قصة الحضارة - ول ديورانت - م 10 ك 5 ف 23

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 13839

قصة الحضارة -> روسو والثورة -> الشمال البروتستنتي -> فايمار إبان ازدهارها -> تتمة لفيلاند

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث والعشرون: فايمار إبان ازدهارها 1775-1805

1- تتمة لفيلاند 1775-1813

حين رأى موتسارات فيلاند في مانهايم عام 1777 قال في وصف وجهه أنه "قبيح إلى حد مخيف، تغشاه ندوب الجدري، وله أنف طويل،... وفيما خلال هذا فهو... رجل موهوب جداً... والناس يحدقون فيه كأنه قد هبط من السماء"(1). وقد كرهه طيور النوء الهائجون أنصار الحركة "الزوبعية" لأنه سخر من انتشاءاتهم المتمردة؛ أما فايمار فأحبته لأنه لطف نقده اللاذع بالكياسة ويغفران عام للنوع الإنساني، ولأنه احتمل في رضى تفجر النجوم الجديدة مراراً في سماء الأدب بينما كان في استطاعته أن يدعي لنفسه مكان الصدارة. وقد خلد جوته ذكره في سيرته الذاتية بشعور العرفان بصنيعه(2). أما شيلر فقد خال في أول لقاء بينهما مغروراً محزوناً، ولكن "الموقف الذي اتخذه مني للتو يدل على الثقة والحب والتقدير"(3). وقال الشاعر الكبير للشاعر الفتى "سنفتح عما قليل قلبينا الواحد للآخر، وسياسعد كل منا صاحبه بدوره"(4)، وقد أثبت وفاءه بهذا الوعد. "إنني وفيلاند نتقارب أكثر كل يوم... ولا تفوته مناسبة لا يذكرني فيها بكلمة طيبة"(5).

وقد وفق فيلاند في منافسته للوافدين الجدد بإصداره في 1780 رواية شعرية اسمها "أوبرون" تحكي قصة فارس تنقذه عصا أمير الجان السحرية من مائة جنيه ومن شراك مفاتن ملكة اشتدت بها حرارة العشق. وحين اضطر جوته إلى الجلوس لمصور يرسم صورته وأراد أن يقعد ساعة دون حركة، طلب إلى فيلاند أن يقرأ عليه أجزاء من هذه الملحمة. يقول فيلاند "لم أشهد قط إنساناً سعد بعمل إنسان آخر كما سعد جوته"(6). وقد ترجم جون كوينسي آدمز القصيدة وهو سفير للولايات المتحدة في بروسيا في 1797-1801، واقتبس منها جيمس بلانشيه نصر أوبرا فيبر (1826). واحتوى عدد مارس 1798 من مجلة فيلاند "الرائد الألماني الجديد" مقالة يحتمل أنها بقلم فيلاند-تنبأت بالأحداث المقبلة على نحو يلفت النظر. فقد لاحظت الفوضى التي تردت فيها فرنسا منذ 1789، وأوصت بتعيين دكتاتور لها، كما وقع في الأزمات التي تعرضت لها روما الجمهورية؛ ورشحت بونابرت الشاب، الذي كان يواجه المتاعب يومئذ في مصر، بوصفه صالحاً لهذه المهمة بشكل واضح. وحين فتح نابليون ألمانيا فعلاً التقى بفيلاند في فايمار وايرفورت (1808)، وتحدث معه في أدب اليونان والرومان وتاريخهم، وكرمه فيمن كرم من الكتاب الألمان بوصفه أعظمهم بعد جوته(7). وفي 25 يناير 1813 كتب جوته في يوميته "دفن فيلاند اليوم" ثم أنهى النبأ إلى صديق في كارلسباد قائلاً: "لقد تركنا صديقنا الطيب فيلاند.. ففي 3 سبتمبر احتفلنا كما ألفنا كل عام بعيد ميلاده الثمانين بمظاهر الابتهاج. لقد كان في حياته توازن بديع بين الهدوء والنشاط. فلقد أسهم بقدر هائل في ثقافة الأمة العقلية في ترو وأناة ملحوظين، دون أي نضال مشبوب أو صراخ عال"(8).


2- هردر والتاريخ 1777-1803

كتب شيلر في يوليو 1787 "لقد تركت هردر لتوي... أن حديثه رائع، ولغته دافئة قوية، ولكن مشاعره يراوحها الحب والكره"(9). وكانت واجهات هردر في فايمار متنوعة، فلم تتح له متسعاً من الوقت للتأليف. فكان بصفته قسيساً خاصاً للدوق يقوم بواجبات العماد، والتثبيت في الإيمان، وعقد الزيجات والإشراف على الجنازات لأسرة الدوق وبلاطه. وبصفته المراقب العام للدوقية كان يشرف على سلوك الأكليروس وتعييناتهم، ويحضر اجتماعات مجلس الكنيسة ويلقى عظات فيها من سلامة العقيدة القدر الذي تسمح به شكوكه الخاصة. وكانت مدارس الدوقية تحت إدارته، فأصبحت نموذجاً تحتذيه ألمانيا كلها. هذه المسئوليات مضافاً إليها ناسوره وسوء صحته عموماً، جعلته سريع الغضب وصبغت حديثه بين الحين والحين بما سماه جوته "اللدغة الخبيثة"(10). وقد ظل ثلاث سنين (1780-83) هو وجوته يتجنب أحدهام صاحبه؛ وقد أنكر الدوق بعض عظات هدر. قال جوته "بعد عظة كهذه لم يبق أمام أي أمير إلا الاعتزال"(11). وقال فيلاند اللطيف الطبع معلقاً في 1777 "وددت لو قام بيني وبين هردر اثنا عشر هرماً"(12)، وتعلمت فايمار أن تلتمس المعازير "الاكلينيكية" لقسيسها الشبيه بدين سويفت، وردت زوجته اللطيفة كارولينة على بعض لدغه. وفي 28 أغسطس 1783 اغتنم جوته اتفاق وقوع عيد ميلاده وعيد ميلاد ابن هردر البكر في يوم واحد ليدعو آل هردر العشاء. واصطلح عضو المجلس الخاص والمراقب العام، وكتب جوته يقول أن "السحب الكئيبة التي فرقت بيننا طويلاً قد انجلت، وإلى الأبد في اعتقادي"(13). وبعد شهر أضاف "لست أعرف رجلاً أنبل قلباً أو أسمح وروحاً"(14)، وذكر شيلر في 1787 أن "هردر شديد الإعجاب بجوته-بل هو يكاد يعبده".(15) وأصبح فيلاند وهردر في الوقت المناسب صديقين متفاهمين(16)، وكان هذان، لا جوته ولا شيلر، هما اللذين قادا الحديث في صالون آنا أماليا واكتسبا قلب الدوقة الأرملة(17).

وواصل هردر وسط واجباته الإدارية البحث في الشعر البدائي، وجمع عينات منه من نيف وعشرة شعوب، ومن أورفيدس إلى أوسيان، ونشرها في "مختارات سماها Volksliede "أغاني شعبية" (1778) أصبحت ينبوعاً من ينابيع الحركة الرومانتيكية في ألمانيا. وبينما كان جوته يتهيأ لعودة إلى المثل والأشكال والأساليب الكلاسيكية ولضبط العقل للعاطفة، كان هردر يشير بالانتفاض على عقلانية القرن الثامن عشر وشكلية القرن السابع عشر والعودة إلى إيمان العصر الوسيط وأساطيره وأناشيده وأساليب حياته.

وفي 1788 عرضت الأكاديمية البافارية جائزة لأفضل مقال "في آثار الشعر في عادات الأمم وأخلاقها". وفاز مقال هردر ونشرته الأكاديمية في 1781. وقد تتيع المقال ما رآه المؤلف تدهوراً للشعر بين العبرانيين واليونان والأوربيين الشماليين، من التعبير الملحمي المبكر عن التاريخ والمشاعر والأفكار الشعبية في إيقاعات طليقة فياضة، إلى تدريب "مصقول" ومدرسي، بعد المقاطع، ويلوي القوافي، ويقدس القواعد، ويضيع حيوية الشعب وسط مظاهر الافتعال المميتة التي تشوب حياة الحضر. وزعم هردر أن النهضة الأوربية قد انتزعت الأدب من الشعب وحبسته بعيداً في قصور الملوك والأمراء، وأن الطباعة قد أحلت الكتاب محل المنشد الحي. وفي مقال آخر "في روح الشعر العبري" (1783) اقترح هردر قراءة سفر التكوين على أنه شعر لا علم، وكان قد تمكن من العبرية بجهده الخاص؛ وألمع إلى أن شعراً كهذا يستطيع أن يحمل بالرمزية من الحقيقة قدر ما يحمله العلم بـ "الواقع".

ولقد كافح إيمانه الديني للصمود رغم سعة إطلاعه على الكتب العلمية والتاريخية. ففي عامه الأول في فايمار اشتبه بعضهم في أنه ملحد، حر الفكر، سوسيني، صوفي(18). وكان قد قرأ أجزاء "مخطوطة فولفنبوتل" لريماروس، التي نشرها ليسنج، وتأثر بها تأثراً كفى لتشكيكه في لاهوت المسيح(19). ولم يكن ملحداً، ولكنه وافق على وحدة الوجود التي قال بها سبينوزا. قال لياكوبي في 1784 "لست أتبين إلهاً من وراء العالم المادي"(20) وقد حذا حذو ليسنج في دراسة سبينوزا والدفاع عنه، "يجب أن أعترف أن هذه الفلسفة تسعدني جداً"(21). وقد كرس لسبينوزا الفصول الأولى من رسالة عنوانها "أحاديث عن الله" (1787)، ففي هذا البحث فقد الله صورته الذاتية وأصبح قوة الكون وروحه، الذي لا سبيل إلى معرفته إلا في نظام العالم والوعي الروحي للإنسان(22). على أن هردر في دراساته الموجهة إلى الأكليروس قبل الصفقة الخارقة لمعجزات المسيح، وخلود النفس(23).

ثم جمع العناصر المتفرقة لفلسفته وجعل منها كلاً منسقاً نسبياً في رائعة ضخمة سماها في تواضع "أفكار نحو فلسفة في تاريخ الإنسان"، وهي كتاب من كتب القرن الثامن عشر البزرية الخطيرة. صدر في أربعة أجزاء في 1784 و1787 و1791. وإشراف مشروع ضخم كهذا على التمام وسط مسئوليات هردر الرسمية يقوم شاهداً على الخلق القوي والزوجة الصالحة. وآية ذلك ما كتبه هردر إلى هامان في 10 مايو 1784: لم أؤلف طوال حياتي كتاباً كهذا وأنا نهب للكثير من المتاعب وأسباب الإرهاق من الداخل ودواعي الإزعاج من الخارج، بحيث أستطيع القول أنه لولا أن زوجتي، التي هي "المؤلف الحقيقي" لكتبي، ولولا جوته الذي نظر مصادفة في الجزء الأول-أقول لولا أنهما لم يفترا عن تشجيعي وحثي، لظل كل شيء في مثوى الكائنات التي لم تر النور"(24).

ويستهل الجزء الأول بقصة للخليقة، دنيوية في صراحة، مبنية على الفلك والجيولوجيا المعروفين، دون لجؤ للكتاب المقدس إلا بوصفه شعراً. وقد زعم أن الحياة لم تنشأ من المادة، لأن المادة ذاتها حية. والجسم والعقل ليسا جوهرين منفصلين متضادين. إنما هما صورتان لقوة واحدة، وكل خلية في كل جسم حي تحتوي الصورتين إلى حد ما. وليس هناك قصد خارجي يمكن رؤيته في الطبيعة، ولكن هناك قصداً باطنياً-هو "التصميم الكامل" والباعث لكل بذرة أن تتطور إلى كائن نوعي بكل ما لها من أجزاء معقدة مميزة. وهردر لا يقول بأن الإنسان تطور من الحيوانات الدنيا، ولكنه يراه عضواً في المملكة الحيوانية، يناضل كغيره من الكائنات للطعام والبقاء. وقد أصبح الإنسان إنساناً باتخاذه القامة المنتصبة، مما طور فيه جهازاً للحس قائماً على البصر والسمع لا على الشم والذوق؛ فغدت قوائمه الأمامية أيدي، حرة في القبض، والاستعمال، والاحتواء، والتفكير. وأسمى ثمرات الله أو الطبيعة هو الذهن الواعي، الفعال بتفكير وحرية، المكتوب له الخلود. ويبدأ الجزء الثاني من "الأفكار" بفرض يزعم أن الإنسان بطبيعته خير، ويجدد القول بالتفوق والسعادة النسبيين للمجتمعات البدائية، ويستنكر الفكرة الكانطية-الهيجلية فيما بعد-التي تزعم أن الدولة هي هدف التطور البشري. وقد احتقر هردر الدولة كما عرفها. كتب يقول "في الدول العظمى لا بد أن يتضور الفئات جوعاً لكي يزهو فرد واحد ويتقلب في النعيم؛ أن عشرات الألوف يظلمون ويساقون إلى الموت لكي يستطيع أحمق أو عاقل متوج واحد أن يحقق حلمه"(25).

وفي الجزء الثالث امتدح هردر أثينا على ديمقراطيتها النسبية التي أتاحت للحضارة أن تنتشر في كثير من طبقات السكان. أما روما التي أقامت ثراءها على الفتح والرق فقد طورت حضارة ضيقة خلفت الشعب في الفقر والجهل. في هذا التاريخ كله لم ير هردر أي "عناية إلهية"، فهو أشر من أن يكون من عند الله. فالله، الواحد مع الطبيعة، يدع الأمور تجري في أعنتها وفق القانون الطبيعي وغباوة البشر. ومع ذلك فبحكم صراع البقاء ذاته ينبعث بعض التقدم من الفوضى؛ فيطور العون المتبادل، والنظام الاجتماعي، والأخلاق، والقانون، كوسائل للبقاء، ويتحرك الإنسان في بطء صوب إنسانية رحيمة. لا لأن هناك خطاً متصلاً للتقدم، فهذا غير ممكن، لأن كل حضارة قومية هي كيان فريد، له طابعه المتأصل، ولغته، ودينه، وناموسه الخلقي، وأدبه وفنه، وكل حضارة-شأنها شأن أي كائن حي-إذا استثنينا ما يطرأ عليها من حوادث عارضة-تنحو للنمو إلى نهايتها القصوى الطبيعية، التي تضمحل بعدها وتموت. وليس هناك ضمان لتفوق الحضارات اللاحقة على السابقة، ولكن إسهامات كل حضارة تنقل على نحو أفضل إلى الحضارة التي تخلفها، وهكذا ينمو التراث الإنساني.

والجزء الرابع يمتدح المسيحية أما للمدنية الغربية. فالبابوية الوسيطة حققت هدفاً نافعاً يكبحها استبدادية الحكام والنزعة الفردية للدول؛ والفلاسفة المدرسيون، وأن نسجوا نسيجاً واهياً أجوف بألفاظ ثقيلة، إلا أنهم أرهفوا أدوات العقل ولغته، وجامعات العصر الوسيط جمعت وحفظت ونقلت الكثير من ثقافة اليونان والرومان، بل بعض علوم العرب والفرس وفلسفتهم. وهكذا أصبح المجتمع الفكري أكبر عدداً وأرهف حساً من أن يقوى عليه سدنة السلطة، وتحطمت أغلال العرف، وأعلن العقل الحديث تحرره.

وحقق هردر فيما بين الجزئين الثالث والرابع من "الأفكار" حلمه الذي طال تأجيله برؤية إيطاليا. ذلك أن يوهان فريدريش هوجو فون ذالبرج، المستشار الكاثوليكي الخاص لرئيس أساقفة تريير الناخب، دعا هردر ليصحبه في رحلة كبرى تدفع لها فيها كل نفقاته. وأذن له دوق ساكسي-فايمار، وكارولينة، بالغياب؛ فغادر فايمار في 7 أغسطس 1788. فلما لحق بدالبرج في أوجزبرج وجد أن خليلة دالبرج عضو هام في الجماعة. واجتمع على هردر وجودها ومطالبها، وسوء صحته، لتنغص عليه رحلته. وفي أكتوبر وصلت آنا أميليا إلى روما. فترك هردر دالبرج وانضم إلى بطانتها. وقد استلطف أنجليكا كاوفمان استلطافاً أكثر مما ترضى عنه كارولينة، وأسرفت رسائل كارولينة في الكلام عن جوته والميل إليه. وعاد هردر لدغه، وكان قد سمع أنباء عن حياة جوته في روما. وكتب يقول "إن رحلتي هنا كشفت لي لسوء الحظ عن حياة جوته الأنانية على نحو أوضح مما كنت أتمنى، وهي حياة في صميمها لا تعبأ بالغير على الإطلاق. إنه لا يملك غير هذا، فلندعه، وشأنه إذن.."(26).

وعاد إلى فايمار في 9 يوليو 1789. وبعد خمسة أيام سقط الباستيل، وغير هردر خططه في التأليف. فأكمل الجزء الرابع من "الأفكار"، ثم نحى الكتاب جانياً، وكتب بدلاً منه "رسائل لتقدم الإنسانية (1793-97). وقد بدأها بتقريظ حذر للثورة الفرنسية، ورحب بانهيار الإقطاع الفرنسي، ولم يذرف دموعاً على علمنة الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا(27)، وحين انطلق الدوق وجوته لمواجهة الفرنسيين عند فالمي، وعادا يجرران أذيال الهزيمة، حبس هردر هذه "الرسائل" الأولى، وخصص الباقي للثناء على الموتى من العباقرة الذين لا خوف من الثناء عليهم. ولم يفقد في يخوخته من لذة الصراع الفكري. فقابل نقد كانط لكتاب "الأفكار" بهجوم حاد على "نقد العقل الخالص". ووصف الكتاب بأنه تلاعب رهيب بالألفاظ الميتافيزيقية الأشباح، مثل "الأحكام التركيبية القبلية"، وأنكر ذاتية المكان والزمان، واتهم كانط بأنه أعاد إلى علم النفس فكرة الملكات، التي زعم الفلاسفة المدرسيون أن العقل ينقسم إليها. ثم ألمع، في تنبؤ، إلى أن الفلسفة قد تختط طريقاً جديداً بالتحليل المنطقي للغة-لأن الاستدلال ما هو إلا حديث باطني.

وقد وافق جوته إلى حد كبير على نقد هردر لكانط، ولكن هذا لم يعصمه من لدغه نصيبه منه بين الحين والحين. فحين أقام كلاهما تحت سقف واحد في يينا عام 1803 قرأ جوته على جماعة كان هردر واحداً منها أجزاء من مسرحيته الجديدة "الابنة الطبيعية" (أي غير الشرعية). وأثنى هردر على المسرحية للآخرين، ولكن حين سأله المؤلف رأيه لم يستطع مقاومة الرد بتورية عن الصبي الذي ولدته خليلته جوته فقال: "إني أحب ابنك الطبيعي أكثر من ابنتك الطبيعية" ولم يستطب جوته الدعابة. وبعدها لم يلتق الرجلان قط. واعتكف هردر في خلوة بيته بفايمار، ومات هناك في 18 ديسمبر 1803-قبل شيلر بعامين، وقبل فيلاند بعشرة، وقبل جوته بتسعة وعشرين ودفن بأمر الدوق كارل أوجست-الذي كثيراً ما ضايقه هردر-بمراسم التكريم الكبير في كنيسة القديسين بطرس وبولس.


3- جوته عضو المجلس الخاص 1775-1776

لقي جوته في فايمار ترحيباً من الجميع إلا السياسيين. كتب فيلاند إلى لافاتر في 13 نوفمبر 1775 "لا بد لي من إنبائك بأن جوته معنا منذ الثلاثاء الماضي، وأنه لم تنقض ثلاثة أيام حتى شعرت بمحبة عميقة لهذا الشخص الرائع-فأنا أنفذ إلى أعماقه وأحسه وأفهمه تماماً-على نحو تستطيع أن تتخيله أفضل كثيراً مما أستطيع أن أصفه"(28). وفي الشهر نفسهكتب أحد رجال الحاشية إلى والدي جوته يقول "فكرا في ابنكما كأوثق صديق لدوقنا العزيز،... وهو محبوب إلى حد العبادة أيضاً من جميع السيدات من فضليات النساء في هذه المنطقة"(29).

بيد أن سماء فايمار لم تخل من غيوم. ذلك أن الدوق كان يستطيب الصيد العنيف والإفراط في الشراب، وقد صاحبه جوته فيهما جميعاً أول الأمر، فاتهم كلوبشتوك الشاعر علانية بأنه يفسد أميراً فاضلاً. وخشيت لويزة أن يقصي جوته زوجها عنها، مع أن حقيقة الأمر أنه استخدم تأثيره ليرد الدوق إلى الدوقة رغم أن زواجهما لم يكن زواج حب. وتشكك بعض الموظفين في جوته باعتباره تابعاً متطرفاً من أتباع الحركة "الزوبعية" ذا معتقدات وثنية وأحلام رومانسية. وهجم على فايمار عدد من أنصار تلك الحركة-لنتن، وكلنجو، وغيرهما-وقدموا أنفسهم باعتبارهم أصدقاء جوته، وطالبوا بالغنيمة. وحين استلطف جوته بيتاً ذا حديقة خارج بوابة المدينة ولكنه قريب من قلعة الدوق-أفقد كارل أوجست جوته بعض عطف الرأي العام بإخلائه شاغلي البيت تمكيناً لجوته من الانتقال إليه (21 أبريل 1776). هناك تخفف الشاعر من مراسم البلاط، وتعلم كيف يزرع الخضر والأزهار. وظل ثلاثة أعوام يسكن البيت على مدار السنة، ثم في الصيف فقط حتى 1782، حين انتقل إلى قصر فسيح في المدينة لينصرف إلى واجباته المتزايدة بصفته عضواً في الحكومة.

كان الدوق قد فكر فيه شاعراً، ودعاه إلى فايمرا ليكون كوكباً من كواكب الأدب في بلاطه. ولكنه رأىأن مؤلف مسرحية ثائرة ورواية غرامية باكية، هذا الكاتب الذي ناهز السادسة والعشرين، أخذ يصبح رجلاً ذا حكم عملي سديد. وعليه فقد عين جوته في "مكتب للاشتغال"، وطلب إليه أن ينظر في حالة المناجم في المينا وفي تشغيلها. وقام جوته بالمهمة بهمة وذكاء حملاً كارل أوجست على التصميم على ضمه للمجلس الخاص الذي يدير شئون الدوقية. واحتج عضو قديم على تدفق الشعر على المجلس على هذا النحو الفجائي، وهدد بالاستقالة. ولكن الدوق والدوقة الأرملة هدءاً ثائراً، وفي 11 يونيو 1776 أصبح جوته "عضو المجلس المختص بالتفويض الدبلوماسي" براتب سنوي قدره ألف ومائتا طالر. فقلل من مغازلاته للسيدات. وقد كتب فيلاند لميرك في 24 يناير يقول "منذ أمد طويل، من اللحظة التي قرر فيها أن يكرس نفسه للدوق وشئون الدوق، راح يسلك بحكمة مبرأة من الخطأ وبحذر الرجل الخبير بأمور الدنيا"(30). وفي 1778 رقي إلى منصب وزير الحرب، وكان يومها منصباً هادئاً، ثم إلى العضوية الكاملة للمجلس الخاص في 1799. وقد حاول بعض الإصلاح، ولكنه وجد نفسه معوقاً بالمصالح المكتسبة في القمة، واللامبالاة العامة في القاعدة، وما لبث هو نفسه أن بات محافظاً تام المحافظة. وفي 1781 عين رئيساً لغرفة الدوقية. وفي 1782 خلع عليه يوزف الثاني براءة النبالة، وغداً "فون" جوته. قال لأكرمان بعد خمسة وأربعين عاماً "في تلك الأيام كنت أشعر بغاية الرضى عن نفسي بحيث أنني لو كنت رقيت أميراً لما وجدته تغييراً ذا بال"(31). وامتزجت بمستقبله السياسي قصة غرام كانت أبقى وأحر وآلم حب في حياته. استمع إلى وصف الدكتور يوهان تسمرمان لإحدى مرضاه وصفاً لا يمت إلى الطب بسبب في نوفمبر 1775.

"إن للبارونة فون شتين، زجة البارون ورئيس الخيالة، عيوناً نجلاء سوداء رائعة الجمال. وصوتها رقيق خافت. ولا يفوت أحداً أن يلحظ على وجهها سمات... الرزانة، ودماثة الطبع، واللطيف... والفضيلة، والحساسية العميقة. إن آداب السلوك في البلاط، التي تملك ناصيتها إلى حد الكمال، تحولت فيها إلى بساطة رفيعة نادرة. وهي نقية جداً، ذات سمو روحي مؤثر يكاد يبلغ حد النشوة. ولا يستطيع المرء من مشيتها الأنيقة ومهارتها في الرقص التي تقرب من مهارة المحترفين أن يستشف نور القمر الهادئ المطمئن... الذي يملأ قلبها بالسلام. أنها في الثالثة والثلاثين، ولها عدة أطفال، وأعصابها ضعيفة. ووجنتاها ورديتان، وشعرها فاحم، وبشرتها... إيطالية اللون"(32).

وقد ولدت شارلوته فون شارت في 1742، وتزوجت البارون يوسياس جوتلوب فون شتين في 1764. وفي 1772 بلغ مجموع ما أنجبت من أطفال سبعة، مات منهم أربعة. وحين التقى بها جوته كانت لا تزال تعاني من الحمل المتكرر، وامتزج إحساسها بالضعف بما فطرت عليه من تواضع وحياء. ورفعها جوته في خياله إلى السماء، ولا غرو فقد كان فيه دم شاب وخيال شاعر، ألف تجميل الواقع ونيط به هذا التجميل، ومع ذلك لم يجاوز ما قاله طبيبها في تمجيدها. فقد كانت شيئاً جديداً في بستان وروده النسائية: كانت ارستقراطية، كأنما ركب السلوك المهذب في فطرتها، ورآها جوته كأنهما من النفائس المذخورة في قدس النبالة. وكان من ثمرات علاقتهما أنها نقلت إليه آداب طبقتها، وعلمته ضبط النفس، والطبيعة، والاعتدال، والمجاملة. وكانت شاكرة حبه إياها لأنه رد إليها اهتمامها بالحياة، ولكنها قبلت هذا الحب كما تقبل امرأة كريمة المربى إعجاب فتى يصغرها بسبع سنين-باعتباره آلام النمو لروح متشوف يبحث عن التجربة وتحقيق الذات.

ولم يكن حباً من أول نظرة، فبعد أن انضم إلى زمرة فايمار بستة أسابيع كان لا يزال يقرض الشعر عن "الجميلة للي" شونمان(33). ولكن في 29 ديسمبر 1775، لاحظ الدكتور تسمرمان تنبه جوته إلى "فضائل ومفاتن جديدة في شارلوته". وما حل 15 يناير حتى كان يحاول مقاومة افتتانه الوليد بها، فقال لها "إنني مسرور لأنني أبعد عنك وأفطم نفسي منك"، ولكن لم يواف 28 يناير حتى كان قد ألقى السلاح، وكتب إليها يقول "يا ملاكي الحبيب، لن آتي إلى البلاط. إن بي من شعور السعادة ما لا أطيق معه كثرة الخلق... فاسمحي لي أن أحبك كما أفعل". ثم كتب في 23 فبراير "يجب أن أخبرك أيتها المختارة بين النساء أنك ألقيت في قلبي حباً يملؤني بهجة"(34).

وردت برسائل كثيرة، ولكن لم يبق منها غير واحدة من هذه الحقبة: "لقد عزلت نفسي بعيداً عن العالم، ولكنه الآن يعود إلى عزيزاً، وعزيزاً بسببك. إن قلبي يبكتني وأنا أشعر أنني أعذب نفسي وأعذبك. فقبل ستة أشهر كنت على أتم استعداد للموت، وأنا لم أعد الآن مستعدة للقائه"(35). وملكته النشوة. فقال لفيلاند "ليس من تفسير لما تفعله هذه المرأة بي... إلا إذا قبلت نظرية التقمص. أجل، لقد كنا يوماً ما رجل وزوجته!(36) واتخذ لنفسه امتياز الأزواج في الشجار والمصالحة. كتب شارلوته إلى تسمرمان في مايو 1776 تقول: "لقد تركني ثائراً قبل أسبوع، ثم عاد بحب طاغ... فماذا هو صانع بي في النهاية؟(37) ويبدو أنها أصرت على أنيظل حبهما أفلاطونياً، أما هو فكان به من حرارة العشق مالا يجعله يترك حبهما عند هذا الحد، فقال لها "إن أمتنع على العيش معك فإن حبك لن ينفعني بأكثر من حب غيرك الغائبات عني"(38). ولكنه أردف في الغد "اصفحني عني أنني آلمتك. وسأحاول بعد اليوم أن أحتمل الألم وحدي"(39).

وشعر بالوحشة حين ذهبت إلى بيرومنت النائية في الشمال للعلاج، ولكنها زارته في المينا وعند عودتها (5-6 أغسطس 1776). وكتب في 8 أغسطس يقول "كان لحضورك أثر عجيب في... وحين أفكر أنك كنت هنا في كهفي معي، وإنني أمسكت بيدك وأنت تنحنين على... أرى صلتك بي مقدسة وغريبة معاً... فليس هناك كلام يعبر عنها، وأعين الرجال لا تبصرها"(40). وكان لا يزال حاراً في حبه لها بعد أن انقضى على لقائهما الأول قرابة خمس سنين. ففي 12 سبتمبر 1780 كتب وهو وحيد في زلباخ "كلما استيقظت من أحلامي وجدتني ما زلت أحبك وأصبو إليك. والليلة بينما كنا راكبين ورأينا النوافذ المضاءة في بيت أمامنا، قلت في نفسي ليتها هناك لتضيفنا. إن هذا المكان جحر حقير، ومع ذلك فلو أنني استطعت أن أعيش هنا في هدوء طوال الشتاء معك لأحببته كثيراً(41). ثم كتب في 12 مارس 1781: "لقد امتزجت روحانا امتزاجاً جعلني كما تعلمين مربوطاً بك رباطاً لا فكاك منه، ولن يفصلنا علة ولا عمق. وددت لو كان هناك قسم ما أو أسر مقدس ما ييربطني بك على نحو مرئي ووفقاً لقانون ما. لكم يكون هذا رائعاً! ولا شك أن فترة الاختبار كفاني طولها لإنعام التفكير الواجب في الأمر... أن اليهود يربطون زناراً حول أذرعتهم أثناء الصلاة. وهكذا أربط على ذراعي زناك العزيز حين أوجه صلاتي إليك، وأرغب إليك في أن تنقلي إلى طبيعتك وحكمتك واعتدالك وصبرك".

وقد فسر بعضهم "فترة الاختبار" المنصرمة، بأنها تشير إلى أن شارلوته أسلمت جسدها إليه"(42)، ومع ذلك كتب إليها بعد ست سنوات يقول.

"يا عزيزتي لوته، أنت لا تعلمين أي عنف أوقعته بنفسي وما زلت أوقعه. وكيف أن فكرة عدم امتلاكي إياك... ترهقني وتفنيني"(43). فإذا كان غرامهما قد اكتمل حقاً فإن السر قد كتم أحسن كتمان. وقد احتمل البارون فون شتين، الذي عمر حتى 1793، هذه العلاقة الغرامية بمجاملة جنتلمان من أهل القرن الثامن عشر. وكان جوته يختم خطاباته بين الحين والحين بعبارة "تحياتي إلى شتين"(44). وقد تعلم أن يحب أطفالها أيضاً، وكلما امتد به العمر اشتد شعوره بحرمانه من أطفال له. وفي ربيع 1783 أقنعها بأن لا تسمح لابنها فرتز ذي السنين العشر بالإقامة معه في زورات طويلة، وحتى بمصاحبته في رحلات طويلة. وفي أحد خطاباتها لفرتز (سبتمبر 1783) يظهر جانب الأمومة فيها، وتتكشف قلوب البشر الكامنة خلف واجهة التاريخ المجردة من عواطف البشر. "إنني عظيمة الابتهاج لأنك لم تنسني وأنت منطلق في هذا العالم الجميل، وأنت تكتب إلي بحروف لا بأس بها وإن لم يكن رسمها حسناً جداً. وما دمت تعتزم الإقامة أطول مما توقعت، فإنني أخشى أن لا تبدو ثيابك حسنة المظهر جداً. فإذا اتسخت واتسخت أنت أيضاً، فاطلب إلى عضو المجلس الخاص جوته فقط أن يلقي بفرتزي الصغير الحبيب في الماء... حاول أن تستمتع بفرصتك الطيبة، واجتهد أن تسر عضو المجلس بسلوكك، ووالدك يرغب إلى أن أقرئك تحيته(45).

فإذا وافى عام 1785 كان غرام جوته قد هدأت فورته في فترات صمت طويلة. وفي مايو 1786 شكت شارلوته من أن "جوته يفكر كثيراً ولا يقول شيئاً"(46). وكانت الآن تناهز الرابعة والأربعين، أما هو ففي السابعة والثلاثين، وكان آخذاً في الانطواء على نفسه. كثير التردد على يينا هروباً من بلاط فايمار والتماساً لتجدد الشباب بين الطلاب. وكان قد اعتاد دائماً أن ينعش نفسه بالطبيعة، فيتسلق قمة بروكن (وهي قمة ارتفاعها 3.747 قدماً في جبال هارتس، اقترنت منذ أمد بعيد بأسطورة فاوست)، ويخرج في رحلات مع الدوق في سويسرة (سبتمبر 1779 إلى يناير 1780). وكان أحياناً وهو يسترجع الماضي يشعر "بأنني خلال السنوات العشر الأولى من حياتي في الوظيفة والبلاط بفايمار لم أكد أنجز شيئاً"(47) في مضمار الأدب أو العلم. ولكن كان من الخير تهجين الشاعر بالإداري، وتأديب الغني الذي كان التدليل يفسده، والعاشق الخائن، بتبعات المنصب وبطء الانتصار في الحب. وقد أفاد من كل تجربة ونما مع كل هزيمة. "أن خير ما في، هو ذلك السكون الباطني العميق الذي أعيش فيه وأنمو، رغم العالم، والذي بفضله اكتسب مالاً يقوى العالم على انتزاعه مني أبداً"(48). فلم يكن شيء يضيع هدراً عليه، وكل شيء وجد التعبير عنه في مكان ما في كتاباته، وأخيراً أصبح خير ما حوته ألمانيا المفكرة منصهراً في كل متكامل.

وينتمي إلى هذه الحقبة قصيدتان من أعظم قصائده: أولاهما مزواجة بين الفلسفة والدين، وبين الشعر والنثر، في قصيدة "الطبيعة". وثانيتهما أعظم أشعاره الغنائية كمالاً. وهي الثانية من قصائده المسماة "أنشودة الجوالين في الليل" التي نقشها على جدران كوخ الصيد في 7 سبتمبر 1780(49) ربما في حالة من حالات الشوق القلق: على قمم التلال كلها ران السكون؛ وعلى ذري الأشجار لا تكاد تسمع نفساً يتردد؛ الطير نيام في الغابات مهلاً: فأنت أيضاً ستهجع مثلها سريعاً(50).

وهناك قصيدة من قصائد جوته العاطفية المشهورة الأخرى تنتمي إلى هذه المرحلة من مراحل تطوره: وهي قصيدة "ملك العفاريت" الحزينة وضع لها شوبرت لحناً موسيقياً. فمتى عبر شاعر عن إحساس الطفل بالكائنات الخفية المنتشرة في الطبيعة تعبيراً أقوى مما في هذا الخيال السريع، خيال الطفل المشرف على الموت، الذي يرى "ملك العفاريت" آتياً ليخطفه من بين ذراعي أبيه؟.

في هذه الحقبة أيضاً كتب جوته ثلاث مسرحيات نثرية: "اجمونت (1775) وافجيني في تاوريس (1779) وتورقواتو تاسو (Torquato Tasso) (1780)-وهي ثمر كاف لخمس سنين قضاها في خضم السياسة. ولم تخرج "اجمونت" على المسرح إلا في 1788، أما إفجيني فقدمت على مسرح فايمار في 6 أبريل 1779 (قبل العرض الأول لأوبرا جولك التي بهذا الاسم بستة أسابيع (؛ ولكن جوته غير فيها وبدل، ونظمها شعراً، أثناء مقامه في روما، بحيث يحسن النظر إليها على أنها نتاج لمرحلة جوته الكلاسيكية. كذلك أعاد صياغة "تاسو" ونظمها شعراً في إيطاليا، ولكنها تدخل هنا جزءاً من افتتان جوته بشارلوته فون شتين. ففي 19 أبريل 1781 كتب إليها يقول: "كل كلام تاسو موجه إليك"(51). وصدقت كلامه، فطابقت بينها وبين ليونورا، وبين جوته وتاسو، وبين كارل أوجست ودوق فرارا.

وقد تلقف جوته الأسطورة التي زعمت أن انهيار عقل تاسو في بلاط فرارا قد اشتد، إن لم يكن قد نشأ أصلاً، عن غرام تعس بأخت لألفونس الثاني (حكم 1559-97)(52). وما من شك في أن جوته كان يفكر في نفسه حين وصف ما يدور في فكر تاسو الشعري: إن عينه قلما تطيل النظر إلى هذا المشهد الأرضي، أما أذنه فمرهفة السمع لأنغام الطبيعة. وأما صدره فيتلقى للتو في ابتهاج ما يقدمه التاريخ وتأتي به الحياة، ثم يجمع الأشتات المتفرقة ويربط بينها ويبعث حسه الذكي الحياة في الموتى. وهكذا يغرينا الرجل العجيب وهو يتحرك في عالمه المسحور بأن نطوف معه ونشاركه فرحه. وهو يبدو كأنه يدنو منا، إلا أنه يظل بعيداً كما كان، فإذا اتفق ووقعت عينه علينا رأي الأشباح في مكاننا(53)

وقد تكون ليونورا، الأميرة الجليلة التي ترتضي حب الشاعر ولكنها تأمره بأن يكبح حماسته ويراعى اللياقة، هي شارلوته فون شتين تضبط غرام جوته المشبوب في هذا العالم الفاسق ويعلن تاسو-وهنا يتكلم الشاعران كلاهما: كل ما يصل القلب إلى أغنيتي فيتردد صداه فيه، إنما أدين به لواحد، وواحد فقط! فلم يحم حول روحي طيف غامض، يتقدم تارة في سناء باهر، ثم يتوارى ثانية. فأنا نفسي، بعيني رأس، أنا الذي أبصرت مثال كل فضيلة وكل جمال(54) وأما الدوق ألفونسو فهو شبيه كارل أوجست في صبره على غضبات الشاعر وغرامياته وأحلام يقظته، وهو مثله يحزنه تباطؤ الشاعر في الفراغ من رائعة موعودة:

بعد كل خطوة بطيئة يدع عمله، لا يفتأ يبدل ويغير، ولا طاقة له على الانتهاء(55). وهو وصف صادق لكتابه جوته المنجمة وإبطائه وتسويفه في إنجاز "فلهم مايستر" و "فاوست". وأميرة أخرى تمتدح ألفونسو كارل أوجست على إتاحته الفرصة لتاسو-جوته لينضج بممارسته لشئون الدنيا وهنا تعلو أبيات مشهورة:

"إن الموهبة تكون نفسها في سكون" والشخصية تتشكل في نهر العالم"(56).

ولكن التلازم بين الشاعرين يتضاءل في النهاية: فتاسو لا يبدي شيئاً من قدرة جوته على السباحة في نهر العالم، فيغرق في مملكة أحلامه ويضرب بالحذر واللياقة عرض الحائط، ويحتضن الأميرة المذهولة بين ذراعيه، ويجن جنونه حين تنتزع نفسها من ضمته ومن حياته. ولعل جوته أحس بأنه كان قد وقف على شفا هذا الجرف.

وكثيراً في إيطاليا ملاذاً يعتصم به من موقف يهدد سلامة عقله. وفي نحو هذه الفترة في الصيغة الأولى لـ "فلهلم مايستر" نظم لمينون أغنية شوق ولهفة تلائم آماله أكثر من آمال مينون:

أتعرف البلد الذي تزهر فيه أشجار الليمون، حيث تتوهج ثمار البرتقال الذهبية في الأوراق الداكنة، حيث يهب النسيم العليل من السماء الزرقاء، حيث تقوم شجرة الآس المطمئنة وشجرة النار السامقة حيث تقوم شجرة الآس المطمئنة وشجرة الغار السامقة أتعرفه جيداً؟ هناك! هناك! أشتهي يا حبيبتي أن انطلق معك!

لقد كانت فايمار جميلة، ولكنها لم تكن دافئة. ثم إن هموم المنصف كدرت روح الشاعر، "أنها لوسيلة مرة من وسائل كسب القوت أن يضطر المرء إلى محاولة خلق التناغم والانسجام بين نشازات العالم"(57). وقد أضنته حياة البلاط، "ليس بيني وبين هؤلاء القوم ولا بينهم وبيني شيء مشترك يربطنا"(58). وكانت قد وقعت بعض الجفوة بينه وبين الدوق لعجزه عن مسايرة خطى الدوق في الصيد والغزل، وغرامه الكبير الوحيد قد براه الزمن وكثرة الشجار. فأحس أنه لا بد له من التحرر من هذه الأصفاد الكثيرة، والبحث عن اتجاه ونظرة جديدين. فطلب إلى الدوق أن يمنحه إجازة، فاستجاب الدوق، ووافق على أن يواصل دفع راتب جوته. ورغبة في توفير مبلغ إضافي من المال باع جوته لجوشن، الناشر الليبزجي، حق نشر طبعة من مجموعة مؤلفاته. ولم يبع جوشن إلا 602 نسخة، فخسر 1.720 طالر في هذه المغامرة.

وفي أول سبتمبر 1786 كتب جوته إلى شارلوته من كارلسباد يقول:

"الآن وداعاً أخيراً، أريد أن أكرر لك أني أحبك حباً جماً... وأن تأكيدك لي أنك تجدين من جديد لذة في حبي يجدد فرحة حياتي. لقد احتملت الكثير في صمت إلى الآن، ولكني لم أرغب في شيء بأحر مما رغبت في أن تتخذ علاقتنا صورة لا يقوى عليها أي ظرف. فإذا لم يكن هذا مكناً، فلن أرتضي أن أسكن حيث تكونين، بل أوثر أن أكون وحيداً في ذلك العالم الذي انطلق إليه الآن(59).


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

4- جوته في إيطاليا 1786-1788

واتخذ له في رحلة اسماً مستعاراً هو "المسيو جان-فليب مولر" لأنه أراد التحرر من مضايقات الشهرة. وكان في السابعة والثلاثين، ولكنه ذهب بتطلع يفوق حتى تطلع الشباب وترقبه المرح، وباستعداد يفضل كثيراً استعداد الشباب، لأنه كان ملماً ببعض تاريخ إيطاليا وفنها. وفي 18سبتمبر كتب إلى هردر يقول "آمل أن أعود شخصاً مولوداً من جديدا" وكتب إلى كارل أوجست "أرجو أن أعيد معي إنساناً تطهر تماماً وتجهز تجهيزاً أفضل كثيراً من ذي قبل". وإلى هذيثن وإلى غيرهما من الأصدقاء أرسل "رسائل مع إيطاليا" ما زالت تحوي نبض الحياة الإيطالية السريع. وقد قدم لها بالشعار القديم "Auch in Arkadien-هو أيضاً كان الآن في أركاديا. وقد رأينا في موضع آخر من الكتاب مبلغ شكره على ضوء الشمس. فقد صاح عند دخوله إيطاليا" إني أومن بالله من جديد!"(60) ولكنه أحب الشعب الإيطالي أيضاً، وجوههم وقلوبهم الطلقة، وطبيعة حياتهم، وحرارة حديثهم ومرحه. وإذ كان عالماً كما كان شاعراً، فإنه لاحظ الخصائص الخاصة بالظواهر الجوية، والتكوينات الجيولوجية، والعينات المعدنية، وأنواع الحيوان والنبات، وأحب حتى السحالي المارقة فوق الصخور.

وبلغ من شدة شوقه للوصول إلى روما أنه مر مرور الكرام بفنيسيا ولمبارديا وتسكانيا ولكنه تلبث في فتشنتسا وقتاً كفى لأشعاره ببساطة معمار بلاديو وقوته الكلاسيكيتين. وعاد يؤكد من جديد نفوره من الطراز القوطي.

"لقد تحررت إلى الأبد-ولله الحمد-من كل ميل إلى تلك الأعمدة الشبيهة بقصبات التدخين، وقلاعنا الصغيرة المتوجة بأبراج الكنائس، والأطراف المورقة لمبانينا!... لقد فسح بلاديو أمامي الطريق لكل... فن"(61). وعاد بهذا الطريق إلى فتروفيوس الذي درسه في طبعه أشرف عليها جالياني، صاحبنا الظريف القادم من نابلي وباريس. واستحال الطراز الكلاسيكي الآن غراماً عنده، يلون كتاباته وفكره، ويعيد صياغة بعض أناجه القديم، مثل "افجيني" و "تاسو" في قالب وخط كلاسيكيين. وفي البندقية بدت قصور الباروك في عينيه مسرفة إلى البهرج. مفرطة في الأناقة النسائية؛ لا بل أنه انصرف عن واجهات النهضة إلى أطلال العمائر والتماثيل الكلاسيكية في المتاحف. ولكن دمه الحار تجاوب مع لون فيرونيزي وتتسيانو وكبريائهما. وقد بحث في فرار عبثاً عن القصر الذي حبس فيه تاسو. وبعد أن قضى ثلاثة أيام في بولونيا وثلاث ساعات فقط في فلورنسة انطلق حثيثاً عبر بروجه وتيرني وتشيتا دي كاستيللو، وفي 29 أكتوبر 1786 ركب إلى روما مخترقاً "البورتا ديل بوبولو" (بوابة الشعب) وأحس الآن بلحظة عابرة من التواضع "كل الطرق مفتوحة أمامي لأني أسير بروح التواضع"(62). وإذ لم يكن قد تمكن من لغة الحديث الإيطالية، فقد بحث عن الجالية الألمانية،لا سيما الفنانين الألمان، لأنه تطلع إلى أن يتعلم على الأقل أصول الرسم والتصوير والنحت. وأعجبت أنجليكا كاوفمان بحماسته ووسامته فرسمته في صورة أبرزت شعر الأسود وجبينه العالي وعينيه الصافيتين. وارتبط بصداقة حميمة مع يوهان هاينريش فلهلم تيشباين، الذي أسلمه لنا في لوحته الشهيرة "جوته في الريف"(63). يستلقي في استرخاء كأنه فتح أركاديا. وكان جوته قد راسل هذا المصور قبل حضوره إلى إيطاليا بزمن طويل، ثم التقيا لأول مرة في 3 نوفمبر، حين اجتمعا في "بياتسا سان بيترو (ميدان القديس بطرس)، وتعرف الشاعر على الفنان، وقدم إليه نفسه ببساطة "أنا جوته"(64)، ووصفه تيشباين في خطاب إلى لافاتر بهذه العبارات:

"وجدته تماماً كما توقعت. ولم يدهشني غير الرزانة والهدوء في رجل له هذه الحساسية الناشطة، ثم قدرته على الاسترخاء والتصرف بحرية في جميع الطروف. وما يسرني أكثر حتى من هذا هو بوساطة حياته. فكل ما طلبه مني كان في إعداد حجرة صغيرة يستطيع أن ينام فيها ويعمل دون إزعاج؛ ثم أبسط الطعام... وهو يجلس الآن في تلك الحجرة الصغيرة عاكفاً على قصة "افجيني" من الصباح الباكر إلى الساعة التاسعة. ثم يخرج لدراسة روائع الفن"(65).

وكثيراً ما كان تيشباين مرشداً له في جولاته هذه، ورتب تزويده بما طلب من الرسوم، وحصل له على نسخ من الصور الأكثر شهرة. وقد رسم جوته بنفسه رسوماً تخطيطية للصور التي أراد تذكرها بنوع خاص. ثم جرب النحت، ونحت رأساً لهرقول. واعترف بأنه غير موهوب في الفنون التشكيلية، ولكنه شعر أن هذه التجارب تعطيه إحساساً أفضل بالشكل، وتساعده على تصور ما يريد وصفه(66). ثم أكب على كتاب فنكلمان "تاريخ الفن القديم"، "هنا على الطبيعة أجده ثميناً جداً... والآن يستطيع عقلي في النهاية أن يتسامى إلى أعظم وأنقى إبداعات الفن في مأمن هادئ"(67). "إن تاريخ العالم كله يربط نفسه بهذه القبعة، وأحسبني ولدت... ولادة جديدة صادقة منذ اليوم الذي دخلت فيه روما... أظنني تغيرت إلى الصميم"(68). ويبدو أنه استمتع خلال ذلك بالفن الحي الذي قدمته الموديلان "اللذيذات" اللائي جلسن للمصورين في مراسمهم(69). وأنهت إقامته في روما ذلك التخلص من النزعة الرومانتيكية الذي بدأ بمسئوليات المنصب. وبدأ الآن تمرد جوتز على القانون، ودموع فرتر، في نظر جوته الذي أخذ ينضج كأنها إمارات عقل غير متزن، "إن الرومانتيكية مرض، والكلاسيكية صحة"(70). وقد كان في تحمسه الجديد للآثار الرخامية والأعمدة والتيجان والقواصر الكلاسيكية والخطوط النقية للتماثيل اليونانية مسحة رومانتيكية. "إذا شئنا حقاً نموذجاً نحتذيه، فعلينا دائماً أن نرجع إلى قدماء اليونان، الذين يتمثل في أعمالهم دائماً جمال الإنسان"(71). وقد رأى جوته، كلما رأى فنكلمان، الجانب "الأبوللوني "للحضارة والفن اليونانيين فقط-تمجيد الشكل والقصد، وكان الآن يتجاهل تلك النشوة "الديونيسية" التي لونت الخلق والدين والحياة اليونانية تلويناً دافئاً جداً، والتي أعربت في جوته ذاته عن نفسها خلال "قرينه" وغرامياته.

في هذا الوجد الكلاسيكي أعاد كتابة "افجيني في تاوريس" شعراً (1787)، واعتزم أنه ينافس راسين، لا بل يوربيديس نفسه. وإذ كان قلبه لا يزال محتفظاً بجمرات النار التي أضرمتها فيه شارلوته فون شتين، فقد سكب في أحاديث الأميرة اليونانية شيئاً من رقة البارونة الألمانية وتمالكها نفسها. وروى القصة القديمة جداً، بكل ما فيها من تعقيدات الميثولوجية والأنساب، وزاد من حدة الدراما بتصويره الملك السكوذي تصويراً متعاطفاً، وأقدم على تغيير الخاتمة لتتوافق مع الفكرة-النادرة بين اليونان-التي تزعم أن على الإنسان التزامات حتى للبرابرة (الهمج أو غير اليونان). ولا يستطيع تقدير إنجاز جوته حق قدره إلا الذين يقرءون الألمانية بطلاقة، ومع ذلك قال ايبوليت تين، وهو رجل فرنسي، وناقد فذ، خبير على الأرجح بدرمات راسين: "إنني لا أفضل أي عمل أدبي حديث على درامة جوته افجيني في تاوريس"(72).

وقد أحيت ذكريات شارلوته في هذه المسرحية، ثم في "تاسو" "أكثر منها، اللتين أعاد كتابتهما في روما، شعوره من نحوها. لقد أصابها بجرح عميق هروبه المفاجئ إلى إيطاليا وتركه ولدها في عهده الخادم، فأعادت فرتز لفورها، وطالبت جوته برد كل الرسائل التي كتبتها له. فكتب معتذراً من روما (8 و13 و20 ديسمبر 1786)، وبعثت إليه (18 ديسمبر) بتذكرة فيها لوم "حلومر" فكان رده (23 ديسمبر) "ليس في طاقتي أن أصف لك كيف يدمى قلبي أنك مريضة، ومريضة بسبب غلطتي. فاصفحي عني. لقد صارعت أنا نفسي الموت والحياة، وما من لسان يقوى على النطق بما كان يعتمل في داخلي. "وأخيراً لانت. فكتب لها أول فبراير 1787 "الآن أستطيع أن أنصرف إلى عملي وأنا أسعد مزاجاً لأنني تسلمت منك رسالة تقولين فيها أنك تحبين رسائلي وتبتهجين بها".

في ذلك الشهر ذهب هو وتيشباين إلى نابلي وارتقى فيزوف مرتين؛ وفي محاولته الثانية غطى ثوران صغير للبركان رأسه وكتفيه بالرماد. ووجد متعة عظمى في الأطلال الكلاسيكية في بومبي، وبهت للجلال البسيط الذي رآه في المعابد اليونانية ببايستوم. فلما عاد إلى روما ركب البحر إلى بلرمو، ومضى ليدرس المعابد الكلاسيكية في سجسته وجرجنتي (أجرجنتو)، ووقف في المعبد اليوناني بتاورمينا، ثم قفل إلى روما في شهر يونيو. فلما تعاظم افتتانه بـ "أروع مدينة في العالم كله"(73). أقنع الدوق كارل أوجست بأن يواصل دفع راتبه حتى نهاية 1787. فلما أن نفدت المهلة راض نفسه ببطء على العودة إلى الشمال. فغادر روما في 25 أبريل 1788، وسافر على مهل عبر فلورنسة وميلان وكومو حتى بلغ فايمار في 18 يونيو. وكان كل يوم يتساءل كيف يستقبل الدوق، والحاشية، وشارلوته، رجلاً يحس أنه تبدل إنساناً آخر.


5- جوته في الانتظار 1788-1794

كان الدوق قد عين رئيساً جديداً للمجلس بموافقة الشاعر الغائب؛ والآن أعفي جوته بناء على طلبه من جميع واجباته الرسمية عدا منصب وزير التعليم، ولم يخدم المجلس بعدها إلا بصفة استشارية. وكان الدوق لطيفاً معه، ولكنه كان قد اتخذ أخصاء غيره، ثم أنه لم تعجبه العواطف الشبيهة بالنزعات الجمهورية التي استشفها من "إجمونت" بعد أن أعاد الشاعر كتابتها. أما جمهور القراء قد نسي جوته أو كاد؛ وأقبل على شاعر جديد يدعى شيلر، وصفق بحماسة لتمثيلية "اللصوص" الزاخرة بروح التمرد والعنف الذي اتسمت به الحركة "الزوبعية"، والذي بدأ الآن سخيفاً فجافى عين شاعر يتأهب للتبشير بالنظام والقصد الكلاسيكيين. وأما شارلوتة فون شتين فقد استقبلته ببرود. وأنكرت طول غيابه، وتمهله في العودة، وتحمسه المتصل لإيطاليا، ولعلها سمعت بـ "موديلات" روما. كتبت تقول إن لقاءهما الأول عقب وصوله كان "زائفاً كل الزيف في طابعه، ولم نتبادل شيئاً غير الملل"(74). ورحلت لتقيم فترة في كوخبرج، وصار جوته حراً في التفكير في كرستيانة فولبيوس.

وقد دخلت هذه الفتاة حياته في 12 يوليو 1788 إذ حملت عليه رسالة من أخيها. وكانت في الثالثة والعشرين، تعمل في مصنع للأزهار الصناعية، وراع جوته منها روحها النضرة، وعقلها البسيط، وأنوثتها المتفتحة. فدعاها إلى بيته ذي الحديقة لتعمل مديرة للبيت، وما لبث أن جعلها خليلة له. ولم تنل حظاً من التعليم، وقال "إنها لا تستطيع فهم الشعر إطلاقاً(75)، ولكنها استسلمت له في ثقة واطمئنان، ومنحته تحقيق ذاته الجسدي الذي أنكرته عليه شارلوتة فيما يبدو. وفي نوفمبر 1789، حين أوشكت أن تصبح أماً، أخذها إلى بيته في فايمار، وجعلها زوجته علانية في كل شيء إلا الاسم. وصدمت شارلوتة والحاشية لتجاوزه الحدود الطبقية وعدم إخفائه العلاقة المحرمة. وقد أحزنه كثيراً هو وكرستيانة هذا الموقف، ولكن الدوق المتمرس بالخليلات قام عراباً للطفل الذي ولد في عيد الميلاد 1789، وعمده في أغسطس هردر الصارم، الغفور رغم صرامته. أما جوته، الذي كثيراً ما كان عاشقاً، ولكنه الآن فقط كان أباً، فقد وجد الكثير من السعادة في "الرجل الصغير" و "المرأة الصغيرة". ودبرت له أمر بيته، واستمتعت إليه في حب حتى وهي لا تفهمه، ومنحته الصحة والعافية. قال لصديق منذ اجتازت هذه العتبة أول مرة لم ينلني منها غير الفرح"(76). ولم ير فيها عيباً غير حبها للخمر حباً فاق حتى حبه، وما أفضى إليه هذا أحياناً من المرح والقصف الذي لا يمكن السيطرة عليه. وكانت تختلف إلى المسرح، وترتاد حفلات الرقص الكثيرة، بينما يظل جوته في البيت ويخلد ذكرها في "المراثي الرومانية" Romische Elegien (1789-90)، التي كتبها على طريقة بربروتيوس وبأخلاقيات كاتوللوس. وليس في هذه "المراثي الرومانية" شيء حزين، إنما تشتق اسمها هذا من بحر المراثي "elegiac" الذي تتناوب فيه البحور السداسية والخماسية التفاعل؛ وهي لا تتصل بروما بل بأرملة طروب-نستشف من ورائها كرستيانة نفسها: "كل ما تحويه أسوارك المقدسة أي روما الخالدة يشغى بالحياة، ولكنه في ناظري ساكن ميت.

أواه، منذا يوشوش في أذني؟ متى أشهد في النافذة ذلك القد الجميل الذي يحيي وإن أحرق؟ لا تندمي يا حبيتي على أنك استسلمت هكذا سريعاً! ثقي بي، أراك غير جريئة؛ إنما أشعر بالإجلال.. إن الإسكندر وقيصر وهنري وفردريك، هؤلاء الجبابرة، يودون أن يخلعوا على نصف المجد الذي ظفروا به لو أنني وهبتهم ليلة واحدة على الأريكة التي أرقد عليها؛ ولكنهم وما أسفاه يقعدهم ليل أوركوس في قسوة. فاغتبط إذن، أيها الحي، ناعماً في بيتك المنور بالحب قبل أن تبلل موجة "ليذي" الحزينة قدمك الهاربة"(77)

وربما كانت تلك الأرملة الجميلة ذكرى من أيام روما، وكلن دفء هذه الأبيات مبعثه كرستيانة. على أية حال ألم يكن يدرس الفن؟ على أنه مما يعينني على الدرس أيضاً أن أرسم بيد حساسة تلافيف صدرها الجميلة وأدع الأنامل الحكيمة تنزلق هابطة على الفخذ الناعم، لأنني هكذا أتمكن من صنعة النحات القديم، وأتأمل، وأقارن، وأتعلم أن آتي وأبصر بعين شاعرة، وأشهر بيد مبصرة(78). ولم يرق نبيلات فايمار هذا العرض المرخص لمفاتنهن، وحزنت شارلوته الوقور على انحدار بطلها "جالاهاد" لا بل أن كارل أوجست ذاته انزعج قليلاً، ولكن سرعان ما هدأت نفسه. وعندما كانت الدوقة الأرملة عائدة من إيطاليا أرسل الدوق جوته إلى البندقية ليصحبها إلى أرض الوطن. وطال مقامه هناك (مارس إلى يونيو 1790) طولاً ضايقه، وتاق إلى كرستيانة، وصب جام غيظه من الباعة الإيطاليين ووسائل النظافة الإيطالية في "الابجرامات الفينيسية"-وهي، أقل أعماله إغراء بالقراءة.

فلما عاد من البندقية وجد أن الثورة الفرنسية تبعث النشوة في شباب ألمانيا، والخوف في حكامها. وكان الكثيرون من أصحابه، وفيهم فيلاند وهردر، يصفقون للإطاحة بالاستبدادية الملكية في فرنسا. أما جوته، الذي أدرك أن كل العروش مهددة بالخطر، فقد اتخذ موقفه إلى جوار الدوق، وأشار عليه بالحيطة وقال إن أناساً كثيرون جداً "يجرون وفي أيديهم منفاخ بينما يلوح لي أن الأجدر بهم أن يبحثوا عن أباريق الماء البارد للسيطرة على النار(79). وأطاع أمر كارل أوجست له بأن يصحبه في حملة الحلف الأول ضد فرنسا. وحضر معركة فالمي (20 سبتمبر 1792)، ووقف هادئاً تحت النيران، وشارك في الهزيمة. وقد سجل ضابط ألماني في يوميته أن الشاعر-عضو المجلس الخاص، حين طلب إليه التعليق على الحدث أجاب "منذ اليوم ومن هذا الموضع يبدأ عصر جديد في تاريخ العالم"(80). وليس لدينا ما يؤيد هذه القصة. ومهما يكن من أمر، فإن جوته هاجم الثورة بقوة حين عاد إلى فايمار، وكانت تدخل فترة شططها ووحشيتها (1792-94).

ورسخت هذه التطورات في جوته ذلك التحول الطبيعي، تحول العقل الآخذ في النضج، من التلذذ بالحرية إلى حب للنظام. وشعر جوته أنه إذا كان في استطاعة أي أحمق أن يكون مبتكراً، فإن في استطاعة أي أحمق أن يحيا كما يشاء"(81) منتهكاً العادات أو القوانين في اطمئنان لأن غيره يراعونها. ولم يشعر بتحمس للديمقراطية، فلو أتيح لنظام كهذا أن يمارس فعلاً لكان معناه تسلط الغفلة والجهل والخرافة والهمجية. لقد كان لطيفاً سمحاً في نطاق دائرته، ينفق بعض دخله على أعمال البر المستوردة(82)، ولكنه كان ينكمش من الجماهير. فإذا وجد بين الجماهير أو الأغراب انطوى على نفسه في كبرياء وأحجام، وكان يجد سعادته الوحيدة في بيته. في سني القلاقل هذه (1790-94) ران عليه سبات كئيب أيقظته منه لمسة شباب شيلر المتحمس ومنافسة قلمه.


6- شيلر في الانتظار 1787-1794

كان جوته في إيطاليا حين وصل شيلر إلى فايمار. واعترف الشاعر المعسر بغيرته من عضو المجلس الخاص الغائب. "بينما هو يرسم في إيطاليا، يبذل النكرات من الناس العرق من أجله كأنهم دواب الحمل. إنه يبعثر هناك راتباً قدره 1.800 طالر، وهنا عليهم أن يضاعفوا كدهم ليحصلوا على نصف هذا المال"(83). وفي 12 أغسطس 1787 كتب بروح أكثر تعاطفاً.

"يتكلم الكثيرون هنا عن جوته في شيء من الحب، بل إنهم أكثر حباً له وإعجاباً به إنساناً أكثر منه مؤلفاً. ويقول هردر أنه أوتي حكماً شديد الوضوح وعمقاً كبيراً في الوجدان، وعواطف نقية جداً. وجوته في رأي هردر مبرأ من كل روح للدس والوقعية، وهو لم يؤذ أحداً قط... وهو في معاملاته السياسية يتصرف بصراحة وجرأة... ويقول هردر أن جوته أحق بالإعجاب كرجل دنيا منه شاعراً... وأن له عقلاً يتسع لأي شيء"(84). وكان الدوق غائباً حين حضر شيلر، ولكن أنا أمالياً وشارلوته فون شتين استقبلتاه استقبالاً حاراً. وأخبره فيلاند أنه "ينقصه الصقل والوضوح والذوق"(85)، وتطوع بأن يصقله، وسرعان ما أخذ الشاعر المتحمس يكتب المقالات لمجلة فيلاند "الرائد الألماني". وقد وجد ترفيهاً أحر مع شارلوت فون كالب، التي كان لها كشارلوته الأخرى زوج واسع الأفق "إن الناس أخذوا يهمسون في صوت عال بعض الشيء حول علاقتي بشارلوته... وقد كتب لي الهر فون كالب. وسيحضر في آخر سبتمبر، وسيؤثر وصوله كثيراً في ترتيباتي. وصداقته لي لم يطرأ عليها تغيير، وهو أمر مدهش، لأنه يحب زوجته، ويعلم بصلتي الحميمة بها... ولكنه لا يمكن أن يشك لحظة واحدة في وفائها... وما زال كما كان، الرجل الأمين الطيب القلب"(86).

وفي 27 أغسطس 1787 عرضت "دون كارلوس" أول مرة في همبورج. وكان بشيلر من الولع بفايمار ما من منعة من الذهاب لحضور العرض. وقد استقبلت تمثيليته هذه وهي أولى تمثيلياته الشعرية، بالمديح والذم كليهما لأنها استسلام لأسلوب المأساة الفرنسية، ولكن يعوزها الوحدة المسرحية التي تتطلبها قواعد أرسطو. وقد استهلت بالصراع بين فليب الثاني وابنه على حب اليزابث أميرة فالوا، ثم انتقل مركز الاهتمام في منتصف التمثيلية إلى كفاح الأراضي الواطئة للتحرر من السيادة الأسبانية ومن قسوة ألفا. وحاول شيلر أن يرسم صورة محايدة لفليب، وقد صفق القراء البروتستنت لهذا النداء الذي وجهه المركيز بوزا إلى الملك:

يا صاحب الجلالة، لقد مررت مؤخراً بأرض فلاندر وبرابانت-أقاليم كثيرة غنية موفقة، تزخر بشعب باسل عظيم أمين! قلت في نفسي أنه لشيء رائع حقاً أن يكون الإنسان أباً لشعب كهذا! ثم تعترث قدمي فوق كومة من عظام رجال محترقة! فليتك ترد لنا كل ما حرمتنا منه، وتدع السعادة تتدفق من نبع خيرك لأنك قوي كريم النفس؛ دع عقل الإنسان ينضج في ملكك الشاسع... ويصبح ملكاً حقاً بين مئات الملوك!... دع كل فرد من رعيتك يصبح ما كانه يوماً ما-الغاية والهدف لرعاية المليك واهتمامه، لا يربطه واجب غير محبة الأخ لأخيه"(87).

وهجر شيلر الدراما طويلاً رغم نجاح دون كارلوس. وكان قد كتب إلى كورنر في 1786 يقول "إن التاريخ يدخر لي مع كل يوم تال مغريات جديدة... وددت لم أدرس شيئاً غيره طوال عشر سنوات متصلة؛ أظنني كنت أصبح مخلوقاً من نوع آخر. أترى أنه ما زال أمامي متسع من الوقت للتعويض عما فقدت؟"(88) ولم يكن في استطاعته أن يعول نفسه، فضلاً عن يعول أسرة، من حصيلة مسرحيات عارضة قد تذبل وتموت موتاً مبكراً حتى بعد أن تحظى بعرض أول يصفق له النظارة. فلعل كتاباً ناجحاً في التاريخ يكسبه من الشهرة العلمية ما يكفي للظفر بأستاذية في جامعة يينا. هناك لن يبعد عن فايمار بأكثر من أربعة عشر ميلاً، وسبقي في نطاق سلطة الدوق وكرمه.

وعليه، فبعد أن فرغ من "دون كارلوس" عكف على تأليف "تاريخ سقوط الأقاليم الواطئة المتحدة". وإذ كان لا يقرأ الهولندية، فقد اعتمد على مراجع ثانوية جمع من رواياتها تصنيفاً غير ذي قيمة باقية. وانتقد كورنر المجلد الأول (1788) بأمانته المعهودة: "إن العمل الراهن، مع كل مزاياه، لا يحمل طابع تلك العبقرية التي أنت ميسر لها"(89). وتخلى شيلر عن الكتاب، ولم يصدر مجلد ثان في موضوعه. وفي 18 يوليو 1788 عاد جوته من إيطاليا، وفي سبتمبر التقى بشيلر في ضاحية رود ولشتات. وكتب شيلر إلى كورنر يقول: "إن الفكرة العظيمة التي كونتها عنه لم تنقص مثقال ذرة... ولكنني أشك في أننا سنتقارب تقارباً وثيقاً يوما ما... إنه يسبقني بمراحل... فلا يمكن أن نلتقي على الطريق. وقد سارت حياته كلها من بدايتها في اتجاه معاكس لاتجاه حياتي. وعالمه ليس عالمي. وأفكارنا في بعض النقاط متعارضة تعارضاً تاماً"(90). والحق أن الشاعرين كانا يبدوان وكأن العناية قصدت بهما أن يكره الواحد صاحبه. فجوته، ذو التسعة والثلاثين، قد وصل ونضج، أما شيلر، ذو التسعة والعشرين، فكان يتسلق ويجرب؛ ولم يتفقا إلا في الأنانية المتعالية. كان أصغرهما من غمار الشعب، رقيق الحال، يكتب الشعر القريب من الثورية؛ أما الآخر فكان غنياً، رجلاً ذا مكانة ومنصب مرموق، عضواً في المجلس الخاص يستنكر الثورة. وكان شيلر قد خرج لتوه من حركة "الزوبعية"؛ كان صوت الوجدان والعاطفة والحرية والرومانس؛ إما جوته، الذي تولع باليونان، فكان بكل ميوله مع العقل، والقصد، والنظام، والأسلوب الكلاسيكي. على أية حال ليس من الطبيعي في عالم المؤلفين أن يحب بعضهم بعضاً، فإنهم إنما يسعون للظفر بذات الجائزة.

فلما أن عاد جوته وشيلر إلى فايمار لم يكن يفصل مسكنيهما غير مسيرة قصيرة، ولكنهما لم يتصلا الواحد بالآخر. وساءت العلاقة بينهما بظهور نقد شيلر المناوئ لتمثيلية جوته "إجمونت" وقرر جوته أن أثينا الصغيرة" لا تتسع لكليهما. ففي ديسمبر 1788 زكى شيلر لكرسي في التاريخ بجامعة يينا. وقبل شيلر المنصب مسروراً وزار جوته ليشكره، ولكنه كتب إلى كورنر في 29 فبراير 1789: لو طالت عشرتي لجوته لشقيت بها. فهو لا يهش حتى لأصدق أصدقائه، ولا شيء يربطه. وأنا أومن حقاً أنه أناني من الدرجة الأولى. وقد أوتي موهبة تطويق أعناق الناس بمجاملات صغيرة وكبيرة، ولكنه يفلح دائماً في أن يظل هو نفسه حراً... وأنا أنظر إليه على أنه تجسيد لنظام مدروس جيداً من الأنانية التي لا حد لها. وينبغي ألا يطيق الناس مخلوقاً كهذا بقربهم. وأنا أبغضه لهذا السبب، وإن لم أملك إلا الإعجاب بعقله، والتفكير فيه بسمو. لقد بعث في مزيجاً عجيباً من البغض والحب"(91).

وفي 11 مايو 1789 تسلم شيلر عمله في يينا، وفي 26 مايو ألقى "خطاب الافتتاح" وموضوعه "ما التاريخ العالمي وما الهدف من دراسته"؟ وإذ كان الدخول مجاناً، فقد تبين أن الحضور يفوق كثيراً ما تتسع له الحجرة المخصصة، وانتقل الأستاذ مع جمهوره في هرج ومرج إلى قاعة في الطرف الآخر من المدينة. وقد لقيت هذه المحاضرة ثناءً مستطاباً، "فقد غنى لي الطلبة سريناداً في تلك الليلة وهتفوا لي ثلاثاً(92). غير أن عدد من سجلوا أسماءهم لحضور المحاضرات كان صغيراً-وكان الحضور نظير رسم يدفعه الطالب، ومن ثم كان دخل شيلر من التدريس ضئيلاً.

فأضاف إليه بالكتابة. وفي 1789-91 أصدر على ثلاث دفعات "تاريخ حرب الثلاثين". هنا وجد اليسر على الأقل من حيث اللغة، وإن منعته مضايقات شديدة مرة أخرى من الرجوع إلى المصادر الأصلية، وشوه حبه لإصدار الأحكام والتفلسف القصة وقطعها. ومع ذلك فقد رحب فيلاند بالكتاب دليلاً على "قدرة شيلر على أن يرتفع إلى مستوى هيوم وروبرتسن وجبون"(93). وبيعت سبعة آلاف نسخة من المجلد الأول في السنة الأولى لصدوره. وشعر شيلر الآن أن في استطاعته إشباع شوقه إلى بيت خاص به، وإلى امرأة تمنحه حبها ورعايتها. وكان قد أتيح له لمحة خاطفة لشارلوته وكارولينة فون لنجفيلد في مانهايم عام 1784. ثم رآهما ثانية في رودولشتات في 1787، وكانت "لوته" تعيش هناك مع أمها، أما كارولينة، الشقية في زواجها، فكانت تسكن في البيت المجاور. وكتب شيلر إلى كورنر يقول:(94) "إنهما لذيذتان رغم أنهما غير جميلتين، وهما ترانني غاية السرور. وهما مطلعتان على أدب العصر، وتتوفر الأدلة على تمتعهما بتعليم راق جداً. وهما عازفتان ماهرتان على البيانو". وأنكرت السيدة لنجفيلد فكرة زواج ابنتها عن شاعر مملق، ولكن كارل أوجست منحه بمعاش صغير قدره مائتا طالر، وأنعم عليه دوق ساكسي-ميننجن بشعار النبالة. وقد نبه لوته إلى أن فيه عيوباً كثيرة. فقالت أنها لحظتها، ولكنها أضافت "إن الحب حب الناس كما نجدهم، وقبول مواطن ضعفهم إن وجدت بقلب محب".(95) وزفا في 22 فبراير 1790، واتخذا منزلاً متواضعاً في يينا. وأتته لوته بدخلها البالغ مائتي طالر في العام، وأنجبت له أربعة أطفال، وأثبتت خلال شدائده كلها أنها الزوجة الصابرة الحنون. كتب يقول "إن قلبي يسبح في السعادة، وعقلي يستمد قوة وعافية جديدتين"(96).

وعكف على عمله بهمة، يعد محاضرتين كل أسبوع، ويكتب المقالات، والقصائد، والتاريخ. وظل شهوراً يكد ويكدح أربع عشرة ساعة في اليوم(97). وفي يناير 1791 أصيب بنوبتين من "الحمى النزلية" جلبتا معهما آلاماً في المعدة وبصقاً للدم. وظل طريح الفراش ثمانية أيام ومعدته ترفض كل طعام. وأعان الطلبة لوته على الهناية به و "تنافسوا أيهم يسهر معي.... وبعث إلى الدوق بست زجاجات من نبيذ ماديرا المعتق الذي أفادني مع بعض النبيذ المجري"(98). وفي شهر مايو أصابه "تشنج رهيب، مصحوب بأعراض الاختناق، فتراءى لي أن ساعتي قد دنت... وودعت أحبائي، وظننتني راحلاً عن الدنيا في أي لحظة... وخففت عني كثيراً جرعات قوية من الأفيون والكافور والمسك واستعمال عوامل التبثر"(99).

وأزعج أصحابه شائعة كاذبة بموته، وصلت حتى كوبنهاجن. وهناك-بناء على اقتراحين من كارل راينهولت ويينز باجيزن-وهما نبيلان دانمركيان-عرض الدوق فردريش كوستيان أمير هولشنين-أوجستنبورج واللونت إرنست فون شيملمان على شيلر منحة سنوية قدرها ألف طالر على مدى ثلاث سنين. فقبلها شاكراً. وأعفته الجامعة من التدريس ولكنه ظل يحاضر فرقة خاصة صغيرة. ثم خصص بعض فراغه الجديد، بناء على اقتراح من راينهولت، لدراسة فلسفة كانط التي قبلها كاملة تقريباً، وهو ما أضحك جوته وأثار اشمئزاز هردر، وربما ألحق بعض الأذى بشعر شيلر. ونشر الآن (1793) مقاله الطويل "في الكياسة والكرامة" الذي استهل التربية الرومانسية "للروح الجميلة". وقد عرف هذه الروح الجميلة بأنها تلك التي "ينسجم فيها العقل والحواس، والواجب والميل، وتجد هذه كلها التعبير الخارجي في الكياسة"(100). ولا بد أن المتبرعين الكوبنهاجيين قد هالهم أن يتلقوا، كبعض الرد على منحتهم، كتيباً عنوانه "رسائل في التربية الجمالية (الاستطيقية) للإنسان" (1793-94). وقد بدأ شيلر بفكرة كانط على الإحساس بالجمال كتأمل نزيه للصور المتناسقة، ثم زعم (مع شافتسبري) أن "الشعور الذي ينميه الجميل يهذب السلوك" ويصبح الحس الجمالي هو والفضيلة واحداً. وأنه لعزاء أن نقرأ، في هذا الرأي المنبعث من أيام فايمار المزدهرة أن شيلر (كجوته) رأى أن جيله منحل، غارق في انحطاط خلق سحيق"(101).

فلما عاد من الفلسفة إلى الشعر وجد عناء في استحضار "تلك الجرأة والنار المضطرمة التي كنت أملكها من قبل،.. لقد أفسدني الجدل النقدي"(102). ولكنه أصر على أن "الشاعر هو الإنسان الأصيل الوحيد، وليس أفضل الفلاسفة إلا كاريكاتوراً إذا قيس به"(103)، ورفع وظيفة الشاعر في تعليم البشر والتسامي بهم إلى مستوى الإلهام السماوي. وقد وصف في قصيدة غنائية طويلة "الفنانون 1789" الشعراء والفنانين بأنهم يرشدون النوع الإنساني إلى وحدة الجمال مع الفضيلة والحق. وفي قصيدة أخرى "آلهة اليونان" (1788) امتدح اليونان على حساسيتهم الجمالية وإبداعاتهم الفنية، وزعم، في إبهام حذر، إن العالم بات كئيباً قبيحاً منذ حلت المسيحية محل الهيلينية. وكان واقعاً الآن تحت سحر جوته كما وقع جوته من قبل تحت سحر فنكلمان.

ولعل تصوير شيلر وجوته الرومانسي لليونان القديمة كان هروباً من المسيحية. فشيلر ينتمي إلى التنوير رغم بعض الفقرات الورعة، شأنه في ذلك شأن جوته؛ وقد قبل إيمان القرن الثامن عشر بالخلاص عن طريق العقل البشري لا النعمة الإلهية. واحتفظ باعتقاد ربوبي في الله-شخصي في الشعر فقط-وخلود غامض. ورفض الكنائس كلها البروتستنتية منها والكاثوليكية. ولم يكن المواعظ حتى مواعظ هردر. وقد كتب بيتين شهيرين في إبجرام عنوانه (عقيدتي) يقول فيهما:

أي دين أعترف به؟ ولا واحد من كل الأديان التي تذكرها لي. ولم؟ بسبب الدين(104). وكتب إلى جوته في 9 يوليو 1796 يقول "إن الطبيعة السليمة الجميلة-كما تقول أنت نفسك-ليست في حاجة إلى ناموس أخلاقي، إلا إلى القانون لطبيعتها، ولا إلى ميتافيزيقا سياسية. وكان في وسعك أن تضيف أيضاً أنها ليست في حاجة إلى إله، ولا فكرة خلود تدعم وتصون بها ذاتها". ومع ذلك كان فيه عوامل من الخيال والرقة ردته صوب المسيحية:

"إنني أجد أن المسيحية تحتوي فعلاً على الأصول الأولي لكل ما هو أسمى وأنبل؛ وصورها الخارجية المختلفة لا تبدو لنا بغيضة منفرة إلا لأنها تعبيرات سيئة عن الأسمى.. ولم يشدد أحد تشديداً كافياً على ما يمكن أن يكون هذا الدين لعقل جميل أو على الأصح ما يمكن أن يفهمه منه عقل جميل. وهذا يفسر نجاح هذا الدين نجاحاً كبيراً مع الطبائع الأنثوية، وأنه في النساء فقط مكن احتماله إطلاقاً"(105).

ولم يكن شيلر كجوته مركباً من حيث بدنه للوثنية الخالصة. كان وجهه مليحاً ولكنه شاحب، وقوامه فارعاً ولكنه نحيل هش. وكان يخشى تقلبات الجو اليومية ويؤثر القعود في حجرته يدخن ويتنشق. وكان يقابل بينه وبين جوته مقابلة الفكرة ضد الطبيعة، والخيال ضد العقل، والعاطفة ضد الفكر الموضوعي(106). وكان يجمع بين الحياء والكبرياء، يخشى الخصومة ولكنه يرد دائماً على الهجوم؛ سريع الغضب فاقد الصبر أحياناً(108). وكان يميل إلى استخراج العبرة عن كل شيء، وإلى الضرب على وتر مثالي عال. ومما يريح نفوسنا أن نراه يستمتع بغراميات قصة ديدرو "الحلي الواشية"(109). وقد أجاد تحليل موهبته في خطاب مبكر إلى جوته:

"لقد غلبني عقل الشاعر عموماً حين كان ينبغي أن أفلسف، وغلبني عقل الفيلسوف حين كنت أريد الشعر. وحتى الآن كثيراً ما يحدث أن يقتحم الخيال تجريداتي، والفكر الهادئ نتاجي الشعري. ولو استطعت السيطرة على هاتين القوتين بحيث أعين لكل منهما حدودها (كما كان جوته يفعل) لبقي لدي أمل في التطلع إلى مصير سعيد. ولكن حين بدأت أعرف طاقاتي المعنوية وأستخدمها على الوجه الصحيح، هاجمني المرض للأسف وهددني بتقويض قوالي البدنية"(110).

وعاوده المرض بعنف في ديسمبر 1793؛ ثم تماثل للشفاء، ولكن إحساسه بأن لا شفاء له منه وأنه يجب أن يتوقع نوبات راجعة أورثه الكآبة. ففي 10 ديسمبر كتب إلى كورنر يقول "إنني أكافح هذا الشعور بكل قوى عقلي... ولكنني أصد دائماً... فإن غموض مستقبلي؛... والشكوك في عبقريتي التي لا يدعمها ولا يشجعها الاتصال بغيري، والافتقار التام لذلك الحديث العقلي الذي أصبح ضرورة لا غنى لي عنها"؛ تلك كانت الأفكار الملازمة لمحنته الجسدية. وراح يتطلع في تشوق، من يينا لفيمار، إلى جوته الذي ينعم بعافية يحسد عليها، ذلك "العقل السليم في الجسم السليم" وأحس شيلر أنه هناك يوجد الرجل الذي يستطيع أن يعطيه الحافز والدعم، لو أن الجليد القائم بينهما ذاب، وسقط حاجز الأميال الأربعة عشرة الذي يفصل بينهما!


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

7- شيلر وجوته 1794-1805

وسقط الحاجز لحظة حين حضر الرجلان في يونيو 1794 جلسة عقدتها جمعية التاريخ الطبيعي في يينا. فلما التقى شيلر بجوته وهما يغادران القاعة، قال معلقاً أن العينات البيولوجية المعروضة في المؤتمر تعوزها الحياة، ولا يمكنها أن تعين مشاهدها حقاً على فهم الطبيعة. ووافق جوته مشدداً، وتجاذبا الحديث حتى بلغا بيت شيلر. وقال جوته فيما بعد مستعيداً ذكرى اللقاء "وأغراني الحديث بالدخول معه وشرحت له... "تحور النباتات"-وهي مقالة زعم فيها جوته أن جميع النباتات تنويعات من نمط أولي واحد. وأن كل أجزاء النبات تقريباً تنويعات أو تطويران للورقة. "واستمع... إلى هذا كله بكثير من الاهتمام وبفهم واضح، ولكن ما إن فرغت حتى هز رأسه وقال لي "ليست هذه تجربة، إنما هي فكرة"، أي أنها نظرية لم تثبتها الملاحظة أو الاختبار. وغاظ التعليق جوته، ولكنه رأى أن لشيلر عقلاً مستقلاً، فازداد احترامه لها. أما زوجة شيلر "التي أحببتها وقدرتها منذ طفولتها، فقد بذلت قصاراها لتوثق تفاهمنا المتبادل"(111).

وفي مايو 1794 كان شيلر قد وقع عقداً بالإشراف على تحرير مجلة أدبية شهيرة "تسمى داي هورين والهوراي" في الميتولوجيا الإغريقية ربات الفصول. وكان يأمل أن يجند للمجلة كانط، وفشته، وكلوبشتوك، وهردر، وياكوبي، وياجيزين، وكورنر، وراينهاولت، وفلهلم فون همبولت، وأوجست فلهلم فون شليجل، ثم جوته-أفضل صيد يطمع في اقتناصه. وفي 3 يونيو أرسل إلى فايمار رسالة موجهة إلى "السيد الكريم المحتد، الرفيع المقام، المكرم، عضو المجلس الخاص"، تحتوي على نشرة تمهيدية للمجلة المقترحة، وأضاف: "أن الورقة المرافقة تعرب عن رغبة عدد من الرجال الذين يقدرونك تقديراً بغير حدود في أن تشرف الدورية بمقالات من قلمك، يجمع الكل بصوت واحد على عظم قيمتها. ونحن نشعر يا صاحب السعادة بأن موافقتك على دعم هذا المشروع ستكون ضماناً لنجاحه"(112). ورد جوته بأنه يسره المشاركة بمقالاته، وأنه "على ثقة من أن الاتصال الأوثق بالرجال الأصلاء الذين يؤلفون لجنتكم سيبعث حياة جديدة في كثير مما هو راكد الآن في باطني(113).

وهكذا بدأ تراسل يعد من ذخائر تاريخ الأدب، وصداقة اتصلت إحدى عشرة سنة-حتى موت شيلر-فيها من تبادل الاحترام والعون ما ينبغي أن يدخل في تقديرنا للنوع الإنساني. روربم كان أكثر هذه الرسائل الباقية كشفاً-وعددها 999-هي الرسالة الرابعة (23 أغسطس 1794)، التي حلل فيها شيلر-بعد عدة لقاءات مع جوته جمعت بين المجاملة والصراحة وبين التواضع والاعتزاز بالنفس، الفوارق بين عقليهما. قال:

"إن أحاديثي الأخيرة معك حركت كل ذخيرة أملكها من الأفكار... فكثير من الأشياء التي لم أستطع أن أصل فيها إلى تفاهم خاص مع نفسي تلقت ضوءاً جديداً غير متوقع من تأملي لعقلك (فهكذا أسمي التأثير العام لأفكارك على).. لقد أعوزني التجسيد لعدد من أفكاري التأملية، وأنت وضعتني على الطريق المفضي إليه. وأسلوبك الهادئ الواضح في النظر إلى الأشياء يعصمك من التيه في الطرق الجانبية التي كثيراً ما يشرد بي فيها تأملي وخيالي المستبد. إن حدسك الصائب يدرك كل الأشياء، ويدركها على نحو أكمل كثيراً مما ينشده المرء في عناء بالتحليل... وعقول كعقلك قل أن تعرف إلى أي حد بعيد نفذت وتغلغلت، وأنه ما من داع يذكر يدعوها للاستعارة من الفلسفة، التي لا تستطيع في الواقع إلا أن تتعلم منها... ومع أنني فعلت هذا على بعد، إلا أنني طالما راقبت المسار الذي سلك فيه عقلك.. أنت تبحث عن الضروري في الطبيعة، ولكنك... تنظر إلى الطبيعة بوصفها كلا حين تحاول جعل الضوء يلقي على أجزائها الفردية، أنت تبحث عن تفسير الفرد في جماع مظاهرها المتنوعة(114).

أما رد جوته (27 أغسطس) فقد تجنب في ذكاء تحليل عقل شيلر:

"ما كنت لأتلقى بمناسبة عيد ميلادي الذي وقع هذا الأسبوع هدية أجمل من رسالتك التي تلخص فيها حياتي بيد ودود، وتشجعني فيها بتعاطفك على استخدام قدراتي استخداماً أكثر مثابرة ونشاطاً. وسيكون من دواعي سروري أن أكشف لك حين تتاح لي الفرصة ما كانه حديثك لي، وكيف أنني أنا أيضاً أعد تلك الأيام مرحلة متميزة في حياتي، لأنه يبدو لي أننا لا نملك بعد هذا اللقاء غير المتوقع إلا أن نطوف في دروب الحياة معاً". وتابع جوته هذه الرسالة (4 سبتمبر) بدعوة لشيلر لحضر إلى فايمار وينفق معه أياماً فيها. "سيكون فلي استطاعتك أن تشرع في أي عمل تشاء دون أن يزعجك أحد. وسنتجاذب الحديث معاً في أوقات ملائمة. وفي ظني أننا لن نفترق دون أن تحقق بعض الكسب. وعليك أن تعيش هنا تماماً كما تحب، وكما لو كنت في بيتك ما أمكن ذلك". ولم يتردد شيلر في القبول، ولكنه حذر جوته قائلاً "إن تشنجات الربو التي أعاني منها تلزمني الفراش طوال الصباح لأنها لا تسمح لي بأي راحة في الليل". وهكذا كان شيلر ضيف جوته وعليله تقريباً من 14 إلى 28 سبتمبر. وأعتني أكبر الرجلين بالشاعر العليل عناية رفيقه، وحماه من المضايقة، وبذل له النصح في أمر غذائه، وعلمه حب الهواء الطلق. كتب شيلر (29 سبتمبر) بعد عودته إلى يينا يقول "أجدني في بيتي مرة أخرى، ولكن أفكاري لا تزال في فايمار. ولا بد لي من وقت طويل أحل فيه خيوط كل الأفكار التي أيقظتها في". ثم (8 أكتوبر)، ناشده بما عهد فيه من تحمس "يبدو لي أنه من الضروري أن نصل فوراً إلى قدر من التفاهم الواضح حول أفكارنا عن الجميل".

ثم تلا ذلك شهور ثلاثة من التحضير للعدد الأول من مجلة "هورين" الذي صدر في 24 يناير 1792، والثاني في أول مارس، والأعداد الباقية شهرياً على مدى ثلاث سنين، وكتب جوته من فايمار (18 مارس) يقول "إن الناس يتهافتون عليها، ويتخاطفون أعدادها، وما كنا لنطمع في أكثر من ذلك لهذه البداية". وفي 10 أبريل كتب شيلر لجوته يقول "لقد كتب لي كانط خطاباً ودياً جداً، ولكنه طلب مهلة لإرسال مقالاته... ويسرني أننا أغرينا الطائر العجوز بالانضمام إلينا." وطلب جوته أن تنشر مقالاته غفلاً من التوقيع، لأنها اشتملت على عدد من "مراثيه الرومانية"، وكان عليما بأن نزعتها الشيقة القوية ستبدو غير لائقة بعضو في المجلس الخاص.

وفي حماسة النجاح المتهورة أقنع شيلر جوته بأن يشترك معه في إصدار دورية أخرى "التقويم السنوي للشعر" صدرت كل سنة من 1796 إلى 1800. وأطرف ما احتوته هو الابجرامات المسماة Xenien والتي صاغها الشاعران على غرار ابجرامات مارتيال Xenia (اكسينا) التي كانت تكتب هدايا للضيوف. وقد وصف شيلر المشروع لكرونر فقال: "إن العملية كلها تجميع لأبجرامات، كل منها مقطع شعري من بيتين. وهي في أكثرها هجائيات عنيفة شيطانية، موجهة بصفة خاصة ضد المؤلفين وأعمالهم، يتخللها هنا وهناك ومضات خاطفة من الأفكار الشعرية أو الفلسفية. فسيكون هناك عدد لا يقل عن ستمائة من هذه المقطوعات"(115). وكان جوته قد اقترح هذه الفكرة ذريعة لرد اللطمات إلى نقادهما، وللسخرية من المؤلفين المغرورين وأصحاب الميول البورجوازية، ولتنبيه جمهرة القراء الألمان إلى الاهتمام بالأدب اهتماماً أشد. وعزماً على أن يطلقنا هذه "الهدايا" على معسكر الرجعيين "كالثعالب المشتعلة الذيول".(116) وكانت الأبجرامات بلا توقيع، وكان بعضها نتاجاً مشتركاً للمتآمرين كليهما. وإذ كان الكثير من هذه الذيول المشتعلة موجهاً ضد مؤلفين طواهم النسيان أو جدليات لا يذكرها الناس الآن، فإن الزمن أطفأ نارها، ولكن واحداً منها بقلم جوته يستحق منا التنويه الخاص:

"جاهد دائماً في سبيل الكل، وإذا لم تستطع أنت نفسك أن تصبح كلاً، فاربط نفسك إلى كل ما يوصفك جزءاً تابعاً".

وهناك إبجرام آخر يعزى عادة إلى شيلر يفصل الفكرة: "أتخاف الموت؟ أتريد الحياة دون أن تموت؟ إذن عش في الكل!

فسوف يبقى بعد أن تموت بزمن طويل." وقد جر عليهما الجزء الهجائي من الابجرامات هجمات مضادة آلمت شيلر وأضحكت جوته. ونصح جوته شيلر بأن يجعل من عمله الرد الوحيد على هذا الهجوم. "بعد مغامرتنا المجنونة في الابجرامات، علينا أن نحرص على العكوف على أعمال الفن العظيمة الجليلة دون غيرها، وأن نخزى جميع خصومنا بتحويل طبائعنا المتقبلة إلى صور نبيلة"(117).

وهكذا كان، ففي سني صداقتهما النامية تلك كتب جوته وشيلر بعضاً من أروع قصائدهما: فكتب جوته "عروس كورنت" و "الإله والبايدير"؛ وكتب شيلر "المسيرة" (1795) و "كراكي أبيكوس" (1797) و "أنشودة الناقوس" (1800). وأضاف شيلر مقالاً كبيراً في "الشعر الساذج العاطفي" (1795)-وطلع جوته على الناس بقصته "تلمذة فلهلم مايستر" (1796).

وقد عني شيلر بالشعر الساذج العاطفي، ذلك الشعر المنبعث عن الإدراك الحسي الموضوعي مقابل الشعر الذي ينشئه الوجدان التأملي؛ وكان في طويته يقارن بين جوته وشيلر. أما الشاعر "الساذج" فليس بسيطاً ولا سطحياً ولا مخدوعاً، إنما هو شاعر توافق في يسر مع العالم الخارجي بحيث لا يشعر بأي تعارض بينه وبين الطبيعة، بل يجد طريقه إلى الواقع بالحدس المباشر غير المتردد: ويستشهد شيلر بهومر وشكسبير مثالين على فكرته. وكلما أصبحت المدنية أكثر تعقيداً وافتعالاً فقد الشعر هذه المباشرة الموضوعية والانسجام الذاتي؛ ودخل الصراع النفس، وكان على الشاعر أن يقتنص من جديد بالخيال والوجدان هذا التوافق والاتحاد بين النفس والعالم-كمثل أعلى يتذكره أو يتطلع إلى تحقيقه؛ ويغدو الشعر عندئذ تأملياً، يلبد الفكر سماءه(118). وكان شيلر يعتقد أن معظم الشعر اليوناني من النوع الساذج أو المباشر، ومعظم الشعر الحديث حصيلة التنافر والتفكك والشك. والشاعر المثالي هو الذي يصهر المدخلين جميعاً-البسيط والتأملي-في رؤية واحدة وصورة شعرية واحدة. وقد ذكر جوته فيما بعد أن هذا المقال أصبح مصدراً للجدل بين الأدب والفن الكلاسيكيين والرومانتيكيين.

ونمو فكرة "تلمذة فلهلم مايستر" من بدايتها إلى تمام تنفيذها يوضح منهج جوته في الخلق. فقد تصور القصة في 1777، وأتم الكتاب الأول في 1778، تم نحاه جانباً، ولم يكمل الكتاب الثاني حتى يوليو 1782. ثم عكف على الكتاب الثالث حتى نوفمبر من ذلك العام، وعلى الرابع حتى نوفمبر 1783؛ أما الكتابان الخامس والسادس فقد امتد بهما الزمن ثلاث سنين أخرى. وقد أطلق على الكتب الستة "انطلاق فلهلم مايستر المثير" وقرأ أجزاء منها على بعض أصحابه، ثم طرحها جانباً. وعاد إلى القصة في 1791 بإلحاح من هردر وآنا آماليا، وأضاف إليها كتابين في 1794، ثم عرض المخطوط المتعاظم على شيلر، الذي رد بانتقادات واقتراحات وتشجيع كلما وافاه المؤلف بصفحات جديدة، وكأنها صورة لقابلة تعين الأم على ولادة فات أوانها. وأخيراً، في 1796، دفع جوته بالمؤلف كله إلى المطبعة. لا عجب إذن أن كانت الحصيلة النهائية مشوهة تشويهاً طفيفاً، ضعيفة البناء، "دهنية" القوام، مهوشة، ممتازة في أجزاء فقط، وفي عكسها لتردد جوته بين الاهتمامات المتضاربة، والمثل العليا الغامضة. لقد كان الحسم والثقة بالنفس، اللذان نعته بهما شيلر، هما الستار المتكبر للتذبذب والصراع الداخليين.

وقد عبر الكتاب عن فترة التلمذة في النقابات الحرفية الألمانية، وخلال زمن الوصاية هذا أصبح فلهلم "معلماً" فموضوع القصة المطوف إذن هو تلمذة فلهلم البطيئة الأليمة في نقابة الحياة. وبسبب مسارح العرائس إلى أحبها جوته طفلا، واهتمامه المتصل بالمسرح، ربط القصة بفرقة من الممثلين تجتاز مدنا كثيرة وتتقلب عليها عشرات الغير دروسا في الحياة وصورا لأساليب العيش الألمانية. واد كان وفيا لعدم وفاته فقد أدخل بطله إلى مسرح الأحداث بهجراته خليلته ماريانه. وفلهلم ليس بالشخصية الفتانة. فهو ترك نفسه تساق من موقف لآخر أو من فكرة لأخرى على هوى الظروف أو بقوة الشخصية المفروضة عليه، والمرأة هي التي تقوم بالمبادرة في غرامياته. ولد برجوازياً، ومن ثم فهو يتعثر إعجاباً بالرجال النبلاء المولد، ويأمل في تواضع أنهم في يوم ما سيعترفون بأرستقراطية العقل. أما فيلينه فأكثر جاذبيته منه: فهي ممثلة جميلة تثب بخفة من عشق إلى عشق، ولكنها تجمل تطويفها الغرامي بمرح معد وعدم وعي بالإثم يحلها من خطيئتها. أما مينون الصغيرة ففريدة في بابها، تتبع أباها الشيخ في إحساس بالواجب وهو يعزف عزفاً غير بارع على قيثارته في جولات يجمع فيها الدراهم. ويقول جوته في وصفها أنها تتكلم "ألمانية ركيكة جداً"(119). ولكنه يجري على لسانك تلك الأغنية الرائعة "أتعرف ذلك البلد". وهي تقع في غرام المراهقة بفلهلم الذي يحبها حبه لطفلة، وتموت هي حزناً حين تراه بين ذراعي تريزاً. وقد التقطها امبرواز توما من بين هذه الصفحات الثمانمائة ليجعل منها أوبرا حزينة ممتعة(1866).

وامتد شيلر رصانة أسلوب القصة وصفاءه، وما وصف في الفرقة التمثيلية الجوالة من صدق ومطابقة للحياة، ولكنه أشار إلى تناقضات في الترتيب الزمني، وشبه استحالات سيكولوجية، وانتهاكات للذوق، وأخطاء في التصوير والتصميم"(120). واقترح تغييرات في الحبكة، وأولى بأفكاره على النحو الذي ينبغي أن تختم عليه القصة(121). وقال له جوته مؤكداً، "إنني بالتأكيد سامتثل لرغباتك المنصفة ما استطعت(122). ولكنه اعترف لأكرمان، بعد ثلاثة وثلاثين عاماً، بأنه بذل قصاراه ليحمي قصته من تأثير شيلر(123). وكان نقاد آخرون أقل تعاطفاً؛ فوصف أحدهم الكتاب بأنه ماخور متجول، وشكت شارلوتة فون شتين قائلة "حين يتناول جوته العواطف السامية يقذفها دائماً ببعض الأقذار، وكأنما يريد أن ينكر على الطبيعة البشرية أي طموح إلى القداسة"(124). على أن القصة لم تستحق هذه الانتقادات العشوائية، ففيها الكثير من الصفحات السارة، وما زال في استطاعتها أن تثير شوق القراء الذين تححروا من ضجيج العالم وصخبه.

وفي 23 مارس 1796 ذهب شيلر إلى فايمار مرة أخرى ضيفاً على جوته. هناك عملاً معه في خدمة المسرح. وكان جوته مديراً صارماً، يختار التمثيليات المراد عرضها، ويدرب الممثلينز "فاسبعد كل ما كان كئيباً أو ضعيفاً أو باكياً أو هش العاطفة، كما استبعد تماماً كل ما كان مخيفاً أو مرعباً أو نابياً"(125). أما الجمهور فاقتصر على البلاط، إلا حين يدعى بعض الطلاب من يينا. وقد علق أوجست فون شليجل على هذا الوضع تعليقاً لاذعاً "أن لألمانيا مسرحين قوميين-فيينا بجمهور من خمسين ألف مشاهد، وفيمار من خمسين"(126). وعاد شيلر إلى يينا في 12 أبريل، وقد حفزه اتصاله المجدد بالمسرح لينصرف عن التاريخ والفلسفة والشعر العارض إلى الدراما. ولقد طالما فكر من قبل في تأليف مسرحية عن فالشتين، فحثه جوته على الشروع فيها. وفي نوفمبر ذهب جوته إلى يينا، وعاش حيناً في اتصال يومي بشيلر. فلما عاد جوته إلى فيمار كتب إليه يقول "لا يفتك أن تستغل أفضل أوقاتك، حتى تمضي قدماً بمأساتك، ليتسنى لنا أن نشرع في مناقشتها"(127).

وبينما كان شيلر عاكفاً على تأليف "فالنشتين، شحذ روح المنافسة في جوته نجاح "لويزة" (1795) التي ألفها يوهان هينريش فوس قصة ريفية شعرية تمثل الحياة والعواطف الألمانية-فجرب هذا اللون المحبب، ونشر في 1798-"هيرمان ودوروتيا". أما هيرمان فهو الابن القوي السليم، الخجول الهادئ، لأب صفراوي المزاج وأم حنون يديران "الخان الذهبي" ومزرعة واسعة في قرية قريبة من الراين. ويصل إلى علمهم أن مئات من اللاجئين قادمون من بلدة على التخوم استولى عليها الفرنسيون، فتجهز الأسرة رزماً من الثياب والطعام، يحملها هيرمان إلى اللاجئين. ويجد بينهم صبية لها "نهدان بارزان" و "كاحلان رائعان"(128) تقدم للاجئين العون وأسباب الراحة. فيهيم بها، وبعد شدائد لا بد منها، يصطحبها إلى بيته ويقدمها إلى أبويه بوصفها عروسه. ويروي الشاعر القصة في أبيات متدفقة من البحر السداسي التفاعيل، وصور الحياة الريفية الموجزة تضفي رواء على القصة، وقد أبهجت النداءات لطرد الغزاة الفرنسيين الألمان المتحمسين لوطنهم والذين وجدوا مسرحيتي جوته "إفجيني" و "تاسو" غريبتين عويصتين. وأكسبت الملحمة الصغيرة شعبية جديدة لمؤلف لم يظفر منذ "فرتر" إلا بقلة من القراء خارج دوقية ساكسي فايمار.

أما شيلر فكان نجمه في صعود من 1798 إلى 1800. ففي 28 نوفمبر 1796 كتب إلى كورنر يقول "ما زلت أطيل الفكر جاداً في "فالنشتين"، ولكن العمل التعس ما زال أمامي بلا شكل ولا نهاية. "وقد بدأ المسرحية نثراً، ثم نحاها، ثم استأنفها شعراً. وكان على إلمام بالمدة من الدراسات التي قام بها ليؤلف كتابه "تاريخ حرب الثلاثين"، ولكنها بلغت من الوفرة والتعقيد في الشخوص والأحداث مبلغاً أكرهه على الإقلاع عن محاولة ضغطها في خمسة فصول. وقرر أن يقدم للدراما بتمهيد (برولوج) من فصل واحد سمته "معسكر فالنشتين"، وأن يقسم الباقي إلى تمثيليتين. وشرحت الأولى مؤامرة خلع القائد المتمرد، ووازنتها بغرام ملتهب بين ابنة فالنشتين وابن زعيم في المؤامرة. وإما الدراما النهائية والأساسية فستكون "موت فالنشتين". فلما قرأ جوحه التمهيد "راعه التصوير الواقعي لمعسكر الجيش، والإعداد البارع للتطورات اللاحقة، فأصر على عرض "معسكر فالنشتين" على مسرح فايمار (12 أكتوبر 1798) قبل أن يكتمل القسم الأول؛ وربما كانت هذه الطريقة ذكية لإلزام الشاعر بالعكوف على مهمته. وفي مطالع 1799 ذهب شيلر إلى فايمار لإخراج التمثيلية الأولى، فعرضت أول مرة في 30 يناير ولقيت قبولاً حسناً. وعاد إلى يينا وراح يعكف بشكل محموم على "موت فالنشتين". ويكشف خطاب في 19 مارس 1796 عن الحالة النفسية لكاتب خرج لتوه من أتون الخلق "لقد طالما روعتني اللحظة التي سأفرغ فيها من عملي، مع شدة رغبتي في مجيء تلك اللحظة؛ والواقع أنني أشعر بأن حريتي الراهنة أسوأ من حالة العبودية التي كنت أعانيها إلى الآن. فقد ذهب الآن الجمهور الذي اجتذبني حتى الآن وألزمني هذا الواجب، وأنا أحس كأنني معلق في الهواء إلى ما لا نهاية".

وجاء ما يكفي من الإثارة مع التدريبات والعرض الأول (20 أبريل 1799) لموت فالنشتين. وكان نجاحها كاملاً. وحتى جمهور فايمار النقاد أحس أنه شهد رائعة من روائع العرض الدرامي. ووصل شيلر الآن إلى قمة تطوره. لقد قصر الخطب وكثف الحركة، ورسم كل الشخوص الهامة بحيوية وقوة، وجمع كل خيوط الحبكة معاً في الخاتمة الفاجعة-وهي ذلك الموت المخزي لرجل عظيم دمره الطمع والكبرياء اللذان لا حدود لهما. وأحس شيلر أن في وسعه الآن أن يقف على قدم المساواة مع جوته(129)، وكان على حق في مضمار الدراما. وأضاف الدوق مائتي طالر لمعاش شيلر، ربما بناء على اقتراح من جوته، ودعاه للإقامة في فيايمار. وهكذا نتقلت الأسرة في 3 ديسمبر 1799 إلى بيت قريب جداً من بيت جوته، حتى أن الشاعرين ظلا حيناً يلتقيان كل يوم(130).

وكان شيلر خلال ذلك قد زج بنفسه في مسرحية أخرى بعد أن حفزه انتصاره. كتب إلى كورنر في 8 مايو 1799 يقول "شكراً لله! لقد وقعت وقعت فعلاً على موضوع جديد لمأساة" ودرس لهذه التمثيلية "ماريا ستيوارت" الخلفية التاريخية، ولكن لم يدع أنه يكتب التاريخ، فقد نوى أن يكتب تمثيلية يستخدم فيها التاريخ مادة وخلفية. فرتب من جديد الأحداث والتسلسل الزمني ليخدما الاتساق والتأثير الدراميين؛ وأكد على العناصر غير السارة في خلق اليزابث، وجعل من ماري بطلة مبرأة من كل دنس تقريباً، ثم أتى بالملكتين وجهاً لوجه في مواجهة درامية. والتاريخ لا يعرف هذا اللقاء، ولكن المشهد من أقوى المشاهد في أدب المسرح. فلما أن عرضت في فايمار في 14 يونيو 1800 انتشى شيلر مرة أخرى بنجاحه. وما وافى شهر يوليو حتى كان عاكفاً على تمثيلية "عذراء أورليان". هنا أيضاً عدل التاريخ ليخدم هدفه: فبدلاً من حرق العذراء صور جان دارك هاربة من آسريها الإنجليز، مندفعة إلى المعركة لتنقذ ملكها، لاقية حتفها وهي منتصرة على ساحة القتال. وكان العرض الأول في ليبزج (18 سبتمبر 1801) أعظم انتصار ظفر به شيلر طوال حياته.

أكان جوته يغار من صعود نجم صديقه فجأة على المسرح الألماني؟ لقد اغتبط بهذا الصعود، وظل بعد مضي ثمانية وعشرين عاماً يحكم على "موت فالنشتين" بأنها "عظيمة حتى أنك لا تجد لها نظيراً من نوعها"(131). على أنه لم يرفع قدر منافسه في الشعر إلى المقام الذي رفعه إليه في الدراما، فقد أحس أن شيلر كدر صفاء شعره بالفلسفة، وأنه لم يملك قط ناصية موسيقى الشعر تماماً(132). وحين أراد بعض المعجبين بشيلر أن يقدموا على مسرح فايمار تعبيراً عن تقديرهم له، منع جوته هذا العرض بحجة أن فيه غلواً في التباهي(133). وفي يوليو 1800 ذهب إلى يينا للخلوة والدرس، بينما ظل شيلر في فايمار، ولكن في 23 نوفمبر كان شيلر لا يزال يتكلم عن جوته بعبارات الصداقة التي لم تشبها شائبة. وكان رأيه في جوته أنه "أعظم رجل موهوب منذ شكسبير... وطوال سني صداقتنا الحميمة الست لم يخامرني أدنى شك في نزاهته. لقد اتصف بأسمى صفات الصدق والإحساس بالشرف، وأعمق الجد في السعي إلى ما هو حق وخير"(134). ثم أردف "وددت لو استطعت أن أبرر جوته بمثل هذه الحرارة من جعة علاقاته الأسرية!... فبسبب أفكار خاطئة عن مقومات السعادة البيتية، وخوف منكود من الزواج، انزلق إلى ورطة تضنيه وتشقيه في بيته ذاته، وهو أضعف وألين قلباً من أن يتخلص منها. ذلك مغمزه الوحيد." وقد أبت زوجة شيلر كغيرها من سيدات فايمار أن تستقبل كرستيانة في بيتها، وندر أمن ذكر شيلر كرستيانة في اتصالاته القائمة بجوته.

على أن هذه الصداقة بين "الديوسقورين"-كما كانا يلقبان أحياناً-رغم ما شابها من صدوع، أثبتت على الأقل أن الانسجام ممكن بين عبقرية كلاسيكية وأخرى رومانتيكية. كانا يبعثان الرسائل الواحد لصاحبه كل يوم تقريباً؛ ويتناولان العشاء معاً مراراً، وكثيراً ما وضع جوته مركبته تحت تصرف شيلر؛ وأهدى شيلر "شطراً من الطلب الذي سلمه الساعة تاجر النبيذ الذي أتعامل معه"(135). كتب جوته في 20 أبريل 1801: لنتمش معاً قرب المساء"، وكتب في 11 يونيو "وداعاً، بلغ تحياتي الرقيقة لزوجتي العزيزة، واشرح صدري عند عودتي (من جوتنجن) بإطلاعي على بعض ثمرات جهدك"؛ وفي 28 يونيو 1802: "سيصلك مفتاح حديقتي وبيتي، وأريدك أن تمض هناك ما أمكنك من الأوقات السعيدة". وبعد موت شيلر باثنين وعشرين عاماً قال جوته لأكرمان، "كان من حسن حظي... إن وجدت شيلر، لأننا رغم اختلاف طبائعنا فإن ميولنا كانت تتجه إلى نقطة واحدة، مما وثق صلتنا إلى حد استحال معه حقيقة على الواحد أن يعيش بدون الآخر"(136).

وقد عوقهما المرض في سنوات صداقتهما الأخيرة. ففي الشهور الثلاثة الأولى من سنة 1801 كان جوته يشكو العصبية، والأرق، والأنفلونزا العنيفة، والخراريج التي أقفلت عينيه حيناً. وفي إحدى مراحل مرضه طالت غيبوبته حتى توقعت فايمار موته. وفي 12 يناير كتبت شارلوته فون شتين لولدها فرتز تقول: لم أكن أدري أن صديقي السابق جوته ما زال عزيزاً جداً علي، وأن مرضاً خطيراً قهره منذ تسعة أيام سيهزني إلى الأعماق"(137). وأخذت أوجست، ابن كرستيانة، إلى أبيها فترة لتخفف الأعباء التي ألقاها مرض جوته على خليلته التي كانت تبذل له العناية دون كلل. وكان إبلاله بطيئاً أليماً. كتب إلى شارلوته يقول "صعب على المرء أي يجد طريقه إلى العودة(138).

وفي 1802 اشترى شيلر بيتاً في فايمار لقاء 7.200 جولدن، وكان الآن ميسوراً بفضل الحصيلة المتزايدة من مسرحياته الممثلة والمنشورة؛ وساعده جوته، وكان وقتها في يينا، على بيع البيت الذي كان يسكنه هناك. وفي 17 مارس 1803 أخرج شيلر "عروس مسينا"، وهي محاولة-اعترف بها لنفسه(135)-لمنافسة كمسرحية سوفوكليس "أوديب" بتصوير النضال بين أخوين يعشقان امرأة يتبين أنها أختها مستعيناً بكورس مقسم. ولم تحز المسرحية الرضى. وجاز جوته بنكسة مماثلة حين أخرج في 1803 "الابنة الطبيعية" (أي غير الشرعية).

وكان بين المشاهدين لعرض من عروض "الابنة الطبيعية" سيدة لامعة هوائية هي جرمين نكير، مدام دستال، التي كانت تجمع مادة لكتابها "فن ألمانيا" وقد رأت شيلر أول مرة في ديسمبر 1803:

"في صالون دوق ودوقة فايمار، في جماعة جمعت بين الاستنارة والنبالة. وكان يجيد قراءة الفرنسية، ولكنه لم يتكلمها قط من قبل. وقد عبرت في شيء من التحمس عن تفوق نظامنا الدرامي على ما عداه من الأنظمة قاطبة، فلم يرفض منازلتي دون أن يشعر بأي ضيق لما يجد من مشقة وبطء في التعبير عن نفسه بالفرنسية... وسرعان ما اكتشفت الكثير جداً من الأفكار خلال عقبة ألفاظه، وراعتني جداً بساطة خلقه... فقد وجدته شديد التواضع،... شديد الحيوية، حتى لقد أخذت على نفسي العهد منذ تلك اللحظة بصداقة له ملؤها الإعجاب"(140).

وقد أعد شيلر جوته للتعرف إليها! "إنها تمثل الثقافة الفكرية لفرنسا في نقائها... ولا يعيها غير تدفقها المفرط. ولا بد للمرء أن يحول نفسه إلى جهاز سمع مركز واحد لكي يتابعها"(141). وأتى بها إلى جوته في 24 ديسمبر. وكتب جوته يقول: "ساعة لذيذة جداً. لم أجد فرصة للنطق بكلمة. أنها تجيد الحديث، ولكن بإسراف شديد." وكانت روايتها عن اللقاء مطابقة لروايته مع تغيير طفيف، فقد قالت أن جوته أكثر من الكلام حتى لم تجد فرصة للنطق بمقطع واحد(142). وقد كان كتابها بمثابة كشف أماط لفرنسا اللثام عن ألمانيا "موطن الفكر". كتبت تقول "لا يعقل ألا يكون الكتاب الألمان، وهم أكثر الرجال في أوربا إطلاعاً وتفكيراً، جديرين بلحظة انتباه تبذل لأدبهم وفلسفتهم"(143).

واعتزم شيلر أن يسترد جمهوره الذي رفض "عروس مسينا"، فاختار بناء على اقتراح جوته موضوعاً لدرامته التالية قصة وليم تل الشعبية. وسرعان ما عكف على الموضوع في لهفة وانفعال. قال جوته في 1820 مستحضراً تلك الفترة، "بعد أن جمع كل المادة الضرورية قعد للعمل... ولم يبرح مقعده حتى فرغ من المسرحية. فإذا غلبه التعب أسند رأسه على ذراعه وأغفى هنيهة... وبمجرد أن يستيقظ كان يطلب... قهوة سوداء قوية ليظل يقظاً. وهكذا فرغ من المسرحية بعد ستة أسابيع(144).

وقبل شيلر أسطورة شائعة-على أنها تاريخ-عن وليم تل قائد ثورة السويسريين على النمسا في 1308. كانت الثورة حقيقية، وكذلك كان جسلر الوكيل النمساوي المكروه. وتروي الأسطورة أن جسلر تعهد لوليم تل بالعفو الكامل إذا أثبت براعته المشهورة في استعمال القوس والسهام بإصابته تفاحة على رأس ولده. ووضع تل سهمين في منطقته، وأصاب التفاحة بأولهما. وسأله جسلر عم كان يريده بالآخر؛ وأجاب تل "كنت أريدك أنت إن أصاب الأول ولدي". ولقيت المسرحية الاستحسان في فايمار في 17 مارس 1804 وفي كل مكان عرضت فيه بعدها بقليل، وتبنتها سويسرة جزءاً من تقاليدها القومية. فلما نشرت المسرحية بيع منها سبعة آلاف نسخة في بضعة أسابيع. وأصبح اسم شيلر الآن أوسع ذيوعاً من اسم جوته. ولكن أجله دنا، إذ لم يبق له في الحياة غير شهور. ففي يوليو 1804 أصابته نوبة من المغص اشتدت حتى خشي طبيبه أن يموت وتمنى هو الموت. ثم تماثل للشفاء ببطء، وشرع في تأليف مسرحية أخرى اسمها "ديمتريوس" ("ديمتري الكاذب" الذي يذكره تاريخ روسيا). وفي 28 أبريل 1805 رأى جوته آخر مرة، ومن ذلك الاجتماع عاد جوته إلى بيته وأصيب هو الآخر بإصابة خطيرة بالمغص. وفي التاسع والعشرين بدأ مرض شيلر الأخير. كتب هينريش فوس يقول: "غارت عيناه في رأسه، وكان كل عصب فيه ينتفض متقلصاً"(145). وائتمرت عليه توترات الجهد الأدبي الضارة، والتهاب أمعائه، واعتلال رئتيه. قال جوته فيما بعد "إن شيلر لم يسرف في الشراب قط، وكان شديد الاعتدال فيه، ولكنه اضطر في ساعات ضعفه البدني إلى تنشيط قواه بالمسكر"(146). وفي 9 مايو قابل شيلر الموت بهدوء عجيب: فقد ودع زوجته وأطفاله الأربعة وأصدقائه، ثم نام، ولم يستيقظ ثانية. وأظهر تشريح جثته الرئة اليسرى وقد أتلفها السل تماماً، والقلب منحلاً، والكبد والكلية والأمعاء كلها مصابة. وقال الطبيب للدوق "في هذه الظروف لا تملك غير العجب من أن الرجل المسكين استطاع أن يعيش كل هذا العمر"(147).

وكان جوته عندئذ في حال من المرض لم يجرؤ معها إنسان على أن ينبئه بموت شيلر. وفي 10 مايو أفضت إليه كرستيانة بالنبأ وهي تشنج. وكتب إلى تسلتر يقول "كنت أظن أنني أفقد حياتي أنا، فإذا أنا أفقد صديقاً كان نصف وجودي ذاته"(148). ووصل بما بقي له من وجوده إلى تمام تحقيق ذاته.