينزف نزفاً خطراً، ولكنه علق مداعباً بأنه أشبه بباباً يحمل في موكب يخترق طرق روما. ولم يمض على الهجوم ثلاثة ساعات حتى قبض على أنكارشتروم، ثم على رؤوس المؤامرة أجمعين بعد أيام. واعترف هورن بأن المؤامرة تضم مائة متآمر.
وطالبت الجماهير بإعدامهم، وأوصى جوستافس بالترفق بهم. فجلد أنكارشتروم، وقطع رأسه، ومزق جسده أرباعاً، وأفسح لجوستافس في الأجل عشرة أيام، فلما أنبئ بأنه لم يبق له في الحياة غير ساعات، أملى وثائق بتعيين هيئة وصاية تحكم البلاد والعاصمة. ثم مات في 26 مارس 1792 بالغاً من العمر خمسة وأربعين عاماً. وبكته الأمة كلها تقريباً، لأنها تعلمت أن تحبه رغم أخطائه، وأدركت أن السويد تحت قيادته عاشت عصراً من أمجد العصور في تاريخها.