قصة الحضارة - ول ديورانت - م 10 ك 5 ف 21

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 13757

قصة الحضارة -> روسو والثورة -> الشمال البروتستنتي -> كانط -> مقدمة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الحادي والعشرون: كانت 1724-1804

1- مقدمة

لعل كانت ما كان ليظهر قط لولا وجود فردريك الأكبر. ذلك أن كتابيه "نقد العقل الخالص" و "الدين في حدود العقل وحده" يسرت صدورهما شكوكية فردريك وتسامحه الديني؛ فلم ينقض على موت فردريك عامان حتى أخرجت الحكومة البروسية كانت.

كان كانت كفردريك ربيباً لحركة التنوير، وقد تشبث بولائه للعقل حتى النهاية-رغم كل ذبذبته الاستراتيجية، ولكنه أيضاً كروسو كان جزءاً من الحركة الرومانتيكية، مكافحاً للتوفيق بين العقل والوجدان، وبين الفلسفة والدين، وبين الفضيلة والثورة. وقد أشربه أبواه النزعة التقوية، ثم هجنها بعقلانية كرستيان فونفولف؛ واستوعب هرطقات جماعة الفلاسفة؛ وهجنها بـ "اعتراف قسيس سافوا بالإيمان" في كتاب روسو "إميل"؛ وورث سيكولوجية لوك وليبنتس وباركلي وهيوم الدقيقة البارعة، واستخدمها في محاولة لينقذ العلم من هيوم، وينقذ الدين من فولتير. وقد رتب حياته بانتظام بورجوازي، ورحب بالثورة الفرنسية. وإذ عاش منفرداً في بروسيا الشرقية، فإنه أحس ولخص كل تيارات عصره العقلية.

ولد في كونيجزبرج (22 أبريل 1724) النائية عن فرنسا، المولعة بالوضوح والمعتمة بضباب البحر. وقد أثيرت بعض الشكوك حول أصل أسرته الاسكتلندي، ولكن كانت نفسه يخبرنا أن جده "في ختام القرن الماضي هاجر من اسكتلندة إلى بروسيا، ولا أدري لم"(1). وتزوج أبوه يوهان جيورج كانت من آنا رويتر، وكان إيمانويل (ومعناها الله معنا) رابع أبنائهم الأحد عشر. وقد اتخذ اسمه الأول من قديس يوم ميلاده، ثم غير اسم الأسرة من Cant إلى Kant ليمنع الألمان من أن ينطقوه "تسانت"(2) وقد نشئت الأسرة كلها على مذهب التقويين، الذي كان كالمثودية الإنجليزية يشدد على الإيمان والتوبة والالتجاء رأساً إلى الله، بعكس العبادة اللوثرية التقليدية في الكنيسة بقسيس وسيط.

وكان أحد وعاظ التقويين قد أنشأ في كوينجزبرج "كلية فردريكية". والتحق إيمانويل بها من سن الثامنة إلى السادسة عشرة. وكان اليوم المدرسي يبدأ في الخامسة والنصف صباحاً بنصف ساعة من الصلاة، وكل حصة في الصف تختم بالصلاة؛ وخصصت ساعة كل صباح لتعليم الدين، مع التشديد على نيران الجحيم؛ وكان التاريخ يدرس أساساً من العهد القديم، واليونانية من العهد الجديد. وحده. ويوم الأحد يكرس أكثر للعبادة. لقد كان تعليماً أثمر الفضيلة في بعض خريجيه، والنفاق في آخرين، وربما روحاً كئيبة في معظمهم. وقد أنكر كانت فيما بعد هذه الجرعة الثقيلة من التقوى والإرهاب، وقال أن الخوف والرعدة يغلبانه حين يتذكر تلك الأيام(3).

وفي 1740 انتقل إلى جامعة كوينجزبرج. هنا كان أحب المدرسين إليه مارتن كنوستن الذي عرف كانت بـ "عقلانية" فولف رغم كونه تقوياً. وكان كنوتسن قد قرأ للربوبيين الإنجليز، وأدانهم ولكنه ناقش آراءهم، وترك بعض الشكوك الربوبية في واحد من تلاميذه على الأقل. فلما دعي كانت بعد قضاء ست سنين في الجامعة ليرسم قسيساً لوثرياً، رفض الدعوة رغم ما وعد من ترقية قريبة إلى وظيفة مريحة(4). وعاش بدلاً من ذلك تسع سنين رقيق الحال يعلم أبناء الأسرة الخاصة ويواصل دراسته. وكان اهتمامه حتى 1770 بالعلم لا باللاهوت "وكان لوكريتيوس من أحب المؤلفين إليه"(5).

وفي 1755 نال كانت درجة الدكتوراه، وسمح له بأن يحاضر في الجامعة بوصفه "معلماً خاصاً" لا يكافأ إلا بالرسوم التي يقرر الطلبة دفعها. وظل خمسة عشر عاماً في هذا الوضع القلق. وخلال هذه البداية الطويلة الأمد رفضت طلباته لوظيفة الأستاذية مرتين. وظل فقيراً، يتنقل من نزل إلى نزل، ولا يجرؤ على الزواج، ولا يسكن بيتاً خاصاً به حتى بلغ التاسعة والخمسين(6). وقد حاضر في مواضيع كثيرة التباين، ربما ليجتذب عدداً أكبر من الطلاب، وكان عليه أن يحاضر بلغة واضحة ليتيسر له العيش. ولا بد أن كانت المعلم كان يختلف تماماً عن كانت المؤلف الذي اشتهر بغموضه. وقد وصفه هردر، الذي كان أحد تلاميذه (1762-64) بعد ثلاثين عاماً، محتفظاً له بذكرى ملؤها العرفان بالجميل، فقال:

"أسعدني الحظ بمعرفة فيلسوف كان معلمي. ففي مقتبل عمره تحلى بشجاعة الشباب المرحة، وأعتقد أن هذه الشجاعة لازمته حتى الشيخوخة. وكان جبينه الواضح المفكر مستقراً للبشر والسرور الذي لا يكدر صفوه مكدر، وكان حديثه حافلاً بالأفكار شديد الإيحاء؛ وفي متناوله الضحك والدعابة الذكية والخيال الفكه؛ ومحاضراته تجمع بين التعليم والترفيه الكثير. وبالروح ذاتها التي انتقد بها ليبنتس وفولف وباومجارتن... وهيوم، بحث في القوانين الطبيعية التي قال بها نيوتن وكبلر والفيزيائيون. وبهذا الأسلوب تناول كتابات روسو... ولم يكن لأي عصبة أو ملة، ولا تحيز أو إجلال لاسم من الأسماء، أدنى تأثير عليه مقابل نشر الحقيقة ودعمها. وكان يشجع سامعيه على التفكير لأنفسهم ويضطرهم في رفق إلى هذا التفكير؛ أما الاستبداد فكان غريباً على طبعه. وهذا الرجل الذي أذكر اسمه بأعظم عرفان وتبجيل هو إيمانويل كانت، وصورته مماثلة أمامي، وهي محببة إلى نفسي"(7).

ول أردنا أن نتذكر كانت على الأخص من واقع عمله قبل أن يبلغ السابعة والخمسين (1781) لوجب أن نرى فيه العالم أكثر من الفيلسوف-رغم أن هذين المصطلحين لم يكونا بعد منفصلين. وأول أعماله المنشورة "خواطر من التقييم الحقيقي للقوى الديناميكية، 1747" نقاش علمي عن قوة الجسم أثناء حركته وهل تقاس (كما زعم ديكارت وأويلر) بالكتلة مضروبة في السرعة، أو (كما زعم ليبنتس) بالكتلة مضروبة في مربع السرعة؛ وهو إنجاز ممتاز لفتى في الثالثة والعشرين. وتلا بعد هذا سبع سنوات مقال في زمن دوران الأرض اليومي وهل يتغير بالمد والجزر. وفي العام نفسه نشر كانت بحثاً عن الأرض وهل بسبيلها إلى الشيخوخة؛ هنا أعرب كانت عن القلق الذي يساور عصرنا الحديث على فقد الشمس بعض طاقتها كل يوم على تجمد أرضنا في المستقبل.

وفي بحث رائع نشر عام 1705 قدم الشاب الجريء ذو الحادية والثلاثين عاماً "التاريخ الشامل للطبيعة، ونظرية السماوات". وقد تنشر الكتاب غفلاً من اسم المؤلف وأهدي إلى فردريك الأكبر؛ وربما خاف كانت أن يلحقه أذى من رجال اللاهوت وأمل في أن يبسط الملك عليه حمايته، وقد رد جميع عمليات الأرض والسماء إلى قوانين آلية، ولكنه أكد أن النتيجة، بما فيها من تناسق وجمال، تثبت وجود عقل اسمي. ولكي يفسر كانت أصل المنظومة الشمسية اقترح "الفرض السديمي". قال:

"إنني أزعم أن كل مادة المنظومة الشمسية... كانت في بداية الأشياء كلها متحللة إلى عناصرها الأولية، وأنها ملأت كل الفضاء... الذي تدور فيه الآن الأجسام المكونة منه... وفي فضاء مملوء على هذا النحو، لا يمكن أن يدوم هدوء شامل إلا لحظة... فالعناصر المشتتة الأكثفنوعاً، بحكم قوتها الجاذبة، تجمع من حولها كل المادة الأقل وزناً نوعياً؛ وهذه العناصر هي الأخرى، مع المادة التي وحدتها معها، تتجمع في النقط التي توجد فيها جسيمات من نوع أكثر كثافة، وهذه بالمثل تنضم إلى جسيمات أكثف، وهلم جراً...

"ولكن للطبيعة قوى أخرى،... بفعلها تتنافر هذه الجسيمات، وهي التي تحدث-بصراعها مع الجاذبيات-تلك الحركة التي هي بمثابة الحياة الدائمة للطبيعة... وقوة التنافر هذه تظهر في مرونة الأبخرة، وتدفق الأجسام القوية الرائحة، وانتشار جميع المواد الكحولية. وهذه القوة هي التي بفعلها تحيد تلك العناصر التي قد تكون ساقطة إلى النقطة التي تجتذبها... عن حركتها في خط مستقيم؛ وسقوطها العمودي يكون في حركة دائرية حول المركز الذي تسقط نحوه"(8).

واعتقد كانت أن جميع النجوم تجمعت أو هي بسبيل التجمع-في مثل هذه المنظومات من الكواكب والشموس، وقد أضاف عبارة ذات مغزى "أن الخليقة لا تكتمل أبداً، إنها لا تكف عن مواصلة السير"(9). وهذا الفرض السديمي الذي افترضه كانت في 1755، وكذلك التعديل الذي أدخله عليه لابلاس (1796)، حافل بالصعوبات كمعظم ما تلاه من النظريات في أصل الكون، ومع ذلك يقول فيه فلكي حي شهير "إني أعتقد أن بحث كانت عن أصل الكون كان أبدع تلخيص موضوعي للعلم حتى ذلك الوقت"(10). أما بالنسبة لنا فإن دلالة البحث تكمن في بيانه أن كانت لم يكن ميتافيزيقياً غيبياً بل رجلاً فتن بالعلم، وكافح للتوفيق بين المنهج العلمي والعقيدة الدينية. وهذا لب جهوده حتى النهاية".

وفي 1756، حين هزته كارثة زلزال لشبونة التي وقعت في 1755-كما هزت فولتير-إلى أعماق فلسفته، نشر كانت ثلاث مقالات عن الزلازل ومقالاً عن نظرية في الرياح. وفي 1757 نشر "مجملاً لمجموعة محاضرات في الجغرافيا الطبيعية وبياناً عنها"، وفي 1758 نشر "نظرية جديدة في الحركة والسكون. فلما اتسعت دائرة اهتماماته أرسل إلى المطبعة رسائل قصيرة عن موضوعات التفاؤل (1759)، والقياس المنطقي (1762)، وأمراض الرأس (1764). وقد ألمع في هذه الرسالة إلى أن تقسيم العمل المتزايد قد يقضي إلى الجنون نتيجة التكرار الرتيب الممل. وفي 1763 انتقل إلى اللاهوت ببحث عنوانه "الدعامة الوحيدة الممكنة للبرهنة على وجود الله"؛ وواضح أنه كان مبلبل الخاطر لاهتزاز إيمانه الديني. وفي 1764، بعد ثماني سنين من نشر بيرك رسالة مماثلة، قدم "ملاحظات على الشعور بالجميل والجليل".

ومرت به أوقات خطر له فها أن يوسع فرضه في أصل الكون التطوري ليشمل علم الأحياء؛ وكان على علم بأن الأشكال الجديدة تطورت من القديمة بفعل تغيرات في ظروف الحياة(11)، وقبل الرأي القائل بأن تشريح الإنسان كان في الأصل ميسراً لحركة أرجل أربع(12). ومع ذلك أحجم عن فكرة البيولوجية القائمة كلها على المذهب الآلي". "كذلك مرت بي أوقات سرت خلالها في هذه الدوامة مفترضاً هنا ميكانيكا طبيعية عمياء أساساً للتفسير، واعتقدت أنني أستطيع استكشاف طريق أسلكه إلى المفهوم البسيط الطبيعي. ولكنني كنت دائماً أنتهي إلى تحطيم سفينة العقل، ومن ثم آثرت المغامرة في محيط الأفكار الذي لا حدود له"(13). وكان رودلف راسبي (مؤلف رحلات البارون مونتشاوزن) قد اكتشف مؤخراً مخطوط ليبنتس المفقود منذ زمن طويل "مقالات جديدة في الفهم البشري" ونشره في 1765، واستطاع كانت أن يقرأه بالفرنسية، وقد أسهم في تحويله إلى نظرية المعرفة. على أنه لم يهجر اهتمامه بالعلم هجراناً تاماً، فقد كتب في تاريخ متأخر (1785) مقالاً عنوانه "في براكين القمر". غير أن الصراع الباطن بين دراساته العلمية ولاهوته الموروث حفزه إلى التماس التوفيق بينهما في الفلسفة.

ويحتمل أن يكون من العوامل التي وجهته هذه الوجهة الجديدة عرض (1770) منصب أستاذ المنطق والميتافيزيقا عليه. وكان الراتب ضئيلاً لرجل بلغ السادسة والأربعين وهو 167 طالراً في العام، زيد ببطء إلى 225 في 1786؛ وقد رفعت الراتب خدمات عارضة أداها بوصفه "سناتورا" و "أقدم أساتذة الكلية" في 1789 إلى 726 طالراً وكانت التقاليد تقضي بأن يلقي الأستاذ الجديد خطاباً افتتاحياً باللاتينية. واختار كانت موضوعاً عسيراً هو "في شكل ومبادئ العالم المحسوس والعالم المعقول". واستعمل كانت المصطلحات "المدرسية" التي كانت تزال سائدة في الجامعات الألمانية. وقصد بالعالم المحسوس العالم كما تدركه الحواس، وسوف يسميه أيضاً فيما بعد بعالم الظواهر. أما العالم المعقول. فيقصد به العالم كما يدركه الذهن أو العقل، وسوف يسميه بعد ذلك العالم "النوميني". ونحن نحاول فهو العالم المحسوس بأن نطبق عليه المفاهيم الذاتية للزمان والمكان بواسطة الرياضة والعلوم؛ والعالم المعقول بتجاوز الحواس عن طريق العقل والمتافيزيقا إلى مصادر العالم المحسوس وأسبابه فوق الحسية. هنا أرسى كانت نظريته الأساسية: وهي أن الزمان والمكان ليسا شيئين موضوعيين أو محسوسين بل شكلين من أشكال الإدراك الحسي أصيلين في طبيعة العقل وبنيانه؛ وأن العقل ليس متلقياً وناتجاً سلبياً للأحاسيس، بل هو عامل إيجابي-له طرائق وقوانين عمل أصيلة لتحويل الأحاسيس إلى أفكار.

وقد عد كانت هذا البحث الجوهري "النص الذي سيفصل القول فيه في الكتاب التالي" وتدل هذه العبارة الواردة في خطاب حرره في 1771 إلى ماركوس هرتس على أن الفيلسوف كان الآن يخطط لكتابة "نقد العقل الخالص". وبعد اثنتي عشرة سنة من العكوف على ذلك البحث الضخم نشره على الناس في 1781، وأهداه لكارل فون تسيدلنتس وزير التعليم والشئون الدينية في عهد فردريك الأكبر. وكان تسيدلنتس، كما كان الملك، ربيب حركة التنوير، ونصيراً لحرية النشر. وقد قدر كانت أن حمايته ستكون مفيدة جداً إذا استشف اللاهوتيون وراء ألفاظه الغامضة واستنتاجاته السنية في ظاهرها تحليلاً من أشد التحليلات التي تلقاها اللاهوت المسيحي تدميراً.

2- نقد العقل الخالص 1781

إذا وجد العالم هذا الكتاب عسيراً فقد يكون السبب منهج العمل الذي انتهجه كانت. كتب إلى موسى مندلسون (16 أغسطس 1783) يقول: مع أن الكتاب "ثمرة تأمل شغلني على الأقل اثني عشر عاماً، فإنني أكملته بأقصى سرعة في أربعة أشهر أو خمسة، باذلاً أبلغ العناية بمحتوياته، ولكن دون اهتمام يذكر بالعرض أو بتيسير فهمه للقارئ-وهو قرار لم أندم عليه قط، وإلا فلو تباطأت وحاولت صياغته في شكل أكثر شعبية لما اكتمل العمل إطلاقاً في أغلب الظن"(14). إن الوضوح يقتضي الوقت، ولم يكن كانت واثقاً من أنه يملك الوقت. وق حذف عمداً بعض الأمثلة الموضحة مخافة أن يتضخم كتابه؛ "فهذه ليست ضرورية إلا من وجهة النظر الشعبية، وهذا الكتاب لا يمكن أبداً جعله صالحاً للاستهلاك الشعبي"(15). وهكذا كتب كانت لأهل حرفته، وركن إلى غيره في تبسيطه وتخفيفه ليصلح للهضم. ومع أن كرستيان فون فولف كان قد سبقه في التأليف الفلسفي بالألمانية، إلا أن تلك اللغة لا تزال على جفافها في التعبير عن ظلال التفكير، ولم تكن قد استقرت على مصطلحات فنية في الفلسفة. وكان على كانت في كل خطوة تقريباً أن يخترع ترجمة ألمانية لمصطلح لاتيني، وفي كثير من الحالات حتى اللاتينية كانت تفتقر إلى مصطلحات تفي بالفوارق الدقيقة التي أراد التعبير عنها. وقد أربك قراءه بخلعه المعاني الجديدة على الألفاظ القديمة، وبنسيانه أحياناً تعاريفه الجديدة. والصفحات المائة الأولى واضحة وضوحاً لا بأس به، أما باقي الكتاب فحريق فلسفي لا يبصر فيه القارئ غير الخبير شيئاً من الدخان.

وقد احتاج العنوان نفسه إلى إيضاح. فأنى للقارئ أن يعرف أن "نقد العقل الخالص" معناه تمحيص نقدي حصيف للعقل مستقلاً عن التجربة، و "النقد لم يعن التحليل والعرض فحسب، بل الحكم أيضاً، كما يستفاد من سلف اللفظة اليوناني (بمعنى يحكم). وقد قصد كانت أن يصف الحس، والإدراك الحسي والفكرة والعقل، وأن يقرر لكل منها حدودها واختصاصاتها الصحيحة. ثم أمل أن يبين أن في استطاعة العقل أن يعطييا المعرفة مستقلاً عن أي خبرة مؤيدة، كما هي الحال في معرفتنا أن ستة مضروبة في ستة تساوي ستة وثلاثين، أو أنه لا بد أن يكون للمعلول علة. تلك أمثلة لـ "العقل الخالص"-أعني المعرفة القبلية أو الأولية، أي المعرفة التي لا تتطلب برهاناً من التجربة.يقول: "إن ملكة المعرفة الحاصلة من المبادئ القبلية يمكن أن نسميها العقل الخالص، والبحث العام في قدرتها وحدودها (يؤلف) نقد العقل الخالص"(16). وقد اعتقد كانت بأن بحثاً كهذا سينطوي على مشكلات الميتافيزيقا؛ وكان على ثقة من أنه "ما من مشكلة ميتافيزيقية واحدة لم تحل، أو لم يقدم مفتاح حلها على الأقل" في هذا النقد(17). وذهب إلى أن الخطر الوحيد الذي يخشاه "ليس خطر تفنيد آرائي بل عدم فهمي"(18).

فما الذي جرى يا ترى إلى خوض هذه المغامرة البطولية؟ قد يظن أن إعلاء حركة التنوير الفرنسية من شأن العقل-وزعم جماعة الفلاسفة أن الإيمان يجب أن يخضع للعقل-وما حاق باللاهوت المسيحي نتيجة لهذا من دمار، كان السبب الذي جعل كانت يصمم على دراسة أصل العقل وعمله وحدوده. وقد لعب ذلك الحافز دوره، كما ورد في مقدمة كانت للطبعة الثانية(19)، ولكن المقدمة ذاتها أوضحت بجلاء أن العدو الذي أسهدفه هو هذه التوكيدة الإيقانية (الدجماطيقية) بكل ألوانها-أي كل مذاهب الفكر التقليدية والمبتدعة على السواء، التي ينشئها عقل لم يخضع للامتحان. وقد لقب كرستيان فون فولف بـ "أعظم الفلاسفة الدجماطيقيين قاطبة" لأنه اضطلع بإثبات عقائد المسيحية، وفلسفة لبنتس بالعقل وحده. وكل المحاولات التي تبذل للبرهنة على صدق الدين أو كذبه بالعقل الخالص هي في نظر كانت صور من الدجماطيقية؛ وقد حكم بـ "دجماطيقية الميتافزيقا" على كل مذهب في العلم أو الفلسفة أو اللاهوت لم يخضع أولاً لامتحان نقدي للعقل ذاته.

وقد اتهم تفكيره هو، حتى عام 1770، بأنه مدان بهذه الدجماطيقية. يقول أن ما أيقظه من هذه التأملات غير الممحصة هو قراءته لهيوم-ربما كتابه "بحث في الفهم البشري" الذي ظهرت ترجمته ألمانيا له في 1755. وكان هيوم قد زعم أن كل تدليل يعتمد على فكرة العلة، وأننا في التجربة الفعلية لا ندرك العلة إدراكاً حسياً بل التعاقب وحده؛ وإذن فكل العلم والفلسفة واللاهوت يرتكز على فكرة-علة ليست غير فرض ذهني لا حقيقة مدركة حسياً. كتب كانت يقول "أعترف بصراحة أن ملاحظة ديفد هيوم هي التي قطعت على سباتي الدجماطيقي منذ سنين طويلة ووجهت أبحاثي في مجال الفلسفة النظرية في اتجاه مختلف كل الاختلاف"(20). فكيف يمكن إنقاذ مفهوم العلة من المكان الوضيع، مكان الفرض غير اليقيني، الذي خلفه فيه هيوم؟ يقول كانت أنه لا سبيل إلى ذلك إلا ببيان أنه قبلي، مستقل عن الخبرة، واحد من تلك المقولات، أو أشكال الفكر، التي وإن كانت ليست بالضرورة فطرية، إلا أنها جزء من التركيب الفطري للعقل . ومن ثم صمم على التغلب على دجماطيقية فولف وارتيابية هيوم جميعاً بنقد-أي بتمحيض نقدي-يصف في الوقت نفسه سلطة العقل ويحددها ويحييها. وهذه المراحل الثلاث-الدجماطيقية، والارتيابية، والنقد-هي في نظر كانت المراحل الثلاث الصاعدة في تطور الفلسفة الحديثة.

وفي ولع بالتعاريف، والتمييزات، والتصنيفات، وباستخدام للألفاظ الطويلة اختصاراً للكلام، قسم كانت المعرفة كلها إلى معرفة تجريبية (تعتمد على التجربة) وأخرى ترانسندنتالية (مستقلة عن التجربة ومن ثم متجاوزة لها). وقد وافق على أن المعرفة كلها "تبدأ" بالتجربة، بمعنى أن إحساساً ما لا بد أن يسبق وينبه عمليات الفكر، ولكنه يعتقد أن في اللحظة التي تبدأ فيها التجربة فإن تركيب العقل يشكلها بما تأصل فيه من أشكال "الحدس" (الإدراك الحسي) أو الإدراك العقلي. وأشكال "الحدس" الأصيلة هي الصور المشتركة بين الجميع، والتي تتخذها التجربة في إحساسنا الظاهر كمكان، وفي حساسيتنا الباطنة كزمان.

وبالمثل توجد أشكال فطرية من الإدراك العقلي أو الفكر، مستقلة عن التجربة وهي تشكلها. وقد سماها كانت المقولات، وقسمها بتناسق أولع به وحرص عليه حرصاً شديداً إلى أربع مجموعات ثلاثية: ثلاث مقولات للكم-هي الوحدة والكثرة وجملة الكل؛ وثلاث مقولات للكيف-هي الوجود والسلب وحد التناهي؛ وثلاث مقولات قوائم للإضافة هي الجوهر في مقابل العرض، والسببية في مقابل التلازم، والمشاركة أو التفاعل؛ وثلاث مقولات قوائم للجهة-هي الإمكان في مقابل الاستحالة، والوجود في مقابل العدم، والضرورة في مقابل العرضية. وكل إدراك حسي يندرج تحت واحد أو أكثر من هذه الأشكال أو القوالب الأساسية للفكر. فالإدراك الحسي إحساس تترجمه الأشكال الفطرية للزمان والمكان، والمعرفة إدراك حسي تحوله المقولات إلى حكم أو فكرة. والتجربة ليست قبولاً سلبياً لانطباعات موضوعية على حواسنا، إنما هي حصيلة العقل المؤثر إيجابياً على خامة الإحساس.

وقد حاول كانت أن يعارض ارتيابية هيوم في العلية، وذلك بأن عد علاقة العلة والمعلول شكلاً حقيقياً من أشكال الفكر لا حقيقة موضوعية؛ وهي بهذه الصفة مستقلة عن الخبرة وليست خاضعة لعدم يقينية الأفكار التجريبية. ولكنها مع ذلك جزء ضروري من كل تجربة، لأننا لا نستطيع فهم التجربة بدونها. ومن ثم فإن "إدراك العلة العقلي" ينطوي على صفة الوجوب، التي لا يمكن لأي تجربة أن تعطيها"(22). وقد ظن كانت أنه بـ "خفة القلم" هذه أنقد العلم من ذلك القيد المذل، قيد الاحتمال، الذي قضى عليه به هيوم. بل إنه زعم أن العقل البشري لا الطبيعة-هوالذي ينشئ "قوانين الطبيعة" الشاملة، وذلك بإضفائه على بعض تعميماتنا-كالتعميمات الرياضية-صفات من الشمول والوجوب لا تدرك موضوعها إدراكاً حسياً. "إننا نحن الذين ندخل ذلك الترتيب والانتظام على المظهر الذي نسميه "الطبيعة". وما كنا لنجدهما قط في المظاهر لولا أننا نحن أنفسنا بحكم طبيعة عقلنا، وضعناهما في الأصل هناك"(23) و "قوانين الطبيعة ليست كيانات موضوعية بل مركبات عقلية نافعة في معالجة التجربة".

وكل معرفة تتخذ شكل الصور أو المثل، والمثالي بهذا المعنى على صواب: فالعالم "بالنسبة لنا" ليس إلا أفكارنا. وما دمنا لا نعرف المادة إلا كأفكار وبواسطة الأفكار، فالمادة إذن مستحيلة منطقياً، لأنها تحاول أن ترد المعلوم مباشرة (الأفكار) إلى المجهول أو المعلوم بطريق غير مباشر. ولكن المثالي يخطئ إذا اعتقد أنه لا شيء "موجود" إلا صورنا، لأننا نعلم أن الصور يمكن إحداثها بالأحاسيس، ونحن لا نستطيع تفسير كل الأحاسيس دون أن نفترض، لكثير منها، علة خارجية. وبما أن معرفتنا مقتصرة على الظواهر أو المظاهر-أي على الشكل الذي يتخذه السبب الخارجي "بعد" أن تشكله أساليب إدراكنا الحسي والعقلي-فإننا لا نستطيع أبداً أن نعرف الطبيعة الموضوعية لتلك العلة الخارجية(24)، ولا بد أن تظل بالنسبة لنا شيئاً-في-ذاته، ملغزاً، "نومينا" يدرك عقلياً ولا يدرك حسياً على الإطلاق. فالعالم الخارجي موجود ولكنه في حقيقته المطلقة مجهول لا يمكن معرفته"(25).

والنفس أيضاً حقيقية ولكن لا يمكن معرفتها. ونحن لا ندركها حسياً على الإطلاق بوصفها كياناً مضافاً إلى الحالات العقلية التي ندركها حسياً، وهي الأخرى"نومين" يدرك عقلياً بالضرورة باعتبارها الحقيقة التي من وراء الذات الفردية، والحس الأخلاقي وأشكال العقل وعملياته. والإحساس بالذات يمتزج مع كل حالة عقلية، ويوفر الاستمرارية والهوية الشخصية. والوعي بالذات "وعي الذات الاستبطاني" هو أوثق تجاربنا قاطبة، ولا سبيل إلى إدراكه عقلياً كشيء مادي بأي جهد بطولي من جهود المخيلة(26). ويبدو من المستحيل أن تؤثر نفس لا مادية في جسد مادي، وأن تتأثر به، ولكن لنا أن نعتقد أن الحقيقية المجهولة والكامنة وراء المادة "قد لا تكون مع ذلك شديدة الاختلاف في طبيعتها" من ذلك الشيء-في-ذاته، الباطن، الذيهو النفس(27).

وليس في استطاعتنا بالعقل الخالص أو النظري أن نثبت (كما حاول فولف) أن نفس الفرد خالدة، أو أن الإرادة حرة، أو أن الله موجود؛ ولكنا أيضاً لا نستطيع بالعقل الخالص أن ندحض هذه المعتقدات (كما خطر لبعض الشكاك أن يفعلوا) فالعقل والمقولات مهيأة للتعامل مع الظواهر أو المظاهر فقط، الظاهرة أو الباطنة، ولا نستطيع تطبيقهما على الشيء-في-ذاته، أي على الحقيقة من وراء الأحاسيس أو النفس التي من وراء الأفكار. فإذا حاولنا إثبات عقائد الدين أو دحضها وقعناً في أغلاط (في البرهان) أو أغاليط (مغالطات) أو نقائض-تناقضات ملازمة. كذلك ينتهي الأمر إلى استحالات كهذه إذا قلنا أن العالم كان له بداية أو لم يكن، أو أن الإرادة الحرة أو غير حرة، أو إن كان واجباً أو كائناً أعلى موجود أو غير موجود. وعبر كانت في بلاغة غير معهودة فيه عن البرهان الغائي(28). ولكنه خلص إلى أن "قصارى ما يستطيع هذا البرهان إثباته هو "مهندس"... تعوقه دائماً أشد التعويق تكيفية المادة التي يشتغل بها، لا "خالق".. يخضع لفكرته كل شيء"(29).

ومع ذلك كيف نستطيع الرضى بمثل هذه النتيجة المحيرة-وهي أن حرية الإرادة، والخلود، والله، هذه كلها لا يمكن إثباتها أو نفيها بالعقل الخالص، يقول كانت إن في باطننا شيئاً أعمق من العقل، هو شعورنا الذي لا يقبل التفنيد بأن الوعي، والعقل، والنفس، ليست مادية، وأن الإرادة حرة إلى حد ما، وإن يكن على نحو غامض ولا منطقي؛ ونحن لا نستطيع أن نقنع طويلاً بالنظر إلى العالم على أنه تسلسل لا معنى له من التطور والفناء دون مغزى خلقي أو عقل أصيل. فكيف نستطيع تبرير إرادة الإيمان فينا؟ من جهة (كما يقول كانت) بالجدوى الفعلية للإيمان-لأنه يقدم لنا بعض الهداية في تفسير الظواهر، ويوفر لنا شيئاً من السلامة الفلسفية والسلام الديني، يقول:

"إن أشياء العالم يجب النظر إليها" كأنها "تلقت وجودها من عقل أسمى. ففكرة (الله) هي في الحقيقة مدرك عقلي موجه، لا مدرك عقلي مباشر (هي فرض يعين على الكشف والفهم، ولكنها ليست برهاناً)... ففي ميدان اللاهوت يجب أن ننظر إلى كل شيء "كأن" جماع المظاهر كلها (العالم المحسوس ذاته) له أساس واحد، أسمى، كل الاكتفاء، وراء ذاته-هو عقل موجود بذاته، مبتكر، مبدع. لأنه في ضوء هذه الفكرة، فكرة العقل المبدع، نوجه الاستخدام التجريبي "لعقلنا" بحيث نحصل على أقصى امتداد مستطاع له.. والمفهوم المحدد الوحيد الذي يعطينا إياه العقل النظري الخالص عن الله هو، بأدق معنى، مفهوم "ربوبي"؛ أي أن العقل لا يحدد الصحة الموضوعية لمثل هذا المفهوم، إنما هو يعطينا فقط الفكرة عن شيء هو الأساس للوحدة الأسمى والواجبة لكل الحقيقة التجريبية"(30).

ولكن المبرر الأشد إلزاماً للاعتقاد الديني، في رأي كانت، هو أن هذا الاعتقاد لا غنى عنه للأخلاقية و "لولا أن هناك كائناً أصلياً متميزاً عن العالم، ولو كان العالم... بغير خالق، ولو كانت إرادتنا غير حرة، ولو كانت الروح... فانية كالمادة، إذن لفقدت الأفكار والمبادئ الأخلاقية "كل صحتها"(31). وإذا شئنا للصفة الأخلاقية والنظام الاجتماعي إلا يعتمدا كلية على الخوف من القانون، فلا بد لنا من دعم الإيمان الديني، ولو بوصفه مبدأً منظماً، ويجب أن نسلك، كأننا نعرف "أن هناك إلهاً، وأن نفوسنا خالدة، وأن إرادتنا حرة"(32). أضف إلى ذلك، أننا إعانة للفكر والأخلاق-مبررون في تمثيل سبب العالم بلغة تشبيهية لطيفة دقيقة. (بغيرها لا نستطيع تصور أي شيء متصل بهذا السبب) أعني ككائن ذي فهم، ومشاعر سرور واستياء، ورغبات ومشيئات تقابلها"(33).

وهكذا يختتم كتاب "النقد" الشهير، مخلفاً مذاهب الفكر المتعارضة وقد سرى عنها وأثار استياءها. لقد أصبح في وسع الشكاك أن يزعموا أن كانت برد اللاإدرية، وأن يزدروا إرجاعه الله إلى مكانته السابقة مكملاً للشرطة. ووبخه اللاهوتيون المصدومون على تسليمه بهذا القدر الكبير للكفار، واغتبطوا لأن الدين خرج-فيما بدا لهم-حياً من رحلته الخطرة داخل متاهة عقل كانت. وفي 1786 وصف كرال راينهولت هذه الضجة الكبرى فقال:

"لقد حكم الدجماطيقيون على كتاب "نقد العقل الخالص": بأنه محاولة شاك يقوض يقينية المعرفة كلها؛ والشكاك بأنه قطعة من التبجج المستعلي تضطلع بإقامة صورة جديدة من الدجماطيقية على أنقاض مذاهب سابقة؛ وفوق الطبيعيين بأنه حيلة مبيته بدهاء لإزاحة الأسس التاريخية للدين، ولاقاه المذهب الطبيعي دون جدل عنيف؛ والطبيعيون بأنه دعامة جديدة لفلسفة الإيمان المحتضرة؛ وحكم عليه الماديون بأنه إنكار مثالي النزعة لحقيقة المادة؛ والروحانيون بأنه قصر لا مبرر له للمعرفة كلها على العالم المادي مستتر تحت اسم ميدان التجربة..."(34).

وهاجمت مدارس الفكر هذه كلها تقريباً الكتاب فأذاعت بذلك شهرته ولو بتجريحه. وأعلت من قدرة كل العوامل حتى عسر فهمه الذي جعله تحدياً يتعين على كل عقل عصري أن يقبله. وسرعان ما جرت مصطلحات كانت وألفاظه الطويلة على كل لسان مثقف.

ولم يستطع كانت أن يفهم لم عجز نقاده عن فهمه. ألم يعرف كل مصطلح أساسي مراراً وتكراراً؟ (بلى، وما أشد التباين في تعاريفه!) وفي 1783 رد على الهجمات بإعادة صياغة "النقد" فيما خاله صورة أبسط، وسمى رده في تحد "مقدمة لكل ميتافيزيقا مستقبلة قادرة على الظهور كعلم". وزعم في هذا الرد أنه قبل كتابة "نقد العالم الخالص" لم تكن هناك ميتافيزيقا حقيقية على الإطلاق، لأنه ما من مذهب قدم لنفسه بتمحيص ناقد لأداته-وهي العقل. فإذا كان بعض القراء عاجزين عن فهم كتاب "النقد" فقد يكون السبب أنهم ليسوا على مستواه تماماً؛ "وفي هذه الحالة على القارئ أن يستخدم مواهبه العقلية في شيء آخر"، وعلى أي حال "ما من حاجة تدعو كل إنسان لدراسة الميتافيزيقا"(35). لقد كان في الأستاذ العجوز دعابة وكبرياء، وفيه حدة الطبع أيضاً. على أن "المقدمة" باتت كلما أو غلت عسرة عسر كتاب النقد الأصلي.

واتصل الجدل في ظل حكومة فردريك الأكبر المتسامحة. وكان كانت قد كتب في كتابه "نقد العقل الخالص" فقرات بليغة عن شرف العقل، وعن حقه في حرية التعبير(36). وفي 1784، حين كان لا يزال مطمئناً إلى حماية فردريك وتسيدلتس، نشر مقالاً عنوانه (ما التنوير؟). وقد عرف التنوير بأنه حرية الفكر واستقلاله، واتخذ شعراً ونصيحة القول المأثور "تجرأ على أن تعرف". وأبدى أسفه على تخلف التحرر الفكري نتيجة لمحافظة الأغلبية على القديم. "فإذا سألنا هل عائشون في عصر مستنير؟ فالجواب لا"، إنما نحن نعيش في "عصر التنوير" "ثم حيا فردريك باعتباره عنوان حركة التنوير الألماني وحاميها، والملك الوحيد الذي قال لرعاياه "فكروا كما تشاءون"(37).

ولعله كتب هذا الكلام مؤملاً أن خليفة فردريك سيلزم سياسة التسامح. ولكن فردريك وليم الثاني (1786-97) كان أكثر اهتماماً بقوة الدولة منه بحرية العقل. فلما أعدت طبعة ثانية من "نقد العقل الخالص" (1787) عدل كانت بعض فقراته، وحاول التخفيف من حدة هرطقاته بمقدمة طابعها الاعتذار. قال "وجدت من الضروري أن أنفي المعرفة (بالأشياء في ذواتها) لأفسح مجالاً للإيمان... فالنقد وجده يستطيع أن يقطع جذور المادية والقدرية والكفر والإلحان والتعصب والخرافة"(38). وكان محقاً في هذا الحذر. ففي 9 يوليو 1788 أصدر يوهان كرستيان فون فولنر، وزير الإدارة اللوثرية "مرسوماً دينياً" رفض التسامح الديني صراحة باعتباره مسئولاً عن التحلل الخلقي، وهدد بالطرد من منابر الكنائس أو كراسي الجامعات كل الوعاظ أو المدرسين المنحرفين عن المسيحية التقليدية. في هذا الجو الرجعي نشر كانت "نقده" الثاني.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

3- نقد العقل العملي 1788

وما دام كتاب "النقد" الأول زعم أن العقل الخالص لا يستطيع أن يثبت حرية الإرادة، وما دامت الأخلاقية-في رأي كانت-تحتاج إلى هذه الحرية، فإن عمليات العقل بدت وقد تركت الأخلاقية، كاللاهوت، دون أساس عقلي. بل أسوأ من هذا أن حركة التنوير قوضت الأساس الديني للأخلاق بالتشكيك في وجود إله مثيب معاقب. فأنى للحضارة أن تبقى حية إذا انهارت عمد الأخلاقية التقليدية هذه؟ وأحس كانت أنه هو نفسه، بوصفه تلميذاً صريحاً للتنوير، ملتزم أخلاقياً بالعثور على أساس عقلي ما لناموس أخلاقي. وعليه ففي مقال تمهيدي عنوانه "المبادئ الأساسية لميتافيزيقا الأخلاق" (1785) رفض محاولة أحرار الفكر إقامة الأخلاقية على تجربة الفرد أو النوع؛ فمثل هذا الاشتقاق البعدي خليق بأن يسلب المبادئ الأخلاقية تلك الكلية وذلك الإطلاق اللذين هما في رأيه شرط للمبدأ الأخلاقي السليم. ثم أعلن بما تميز به من ثقة بالنفس: "أنه من الواضح أن المفاهيم الأخلاقية كلها مستقرة ومتأصلة قبلياً في العقل كلية"(39). وقد استهدف كتابه الثاني الكبير "نقد العقل العملي" العثور على ذلك المستقر والأصل وإيضاحه. فسيحلل العناصر القبلية في الأخلاقية كما حلل الكتاب الأسبق في النقد العناصر القبلية في المعرفة.

يزعم كانت أن لكل فرد ضميراً، إحساساً بالواجب، وعياً بقانون أخلاقي آمر. "شيئان يملآن العقل بالإعجاب والرهبة المتجددين المتعاظمين أبداً... السموات المرصعة بالنجوم من فوقنا، والقانون الأخلاقي في داخلنا"(40). وكثيراً ما يتعارض هذا الشعور الأخلاقي برغباتنا الحسية، ولكننا ندرك أنه عنصر أسمى فينا من طلب اللذة. وهو ليس ثمرة التجربة، إنما هو جزء من بنائنا النفسي الأصيل، مثل المقولات؛ وهو محكمة باطنية حاضرة في كل شخص من كل جنس(41). وهو مطلق الحكم، يأمرنا أمراً غير مشروط، وبغير استثناء أو عذر، بأن نفعل الحق من أجل الحق، كغاية في ذاته، لا كوسيلة للسعادة أو الثواب أو لخير غيره. فأمره مطلق. وهذا الأمر المطلق يتخذ شكلين: "أعمل بحيث تستطيع قاعدة إرادتك أن تظل على الدوام صادقة كمبدأ للتشريع العام"؛ أسلك بحيث إذا سلك الغير مثلك سار كل شيء على ما يرام، وهذه (الصيغة المعدلة من القاعدة الذهبية-أي التي تأمر بمعاملة الناس كما تحب أن يعاملون) هي "القانون الأساسي للعقل العملي الخالص"(42)، وهي "الصيغة لإرادة خيرة خيراً مطلقاً(43). وفي صيغة ثانية، "أعمل بحيث تعامل الإنسانية، سواء ممثلة في شخصك أو في شخص أي إنسان آخر، وفي كل حالة، كغاية لا كمجرد واسطة إطلاقاً"(44)،-في هذه الصيغة الثانية أعلن كانت مبدأ أشد ثورية من أي شيء احتواه الإعلان الأمريكي أو الفرنسي لحقوق الإنسان.

والإحسان بالالتزام الخلقي دليل إضافي على قدر من حرية الإرادة.

فأنى يكون لنا هذا الشعور بالواجب أو لم نكن أحراراً في أن نعمل أو لا نعمل، ولو كانت أفعالنا مجرد حلقات في سلسلة لا تنفصل من العلة والمعلول الميكانيكيين؟ والشخصية بدون الإرادة الحرة عديمة المعنى؛ وإذا كانت الشخصية عديمة المعنى كانت الحياة كذلك، وإذا كانت الحياة عديمة المعنى كان الكون كذلك(45). ويدرك كانت بمنطق الحتمية الذي لا يبدو ولا مهرب منه، فكيف يستطيع الاختيار الحر أن يتدخل في عالم موضوعي يبدو محكوماً بقوانين ميكانيكية (كما يعترف كانت)؟(46) وجوابه عن هذا السؤال بلغ الغاية في الغموض والإبهام. فهو يذكرنا بأن القانون الميكانيكي مركب عقلي، نظام يفرضه العقل، بواسطة مقولته العلية، على عالم المكان والزمان ذرية للتعامل معه باتساق. وما دمنا قد قصرنا المقولات على عالم الظواهر، وما دمنا قد سلمنا بأننا لا نعرف كنه العالم النوميني-الشيء-في-ذاته الكائن خلف الظواهر-فأننا لا نستطيع الزعم بأن القوانين التي نركبها للظواهر تصدق أيضاً على الحقيقة المطلقة. وبما أننا سلمنا أننا لا نعرف، في ذواتنا، إلا الذات الظاهرية-عالم المدركات الحسية والصور فقط-ولا نعرف كنه النفس الباطنة والنومينية، فإننا لا نستطيع الزعم بأن قوانين العلة والمعلول التي يبدو أنها تحكم أفعال أبداننا (بما فيها أمخاخنا) تنطبق أيضاً على إرادات الحقيقة الروحية المطلقة الكائنة وراء عملياتنا العقلية. فوراء ميكانيكيات العالم الظاهري للمكان وللأفكار في الزمان قد تكون هناك حرية في العالم النوميني الذي بلا مكان ولا زمان، عالم الحقيقة المطلقة-الظاهرة أو الباطنة. وأفعالنا وأفكارنا تحدد بمجرد دخولها عالم الأحداث المادية أو العقلية المدركة حسياً؛ وقد تظل حرة في أصلها في النفس غير المدركة حسياً؛ "وهكذا يمكن لحرية والطبيعة أن توجد معاً"(47)، وليس في إمكاننا إثبات هذا، ولكن يجوز لنا شرعاً أن نفترضه متضمناً بحكم طبيعة حسناً الأخلاقي الآمرة؛ وبدونه تموت حياتنا الأخلاقية.

على أي حال (في رأي كانت)، لم لا ينبغي أن نقدم العقل العملي على النظري؟ أن العلم، الذي يبدو أنه يجعلنا آلات ذاتية الحركة، هو في النهاية مضاربة-مقامرة على الصحة الدائمة لنتائج ومناهج لا تفتأ تتغير. ونحن على حق إذا شعرنا بأن الإرادة في الإنسان أهم من الذهن، فالذهن أداة صاغتها الإرادة للتعامل مع العالم الخارجي والميكانيكي، وما ينبغي أن يكون السيد المتسلط على الشخصية التي تستخدمه(48).

ولكن إذا كان الحس الأخلاقي يبرر افتراضنا قدر من الإرادة الحرة، فإنه يبرر أيضاً اعتقادنا بخلود النفس، ذلك أن حسناً الأخلاقي يستحثنا إلى كمال تحبطه المرة بعد المرة دوافعنا الحسية، ونحن لا نستطيع تحقيق هذا الكمال في حياتنا على الأرض؛ فإذا كان هناك عدل في العالم فلا بد أن نفترض أننا سنمنح حياة متصلة بعد الموت لاكتمالنا الأخلاقي. وإذا كان هذا يفترض أيضاً وجود إله عادل، فإن هذا أيضاً يبرره العقل العملي. فالسعادة الأرضية لا تتفق دائماً والفضيلة، ونحن نشعر أن التوازن بين الفضيلة والسعادة سيصحح في مكان ما، وهذا لا سبيل إليه إلا إذا افترضنا وجود إله يحقق هذه المصالحة، وعليه فإن وجود سبب للطبيعة كلها، متمايز عن الطبيعة ذاتها، محتوياً لمبدأ... الانسجام الدقيق بين السعادة والفضيلة، هذا أيضاً من مسلمات "العقل العملي"(49).

وقد عكس كانت النهج التقليدي المألوف. فبدلاً من أن يستنبط الحس الأخلاقي والناموس الأخلاقي من الله (كما فعل اللاهوتيون من قبل)، استنبط الله من الحس الأخلاقي. ويجب أن نتصور واجباتنا لا على أنها "أوامر تعسفية لإرادة غريبة عنا" بل قوانين أساسية لكل إرادة حرة في ذاتها". على أنه ما دامت تلك الإرادة والله كلاهما ينتميان إلى العالم النوميني، فينبغي أن نتقبل هذه الواجبات على أنها أوامر إلهية ولن ننظر إلى الأفعال (الأخلاقية) على أنها إلزامية لأنها أوامر الله، ولكنا سنعدها أوامر إلهية لأن فينا التزاماً باطنياً نحوها"(50).

وإذا كان هذا التفكير "الإرادي" (العنيد) يشوبه بعض الغموض، فقد يكون السبب أن كانت لم يكن شديد التحمس لمحاولته التوفيق بين فولتير وروسو. فقد مضى "نقد العقل الخالص" شوطاً أبعد حتى من فولتير في الاعتراف بأن العقل الخالص لا يستطيع إثبات حرية الإرادة، أو الخلود، أو الله. ولكن كانت كان قد وجد في تعاليم روسو-عن تهافت العقل، وأولية الوجدان، وانبثاق الدين من الحس الأخلاقي للإنسان-مهزباً مستطاعاً من اللاإرادية، والتحلل الخلقي، وبوليس فولنر. ورأى أن روسو أيفظه من "السبات العقائدي" في الأخلاق كما أيقظه هيوم في الميتافيزيقا(51). فكان كتابه الأول في النقد ينتمي إلى حركة التنوير، والثاني إلى الحركة الرومانتيكية، ومحاولة الجمع بين الاثنين كانت من أبرع الإنجازات في تاريخ الفلسفة. وقد عزا هايني المحاولة إلى الحرص على حاجات عامة الشعب: لقد رأى الأستاذ خادمه الأمين لامبه يبكي على موت الله؛ "فرق له قلب إيمانويل كانت، وأثبت أنه ليس فيلسوفاً عظيماً فحسب، بل إنساناً طيباً أيضاً، وقال بمزيج من العطف والتهكم: "يجب أن يكون للامبه العجوز إله، وإلا فلن يستطيع أن يكون سعيداً... أما من جهتي فأنا فإن العقل العملي يستطيع أن يضمن وجود الله"(52).


4- نقد الحكم 1790

ولا بد أن كانت نفسه كان غير راض عن براهينه، لأنه في كتابه "نقد الحكم" عاد إلى مشكلة الآلية مقابل الإرادة الحرية، وتقد إلى مشكلة الصراع بين الآلية والقصد، وأضاف إليها مقالات معقدة في الجمال، والجلال، والعبقرية، والفن. وهو مزيج لا يثير الشهية.

أما ملكة الحكم هذه، "فهي عموماً ملكة التفكير في الجزء على أنه محتوى في الكل"، وهي إدراج شيء أو فكرة أو حدث تحت صنف أو مبدأ أو قانون. لقد حاول كتاب "النقد" الأول أن يدرج جميع الأفكار تحت المقولات الكلية القبلية، وحاول الثاني إدراج جميع المفاهيم الأخلاقية تحت حس أخلاقي قبل كلي، أما الثالث فاضطلع بالعثور على مبادئ قبلية لأحكامنا الجمالية (الإستطيقية)-في النظام أو الجمال أو الجلال في طبيعة أو الفن،(53) "إني أجرؤ على الأقل في أن تنهض صعوبة حل معضلة، في طبيعتها مثل هذا التعقيد، عذراً يبرر بعض الغموض الذي لا يمكن تجنبه في حلها"(54).

إن الفلسفة "الدجماطيقية" قد حاولت من قبل أن تجد عنصراً موضوعياً في الجمال؛ أما كانت فيشعر أن هنا، على الأخص، يكون العنصر الذاتي هو الغالب. فليس هناك شيء جميل أو جليل إلا أن يجعله الوجدان كذلك. ونحن نصف بالجمال أي شيء يعطينا تأمله لذة منزهة-أي لذة مجردة من رغبة شخصية؛ فنحن نستمد إشباعاً جمالياً، وجمالياً فقط، من غروب الشمس، أو من لوحة لرفائيل، أو كتدرائية، أو زهرة، أو حفلة موسيقية، أو أغنية. ولكن لم تعطينا أشياء أو تجارب بعينها هذه اللذة المنزهة؟ لعل السبب أننا نرى فيها اتحاداً من الأجزاء يؤدي وظيفته بنجاح في كل متناسق. وفي حالة الجليل تلذنا العظمة أو القوة التي لا تهددنا بخطر؛ وهكذا نشعر بالجلاء في السماء أو البحر، إلا إذا هددنا اضطرابهما بالخطر.

ويزداد تقديرنا للجمال أو الجلال بقبولنا الغائية-أي بتبيننا في الكائنات الحية موائمة أصيلة بين الأجزاء وحاجات الكل، وبشعورنا بحكمة إلهية في الطبيعة وراء التناسق والانسجام، والعظمة والقوة. ولكن العلم يهدف إلى عكس هذا تماماً-وهو أن يثبت أن الطبيعة الموضوعية كلها تعمل بقوانين ميكانيكية، دون خضوع لأي قصد خارج عنها، فكيف السبيل إلى التوفيق بين هذين المدخلين إلى الطبيعة؟ بقبولنا الآلية والغائية جميعاً بقدر ما تساعداننا كمبدئين موجهين، كفرضين ييسران الفهم أو البحث. فالمبدأ الآلي يساعدنا على الأخص في البحث في المواد غير العضوية، أما المبدأ الغائي فهو خير عون لنا في دراسة الكائنات الحية. ففي هذه الكائنات قوى للنمو والتوالد تعيي التفسير الميكانيكي؛ فهناك توفيق واضح بين الأجزاء وأغراض العضو أو الكائن، كاستخدام المخالب للقبض والعيون للإبصار. ومن الحكمة الإقرار بأنه لا الآلية ولا الغائية يمكن إثبات صدقهما صدقاً كلياً. والعلم نفسه، بمعنى من المعاني، هو غائي، لأنه يفرض في الطبيعة ترتيباً، وانتظاماً، ووحدة معقولة، "كأن" عقلاً إلهياً نظمها ويبقى عليها(55).

وقد اعترف كانت بالصعوبات الكثيرة التي تعترض النظر إلى الإنسان والعالم على أنهما حصيلة تدبير إلهي: "إن أول شيء كان يقتضي تدبيره والعالم على أنهما حصيلة تدبير إلهي: "إن أول شيء كان يقتضي تدبيره بجلاء في نظام يوضع بحيث يحقق كلاً غائياً للكائنات الطبيعية على الأرض هو موطنها-التربة أو العنصر الذي يراد لها أن تزكو عليه أو فيه. ولكن التعمق في طبيعة هذا الشرط الأساسي للإنتاج العضوي كله أثراً يظهر أثراً لأي علل إلا تلك التي تعمل دون غاية إطلاقاً، بل تنزع في الواقع إلى التدمير دون أن يكون القصد منها تشجيع تكوين الأنواع والنظام والغايات. والبر والبحر لا يحويان فقط آثار كوارت قديمة العهد هائلة حلت بهما وبكل ما زخرا به من كائنات حية، ولكن تكوينهما بجملته-طبقات اليابس وخطوط سواحل البحر-يحمل كل المظاهر الدالة على أنه نتيجة قوى عنيفة قهارة لطبيعة تعمل في فوضى"(56).

ومع ذلك أيضاً، فإننا لو تخيلنا عن كل فكرة في وجود هدف في الطبيعة لسلبثا الحياة كل معناها الأخلاقي، فتصبح سلسلة حمقاء من ولادات مؤلمة وميتات معذبة، ليس فيها للفرد ولا للأمة ولا للنوع شيء مؤكد إلا الهزيمة. فلا بد لنا من أن نؤمن بغاية إلهية ولو للاحتفاظ بسلامة عقولنا-وما دامت الغائية لا تثبت غير صانع مكافح بدلاً من خيرية إلهية كلية القدرة، فلا بد إذن من أن نرسي إيماننا في الحياة على حس أخلاقي لا يبرره غير الاعتقاد باله عادل. بهذه العقيدة نستطيع أن نعتقد-وأن كنا لا نستطيع أن نثبت بالبرهان-إن البار هو الغاية النهائية للخليقة، وأنه أنبل ثمرة للتدبير العظيم الملغز(57).


5- الدين والعقل 1793

لم يكن كانت قانعاً قط بلاهوته الـ "كأني" المتردد. ففي 1791، في كتيب عنوانه "عن تهافت جميع المحاولات الفلسفة في الإلهيات" أعاد القول إن "عقلنا عاجز عن تبصيرنا بالعلاقة بين العالم... والحكمة السامية". وأضاف إلى هذا تحفظاً، ربما لنفسه، فقال: "على الفيلسوف ألا يلعب دور المحامي الخاص في هذا الأمر؛ وعليه ألا يدفع عن أي قضية يعجز عن فهم عدالتهم، ولا يستطيع إثباتها بطرق التفكير الخاصة بالفلسفة"(58).

ثم عاد إلى المشكلة في سلسلة من المقالات أفضت به إلى تحدي الحكومة البروسية تحدياً سافراً. وطبعت أولى هذه المقالات وعنوانها "في الشر المتأصل" في "مجلة برلين الشهرية" عدد أبريل 1792. وأذن الرقيب بنشرها على أساس أن "العلماء المتعمقين في التفكير هم وحدهم الذين يقرءون كتابات كانت"(59). ولكنه رفض نشر المقال الثاني "في الصراع بين مبادئ الخير والشر للسيطرة على الإنسان". ولجأ كانت إلى حيلة. ذلك أن الجامعات الألمانية كان لها امتياز اعتماد الكتب والمقالات للنشر؛ فقدم كانت المقال الثاني والثالث والرابع إلى كلية الفلسفة بجامعة يينا (وكان يشرف عليها آنئذ جوته وكارل أوجست دوق فايمار، وكان شيلر أحد أساتذتها)، وأذنت الكلية بالنشر، وبهذا طبعت المقالات الأربع كلها في كونجزبرج عام 1793 بعنوان "الدين في حدود العقل وحده".

والسطور الأولى تعلن الفكرة الرئيسية السائدة فيها: "بقدر ما تبنى الأخلاق على مفهوم الإنسان كفاعل حر، هذا الإنسان الذي-بسبب حريته هذه-يتعامى بعقله عن رؤية القوانين غير المشروطة، فإن هذه الأخلاق في غير حاجة إلى فكرة كائن آخر من فوقه ليجعله يدرك واجبه، ولا إلى حافز غير القانون ذاته يجعله يؤديه... ومن هنا فإن الأخلاق من أجل ذاتها هي لا تحتاج إلى دين على الإطلاق"(60). ويعد كانت بطاعة السلطات، ويسلم الحاجة به إلى الرقابة، ولكنه يشدد على "ألا تسبب الرقابة أي اضطراب في مجال العلوم"(61) فغزو اللاهوت للعلم، كما حدث في حالة جاليليو، "قد يعطل جميع جهود العقل البشري... ويجب أن يتمتع اللاهوت الفلسفي بكامل الحرية على قدر ما يمتد إليه علمه"(62).

ويستنبط كانت مشكلات الأخلاق من وراثة الإنسان لنوازع الخير والشر. "لا حاجة لإقامة الدليل صورياً على أن نزعة الفساد لا بد متأصلة في الإنسان وذلك لكثرة الأمثلة الصارخة التي تضعها الخبرة أمام أعيننا"(63). وهو لا يوافق روسو على أن الإنسان يولد خيراً أو كان خيراً في "حالة الطبيعة"، ولكنه يتفق معه في إدانة "رذائل الحضارة والمدنية" لأنها "أشد عيوب أذى"(64)، "والواقع أن هذا السؤال ما زال بغير جواب، وهو، ألا تكون أسعد في حالة غير متحضرة... مما نحن في حالة المجتمع الراهنة"(65) ما فيهمن استغلال ونفاق وخلل أخلاقي وتقتيل بالجملة في الحرب. وإذا شئنا أن نعرف طبيعة البشر الحقيقية فيكفي أن نلاحظ سلوك الدول.

ولكن كيف بدأ "الشر المتأصل في طبيعة البشر"؟.. إنه لم يبدأ بسبب "الخطية الأصلية"، "فلا ريب في أن أشد التفسيرات كلها سخفاً لذيوع هذا الشر وانتشاره في جميع أفراد وأجيال نوعنا هو التفسير الذي يصفه ميراثاً منحدراً إلينا من أبوينا الأولين"(66). وربما كانت النوازع "الشريرة" قد تأصلت في الإنسان تأصلاً قوياً لأنها كانت ضرورية للبقاء في الأحوال البدائية، وهي لا تصبح رذائل إلا في المدنية-في المجتمع المنظم، وفيه لا تحتاج إلى القمع بل إلى الضبط(67). "فالميول الطبيعية، إذا نظرنا إليها في ذاتها، خيرة، أي أنها لا تلام، ومحاولة القضاء عليها ليست عديمة الجدوى فحسب، بل ضارة ومستحقة للوم. والأولى أن نروضها، وبدلاً من أن يصطدم بعضها ببعض يمكن أن ينسق بينها لتنسجم في كل يسمى السعادة(68). والخير الأخلاقي هو أيضاً غريزي، كما يدل على ذلك الحس الأخلاقي في جميع الناس، ولكنه في أول الأمر ليس إلا حاجة، لا بد من تنميتها بالتعليم الأخلاقي والتهذيب الشاق. وأفضل الأديان ليس الذي يفوق غيره في التمسك الدقيق بالعبادة الطقسية، بل أعظمها تأثيراً في الناس ليحيوا حياة أخلاقية(69). والدين القائم على العقل لا يبني نفسه على وحي إلهي، بل على إحساس بالواجب يفسر على أنه أقدس عنصر في الإنسان(70). ومن حق الدين أن ينظم نفسه على هيئة كنيسة(71)، وله أن يحاول تحديد عقيدته بالأسفار المقدسة، وأن يعبد، بحق، المسيح بوصفه أعظم البشر شبهاً بالله، وأن يعد بالجنة وينذر بالنار(72)، و "لا يمكن تصوير دين لا يحتوي على اعتقاد بحياة آخرة"(73). ولكن لا ينبغي أن يكون ضرورياً للمسيحي أن يؤكد إيمانه بالمعجزات، أو بلاهوت المسيح، أو بالتكفير عن خطايا البشر بصلب المسيح، أو بالحكم المقدر على الأرواح بالجنة أو النار بالنعمة الإلهية تمنح دون نظر إلى الأعمال الصالحة أو الشريرة(74). و "من الضروري أن نغرس بعناية بعض أشكال الصلاة في أذهان الأطفال "الذين لا يزالون في حاجة إلى حرفية الدين)(75).، ولكن صلاة الضراعة "التي يتوسل بها لكسب النعمة الإلهية وهم خرافي"(76).

أما حين تنقلب كنيسة ما مؤسسة لإكراه الناس على الإيمان أو العبادة؛ وحين تزعم لنفسها الحق الأوحد في تفسير الكتاب المقدس وهي تعريف الأخلاقية، وحين تكون كهنوتها يدعي لنفسه سبل الاتصال وحده بالله والنعمة الإلهية؛ وحين تجعل من عبادتها مجموعة طقوس سحرية لها قوى معجزية؛ وحين تصبح ذراعاً للحكومة وأداة للطغيان الفكري؛ وحين تحاول أن تتسلط على الدولة وتستخدم الحكام العلمانيين مطايا للطمع الكهنوتي-عندها يثور العقل الحر على كنيسة كهذه، ويبحث خارجها عن ذلك الدين العقلي الخالص، الذي هو السعي لبلوغ الحياة الأخلاقية(77).

وقد تميز هذا الأثر الكبير الأخير من آثار كانت بالتذبذب والغموض الطبيعيين في رجل لا ولع له بحياة السجون. ففي الكثير من الحشو "السكولاستي"، ويشوبه العجيب من تشقيقات المنطق ومن اللاهوت المفرق في الخيال. ومع ذلك فالعجب العجاب مع رجل بلغ التاسعة والستين. أن يظل مبدياً مثل هذه القوة في الفكر والقول، ومثل هذه الشجاعة في صراعه مع قوى الكنيسة والدولة مجتمعة. وقد بلغ الصراع بين الفيلسوف والملك ذروته حين (أول أكتوبر 1794) أرسل إليه فردريك وليم الثاني الأمر التالي الصادر من المجلس الملكي:

"إن شخصنا البالغ السمو قد لاحظنا طويلاً باستياء شديد كيف تسيء استخدام فلسفتك لتقوي وتحط من قدر الكثير من أهم وألزم تعاليم الأسفار المقدسة والمسيحية، وكيف أنك على التحديد، فعلت هذا في كتابك "الدين في حدود العقل وحده"... ونحن نطالبك فوراً بجواب غاية في النزاهة، ونتوقع أنك في المستقبل، تجنباً لسخطنا الشديد، لن يبدر منك ما يسيء كهذا الذي بدر، بل على العكس فإنك طبقاً لمقتضيات واجبك ستستخدم مواهبك وسلطتك لكي يتحقق هدفنا الأبوي أكثر فأكثر. إما إذا تماديت في المقاومة فلك أن تتوقع بالتأكيد أن تجر عليك المقاومة عواقب وخيمة"(78).

ورد كانت رداً ملؤه الاسترضاء. فذكر أن كتاباته لم يوجهها إلا للدارسين واللاهوتيين، الذي ينبغي صيانة حرية تفكيرهم لصالح الحكومة ذاتها. وقال أن كتابه قد سلم بقصور العقل في الحكم على الأسرار النهائية للإيمان الديني. ثم اختتم بتعهد الطاعة: "إنني بوصفي خادم جلالتكم المخلص كل الإخلاص أعلن هنا إعلاناً قاطعاً أنني منذ الآن سأمتنع كلية عن جميع التصريحات العلنية عن الدين، الطبيعي منه والموحي، سواء في المحاضرات أو المؤلفات. "فلما مات الملك (1797) أحس كانت أنه في حل من وعده؛ ثم أن فردريك وليم الثالث عزل فولنر (1797) وألغى الرقابة، وأبطل المرسوم الديني الصادر في 1788. وبعد هذه المعركة أجمل كانت نتائجها في كتيب سماه "صراع الملكات" (1798)، كرر فيه دعواه بأن الحرية الأكاديمية لا غنى عنها للنمو الفكري للمجتمع. ونحن إذا نظرنا إلى الأمر في جوهره، تبين لنا أن الأستاذ القصير القامة، القابع في ركن قصي من أركان المعمورة، قد انتصر في معركة ضد دولة تملك أقوى جيش في أوربا. وستنهار الدولة عما قريب، ولكن ما وافى عام 1800 حتى كانت كتب كانت أبلغ الكتب تأثيراً في حياة ألمانيا الفكرية.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

6- المصلح

واعتزل إلقاء المحاضرات في 1797 (بعد أن بلغ الثالثة والسبعين)، ولكنه واصل نشر المقالات في الموضوعات الحيوية حتى 1798. وظل على صلة بالشئون العالمية رغم عزلته. فلما اجتمع مؤتمر بازل عام 1795 ليرتب صلحاً بين ألمانيا وأسبانيا وفرنسا، اغتنم كانت الفرصة (كما فعل من قبل الأبيه سان-بيير مع مؤتمر اوترخت في 1713) لينشر كراسة عنوانها "في السلام الدائم".

وقد استهلها استهلالاً متواضعاً بوصفه "السلام الأبدي" شعاراً يليق بجبانة الموتى، وأكد للساسة أنه لا يتوقع منهم أن يروا فيه أكثر من مجرد "معلم نظري متحذلق عاجز عم إلحاق أي خطر بالدولة".(79) وبعد أن نحى مواد الصلح المبرم في بازل جانباً باعتبارها مواد تافهة قصد بها مسايرة الظروف، وضع بصفة لجنة مؤلفة من رجل واحد-"ست مواد أولية" تجمل الشروط الأساسية للسلام الدائم: فحرمت المادة الأولى جميع التحفظات والملاحق السرية لأي معاهدة. وحظرت المادة الثانية على أي دولة أن تستولي على أخرى أو تسيطر عليها. وطالبت المادة الثالثة بالتخلص تدريجياً من الجيوش الدائمة. وذهبت المادة الرابعة إلى أنه لا يجوز لأي دولة "أن تتدخل بالقوة في دستور دولة أخرى". وطالبت المادة السادسة كل دولة تخوض حرباً مع أخرى بألا "تسمح بأعمال عدائية من شأنها أن تجعل الثقة المتبادلة مستحيلة، في حالة إبرام سلام في المستقبل، كالاستعانة بالقتلة يغتالون أو يدسون السم... والتحريض على الفتنة في دولة العدو".

وإذ كان من غير المستطاع إبرام صلح طويل الأمد بين دولة لا تعترف بحدود لسيادتها، فإنه لا بد من بذل الجهود الحثيثة لتطوير نظام دولي، وإيجاد بديل للحرب بهذه الطريقة. ومن ثم وضع كانت بعض "المواد المحددة" للسلام الدائم. أولاً، "يجب أن يكون دستور كل دولة جمهورياً. ذلك أن الملكيات والارستقراطيات تنزع إلى الحروب المتكررة، إذ أن الحاكم والنبلاء هم عادة في مأمن من فقد أرواحهم وثرواتهم في الحرب، لذلك يبادرون إلى خوضها بوصفها "تسلية الملوك"؛ أما في الجمهوريات "المواطنون هم المسئولون عن قرار إعلان الحرب أو عدم إعلانها، "وهم الذين سيتحملون العواقب"، ومن ثم "فليس من المحتمل أن يغامر مواطنو دولة (جمهورية) في أي وقت بلعبة غالية التكلفة إلى هذا الحد"(80). ثانياً "يجب أن يبنى كل حق دولي على أساس اتحاد فدرالي بين الدول الحرة"،(81) وألا يكون هذا الاتحاد دولة عظمى، "فالواقع أن الحرب ليست سيئة سوءاً لا برء منه كسوء الملكية العالمية"(82). فينبغي أن يقرر كل شعب حكومته الخاصة به، ولكن على كل دولة بمفردها (على الأقل.. دول أوربا) أن تتجمع في اتحاد كنفدرالي تخول له سلطة التحكم في علاقاتها الخارجية. والمثل الأعلى الذي لا بد من التمسك به هو أن تمارس الدول القانون الأخلاقي الذي تطالب به مواطنيها. فهل يمكن أن تسفر مغامرة كهذه عن شر أعظم مما ينجم عن الممارسة الدائمة للخداع والعنف الدوليين؟ لقد راود كانت الأمل بأن مكيافللي سيثبت في نهاية المطاف أنه مخطئ، وليس هناك ن داع للتضارب بين الأخلاقية والسياسية، ذلك أن "الأخلاق وحدها هي القادرة على قطع العقدة التي لا تقوى السياسة على فكها"(83).

وواضح أن كانت كان مخدوعاً في أمر الجمهوريات (التي شاركت بعد ذلك ف أبشع الحروب قاطبة)؛ ولكن ينبغي أن نقرر أنه كان يعني بـ "الجمهورية" الحكومة الدستورية لا الديمقراطية كاملة. فلقد كان عديم الثقة بالدوافع المتهورة التي تحفز رجالاً لا تكبحهم قيود(84)، وكان يخشى إطلاق حق التصويت للجميع باعتباره تسليطاً للأغلبيات الجاهلة على الأقليات التقدمية والأفراد الخارجين على الإجماع(85). ولكن كانت تغيظه الامتيازات الموروثة، وخيلاء الطبقة، والقنية التي تطوق كونجزبرج، ورحب بالثورة الأمريكية التي أخذت، في رأيه، تكون اتحاداً فدرالياً من دويلات مستقلة، على غرار النظام الذي اقترحه لأوربا. وناصر الثورة الفرنسية بحماسة تقرب من حماسة الشباب، حتى بعد مذابح سبتمبر وحكم الإرهاب.

ولكنه، شأن أتباع التنوير جميعاً تقريباً، آمن بالتعليم أكثر مما آمن بالثورة. في هذا المجال، كما في مجالات كثيرة، أحس بتأثير روسو والحركة الرومانتيكية. "يجب أن نسمح للطفل منذ نعومة أظفاره بكامل الحرية من جميع النواحي... شريطة ألا يتدخل في حرية غيره"(86). على أنه تحفظ بعد قليل في هذه الحرية الكاملة، وسلم بأن قدراً من الضبط ضروري في تكوين الخلق؛ "فإهمال الضبط شر أعظم من إهمال الثقافة، لأن إهمال الثقافة يمكن علاجه في الحياة فيما بعد"،(87) أما أفضل ضبط فهو العمل، وينبغي مطالبة الطفل به في جميع مراحل تعليمه. والتربية الأخلاقية لا غنى عنها، وينبغي أن تبدأ في مرحلة مبكرة. وإذ كانت الطبيعة البشرية تحتوي بذرة الخير والشر كليهما، فإن كل تقدم أخلاقي رهن باقتلاع الشر وغرس الخير، ولا يكون هذا بالثواب والعقاب، بل بالتشديد على مفهوم الواجب".

والتعليم الذي تقوم به الدولة ليس أفضل من التعليم الذي تقوم به الكنيسة، فالدولة ستسعى إلى تكوين المواطنين المطيعين اللينين المتعصبين لوطنهم. والأفضل ترك التعليم للمدارس الخاصة التي يرأسها معلمون مستنيرون ومواطنون مشربون بروح الخدمة العامة(88). لذلك أشاد كانت بمبادئ ومدارس يوهاك بازروف. وأسف على ما تتسم به مدارس الدولة وكتبها المدرسية من تحيز للقومية، وتطلع إلى زمن تعالج فيه جميع الموضوعات بحيدة ونزاهة. وفي 1784 نشر مقالاً بعنوان "أفكار لتاريخ عام من وجهة نظر عالمية"؛ وقد أجمل المقال لتقدم البشرية من الخرافة إلى التنوير، ولم يفسح للدين إلا دوراً صغيراً، وطالب بمؤرخين يرتفعون فوق التعصب القومي.

وقد أدفأ فؤاده بالإيمان بالتقدم، الأخلاقي منه والفكري، كما أدفأ جماعة الفلاسفة أفئدتهم. ففي 1793 وبخ موسى مندلسون على قوله أن كل تقدم يلغيه تقهقر. "في الإمكان الاستشهاد بأدلة كثيرة على أن النوع الإنساني بوجه عام، لا سيما في زماننا بالقياس إلى الأزمنة السابقة كلها، قد سار خطوات لا يستهان بها نحو حياة أفضل من الناحية الأخلاقية. ولا ينقض هذا القول حالات التوقف المؤقتة. وصراخ القائلين بأن النوع الإنساني ينحط باستمرار منشؤه بالضبط أن المرء حين يقف على درجة أعلى من الأخلاقية يمتد بصره إلى مدى أبعد أمامه فيكون حكمه على حالة الناس كما هم، بالقياس إلى ما ينبغي أن يكونوا، حكماً أشد صرامة"(89). فلما بدأ كانت آخر عقد في عمره (1794) أصاب تفاؤله المبكر شيء من الإظلام، ربما سبب الرجعية في بروسيا وتحالف الدول على فرنسا الثائرة. فانطوى على نفسه، وكتب سراً ذلك الأثر الذي نشر بعد وفاته، والذي قدر له أن يكون وصيته الأخيرة للنوع الإنساني.


7- بعد الموت

كان في بدنه من أضأل الرجال في جيله حجماً-لا يجاوز طوله خمسة أقدام إلا قليلاً، يزيده قصراً تقوس إلى الأمام في عموده الفقري. وكان يشكو ضعفاً في رئتيه، ووجعاً في معدته، ولم يطل عمره إلا بفضل تغذية منتظمة معتدلة. ومما يتفق وطبيعته أنه وهو في السبعين كتب مقالاً عنوانه "في قدرة العقل على التحكم في الشعور بالمرض بقوة العزيمة". وكان يؤكد على حكمه التنفس من الأنف؛ فالمرء يستطيع التغلب على الكثير من نزلات البرد، وغيرها من العثرات بإقفال فمه(90). ومن ثم كان في مسيراته اليومية يمشي وحيداً تجنباً للحديث. ثم يمضي إلى فراشه بانتظام في العاشرة، ويستيقظ في الخامسة، ولم يستغرق في النوم إلا ما بعدها مرة على مدى ثلاثين عاماً (كما يؤكد لنا)(91). وقد فكر في الزواج مرتين، ثم أحجم مرتين. ولكنه لم يكن عزوفاً من عشرة الناس؛ فقد اعتاد أن يدعو ضيفاً أو ضيفين، غالباً من تلاميذه، دون أي امرأة قط-لمشاركته غداءه في الواحد بعد الظهر. وكان أستاذاً للجغرافيا، ولكن ندر أن تحرك خارج كونجزبرج، ولم يرقط جبلاً، ولعله لم ير البحر قط على قربة منه(92). وقد شد من أزره طوال محنة الفقر والرقابة عزة نفس لم تلن إلا ظاهرياً لأي سلطان غير سلطان عقله. وكان كريم النفس سمحاً، ولكنه صارم في أحكامه، يفتقد روح الفكاهة الخليق بأن ينقذ الفلسفة من الغلو في الجد. وكان حسه الأخلاقي أحياناً يبلغ من الرهافة حد التزمت الذي يسيء الظن بكل اللذات حتى تثبت أنها فاضلة.

ولقد بلغ من قلة اكتراثه بالدين المنظم أنه لم يختلف إلى الكنيسة إلا إذا اقتضته ذلك واجباته الجامعية(93). ويبد أنه لم يصل قط في حياته بعد الرشد(94). روى هردر أن تلاميذ كانت بنوا شكوكيتهم الدينية على تعليم كانت(95). وقد كتب كانت إلى مندلسون يقول "صحيح حقاً أنني أفكر بأوضح اقتناع، وبغاية الرضى، في أشياء كثيرة ليس لدي الشجاعة أبداً على قولها، ولكني لا أقول أبداً أي شيء لا أعتقده"(96).

وكان حتى آخر سني حياته يجاهد لتحسين عمله، وفي 1798 أخبر صديقاً: "إن العمل الذي أشغل به نفسي الآن يجب أن يتناول الانتقال من الأساس الميتافيزيقي للعلوم الطبيعية إلى الفيزياء. فلا بد من حل هذه المشكلة، وإلا كان هنا فجوة في نسق الفلسفة النقدية".(97) ولكنه في ذلك الخطاب وصف نفسه بأنه "قد عجز عن العمل الذهني". ودخل حقبة طويلة من اضمحلال البدن، والأوجاع المتراكمة، وشعور الوحشة الذي يصاحب شيخوخة العزب. ووافته المنية في 12 فبراير 1804. ودفن في كتدرائية كونجزبرج، فيما يعرف الآن بـ "ستوا كانتيانا"، (مثوى كانت) ونقشت على قبره كلماته "السماء المرصعة بالنجوم من فوقي، والقاموس الأخلاقي في باطني".

وقد خلف عند موته خليطاً كبيراً من الكتابات نشرت على أنها "أثر منشور بعد وفاة مؤلفه" في 1882-84. وفي إحداها وصف "الشيء-في-ذاته"-الطبقة السفلية المجهولة من وراء الظواهر والأفكار-بأنه "ليس شيئاً حقيقياً،... ولا حقيقة موجودة، بل مجرد مبدأ... للمعرفة القبلية التركيبية للعيان-الحسي المتعدد(98)". وقد سمته... "أي شيئاً لا وجود له إلا في فكرنا". وقد طبق هذه الارتيابية ذاتها على فكرة الله:

"ليس الله جوهراً موجوداً خارجي، بل مجرد علاقة أخلاقية في باطني... والأمر المطلق لا يفترض جوهراً يصدر أوامره من عل، ويتصور إذن على أنه خارجي، بل هو أمر أو نهي من عقلي أنا... والأمر المطلق يمثل الواجبات الإنسانية كأوامر إلهية لا بالمعنى التاريخي، كأن (كائناً إلهياً) قد أصدر أوامر للناس، بل بمعنى أن العقل... له القدرة على الأمر بسلطة شخص إلهي وعلى هيئته... "وصورة كائن كهذا، يجثو أمامه الجميع... الخ. تنبعث من الأمر المطلق، وليس العكس... أن الكائن الأعلى... هو من خلق العمل... لا جوهر خارج عني"(99).

وهكذا انتهت الفلسفة الكانتية التي تشبثت بها المسيحية طويلاً، في ألمانيا ثم بعدها في إنجلرة، باعتبارها آخر وأفضل أمل للألوهية، بتصور كئيب لله يراه خيالاً نافعاً نماه العقل البشري ليفسر المطلقية الواضحة للأوامر الأخلاقية.

أما خلفاء كانت الذين يجهلون هذا الأثر الذي خلفه بعد موته، فقد أشادوا به منقذ المسيحية، والبطل الألماني الذي قتل فولتير؛ وغلوا في تمجيد إنجازه غلو غلب تأثيره على تأثير أي فيلسوف من المحدثين. وتنبأ أحد تلاميذه وهو كارل راينهولت بأنه لن يمضي قرت حتى تنافس شهرة كانت شهرة المسيح(100). وقبل الألمان البروتستنت كلهم (باستثناء جوته) زعم كانت بأنه أحدث "ثورة كوبرنيقية" في علم النفس: فبدلاً من أن يكون الفكر (الشمس) هو الذي يدور حول الشيء (الأرض)، جعل الأشياء تدور حول الفكر، ويعتمد عليه. وقد أرضى غرور الذات الإنسانية أن يقال لها أن أساليبها الفطرية في الإدراك الحسي هي المقومات المحددة لعالم الظواهر. وخلص فشته (حتى قبل وفاة كانت) إلى أن العالم الخارجي من خلق العقل، واستهل شوبنهاور-الذي قبل تحليل كانت-بحثه الضخم "العالم كإرادة وفكرة" بهذا الإعلان "إن العالم فكرتي"-وهو إعلان أثار بعض الدهشة في مدام دستال.

واغتبط المثاليون لأن كانت كان قد جعل المادية مستحيلة منطقياً ببيانه أن العقل هو الحقيقة الوحيدة المعروفة لنا مباشرة. وسعد الصوفيون لأن كانت قد قصر العلم على الظواهر، وأقصاه عن العالم النوميني والحقيقي حقاً، وترك هذه المملكة الغامضة (التي أنكر في دخيلة نفسه وجودها) متنزهاًخلاصاً للاهوتيين والفلاسفة. أما الميتافزيقا، التي كان جماعة "الفلاسفة" الفرنسيين قد أقصوها عن الفلسفة، فقد رد لها اعتباراً حكماً للعلوم كلها، وأقر جان بول لاشتير لألمانيا بسيادة الهواء، بعد أقر لبريطانيا بسيادة البحر، ولفرنسا بسيادة اليابس. وبنى فشته وشيلنج هيجل القلاع الميتافيزيقية على مثالية كانت الترانسندنتالية، وحتى رائعة شوبتهاور اتخذت نقطة انطلاقها من تشديد كانت على أولوية الإرادة. قال شيلر "انظر كيف هيأ غني واحد أسباب الرزق لمجموعة من المتسولين"(101).

كذلك أحس الأدب الألماني هو أيضاً تأثير كانت سريعاً، لأن فلسفة عصر تكون على الأرجح أدب العصر الذي يليه. ففرق شيلر برهة في مؤلفات كانت، وكتب خطاباً ملؤه الإجلال للمؤلف، وبلغ في مقالاته النثرية غموضاً يقرب من الغموض الكانتي. وأصبح الإبهام واللبس موضة فاشية في الكتابة الألمانية، وشعار نبالة يشهد بعضوية حامله في تلك الطائفة العتيقة، طائفة نساجي خيوط العناكب. قال جوته "إن التأمل الفلسفي، على العموم، أذى للألمان، لأن من شأنه أن يجعل أسلوبهم غامضاً عسيراً مبهماً. وكلما قوي تعلقهم بمدارس فلسفية بعينها ازدادت كتابتهم سواء"(102).

ويتردد المرء في اعتبار كانت كاتباً رومانتيكياً، ولكن الفقرات الأدبية الغائمة التي كتبها في الجمال والجلال غدت من الينابيع التي انبثقت منها الحركة الرومانتيكية. ولقد انبعثت محاضرات شيلر في يينا "ورسائله في تربية الإنسان الاستطيقية" (1795)-وهي معالم على طريق تلك الحركة-من دراسته كتاب كانت "نقد الحكم". وقد هيأ التفسير الذاتي النزعة لنظرية كانت في المعرفة أساساً فلسفياً لمذهب الفردية الرومانتيكية الذي نشر لواءه مزهواً في حركة "شتورم" (الزوبعية). وعبر تأثير كانت الأدبي إلى إنجلترة، فتأثر به كولبردج وكارليل، ثم عبر إلى إنجلترة الجديدة، وأعطى اسماً لحركة إمرسن وثورو-الترانسندنتالية(103). لقد هز أستاذ الجغرافيا القصير القامة المحدودب الظهر العالم وهو يطأ أرض "متنزه الفيلسوف" في كونجزبرج. وما من شك في أنه قدم للفلسفة وعلم النفس أشق ما عرفه التاريخ إلى الآن من تحليل لعملية المعرفة.