قصة الحضارة - ول ديورانت - م 10 ك 4 ف 19
صفحة رقم : 13650
قصة الحضارة -> روسو والثورة -> الإسلام والشرق السلافي -> اغتصاب بولندة -> نظرة عامة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل التاسع عشر: اغتصاب بولندة 1715-1795
نظرة عامة على بولندة 1715-1764
كانت الجغرافيا، والعرق، والدين، والسياسة، هي الأعداء الطبيعية لبولندة. ذلك أن هذا القطر كان يعدل فرنسا اتساعاً، إذ امتد عام 1715 من الأودر غرباً إلى ما يقرب من سمولنسك وكييف شرقاً، ولكن لم يكن له حد طبيعي-من جبال أو نهر عريض-على أي جبهة ليقيه شر الغزو؛ وقد اشتق اسم بولندة من كلمة "Pole" وهو السهل. ولم يكن لها سوى منفذ واحد إلى البحر-عند دانتزج، أما الفستولا الذي وجد له مصباً هناك، فلم يكن بالحد الذي يصلح للدفاع ضد بروسيا المجاورة. وقد افتقدت الأمة وحدة العراق، فكانت كثرة البولنديين البالغة 6.500.000 نسمة (1715) في صراع متقطع مع الأقليات الألمانية واليهودية واللتوانية والروسية؛ وهنا التقى التيوتون والسلاف وجهاً لوجه في عداء طبيعي. ولم يكن هناك وحدة دينية: فالأغلبية الكاثوليكية الرومانية تحكم وتظلم "المنشقين"-وهؤلاء هم الآخرون منقسمون في نزاع وخصام بين بروتستنت وروم وأثرذكس ويهود. ولم يكن هناك وحدة سياسية، لأن سلطة السيادة التي حرص أصحابها على الاحتفاظ بها كانت في يد "السجم" أو "الديت"، المؤلف كله من نبلاء لكل منهم، بمقتضى حق النقض المطلق، سلطة إبطال مفعول أي اقتراح يقترحه الباقون كلهم، وإنهاء أي دورة، أو أي ديت منتخب، إن شاء. أما الملك فينتخبه الديت، وهو خاضع! "مواثيق" يوقعها شرطاً لانتخابه، ولم يكن في استطاعته أن يتبع أي سياسة طويلة المدى وهو مطمئن أقل اطمئنان إلى توريث تاجه لذريته أو تلقى التأييد المتصل.وقد طالب النبلاء بهذه السلطة غير المقيدة على التشريع لأن كلاً منهم أراد أن يكون مطلق الحرية في السيطرة على أراضيه وأقنانه. ولكن التقييد وروح الحرية، فما إن تصبح الحرية مطلقة حتى تقضي عليها الفوضى، وتاريخ بولندة بعد جان سوبيسكي كان سجلاً للفوضى. وكان أكثر الأرض يزرعه أقنان يرسفون في قيود ذل إقطاعي لا مغيث لهم منه. وكان السيد الإقطاعي أحياناً رفيقاً بهم، ولكنه كان دائماً مطلق السلطة. وأما أقنانه فلم يدينوا له فقط بجزء المحصول الذي يقدره ويطالبهم به، بل كان لزاماً عليهم أيضاً أن يعطوه من كدهم، دون أجر، عمل يومين أو ثلاثة في ضيعته كل أسبوع. ومن حسن الحظ أن الأرض الجيدة الري كانت خصبة، فوجد الفلاحون ما يكفي لإقامة أودهم، ولكن كوكس وصفهم بأنهم "أشد فقراً وذلاً وشقاءً من أي شعب لاحظناه في رحلاتنا"(1). وكان سادتهم المحليون هم الطبقة الدنيا من النبلاء أو صغار الأعيان (شلاختاً)، وهؤلاء الملاك بدورهم كانوا خاضعين لنحو مائة من الأقطاب الذين يملكون أو يشرفون على مساحات شاسعة. وكان صغار الأعيان يشغلون معظم الوظائف التنفيذية في الدولة، وهم من الناحية النظرية يؤلفون الغالبية في مجلس السجم، ولكن السياسة البولندية كانت من الناحية الفعلية صراعاً بين الأقطاب أو أسرهم، الذين يتلاعبون بمجموعات من صغار الأعيان مستعينين بالنفوذ الاقتصادي أو الرشوة المباشرة(2).
وظلت الأسرة في بولندة تحتفظ بأفضليتها البدائية على الدولة. فكان آل رادزيفل، وآل بوتوكي، وآل تشارتوريسكي، كل منهم يترابط أفراده بعاطفة من التماسك الأسري أوثق من أي رباط قومي؛ هنا كان حب الوطن هو حرفياً احترام الأب وتبجيله، والأب الأكبر سناً فوق كل شيء. وكانت الأسرة قوية كنظام أو مؤسسة، لأنها كانت وحدة الإنتاج الاقتصادي والتهذيب الأخلاقي، فلم يكن هناك نزعة فردانية اقتصادية تشتت الأبناء في أرجاء الوطن؛ والابن يقيم عادة في الضيعة الموروثة، خاضعاً لأمر أبيه ما دام الأب حياً. وزكت الأسرة بفضل وحدة السلطة، هذه الوحدة ذاتها الذي أضعف الدولة افتقادها. وكانت كل ثروة الأسرة تحت إشراف أبوي ممركز، وفي كثير من الحالات كانت تزداد من عام إلى عام بفضل أرباح الاستغلال والتصدير المعاد استثمارها من جديد، وفي حالات عديدة فاقت ثروة الملك نفسه. وكان عشرون أسرة بولندية في القرن الثامن عشر ينفق كل منها أكثر من 200.000 جنيه في العام على البيت(3). وكانت الأسرة القوية تسمى بيتها بلاطاً، له مستخدموه، وجيشه الخاص، وخدمه الكثيرون، ومظاهر الأبهة الشبيهة بأبهة الملوك؛ من ذلك أن الأمير كارول رادزيفيل، الذي بلغت مساحة أرضه نصف مساحة بولندة، أولم في 1789 وليمة لأربعة آلاف ضيف كلفته مليوناً من الماركات(4). أما أشهر الأسر البولندية قاطبة-والتي بلغ من شهرتها أنها كانت تعرف باسم "الأسرة" فقط-فهي أسرة تشارتوريسكي. فقد تبوأت مرتبة الإمارة منذ القرن الخامس عشر، واتصلت بصلة القرابة ببيت جاجيللو، الذي حكم بولندة من 1384 إلى 1572. وقد تزوج الأمير كازيميرز تشارتوريسكي (مات 1741)، نائب مستشار لتوانيا، بايزابللا مورستن، التي أضافت دفعة جديدة من الثقافة الفرنسية إلى الأسرة. وأنجب منها ثلاثة من المشاهير هم: (1) فردريك ميشال تشارتوريسكي، الذي أصبح كبير مستشاري لتوانيا، (2) ألكسندر أوغسطس تشارتوريسكي، الذي أصبح أمير بالاتين لـ "روسيا الحمراء"، (3) قنسطنطنياً التي تزوجت ستانسلاس بونياتوفسكي الأول، وولدت له بونياتوفسكي الثاني، وهو الشخصية المأساوية الكبرى في التاريخ البولندي. ومن مفاخر آل تشارتوريسكي فوق ما تميزوا به أن نزعتهم التحررية نمت بنمو ثروتهم. فقد طالما عرفوا بترفقهم بأقنانهم؛ قال أحد معاصريهم "لو أنني ولدت قناً لوددت أن أكون قناً للأمير ألكسندر أوغسطس تشارتوريسكي"(5). فأنشأوا المدارس للأطفال، وزودوهم بالكتب المدرسية، وبنوا الكنائس والمستشفيات والأكواخ النموذجية. ثم جلبوا إلى ضيعتهم وقصرهم في بولافي (قرب لوبلين) معلمين ودارسين دربوا الشباب أياً كانت طبقتهم، على خدمة الدولة. أما من الناحية السياسية فإن الأسرة عارضت حق النقض المطلق لأنه من شأنه أن يجعل الحكم الفعال ضرباً من المحال. واتحدت ضدهم أسر كثيرة شعرت بأن حق النقض هو حاميها الأوحد من الأوتقراطية الممركزة. وكان أقواها أسرة بوتوكي، وزعيمها الأمير فيلكس بوتوكي، الذي كان في استطاعته أن يركب ثلاثين ميلاً في اتجاه واحد دون أن يجاوز أرضه-ثلاثة ملايين من الأفدنة في أوكرانيا.
أما الصناعة والتجارة، اللتان شاركتا في القرن السادس عشر في جعل بولندة قطراً عظيماً وفي إثراء مدنها، فقد عطلتهما خصومة ملاك الأرض ومجلسهم النيابي المطيع. فكانت مدن كثيرة بأسرها تقع في نطاق الملكية الخاصة لقطب من الأعيان آثر الزراعة على الصناعة مخافة أن تنشأ طبقة وسطى مستقلة. وكانت منافسة الحرف اليدوية التي ينتجها الأقنان في الضياع قد جرت الكساد على مهرة الصناع في المدن. كتب انطوني بوتوكي في 1744 يقول "إن خراب المدن ظاهر للعيان حتى أن كبرياتها في الدولة-باستثناء وارسو دون غيرها-أشبه بأوكار اللصوص"(6). ففي مدينة لفوف مثلاً كثر النجيل في الشوارع، وأصبحت بعض ميادينها حقولاً مفتوحاً، ومدينة كاراكاو التي كانت يوماً ما من أعظم المراكز الثقافية في أوربا هبط عدد سكانها إلى تسعة آلاف، وعدد الطلاب في جامعتها الشهيرة إلى ستمائة(7).
ويرجع بعض ما أصاب المدن من انحلال إلى عودة الكاثوليك إلى غزو بولندة. فقد كان كثير من البروتستنت المطرودين تجاراً أو صناعاً مهرة، وقد ترك تقلص عددهم في جميع أرجاء بولندة إلا غربيها (حيث بقي ألمان كثيرون) للمسرح البولندي لملاك الأرض، وكان هؤلاء من الكاثوليك الرومان، أو في الشرق من الروم الأرثوذكس أو الموحدين (وهم كاثوليك يمارسون الطقوس الشرقية ولكنهم يعترفون بابا روما).
وكان المنشقون أو المخالفون- من البروتستنت والروم الأرثوذكس واليهود، وجملتهم ثمانية في المائة من السكان-محرومين من الوظائف العامة ومن عضوية الديت، وكل الدعاوي المرفوعة ضدهم بنظرها محاكم كاثوليكية خالصة(8). وقد بلغت الخصومة الدينية مبلغاً دفع الجماهير عام 1724، في مدينة تورون (ثورن) التي كان أكثر أهلها من البروتستنت، إلى أن تنتهك قدسية القربان وتدوس على صورة العذراء بعد أن أثار غضبها الشديد مسلك طالب يسوعي. وقدأعدم تسعة من هؤلاء المغيرين. واستنجد بروتستنت بولندة ببروسيا، والروم الأرثوذكس بالروسيا، وعرضت بروسيا وروسيا الحماية، ومنها تقدمتا الغزو والتقسيم.
أما أخلاق البولنديين فقد شابهت الأخلاق الألمانية على المائدة، والفرنسية في الفراش. وقد أكره الفلاحين على الاكتفاء بالزوجة الواحدة عكوفهم على الأرض والنسل، ولكن هذا الاكتفاء كان عسيراً في العاصمة لجمال النساء و "سلوكهن المغري"(9)، هؤلاء النساء اللاتي لم يسمحن لتعليمهن الأرقى بأن يقف عقبة في طريق فتنتهن. ويروي أن نساء الطبقة الراقية في وارسو كن من الناحية الجنسية منحلات كنساء باريس(10). ويؤكد لنا بوتياتوفسكي أنه كان بكراً حتى الثانية والعشرين(11)، ولكنه يضيف أن هذه العفة كانت شاذة في طبقته-وكان السكر متوطناً لا يعرف الفوارق بين الطبقات. فهو بين الفلاحين أنساهم في نشوته ما يعانون من فقر أو مشقة أو برد، أما النبلاء فقد سرى عنهم ما يعانون من العزلة والسأم، وفي جميع الطبقات كان الذكور ينظرون إليه لا على أنه رذيلة بل مظهر من مظاهر التيمز. وقد كرم القوم يان كومارتشفسكي لأنه استطاع أن يفرغ في جوفة دلواً من الشبانيا في جرعة واحدة دون أن يدور رأسه أو تخونه قدماه. وقد نبه القوم بونياتوفسكي إلى أنه لن يكون محبوباً ما لم يثمل بالشراب مرتين في الأسبوع(12). وكان إكرام الضيف عادة شائعة بين الجميع، ولكن كان يقاس بمقدار الطعام والشراب الذي كان يقدم للضيف. وقد يحدث أن يرهن أحد الأقطاب مدينة يملكها ليدفع نفقات مأدبة.
وكان البولنديون المثقفون يضفون على المشهد رونقاً بأزيائهم. أما الفلاح فكان في الصيف يقنع بالقميص والسراويل إلى الركبة من التيل الخشن، دون جوارب طويلة أو حذاء. وفي الشتاء يدثر نفسه كالحزمة دون مراعاة للون، ولا وقت للزينة، وأما الأعيان الذين يعدون نحو 725.000 فلباسهم الحذاء الطويل والسيف والقبعة ذاتالريشة والرداء الملون من الحرير أو المخرمات، ثم حول الخصر حزام عريض من النسيج المنقوش ذي الألوان الكثيرة. وهذا الزي الذي اعتزوا بقوميته نقلوه عن المسلمين نتيجة اتصال اللتوانيين بالأتراك في أوكرانيا، وقد عكس ما كان يحدث أحياناً من تحالف بين بولندة وتركيا ضد النمسا أو روسيا، وربما عبر عن نصر آسيوي في عادات البولنديين وأخلاقهم.
أما من الناحية الثقافية فقد عطل بولندة من 1697 إلى 1763 عدم مبالاة ملوكها السكسون بالأدب والفن السلافيين، كما عطلها حربان مدمران. ولم تكن الكنيسة الكاثوليكية هم راع للفنون فحسب، بل إنها كانت الموزع للتعليم والأمين الأكبر على نفائس الثقافة والأدب. وقد فرضت حجراً دقيقاً على بولندة يقيها حركة العلم والفلسفة في الغرب، ولكنها في نطاق حدودها نشرت المعرفة ونمتها. من ذلك أن جوزيف زالوسكي أسقف كييف جمع 200.000 مجلد في وارسو لمكتبته التي تعد من أعظم مكتبات العصر، وفي 1748 فتحها للجمهور وأهداها للأمة؛ وكان أثناء ذلك يحيا حياة الزهد، وقد ضحى بنفسه في الصراع الناشب ليحفظ على بولندة استقلالها.
وهو الذي وجه القسيس الشاب المتطلع، ستانسلاس كونارسكي، إلى دراسة التاريخ والقانون وفي 1731 أصدر كونارسكي المجلد الأول من أربعة مجلدات جمعت ونسقت القانون البولندي من كازيمير الأكبر حتى وقته. هذه الأبحاث وغيرها كشف لكونارسكي عن مدى سقوط بولندة المخزن من حالة الازدهار الذي شهدته أيام النهضة الأوربية. وقد اقتنع بأن البعث لن يأتي إلا من القمة، لذلك أنشأ في وارسو (1740) "كلية للنبلاء" يتلقى فيها شباب الأشراف تعليماً لا يقتصر على الرياضة واللغات والآداب الكلاسيكية (التي أجاد اليسوعيون تدريسها)، بل يشمل العلوم الطبيعية واللغات الحديثة. وكان هذا عملاً بطولياً، لأنه لم يكن لديه مال ولاكتب، ولا معلمون ولا تلاميذ، ومع ذلك فقد جعل من كلية النبلاء هذه بعد خمسة عشر عاماً من الكد معهداً ذائع الصيت مرموقاً، وأحد المنابع للإحياء الثقافي في عهد بونياتوفسكي ولدستور 1791 المستنير. وقد دعا لإصلاح اللغة البولندية تخليصاً لها من العبارات اللاتينية والبلاغة المزوقة؛ واحتجت الأمة، ولكنها تعلمت. ثم توج كونارسكي أعماله بإصداره في بولندة (1760-63) أهم رسالة سياسية في القرن، تحمل هذا العنوان البريء، "في التسيير الفعال لدفة المناقشات" ولكنها احتوت ثورة شعواء على حق النقض المطلق. وهنا أيضاً ارتفعت الاحتجاجات الكثيرة ولكن بعد عام 1764 لم يحل "ديت" بحق النقض. وبمعونة كونارسكي بدأ يونياتوفسكي إصلاح الدستور البولندي.
وقبل ذلك الإحياء الرائع المتقطع عانت بولندة سبعة عشر عاماً من الفوضى والعار والاضمحلال تحت حكم الملوك السكسون.
الملوك السكسون 1697-1763
في موضع آخر من هذا الكتاب(13) ذكرنا كيف تخطى الديت البولندي ابن سوبيسكي العظيم ليعطي تاج بولندة لفردريك أوغسطس، ناخب سكسونيا الذي دخل في المذهب الكاثوليكي بين عشية وضحاها ليصبح أوغسطس الثاني (أي القوي) ملك بولندة، وكيف ولى شارل الثاني عشر ملك السويد مكانه ستانسلاس لشتشز نسكي (1704)، وكيف أتاحت هزيمة شارل في بلطاوة (1709) لأوغسطس أن يستعيد عرشه، وقد تمتع بالقليل من السلطات التشريعية التي كان يتمتع بها ملوك القرن الثامن عشر، ولكن بكل امتيازات الملوك الجنسية. فلما فشل في حكم بولندة رد حبه إلى سكسونيا، فجمل درسدن، وأترع جوفه بالجعة، وأفرغ عافيته بالخليلات، ثم أضاف الإهانة إلى الأذى باتخاذه واحدة فقط من هؤلاء الخليلات من بين حسان بولندة. وفي أخريات عهده وضع خطة لتقسيم بولندة بين النمس وبروسيا وسكسونيا، ولكنه مات (1 فبراير 1733) قبل أن ينفذ تدبيره الشرير. وقد قال على فراش الموت، "إن حياتي كلها كانت خطيئة متصلة"(14).
وفي فترة خلو العرش التي تلت ذلك خلال تجميع ديت انتخابي، أغدق المبعوثون الفرنسيون المال ليكسبوا نواباً يعملون على إعادة لشتشزنسكي. وكان ستانسلاس منذ خلعه يعيش في الألزاس مستمتعاً بالسلام والأمل. وفي 1725 أصبحت ابنته ماري ملكة على فرنسا بزواجها من لويس الخامس عشر، وتوقع لويس الآن أن يتبع حموه، متى رد إلى عرشه، السياسة الفرنسية، سياسة توحيد بولندة وبروسيا وتركيا في صف واحد يضرب نطاقاً حول النمسا. وشعرت الحكومة الروسية بأن حلفاً كهذا من شأنه إضعافها في صراعاتها المحتومة مع تركيا وبروسيا، فبادرت بإرسال الروبلات إلى وارسو لتمنع انتخاب لشتشزنسكي. ولكن الجنيهات الفرنسية كانت أثقل من الروبلات الروسية، وفي 10 سبتمبر 1733 أصبح لشتشزنسكي ملكاً على بوليدة باسم ستانسلاس الأول. ورفضت أقلية الاعتراف بانتخابه، ووضعت نفسها تحت حماية جيش روسي زحف على الفستولا ونادى بالناخب السكسوني ملكاً على بولندة باسم أوغسطس الثالث (6 أكتوبر). وهكذا بدأت حرب الوراثة البولندية، وبدأ أول تدخل حاسم لروسيا في شئون بولندة وبحث ستانسلاس عن جيش بولندة يدافع عنه، فلم يجد جيشاً إلا على الورق، ففر إلى دانتزج واستنجد بفرنسا. وكان يرأس الحكومة الفرنسية آنذاك الكردينال فلوري، ولم يكن به رغبة لخوض حرب مع روسيا النائية، فأرسل مفرزة من 2.400 جندي سحقها الروس بجيش من اثني عشر ألف مقاتل. وفر ستانسلاس من دانتزج واعتكف في اللورين. وفي يناير 1736 وقع على تنازله العرش، وفي يوليو اعترف بأوغسطس الثالث ملكاً.
ولكنه لم يكن أصلح من لشتشزنسكي لقيادة أمة ركبت الفوضى في صميم دستورها. وتعاون فترة مع آل تشارتوريسكي في محاولات لإنهاء حتى النقض، فاستعملت أسرة بوتوكي الفيتو المرة بعد المرة للاحتفاظ بهذا الحق، وأخيراً يئس أوغسطس وأخلد إلى الدعة في درسدن، ولم يزر بولندة إلا لماماً. واستمر الفساد واستشرى، وشارك الملك فيه إذا ألفى نفسه عاجزاً عن وقفه، وباع المناصب لمن يدفع فيها أغلى الأثمان. وهيمن الأقطاب على المحاكم والقوات المسلحة، وتفاوضوا رأساً من الدول الأجنبية وتلقوا منها الإعانات المالية(15). وناورت فرنسا والنمسا وبروسيا وروسيا لترى أيها يستطيع الظفر بنصيب الأسد من انحلال دولة بولندة الوشيك.
وقبل موت أوغسطس الثالث (5 أكتوبر 1763) وبعده تذرعت المنافسة على تعيين خلفه والتسلط عليه بكل حيلة دبلوماسية حتى وصلت إلى شفا الحرب. فطالب آل بوتوكي بجيش دائم عدته 100.000 مقاتل ليحمي بولندة من السيطرة الأجنبية، أما آل تشارتوريسكي فقد راضوا أنفسهم على أن تكون بولندة محمية روسية، وتفاوضوا مع كاترين الثانية. وادعت روسيا لنفسها الحق في حماية الأقلية الرومية الأرثوذكسية في بولندة، ومدت ذاكرتها إلى الماضي البعيد لتتذكر أن أقاليم بولندة الشرقية انتزعها من روسيا سانت فلاديمير (956-1015) قبل ثمانمائة سنة. أما فرنسا فقد ناصرت ابن أوغسطس الثالث خلفاً له، فلو أن روسيا سيطرت على بولندة لأنهار صرح السياسة الخارجية الفرنسية كله في الشرق. وأما فردريك الأكبر الذي كان قد اختتم لتوه سبع سنين من الحرب الطاحنة مع فرنسا والنمسا، فقد كان في حاجة إلى صداقة كاترين التي نجا من الكارثة بإذنها، ووافق على أن يؤيد مرشحها للتاج البولندي، ثم أبرم معها (11 أبريل 1764) معاهدة تلزم الطرفين سراً بمعارضة أي تغييرات في دستور بولندة أو السويد، مخافة أن تقضي أي زيادة ف سلطة الملك إلى جعل أحد هذين القطرين أو كليهما قوياً إلى حد خطر؛ وهكذا اعتزما الدفاع عن الفوضى باسم الحرية. وهدأت كاترين مخاوف آل تشارتوريسكي بوعدها باختزال حق النقض المطلق بعد أن تستقر الأمور في نصابها، وباختيارها محسوباً من هذه الأسرة مرشحاً للعرش. وفي 7 سبتمبر 1764، وباختيارها محسوباً من هذه الأسرة مرشحاً للعرش. وفي 7 سبتمبر 1764، وبإجماع آراء "ديت" أقنعته الروبلات، وجيش روسي لا يبعد عنه أكثر من ثلاثة أميال، اختير ستانسلاس بونياتوفسكي ليتبوأ عرش بولندة.
بونياتوفسكي
ولد لستانسلاس بونياتوفسكي الأب، حاكم كراكاو، وقسطنطيا تشارتوريسكي، في 7 يناير 1732. قال لمدام جوفران "ربيت تربية صارمة جداً على يد أم ندر أن تجدي لها نظيراً اليوم في أي مكان، في حين اكتفى أبي في وعظي بأن أجد فيه الأسوة الحسنة"(16). وحين بلغ السادسة عشرة بدأ القيام برحلات واسعة. وفي 1753 بهر مدام جوفرات وصالونها وكل باريس تقريباً بهيأته ومسلكه وشبابه. وبعد بضع سنوات، وجرياً على سنة جيله، كتب صورة ذاتية كانت مطابقة للحقائق مطابقة منصفة، قال فيها:
"كان خليقاً بي أن أرضى عن شكلي لو كنت فقط أطول بوصة... وكان أنفي أقل انعقافاً، وفمي أصغر بعض الشيء. بهذه التحفظات أعتقد أن وجهي طلق معبر، ومظهري لا يخلو من امتياز... وكثيراً ما يجعلني قصر نظري أبدو مرتبكاً، ولكن للحظة واحدة فقط. فالواقع أنني قد أوذي شعور الغير بالتطرف في الناحية المضادة-بسلوك شديد الخيلاء ويعينني ما حصلت من تعليم ممتاز على إخفاء عيوبي العقلية والبدنية، حتى أن كثيراً من الناس ربما توقعوا مني أكثر مما أستطيع إعطاءه في يسر. وعندي من الذكاء ما يكفي للمشاركة في أي حديث، دون أن يكفي للحديث طويلاً ومراراً. على أن ما فطرت عليه من تعاطف ولطف كثيراً ما يخف لنجدتي. وبي ولع طبيعي بالفن... ويمنعني كسلى أو أوغل في الفنون والعلوم كما أشتهي. وأنا إما مفرط في العمل وإما عاطل منه. وفي استطاعتي الحكم على الأمور حكماً جيداً جداً... ولكنني في مسيس الحاجة للمشورة المخلصة لكي أنفذ أي خطة من بنات أفكاري. وأنا حساس جداً، ولكن الحزن يؤثر فيَّ أكثر كثيراً من الفرح. فأنا أول من يبتئس... وإذا أحببت أحببت حباً جماً... ولست محباً للثأر. ومع أنني في أول لحظات غيضي قد أتوق للانتقام من أعدائي، إلا أنني لا قدرة لي أبداً على إنفاذ رغبتي، فالحنو يقف دائماً حائلاً بيني وبين الثأر"(17). وتوحي قدرة بونياتوفسكي على أن يرى ذاته-ويعبر عنها-على هذا النحو الجميل بأنه ولد ليفكر ويكتب لا ليخطط وينفذ. وكان قد التقى بمونتسكيو وقرأ فولتير؛ واكتسب رهافة ونعومة المجتمع الفرنسي الفكرية مع درجة من تلك "الحساسية" التي أخذت تجد التعبير عنها في روسو. وكان شديد الحساسية للنساء، ويشعر أن ما أعطينه، جسداً وروحاً، لا يقدر بثمن. وقد شاع أنه قبض عليه في باريس لعدم وفائه بدين، ثم أطلق سراحه بعد حبسه ساعة، عندما دفعت مدام جوفران 100.000 جنيه ليفرج عنه"(18).
وبعد أن قضى في باريس خمسة أشهر، وإذا كان قد تعلم الإنجليزية، فقد مضى إلى إنجلترة واختلف إلى بعض جلسات البرلمان، وتطلع إلى إعادة تشكيل الموقف البولندي على غرار إنجلترة كما صورها مونتسكيو. فلما عاد من رحلاته (1754) عين مشرفاً أول للتوانيا. وبعد عام رافق السير تشارلز هانبري وليمز إلى روسيا، وكانت النتائج كما أسلفنا. ثم عاد إلى وطنه عام 1756، ولكنه ذهب إلى سانت بطرسبرج في 1757 سفيراً لبولندة. وشارك في المؤامرة ضد اليزابث في 1758، وأكره على الرحيل عن روسيا دون أن يمهل وحزنت كاترين على رحيله، ولكنها حين أيدته ليرتقي عرش بولندة لم يكن دافعها أنها لم تزل تحبه، بل لأنه (في زعمها) أقل حقاً في العرش من أي مرشح آخر، وإذن فخليق به أن يكون أكثر عرفاناً بهذا الصنيع(19). أما هو فلم يفق قط كا الإفاقة من تلك العلاقة الغرامية المثيرة، وكان يتذكر كاترين قبل أن تقسي السلطة قلبها، وبقي افتتانه بها حتى حين اتخذته مطية لإخضاع شعبه. وبعد انتخابه بيومين أرسل النبأ إلى مدام جوفران:
"ماما العزيزة: يبدو أنني أجد لذة أعظم وأنا أدعوك بذلك الاسم منذ أمس الأول. (وكانت أمه ميتة) لم يكن في تاريخنا كله انتخاب بهذا الهدوء وهذا الإجماع.. وكانت كل كبريات نبيلات المملكة حاضرات في ساحة الانتخاب وسط أفواج النبلاء... وسرني أن تنادي بي أصوات جميع النساء كأصوات جميع الرجال... فلم لم تكوني هناك؟ إذن لانتخبت ابنك"(20).
وقد رأينا كيف اقتحمت "ماما" طرق أوربا لتزور "ابنها" في قصره بوارسو (1766). وإذ لم يكن لديها مفهوم واقعي عن الفجوة التي تفصل بين الحضارتين الفرنسية والبولندية، فقد تاقت نفسها إلى أن تراه يرفع بولندة في عام واحد ما يقتضي رفعه قرناً، وأصبحت مشورتها مصدر إزعاج له، وكدرت محبة بونياتوفسكي البنوية لها؛ فتنفس الصعداء حين رحلت، وإن هدأها بالمجاملات وبصورة لشخصه في إطار مرصع بالماس. واحتفظت بالصورة ولكنها ردت الماس. فلما نأت عنه عاودها حبها له في كل حرارته، وكتبت له من فيينا تؤكد له "المحبة التي هي ضرورة من ضرورات حياتي"(21). وبذل ستانسلاس ما وسعه من جهد. فانقطع لمهام الحكم خلال هذه السنوات الأولى بشعور الحاكم المخلص لواجبه. فكان يحضر كل يوم مداولات وزرائه، ويعكف إلى ساعة متأخرة من الليل على مشكلات اضطلع ببحثها في تفصيل شديد التدقيق. وقد وفق إلى حد كبير في تدريب فيلق من الموظفين المدنيين ذوي الكفاية الفائقة والنزاهة المذهلة(22). ثم فتح بابه لمن يريد لقاءه، وسحر الجميع بلطفه، ولم يسحر الجميع بتحمسه للإصلاح. ولكن نشاطه خفف منه إحساسه بأنه معتمد على كاترين، لا بل على الجيش الروسي الذي خلفته في بولندة ليكفل سلامته وطاعته. وكان سفيرها الكونت أوتوفون شتاكلبرج يرقبه بعينه الساهرة مخافة أن ينسى سلطان روسيا عليه.
وكان الأعداء يحدقون به من بعيد ومن قريب. فالنبلاء البولنديون حزبان: الحزب الذي يتزعمه آل بوتوكي يدعو للاستقلال قبل الإصلاح، ويرغب في كبح سلطة الملك بالإبقاء على قوة الأرستقراطية، والحزب الآخر الذي يتزعمه آل تشارتوريسكي يطلب الإصلاح أولاً، وحجته أن بولندة بفوضاها الراهنة أضعف من أن تنضو عنها الحماية الروسية. وكان آل تشارتوريسكي مترددين في تأييد يونياتوفسكي، فقد أحزنهم سرفه وكثرة خليلاته. وقد خصص له الديت 2.200.000 طالر في العام، وفي 1786 زادها إلى 6.143.000 جولدن-وهو ما يوازي ثلث إيراد الحكومة. ولكنه تجاوز مخصصاته، لأنه كان قد اقترض من المصارف في وطنه وفي خارجه. ودفعت الدولة ديونه مرتين، ومع ذلك ففي عام 1790 كان لا يزال مديناً بمبلغ 11.500.000 جولدن(23). وكان مثل كاترين يتطلع إلى تخليد ذكرى ملكه بتشييد صروح الباذخة، ووزع نفسه وحاشيته على قصرين غاليين، وأقام حفلات الترفيه الكثيرة التكلفة، وأغدق العطايا على الفنانين والكتاب والنساء.
وكانت جاذبيته غالية التكلفة. فلقد كان عند توليه العرش في الثانية والثلاثين من عمره، وسيماً مثقفاً كريماً غير متزوج، فجمع من حوله رهطاً من الحسان يتلهفن على يده وعلى كيس نقوده. وسر العديدات ممن أخفقن في الزواج منه أن يشاركنه فراشه، وشاركت بعض الممثلات الباريسيات في الترفيه عن الملك. واحتج التشارتوريسكيون، فاعترف بخطاياه وتمادى فيها. وأخيراً قادته خليلته تدعى باني جرابوفسكا إلى المذبح في زواج سري. وبعدها خضعت حياته الجنسية للرقابة الشديدة، واستطاع أن يبذل اهتماماً أكثر بشئون الحكم والأدب والفنون. وقد اهتم اهتماماً شخصياً بأعمال وحياة فناني جيله ومؤلفيه. وحذا حذو كاترين فجمع الصور والتماثيل والكتب، وبنى قاعة للفن ومكتبة، وأبرز في المكتبة تمثالاً لفولتير. ووجد عملاً للفنانين الوطنيين، واستقدم غيرهم من فرنسا وإيطاليا وألمانيا. ولم يستطع بيرانيزي وكانوفا الحضور، ولكنهما نفذا أعمالاً له في إيطاليا. وقد حول نصف القصر الملكي إلى مدرسة للفن، ودبر المال ليمكن شباب الفنانين الواعدين من الدراسة في الخارج. وأسس قرب وارسو صناعة للبرسلان ضارعت منتجاته منتجات ميسن وسيفر. وقد ألهم بقدوته أثرياء البولنديين-كآدم تشارتوريسكي، واليزابث لوبوميرسكا، وهيلين رادزيفيل، وغيرهم-ليجمعوا التحف، ويكلفوا الفنانين بأعمال فنية، ويحلوا تنويعات الطراز الكلاسيكي الحديث محل ركوك الفترة السكسونية في بناء قصورهم وزخرفتها. وكان هو ذاته يحبذ مزيجاً من فن الباروك والفن الكلاسيكي، وبهذا الطراز صمم دومنيكو مرليني قصر لازينكي على مشارف وارسو. وكان المصورون الأجانب أثناء ذلك يدربون جيلاً جديداً من الفنانين البولنديين الذي بلغوا مرحلة النضج بعد أن اختفت الحرية البولندية. أما أول الخطوات التي أفضت إلى تلك الكارثة فكانت العقبات التي وضعها فردريك الأكبر في طريق إصلاح بولندة لذاتها. وإلى ذلك الحين (1767) لم يكن لدى كاترين فيما يبدو نية تقطيع أوصال قطر كبولندة خاضع خضوعاً واضحاً لنفوذ الروسي، فالتقسيم سيوسع رقعة بروسيا بحيث تغدو عائقاً أشد خطراً مما يمكن أن تكونه بولندة السلافية أمام مشاركو روسيا في شئون غربي أوربا وثقافتها. لذلك اكتفت بالمطالبة بإعطاء المنشقين حقوقهم المدنية الكاملة. ولكن فردريك أراد أكثر من هذا. فهو لم يستطع قط أن يروض نفسه على قبول هذه الحقيقة، وهي أن غربي بروسيا، الألماني البروتستنتي في غالبيته الكبرى، خاضع للحكم البولندي الكاثوليكي. ومن ثم كان نوع من التقسيم لبولندة هدفاً عنده لا يغيب عنه. وأي تقوية لبولندة، سياسية أو عسكرية، ستعرقل بلوغ أهدافه؛ لذلك أيد عملاؤه حق النقض المطلق، وعارضوا في تشكيل جيش قومي بولندي، ورحبوا بالخلافات المحتدمة بين الكاثوليك والمنشقين لأنها تتيح ذريعة للغزو.
وتعاون تعصب الكهنوت الكاثوليكي الروماني مع خطط فردريك. فقد قاوم كل محاولة تبذل لإعطاء المنشقين حقوقهم المدنية. وفي "روسيا البيضاء"-التي كانت آنئذ جزءاً من بولندة، مشتملة على منسك-انتزعت السلطات الكاثوليكية الرومانية مائتي كنيسة من أتباعها الروم الأرثوذكس وأعطتها لطائفة الموحدين، ومنعت الجاليا الأرثوذكسية من ترميم كنائسها القديمة وبناء أخرى جديدة. وفي حالات كثيرة فصل الأطفال عن آبائهم لينشأوا على طاعة الكنيسة الرومانية، وأسيئت معاملة القساوسة الأرثوذكس، وأعدم بعضهم(24)، وكان بونياتوفسكي، وهو ربيب جماعة الفلاسفة الفرنسيين، ميالاً إلى التسامح الديني(25)، ولكنه كان عليما بأن الديت سيقاوم بالقوة إن اقتضى الأمر، أي خطوة للسماح لغير الكاثوليكي الرومان بعضويته؛ وأحس أنه ينبغي تأجيل اقتراحاً كهذا حتى يستطيع تعديل من نوع ما لحق النقض المطلق أن يشد أزره. وأجاب فردريك وكاترين بأنهما لا يطلبان من بولندة أكثر مما يمنحانه لأقلياتهم الدينية. وقدم للديت الذي اجتمع في أكتوبر ونوفمبر 1766 التماس من بروسيا وروسيا والدنمرك وبريطانيا العظمى بمنح اخوانهم في الدين في بولندة كامل حقوقهم المدنية.
وهناك أثارت بلاغة "كاجيتان سوليتك" أسقف كراكاو ثائرة النواب، فهبوا غاضبين وطالبوا لا برفض الالتماس فحسب، بل بتقديم مؤيديه البولنديين للمحاكمة لأنهم خونة لبولندة ولله(26). ونجا بجلدهم من الموت نفر حاولوا الدفاع عن الملتمس(27). وحاول بونياتوفسكي أن يهدئ المجلس بإصدار (نوفمبر 1766) نبذة سماها "آراء مواطن صالح" ودعا فيها جميع البولنديين للوحدة القومية، وأنذرهم بأن الشعب المنقسم على ذاته يحرض على الغزو. ثم رجا في الوقت نفسه السير البولندي في بطرسبرج أن يفصل روسيا عن الدول موقعة الملتمس. وكتب يقول "لو أصروا على هذا (الملتمس) فإنس لا أتوقع غير عشية كعشية (مذبحة) القديس بارتولميو للمنشقين، وحصاداً من السفاكين أمثال رافياك يغتالونني.. وستحيل الإمبراطورة عباءتي الملكية رداء (للقنطور) نيسوس. وسيكون على أن اختار بين نبذ صاقتها وبين مناصبة وطني العداء". وردت عليه كاترين بطريق نيكولاي ربنان سفيرها في وارسو تقول "لا أستطيع أن أتصور كيف يرى الملك نفسه خائناً لوطنه مجرد أن يؤيد مطالب العدل والإنصاف"(28).
لقد كان يفصلها عن بولندة من البون الشاسع سواء في المسافة أو التعليم ما لا يتيح لها الشعور بوطيس الغضب والكبرياء البولندين. فلما ألفت جماعة من نبلاء البروتستنت اتحاداً في ثورن، وألف حزب من المتشبعين لآل تشارتوريسكي اتحاداً في رادوم، أمرت كاترين ربنن بأن يعرض عليهما حماية روسيا. وتحت ستار هذه الحجة جلب ثمانين ألف مقاتل روسي إلى تخوم بولندة، وبعضهم إلى وارسو ذاتها.
وعاد الديت إلى الاجتماع في أكتوبر 1767. وحض الاسقفان الوسكي وسولتيك النواب على الوقوف بحزم أمام أي تغيير في الدستور. وهنا قبض ربنن على الأسقفين واثنين من العلمانيين بتهمة إهانة الإمبراطورة متخطياً بونياتوفسكي، ونقلهم إلى كالوجا على تسعين ميلاً جنوب غربي موسكو. فاحتج الديت، وأعلن ربنن أنه إذا لقي المزيد من المعارضة فإنه لن يكتفي بترحيل أربعة أقطاب فقط بل أربعين. وفي 24 فبراير 1768 استسلم الديت لتهديدات الحرب وأبرم مع روسيا معاهدة قبل بها كل مطالب كاترين. فمنح المنشقون الحرية الكاملة للعبادة الدينية، وحقهم في أن يختاروا لعضوية الديت وللوظائف العامة، وتقرر أن تنظر الدعاوي القضائية بين الكاثوليك والمنشقين أمام محاكم مختلطة. وسر الديت وكاترين وفردريك بتثبيت المعاهدة لحق النقض المطلق، مع بعض استثناءات للتشريع الاقتصادي. وقبل الديت كاترين حامية لهذا الدستور الجديد، ولقاء هذا ضمنت كاترين الوحدة الإقليمية لبولندة ما استمر هذا الاتفاق. واغتبطت لأنها لم تكتف بمنح بولندة نصيباً من الحرية الدينية أكبر حتى مما تمتعت به إنجلترة، بل أنها أحبطت خطة فردريك لتقسيم بولندة. وتلقى بونياتوفسكي تهاني جماعة الفلاسفة وازدراء شعبه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
التقسيم الأول
اتفق الوطنيون والقساوسة البولنديون 1768-72 مع فردريك على عدم قبول الموقف. وأدان الأكليروس الكاثوليكي الروماني بقوة تسليم استقلال بولندة الذاتي لامرأة ملحدة روسية. واستنفر البولنديين رجلان، أسقف كامر فنييك المسمى آدم كراسنسكي، ويوزف بولاسكي (أبو كازيمير ولاسكي الذي قاتل دفاعاً عن أمريكا)، بالعظات والنشرات ليؤكدوا من جديد حريتهم السياسية ودكتاتوريتهم الدينية. فما انقضى اسبوع على استسلام الديت لربنن حتى ألفت جماعة من البولنديين (29 فبراير 1768) اتحاد "بار"-وهي مدينة على الدنيستر في أوكرانيا البولندية. وكان الأقطاب الذين مولوا الحركة مدفوعين بكراهيتهم لكاترين والملك، وكان "الجمهور الأبله" كما لقب فردريك أتباعهم يضطرم غيرة على المذهب الحق الأوحد، وتردد صدى هذه الحماسة في شعر الشعراء يتحسرون في مراثي حزينة على إذلال بولندة و "ارتداد" ملكها. وبعثت تركيا والنمسا للوطنيين السلاح والمال، وأقبل دمورييه من فرنسا لينظمهم في وحدات مقاتلة. وانضم البولنديون الراغبون في رد الأسرة السكسونية للعرش إلى الحركة التي ما لبثت أن انتشرت إلى مواقع متفرقة في طول البلاد وعرضها. وكتب ربنن إلى كاترين يقول "إن بولندة بأسرها اشتعلن ناراً". وفكر بونيا توفسكي في الانضمام إلى الاتحاد، ولكن أعضاءه الغلاة المتهورين نفروه وأقصوه عنه بالمطالبة بخلعه لم يكن بإعدامه(29). وإذا جاز أن نصدق فولتير(30)، فإن ثلاثين من أعضاء الاتحاد أقسموا في تشستوكوفا هذا القسم:
"نحن الذين أثارتنا غيرة مقدسة دينية، والذين صممنا على الثأر لله والدين والوطن، بعد أن أسخطنا ستانسلاس أوغسطس، محتقر الشرائع الساوية والأرضية، وراعى الكفار والمهرطقين، نتعهد ونقسم أمام صورة أم الرب المقدسة المعجزية بأن نستأصل من وجه الأرض شأفة من يدنسها بوطئة الدين. فليساعدنا الرب!".
وأمر ربنن الجيش الروسي بإخماد الفتنة، فطرد الاتحاديين وراء الحدود التركية وأحرق مدينة تركية. فأعلنت تركيا الحرب على روسيا (1768) وطالبت بجلاء الروس عن بولندة وتحريرها. واغتنم القوزاق فرصة الاضطراب الشديد ليغزو أوكرانيا البولندية. فطبشوا بملاك الأرض، ووكلائهم اليهود، والفلاحين الكاثوليك والرومان أو البروتستنت، في مهرجان من التقتيل العشوائي، ففي مدينة واحدة قتلوا ستة عشر ألف رجل وامرأة وطفل. ورد الاتحاديون بقتل من وصلت إليهم أيديهم من الروس والمنشقين، وهكذا عانى البروتستنت واليهود من خطر مضاعف. ففي هذه السنوات بجملتها (1768-70) هلك خمسون ألفاً من سكان بولندة سواء في المذابح أو المعارك(31).
وبدأت كل الأطراف الآن حديث التقسيم. أما الاتحاديون فقد اتهمهم أعداؤهم بأنهم وافقوا على تقسيم بولندة فيما بينهم وبين حلفائهم(32). ففي فبراير 1769 أرسل فردريك إلى سنانت بطرسبرج اقتراحاً بتقسيم بولندة بين روسيا وبروسيا والنمسا، واشترطت كاترين في ردها أن تمد بروسيا والنمسا يد العون لروسيا لطرد الترك من أوربا، لكي توافق على أن تختص بروسيا بذلك الجزء من بولندة الذي يفصل بروسيا الكبرى عن بروسيا الشرقية، أما باقي بولندة فيخضع للحماية الروسية(33)، ولكن فردريك تردد. أما شوازيل المتحدث باسم فرنسا فقد اقترح على النمسا أن تستولي على الأقاليم البولندية المجاورة للمجر. ورأتها النمسا فكرة مواتية في وقت موات، وعليه ففي أبريل 1769 احتلت إقليم سبتز البولندي، الذي كانت المجر رهنته لبولندة في 1412 ولم يفك رهنه قط(34). وفي 1770 اقترح الترك الذين كانوا آنئذ يقاتلون بصفتهم مدافعين عن بولندة-على النمسا تقسيم بولندة بين النمسا وتركيا(35).
وبينما كانت هذه المفاوضات دائرة ارتضت الدول الغربية فكرة تقسيم بولندة نتيجة لا مناص منها لفوضاها السياسية، وأحقادها الدينية، وعجزها الحربي و "أدرك كل رجل دولة في القارة أن الكارثة واقعة لا محالة"(36). ولكن البولنديين من خصوم الاتحاديين في هذا الوقت أوفدوا عضواً في الديت ليطلب إلى الفيلسوف الاشتراكي مابلي، وإلى عدو جماعة الفلاسفة روسو، أن يضعا دستوراً مؤقتاً لبولندة جديدة. وقدم مابلي توصياته في 1770-71، أما روسو فقد فرغ من "دستور بولندة" في أبريل 1772-بعد شهرين من التوقيع على أولى معاهدات التقسيم.
واستمتع اتحاد بار بلحظات من النشوة قبل انهياره. ففي مارس 1770، ومن مدينة فارنا التركية، أعلن خلع بونياتوفسكي. وفي 3 نوفمبر 1771، اعترض بعض-الاتحاديين طريقه وهو يغادر منزل عم له في الليل، وتغلبوا على حرسه، وقتلوا أحدهم رمياً بالرصاص، ثم جروا الملك من داخل عربته، وأحدثوا قطعاً في رأسه بضربة سيف، ثم اختطفوه من عاصمة ملكه. ولكن دورية من الشرطة هاجمتهم في غابة بيلني، وأثناء العراك هرب بونياتوفسكي، واتصل بالحرس الملكي، فأتى رجاله وعادوا به إلى قصره مشعث الشعر ينزف دماً في الخامسة صباحاً. وهكذا قضى على كل احتمالات المصالحة بين الحكومة والاتحاد. ولجأ بونياتوفسكي إلى المساعدة الروسية، وقمع الاتحاد، وبقيت منه بقية في تركيا-الهلال يحمي الصليب (1772)(37).
على أن تقدم جيوش روسيا إلى البحر الأسود والدانوب أزعج كلاً من بروسيا والنمس. فلا فردريك الثاني ولا جوزف الثاني كانا مغتبطين بتوقع سيطرة روسيا على البحر الأسود، وأسوأ من ذلك أن الآستانة. وكانت بروسيا قد تعهدت في معاهدتي 1764 و1766 بأن تساعد روسيا إذا هوجمت، وكانت تركيا من الناحية الشكلية هي المعتدي في حرب 1768 الروسية التركية؛ وكانت بروسيا تعرض خزانتها للإفلاس بإرسالها المعونات المالية لروسيا. أما النمسا التي ساءها دخول القوات الروسية فلاشيا فكانت تهدد بالتحالف مع تركيا ضد روسيا؛ في تلك الحالة كانت روسيا ستنتظر من بروسيا أن تهاجم النمسا. ولكن فردريك كان قد ضاق ذرعاً بالحرب. لقد خاض حربين ليستولي على سيليزيا ويحتفظ بها، فلم يخاطر بها الآن؟ ومن ثم آثر الطرق الدبلوماسية. وتساءل ألا يمكن استرضاء الدول الثلاث بحصص يلتهمونها من أرض بولندة؛ لو أن الأمور تركت تجري مجراها والسفير الروسي يحكم بولندة فعلاً لما كانت المسألة إلا مسألة وقت حتى تبتلع روسيا ذلك البلد كلية متسترة وراء أي حجة. فهل ما زال في الإمكان الحيلولة دون هذا؟ بلى، إذا ارتضت كاترين أن تأخذ بولندة الشرقية فقط، وتدع فردريك يأخذ بولندة الغربية وتنسحب من الدانوب. وهل يخفف من شره يوزف للقتال أن يعطي نصيباً من الغنيمة؟
وعليه ففي يناير 1771 اقترح الأمير هنري، أخو فردريك، الخطة على الدبلوماسيين الروس في سانت بطرسبرج، واعترض بنن بأن روسيا قد ضمنت وحدة بولندة الإقليمية، فذكروه بأن هذا الضمان كان رهناً بالتزام بولندة بدستورها الجديد وتحالفها مع روسيا، وأن هذا الالتزام انقطع بانضمام العدد الكبير من النواب لاتحاد بار المتمرد. ومع هذا لم ترض كاترين عن الخطة. فأي شيء يدعوها لإعطاء فردريك جزءاً من بولندة بينما قد تأخذ هي الكل بعد قليل؛ ولم تدعم قوة بروسيا بمزيد من الأرض، والموارد، والثغور البلطية، ومزيد من الجند الفارعين، ولكنها لم ترد خوض حرب مع فردريك، فقد كان لديه 180.000 رجل تحت السلاح؛ وآثرت على ذلك أن تجعله يمنع يوزف من الاتحاد مع تركيا ضد روسيا، فهدفها الحاضر ليس بولندة بل البحر الأسود. وعليه ففي 8 يناير 1771، أشارت لهنري عرضاً في حلة إلى موافقتها مبدئياً على خطة فردريك.
وانقضى عام قبل أن تتمكن المفاوضة من الفصل في تقسيم الغنيمة. فقد أراد فردريك أن يأخذ دانتزج، فاعترضت كاترين؛ وكذلك بريطانيا التي كانت تجارتها مع البلطيق ترسو على ذلك الثغر. وفي غضون هذا عبأت النمسا قواتها، وتحالفت سراً مع تركيا. وفي 17 فبراير 1772 وقع فردريك وكاترين "اتفاقاً" على تقسيم بولندة. وألانت كاترين جانب يوزف بتخليها عن جميع مطالب روسيا في فلاشيا وملدافيا؛ ثم إن رداءة محصول 1771 جعل من المستحيل عليه إطعام جيشه. وكانت ماريا تريزا من جهة أخرى تتوسل إلى ولدها بكل دموعها لتمنعه من الاشتراك في اغتصاب بولندة، غير أن فردريك وكاترين أكرهاه على الموافقة بشروعهما في الاستيلاء الفعلي على الأقاليم التي خصا نفسيهما بها. وفي 5 أغسطس 1772 أضاف يوزف توقيعه على ميثاق التقسيم.
أما المعاهدة فبعد الديباجة التي ابتهلت إلى الثالوث المبارك، وافقت على أن تحتفظ بولندة بثلثي أرضها وثلث سكانها. واستولت النمسا على بولندة الجنوبية بين فولينيا والكربات، مع غاليسيا وبودوليا الغربية-27.000 ميل مربع، و2.700.000- نسمة. وأخذت روسيا "روسيا البيضاء" (بولندة الشرقية إلى دوينا ونيبر) 36.000 ميل مربع، و1.800.000 نسمة. وأخذت بروسيا "بروسيا الغربية" فيما عدا دانتزج وتورن 13.000 ميل مربع و600.000 نسمة. وأخذ فردريك أصغر نصيب، ولكنه كان قد ألزم المتآمرين بالسلام، و "خاط"- على حد قوله بروسيا الغربية وبروسيا الشرقية مع براندنبرج. وقال قال الوطني ترايتشكي إن فردريك على أية حال لم يفعل أكثر من أنه رد إلى ألمانيا "معقل الفرسان التيوتون،-وادي فايشيزال الجميل- الذي انتزعه الفرسان الجرمان من البرابرة في الأيام الخالية"(38) وذكر فردريك وربا بأن سكان بروسيا الغربية كثرتهم العظمى ألمانية وبروتستنتية، أما كاترين فقد ذكرت أن الإقليم الذي أخذته يسكنه كله تقريباً أتباع الكنيسة الرومية الكاثوليكية المتحدثون بالروسية(39).
وسرعان ما احتلت الدول الثلاث أنصبتها من الغنيمة بجيوشها. واستنجد بونياتوفسكي بالدول الغربية لتمنع التقسيم، ولكنها كانت في شغل شاغل عنه؛ ففرنسا تتوقع الحرب مع إنجلترة، وقد ترددت في معارضة حليفتها النمسا، وإنجلترة تواجه الثورة الوليدة في أمريكا، والخطر الذي قد يأتيها من فرنسا وأسبانيا؛ ونص جورج الثالث بونياتوفسكي بأن يصلي لله(40). وطالبت الدول صاحبة التقسيم بدعوة الديت ليصدق على التقسيم الجغرافي الجديد؛ فماطل بونياتوفسكي عاماً، وأخيراً دعا الديت للاجتماع في جرودونو. ورفض الكثير من النبلاء والأساقفة حضوره، وبعض الذين جاءوا وأحنجوا نفوا إلى سيبيريا؛ وقبل غيرهم الرشا؛ وحولت البقية المتخلفة من الديت نفسها إلى اتحاد كونفدرالي (يبيح فيه القانون البولندي حكم الأغلبية)، ووقع الديت المعاهدة التي نزلت عن الأقاليم المنتزعة من بولندة (18سبتمبر 1773) وبكى بونياتوفسكي ووقع كما بكت ماريا تريزا ووقعت.
وقبلت أوربا الغربية هذا التقسيم الأول على أنه البديل الوحيد لابتلاع روسيا لبولندة ابتلاعاً تاماً. ويقال إن بعض الدبلوماسيين "أذهلهم اعتدال الشركاء، الذين اكتفوا بالثلث في حين كان الكل رهن إشارتهم إن طلبوه"(41). واغتبط جماعة الفلاسفة لأن بولندة المتعصبة عاقبها مستبدوهم المستنيرون، ورحب فولتير بالتقسيم باعتباره هزيمة تاريخية للكنيسة الكاثوليكية،(42) ولكنه بطبيعة الحال لم يكن سوى انتصار للقوة المنظمة على العجز الرجعي.
التنوير البولندي 1773-1791
كان على بونياتوفسكي أن يختار الآن بين روسيا وبروسيا حامياً له وسيداً عليه. فاختار روسيا، لأنها أكثر بعداً، ولأن روسيا دون غيرها تستطيع منه فردريك من الاستيلاء على دانتزج وتورن. وكانت كاترين تواقة إلى الحيلولة دون مزيد من توسع بروسيا، التي كان جيشها العقبة الكؤود في طريق التوسع الروسي غرباً. لذلك أمرت سفيرها في وارسو بأن يقدم العون لبونياتوفسكي بكل طريقة تتفق ومصالح روسيا، وأرسلت إلى الملك المقترحات التي وضعها بنين من قبل لدستور بولندي أيسر نفيذاً. وقد احتفظ هذا الستور بنظام الملكية الانتخابية وحق النقض المطلق، ولكنه دعم قوة الملك بأن أقام برآسته، وكأداته التنفيذية، مجلساً دائماً من ستة وثلاثين عضواً، ينقسم إلى وزارات للشرطة والعدل والمالية والشئون الخارجية والحرب؛ ثم نص على إنشاء جيش نظامي من ثلاثين ألف مقاتل. وخاف النبلاء أن يهدد الجيش كهذا سيطرتهم على الملك، فخفضوا العدد إلى ثمانية عشر ألفاً، على أن الديت الذي انعقد في 1775 صدق على الدستور الجديد مع هذا الاستثناء واستثناءات صغيرة أخرى، وأصبح في وسع بونياتوفسكي الآن أن يشرع في رد شيء من العافية على الأمة.
واستمر الفساد ولكن الفوضى قلت، فأمكن التغلب على عصابات قطاع الطرق، ونما الاقتصاد القومي. وعمقت الأنهار لتسمح بمرور السفن الكبيرة، وشقت الترع لتصل بين الأنهار، وأكملت في 1783 "قناة ملكية" تربط البحرين البلطي والأسود. وازداد سكان بولندة بين عامي 1715 و1773 من 6.500.000 إلى 7.500.000، وتضاعف دخل الدولة. وتقرر نظام للمدارس القومية، وأعدت الكتب المدرسية وزود بها التلاميذ، ومنحت الهبات من جديد لجامعتي كراكاو وفلنو وبعث فيهما النشاط، وأسست الدولة كليات لتخريج المعلمين ومولتها. وكان يونياتوفسكي يحب أن يحيط نفسه بالشعراء والصحفيين والفلاسفة. كتب كوكس يقول "إن الملك يولم كل خميس للأدباء المشهورين بعلمهم وقدراتهم، وجلالته يترأس بنفسه المائدة"(43). ويقود النقاش في الكتب والأفكار. وقد استضاف ثلاثة مؤلفين ليعيشوا معاً، ورفع دخل مؤلفين آخرين في صمت(44). وكان آلاف البولنديين، مع تقديمهم فروض الإجلال للكنيسة-يقرءون لوك ومونتسكيو وفولتير وديدرو ودالامبير وروسو. وهكذا أرسيت أسس التنوير البولندي أو الستانسلافي.
وقد اجتذب يسوعي يدعى آدم ناروشفتش أذن الملك بشعره؛ فرقي أسقفاً، ولكنه واصل نظم الشعر العاطفي للطبيعة، وما زال "ترنيمته للشمس" و "فصوله الأربعة" تحبب فيه من يستطيعون قراءته في الأصل. وقد استعملت "قصائده الهجاءة" ألفاظاً شعبية رابيلية الطابع أحياناً أو نابية. وطلب إليه ستانسلاس أن يكتب تاريخاً لبولندة يجمع بين السهولة والعمق. فأنفق الشاعر في هذا العمل تسع سنين، وأخرج في ستة مجلدات (1780-86) أثراً يمتاز بتوثيقه الدقيق. ولكن حماسته فترت بعد التقسيم الثاني، وأصيب بالاكتئاب، ولم يعمر أكثر من سنة بعد التقسيم الأخير(45). أما أبرز كتاب العهد البولنديين فهو اجناتسي كراسيكي. وقد اكتسب في رحلاته صداقة فولتير وديدرو(46) وأصبح قسيساً، ثم رئيساً للأساقفة آخر الأمر، ولكن ستانسلاس حثه على إطلاق العنان لمواهبه الشعرية. فكتب ملحمة هازلة سماها "ملحمة الفيران، انتقد فيها نقداً لاذعاً حروب جيله وصورها معارك بين الجرذان والفيران. وفي قصيدته "هوس الرهبنة" (1778) هزأ بالخصومات الديرية وأسلحتها الفتاكة هي الكتب اللاهوتية. ثم اتجه إلى النثر، فروى في "مغامرات السيد نيقولا المكتشف" (1776) كيف اكتشفت نبيل بولندي شاب، مزود بكل حصيلة العصر وعواطفه، تحطمت به السفينة على جزيرة غربية، إن الرجال والنساء يمكن أن يكونوا مجدين فضلاء رغم جهودهم في "حالة الفطرة". وقد اقتفى خطر هومر وسويفت وديفو في أعماله هذه، ثم اقتبس أسلوب أديسون وأخرج سلسلة من صور الحياة اليومية، منها "بان بود ستولي" (1778 وما بعدها) التي تصف حياة جنتلمان ومواطن مثالي. وفي "قصص خرافية وأمثال (1779) تحدى فيدروس ولافونتين، وهاجم في تهكم لاذع خراب الذمة والوحشية المستشرية من حوله. وكانت آخر نصيحة له هوراسية النزعة، "التمس لك ركناً هادئاً، ودع السعادة تأتيك خلسة"(47).
ومع أن تأثير التنوير الفرنسي على ناروشفتش وكراسيكي قد حاد منه سلطان الدين، إلا أنه ظهر بشكل قاطع في ستانسلاس ترمبيكي، الذي لم يذكر الدين قط إلا بروح العداء. وقد مجد شعره الطبيعة، ولكن ليس في تلك المظاهر السارة التي كثيراً ما تحرك العواطف الرقيقة؛ فقد آثر جوانبها الأكثر جموحاً ووحشية، إسرافها المجنون في إنتاج النبات والحيوان، عواصفها وسيولها، صراع الحياة مع الحياة والمأكول مع الآكل؛ واقتبست خرافاته شكلها من لافونتين ولكن روحها منقول عن لوكريتيوس. وقد أكسبته قوة شعره ورهافته وصقله مكانة مرموقة في هذا الازدهار الأدبي. وسانده بونياتوفسكي في جميع محنه، وعند خلع الملك رافقه الشاعر في المنفى، ومكث معه حتى مات.
وكان هناك شعر ديني كثير، لأن الدين كان العزاء الأخير للبولنديين في خطوبهم الشخصية والقومية. وقصائد فرانتشيشيك كارينسكي المسماة "أغنية الصباح" و "أغنية المساء" و "ولادة المسيح" أدب كما أنها تعبد. أما فارنتشيشيك كثيازنين فكان يتنقل في غير عناء بين هذين العدوين القديمين، الدين والجنس، فحين أشرفعلى دخول القسوسية اكتشف أناكريون والحب؛ ونشر قصائد غزلية" إيروتيكا" (1770)، ونشد سعادة الدنيا، ثم عاد إلى الدين، ومات مجنوناً. إن محاولة التوفيق بين النقيضين قد تفضي إلى الجنون كما تفضي إلى الفلسفة.
أما في مضمار الدراما فإن أبرز رجالها هو فويتسيش بوجوسلافسكي، الذي يكرم وطنه ذكراه باعتباره "أبا المسرح البولندي"؛ ويجوز لنا أن نسميه "جاريك" بولندة، ولكن البولنديين لو سئلوا لوصفوا جاريك بأنه بوجوسلافسكي إنجلترة. وكان فيما يبدو أول بولندي كرس حياته كلها للمسرح، ممثلاً، وكاتباً مسرحياً، ومخرجاً، ومديراً لمسارح دائمة في وارسو ولفوف، ومديراً لشركات نشرت تذوق الدراما في طول البلاد وعرضها ووراء الحدود. قدم شكسبير وشريدان مترجمين، وألف هو نفسه كوميديات ما زال بعضها يمثل على المسرح البولندي. وكانت أفضل تمثيليات هذه الفترة هي "عودة النائب" بقلم جوليان أورسين نيمتشفتش الذي كان هو نفسه نائباً، فقد صور جانبي الأزمة السياسية تصويراً درامياً في حب نائب من دعاة الإصلاح لفتاة يدافع أبواها عن امتيازات الأقطاب وأساليب العيش في الماضي.
وآخر رجال التنوير البولنديين وأعظمهم هو هوجر كوللونتاج. نقل إليه تعليمه عدوى أفكار جماعة الفلاسفة، ولكنه ستر هرطقاته ستراً كافياً حتى حصل على وظيفة كاهن مريحة في كراكاو. وعينه يونياتوفسكي (1773) عضواً في لجنة للتعليم، وضع لها كوللونتاج وهو لا يزال في الثالثة والعشرين برنامجاً لإصلاح تعليمي يتفق وخير برامج جيله. وحين ناهز السابعة والعشرين وكل بإعادة تنظيم جامعة كراكاو، وأنجز المهمة في بضع سنين، ثم بقي في الجامعة مديراً لها. وفي "خطابات من كاتب مجهول إلى رئيس الديت" (1788-89)، وفي "القانون السياسي للأمة البولندية" (1790) قدم مقترحات أصبحت أساساً لدستور 1791. وكافحت بولندة، بفضل حث شعرائها ومعلقيها، لتنير نفسها وتصبح دولة قوية قادرة على الدفاع عن ذاتها. وحانت الفرصة حين عرض فردريك وليم الثاني-خلف فردريك الثاني-على "ديت السنين الأربع" الذي استمر انعقاده من 1788 إلى 1792 تحالفاً تتعهد فيه بروسيا بأن يحمي جيشها القوي بولندة من أي تدخل أجنبي. وكانت روسيا في شغل بحربها مع تركيا والسويد، فالآن قد تستطيع بولندة أن تعتق نفسها من خنوعها الطويل لكاترين، وتتخلص من أعمال السلب والنهب التي اقترفها الجنود الروس على الأرض البولندية طوال السنوات الخمس والعشرين الأخيرة. وحل الديت مجلس بونياتوفسكي الدائم رغم احتجاجاته، ووافق على أن يجند بإذن الديت جيش من 100.000 مقاتل، وأمر الجيش الروسي بالرحيل عن بولندة فوراً (مايو 1789)، إما كاتربن التي كانت في حاجة لجميع قواتها في مواقع أخرى فلم تقاوم، ولكنها أقسمت على الانتقام. وفي 29 مارس 1790 أبرم الديت تحالفاً مع بروسيا. وكان بونياتوفسكي هو أيضاً قد ثمل الآن بجو الحرية. فنبذ ولاءه لكاترين وتزعم صياغة دستور جديد. وقد نصت شروطه على جعل الملكية وراثية، ولكنها ضمنت وراثة البيت المالك السكسوني للعرش بعد موت بونياتوفسكي الذي لم يعقب. وتقرر أن توسع سلطات التاج التنفيذية بإعطاء الملك حق النقض المعلق-أي حق منع قرار وافق عليه دايت من أن يصبح قانوناً حتى يؤكده الدايت التالي. ونص على أن يعين الملك وزرائه والأساقفة، وأن يتولى قيادة الجيش، وعلى أن ينتخب عددصغير من المواطنين وغيرهم من أهل المدن نواباً. أما الديت فيتألف من مجلسين؛ مجلس للنواب له وحده الحق في وضع القوانين، ومجلس للشيوخ-يتألف من الأساقفة وحكام الأقاليم ووزراء الملك-تشترط موافقته على أي قانون. أما حق النقض المطلق فتحل محله قاعدة الأغلبية. ويعترف بالمذهب الكاثوليكي الروماني ديناً سائداً للأمة، ويعد الارتداد عنه جريمة، وفيما عدا ذلك فحرية العبادة مكفولة للجميع. وبقيت القنية، ولكن للفلاحين الآن أن يستأنفوا دعاواهم من المحكمة الوراثية إلى محكمة إقليمية أو قومية. وكان تأثير الدستور الذي اتخذته الولايات المتحدة الأمريكية (1787-98) واضحاً في هذه التوصيات. ذلك أن البولنديين الذين حاربوا دفاعاً عن المستعمرات الأمريكية كانوا قد هيأوا ذهن بونياتوفسكي، ولم يكن قد نسي قراءته للوك ومنتسكيو وجماعة الفلاسفة.
ورغبة في ضمان التصديق على مقترحاته لجأ بونياتوفسكي إلى الحيلة. ذلك أن كثيراً من أعضاء الديت ذهبوا إلى مواطنهم لقضاء عطلة عيد القيامة عام 1791، فدعاه الملك للانعقاد في 3 مايو، وهو تاريخ أبكر من يتيح للأعضاء البعيدين العودة إلى وارسو لحضور الافتتاح الجديد؛ أما النواب القريبون الذين وصلوا في الميعاد فكان أكثرهم أحرار النزعة يمكن الاعتماد عليهم في تأييد الدستور الجديد. وعرض عليهم في القصر الملكي بمجرد اجتماعهم، فقوبل بتصفيق جارف، وصدق عليه بأغلبية كبيرة. وقد تذكر البولنديون الوطنيون ذلك اليوم، الثالث من مايو 1791، في فخر واعتزاز، وخلدوه في الأدب والفن والأغاني البولندية.
تمزيق بولندة 1792 - 1795
اعترفت جميع الدول بالدستور الجديد إلا روسيا. ووصفه إدموند بيرك بأنه "أنبل امتياز نالته أمة في أي زمان" وصرح بأنه ستانسلاس الثاني قد تبوأ مكاناً في التاريخ بين عظماء الملوك ورجال الدولة(48)، ولكن هذه الحماسة ربما كانت انعكاساً لابتهاج إنجلترة بهزيمة كاترين. وأخفت الإمبراطورة حيناً عداءها لبولندة الجديدة، ولكنها لم تغفر طرد جيشها منها على عجل، ولا إحلال النفوذ البروسي محل الروسي في الشئون البولندية. فلما أنهت معاهدة ياسي (9 يناير 1792) حربها مع تركيا، وتحررت من الخوف من شريكيها السابقين في الجريمة-بروسيا والنمسا-لتورطهما في الحرب ضد فرنسا الثائرة (أبريل 1792)، تلفتت حولها تبحث عن مدخل جديد إلى بولندة.
وقد هيأه لها البولنديون المحافظون، إذ وافقوا كاترين كل الموافقة على أن دستور بونياتوفسكي قد صدق عليه ديت جمع على عجل بحيث لم يستطع أشراف كثيرون حضوره. وكان فيلكس بوتوكي وغيره من الأقطاب ساخطين أشد السخط على التخلي عن حق النقض المطلق الذي ضمن لهم القوة أمام السلطة المركزية، ولم يكونوا راغبين في النزول عن حقهم في انتخاب الملك، وفي الهيمنة عليه تبعاً لذلك. ورفض بوتوكي حلف يمين الولاء للمرسوم الجديد، ثم قاد جماعة من النبلاء إلى سانت بطسبرج وطلب إلى الإمبراطورة أن تساعدهم على إعادة الدستور الأقدم (دستور 1775) الذي سبق أن تعهدت بحمايته. فأجابت بأنها لا تريد التدخل في بولندة بناء على طلب أفراد قليلين، ولكنها ستنظر في نداء من أقلية بولندية منظمة يعتد بها، وأحيط فردريك وليم الثاني علماً بهذه المفاوضات، وكان متورطاً في الحرب ضد فرنسا، كارهاً لخوض حرب ضد روسيا، فأخير الحكومة البولندية (4 مايو 1792) بأنها إن كانت تنوي الدفاع عن دستورها الجديد بقوة السلاح فعليها ألا تتوقع الدعم مع بروسيا(49). وقف بوتوكي إلى بولندة، وألف 14( مايو 1792)، في بلدة بأوكرانيا، اتحاد تارجوفيكا، ودعا للانضواء تحت لوائه كل الذين يريدون إعادة الدستور القديم. ولقب أتباعه أنفسهم بالجمهوريين، وأدانوا تحالف بولندة مع بروسيا، وأثنوا على كاترين، والتمسوا بركتها وطلبوا جيشها.
فأرسلتهما جميعاً، وزحف الاتحاديون على وارسو بعد أن توفر لهم هذا الدعم. وكانت دعوتهم إلى "الحرية" قد أحدثت بعض التأثير، لأن مدناً عديدة استقبلتهم استقبالاً للمحررين؛ وفي تريسابول (5 سبتمبر) رحب القوم ببوتوكي كأنه فعلاً ملك بولندة الجديد. ودعا بونياتوفسكي الديت أن يعطيه كل السلطات التي تلزم للدفاع. فعينه دكتاتوراً، ودعا كل الذكور البالغين من البولنديين للخدمة العسكرية، ثم ارفض. وعين بونياتوفسكي ابن أخيه، الأمير يوزف بونياتوفسكي ذا التسعة والعشرين عاماً، قائداً أعلى للجيش الذي وجده مفتقراً إلى التدريب ومجهزاً أسوأ تجهيز. وأمر يوزف جميع كتائب الجيش بأن تنضم إليه في لوبار على نهر سلوتش، ولكن القوات الروسية كانت قد طوقت الكثيرين فلم يستطيعوا الحضور، والذين حضروا كانوا أضعف من أن يقفوا الزحف الروسي. وتقهقر الشاب إلى بولون، مركز إمداداته تقهقراً منظماً أتاحه قتال المؤخرة الباسل بقيادة تاديوس كوتشيوسكو، الذي كان قد حارب من قبل في صفوف المستعمرات في أمريكا، وكان وهو في السادسة والأربعين عريقاً في أمجاد الوطنية والحرب.
وفي 17 يونيو 1792 التقى البولنديون بجيش روسي كبير عند زيلنتسي، وهزموه في أول معركة حامية انتصرت فيها بولندة منذ أيام سوبيسكي. هنا أيضاً أثبت كوتشيوسكو مهارته، باستيلائه على ربوة سيطرت منها مدفعيته على ساحة المعركة؛ أما يوزف، الذي كان إلى الآن موضع الريبة في كفايته من مرءوسيه الذين في مثلي عمره، فقد كسب احترامهم بقيادته احتياطية من الجنود بشخصه ليكره الروس على التقهقر. وأثلج نبأ النصر صدر بونياتوفسكي، ولكن كاد يغلب هذا النبأ نبأ آخر بأن الأمير لودفج فورتمبرج قائد الجيش البروسي الموكل بالقوات البولندية في لتوانيا، قد هرب من موقعه تاركاً جنوده في حالة من الفوضى أتاحت للروس في 12 يونيو الاستيلاء على فلنو عاصمة لتوانيا دون مشقة.
لم يبق من أسباب الدفاع عن بولندة الآن غير جيش يوزف. وكانت مؤنه وعتاده من الضآلة أفواجه إلى الصيام أربعاً وعشرين ساعة، ولم تملك المدفعية غير اثني عشر صندوقاً من الذخيرة. فأمر الأمير بالتقهقر إلى دوبنو؛ فلما رمى بالجبن ثبت عند دوبينكا (18 يوليو) واستطاع بجيشه البالغ 12.500 مقاتل أن يتعادل مع 28.000 مقاتل روسي. ثم تقهقر بنظام حسن إلى كوروف، حيث انتظر وصول التعزيزات والمؤن التي وعده بها الملك. ولكن ستانسلاس كان قد يئس. ذلك أن رفض فردريك وليم الثاني أن ينفذ شروط الحلف البروسي البولندي، وخيانة الأمير لودفج، وهروب المئات من الجيش الذي جمعه في براجا-كل أولئك كان فوق ما تطيقه روحه التي لم تكن يوماً ما شديدة البسالة. وعليه فقد أرسل نداءً شخصياً لكاترين يلتمس شروطاً مشرفة، وكان جوابها (23 يوليو) إنذاراً نهائياً يشترط عليه الانضمام إلى اتحاد تاجوفيكا وإعادة دستور 1775. وقد صدمته لهجتها التيلم تعرف هوادة ولا ليناً؛ أفهذه هي المرأة التي استجابت يوماً لغرامه الطائش؟
وكان حنانه هو المسيطر عليه الآن. فلقد فكر في المقاومة، وفي التسلح والمضي إلى الجبهة ليقود دفاعاً يائساً؛ ولكن زوجته، وأخته، وابنة أخيه، اشتد بكاؤهم لفكرة موته وما يجره عليهم من الوحدة والأسى، حتى وعد الملك بأنه سيسلم. ثم ما جدوى المقاومة بعد هذا كله؟ فبعد أن قطع الأمل في أي معونة من بروسيا-في وقت توقع فيه الهجمات على الجبهة الغربية العزلاء-، كيف تستطيع بولندة الوقوف في وجه روسيا؟ ألم يحاول جاهداً أن يثني الديت عن الاستخفاف بكاترين والمغامرة بكل شيء اعتماداً على وعود بروسيا؟ ألم يلح في طلب جيش كبير حسن التجهيز، وألم يرفض الديت اعتماد المال لهذا الجيش بعد أن وافق على الرجال؟ وحتى لو حقق الجيش البولندي الراهن انتصاراً أو اثنين على الروس، أفلا تستطيع كاترين، المتخمة بالجنود بعد أن أبرمت الصلح مع تركيا، أن ترسل الموجة تلو الموجة من الجنود المدربين المدججين بالسلاح ضد فلوله المبعثرة المختلة النظام؟ فعلام التضحية بمزيد من الأرواح، وإسلام نصف بولندة إلى الخراب، إذا كان التسليم هو النهاية على كل حال؟
أرسل السفير الروسي الجديد، ياكوف سييفرس، إلى أخته وصفاً ملؤه العطف يصور فيه بونياتوفسكي في هذه الساعة، ساعة الانهيار البدني والروحي قال: "لم يزال الملك (في عامه الستين) رجلاً وسيماً أنيقاً، وإن كان وجهه شاحباً، ولكن في وسع المرء أن يرى أن ستاراً قائماً قد أسدل على روحه. إنه يحسن الحديث، بل يتحدث بفصاحة، وهو مجامل حسن الاستماع دائماً ومع الجميع، ومسكن سيئ، وهو مهمل، مزدري مخذول، ومع ذلك فهو ألطف الناس جميعاً. وإذا غضضت النظر عن منصبه الرفيع، وتأملته من وجهة النظر الشخصية فقط، قلت إن فضائله ترجح رذائله. ولا ريب في أنه أسوأ الملوك حظاً بعد لويس السادس عشر. إنه يحب أقرباءه حباً جماً، وهؤلاء الناس هم علة نكباته كلها(50).
وفي 24 يوليو 1792 قرأ بونياتوفسكي الإنذار النهائي الروسي على مستشاريه الخصوصيين، ونصحهم بأن يركنوا إلى سماحة كاترين وشهامتها. واحتج كثيرون منهم على هذه السذاجة. واقترح أحدهم المدعو مالا خوفسكي أن يجمع في ساعة واحدة 100.000 جولدن لأغراض الدفاع، وألح على أن الجيس البولندي يستطيع-حتى إذا اقتضى الأمر التخلي عن وارسو-أن يتقهقر إلى كاركاو ويجند جيشاً جديداً في الجنوب الآهل بالسكان. وهزم اقتراح بونياتوفسكي بالتسليم في المجلس بأغلبية عشرين صوتاً ضد سبعة. ولكنه أبطل قرارهم بحكم سلطته دكتاتوراً، وأمر ابن أخيه بالكف عن المقاومة. ورد يوزف بأن على الملك بدلاً من هذا التسليم أن يبادر إلى الجبهة بما يستطيع جمعه من قوات ويقاتل إلى النهاية. فلما أصر ستانسلاس على انضام الجيش إلى الاتحاد أرسل إليه جميع الضباط إلا واحداً استقالاتهم وعاد يوزف إلى موطنه السابق في فيينا. وفي 5 أغسطس احتل جيش روسي براجاً. وفي أكتوبر أرسل يوزف رجاء إلى عمه يدعوه لاعتزال ملكه قبل أن تزول البقية الباقية من الشرف. وفي نوفمبر دخل بوتوكي مع طلائع جيش الاتحاديين وارسو دخول الظافر، وألقى على بونياتوفسكي درساً في واجبات الملك. ولكن انتصار بوتوكي تبين بعد قليل أنه كارثة، لأن الجنود البروسيين دخلوا بولندة في يناير 1793، وواصلوا زحفهم ليحتلوا دانتزج وتورن، دون أن يطلق حلفاء بوتوكي الروس رصاصة ليمنعوهم. ووضح أن روسيا وبروسيا قد اتفقتا على تقسيم بولندة ثانية.
وكانت كاترين وفردريك وليم قد وقعا هذا الاتفاق في 23 يناير، ولكنهما تكتما أمره حتى 28 فبراير. أما بوتوكي فقد استنفر البولنديين من جميع الأحزاب ليهبوا دفاعاً عن بولندة؛ فضحكوا منه، وندد به يوزف خائناً لوطنه، وتحداه للمبارزة، ولكن ستانسلاس منعها. وبمقتضى هذا التقسيم الثاني حصلت روسيا على 89.000 ميل مربع من بولندة الشرقية، يعيش فيها 3.000.000 من السكان، بما في هذافلنو ومنسك؛ أما بروسيا فأخذت 23.000 ميل مربع من بولندة الغربية، يعيش فيها 1.000.000 من السكان بما فيها دانتزج وتورن؛ وبقي لبولندة 80.000 ميل مربع و4.000.000 نسمة-وهو يقرب من نصف ما ترك لها من قبل في 1773. ولم يكن للنمسا نصيب في هذه الغنيمة الثانية، ولكن هدأتها الوعود الروسية بمساعدتها في الحصول على بافاريا. أما الدول الغربية التي كانت لا تزال منهمكة في صراعها مع فرنسا الثائرة فلم تتخذ أي إجراء ضد هذا الاغتصاب الثاني، الذي عللته لها كاترين بأنه ضرورة اقتضاها تطور الدعوة الثورية في وارسو، التي تهدد بالخطر جميع الملكيات.
ولكي تلبس هذه السرقة ثوب الشرعية أمرت بونيا توفسكي أن يدعو الديت للاجتماع في جرودنو، وأمرته بالحضور بشخصه ليوقع على تحالف مع روسيا فأبى الذهاب أول الأمر، ولكن حين عرضت الوفاء بديونه-التي بلغت الآن 1.566.000 دوقاتية-قبل هذا الإذلال الجديد خدمة لدائنيه. وزود السفير الروسي بالمال لرشوة عدد كاف من النواب ليحضروا اجتماع الديت، ولم يجد عناء في رشوة عدة أعضاء من بطانة الملك ليفشوا كل كلمة فاه بها سيدهم وكل عمل أتاه. وأمكن إقناع هذا "الديت الأخير" (17 يونيو إلى 24 نوفمبر 1793) بأن يوقع معاهدة مع روسيا، ولكنه ظل شهوراً يأبى التصديق على التقسيم الثاني. وقيل للأعضاء أنهم ممنوعون من مغادرة القاعة حتى يوقعوا، فظلوا على رفضهم وجلسوا صامتين اثنتي عشرة ساعة. ثم طرح الرئيس المسألة للتصويت، فلما لم يسمع جواباً أن السكوت علامة الرضى (25 سبتمبر). وعاد ما بقي من أرض بولندة محمية روسية؛ وأعيد دستور 1775.
وإذا كان في استطاعة رجل واحد أن يفتدي الأمة فذلك هو كوتشيوسكو أمده التشارتوريسكيون بالمال فذهب إلى باريس (يناير 1793) والتمس معونة فرنسا لبلد يتعاطف في حرارة مع الثورة الفرنسية. وتعهد بأنه لو مدت فرنسا يد المعونة لبولندة لهب الفلاحون البولنديون في ثورة على القنية، وأهل المدن على النبلاء، وقال إن بونياتوفسكي سينزل عن عرشه ليكون النظام جمهورياً، وإن جيشاً بولندياً سيساند فرنسا في حربها مع بروسيا(51).
ورحب الزعماء الفرنسيون بمقترحاته، ولكن نشوب الحرب مع إنجلترة (فبراير 1793) وغزو الحلفاء لفرنسا، قضيا على كل أمل في تقديم العون لبولندة. وفي غياب كوتشيوسكو جند بعض المواطنين والماسون الأحرار وضباط الجيش جيشاً بولندياً جديداً (مارس 1794). وهرع كوتشيوسكو من درسدن إلى كركاو لينضم إليه، فعين قائداً أعلى وأعطى سلطات مطلقة، وأمر كل خم بيوت في بولندة أن توافيه بجندي من المشاة، وكل خمسين بفارس، وأمر هؤلاء المجندين بأن يأتوا بما يجمعونه من سلاح، حتى المعاول والمناجل. وفي 4 أبريل هاجم بأربعة آلاف مقاتل نظامي وألفي فلاح مجند قوة عدتها سبعة آلاف روسي في راتسلافيس قرب كراكاو، وهزمها بفضل براعة قيادته من جهة وفاعلية مناجل الفلاحين من جهة أخرى.
فلما سمع فريق الرايديكاليين أو "اليعقوبيين" في وارسو بهذا النصر نظم رجاله عصياً مسلحاً انضم إليه الزعماء من الطبقة الوسطى في تردد. وفي 17 أبريل هاجم هؤلاء الثوار الحامية الروسية المؤلفة من 7.500 مقاتل، وقتلوا الكثيرين منهم، وهزموا فرقة بروسية من 1650 جندي، وهربت قوات الاحتلال، وخضعت وارسو لحظة للسيطرة البولندية. وحررت انتفاضة كهذه مدينة فلنو (23 أبريل) وشنقت هتمان (زعيم) لتوانيا الأكبر، واستردت أجزاء من بولندة حتى منسك تقريباً. وفي 7 مايو وعد كوتشوسكو الإقنان بعتقهم، وكفل لهم تملك الأرض التي يزرعونها. وانضوى تحت لوائه خلق كثير من المتطوعين والمجندين حتى اجتمع له في يونيو 1794 (150.000) رجل لم يكن منهم حسن التجهيز أكثر من 80.000. على هؤلاء تدفقت الموجات المتتالية من الجنود الروسية أو البروسية المدربة. وفي 6 يونيو فاجأ جيش متحالف من 26.000 مقاتل البولنديين قرب تشيكوسيني، ولم يتح لكوتشيوسكو من الوقت إلا ما يجلب فيه 14.000 مقاتل فقط. فهزم بخسائر فادحة، والتمس الموت في المعركة، ولكن الموت راغ منه؛ وتقهقرت فلول البولنديين إلى وارسو. وفي 15يونيو استولى البروسيون على كراكاو؛ وفي 11 أغسطس استعاد الروس فلنو؛ وفي 19 سبتمبر أبادت قوة روسية من 12.500 من الجنود المتمرسين بالقتال بقيادة سوقوروف جيشاً بولندياً من 5.500 مقاتل عند تريسابول؛ وفي 10 أكتوبر هزم 13.000 روسي كوتشيوسكو نفسه وهو يقود 7.000 بولندي عند ما سيسجويس، وجرح جرحاً خطيراً وأسر. ولم يفه كما زعمت الأسطورة بصرخه اليأس "لقد قضى على بولندة!" ولكن الهزيمة كانت قاضية على الثورة الباسلة.
أما سوفوروف فقد وحد مختلف الجيوش الروسية واقتحم معسكر البولنديين الحصين في براجا، وراح جنوده الذين أصابهم جنون المعركة يذبحون لا المدافعين فقط بل سكان البلدة المدنيين. وسلم بونياتوفسكي وارسو تفادياً لمذبحة أشد بشاعة. وأرسل سوفوروف كوتشيوسكو وغيره من زعماء الثوار إلى حيث السجن في سانت بطرسبرج، وأرسل الملك إلى جرودنو ليكون رهن إشارة الإمبراطورة. وهناك، في 25 نوفمبر 1795، وقع على اعتزاله الملك. وتوسل إلى كاترين أن تبقى على جزء من بولندة، ولكنها صممت على أن تحل المسألة البولندية بالقضاء على الأمة البولندية كما ظنت. وبعد خمسة عشر شهراً من النزاع، وقعت روسيا وبروسيا والنمسا معاهدة التقسيم الثالث (26 يناير 1797) واستولت روسيا على كورلاند ولتوانيا وغربي بودوليا وفولينيا-181.000 ميل مربع؛ واستولت النمسا على "بولندة الصغيرة" بما فها من كراكاو ولودلن-45.000 ميل مربع؛ وأخذت بروسيا الباقي بما فيه وارسو-57.000 ميل مربع. وفي التقسيمات الثلاثة كلها استوعبت روسيا نحو 6.000.000 من سكان بولندة البالغين 12.200.000 نسمة (1797)،والنمسا 3.700.000، وبروسيا 2.500.000 نسمة.
وفر آلاف البولنديين من وطنهم، وتسلم الأجانب الأملاك المصادرة. وظل بونياتوفسكي في جرودنو، يتسلى بدراسة النبات ويكتب مذكراته. وبعد موت كاترين دعاه بولس الأول إلى سانت بطرسبرج وخصص له القصر الرخامي و100.000 دوقاتية في العام، وهناك مات في 12 فبراير 1798 بعد أن بلغ السادسة والستين. أما كوتشيوسكو فقدأفرج عنه الإمبراطور بولس في 1796، وعاد إلى أمريكا، ثم إلى فرنسا، وواصل جهوده لتحرير بولندة حتى مماته (1817). وما يوزف بونياتوفسكي فقد فر إلى فيينا، وشارك في حملة نابليون على روسيا، وجرح في سمولنسك، وأحسن البلاء في ليبزج، ورقى مارشالاً في الجيش الفرنسي، ومات في 1813 مكرماً حتى من أعدائه. وأما بولندة فلم تعد دولة، ولكنها ظلت شعباً وحضارة، يلوثها الاضطهاد الديني، ولكنها تميزت بعظماء الشعراء والقصاصين والموسيقيين والفنانين والعلماء، ولم تتخل قط عن عزمها على النهوض من جديد.