قصة الحضارة - ول ديورانت - م 10 ك 5 ف 25
صفحة رقم : 13935
قصة الحضارة -> روسو والثورة -> الشمال البروتستنتي -> اليهود -> كفاح حياة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الخامس والعشرون: اليهود 1715-1789
كفاح الحياة
قال روسو:
أن اليهود يقدمون لنا مشهداً عجيباً. فقد ماتت قوانين صولون، ونوما، وليكورجوس؛ أما شرائع موسى، الأقدم بكثير، فما زالت حية. وقد بادت أثينا، واسبرطة، وروما، ولم تترك خلفاً على الأرض، أما صهيون التي دمرت فلم تفقد دينها؛ فقد احتفظوا بكيانهم، وهم يتكاثرون، وينتشرون في أرجاء العالم... وهم يخالطون كل الشعوب دون أن يذوبوا فيها(1)؛ وليس لهم حكام، ومع ذلك فهم دائماً شعب". وربما كان بقاء ناموس راجعاً لا لحكته الأصلية بقدر جدواه في حفظ النظام والاستقرار بين جماعات تعيش في خطر وسط عقائد معادية وشرائع أجنبية. ففي الشتات كان على الكنيس (المجمع) أن يقوم بما تقوم به الكنيسة والحكومة، وربط الحاخامات بين أفراد شعبهم في وحدة متماسكة خلال جميع التقلبات والغير بإعطائهم بركة إيمان ديني فخور لناموس نظم كل منحى من مناحي الحياة اليهودية وأصبحت الأسفار الموسوية الخمسة الدستور-وأصبح التمود المحكمة العليا-لدولة غير منظورة.
وفقد العداء لليهودية بعض قواعده الدينية باضمحلال الاعتقادات السنية. وقد عرف المسيحيون ممن ألموا بطرف من التاريخ أن كل شعب تقريباً من الشعوب المسيحية، في فترة أو أخرى، اضطهد المهرطقين بالقتل الجماعي جيلاً بعد جيل أو دواوين التفتيش أو المذابح المنظمة. وعرف فولتير هذا(2)، وندد المرة بعد المرة باضطهاد المسيحيين لليهود، وأثنى على ما رآه في اليهود من "أسلبو في الحياة رزين منظم، ومن زهد، وكد" وأدرك أن اليهود الأوربيين أقبلوا على التجارة لأن حرمانهم من تملك الأرض "أعجزهم عن التوطن بصفة دائمة-أي مأمونة-في أي بلد"(3). ومع ذلك فقد انقلب فولتير عدواً لليهود عداوة لا هوادة فيها. ذلك أنه تورط في معاملات غير موفقة مع رجال المال اليهود. فعند رحيله إلى إنجلترة حمل معه صكوكاً على المصرف اللندني "مديناً"، الذي أفلس أثناء ذلك وهو مدين لفولتير بعشرين ألف فرنك(4). وفي برلين كلف ابراهام هيرش-كما أسلفنا-بشراء سندات هبطت قيمتها في سكسونيا، بقصد استيرادها (بطريقة غير قانونية كما حذره هيرش) إلى بروسيا ليسترد قيمتها هناك بربح يبلغ خمسة وستين في المائة(5). وتشاجر الفيلسوف ورجل المال، واحتكما إلى القضاء، وانتهيا بالكراهية المتبادلة. وفي مقال فولتير عن "الأعراف" أطلق لحده العنان فوصف العبرانيين القدامى بأنهم "أمة حقيرة، وشعب من اللصوص، فظيع، رجس، ناموسه ناموس المتوحشين، وتاريخه نسيج من الجرائم ضد الإنسانية".(6) واعترض قسيس كاثوليكي بأن هذا اتهام وحشي إلى حد مضحك(7). ونشر يهودي برتغالي عالم يدعى إسحاق بنتو في 1762 "تأملات" في نقد للفقرات المعادية لليهود والواردة في مقال بعنوان "اليهود" في القاموس الفلسفي؛ واعترف فولتير بأنه "أخطأ في وصم أمة بأسرها برذائل أفراد"، ووعد بحذف الفقرات المهينة في الطبعات القادمة؛ ولكنه غفل عن الوفاء بوعده(8). وكان موقف الكتاب الفرنسيين عموماً ضد فولتير في هذا الأمر(9). وتكلم روسو على اليهود بتعاطف مشرب بالفهم(10).
ولم يكن لليهود في فرنسا حقوق مدنية قبل الثورة، ولكنهم أنشأوا جماعات ناجحة وخرجوا زعماء ذوي نفوذ، اشترى أحدهم إقطاعية اشتملت على أميان؛ واستعمل حقه الإقطاعي في تعيين قساوسة الكتدرائية، فاحتج الأسقف، ولكن برلمان باريس أيد الإقطاعي اليهودي (1787) واعترفت الحكومة الفرنسية شاكرة بمساعدة الماليين اليهود لها في حروب الوراثة الأسبانية والبولندية، ولعب اليهود دوراً كبيراً في إحياء شركة الهند الشرقية بعد انهيار مغامرة "لو" في 1720(11). وكان يهود بوردو ذوي ثراء عريض؛ واشتهر تجارهم ومصرفيوهم بنزاهتهم وجمودهم؛ ولكنهم اعتزوا بأصلهم الصفاردي، ونجحوا في إقصاء جميع اليهود الاشكنازيين عن بوردو.
ولم يكن في أسبانية القرن الثامن عشر يهود سافرون. ففي مطالع حكم البوريون الأسبان استغلت جماعات صغيرة منهم استنارة فليب الخامس المزعومة لاستئناف شعائر العبادة اليهودية سراً، واكتشفت حالات كثيرة، وأعدم ديوان التفتيش بين عام 1700 و1720 ثلاثة يهود في برشلونة، وخمسة في قرطبة، وثلاثة وعشرين في طليطلة، وخمسة في مدريد. واحفظت الديوان هذه الاكتشافات فهب ينشط من جديد، وبلغ عدد الدعاوي التي نظرتها محاكمة بين عامي 1721 و1727 أكثر من ثمانمائة بتهمة اليهودية من بين 868 دعوى، وأحرق خمسة وسبعون ممن أدينوا. أما بعد ذلك فالحالات المثيلة كانت نادرة جداً. وفي سنوات الديوان الختامية، (1780-1820) حاكم الديوان الأسباني نحو خمسة آلاف منهم، لم يرم منهم باليهودية غير ستة عشر، وكان عشرة منهم أجانب(12). وظلت قوانين أسبانيا تحرم من المناصب المدنية أو الحربية جميع الأشخاص الذين لا يستطيعون إثبات نقاء دمائهم من كل أثر علق به من أسلاف يهود. وقد شكا المصلحون من أن هذا الشرط حرم الجيش والحكومة الأسبانيين من خدمات الكثير من الرجال الأكفاء. وفي 1783 خفف شارلي الثالث هذه القوانين(13).
أما في البرتغال فقد أحرق ديوان التفتيش سبعة وعشرين بيهودياً لرفضهم الارتداد عن الديانة اليهودية (1717)(14). وقد وفد على لشبونة في 1712 قادماً من ريودجانيرو أنطونيو دا سيلفا، الذي كان في رأي سوذي أفضل كتاب المسرحيات البرتغال؛ فقبض عليه هو وأمه في 1726 لأنهما يهوديان، وأحرقت الأم، واستعطف الابن فأطلق سراحه، ويبدو أنه ارتد بعد ذلك، لأنه أحرق في 1739 ولما يعد الخامسة والثلاثين(15) ثم أنهى المركيز دبومبال بإصلاح من إصلاحاته الكثيرة كل تفرقة بين المسيحيين القدامى والمحدثين (الذين اعتنقوا المسيحية) (1774)(16).
أما في إيطاليا فقد سبقت البندقية غيرها إلى تحرير اليهود، ففي 1772 أعلن أن يهود الجمهورية أحرار متساوون مع سائر السكان. وتخلفت روما، وكان الغيت (حي اليهود) هناك أسوأ أحيائهم في أوربا. وزادت خصوبة الإنجاب الشديدة التي شجعها الأخبار من لفقر والقذارة، وأتت على يهود روما فترة كان عشرة آلاف منهم يسكنون في حين لا يزيد على كيلومتر مربع واحد(17). وكان نهر تيير يفيض على ضفافه كل عام فيغمر شوارع الحي الضية ويملأ الحجرات السفلى بالطين الموبوء. واحترف يهوديو روما الخياطة لحرمانهم من أكثر الحرف؛ ففي 1700كان ثلاثة أرباع الذكور البالغين منهم خياطين(18)، فبدأوا بذلك عادة تحدرت بينهم حتى أيامنا هذه. وفي 1775 أصدر بيوس السادس مرسوماً بابوياً جدد فيه القديم من المحظورات على اليهود وأضاف إليها جديداً: فحرم عليهم ركوب العربات، وترتيل المراثي في الجنائز، وإقامة الشواهد على قبور موتاهم(19). وكان على يهود روما أن ينتظروا مجيء نابليون ليحررهم من هذه القيود.
وأما في النمسا فقد أحست ماريا تريزا أن التقوى تلزمها بحبس اليهود في أحياء ضيقة بعينها، وبحرمانهم من الحرف والمناصب وتملك العقارات(20)، ولكن ابنها يوزف الذي مسه التنوير الفرنسي اقترح على مجلس الدولة في 1781 مشروعاً "يفيد به المجتمع من طبقة الإسرائيليين الكبيرة في أراضينا الوراثية" (النمسا والمجر وبوهيميا) وذلك بتشجيعهم على أن يتعلموا-وبعد ثلاثة أعوام يشترط عليهم أن يستعملوا-اللغة القومية في جميع الشئون القانونية أو السياسية أو التجارية. ويجب "ألا يضايق اليهود على أي وجه في ممارسة شعائرهم أو عقائدهم". وينبغي دعوتهم للاشتغال بالزراعة، ولدخول ميدان الصناعة والتجارة، ولممارسة الفنون-على أن يظل محظوراً عليهم أن يصبحوا معلمي حرف في النقابات الحرفية، لأن هذا يتطلب حلف يمين الولاء للعقيدة المسيحية. ثم تلغي كل أسباب التفرقة المهنية، وكل القيود المفروضة إلى ذلك الحين على اليهود، "وكذلك كل العلامات الظاهرة أياً كانت". واعترض مجلس الدولة والمديرون الإقليميون على البرنامج لأنه فضفاض مفاجئ بحيث لا يقبله الشعب. وقدم يوزف حلاً وسطاً، فأصدر في 2 يناير 1782 "ترخيص تسامح" ليهود فيينا والنمسا السفلي: فنالوا بمقتضاه حق إدخال أبنائهم مدارس الدولة وكلياتها، والتمتع بالحرية الاقتصادية إلا أن يتملكوا العقارات؛ ولكن حرم عليهم التنظيم الطائفي المستقل، وبناء المجامع في العاصمة، ومنعوا من سكنى مدينة معينة-ربما لأنه العداء لليهود فيها كان مستحكماً إلى درجة خطرة. ونصف يوزف رعاياه المسيحيين باحترام أشخاص اليهود وحقوقهم باعتبارهم إخوانا لهم، وكل إهانة أو عنف يعامل به يهودي "سيعاقب مقترفه عقاباً صارماً"، ويجب أن يمنع إدخالهم في المسيحية بالإكراه. وما لبث الإمبراطور أن أصدر تراخيص مماثلة لبوهيميا ومورافيا وسيلرينا النمساوية. وقد قدر لليهود مساهماتهم في خزانته، فخلع النبالة على عدة يهود، واستخدم عدد منهم ماليين للدولة(21).
ولكن إصلاحاته-كما ذكر المبعوث الفرنسي إلى فيينا- "أثارت صيحة استنكار عامة... والتسهيلات الكبيرة الممنوحة لليهود يراها الناس مفضية بلا ريب إلى خراب الدولة"(22). وشكا التجار المسيحيون من المنافسة الجديدة، وأدان القساوسة المراسيم لأنها تتسامح مع الهرطقة السافرة. واعترض بعض الحاخامات على اختلاف الأطفال اليهود إلى مدارس الدولة مخافة أن تفتن الشباب عن اليهودية، ولكن يوزف أصر على موقفه، وقبل أن يموت بسنة وسع "ترخيص التسامح" ليضم غاليسياً أيضاً، وكانت إحدى مدنها، وهي برودي، تضم خلقاً كثيراً من اليهود (18.000) حتى لقد لقبها الإمبراطور أورشليم الحديثة. وعند موت يوزف (1790) كانت فيينا قد عودت نفسها على النظام الجديد، ومهدت الأرض لثقافة فيينا اليهودية المسيحية الرائعة التي ازدهرت في القرن التاسع عشر.
ويمكن القول عموماً إن حظ اليهود في الأقطار الإسلامية كان خيراً من حظهم في الأقطار المسيحية. وقد وصفت الليدي ماري ورتلي مونتاجيو، ربما في شيء من المبالغة حالهم في تركيا عام 1717 فقالت:
"إن اليهود... يتمتعون بسلطان لا يصدق في هذا البلد. فلهم امتيازات كثيرة يفوقون فيها جميع الأهالي الأتراك أنفسهم... لأنهم يحاكمون طبقاً لقوانينهم. وقد استقطبوا كل تجارة الإمبراطورية في أيديهم، وذلك بفضل ما يربطهم من وحدة وثيقة من جهة ومن جهة أخرى لبلاده الترك وافتقارهم إلى الجد والاجتهاد. ولكل باشا مساعده اليهودي الذي يدير أعماله... وهم الأطباء، والوكلاء، والمترجمون، لأكابر القوم أجمعين... وكثير منهم ذوو ثراء عريض"(23).
والبون شاسع بين حظ هؤلاء وحظ اليهود القلائل الموجودين في روسيا-لاسيما في "أقاليم التخوم" المواجهة لبولندة-عند وفاة بطرس الأكبر. وفي 1742 أمرت الإمبراطورة اليزابث بتروفنا بأن "يرحل فوراً من إمبراطوريتنا كلها... جميع اليهود... ولا يسمح لهم منذ الآن بدخول إمبراطوريتنا بأية حجة... ما لم... يعتنقوا الديانة المسيحية على المذهب الرومي". وما حلت سنة 1753 حتى كان قد طرد قرابة 35.000 يهودي(24) وتشفع بعض رجال الأعمال الروس لدى الإمبراطورة لتخفف من صرامة المرسوم، محتجين بأن طرد اليهود قد أحدث كساداً في اقتصاد الأقاليم لأنه حول التجارة منها إلى بولندة وألمانيا، ولكن اليزابث لم تلن لها قناة.
فلما أن تربعت العرش كاترين الثانية أرادت أن تسمح بدخول اليهود من جديد، ولكنها أحست بأن هذا العرش يهتز من تحتها اهتزازاً لا تجرؤ معه على التصدي لمعارضة رجال الدين. غير أن التقسيم الأول لبولندة أوصل المشكلة إلى مرحلة جديدة. فما العمل في 27.000 يهودي طال مقامهم في ذلك الجزء من بولندة الذي ظفرت به روسيا الآن؟ لذلك أعلنت كاترين (1772) "أن الجماعات اليهودية المقيمة في المدن والأقاليم التي أدمجت الآن في الإمبراطورية الروسية تترك لتتمتع بجميع الحريات التي تملكها الآن"(25). وسمح لهؤلاء اليهود البولنديين بقسط كبير من الحكم الذاتي، وأجيز لهم شغل المناصب البلدية، ولكن حرم عليهم الهجرة من "نطاق الاستيطان" (الأقاليم البولندية السابقة) إلى داخل روسيا. وفي 1791 أبيح لليهود أن يستوطنوا أقاليم خرسون وتاوريدا وإكاترينوسلاف سبيلاً إلى التعمير السريع لهذه الأقاليم المفتوحة حديثاً وتيسير للدفاع عنها. وكان العداء الاقتصادي لليهود الذي يلقونه من معظم رجال الأعمال الروس، والعداء الديني الذي يلقونه من عامة الروس، يجعلان الحياة أثناء ذلك شاقة خطرة على اليهود في الإمبراطورية.
وفي 1766 كان يسكن بولندة 621.000 يهودي(26). وقد صدق أوغسطس الثاني وأوغسطس الثالث على "امتيازات" الحماية التي منحها لهم الحكام السابقين، ولكن هذين الحاكمين السكسونيين، المشغولين بمملكتين ومذهبين دينيين (فضلاً عن خليلاتهما)، لم يتح لهما وقت يذكر للتصدي لذلك العداء العرقي الذي استشعرته الجماهير البولندية نحو اليهود. ففرضت. الحكومة عليهم ضرائب إضافية، وحاول الإقطاعيون الهبوط بهم إلى درك الإقنان، وكلفهم الحكام المحليون ثمناً باهظاً لحمايتهم من عنف الغوغاء. وندد القساوسة باليهود لأنهم "متشبثون بكفرهم" وطالب مجمع كنسي عقد في 1720 بأن تحظر الحكومة "بناء المجامع الجديدة لليهود وترميم القديمة منها". وكرر مجمع عقد في 1733 مبدأ العصر الوسيط القائل بأن المبرر الوحيد للتسامح مع اليهود هو أنهم قد يصلحون "أداة للتذكير بعذابات المسيح، ومثلاً يضرب-بعبوديتهم وبؤسهم-للعقاب العادل الذي ينزله الله بالكافرين"(27).
وفي 1716 نشر عبراني دخل في المسيحية يدعى سيرانوفيفتش كتاباً اسماه "فضح الشعائر اليهودية" اتهم فيه اليهود باستعمال دم المسيحيين لشتى الأغراض السحرية: لتلطيخ أبواب المسيحيين، ولمزجه بالفطير الذي يأكلونه في الفصح، ولغمس قطعة قماش فيه محتوية على تعزيمه يقصد بها حماية بيت أو نجاح تجارة... وتحدى اليهود سيرافينوفتش أن يثبت صحة دعاواه، وجمعوا مجلساً من الحاخامات والأساقفة ليستمعوا إليه، ولكنه لم يمثل أمام المجلس، بل أعاد نشر كتابه(28). وقد اتهم اليهود غير مرة بقتل الأطفال للحصول على دم مسيحي، واستدعى يهود بولنديون لمحاكمتهم على تهم كهذه في 1710 و1724 و1763 و1747 و1748 و1753 و1756 و1759 و1760، وعذبوا في حالات كثيرة، حتى الموت أحياناً، وسلخت جلود بعضهم أحياء، ومات بعضهم بالخازوق موتاً بطيئاً...(29) وفزع اليهود المروعون إلى البابا بندكت الرابع عشر ليكف عنهم هذه الاتهامات، وعرضت أدلة الإثبات والنفي على الكردينال كامبانيللي، وبعد أن تلقى تقريراً من الفير البابوي في وارسو، أصدر مذكرة مؤداها أنه لم يثبت في حالة من هذه الحالات أنهم مذنبون. وأيدت محكمة ديوان التفتيش بروما مذكرة الكردينال. وكتب السفير البابوي للحكومة البولندية (1763) يقول "إن الحبر الأقدس، بعد فحص كل الأسس التي قام عليها اتهامهم بهذا الشذوذ-وهو أن اليهود يحتاجون إلى الدم البشري لتجهيز فطيرهم، خلص إلى أنه ما من دليل يثبت صحة ذلك الاتهام المغرض"(30). وكان البابا انوسنت الرابع قد أصدر حكماً مماثلاً في 1247. ولكن الاتهام بالشذوذ لم يتوقف.
وكان الخوف من المذابح عنصراً يتردد في حياة اليهود البولنديين. ففي 1734 و1750 و1768 تألفت جماعات من القوزاق والفلاحين الأرثوذكس الروس الذين نظموا على شكل عصابات مثيرة للشغب، وشنت الغارات على كثير من المدن والقرى في أقاليم كييف وفولهينيا وبودوليا، وينهبون الضياع ويقتلون اليهود. وفي 1768 حمل المغييرون "مرسوماً ذهبياً" نسب زوراً وبهتاناً إلى كاترين الثانية، ويدعوهم إلى "استئصال شأفة البولنديين واليهود، الذين يدنسون ديانتنا المقسدة"، وذبحوا في مدينة واحدة هي أومان عشرين ألف بولندي ويهودي. وجردت كاترين جيشاً روسياً يتعاون مع القوات البولندية على قمع المغيرين(31).
أما في ألمانيا فإن اليهود كانوا يعيشون في أمن ورخاء نسبيين وإن أعانوا من شتى المعوقات في الحياة الاقتصادية والسياسية. فقد فرضت عليهم ضرائب خاصة في معظم الإمارات(32). ولم يسمح القانون إلا لعدد محدود من اليهود بالعيش في برلين، ولكن القانون لم ينفذ بدقة، فزادت الجالية البرلينية عدداً ومالاً، وقامت مستوطنات مماثلة في همبورج وفرانكفورت. وبلغ عدد من اختلف من التجار اليهود إلى سوق لينبزج في 1789 نيفا وألف تاجر(33). واستخدام الحكام الألمان، وحتى الأمراء-الأساقفة الكاثوليك منهم، اليهود لإدارة شئونهم المالية أو لتموين جيوشهمز وقد أدى يوزف أوبنهايمر (1692-1738) المعرفو باسم "اليهودي سوس" هذه المهام وغيرها لناخب بالاتين في مانهايم، ولكارل ألكسندر دوق فورتمبرج. وكان لذكائه واجتهاده الفضل في إثرائه وإثراء الدوق، وفي اكتسابه الكثير من الأعداء. وقد اتهم بالغش في دار ضرب النقود، ولكن مجلساً من المحققين برأ ساحته، فرقي عضواً في مجلس الدوق الخاص، حيث لم يلبث أن يصبح القوة المسيطرة. وقد ابتكر ضرائب جديدة، وأنشأ احتكارات ملكية، وقبل على ما يبدو الرشا-التي اقتسمها مع الدوق(34). فلما اقترح الدوق إيداع جميع أموال الكنيسة في مصرف مركزي للدولة، انضم رجال الدين البروتستنت مع الإشراف في معارضة الدوق ووزيره. وفي 3 مارس 1737 مات الدوق فجأة، فقبض قادة الجيش والزعماء المدنيون على أوبنهايمر وكل يهود شتوتجارت، وحوكم أوبنهايمر وداين، وفي 3 فبراير 1738 خنق وعلقت جثته في قفص في ميدان عام(35).
ذكرنا من قبل جولات جوته في حي اليهود بفرانكفورت. وقد اشتقت أسرة من أقدم الأسرات هناك اسمها الأخير، وهو روتشيلد، من الدرع الحمراء التي ميزت مسكنها. وفي 1755 أصبح ماير أمشيل صاحب الدرع الحمراء رب الأسرة بعد وفاة أبويه، وكان في الحادية عشرة من عمره. وكانت كثرة الدويلات الألمانية، وكل لها عملتها المستقلة، قد جعلت تغيير النقود ضرورة متكررة للمسافرين؛ وتعلم ماير في صباه معادلات النقود بين الدويلات، فكان يتقاضى رسماً صغيراً على كل تحويل. ثم درس علم العملات هواية جانبية وجمع العملات النادرة، وأرشد جماعاً آخر هو الأمير فلهلم الهاناوي وحصل منه على لقب "وكيل التاج" الذي ساعده في عمله بفرانكفورت. ثم تزوج في 1770، وأنجب خمسة أبناء، أنشأوا فيما بعد فروعاً لشركة روتشيلد في فيينا ونابلي وباريس ولندن. واكتسب ماير سمعة الحكم السديد والنزاهة والجدارة بالثقة. فلما أن خلف فلهلم أمير هاناو إياه حاكماً على هسي كاسل، ازداد تعامل ماير أمشيل مع القصر، فما وافى عام 1790 حتى بلغ دخله السنوي ثلاثة آلاف جولدن-وهو ما يعادل دخل أبي جوته الثري ستمائة مرة(36). ونمت ثروة الأسرة نمواً سريعاً خلال حروب الثوة الفرنسية، وشغل ماير بتموين الجيوش، وعهد إليه بإخفاء أموال الأمراء وأحياناً باستثمارها.
وواصل اليهود في الأراضي الواطئة واسكندناوة تمتعهم بحرية نسبية. وازدهرت جماعة أمستردام اليهودية. ولم تعرف الأحياء المقصورة على اليهود في الدنمرك، فقد تنقل اليهود بحرية وسمح بالزيجات المختلطة. وفي ألتونا، المدينة التجارية الواقعة وراء نهر ألب من همبورج، والتي كانت آنئذ ملكاً للدنمرك، عاشت جالية من أغلى الجاليات اليهودية في أوربا.وفي السويد يسط جوستاف الثالث حمايته على اليهود في ممارستهم السلمية لشعائرهم.
ووجد كثيرين من اليهود الهاربين من الاضطهاد في بولندة وبوهيميا الملجأ في إنجلترة. وزاد عددهم من 6.000 في 1734 إلى 26.000 في 1800، وكان نصيب لندن منهم 20.000. وكانوا يعيشون في فقر مدقع، ولكنهم رعوا فقراءهم وتكفلوا بنفقات مستشفياتهم(37). وكان تعقب اليهود ومطاردتهم رياضة محببة للناس، اضمحلت حين تعلم اليهود الملاكمة وغدا أحدهم بطل الملاكمة القومي(38). وقد أقصى شرط حلف يمين الولاء للمسيحية اليهود عن الوظائف المدنية والحربية. وأصبح سامسون جدعون أحد محافظي بنك إنجلترة بعد أن قبل الدخول في المسيحية. وفي 1745، حين كان الشاب المطالب بالعرش يزحف على لندن بجيش اسكتلندي أخذ على نفسه العهد بخلع جورج الثاني ورد آل ستيوارت إلى العرش، فأصاب الذعر جماهير الشعب بعد أن فقدوا الثقة في أمن الحكومة وسلامها وهددوا بالتزاحم على المصرف لاسترداد ودائعهم، في هذا الظرف قاد جدعون التجار والأعيان اليهود لإنقاذ المصرف، فتدفقت أموالهم الخاصة فيه، وتعهدوا بقبول بنكنوت المصرف بالقيمة الاسمية في معاملاتهم التجارية ووفى المصرف بالتزاماته، وأعيدت الثقة، ورد المطالب بالعرش على أعقابه(39).
وأعربت وزارة الأحرار (الهويج) عن تقديرها لصنيع اليهود بتقديمها مشروع قانون إلى البرلمان (1753) يبيح الجنسية والمواطنة لجميع اليهود المولودين في الخارج والذين أقاموا في إنجلترة أو ارلندة ثلاثة أعوام. (أما اليهود المولودين هناك فكانوا يكستبون الجنسية بلولد(40). ووافق اللوردات والأساقفة على المشروع، ووافق عليه أعضاء مجلس العموم بأغلبية ستة وتسعين صوتاً مقابل خمسة وخمسين. ولكن الشعب البريطاني الذي لم يكن له كبير علم أو فهم للدور الذي لعبه اليهود في إنقاذ المصرف هب معارضاً مشروع القانون معارضة ساحقة. وانهالت الاحتجاجات على البرلمان من كل مدينة في بريطانيا تقريباً، وأجمعت المنابر والحانات على إدانته، وشكا التجار من أن منافسة اليهود لهم في التجارة ستصبح أمر لا يحتمل. وكان الشتم والإهانة في الشوارع نصيب الأساقفة الذين صوتوا للمشروع؛ وبعثت الأساطير القديمة التي ادعت قتل اليهود للمسيحيين طبقاً لشعائرهم، وأذيعت مئات النشرات والقصائد الشعبية والصور الكاريكاتورية والأهاجي الساخرة، وزين النساء ثيابهن وصدورهن بالصلبان ولبس أوشحة تحمل هذا الشعار "لا يهود، المسيحية إلى الأبد"(41). وخاف زعماء الأحرار الهزيمة في الانتخاب القادم فحصلوا على إلغاء القانون (1754).
العزاء الصوفي
ولاذ كثير من اليهود، لا سيما في بولندة، بأسباب العزاء فوق الطبيعي هرباً من معاناتهم الأرضية. وأتلف بعضهم بصرهم بإدمان قراءة التلمود، وفقد بعضهم عقولهم في القبلانية، وظل بعض "الصبطائيين" يؤمنون بألوهية صبطاي زيفي رغم ارتداد هذا المسيح الكاذب وموته، وانصرفوا عن التهودية التلموذية إلى الآمال والطقوس المهرطقة. وأقنع يانكيف ليبوفتش، الذي أصبح معروفاً باسم يعقوب فرانك الذي أطلقه عليه الترك، مئات من اليهود البولنديين بأن روح زيفي تقمصته، وعلمهم عقيدة شبيهة بهرطقة مسيحية لطيفة تصورت الثالوث مؤلفاً من الله الآب، ومريم الأم، والمسيح ابنهما، وأخيراً قاد أتباعه إلى الكنيسة الكاثوليكية (1759).
وأنقذت الحركة "القاصدية" اليهود البولنديين بعض الإنقاذ من حالتهم الوضعية. وكان مؤسس "عقيدة التقوى" هذه إسرائيل بن ألعازر، المعروف باسم بعل شم-توب ("السيد الصالح لاسم الله")، واختصاراً باسم "بشت" الجامع لأول حروف اسمه الكامل. وكان يجوب البلاد معلماً للأطفال، وعاش في فقر تجمله البهجة، وكان يصلي بانتشاء ويشفي المرضى شفاء "معجزياً" بالأعشاب الجبلية. وقد طلب إلى أتباعه ألا يعيروا طقوس المجمع والمعرفة التلمودية كبير اهتمام، وأن يقتربوا إلى الله رأساً في شركة متواضعة ولكنها حميمة، وأن يبصروا الله ويحبوه في شتى صور الطبيعة ومظاهرها، في الصخور والأشجار، وفي حالات اليسر والألم؛ وأمرهم بأن يستمتعوا بالحياة في الحاضر بدلاً من البكاء على خطايا الماضي وآلامه. وكانت أقواله المأثورة البسيطة أحياناً تشبه أقوال المسيح. "شكا بشت أن ابنه ترك الله، وسأله قائلاً: يا معلم، ماذا أصنع؟ وأجابه بشت: أحبه أكثر مما فعلت في أي وقت"(42).
والحركة القاصدية في بولندة تقابل من بعض الوجوه حركات الأخوان الموافيين، والتقويين الألمان، والمثوديين الإنجليز؛ فقد اتفقت مع هذه الحركات على إخراج الدين من المعبد وإدخاله إلى القلب، ولكنها رفضت النسك والاكتئاب، وأمرت أتباعها بأن يرقصوا، ويستمتعوا بعناق أزواجهم، لا بل بالشراب بين الحين والحين إلى حد النشوة.
فلما مات بعل شم-توب (1760) تولى رعاية قطيعه، وأحياناً جز صوفه،(43) سلسلة من "الصديقين". وحارب التلموديين السنيون بزعامة عالم متعصب من فلنا يدعى إيليا بن سليمان "القاصدين" بالنصح والحرم، ولكن عددهم زاد بانهيار بولندة (1772-92)، ولم يختتم القرن حتى كانوا يعدون 100.000 نسمة(44).
وما كان لحياة مطاردة على الأرض على هذا النحو، ونفوس مثبتة في السماء إلى هذا الحد، أن تسهم بقسط كبير في الأدب الدنيوي أو العلم أو الفلسفة. وكان اليهود في كل بلد تقريباً ممنوعين من الالتحاق بالجامعات بحكم القسم بالولاء للعقيدة المسيحية المشترط على جميع الطلاب. ثم أن ناموس موسى حرم عليهم ممارسة فن التصوير وبلد تذوقهم الفني. وإذ كانوا يكتبون بالعبرية التي لا تفهمها غير قلة قليلة، أو بالييدية التي لم تكن بعد قد أصبحت لغة أدبية، فقد افتقدوا الحافز لإنتاج أي أدب خلاف الشروح الدينية أو السفاسف الشعبية. وثمة إسهام بارز واحد أسهموا به الفنون العملية في هذا العصر: فقد اخترع يعقوب رودريج، بيرير، وهو أحد يهود بوردو، لغة إشارات للصم والبكم، فأثنى عليه ديدرو ودالامبير وروسو وبوفون. ثم شاعر يهودي واحد أنار هذه الظلمة.
وقد ولد الشاعر موشى حاييم لوتساتو في إيطاليا (1707) لوالدين أتاح لهما بعض اليسر أن يحسنا تعليمه. وقد أخذ عن الشعراء اللاتين، وعن الشعراء الإيطاليين من أمثال جواريني، براعة في الأوزان الشعرية مكنته من أن يسبغ على شعره العبري من الإيقاع المتدفق والسحر الرقيق ما لم يعرف في تلك اللغة منذ أيام يهوذا هاليفي. وحين بلغ السابعة عشرة كتب مسرحية عن شمشون والفلسطينيين. ثم أقبل على دراسة "الزهر"، وهو كتاب القبلانية المقدسة، فاقتن خياله بأوهامه الصوفية، فأدار بعضها شعراً، وأدارت هي رأسه فخيل إليه أنه ملهم من السماء. فكتب "زهراً" ثانياً، وأذاع أنه المسيح الذي وعد به اليهود. فحرمه حاخامات البندقية (1734). ففر إلى فرانكفورت-على المين، حيث أجبروه الحاخامات على الوعد بالإقلاع عن أوهامه بأنه المسيح المنتظر. وانتقل إلى أمستردام حيث رحبت به الجالية اليهودية، وهناك كسب قوته كما كسبه سبينوزا بصقل العدسات، ثم استأنف دراساته القبلانية. وفي 1743 ألف مسرحية عبرية "لا-ي أشاريم تهيللا (مجداً للأبرار) كان حظها التقريظ ممن كانوا أكفاء للحكم عليها، برغم التجريدات التي استخدمها شخوصاً للمسرحية.
ومؤدى المسرحية أن الجهل المستشري بين العوام، يدعمه المكر والخداع، يولد الحماقة، التي تحبط الحكمة مراراً، وتحرم الكفاية من تاجها، حتى ينتصر العقل والصبر في النهاية على الخداع بالكشف عن الحقيقة، على أن "الحقيقة" كان يقصد بها القبلانية. وفي 1744 ذهب إلى فلسطين، أملاً في أن ينادي به المسيح المنتظر، ولكنه مات في عكا بالطاعون (1747) وهو في التاسعة والثلاثين. وكان آخر صوت فصيح لعصر اليهودية الوسيط، كما كان أول صوت كبير ليهودية تنبعث من العزلة الواقعية إلى الاحتكاك بالفكر الحديث.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
موسى مندلسون
كان جد فيلكس مندلسون من أنبل شخصيات القرن الثامن عشر، وكان صديقاً وخصماً لكانط، وصديقاً وملهماً لليسنج. وكان أبوه مناحم مندل كاتباً ومعلماً بمدرسة يهودية في دسو. وهناك ولد "موسى الثالث" في 6 سبتمبر 1729، وشب مشغوفاً بالدرس حتى لقد أصابه شغفه هذا بتقوس مستديم في العمود الفقري. فلما بلغ الرابعة عشرة أوفد إلى برلين لمزيد من دراستة التلمود، وهناك اتبع بحذافيره تقريباً أمر التلمود الذي نصه "كل الخبز بالملح، واشرب الماء بمقدار، ونم على الأرض اليابسة، وعش عيشة الحرمان، وليكن الناموس شغلك الشاغل"(45). وظل سبع سنين قانعاً بسكناه في إحدى العليات يعم رغيف خبزه الأسبوع بخطوط تحدد جرايته اليومية(46)، ويكسب الرزق الضئيل بنسخ الوثائق بخطه الأنيق. وفي برلين أكب على آثار موسى بن ميمون، ووجد الشجاعة في حياة "موسى الثاني" ذاك وتعلم منه ومن الحياة أن ينزل بكبريائه إلى التواضع وبحدة طبعه من اللطف والمجاملة. وعلمه رفقاؤه البرلينيون اللاتينية والرياضيات والمنطق، وقرأ لوك في ترجمة لاتينية، وانتقل إلى ليبنتس وفولف، ولم يلبث أن عشق الفلسفة. ثم تعلم كتابه الألمانية في نصاعه رقيقة ندر أن تجاهد لها نظيراً في أدب وطنه جيله.
وانتهت أيام فقره حين أصبح في الحادية والعشرين معلمً خاصاً في أسرة صاحب مصنع حرير في برلين يدعى إسحاق برنهارت، وبعد أربع سنوات عين محاسباً بالشركة ثم مندوباً متجولاً لها، وأخيراً شريكاً فيها. وقد احتفظ بصلة العمل هذه بنشاط حتى نهاية عمره، لأنه اعتزم ألا يعتمد في رزقه على رواج كتبه وحصيلتها من المال. والراجح أنه التقى بليسنج في 1754، على لعبة شطرنج فيما يبدو، وهكذا بدأت صداقة اتصلت حتى موت ليسنج رغم ما بينهما من خلافات فلسفية. كتب لسينج إلى صديق آخر في 16 أكتوبر 1754 يقول: "إن مندلسون رجل في الخامسة والعشرين، اكتسب دون أي تعليم جامعي معلومات كبيرة في اللغات والرياضيات والفلسفة والشعر. وأني لأتطلع فيه إلى مفخرة لأمتنا إذا أتاح له إخوانه في الدين أن يصل إلى درجة النضج... وأن صراحته وروحه الفلسفية ليجعلانني أعده سلفاً، اسبينوزا ثانياً"(47). أما مندلسون فكان يقول أن كلمة ود أو نظرة محبة من ليسنج تطرد عنه كل حزن أو غم(48).
وفي 1755 رتب ليسنج نشر كتاب مندلسون "أحاديث فلسفية"، الذي شرح ودافع عن كلاً من سبينوزا وليبنتس. وفي العام ذاته تعاون الصديقان على كتابة مقال "بوب ميتافيزيقيا!" زعما فيها أن هذا الشاعر الإنجليزي لم يكن له فلسفة من بنات أفكاره، وكل ما فعله أنه نظم فلسفة ليبنتس شعراً. وفي 1755 أيضاً نشر مندلسون "رسائل في الوجدان"، وقد سبق هذا كانط في رأيه أن الإحساس بالجمال مستقل كل الاستقلال عن الشهوة. وقد أكسبت هذه الكتب المنشورة اليهودي الشاب الترحيب في برلين بين "الإخوان الفلاسفة الذين لم يكونوا على تمام الصفاء والرزانة". وعن طريق ليسنج التقى بفردريش نيقولاي، ودرس هو ونيقولاي اليونانية معاً، وما لبث أن بدأ يقرأ أفلاطون في لغته الأصلية. ثم ساعد نيقولاي في إنشاء مجلة سميت "مكتبة الآداب البحتة والفنون الجميلة"، وأسهم في هذه المجلة وغيرها من المجلات بمقالات كان لها تأثير قوي في الأفكار السارية في نقد الأدب والفن.
وأحس مندلسون الآن بقدر من الأمن والطمأنينة يتيح له أن يقيم بيتاً خاصاً به. ففي 1763، وهو في الثالثة والثلاثين، تزوجت فرومريت جوجنهايم البالغة خمسة وعشرين ربيعاً. وكان كلاهما قد بلغ سن النضج الفكري، فأثمر اتحادهما الكثير من السعادة. وفي شهر العسل بدأ العمل في مسابقة قدمت فيها أكاديمية برلين جائزة لأفضل مقال يتناول هذا الموضوع "هل العلوم الميتافيزيقية تقبل الأدلة كالعلوم الرياضية". وكان من المتسابقين إيمانويل كانط. وفاز مقال مندلسون (1763)، فأتاه بخمسين دوقاتية وبشهرة دولية.
وكان بين المتسابقين توماس آبت، وهو أستاذ في فرانكفورت-على الأودر. وفي رسائل كثيرة تبادلها مع مندلسون أعرب عن شكوكه في خلود الروح، وأسف على أن فقدان ذلك المعتقد قد يقوض الناموس الأخلاقي ويحرم التعساء من آخر عزاء لهم. وبعض الفضل راجع إلى هذه الرسائل في وضع مندلسون لأشهر كتبه قاطبة "فيدون". وقد صاغه على مثال نموذجه الأفلاطوني في شكل حوار وفي أسلوب ميسر. فروح الإنسان (كما يزعم) متمايزة مع المادة بشكل واضح، إذن لنا أن نعتقد أنها لا تشارك الجسد مصيره؛ وإذا كنا نؤمن بالله فإننا لا نستطيع الافتراض بأنه يخدعنا إذ يغرس في عقولنا أملاً دون أن يكون له إحساس من الحقيقة. يضاف إلى هذا (وهو ما سيذهب إليه كانط) أن للروح حافزاً طبيعياً نحو كمال الذات؛ وهذا لا يمكن تحقيقه في حياتنا؛ ولا بد أن الله يسمح للروح بأن تحيا بعد موت الجسد. وقد شعر مندلسون بأنه "بدون الله، والعناية الإلهية، والخلود" تفقد كل طيبات الحياة قيمتها في نظري وتصبح حياتنا على الأرض... أشبه بالتيهان في الريح والمطر دون أمل يعزي التائه بالعثور على غطاء ووقاء في الليل"(49). وبراهين الكتاب هشة، ولكن أسلوبه أبهج قراء كثيرين، ولاح أن الكاتب ظفر باستعادة سحر محاورات أفلاطون، والواقع أن لقب "أفلاطون الألماني" اسماً ثانياً لمندلسون. وطبعت من الكتيب خمس عشرة طبعة وترجم إلى جميع اللغات الأوربية تقريباً كما ترجم إلى العبرية، وكان في جيله أوسع الكتب انتشاراً في ألمانيا باستثناء القصص. وشارك هردر وجوته في تقريظه.
وزار لافاتر مؤلفه، وفحص رأسه ووجهه، وأعلن أن كل نتوء وخط فيه يشي بروح سقراط(50). وأشاد المسيحيون على اختلاف مذاهبهم باليهودي البليغ، والتمس منه راهبان بندكتيان النصيحة الروحية. ولكن في 1769 آثار لافاتر، الذي كان لاهوتياً غيوراً كما كان عالمة في الفراسة، ضجة بتوجيهه نداءاً علنياً لمندلسون أن يدخل في المسيحية. ورد مندلسون في "(1770) فسلم بعيوب الديانة اليهودية والحياة اليهودية. ولكنه ذكر أن عيوباً كهذه تنشأ في كل ديانة في أثناء تاريخها، وطلب إلى لافاتر أن يفكر في الشدائد التي عاناها اليهود في الأقطار المسيحية، ثم أضاف: "إن الذي يلم بما نحن عليه الآن من حال، إن كان له قلب رحيم، سيفهم أكثر مما في وسعي التعبير عنه". واختتم بهذه العبارة "إنني لوطيد الثقة بالعناصر الأساسية في إيماني... بحيث أشهد الله على أنني سأثبت على عقيدتي الأصلية ما لم تتخذ روحي طبيعة أخرى"(51) وتأثر لافاتر، واعتذر بتواضع عن توجيهه هذا النداء(52). ولكن نفراً كبيراً من المعلقين شهروا بمندلسون متهمينه بالكفر، وأدته بعض اليهود السنين لتسليمه بأن هناك نقائض تسلك إلى الشعار اليهودية(53). وظل الجدل حيناً يثير من النقاش أكثر مما تثيره السياسة القومية أو تدهور صحة فردريك. وعانت صحة مندلسون نفسه من هذه الضجة، فاضطر طوال شهور من عام 1772 أن يكف عن أي نشاط ذهني. فلما استعاد عافيته كرس من وقته قدراً أكبر للتخفيف من آلام إخوانه في الدين. وحين تهيأت بعض أقاليم سويسرة لفرض مزيد من القيود على اليهود طلب إلى لافاتر أن يتدخل في الأمر، ففعل، وكان موقفاً في شفاعته. وحين وضعت سلطات درسدن خطة لطرد مئات من اليهود استعان مندلسون بصداقة تربطه بموظف محلي للحصول على الأمان لهم(54). وبدأ في 1778 نشر ترجمته للأسفار الموسوية الخمسة؛ وأصدرها في 1783، فأثارت عاصفة جديدة. ولكي يكتب بعض الشروح على النص كلف هرتس هومبرج بالمهمة، وكان مرتبطاً بيهود من برلين مبتوتي الصلة تماماً بالمجمع اليهودي. وحرم الترجمة أحبار عديدون، ولكنها شقت طريقها إلى الجاليات اليهودية؛ وتعلم شباب اليهود الألمانية منها، وتحرك جيل اليهود التالي للمشاركة النشيطة في الحياة الفكرية لألمانيا. ونشر ليسنج خلال ذلك (1779) مسرحيته "ناثان الحكيم"، التي فسرها القراء على أنها تمجيد لصديقه اليهودي.
أما وقد بلغ مندلسون قمة الشهرة والنفوذ، فإنه أقنع ماركوس هرتس بأن يترجم إلى الألمانية كتاب "الدفاع عن اليهود" الذي وجهه منسي بن إسرائيل إلى الشعب الإنجليزي في 1656. وأضاف إلى الترجمة مقدمة في "خلاص اليهود" (1782)، ناشد فيها الأحبار أن يتخلوا عن حقهم في الحرم. واتبع هذا في 1783 بكتاب بليغ سماه" أورشليم، أو في السلطة الدينية والديانة اليهودية"، أعاد فيه تأكيد إيمانه اليهودي، وأهاب باليهود أن يخرجوا من عزلتهم وانطوائهم ويدلوا بدلوهم في الثقافة الغربية، وحث على الفصل بين الكنيسة والدولة، وأدان أي إكراه في الدين، وذهب إلى أن الحكم على الدول بقدر اعتمادها على الإقناع لا القوة. وكتب كانط، الذي كان هو الآن أيضاً في أوج شهرته، إلى المؤلف رسالة تستحق أن يفرد لها مكان في سجلات الصداقة. قال: "إني أعد هذا الكتاب بشير إصلاح عظيم لن يؤثر في شعبك فحسب بل في الشعوب الأخرى. فلقد وفقت في الجمع بين دينك وبين قدر من حرية الضمير لم يتصور أحد أنه ميسور... ثم أنك في الوقت نفسه أبنت في كثير من الوضوح والدقة ضرورة حرية الضمير التي لا حدود لها في كل دين، بحيث أن كنيستنا (اللوثرية) ستضطر آخر الأمر إلى النظر في أن تزيل من وسطها كل شيء من شأنه إقلاق الضمير أو إكراهه"(55).
وهاجم الكتاب الزعماء السنيون مسيحيين كانوا أو يهوداً، ولكنه أسهم إلى حد هائل في تحرير اليهود وتغريبهم. في عام 1783 لم يكن مندلسون قد تجاوز الرابع والخمسين، ولكنه كان دائماً رقيق البنية معتل الصحة، وقد أحس أنه لم يبق له من الأجل كثير. وفي أخريات سنيه ألقى على أبنائه وعلى بعض أصحابه محاضرات حدد فيها عقيدته الدينية، وقد نشرت في عام 1785 باسم "ساعات الصباح أو محاضرات في وجود الله". وفي آخر سنة من عمره صدمه أن يقرأ في كتاب ألفه ياكوبي أنه صديقه العزيز ليسنج، والذي كان قد فارق الحياة، اتبع طويلاً عقيدة سبينوزا في وحدة الوجود، فلم يستطع أن يصدق الخبر، وكتب دفاعاً حاراً عن ليسنج عنوانه "إلى أصدقاء ليسنج". وفيما هو حامل المخطوط إلى الناشر أصيب بنزلة برد؛ وأثناء مرضه ذلك أصيب بسكتة دماغية أودت بحياته في 4 يناير 1786. واشترك المسيحيون مع اليهود في إقامة تمثال له في مسقط رأسه دسو. لقد كان واحداً من أكثر الشخصيات تأثيراً في جيله. فقد خرج شباب اليهود من عزلتهم بعد أن ألهمتهم كتاباته وعبوره الناجح للفواصل الدينية، ولم يلبثوا أن تركوا بصماتهم على الأدب والعلم والفلسفة. فذهب ماركوس هرتس إلى جامعة كونجزبرج في طلب الطب؛ والتحق بعدة فصول دراسية لكانط، وأصبح المساعد والصديق لفيلسوف المعرفة العظيم. وهو الذي توقف في منتصف قراءته "نقد العقل الخالص" مخطوطاً مخافة أن يصاب بالجنون إذا مضي في القراءة إلى النهاية. فلما نقل إلى برلين، اشتغل بالطب وكثر زبائنه، وألقى محاضرات في الفيزياء والفلسفة على جمهور من المسيحيين واليهود. وافتتحت زوجته الجميلة المثقفة هنرييتا صالوناً كان في نهاية القرن ملتقى هاماً لمفكري برلين؛ وإليه اختلف فلهلم فون همبولت، وشلاير ماخر، وفريدريش شليجل، وميرابو الابن... ولعل اختلاط الأفكار الذي تمحضت عنه هذه اللقاءات ما كان ليسر مندلسون. فقد دخل عدد من أبنائه في المسيحية، واشترك ابنتان من بناته مع هنرييتا هرتس وغيرها في "رابطة للفضيلة" تحترم "الانجذابات العاطفية" أكثر من الولاء الزوجي. وكان لهنرييتا علاقة غرام بشلاير آخر؛ وهجرت دوروتيا مندلسون زوجها لتصبح خليلة فزوجة وفية لفريدريش شليجل، وأخيراً تابعة للكنيسة الكاثوليكية الرومانية؛ كذلك اعتنقت هنرييتا مندلسون العقيدة الرومانية، وجعل أبراهام مندلسون أبناءه، ومنهم فليكس، يعمدون في الكنيسة اللوثرية؛ وزعم الحاخامات السنيون أنهم كانوا على حق في مخاوفهم. ولكن هذه كانت نتائج عارضة للحرية الجديدة؛ أما النواحي الأبقى على الزمن في تأثير مندلسون فقد ظهرت في تحرير اليهود فكرياً واجتماعياً وسياسياً.
نحو الحرية
وفي هذه الحقبة اتخذ التحرير من الناحية الفكرية، شكل "الهسلقة"-وهي كلمة كانت تعني الحكمة، ولكنها أصبحت في هذا السياق ترمز إلى التنوير اليهودي، أو تمرد عدد متزايد من اليهود على سيطرة الأحبار والتلمود، وتصميمهم على أن يندمجوا اندماجاً نشيطاً في تيار الفكر الحديث. وتعلم هؤلاء المتمردون الألمانية، وتعلم بعضهم الفرنسية-لا سيما في أسر التجار أو الماليين؛ وقرأوا مؤلفات أحرار الفكر الألمان أمثال ليسنج، وكانط، وفيلاند، وهردر، وشيلر، وجوته؛ وكثيرون نقبوا في أعمال فولتير، وروسو، وديدرو، وهلفتيوس، ودولباخ. ووقع انقسام بين اليهود المتحررين المقبلين على الحداثة، واليهود المحافظين الذين شعروا بأن الولاء للتلمود والمجمع هو الطريق الأوحد للحفاظ على الوحدة الدينية والعرقية والأخلاقية للشعب اليهودي.
وانتشرت حركة الهسلقة من ألمانيا جنوباً إلى غاليسيا والنمسا، وشرقاً إلى بوهيميا وبولندة وروسيا. وزاد عن سرعتها في النمسا ترخيص التسامح الذي أصدره يوزف الثاني، والذي دعا دخول يهود المدارس غير اليهودية. فلما عارض الأحبار المحافظون، ناشدهم شاعر يهودي هامبورجي يدعى نفتالي فيسيلي، في بيان يهودي بليغ، أن يباركوا اشتراك اليهود في التعليم العلماني؛ وحث الجيل الصاعد على أن يحلوا العبرية والألمانية محل اليبدية، وأن يدرسوا العلوم والفلسفة كما يدرسون التوراة والتلمود. وقد رفض أحبار النمسا آراءه؛ ولكن قبلها زعماء اليهود في تريسته والبندقية وفرارا وبراغ. ومنذ ذلك الحين إلى وقتنا هذا أسهم اليهود في العلم والفلسفة والأدب والموسيقى والقانون بقدر يفوق كثيراً نسبتهم إلى عدد السكان.
وأعانت التطورات الفكرية والاقتصادية على تحير اليهود. فنشر الدارسون الكاثوليك من أمثال رتشرد سيمون المعارف الربانية بين طلاب الكتاب المقدس؛ وألف لاهوتي بروتستنتي يدعى جاك باناج كتاباً مشرباً بروح الود يسمى "تاريخ ديانة اليهود" (1707). وجمع نمو التجارة والمالية بين المسيحيين واليهود في اتصالات أججت أحياناً نار الخصومة العرقية، ولكنها كثيراً ما خففت منها. ولعب الماليون اليهود في عدة حكومات أدواراً تجلت فيها روح العون والوطنية.
وارتفعت الآن أصوات مسيحية تقترح إنهاء الاضطهاد الديني، ففي 1781 نشر كرستيان فلهلم دوم، وكان صديقاً لمندلسون، بناء على اقتراحه نبذة خطرة الأثر سماها "في تحسين الأحوال المدنية لليهود في ألمانيا". وكانت المناسبة نداء وجهه يهود الالزاس إلى مندلسون يطلبون إليه كتابة احتجاج على القيود المفروضة عليهم. واضطلع دوم بالمهمة، ووسعها إلى نداء عام لتحرير اليهود.. ووصف في تفصيل مؤثر، المعوقات التي يعانيها اليهود في أوربا، وأشار إلى فداحة الخسارة التي خسرتها الحضارة الغربية لأنها لم تفد فائدة تذكر من مواهب اليهود العقلية-"إن مبادئ التفرقة هذه، المنافية للإنسانية والسياسة على حد سواء، تحمل طابع العصور المظلمة، وهي غير جديرة بتنوير عصرنا هذا"(56) واقترح دوم السماح لليهود بحرية العبادة الكاملة وبالالتحاق بمعاهد التعليم، وبممارسة جميع المهن والحرف، وبإعطائهم جميع الحقوق المدنية، ويستثني مؤقتاً اختيارهم للمناصب وهو ما لم يكونوا بعد مهيئين له.
وأثارت الرسالة التعليق في أقطار كثيرة، فاتهمه بعض خصومه بأنه باع قلمه لليهود، ولكن العديد من رجال الدين البروتستنت سارعوا إلى الدفاع عنه. وأيده المؤرخ السويسري يوهان فون مولر، وطلب ترجمة أعمال موسى بن ميمون إلى الألمانية أو الفرنسية. واكتسبت حركة التحرير دفعاً من براءة التسامح الصادرة في 1782 بالنمسا ومن تحرير اليهود السياسي في الولايات المتحدة (1783). واستجابت الحكومة الفرنسية استجابة هزيلة برفع الضرائب الشخصية (1784) التي أثقلت كواهل اليهود. واشترك المركيز ميرابو مع ماليرب في تحقيق هذا التخفيف، وساعد الحركة ابنه الكونت ميرابو بمقالة "عن مندلسون والإصلاح السياسي لليهود" (1787) ودفع الأب هنري جريجوار الحركة بكتابته مقالاً نال جائزة في مسابقة عن "الأحياء المادي والخلقي والسياسي لليهود" (1789).
على أن التحرير السياسي النهائي لم يأت إلا مع الثورة. فقد احتواه ضمناً إعلان حقوق الإنسان الذي أذاعته الجمعية الوطنية (27 أغسطس 1789)، وفي 27 سبتمبر 1791 وافقت الجمعية التأسيسية على إعطاء كامل الحقوق المدنية ليهود فرنسا. وجاءت جيوش الثورة أو جيوش نابليون بالحرية ليهود هولندة في 1796، وليهود البندقية في 1797، ومابنز في 1798، وروما في 1810، وفرانكفورت في 1811. وهكذا اختتمت حقبة العصور الوسطى بالنسبة لليهود.