قصة الحضارة - ول ديورانت - م 10 ك 5 ف 24

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 13893

قصة الحضارة -> روسو والثورة -> الشمال البروتستنتي -> جوته نسطورا -> جوته ونابليون

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الرابع والعشرون: جوته "نسطورا" 1805-1832

1- جوته ونابليون

أيحسن بنا-ونحن مقيدون بحدودنا المقررة-أن نترك جوته معلقاً عند هذه النقطة، وعلى قلمه فاوست وفي شيخوخته الحكمة، أم أن نلاحق هذا الأولمبي-الذي لا يكف عن التطور-إلى نهايته، مقلبين الصحائف مضحين بالوقت؟ "إن الحكمة السرمدية تجذبنا إلى العلا".(1)

في 14 أكتوبر 1806 هزم نابليون البروسيين في يينا. وكان الدوق كارل أوجست، المتحالف مع بروسيا، قد قاد جيشه الصغير ضد الفرنسيين في تلك المعركة. ودخل الأحياء المدحورون فايمار، وأعقبهم الغالبون الجياع، فنهبوا المحال واحتلوا بيوت الناس. واستولى ستة عشر جندياً الزاسياً على بيت جوته، وأعطتهم كرستيانة الطعام والشراب والفراش. في تلك الليلة اقتحم البيت جنديان آخران ثملا بالخمر، فلقد افتقدا الأسرة في الطابق الأسفل، صعدوا عدة إلى حجرة جوته، ولوحا بسيفهما في وجهه، وطالباه بمكان للنوم، ووقفت كرستيانة حائلاً بين الجنديين ورفيقها، وأقنعنهما بالخروج ثم ارتجت الباب. وفي الخامس عشر من الشهر وصل نابليون إلى فايمار وأعاد النظام إلى نصابه، وصدرت التعليمات بعدم إزعاج "الأديب الكبير" وبضرورة اتخاذ جميع الإجراءات لحماية جوته العظيم وبيته.(2) ومكث معه المارشالات لأن ونيه وأوجروا برهة ثم رحلوا معتذرين مجاملين. وشكر جوته كرستيانة على شجاعتها وقال لها "إن أذن الله سنكون زوجاً وزوجة" وفي 19 أكتوبر تزوجا. أما أمه الطيبة التي احتملت في حب جميع مثالبه، وفي تواضع جميع مفاخره، فقد جددت بركاتها لهما. ثم ماتت في 12 سبتمبر 1808، وورث جوته نصف تركتها.

وفي أكتوبر 1808 رأس نابليون مؤتمراً من ستة ملوك وثلاثة وأربعين أميراًفي أرفورت، وأعاد رسم خطة ألمانيا، وحضر الدوق كارل أوجست المؤتمر واصطحب جوته في بطانته. وطلب نابليون إلى جوته أن يزوروه في 2 أكتوبر، وذهب الشاعر، وأنفق ساعة مع الغازي، وتاليران، وقائدين، وفريدريش فون مولر، وهو قاضي فايماري. وهنأه نابليون على عافيته (وكان جوته يومها في التاسعة والخمسين)، واستفسر عن أسرته، ثم دخل في نقد جريء لفتر. وقد عاب الدرامات الشائعة التي تؤكد على القضاء والقدر "فلم الحديث عن القضاء والقدر؟ إن السياسة هي القضاء والقدر... ما قول المسيو جوته في هذا؟" ولا علم لنا بجزاب جوته ولكن موللر روى أن نابليون قال لقواده معلقاً بينما جوته يبرح الحجرة "هاكم رجلاً!"(3).

وفي 6 أكتوبر عاد نابليون إلى فايمار، واصطحب معه فرقة ممثلين من باريس من بينهم تالما العظيم. ومثلوا في مسرح جوته مسرحية فولتير "موت قيصر" وعقب الحفلة انتحى نابليون بجوته جانباً وناقش معه التراجيديا، فقال "إن الدراما الجادة تصلح جداً لأن تكون مدرسة للأمراء كما هي مدرسة الشعب، لأنها من بعض نواحيها فوق التاريخ... يجدر بك أنت أن تصور موت قيصر صورة أبهى مما صوره فولتير، وتبين كم كان قيصر (نابليون) سيسعد العالم لو أن الشعب أتاح له الوقت لإنفاذ خططه السامية. "ثم بعد قليل" لا بد أن تأتي إلى باريس! إني أوجه إليك هذا الرجاء المشدد! ستتاح لك هناك نظرة أوسع للعالم، وستجد ذخيرة من الموضوعات لشعرك"(4) وحين مر نابليون بفايمار ثانية عقب تقهقره المشئوم من موسكو طلب إلى السفير الفرنسي أن يبلغ جوته تحياته.

وأحس الشاعر أنه في بونابرت قد التقى، على حد تعبيره، بـ "أعظم فكر شهده العالم"(5) إلى الآن. وقد وافق تماماً على حكم نابليون لألمانيا، فلم يكن هناك ألمانيا على أية حال (كما كتب جوته في 1807) إنما هي خليط من الدويلات، أما الإمبراطورية الرومانية المقدسة فقد نفذ قضاء الله فيها في 1806، وبدا لجوته أنه من الخير أن تتوحد أوربا، لا سيما تحت رآسة رجل ألمعي كوبنابرت. ولم يغتبط بهزيمة نابليون في واترلو، مع أن دوقة قاد أفواج فايمار مرة أخرى ضد الفرنسيين. لقد كانت ثقافته واهتماماته أشمل وأعم من أن يتيحا له الشعور بالكثير من الزهو الوطني، ولم يستطع أن يستشعر في نفسه الميل لتأليف الأغاني ذات الحماسة القومية رغم كثرة ما طلب إليه. قال لأكرمان وهو في الثمانين:

"أنى لي أن أؤلف أغاني الحقد وأما لم أشعر بشيء من الكره؟ وأقول فيما بيني وبينك أنني لم أكره الفرنسيين قط وإن شكرت الله على خلاصنا منهم. وأنى لي، أنا الذي أرى الحضارة والهمجية الشيئين الوحيدين اللذين لهما مغزى، أن أبغض أمة هي من أكثر أمم الأرض ثقافة، أمة أدين لها بجزء عظيم من ثقافتي؟ على أية حال أرى أن مسألة الكراهية بين الأمم هذه شيء غريب. فأنت ستجد دائماً أقوى وأشد مما تكون ضراوة في المراتب الدنيا من المدنية. ولكن يوجد مستوى تختفي فيه كلية، ويقف عليه الإنسان فوق الأمم إذا جاز التعبير، ويحس أفراح شعب مجاور أو أتراحه كأنها أفراحه هو وأتراحه. ولقد كان هذا المستوى يلائم طبيعتي، ولقد بلغته قبل أن أبلغ الستين بزمن طويل"(6).

ألا ليت كل دولة غنيت بمليون من هؤلاء "الأوربيين الصالحين!".

2- فاوست (الجزء الأول)

لم يقبل جوته دعوة نابليون إياه للانتقال إلى باريس أو للكتابة عن قيصر، ذلك أنه طالما احتضن في ذهنه وفي مخطوطاته موضوعاً أثاره إثارة أعمق من حتى أعظم مستقبل سياسي: إلا وهو صراع النفس لبلوغ الفهم والجمال "وهزيمة النفس بسبب قصر عمر الجمال وروغان الحقيقة، والسلام المستطاع للنفس، بتضييق الهدف وتوسيع الذات. ولكن كيف السبيل إلى تخل هذا كله في قصة رمزية عصرية وشكل درامي؟ لقد ظل جوته يحاول تحقيق هذا الهدف ثمانية وأربعين عاماً.

وكان قد تعلم قصة فاوست(7) في طفولته من كتيبات القصص الشعبية ومسارح الدمى، ورأى صوراً لفاوست والشيطان على جدران حانة آورباخ في ليبزج. وتطفل هو نفسه في شبابه على السحر والخيمياء. وامتزج بحثه الدءوب عن الفهم بتصوره لفاوست، ودخلت قراءته لفولتير وإلمامه بتهكمات هردر في تصويره لفستوفيليس، وأعطت جريتشن التي أحبها في فرنكفورت، وفردريكه بريون التي هجرها في زيزنهايم، لمارجريت اسمها وصورتها.

ويتجلى عمق تأثر جوته بقصة فاوست، وتباين الأشكال التي اتخذتها في فكره، إذا علمنا أنه شرع في تأليف المسرحية في 1773 فلم يفرغ منها إلا في 1831. وحين التقى بهردر في 1771 كتب في ترجمته الذاتية:

"أخفيت عنه في تكتم شديد اهتمامي بشخوص معينة أصلت جذورها في كانت تشكل نفسها شيئاً فشيئاً في صورة شعرية. وتلك هي جوتزفون برليشنجن وفاوست... فمسرح عرائس فاوست ذو المغزى كان يجلجل ويتردد في باطني بأنغام كثيرة. كذلك كنت قد طوفت في شتى ضروب العلم، وانتهيت في فترة مبكرة من حياتي إلى تبين بطلانه، ثم إنني جربت كل أساليب العيش في الحياة الواقعية، وكنت دائماً أعود منها ضيق النفس غير راض عنها. هذه الأشياء وغيرها حملتها معي وسعدت بها في ساعات العزلة ولكن دون أن أكتب شيئاً"(8). وفي 17 سبتمبر 1775 كتب إلى مراسل يقول: "أحسست بانتعاش هذا الصباح وكتبت مشهداً في مسرحيتي فاوست"(9). وفي تاريخ لاحق من ذلك الشهر سأله. بوهان تسمرمان عن سير المسرحية. "فأتي بحقيبة مملوءة بمئات من قطع الورق وألقاها على المائدة. وقال: هاك فاوستي"(10). وحين ذهب إلى فايمار (نوفمبر 1775) كان أول شكل للدراما قد اكتمل(11). ولكنه نحاها لأنه لم يرض عنها، ولم تصل "فاوست الأصلية" هذه قط إلى المطبعة إلا في 1887 حين وجدت في فايمار(12) نسخة خطية نسختها الآنسة فون جوشهاوزن. وراح ينفخ ويوسع فيها طوال خمسة عشر عاماً أخرى. وأخيراً نشرها (1790) باسم "شذرة من فاوست" تبلغ الآن ثلاثاً وستين صفحة،(13) وكان هذا أول شكل مطبوع لأشهر مسرحية منذ هاملت.

على أن جوته ظل غير راض عنها، فأسقط الموضوع حتى 1797. وفي 22 يونيو كتب إلى شيلر يقول "اعتزمت أن أستأنف كتابة "فاوستي... مفككاً ما طبع منها، مرتباً إياه في كتل كبيرة... معداً تطور المسرحية إعداداً أو في..... كل ما أريده أن تتفضل بتقليب الأمر في فكرك في ليلة من لياليك النابغة-وتخبرني بما تتطلبه المسرحية بوصفها كلاً، وتفسر لي أحلامي تفسير نبي صادق. ورد عليه شيلر في الغد. "إن ازدواج الطبيعة البشرية، ومحاولة الإنسان الفاشلة للجمع بين العنصر الإلهي والعنصر الجسدي، لا تغيب عن البصر أبداً... إن طبيعة الموضوع ستكرهك على تناوله فلسفياً، وعلى الخيال أن يكيف نفسه لخدمة فكرة عقلية." أما خيال جوته فكان غاية في الخصوبة، وأما تجاربه الناصعة الذكرى فكثيرة جداً، لذلك أدخل الكثير منها في "شذرة من فاوست" فضاعف بذلك من حجمها. وفي 1808 أذاع على العالم ما نسميه الآن الجزء الأول من فاوست.

وقبل أن ينطق دميته بكلمة، صدر الدراما بإهداء رقيق إلى أصدقائه الموتى، وبفصل تمهيدي هزلي "برولوج في المسرح" بين المدير والمؤلف والمضحك، و "برولوج في السماء" يراهن الله فيه مفستوفيليس على أن فاوست لا يمكن أن يظفر به الإثم بصفة دائمة. ثم يتكلم فاوست أخيراً في أبسط شعر هزلي:

"أجهدت نفسي في دراسة الفلسفة والشريعة والطب، وتعمقت أيضاً-ويا للحسرة في دراسة علوم الدين، بجد لا يعتوره فتور وهمة لا تعرف الكلال. ثم أراني-أنا البليد المسكين-بعد هذا كله لم أتقدم شبراً ولم أخط نحو العرفان خطوة.

"سميت الأستاذ والدكتور، وقضيت زهاء عشر سنوات وسط تلاميذي أخادعهم وأغرر بهم وأذهب بهم ذات اليمين وذات الشمال. ثم أرانا بعد هذا كله لم نزل عاجزين عن أن ندرك شيئاً أو أن نلم بشيء".

وقد تبين أن البحر الرباعي التفاعيل، المنحدر من تمثيليات هانز زاكس القصيرة، هو الوزن المترقرق اللائق لدراما هذبت الفلسفة بالفكاهة.

وفاوست هو بالطبع جوته، حتى في كونه رجلاً في الستين، لم يزل كجوته ينتشي في الستين بحسن المرأة ورشاقتها. وتطلعه المزدوج إلى الحكمة والجمال هو روح جوته الضميم، وقد تحدى تطلعه الآلهة المنتقمة بوقاحته، ولكنه كان نبيلاً. لقد قال فاوست وجوته نعم للحياة، الروحية والحسية، الفلسفية والمرحة، وعلى النقيض من ذلك كان مفستوفيليس (وهو ليس إبليس بل فيلسوف إبليس فقط) شيطان الإنكار والشك، كل تطلع في نظره هراء، وكل حس إنما هو هيكل عظمي يكسوه جلد. وقد كان جوته في لحظات كثيرة هذا الروح الساخر أيضاً. وإلا لما استطاع أن يسبغ عليه هذا الذكاء وهذه الحياة. ويبدو مفيستوفيليس أحياناً صوت التجربة، والواقعية والعقل، يكبح رغبات فاوست وأوهامه الرومانسية، والحق، كما قال جوته لأكرمان "إن شخصية مفيستوفيليس... حصيلة حية لخبرة واسعة بالدنيا"(15).

وفاوست لا يبيع روحه بغير شروط، فهو لا يوافق على أن يقذف به في الجحيم إلا أن أراه مفيستوفيليس لذة فيها من الإشباع الدائم له ما يحبب له معايشتها إلى الأبد:

"لئن جاء اليوم الذي أرقد فيه على فراش الكسل والراحة،... فليكن ذلك اليوم آخر عمري!... ولو مرت بي لحظة من الزمن وكانت من الحسن بحيث قلت لها أن "لا تيرحي فما أحلاك! إذن فتهيئ لي سلاسلك وأغلالك... هنالك أرحب بالموت"...

وبهذا الشرط يبرم فاوست حلقة مع دمه ويصيح في استهتار "هلم نطفأ الآن ظمأ رغباتنا المتأججة في بحر من الشهوات"(16).

ويأخذه مفيستوفيليس إلى مارجريت-"جريتشن" فيجد فيها فاوست كل فتنة البساطة التي تولي مع المعرفة وتعود مع الحكمة. ويتودد إليها بالجواهر والفلسفة:

"مارجريت: قل لي ما رأيك في الديانة؟ لست أنكر أنك من أطيب الناس وأحسنهم. لكني أخشى أن تكون قليل الإيمان.
فاوست: دعي هذا يا حبيبتي! أنت ترينني متيماً بك؛ أود أن أبذل من أجل حبك لحمي ودمي، وما أريد لعمري أن أسلب أحداً دينه ومعتقده.
مارجريت: هذا خطأ. يجب على الإنسان أن يؤمن بالدين!... قل لي: هل تعتقد وتؤمن بالله؟
فاوست: أيتها الحبيبة! من ذا الذي يستطيع أن تبلغ به الجرأة والقحة أن يقول "أنا أعتقد بالله"...
مارجريت: إذن فأنت لا تؤمن بالله؟
فاوست: لا تسيئي فهم أقوالي أيتها الحبيبة: أي الناس يقدر أن ينطق باسمه؟ وأيهم يستطيع أن يقول "أنا لا أؤمن به؟ وأي الورى يحسن ويبصر، ويسمع، ويعي، ثم يجرؤ أن يقول "أنا لا أؤمن به"؟ ذلك القابض على كل شيء وممسك كل شيء؟ أليس هو الممسك لي ولك ولنفسه! أما تنظرين إلى السماء كيف رفعت وإلى الأرض كيف سطحت؟... وإلى هذه النجوم الزهر تسبح في السماء، مرسلة ضياءها الأبدي المحبوب؟... فمن هذا كله فاملأي قلبك حتى يطفح... بتلك السعادة، ويستنير بذلك النور. وعندئذ فلتسميه كما تشائين، ولتدعيه بما يحلو لك من الأسماء: السعادة أو القلب أو الحب أو الرب. أما أنا فما له اسم عندي. وكل همي أن أحسه وأستشعره. فالشعور هو كل شيء! وما الاسم إلا صدى لا طائل تحته، أو غمام يستر عن أبصارنا محيا الشمس البديع.
مارجريت: هذا كله حسن وجميل... لكني ما زلت قلقة لأني أرى قدمك في المسيحية غير راسخة.
فاوست: ولم أيتها الطفلة العزيزة!(17)" .

وهي لا تتأثر بحيلولته الغامضة، بل بالصورة الجميلة والثياب الرائعة التي خلعها سحر مفيستوفوليس على شبابه المحدد. وهي تنشد على مغزلها أنشودة ملؤها الحنين الحزين .

"أنا-صبحي ومسائي

في عذاب وبلاء،

واعنائي! وأشقائي!

هل لدائي من دواء؟

كيف لا يشتد خطبي

كيف لا يزداد كربي

كيف لا يحزن قلبي

وحبيب القلب ناء؟

بان صفو العيش عني

قرح التسهيد جفني،

لم يسكن نار حزني

دمع عيني وبكائي.

قد نبا عني الرقاد

وبرى جسمي السهاد

آه! قد طال البعاد

وشفائي في اللقاء.

فمتى يسمح دهري

ويريني وجه بدري

قد أضل الحب فكري

والهوى أعضل داه.

أو ما يدنو الحبيب

فأرى العيش يطيب؟

الهوى أمر عجيب

منه سقمي ودوائي؟

ما أحلاه إذا ما

ثغره أبدى ابتساما!

قد حكى البدر التماما

في سناء وبهاء.

آه لو أشفى بلثمة

منه أو أحظى بضمة!

ثم يقضي الدهر حكمه

بهلاكي وفنائي(18).

وبقية القصة يعرفها الغرب كله، ولو من جونو فقط. فمارجريت تعطي أمها شراباً منوماً لا تفيق منه لكي تقبل حبيبها وتغيب عن الوعي دون رقيب. ويقتل فاوست فالتين أخا مارجريت في مبارزة ثم يختفي؛ أما مارجريت فتقتل طفلها العديم الأب خزياً وحسرة، فيقبض عليها ويحكم عليها بالإعدام. ويزورها فاوست في زنزانتها ويرجوها أن تهرب معه، فتعانقه، ولكنها ترفض مغادرة زنزانتها. ويجذب مفيستوفيليس فاوست بعيداً، بينما يصبح صوت من السماء "كتبت لها النجاة".

ولم يدرك جمهور القراء-إلا ببطء-أن فاوست 1808 هذه أروع دراما وأجمل شعر أنتجتهما ألمانيا إلى ذلك التاريخ. ولكن قلة من أصحاب العقول اليقظة فطنوا للتوالي أنها جديرة بأن تتبوأ مكانها بين شوامخ الأدب العالمي. وشبه فريدريشنشليجل جوته بدانتي، وسوى جان بول رشتر بينه وبين شكسبير، ورفعه فيلاند في دنيا الشعر إلى مقام السيادة الذي ارتفع إليه نابليون في دنيا الحكم والحرب(19).


3- نسطورا عاشقاً

في السنوات 1818-21 دخل جوته في غرامين مثيرين، فضلاً عن صلته ببتينا برنتانوا. ففي 23 أبريل 1807 جاءت بتينا ذات الاثنين وعشرين ربيعاً إلى الشاعر المسن بخطاب تقديم من فيلاند. وكانت حفيدة صوفي فون لاروش التي أحبت فيلاند من قبل، وابنة مكسمليانة برنتانو التي غازلت جوته في شبابها، وقد أحست أن لها دالة الحفيدة على قلب جوته. ولم تلبث بعد أن دخلت حجرته أن ألقت بنفسها بين ذراعيه. وقبلها هو على أنها طفلة، وبعدها كان يراسلها بهذا المعنى، ولكنه طوي رسائله على أحدث قصائده الغزلية، ومع أنها لم تكن موجهة إليها إلا أنها عدتها بوحاً بغرام مشبوب، وأضفت عليها ذلك اللون في كتابتها "رسائل جوته إلى طفلة" الذي نشرته في 1835.

أما ملهمة أكثر هذه القصائد فهي فلهلمينا هرتسليب. وكافت منا، كما دعاها جوته بعد قليل، ابنة كتبي في يينا. وقد عرفها طفلة، ولكنها في عام 1808 كانت في التاسعة عشرة، فتاة خجولاً، رقيقة، مشرقة. وكانت تتلقف كل كلمة يفوه بها، وتتحسر على أن شيخوخته ومكانته الاجتماعية تمنعانها عن عشقه وتملكه. وأدرك هو شعورها، واستجاب له ونظم لها الصونيتات، موريا على اسمها كقلب محب، ولكنه تذكر أنه لم يمض على زواجه من كرستيانة إلا زمن قصير. ويلوح أنه كان يفكر في منا وهو يصور أوتيلييه الخجول الودود، المشدودة الأعصاب، في قصته "الانجذابات العاطفة 1809".

وهذه القصة الممتازة، في رأي مؤلفها(20)، خير قصصه المنثور، فهي أفضل تنظيماً وأكثر تماسكاً في روايتها من أي من تطويفات فلهلم مايستر. وهنا نلاحظ قول جوته لأكرمان (9 فبراير 1819): "ليس في قصة "الانجذابات العاطفة) بأسر هاسطر لم أعشه أنا نفسي حقيقة وفعلاً، ووراء النص معان أكثر كثيراً مما يستطيع أي إنسان استيعابه من قراءة واحدة". والواقع أن عيب الكتاب أن فيه من جوته أكثر مما يجب، ومن التفلسف الجاري على ألسنة لا يتوقع أن يجري عليها قدر أكبر مما ينبغي.

"مثال ذلك أنه يجعل الفتاة أوتيلييه تحتفظ بيومية يودع فيها بعضاً من أنضج التأملات كقوله "لا سبيل إلى الدفاع عن أنفسنا أمام التفوق العظيم في إنسان غيرنا سوى سبيل الحب(21). ولكن احتواء هذا الكتاب على هذا القدر الكثير من جوته هو الذي يجعله دافئاً بالحياة غنياً بالفكر: لأن شارلوته القصة هي أيضاً شارلوته فون شتين. تغري ولكنها تأبى أن تخون زوجها، ولأن الكبتن هو جوته العاشق لزوجة صديقه، ولأن إدورد، الزوج ذا الخمسين المقيم بأوتيلييه هو جوته المفتتن بمنا هرتسليب، ولأن القصة هي محاولة جوته تحليل حساسيته الشبقة.

وقد قصد هنا أن يفكر في الجاذبية الجنسية بلغة كيميائية. ورما اتخذ عنوان كتابه من "الانجذابات العاطفية" الذي نشره الكيميائي السويدي العظيم توربرن أولوف برجمان في 1775. والكبتن يصف لإدورد وشارلوته انجذابات جزئيات المادة وتنافراتها وتجمعاتها فيقول: "ينبغي أن تريا بنفسيكما هذه الجواهر-التي تبدو ميتة جداً وهي مع ذلك زاخرة باللشاط والقوة-تعمل أمام عيونكما، يبحث بعضها عن بعض... ويمسك ويسحق ويلتهم ويدمر بعضها بعضاً. ثم يعود إلى الظهور فجأة... في صور نضرة، مجددة، غير متوقعة."(22) فحين يدعو إدورد صديقه الكبتن، وتدعو شارلوته ابنة أخيها أوتيلييه، للإقامة معهما في زيارات طويلة، يهم الكبتن بشارلوته، وإدورد بأوتيلييه.وحين يتصل إدورد بزوجته جنسياً يفكرفي أوتيلييه، وتفكر شارلوته في الكبتن، في ضرب من الزنا السيكولوجي. ويبدو الوليد عجيب الشبه بأوتيلييه، وتحنو أوتيلييه على الطفل كأنها طفلها. ثم تتركه ليغرق كأنما جاء ذلك مصادفة، ويحملها تأنيب الضمير على أن تضرب عن الطعام حتى الموت. ويموت إدورد حسرة، ويحتفي الكبتن، وتبقى شارلوته على قيد الحياة، ولكنها ميتة روحياً.

ويخلص فيلسوف في المدينة إلى أن "الزواج هو البداية والنهاية لكل ألوان الحضارة. أنه يروض المتوحشين، ويمنح أكثر الناس ثقافة، خير فرصة للرقة ودماثة الخلق. وينبغي أن يكون غير قابل للفسخ لأنه يجلب من السعادة الكثير، ما يجعل متاعبه العارضة لا وزن لها(23)". على أن أحد شخوص القصة يقترح بعد أربع صفحات من هذا القول زواج التجربة الذي لا يتجاوز العقد فيه المرة خمس سنوات.

وفي 1810 نلتقي بجوته في كارلسباد يستشفي بمياهها ويغازل شاباتها، بينما تظل كرستيانة التي مضى على زواجها أربعة أعوام في البيت تغازل الشبان. فقد تتيمت بالشاعر ذي الحادية والستين عاماً يهودياً حسناء سمواء تدعى ماريانه فون إيبنبرج، ثم هرب منها إلى الشقراء سلفي فون تسيجزار. وفي قصيدة وجهها إلى سلفي يدعوها "الابنة الخليلة، الحبيبة، البيضاء النحيقة القوام"(24)، وقد أرسلت إليه كرستيانة نداءات تناشده الوفاء:

"وهل وصلت بتينا وتلك السيدة فون أيبنبرج إلى كارلسباد؟ يقولون هنا أنه من المتفق عليه أن تكون زلفي وآل جوترز هناك أيضاً. فماذا أنت صانع وسط كل معابثاتك؟ ما أكثرها! ولكنك لن تنسى أقدمها عهداً، أليس كذلك؟ فكر فيَّ قليلاً أيضاً، بين الحين والحين. إني أريد الوثوق بك ثقة تامة، مهما قال الناس. لأنك كما تعلم الوحيد الذي يفكر فيَّ إطلاقاً"(25). ويبعث إليها هدايا صغيرة.

وقد وجد وقتاً كل يوم تقريباً لكتابة شيء من الشعر أو النثر. وحوالي عام 1809 بدأ يكتب سيرته الذاتية، وقد سماها "الخيال والحقيقة من حياتي" واعترف العنوان اعترافاً جميلاً بأنه بين الحين والحين، من عمد أو غير عمد، ربما مزج الخيال بالواقع. أما غرامه بشارلوته بوف فقد مسه مساً خفيفاً رقيقاً، ولكنه كان أكثر إفاضة في قص غرامه بفردريكه بريون، وكانت المرأتان لا تزالان على قيد الحياة. ثم حلل في براعة وأريحية الكثير من أصدقاء شبابه-لنتس، وبازدوف، ومرك، وهردر، وياكوبي، ولافاتر. أما عن نفسه فقد تكلم في تواضع، وقد شكا في ملاحظاته الخاصة من أن كاتب السيرة الذاتية يتوقع منه الناس أن يعترف بنقائصه ولا يعلن عن فضائله(26). والكتاب تاريخ فكر أكثر منه تاريخ حياة، والأحداث فيه قليلة والتأملات وفيرة. إنه أعظم كتبه النثرية".

وفي 1811 تلقى من بيتهوفن خطاب إعجاب مع "مقدمو موسيقية لأجمونت". والتقى الشاعر والمؤلف الموسيقي في تبلتز في يوليو 1812، وعزف بيتهوفن لجوته وكان يتمشى معه. وإذا صدقنا الروائي أوجست فرانكل، "كان الناس في المتنزه-أينما ذهبا-يفسحون لهما الطريق باحترام ويحيونهما. وقال جوته وقد غاظته هذه المقاطعات المستمرة: "يا لها من مضايقة! لا أستطيع أبداً تجنب هذا الأمر. "وأجاب بيتهوفن بابتسامة "لا يضايقك هذا يا صاحب السعادة، فلعلي أنا المقصود بالاحترام." وكتب جوته إلى تسلتر (2 سبتمبر 1812): "لقد أذهلتني موهبة بيتهوفن، ولكن شخصيته للأسف لا يمكن السيطرة عليها إطلاقاً. إنه ليس مخطئاً... في اعتباره العالم بغيضاً، ولكن هذا الموقف لا يجعل هذا العالم أكثر إمتاعاً لا له ولا لغيره. وكثير من هذا الموقف يلتمس له العذر فيه بسبب مؤسف هو أنه يفقد قدرته على السمع."(27) أما تعليق بيتهوفن على جوته فكان "ما أشد صبر الرجل العظيم على! وما أعظم الخير الذي أسداه إلى! ولكن "جو البلاط يلائمه أكثر مما ينبغي."(28).

لقد كانت مظاهر البلاط وسلوكه جزءاً من حياة جوته الرسمية، لأنه كان لا يزال يمارس نشاطه في الإدارة. أما حياته البيتية فقد فقدت سحرها. فأوجست ابنه، الذي بلغ الثانية والعشرين في 1812، كان ضعيف المواهب لا أمل في إنقاذه، وكرستيانة باتت بدينة مدمنة للشراب، وكان لها بعض العذر، لأن مغازلته للنساء لم تتوقف. فخلال زياراته لفرانكفورت، كثيرا ما كان يقيم في فيلا يوهان فون فلليمير الواقعة في إحدى الضواحي، وكان يعجب بماريانة زوجة فلليمير. وفي صيف 1812 أنفق أربعة أسابيع تقريباً معهما. وكانت مريانة في الحادية والثلاثين، ولكنها كانت في ريعان جمالها الأنثوي. وكانت تغني أشعار جوته العاطفية وألحان موتسارت غناءً ساحراً، وتنظم الشعر الرفيع، وتتبادل مع جوته سلسلة من القصائد محاكاة لحافظ والفردوسي وغيرهام من شعراء الفرس (وكان حافظ قد ترجم إلى الألمانية في 1812). وفي بعض القصائد شهوانية سافرة وحديث عن الفرح المتبادل في العناق الجسدي، ولكن هذا الترخص قد يكون مجرد انحراف شعري. والتقى ثلاثة مرة أخرى في سبتمبر بهيدلبرج، وكان الشاعر يخرجان معاً في مسيرات طويلة، وكتب جوته اسم مريانة بحروث عربية في التراب حول نافورة القلعة. ولم يلتقيا قط بعد ذلك اليوم، ولكنهما ظلا يتراسلان طوال السبعة عشر عاماً الباقية من حياته. ويبدو أن فلليمير زاد اعتزازاً بزوجته لأنها فتنت رجلاً بهذه الشهرة، ولأنها عارضت شعر جوته بقصائد لا تقل روعة عن قصائده. وضمن جوته أشعارها وأشعاره في "الديوان الشرقي الغربي" الذي نشره في 1819.

وبينما هو ماض في مراسلاته نثراً وشعراً ماتت كرستيانة (6 يونيو 1816). وسجل جوته في يوميته: "كان صراعها مع الموت رهيباً... خواء وصمت قاتل في باطني ومن حولي."(29) وران على هذه السنوات اكتئاب عميق. وحين زارته شارلوته كستنر، حبيبة صباه التي فقدها، والتي كانت الآن زوجة في الرابعة والستين لعضو المجلس الناجح كستنر الهانوفري، في صحبة ابنتها (25 سبتمبر 1816) لم يستشعر أي عاطفة تحتلج بين جوانحه، وكان حديثه كله حديثاً تافهاً مجاملاً. ولكن في 1817، تزوج ابنه أوجست من أوتيلييه فون بوجفيش، بعد أن قطع حياة كلها خلاعة وفسق، ودعاه جوتن ليسكن معه، وأتت أوتيلييه بمرح الشباب إلى البيت، وما لبثت أن أعطت الشاعر المسن أحفاداً أنبضوا قلبه بالحياة من جديد.

وأعانته على ذلك أورليكه فون لفتزوف، وكانت إحدى بنات ثلاث لأماليا فون لفتزوف التي عرفها جوته في كارلسباد. والتقى في أغسطس 1821 بأولريكه في مارينباد، وقد قالت فيما بعد مسترجعة ذكرى هذا اللقاء: "لما كنت قد أقمت سنوات في مدرسة داخلية فرنسية بستراسبورج، وكانت لا أتجاوز السابعة عشرة، فإنني لم أسمع قط بجوته، ولا خطر لي أنه رجل مشهور وشاعر فحل. وعلى ذلك لم أشعر قط بالخجل من السيد العجوز الودود... وفي غد ذلك اليوم ذاته طلب إليَّ أن أتمشى معه... وكان يصحبني معه في نزهته كل صباح تقريباً."(30) وعاد إلى مارينباد في 1822، و "طوال ذلك الصيف أبدى لي جوته غاية الود". وبعد عام التقيا في كارلسباد، وسرعان ما أثار القيل والقال في منتجع المياه المعدنية. وكان الشاعر الآن قد قرر أن حبه أكثر من الحب الأبوي. وألح الدوق كارل أوجست على أولريكة في أن تتزوج جوته، ووعدها إن فعلت بأن يمنع أسرتها في فايمار بيتاً جميلاً، وأن تحصل بعد موت الشاعر على معاش قدره عشرة آلاف طالر في العام(31). وفضت الأم وابنتها. وقفل جوته محزوناً إلى فايمار، وأغرق خيبة أمله في المداد. وعمرت أولريكه حتى أوفت على الخامسة والتسعين.

في ذلك العام، عام 1821 الذي قاد جوته لأولريكه، جاءه في فايمار كارل تسلتر-مدير الموسيقى في يينا-بتلميذ في الثانية عشرة يدعى فيلكس مندلسون. وكان تسلتر قد فتح روح جوته على عالم الموسيقى، بل أنه علمه التأليف الموسيقي. وأذهلت براعة عازف البيان الصغير الشاعر العجوز وأبهجته، فأصر أن يمكث معه أياماً. وقد كتب فيلكس في 6 نوفمبر يقول: في كل صباح يقبلني مؤلف "فاوست" و"فرتر". وفي العصر أعزف له قرابة ساعتين، وبعض العزف فوجات من باخ، وبعضه من ارتجالي. وفي 8 نوفمبر أقام جوته حفل استقبال ليقدم فيلكس إلى مجتمع فايمار الراقي. وفي 10 نوفمبر كتب فيلكس: "في كل عصر يفتح البيان ويقول: لم أسمعك قط اليوم. تعال واسمعني شيئاً من الضوضاء. ثم يجلس إلى جواري ويصغي. لا تتصور كم هو عطوف ودود. "فلما أراد تسلرت أن يرجع فيلكس إلى ينا، أقنعه جوته بأن يترك تلميذه أياماً أخرى. وكتب الصبي السعيد "وعلت الآن أصوات الشكر لجوته من كل ناحية، ولثمت أنا والبنات شفتيه ويديه. وطوقت أوتيلييه دون بوجفيش عنقه بذراعيها، ولما كانت جميلة جداً، وهو يغازلها طوال الوقت، فقد كان الأثر رائعاً"(32). إن في التاريخ لحظات سعيدة تتوارى خلف درامة المأساة. وتحت ملاحظة المؤرخين.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

4- العالم

ولنعد الآن إلى سنوات صباه، حيث بدأ بحثه الذي امتد طوال حياته في العلم، باهتمام يقظ ولذة تلتهم كل شيء. وقليل منا من يعرفون أن جوته كرس للبحث والمؤلفات العلمية وقتاً أكثر مما كرس لكل شعره ونثره مجتمعين(33). وكان قد درس الطب والفيزياء في ليبزج، والكيمياء في ستراسبورج: ثم بدأ دراسة التشريح في 1781، وظل سنوات يضرب في ؟أرجاء ثورنجيا جامعاً للعينات المعدنية والنباتية ويرقب التكوينات الجيولوجية. وكان في أسفاره لا يلحظ الرجال والنساء والفن فحسب، بل الحيوان والنبات والظواهر البصرية والميتورولوجية أيضاً. وقد قام بدور رائد في إنشاء المختبرات في يينا. وكان يشتد فرحه بانتصاراته في العلم أو حزنه بهزائمه فيه، اشتداده بنجاحه أو إخفاقه في الأدب.

وقد استحدث شيئاً من دراسة الطقس. ذلك أنه نظم محطات للرصد الجوي في دوقية ساكسي-فايمار، وأعان على إنشاء محطات أخرى في طول ألمانيا وعرضها(34)، وأعد التعليمات اللازمة لها. وكتب المقالات في "نظرية الطقس" و "أسباب تذبذبات البارومتر" وأقنع الدوق كارل أوجست بأن يشرع في اقتناء المجموعات التي كانت النواة لمتحف علم المعادن في ييتا، وبعد أن درس الطبقات الجيولوجية في إلمينا وذهب إلى أنها تؤيد نظرية أبراهام فرنر التي زعمت أن جميع التكوينات الصخرية على القشرة الأرضية نتيجة لفعل المياه البطيء. (ويجب أن تقرن هذه النظرية "النبتونية" بالنظرية "البركانية" التي تقول بالتغير نتيجة للحركات العنيفة). وكان من أوائل من ألمعوا إلى أن عمر الطبقات قد يقرر من المتحفرات المطمورة فيها، ومن دافعوا عن الرأي القائل بأن الجلاميد الهائلة الموزعة الآن توزيعاً شاذاً في المرتفعات قد قذفتها هناك موجات من الجليد هابطة من المنطقة القطبية الشمالية(35).

وفي 1791-92 نشر جوته في مجلدين "مقالات في البصريات"، وكتب يقول "كان هدفي تجميع كل ما هو معروف في هذا الميدان، والقيام بكل التجارب بنفسي، منوعاً فيها قدر الاستطاعة، ميسراً متابعتها، مراعياً أن تكون في متناول الشخص العادي(36). وقد أجرى خلال السنوات من 1790 إلى 1810 ما لا يحصى من التجارب لتفسير اللون، وما زال متحف جوته بفايمار يحتفظ بالأدوات التي استعملها، وظهرت الحصيلة في 1800 في مجلدين كبيرين يحتويان النصوص، ومجلد للوحات، تحت هذا العنوان "في نظرية اللون". وكان هذا أكبر آثاره عالماً.

وقد درس الألوان باعتبارها ناشئة لا عن التركيب الكيميائي للأشياء فحسب، بل عن تكوين العين وعملها، وحلل تكيف الشبكية للظلام والنور، وفسيولوجية العمى اللوني، وظواهر أطياف اللون والصور التلوية، وآثار تناقضات الألوان وتجمعاتها في الإحساس وفي التصوير. وحسب اللون الأخضر-خطأ-مزيجاً من الأصفر والأزرق. (وهما يمتزجان هكذا حقاً على لوحة ألوان الرسام، ولكن حين يتحد الأزرق والأصفر في الطيف ينتج عنهما الرمادي والأبيض). وقد أعاد إجراء الكثير من التجارب التي ورد وصفها في "بصريات" نيوتن (1704)، فوجد في عدة حالات نتائج تختلف عما ذكر في ذلك الكتاب، وخلص إلى اتهام نيوتن بعدم الكفاية وبالغش أحياناً(37). وقد عارض رأي نيوتن في أن اللون الأبيض تأليف من عدة ألوان، وذهب إلى أن اتحاد الألوان ينتج عنه بانتظام اللون الرمادي لا الأبيض. ولكن نتائجه لم يقبلها لا معاصروه ولا من أتوا بعده في ميدان البصريات. فقد أثنوا على تجاربه ورفضوا الكثير من نظرياته. وفي 1815 أرسل إليه آرثر شوبنهاور مقالاً دافع فيه كفاية عن فكرة نيوتن في أن الأبيض تأليف من عدة ألوان-وكان شوبنهاور يعجب بجوته شاعرا وفيلسوفاً؛ ولم يغتفر له الشيخ فعلته قط. وزاد الرفض العام لنظريته في الألوان سنيه الأخيرة قتاماً.

وكان طبيعياً لرجل كجوته، حساس إلى هذا الحد أن يستهويه عالم النبات. فحين زاروا بادوا في أبهجته الحدائق النباتية، ففيها وجد مجموعة أغني وأكثر تنوعاً من كل ما رأي في حياته. وشاهد مدى اختلاف نباتات الجنوب عن نباتات الشمال، فصمم على دراسة تأثير البيئة على شكل النبات ونموه. كذلك لم يشعر قط بمثل هذا الشعور العميق بقدرة الطبيعة الملغزة العارمة على تطوير كل نوع-بما تفرد به من حيث التركيب والنسيج واللون والخط-من بزور تبدو بسيطة متشابهة. فيا لها من خصوبة، ويا لها من قدرة على الابتكار! ولكن أهناك بعض عناصر مشتركة في كل تنوع الأفراد، وفي كل تطور الأعضاء والأجزاء؟ وخطر له أن هذه الأجناس والأنواع والأشكال هي تحورات من نموذج أصل أساسي، وأن هذه النباتات كلها، مثلاً، شكلت على غرار نموذج أساسي أصيل-حتى وإن كان متخيلاً-أو نبات أول، هو أم النبات جميعاً. وكتب إلى هردر يقول "إن هذا القانون ذاته يمكن تطبيقه على كل حي" أي على الحيوانات كما يطبق على النباتات، فالحيوانات هي أيضاً تحورات من أصل بنائي واحد(38). وكما أن الكائن الحي الفرد، بكل تفرده، هو محاكاة لنمط أول، كذلك قد تكون أجراء الكائن تحورات لشكل أساسي واحد. ولاحظ جوته في بادوا تخيله (بلميطة) كانت أوراقها في مراحل مختلفة من التطور؛ فدرس مراحل الانتقال المرئية من أبسط ورقة إلى مروحة السعف الكاملة الرائعة؛ وتصور فكرة مؤداها أن جميع تركيبات النبات-باستثناء المحور أو الساق-هي تحورات ومراحل للورقة .

وبعد عردة جوته إلى فايمار نشر نظريته في كتيب من ست وثمانين صفحة عنوانه "محاولة قام بها س. ف. جوته عضو المجلس الخاص لدوقية ساكسي-فايمار، لتفسير تطور النباتات" (1790).

وضحك علماء النبات من الكتيب وقالوا إنه أحلام شاعر، ونصحوا الشاعر بأن يلزم حرفته.(39) فلم يكذبهم، وصاغ آراءه من جديد، في قصيدة سماها "تحور النباتات" وتجمعت الأدلة والمؤيدون للنظرية شيئاً فشيئاً.

وفي 1830 قدم إتيان جوفروا سانتللير مقال جوته لأكاديمية العلوم الفرنسية، وأشاد به أثراً من آثار البحث الدقيق والخيال الخلاق يؤيده تقدم على النبات(40).

وألمع جوته (1790) في محالوة لتطبيق نظريته على التشريح إلى أن الجمجمة ليست تحور وتتمة للفقرات، تحتوي المخ كما يحتوي العمود الفقري على الحبل الشوكي، وليس هناك اليوم اتفاق على هذه الفكرة. ولكن إنجازاً ذكياً أكيداً يرجع الفضل فيه إلى جوته في التشريح-وهو إئباته وجود العظمة البينفكية في الإنسان (وهي العظمة التي تتوسط عظمتي الفك العلوي والتي تحمل القواطع العلوية). وكان علماء التشريح قد تبينوا وجود هذه العظمة في الحيوان، ولكنهم ارتابوا في وجودها في الإنسان، وكان لاكتشاف جوته الفضل في تضييق الخلاف البنياني بين الإنسان والقرد.

استمع إلى الشاعر يعلن نجاحه في خطاب من ييتا إلى شارلوته فون شتين مؤرخ 27 مارس 1784-العاشق والعالم ممتزجين معاً: "سطور إلى حبيبتي لوته، أقرئها تحية الصباح... لقد منحت شعوراً بالرضى يبهجني. ذلك أنني اهتديت إلى كشف تشريحي جميل وهام في وقت معاً. وسيكون لك نصيبك فيه، ولكن لا تبسني بكلمة عنه".(41) وأذاع كشفه في مقال خطي أرسله إلى مختلف العلماء في 1784 بعنوان "محاولة قائمة على علم العظام المقارن، لإثبات أن العظمة البينفكية في الفك الأعلى يشترك فيها الإنسان والحيوانات العليا" وكانت هذه "أول رسالة كتبت من قبل يمكن أن توصف بحق أنها تدخل في باب التشريح المقارن، وهي إذن معلم في تاريخ هذا العلم"(42) (وقد نشر المسرح الفرنسي فيلكس فيك دازير هذا الكشف ذاته في السنة نفسها 1784).

كتب جوته في رسالته: "إن الإنسان شديد الشبه بالحيوان الأعجم... فكل مخلوق إنما هو نغمة أو تحوير في تآلف ألحان عظيم"(43) وقد ذهب كثيرون من العلماء والفلاسفة الذين سبقوه إلى أن الإنسان جزء من مملكة الحيوان ونظم قصيدة سماها "تطور الحيوانات" ولكنه لم يكن من دعاة التطور بالمعنى الدارويني. فقد افترض ثبات الأنواع إتباعا لمذهب نينايوس، وهكذا لم يكن "النبات الأول" الذي قال بعه نباتاً بدائياً فعلياً تطورت منه جميع النباتات، إنما كان مجرد نمط عام كانت كل النباتات تحويرات له. ولم يكن رأيه كرأي معاصريه لا مارك وإرازمس دارون في أن الأنواع متطورة من أنواع أخرى بالانتخاب البيئي لأشكال واحدة. فهل كان جوته عالماً حقيقياً. ليس بالمعنى الاحترافي. لقد كان هاوياً غيوراً مستنيراً، وعالماً بين القصائد والروايات والغراميات والتجارب الفنية والواجبات الإدارية.

وقد استخدم أجهزة كثيرة وجمع مكتبة علمية كبيرة، ولاحظ ملاحظات مفيدة وتجارب دقيقة وشهد هلمهولتز بالدقة الواقعية للعمليات والتجارب الموضوعية التي وصفا جوته(44). وقد نجب التفسيرات الغائية. ولكن العلماء المحترفين لم يقبلوه عالماً، لأنهم نظروا إليه هارياً يعتمد على الحدس والفرص بثقة مفرطة. وكان ينتقل بسرعة أكثر مما ينبغي من موضوع أو تحقيق آخر لامسا كلاً منهما نقطة خاصة، دون أن يبلغ في أي منها مسحاً للميدان في إلا في البصريات ونظرية اللون. ولكن كان هناك شيء مثالي وبطولي في إصراره المتشعب المتعدد الأشكال. وقال إكرمان في 1825: "سيبلغ جوته عامه الثمانين بعد بضع سنوات، ولكنه لم يكل الأبحاث والتجارب، فهو لا يفتأ جاداً في أثر تأليف كبير(45). وربما كان الشاعر محقاً في رأيه أن الهدف الأكبر للعالم ينبغي ألا يكون إمداد الرغبات القديمة بأدوات جديدة، بل توسيع الحكمة بالمعرفة في سبيل إثارة الرغبة.


5- الفيلسوف

كان في الفلسفة، كما كان في العلم، عاشقاً لا أستاذاً محترفاً-مع أنه صاحب الفضل في تعيين فشته وشيلنج وهيجل في كراسي الفلسفة بيينا. وكان قليل الاهتمام جداً بجدليات المذاهب الفلسفية، ولكنه كان معنياً أشد العناية بتفسير الطبيعة ومعنى الحياة. وكلم تقدم به العمر بات بفضل العلم والشعر حكيماً، وقد وجد الإنارة عن "الكل" من كل شيء، وكل لحظة، وكل جزء: "كل عابر ليس إلا رمزاً"(46) و "الأقوال المأثورة العارضة" التي خلفها عند موته دون أن تطبع، تنضج بالحكمة في كل صفحة.

ولم يقدم أي نسق منطقي، ولكنه ألمع، براجماتباً إلى "أنه لا حقيقي إلا ما هو مثمر"(47) وإلى أنه "في البدء كان الفعل (لا الكلمة)"(48) فنحن نجد الحقيقة في الفعل أكثر مما نجدها في الفكر، وينبغي أن يكون الفكر أداة للعمل، لا بديلاً عنه. ولم يولع بكانط كما أولع به شيلر، فقد اعترف بأن الطبيعة النهائية للحقيقة تتجاوز علمنا، ولم يكن يشعر أن هذا يلزمه بسنيه العقيدة، بل على العكس أوصي بتجاهل ما لا يمكن معرفته، "إن ما لا سبيل إلى سير أغواره ليست له قيمة عملية"، والعالم المحسوس كاف لحياتنا(49) ولم تساوره أي ريب أو مخاوف معرفية حول الاعتراف بوجود عالم خارجي. كتب لشيلر بعد أن قرأ كانط وشيلنج يقول "إني أسلم مختاراً بأن ما ندركه حسياً ليس الطبيعة (في ذاتها)، بل إن الطبيعة تفهم طبقاً لصور وملكات معينة لفكرنا.... ولكن توافق طبائعنا العضوية مع العالم الخارجي... (يدل على) تصميم من الخارج، وعلاقة نحو الأشياء"(50) "وكثيرون يقاومون الاعتراف بالحقيقة، لا شيء إلا أنهم لو قبلوه لانهاروا"(51).

ولكن جوته رفض المادية رفضه للمثالية الذاتية. وقال أن "مذهب الطبيعة" الذي قال به دولباخ "بدا لنا [ نحن الطلاب في ستراسبورج ] شديد القتام... رهيباً كالموت، حتى لقد وجدنا في إطاقة وجود عناء ونكداً، وكنا نرتعد فرقاً منه كأنه عفريت".(52) كان هذا في شبابه، ولكنه أحس به أيضاً في شيخوخته وهو يكتب إلى كنيبل في 8 أبريل 1812:

"إن الرجل الذي لا يدرك هذه الحقيقة. ولا يسمو إلى هذه الرؤية، وهي أن الروح والمادة، للنفس والجسد، الفكر والامتداد،... إنما هما مقوما الكون التوأمان الضروريان، وسيظلان كذلك أبد الدهر، وإن لهذين الاثنين حقوقاً متساوية، ومن ثم يمكن اعتبارهما في وجودهما معاً ممثلين لله؛ أقول أن رجلاً لا يدرك هذا خير له أن ينفق عمره في ثرثرة أهل الدنيا ولغوهم الفارغ. وهذا بالطبعة هو سبينوزا، وجوته يتبع سبينوزا إلى الحتمية-"نحن ننتمي إلى قوانين الطبيعة، حتى أن تمردنا عليها(53)، ولكنه أحياناً يميل إلى الاتفاق مع كانط على أن "حياتنا، مثلها مثل الكون الذي ننتمي إليه، تتألف على نحو ملغر من الحرية والضرورة."(54) وكان يشعر بقوة قضاء وقدر تعمل فيه-صفات تفرض نمره وتقرره، ولكنه يتعاون معها، كما يتعاون عامل حر يخدم قضية تحركه وتحتويه.

أما دينه فتجميد للطبيعة، ورغبة في التعاون مع قواها الخلاقة-قدرتها الإنتاجية المتعددة الأشكال ومثابرتها العنيدة؛ على أنه استغرق زمناً طويلاً ليكتسب صبرها. وقد شخص "الطبيعة" على نحو مبهم، فرأى فيها فكراً وإرادة، ولكنه فكر يختلف تماماً عن فكرنا، وإرادة محايدة في غير اكتراث كأنها تحايد بين ناس وبراغيث. فليس للطبيعة مشاعر أخلاقية بالمعنى الذي نقصده من التزام الجزء بالتعاون مع الكل، لأنها "هي" الكل. وفي قصيدته "الإلهي" (1782) وصف جوته الطبيعة بأنها بغير شعور ولا رحمة. فهي تدمر كما تعمر بإسراف. "كل مثلكم العليا لن تمنعني (جوته) من أن أكون أصيلاً، صالحاً وطالحاً، كالطبيعة"(55)، ومبدؤها الأخلاقي الوحيد هو: عش واجعل غيرك يعيش. وقد سلم جوته بحاجة كثير من النفوس إلى سند فوق طبيعي، ولكنه لم يشعر بمثل هذه الحاجة إلا في أخريات عمره. ""من عنده الفن أو العلم فهو يملك (ما يكفي من) الدين؛ أما من ليس عنده فن أو علم فهو في حاجة إلى الدين"(56). إنني بصفتي شاعراً وفناناً أشعر بتعدد الآلهة (فأشخص قوى الطبيعة المنفصلة)، أما في دوري عالماً فأنا أميل إلى الحلولية (أي أرى إلهاً واحداً في كل شيء)(57).

وإذا كان "وثنياً ثابتاً عامداً" في الدين والأخلاق، فقد خلا من الإحساس بالخطيئة، ولم يشعر بحاجة إلى أنه يموت كفارة عنه،(58) وأنكر كل حديثعن الصليب. وقد كتب إلى لافاتر في 9 أغسطس 1782 يقول "يقول لست عدواً للمسيحية، ولا مضاداً لروح المسيحية، ولكني قطعاً لا-مسيحي... أنك تقبل الإنجيل، كما هو، على أنه حقيقة إلهية. حسناً، ما من صوت مسموع من السماء يمكن أن يقنعني بأن امرأة يمكن أن تحبل بطفل دون رجل، وأن رجلاً ميتاً يقوم من قبره. وأنا أعد هذه كلها تجديفات على الله وعلى إعلانه ذاته في الطبيعة"(59). وضيق عليه لافاتر الخناق (كما يروي لنا جوته) و "أخيراً سألني السؤال العسير" إنا مسيحي وأما ملحداً "فصارحته بأنه إن لم يترك لي مسيحيتي كما اعتززت بها إلى ذلك الحين، ففي استطاعتي أن أنحاز دون تردد إلى صف الإلحاد، خصوصاً وأنني أرى أنه ما من إنسان يعرف على التحديد المعنى المقصود من كل من هذين اللفظين"(60). وقد ذهب جوته إلى أن "الدين المسيحي ثورة سياسية جهيضة انقلبت أخلاقية"(61) وفي الأدب "مئات الصفحات التي فيها من الجمال والفائدة، مثل ما في الأناجيل(62)، ومع ذلك أعد الأناجيل الأربعة كلها حقيقية لا غبار على صحتها، ففيها يتجلى البهاء المنعكس للقوة السامية التي انبثقت من شخص المسيح وطبيعته، الذي كان إلهياً ما ظهرت الألوهية في الأرض... وأنا أنحني أمامه بوصفه المظهر الإلهي لأسمى مبدأ للفضيلة"(63). ولكنه اعتزم أن يعبد الشمس كما يعبد المسيح، باعتبارها مظهراً عادلاً من مظاهر القوة الإلهية(64). وقد أعجب بلوثر، وامتدح حركة الإصلاح البروتستنتي لتخطيها أغلال التقاليد، ولكنه أسف على انتكاسها إلى العقائدية المتزمتة(65). وخامره شعوره بأن البروتستنتية ستعاني من افتقارها إلى المراسم الملهمة المكونة للعادات، ورأى أن الكاثوليكية حكيمة سمحة في رمزها للعلاقات والتطورات الروحية بالأسرار المقدسة البالغة الوقع في النفوس(66).

أما آراء جوته في الخلود فقد تغيرت مع السنين. ففي 2 فبراير 1789 كتب إلى فريدريش تسو شتولبرج يقول. "أما أنا فأتمسك بوجه عام بتعاليم لوكريتيوس، وأقصر نفسي وكل آمالي على هذه الحياة". ولكنه في 25 فبراير 1824 قال لأكرمان "لا أريد إطلاقاً أن أستغني عن سعادة الإيمان بحياة مستقبلة؛ والحق أني أقول مع لورنتسو دي مديتشي أن الذين لا رجاء لهم في حياة أخرى هم موتى حتى في هذه الحياة"؛ وفي 4 فبراير 1825، "إني راسخ الاقتناع بأن روحنا شيء لا يقبل الفناء إطلاقاً"(67). وقرأ زفيد نبورج، وقبل فكرة عالم الروح(68)، وداعب آمال تقميص الأرواح. ودرس القبلانية وبيكوديللا ميراندولا، بل رسم البروج أحياناً لكشف الطالع(69). وكلما تقدم به العمر ازداد تسليمه بما للإيمان من حقوق.

"إذا توخيت الدقة في التعبير، قلت إنه لا يمكنني أن أصل إلى معرفة لله إلا المعرفة التي أستقيها من الرؤية المحددة المتاحة لمدركاتي الحسية على هذا الكوكب المفرد. ومعرفة كهذه إنما شظية من شظية. ولست أسلم أن هذه المحدودية، التي تصدق على ملاحظتنا للطبيعة، يجب أن تصدق في ممارسة الإيمان. فالعكس هو الصحيح. ولعل معرفتنا، وهي ناقصة بالضرورة، تتطلب الإضافة والاستكمال بفعل من أفعال الإيمان"(70).

وفي 1820 أسف على تأليفه "برومثيوس" المتمرد أيام شبابه، لأن شباب المتطرفين يومئذ كانوا يستشهدون به ضده(71). وقد انصرف عن فشته حين اتهم فشته بالإلحاد(72). وكان رأيه الآن "أنه من واجبنا ألا نخبر غيرنا بأكثر مما في قدرتهم تلقيه. فالإنسان لا يفهم إلا ما يناسبه"(73).

وكما تغيرت آراؤه في الدين، كذلك تغير مفهومه للأخلاق مع تقدم عمره. فحين كان يظفر بنشاط الشباب وكبريائه فسر الحياة بأنها ليست سوى مسرح لتنمية الذات والظهور. "إن هذه الرغبة الملحة في أن أرفع ما استطعت هرم حياتي الذي أعطيته وأرسيت قاعدته لي، ترجح كل ما عداها، ولا تكاد تسمح بلحظة انتكاس"(74). وقد رأيناه يجرح نفوساً رقيقة في هذه العملية. ولكنه حين نضج بفضل المنصب السياسي أدرك أن الحياة البشرية عملية تعاونية؛ وأن الفرد إنما يحيا بالمساعدة المتبادلة؛ وأن الأفعال الأنانية-وأن ظلت القوة الأساسية-إلا أنه لا بد من أن تحد بحاجات الجماعة. ففاوست في قسمها الأول هي النزعة الفردية متجسدة؛ وفي قسمها الثاني يجد "الخلاص" وسلامة الروح، بالعمل للصالح العام. وفلهلم مايستر في "تلمذته" يحاول تعليم ذاته وإنماءها وإن كان بحكم طبيعته وتدريه كثيراً ما يعين إخوانه؛ وفي "تطويفاته" يحاول تحقيق المزيد من سعادة المجتمع. وقد غض جوته من الوصية بمحبة الأعداء، ولكن عرف النبل بنبل في قصيدة من أروع قصائده:

"ليكن الإنسان نبيلاً

معيناً وطيباً

فذلك وحده

هو الذي يميزه

عن سائر الكائنات

التي نعرفها...

إن الطبيعة

مجردة من العواطف

تشرق شمسها

على الأشرار والأبرار،

ويضيء القمر والنجوم

على الصالحين والصالحين.

والرياح والسيول،

والرعد والبرد،

تهدر في طريقها،

تنتزع وتكتسح أمامها

واحداً بعد واحد...

ولا مناص لنا كلنا بحكم القوانين

العظمى، الأبدية الصارمة،

من أن نكمل دورة وجودنا.

ولكن الإنسان وحده

يستطيع المحال،

فهو يميز،

ويختار، ويحكم؛

ويستطيع أن يطيل مكث

اللحظة العابرة.

هو وحده القادر على

أن يثيب الخير،

ويعاقب الشر،

ويشفي وينقذ،

ويصدق النصح

للخطاة والضالين

فليكن الإنسان النبيل

معيناً وطيباً.

ولكي يكون الإنسان نبيلاً عليه أن يحذر المؤثرات المفسدة، و "الكل مؤثر إلا ذواتنا"(75). "دعك من دراسة المعاصرين والذين يحاربونك؛ بل أدرس عظماء الماضي الذين احتفظت آثارهم بقيمتها ومكانتها وقروناً. فالرجل الموهوب حقاً ينحو هذا النحو بحكم طبيعته، والرغبة في التنقيب في أعمال الأسلاف العظام علامة صادقة على الموهبة السامية"،(76) وعليك باحترام المكتبات وإجلالها لأنها التراث الذي خلفه هؤلاء الرجال. "إن المرء حين يتأمل مكتبة ما يشعر كأنه في حضرة رأس مال هائل يأتي في صمت بفائدة لا تقدر"(77). ولكن الفكر يغير الخلق أكثر كثيراً من الخلق بغير الفكر، "فكل ما يحرر العقل دون أن يمنحنا السيطرة على أنفسنا مؤذ"(78). خطط لحياتك، ولكن حاول الموازنة بن الفكر والعمل؛ فالفكر بغير العمل مرض. "فلأن تعرف حرفة وتمارسها يزودك بثقافة أكثر مائة مرة من نصف المعرفة"(79). "وما من بركة تعدل بركات العمل"(80) وفوق كل شيء كن "كلاً" أو انضم إلى كل "أن النوع الإنساني وحده هو الإنسان الحق، ولا يستطيع الفرد أن يفرح ويسعد إلا إذا امتلك شجاعة الشعور بنفسه في الكل"(81).

وهكذا نرى الفني الذي ورث أسباب الرغد والأمن، والذي أضحك طلاب ستراسبورج على لباسه المترف الغريب، فلم تعد بفضل الفلاسفة والقديسين وتجارب الحياة أن يفكر في الفقراء بعطف، وأن يتمنى لو تقاسم المحظوظون من الناس ثرواتهم مع الفقراء بسخاء أكثر. وينبغي أن تفرض الضرائب على النبلاء بنسبة دخولهم، وأن يتيحوا لأتباعهم الإفادة من "المنافع التي تهيئها المعرفة والرجاء المتزايدين"(82) وقد أحس جوته بما يحس به البورجوازيين من حسد لأصحاب النبالة بالميلاد حتى بعد أن أطبق صيته آفاق أوربا. "في ألمانيا لا تتاح فرصة الحصول على... ثقافة شخصية مكتملة الجوانب للنبلاء"(83). وكان يراعي جميع فروض الاحترام المألوف في سلوكه مع رؤسائه. وكل الناس يعرفون ما وقع لجوته وبيتهوفن في تبلتز، في يوليو 1812؛ ولكن المصدر الوحيد لهذه القصة هو بتينا برنتانوفون آرنيم، غير الموثوق بروايتها، التي ادعت أنها تنقل عن رواية بيتهوفن:

"يستطيع الملوك والأمراء حقاً أن يخلعوا الألقاب والأوسمة، ولكنهم لا يستطيعون أن يصنعوا عظماء الرجال الذين يجب إذن النظر إليهم بإجلال. وحين يجتمع اثنان مثل جوته ومثلي، فلا بد لهؤلاء السادة من ذوي الحسب والنسب أن يفقهوا معنى العظمة عند أمثالنا. فبالأمس التقينا بالأسرة الإمبراطورية (النمساوية) كلها، وخلص جوته ذراعه من ذراعي ليقف جانباً. أما أنا فكسبت قبعتي على رأسي واخترقت الجمع في أكثف نقطة وذراعاي تتدليان على جانبي. واصطف الأمراء وأفراد الحاشية في صفين؛ ورفع دوق فايمار قبعته لي، وحيتني الإمبراطورة أولاً. وقد أضحكني أن أرى الموكب يمر أيام جوته الذي وقف على جنب وقبعته في يده. وقد عنفته بعدها بقسوة على ما أتاه(84).

وسيختلف انفعالنا بهذه القصة باختلاف عمرنا. فلقد شعر جوته بأن الأرستقراطية العاملة بنشاط وبروح خدمة الجماعة تهيئ خير الحكومات الممكنة آنئذ في أوربا، وتستحق الاحترام الواجب للنظام والضبط الاجتماعيين. وينبغي إصلاح المفاسد، ولكن في غير عنف أو اندفاع؛ فالثورات تكلف أكثر مما تساوي، وتنتهي عادة إلى حيث بدأت. ومن يقول مفستوفيليس لفاوست: "وأسفاه! إليك عني! كف عن الثرثرة حول ذلك الشجار بين الطغيان والرق! إنه يضايقني. فما إن ينته حتى يبدأ من جديد مع المهزلة كلها"(85).

ومن ثم يقول جوته لأكرمان في سنة في سنة 1824: "صحيح أنني لم أكن صديقاً للثورة الفرنسية. فلقد كانت أهوالها عاجلة جداً... على حين لم تكن آثارها النافعة منظورة بعد... ولكنني بالمثل لم أكن متعاطفاً مع الحكم التعسفي الذي سبقها. وكنت حتى في ذلك الوقت مقتنعاً بأنه ما من ثورة هي غلطة الشعب. بل هي دائماً غلطة الحكومة"(86). وقد رحب بنابليون نعمة على النظام في فرنسا وأوربا بعد عقد حفل بالاضطرابات. وكان يتشكك في الديمقراطية لأنه "ما من شيء أسوأ من الجهل النشيط"(87)، و "محال أن نتصور أن الحكمة يمكن أن تكون في يوم من الأيام صفة شعبية"(88).

ثم سخر من تذبذب السلطان بين الأحزاب. "أن الناس يتقلبون في السياسة كما يتقلبون على فراش المرض من جنب إلى جنب أملاً في مزيد من الراحة في رقادهم"(89). وقد عارض حرية النشر بحجة أنها تعرض المجتمع والحكومة للإزعاج المستمر على يد كتاب يعوزهم النضج والشعور بالمسئولية. وبدت له الصرخة المطالبة بالحرية، في أواخر عمره، مجرد جوع المحرومين من المناصب للسلطان والمغانم. "إن الهدف الأوحد هو نقل القوة والنفوذ والثراء من يد إلى اليد التالية. وما الحرية إلا كلمة السر التي يهمس بها المتآمرون المتسترون، وصيحة المعركة الصاخبة يصيح بها الثوار السافرون، لا بل شعار الاستبدادية ذاتها وهي تسوف جماهيرها الخاضعة على العدو واعدة إياها بالخلاص من الطغيان الخارجي إلى الأبد"(90).

لقد وفى جوته كل الوفاء بواجب الكبار، بقيامه بوظيفة الكابح لطاقة الصغار.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

6- فاوست (الجزء الثاني)

ولقد سكب فلسفته التي تقدم بها العمر في الجزء الثاني من فاوست. ففي خاتمة الجزء الأول كان قد ترك "نفسه الثانية"، محطمة يائسة، في قبضة مفستوفيليس- الشهوة تعاقب على إفراطها. ولكن، أكان ممكناً أن يكون هذا كل شيء، وأن يكون جماع الحكمة؟ إن فاوست لم يكن قد خسر رهانه كل الخسران، فالشيطان لم يعثر له بعد على أية متعة تهدئ نضاله وتملأ حياته. فهل ثمة أشباع كالذي يتوق إليه في أي مكان؟ لقد كافح جوته طوال أربعة وعشرين عاماً ليجد للقصة تتمة وقمة تحويان أو ترمزان إلى النتائج التي خلص إلى تفكيره، وتسبغان على بطله خاتمة نبيلة ملهمة.

وأخيراً، وحين بلغ الثامنة والسبعين، تصدى للمهمة. ففي 24 مايو 1827 كتب إلى تسلتر الذي شاخ هو وكان مزمعاً أن يموت معه: "أود أن أعترف لك في هدوء... بأنني عاودت العكوف على فاوست. فلا تختر بذلك أحداً". وكانت خاتمة بايرون المشرة في حرب اليونان التحريرية قد حركت مشاعر جوته؛ فالآن يستطيع أن يجعل بايرون، في شخص "يوفوريون" (ومعناه السعادة)، بن فاوست وهيلانة يمثل شفاء العقل العصري، الممزق الحائر، بفضل اتحاده مع جمال اليونان القديمة الهادئ. ومن ثم راح يكد ويكدح في ساعات الصباح، فلا يبلغ من ذلك غير صفحة واحدة على أحسن تقديره، حتى أفضى لأكرمان في أغسطس 1831، قبل موته بسبعة شهور، بأن المهمة المضنية قد تمت- بعد أن انقضت تسع وخمسون سنة على تصوره إياها أول مرة. وكان قد كتب يقول "أسعد الناس من استطاع وصل نهاية حياته ببدايتها"(91). وقال الآن "أياً كان مقدار ما بقي لي من الحياة ففي وسعي أن أعده منذ الآن منحة، ولست في الحق أبالي إن كنت سأنجز فوق ما أنجزت أم لا"(92).

ولا يستطيع المرء أن يسترسل اليوم في قراءة كل الجزء الثاني من فاوست إلا في ثقة واطمئنان أعوام ثمانين. فابتداء من المنظر الافتتاحي الذي يصف فيه فاوست، بعد استيقاظه بين حقول الربيع، شروق الشمس ببلاغة لم تبل جدتها، تقف حركة القصة المرة بعد المرة للتغزل في الجمال الطبيعة أو التغني بعظمتها أو رهبتها؛ وقد أجاد المؤلف الوصف، ولكنه أسرف فيه؛ فجوته المبشر بالانضباط الكلاسيكي يأثم هنا ضد شعار "القصد في القول". ذلك أنه صب في الدراما كل شيء تقريباً تراكم بغير نظام في ذاكرته الجياشة: الميثولوجيات اليونانية والألمانية، ووليدا والبجعة، وهيلانة وركبها، والساحرات، والفرسان، والجنيات، والأقزام الحيوانات الخرافية، والأقزام البشرية، وحوريات الغاب، والسيرانات، ومقالات الجيولوجية "النبتونية"، والخطب الطويلة يلقيها الرسل، وألفيات بائعات الزهر، وحوريات الحدائق، والحطابون،- والمهرجون القصار السمان، والسكارى، وأتباع الفرسان، ووكلاء الإقطاعيين، والنظار، ثم سائق مركبة حربية وأبو هول، ومنجم وإمبراطور، وآلهة الحقول وفلاسفة، وكراكي أبيكوس، و "رجل قصير" (قزم) صنعه فجنر تلميذ فاوست كيميائياً. والخليط أشد تحيراً وإرباكاً من الدغل المداري، لأنه يضيف العنصر فوق الطبيعي إلى الطبيعي، ويسبغ على كل شيء موهبة الخطابة أو الغناء.

وما أعظم الراحة التي نستشعرها حين نظهر هيلانة في الفصل الثالث، وهي ما تزال على نحو معجز إلاهة بين النساء، تغزو قلوب الرجال برشاقة حركتها أو بلحظ عينيها. وتتخذ القصة قوة جديدة، ويرتفع الكورس إلى نبرة سوفوكلية، حين تسمع هيلانة أن منيلاوس رغبة في عقاب "الجمال الوقح المتغطرس" أمر بأن تسلم هي ووصيفاتها إلى شهوات قبيل "بربري" يغوة بلاد اليونان من الشمال. أما زعيمهم ففاوست نفسه، الذي انقلب بحيلة مفستوفيلية فارساًمن فرسان العصور الوسطى، مليح القد والصورة واللباس.

ويبلغ جوته ذروة فنه الدرامي حين يصف لقاء هيلانة وفاوست- اليونان القديمة تواجه ألمانيا الوسيطة. فليتحد الإثنان! تلك هي الفكرة الرئيسية في القصة. ويفتتن فاوست ككل الرجال فيلقي عند قدمها بكل ما وهبه السحر والحرب من مال وقوة. وتستسلم هي لتوسلاته، فهذا المصير على أي حال لم يكن شراً من الموت. ولكن منيلاوس يقترب مع جيشه فيقطع عليهما نعيمهما. وفي لمح البصر ينقلب فاوست من الغرام إلى الحرب، ويستنفر رجاله ويقودهم إلى غزو اسبرطة (وهذه ذكرى "الفرنجة" يغزون المورة في القرن الثالث عشر).

ثم يتغير المشهد، فقد مرت السنون سراعاً، وإذا يوفوريون شاب سعيد يشرح صدر فاوست وهيلانة بـ "العناق والمزاح اللعوب والنداءات المرحة"(93). قافزاً في استهتار من جرف إلى جرف، وأبواه يحذرانه في رفق، راقصاً في عنف مع الحوريات اللائي افتتن بحسنه (بايرون في إيطاليا)، ويمسك بواحدة منهن في جذل، فإذا هي تنفجر مشتعلة بين ذراعيه. وحين يسمع في ترحيب ناقوس الحرب يدق، يندفع خارجاً، فيهوى من منحدر قائم، ويدعو أمه وهو يموت لتلحق به في العالم السفلي.

"هيلانة (لفاوست) ويلاه! إن حكمة قديمة يتحقق في صدقها- فزفاف المال إلى الجمال لا يدوم أبداً. إن رباط الحياة يتمزق كما يتمزق رباط الحب، فوداعا لهما جميعاً وأنا أبكيهما في عذابي، وعلى صدرك أرتمي مرة أخرى، فتلقيني يا برسيفوني أنا وولدي. (تعانق فاوست؛ ويتلاشى جسمها وتبقى الثياب والنقاب بين ذراعيه)".

وهكذا يختتم الفصل الثالث، وهو أجمل فصول هذا الجزء الثاني من فاوست. وهو الجزء الذي بدأ جوته بكتابته، وسماه "هيلانة"، وظل حيناً يفكر فيه على أنه كل كامل قائم بذاته؛ ولو تركه كذلك لكان خيراً له. فهنا ارتفع جوته لآخر مرة إلى قمة شعره بجهد بطولي لاستنهاض ما بقي له من قوى، مازجاً الدراما بالموسيقى كما جرى اليونان على عهد بركليس، نافخاً الحياة والحرارة في شخوص قصة رمزية معقدة لشفاء العقل العصري.

ومن ذلك العلو الشاهق ينزلق الجزء الثاني من فاوست إلى حرب بين إمبراطور وغريم ينافسه على العرش الروماني المقدس. ويحقق فاوست ومفستوفليس بحيلهما السحرية النصر في الحرب للإمبراطور؛ ويطلب فاوست وينال جزاء له مساحات كبيرة من ساحل الإمبراطورية الشمالي، مضافاً إليه ما يسعه انتزاعه من الأرض من براثن البحر. وفي الفصل الخامس نرى فاوست وقد بلغ المائة سيداً على ملك شاسع، ولكنه لم يصبح بعد سيداً على نفسه. وذلك أن كوخاً لزوجين من الفلاحين هما فليمون وباوكيس يحجب المنظر من قصره؛ فيعرض عليهما بيتاً أفضل في موقع آخر، ولكنهما يرفضان؛ فيطلب إلى مفستوفيليس وعملائه أن يطردوهما؛ ولكنهم يلقون المقاومة، فيشعلون النار في الكوخ؛ ويموت الزوجان العجوزان رعباً. ولا يلبث فاوست أن تطوف به رؤى الأرواح المنتقمة. عجائز شمطاوات اسمهن الفقر، والذنب، والهم، والحاجة، والموت. وينفخ الهم في وجهه فيعميه. وتنتشله من اليأس فكرة فيها شيء من الإيثار؛ فيأمر مفستوفيليس وشياطينه بأن يقيموا السدود على البحر، ويجففوا المستنقعات، ويبنوا على الأرض الجديدة ألف بيت وسط الحقول الخضراء؛ ويتخيل هذه الأرض المنتزعة من البحر، ويشعر بأنه استطاع "مع شعب حر أن يقف على أرض حرة" لقال أخيراً لهذه اللحظة العابرة "لا تبرحي لأنك جميلة جداً"(94). ويسمع أصوات الفؤوس والمعاول، فيظن أن مشروعه الضخم يتقدم؛ أما الحقيقة فهي أن الشياطين تحفر قبره. ويأخذ منه الإرهاق كل مأخذ، فيخر صريعاً على الأرض؛ فيشمت فيه مفيستوفيليس بينما يتهيأ حشد من الشياطين لحمل روح فاوست إلى الجحيم؛ ولكن جيشاً من الملائكة ينقض من السماء، وبينما يتسلى مفيستوفيليس بالإعجاب بسيقانهم، يرفع الملائكة رفات فاوست. وفي السماء نرى فاوست الذي ألبس جسداً نورانياً تستقبله بالتحية جريتشن الممجدة الآن، والتي تتوسل إلى الأم العذراء قائلة: "هبيني أن أعلمه!" وتأمرها العذراء بأن تقوده صعداً، ويختتم كورس سحري المسرحية بهذا النشيد:

"كل عابر

ليس إلا رمزاً؛

وكل ناقص لم يكمل

يبلغ الكمال هنا"

وما لا يمكن وصفه

يتحقق هاهنا

السرمدي الأنثوي

يجذبنا صعداً وقدماً.


7- التمام 1825-1832

في 1823 أصبح يوهان بتر إكرمان، البالغ واحداً وثلاثين عاماً، سكرتير جوته، وبدأ يدون حديث الشيخ للأجيال القادمة وتحتوي فصيلة هذا الجهد "أحاديث مع جوته" (ثلاثة مجلدات 1836-48)، التي راجعها جوته جزئياً، من ذخائر الحكمة أكثر مما نجده عند معظم الفلاسفة.

وفي سبتمبر 1825 احتفلت فايمار بالذكرى الخمسين ولي كارل أوجست العرش وحضر جوته الاحتفال. وأمسك الدوق بيده وتمتم قائلاً له معاً إلى أخر نسمة"(95). وفي 7 نوفمبر احتفل البلاط بالذكرى الخمسين لقدوم جوته إلى فايمار، وأرسل إليه الدوق خطاباً أذيع أيضاً على الشعب:

"ببالغ السرور أود أن أنوه بالذكرى الخمسينية لهذا اليوم يوبيلاً لا للخادم الأكبر لدولتي فحسب، بل لصديق صباي الذي رافقني طوال تقلبات الحياة بثبات المحبة والولاء والوفاء. وأني لمدين في نجاح أهم مشروعاتي لمشورته الواعية ولتعاطفه الذي لا يني وخدمته النافعة. وأني لأعد ضمي إياه لشخصي بصفة دائمة مفخرة من أعظم مفاخر ملكي(96).

ثم أقبلت سنوات الشيخوخة الحزينة حين يختفي الصديق تلو الصديق. ففي 26 أغسطس 1826، بعد عيد ميلاد جوته السابع والسبعين بيومين، أرسلت شارلوته فون شتين، وهي في الرابعة والثمانين، آخر ما نعرف من رسائل لحبيبها منذ نصف قرن: "كل تمنياتي الصادقة وبركاتي بمناسبة هذا اليوم. وأتوسل إلى الملائكة الحارسة في المحفل السماوي أن تأمر بمنحك أيها الصديق الأعز كل خير وجميل. وأنني ما زلت المخلصة لك في رجاء وبلا خوف، وأنا أسألك أن تهبني عطفك السمح خلال الفسحة القصيرة التي بقيت لي في الأجل"(97). ثم ماتت في 6 يناير 1827، فلما سمع جوته بالنبأ بكى. وفي 15 يونيو 1828 مات الدوق، وعرفت فايمار أن عصرها الذهبي أخذ يولي. واستعد جوته لدوره بالعكوف على فاوست بنشاط محموم. ولكن الدور لم يكن دوره بعد. ذلك أن أوجست، ابنه الوحيد الباقي على قيد الحياة، بعد أربعين سنة من الفشل، وعشرين من الفسق، مات في روما في 27 أكتوبر 1830. وقد أظهر تشريح جثته أن حجم كبده خمسة أضعاف الحجم العادي. فلما أبلغ جوته بالنبأ قال (باللاتينية) "لم أكن أجهل أنني أنجبته إنساناً فانياً"(98). وكتب يقول "حاولت إغراق نفسي في العمل وقد ألزمت نفسي بالمضي في المجلد الرابع من كتاب "الشعر والحقيقة"(99).

وحين بلغ الثمانين بدأ يحد من مجال اهتماماته. ففي 1829 كف عن قراءة الصحف. وكتب إلى تسلتر يقول "لست أستطع البدء بإنبائك بما اكتسبته من وقت وما أنجزته من أعمال خلال الأسابيع الستة التي تركت فيها جميع الصحف الفرنسية والألمانية دون أن أفتحها"(100) "سعيد من كان عالمه في بيته"(101). وقد حظي بالمحبة والرعاية من أرملة أوجست، أوتيلييه، واستشعر البهجة بأطفالها. ولكنه كان أحياناً يعتكف حتى عنهم ويطلب الخلوة التامة ويثني على الوحدة لأنها المواسية والمحك للعقل المثقف. وقد أفصح وجهه الآن عن أعوامه الثمانين: غضون عميقة غير الجبين وحول الفم، وشعر فضي يتراجع، وعيون هادئة متسائلة؛ ولكن عودة ظل مستقيماً وصحته جيدة. وكان يفخر بأنه اجتنب القهوة والتبغ وكلاهما مذموم في رأيه لأنه سم زعاف. وكان معجباً بطلعته وبكتبه، يستطيب ثناء الناس عليه صراحة، ولا يبذله إلا ضنيناً به. بعث إليه شاعر شاب في 1830 بديوان شعر، فرد عليه جوته ينبئه بتسلمه رداً لاذعاً قال فيه "تصفحت كتيبك، ولكنني نحيته على المرء في وباء من أوبئة الكوليرا أن يحمي نفسه من المؤثرات المضعفة"(102). وكان يضيق بأصحاب الكفايات الهزيلة، وازداد ضيقه بالناس أكثر فأكثر كلما أكرهته الشيخوخة على الانطواء على نفسه، وقد اعترف بهذا فقال "كل من ظنني لطيفاً من واقع مؤلفاتي ألفي نفسي مخدوعاً أشد الخداع حين أحتك برجل فيه برود وتحفظ(103). ووصفه زواره بأنه بطيء الانفراج، فيه شيء من التكلف والتصلب ربما نتيجة لارتباكه، أو لضنه بالوقت ينتزع من واجباته. ومع ذلك فإن كثيراً من رسائله تدل على القرة ومراعاة مشاعر الآخرين.

وطبق صيته الآن آفاق أوربا. وأشاد به كارليل-قبل موت جوته بزمن طويل-فحلاً من فحول الأدب العالمي. وأهدى بايرون "ورنر" إليه، وأهدى برليوز "هلاك فاوست" إلى "المونسنيور جوته"؛ وأرسل إليه الملوك الهدايا. ولكن قراءه في ألمانيا كانوا قلة، والنقاد مناوئين له، وانتقص منافسوه من قدره ورموه بأن عضو في مجلس الأمير مغرور يدعى أنه شاعر وعالم. وأدان ليسنج "جوتز" و "فرتر" لأنهما هراء رومانسي؛ واحتقر كلويشتوك "ارمان ودوروتيا" لأنه كتاب عادي لا امتياز فيه، و "افجيني" لأنه تقليد جامد لليونان. ورد جوته بعبارات متكررة من الاحتقار لألمانيا-لمناخها، ومناظرها الطبيعية، وتاريخها، ولغتها، وفكرها. وشكا من أنه اضطر "للكتابة بالألمانية، وهكذا... أهدر الحياة والفن على أسوأ مادة"(104). وقال لأصحابه أن "هؤلاء الألمان الحمقى" يستحقون تماماً هزيمتهم على يد نابليون في يينا(105)، وقد جاء دور ألمانيا لتضحك منه حين انتصر الحلفاء على بونابرت في ووترلو.

وإذ انسلخ عن نهر الأدب الرئيسي (النهر الرومانتيكي) في شيخوخته، فقد عزى نفسه باحتقار ازداد عمقاً للعالم والإنسان. "تبدو الحياة كلها-إذا نظرنا إليها من قمم العقل-كأنها مرض خبيث، والعالم كأنه مستشفى للمجانين"(106). وكتب إلى تسلتر في 26 مارس 1816 "قبل أيام وقعت على نسخة من أول طبعة لآلام فرتر، وبدأت ترتفع من جديد تلك الأغنية التي طال إسكاتها. وشق على أن أفهم كيف استطاع رجل أن يطيق العالم أربعين سنة مع أنه تبين سخفه حتى في صباه"(107). ولم يتطلع إلى أي تحسين ذي بال في المستقبل. "إن الناس لا يعيشون إلا ليكدر ويقتل بعضهم بعضاً. كذلك كان، وكذلك هو اليوم، وكذلك سيظل إلى أبد الدهر"(108)، وكان يرى كما يرى معظمنا بعد الستين أن الجيل الجديد منحط. "إن هذه الخيلاء التي لا تصدق، والتي يشب عليها الشباب، ستتمخض بعد بضع سنوات عن أعظم الحماقات... ومع ذلك فهناك الكثير الذي يتحرك وينشط، وقد يكون مبعث اغتباط في السنين القادمة(109)".

وفي 15 مارس 1832 أصيب بنزلة برد وهو راكب عربته في نزهة. ثم بدا أنه تماثل للشفاء في الثامن عشر من الشهر، ولكن في اليوم العشرين كانت الإصابة قد نزلت إلى صدره، وألهبته حمى النزلة، وشوه الألم وجهه. وفي الثاني والعشرين لا حظ أن الربيع بدأ، وقال ""لعل هذا يعينني على البرء. "وكانت الحجرة قد أظلمت لإراحة عينيه؛ فاعترض قائلاً "أدخلوا مزيداً من الضوء". وإذ كان لا يزال ضيقاً بالظلام أمر خادمه قائلاً "افتح ستارة النافذ الأخرى ليدخل مزيد من الضوء." وكانت هذه فيما يبدو آخر كلماته. وكان قد قال لأوتيلييه "أيتها المرأة الصغيرة، ناوليني كفك الصغيرة" ومات بين ذراعيها قابضاً على يدها ظهر يوم 22 مارس 1832 بالغاً اثنتين وثمانين سنة وسبعة شهور(110).

ورأى إكرمان جثمانه في الغد:

"كان الجسد عارياً إلا من كفن أبيض... وأزاح الخادم الملاءة فأذهلني ما رأيت في أطرافه من بهاء إلهي. وكان الصدر قوياً، عريضاً، مقبباً، والذراعان والفخذان ممتلئة مفتولة في رقة؛ والقدمان أنيقتين وفي أكمل هيئة؛ ولم يكن في الجسم كله أثر لا لشحم ولا نحول ولا لتحلل. فقد رقد أمامي رجل كامل في أجمل صورة؛ وأنستني بهجة المنظر لحظة أن الروح الخالدة قد فارقت هذا المسكن"(111).

وهكذا اختتم عصر عظيم، ابتداء من انتصار فردريك الكئيب في 1763، ومروراً بليسنج وكانط، وفيلاند وهردر، وانتهاء بشيلر وجوته. ولم يوفق العقل الألماني منذ لوثر إلى مثل هذا النشاط والتنوع والثراء في التفكير المستقل. ولم يكن بالكارثة على ألمانيا أنها لم تكن إمبراطورية مترامية كإمبراطورية بريطانيا مستغرقة في الفتح والتجارة؛ ولا ملكية ممركزة كالملكية الفرنسية يمزقها فشل الحكومة؛ ولا استبدادية كاستبدادية روسيا تتخم نفسها بالأرض أو تخدر نفسها بالماء المقدس. إن ألمانيا-من الناحية السياسية-لم تكن قد ولدت بعد، ولكنها في الأدب كانت تتحدى العالم الغربي، وفي الفلسفة تقود هذا العالم.