قصة الحضارة - ول ديورانت - م 10 ك 4 ف 18
صفحة رقم : 13592
قصة الحضارة -> روسو والثورة -> الإسلام والشرق السلافي -> كاترين الكبرى -> الحاكمة المطلقة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الثامن عشر: كاترين الكبرى 1762-1796
الحاكمة المطلقة
انتصرت كاترين، ولكنها كانت عرضة لكل المخاطر التي ينطوي عليها التغيير الفوضوي. فلكي تكافئ الجنود الذين حرسوها في سعيها إلى السلطة أمرت حانات العاصمة بأن تقدم لهم الجعة والفودكا مجاناً، وكانت النتيجة السكر انتشار بينهم انتشاراً كاد يقوض الأساس الحربي لقوتها. ففي منتصف ليلة 29-30 يونيو، بينما كانت كاترين مستغرقة في أول نوم لها خلال ثمان وأربعين ساعة، أيقظها ضابط وقال لها، "إن رجالنا مخمورون جداً. وقد صرح فيهم فارس من الهوصار "إلى السلاح! أن ثلاثين ألف بروسي قادمون لاختطاف أمنا (كاترين)! فتقلدوا سلاحهم وهم قادمون ليطمئنوا عليك". وارتدت كاترين ثيابها، وخرجت، ونفت إشاعة قدوم البروسيين، وأقنعت محاربيها بالمضي إلى فراشهم(1). ثم عرضها ابنها بولس للخطر. وقد بلغ السنة الثامنة من عمره وذلك أن بنين، وأشرافاً كثيرين، ومعظم الاكليروس، أحسوا أن الشرعية تقتضي تتويج بولس إمبراطوراً وتعيين كاترين وصية عليه، ولكنها خشيت أن إجراء كهذا يلقي بالحكم في أيدي أولجركيه أرستقراطية ستسعى إلى خلعها أو التسلط عليها. وأعلنت رسمياً أن بولس وارث للعرش، ولكن مؤيديه واصلوا إثارة المشاعر، وشب الابن على كراهية أمه لأنها سلبته حقه في التاج.
وحين ذاع نبأ الانقلاب في أرجاء روسيا تبين أن الرأي العام خارج العاصمة مناوئ لكاترين. ذلك أن العاصمة عرفت عيوب بطرس مباشرة، وأجمعت عموماً على عدم أهليته للحكم، أما الشعب الروسي خارج سانت بطرسبرج فقد عرفه من التدابير السمحة التي أضفت على حكومته شيئاً من السمو. فجماهير موسكو، البعيدة بعداً لا يسمح لها بالإحساس بفتنة كاترين، ظلت معارضة في عناد لتوليها العرش. وحين اصطحبت كاترين بولس إلى موسكو (معقل التقاليد السنية) صفق له أهلها بحرارة، أما كاترين فكان لقاؤهم لها فاتراً. وندد كثير من أفواج الجيش في الأقاليم بجنود بطرسبرج غاصبين للسلطة القومية.
ولا علم لنا إن كان العطف الواسع على بطرس هو أحد العوامل في موته. ذلك أن القيصر المخلوع الذي تحطمت روحه راح يرسل الالتماسات الذليلة لزوجته ويقول لها "ارحميني واعطيني سلواي الوحيدة"-يعني خليلته-ويرجوها أن تسمح له بالعودة إلى أقاربه في هولشتين. ولكنه بدلاً من أن يلتقي هذا العزاء حبس في حجرة واحدة وفرضت عليه رقابة دائمة. وكان الكسبي أورلوف، رئيس حراسة، يلعب الورق معه ويقرضه النقود.(2) وفي 6 يوليو 1962 (حسب التقويم الجديد)، ركب الكسبي في عجلة إلى سانت بطرسبرج وأنبأ كثيرين بأن بطرس تشاجر معه ومع غيره من الأتباع ومات في العراك الذي أفضت إليه المشاجرة. أما عن كيفية موته، فالتاريخ لا يعرف غير الشائعات التي لم تثبت صحة واحدة منها: قيل إنه سمم أو خنق(3)، وإنه ضرب حتى مات(4)، وإنه مات إثر "التهاب الأمعاء والسكتة الدماغية"(5) وينتهي آخر من أرخ هذه الحقبة إلى أن "تفاصيل القتل لم يمط عنها قط اللثام تماماً، والدور الذي لعبته فيه كاترين يظل غير مؤكد."(6) ومن غير المحتمل أن تكون كاترين قد أمرت بهذه الفعلة،(7) ولكنها لم تعاقب أحداً على ارتكابها، وأخفتها عن الجماهير يوماً، وقضت يومين في بكاء ظاهر، ثم سلمت بالأمر الواقع. وقد أدانتها أوربا كلها تقريباً بالقتل، أما فردريك الأكبر الذي خسر الكثير بخلع بطرس فقد برأ ساحتها، "كانت الإمبراطورة جاهلة تماماً بهذه الجريمة، وقد سمعت بها في يأس لم تصطنعه، لأنها توقعت بحق ذلك الحكم الذي يصدره عليها اليوم في كل إنسان."(8) ووافق فولتير فردريك. أما بولس ابن كاترين، فبعد أن قرأ الأوراق الخاصة التي خلفتها أمه عند وفاتها، خلص إلى أن الكسي قتل بطرس دون أي أمر أو طلب من كاترين.(9)
وخلقت الحادثة مشاكل لكاترين كما حلت مشاكل أخرى: فقد أوحت بسلسلة متعاقبة من المؤامرات لخلعها، وتركتها في انزعاج متصل وخطر داهم وسط فوضى الحكم التي اكتنفتها. كتبت عن هذه الحقبة فيما بعد فقالت: "ظل مجلس الشيوخ متبلداً يصم أذنيه عن شئون الدولة. وبلغت كراسي التشريع درجة من الفساد والتفسخ كادت تطمس معالمها."(10) وكانت روسيا قد خرجت لتوها من حرب انتصرت فيها ولكنها كلفتها ثمناً فادحاً، فكانت الخزانة مدينة بثلاثة عشر مليون روبل، وتشكوا عجزاً بلغ سبعة ملايين روبل في العام، وافتضح حال المالية من رفض كبار المصرفيين الهولنديين إقراض المال لروسيا. وتأخرت رواتب الجند شهوراً كثيرة. وبلغ من سوء نظام الجيش أن كاترين خشيت أن يغزو تتار جنوبي روسيا إقليم أوكرانيا في أية لحظة. أما البلاط فقد اضطرب بالمؤامرات وأضدادها، وبالخوف من فقدان مناصب الكسب أو السلطة، أو الأمل في الظفر بها. وبعد سقوط بطرس بقليل ذهب السفير البروسي إلى أنه "من المؤكد أن حكم الإمبراطورة كاترين لن يكون أكثر من فاصل قصير في تاريخ العالم"(11). وكان هذا من قبيل التمني، لأن فردريك حزن على موت حليفه العابد لشخصه. وأخذت كاترين تلغي الأوامر التي أصدرها بطرس لمساعدة فردريك. وحاولت الإمبراطورة أن تهدئ معارضة رجال الدين بتأجيل تنفيذ المرسوم الذي أصدره بطرس بتأميم أراضي الكنيسة، ثم أدفأت صدور أنصارها بما خلعته عليهم من مكافآت سخية: فنفحت جريجوري أورلوف بخمسين ألف روبل، وفتح الطريق أمامه إلى الفراش الملكي. وأعيد بستوزيف من منفاه، ورد إلى حياة مريحة ولكن دون أن يرد إلى منصبه.
ثم ترفقت بمن عارضوها من قبل. وقدم مونيش فروض الطاعة والولاء فصفحت عنه فوراً وعينته حاكماً على استونيا ولفونيا، وربما أعانتها هذه التدابير على الثبات فوق عرشها المهتز، ولكن أهم العوامل التي كانت عوناً لها هي شجاعتها وذكاؤها. ذلك أن سبعة عشر عاماً قضتها زوجة مهملة لوريث العرش علمتها رغم حيويتها الشابة قدراً من الصبر والحكمة وضبط النفس وخداع الحكم. وقررت الآن، في تحد لنصيحة بانين، وارتياب في ولاء مجلس الشيوخ ونزاهته وكفايته، أن تركز الحكم كله في شخصها، وأن تواجه ملوك أوربا المستبدين-باستبدادية تنافس جمع فردريك بين العسكرية والفلسفة. ولم تتخذ لها زوجاً. وإذ كان النبلاء يسيطرون على مجلس الشيوخ، فقد كان الخيار بين أوتقراطية الملكة والاستبدادية المجزأة للسادة الإقطاعيين، وهو بالضبط الخيار الذي واجهه ريشلو في فرنسا للقرن السابع عشر. وأحاطت كاترين نفسها بالكفاءة من الرجال، واكتسبت ولاءهم، بل حبهم في كثير من الحالات، ألزمتهم للعمل الشاق، ولكنها أجزلت لهم العطاء، ولعلها غالت في مكافآتهم، فقد أصبح بهاء بلاطها وبذخه عبئاً كبيراً على مواردها. وكان بلاطاً غير متجانس، مؤصلاً في البربرية ومصقولاً بالثقافة الفرنسية، ومحكوماً بامرأة ألمانية تفوق مساعديها تعليماً وذكاءاً. وقد أثمرت مكافآتها السخية للخدمات الاستثنائية المنافسة دون أن تكبح جماح الفساد. فكان الكثيرون من بطانتها يأخذون الرشا من الحكومات الأجنبية، واتخذ بعضهم موقف الحياد بقبول الرشا من طرفين متعارضين. وفي 1762 أذاعت كاترين على الأمة اعترافاً غير عادي، فقالت:
"أننا نعده واجباً أساسياً وضرورياً أن نعلن للشعب، بحسرة صادقة، أننا سمعنا منذ زمن مديد، وأننا الآن نرى في أفعال ظاهرة للعيان، إلى أي درجة استشرى الفساد في إمبراطوريتنا، بحيث لا يكاد يوجد منصب في الحكومة.... لا تعدو فيه على العدالة عدوى هذا الوباء. فإذا طلب إنسان وظيفة كان عليه أن يدفع ثمنها، وإذا شاء إنسان أن يدفع عن نفسه شر الافتراء، فبالمال، وإذا أراد أن يتهم جاره زوراً وبهتاناً ففي استطاعته بالهدايا أن يضمن نجاح خططه الشريرة"(12).
وكان بعض المؤامرات التي تكاثرت من حولها يستهدف إحلال إيفان السادس محلها. وكان قد قضى الآن رهين السجن إحدى وعشرين سنة بعد أن خلعه انقلاب ديسمبر 1741. ففي سبتمبر 1762 أفصح فولتير عن خوفه من أن "إيفان قد يطيح بمن أحسنت إلينا"(13)، وكتب يقول: "أخشى أن تقتل إمبراطورتنا العزيزة."(14) فزارت كاترين إيفان، ووجدته "إنساناً مهملاً مهجوراً تردى في العته نتيجة السجن سنين طويلة"(15) ثم تركت لحراسه أوامر بأنه لو بذلت أي محاولة لم تصرح بها هي نفسها للإفراج عنه، فعليهم أن يقتلوا إيفان خيراً من أن يسلموه. وفي منتصف ليلة 5-6 يوليو 1764 ظهر ضابط في الجيش يدعى فاسيلي ميروفتش على باب السجن يحمل ورقة فحواها أنها أمر من مجلس الشيوخ بتسليم إيفان له. ثم مضى يعينه بعض من الجند وطرق باب الزنزانة التي كان حارسان ينامان فيها مع إيفان، وطالب بالدخول. فلما رفض طلبه أمر بإحضار مدفع لتحطيم الباب. فلما سمع الحارسان الأمر قتلا إيفان. وقبض على ميروفتش وأعلنت وثيقة عثر عليها في جيبه أن كاترين خلعت، وإن إيفان السادس أصبح منذ الآن قيصراً لروسيا. ورفض عند محاكمته أن يفضي بأسماء شركائه. وكان جزاؤه الإعدام. واتهم الرأي العام عموماً كاترين بقتل إيفان.(16) واتصلت المؤامرات. ففي 1768 أكد ضابط يدعى تشوجلو كوف أنه موكل من الله بالانتقام لمقتل بطرس الثالث، فتسلح بخنجر طويل، ووجد طريقة إلى القصر الملكي، واختبأ عند منعطف دهليز ألفت كاترين أن تمر فيه. وسمع جريجوري أورلوف بخبر المؤامرة، فقبض على تشوجلوكوف، الذي اعترف مفاخراً بأنه ينوي قتل الإمبراطورة، وكان جزاؤه، النفي إلى سييبريا.
العاشقة
أحاط بكاترين نبلاء لا تستطيع أن تثق بهم، ولاحقتها الدسائس التي أحدثت الاضطراب في الإدارة، لذلك اخترعت ضرباً جديداً من الحكم جعلت فيه عشاقها المتعاقبين كبار إداري الحكومة. فكان كل عشيق خلال صعود نجمه كبير وزرائها، وأضافت شخصها إلى مكافأة المنصب، ولكنها اقتضت كفاءة الخدمة نظير ذلك. كتب ماسون (وهو واحد من أعداء كاترين الفرنسيين الكثيرين) يقول "لم تكن وظيفة واحدة من وظائف الحكومة كلها لا تؤدي فيها الواجبات بمنتهى التدقيق.. وربما لم يكن هناك أي منصب لم تبد فيه الإمبراطورة اختياراً وتمييزاً أكثر من غيره. وفي اعتقادي أنه لم تقع حالة تبين فيها أن المنصب شغله شخص غير كفء له."(17) ومن الخطأ أن تكون فكرتنا عن كاترين أنها امرأة فاجرة منغمسة في اللذات، فقد راعت جميع مظاهر اللياقة، ولم تسمح لنفسها قط بالدخول في أحاديث نابية، ولا سمحت بها في حضرتها.(18) وقد بذلت لمعظم عشاقها الود الوفي-ولبعضهم الود الرقيق، ورسائلها إلى بوتمكين تم على إخلاص يكاد يكون صبيانياً، وقد أصابها موت لانسكوي بحزن مدمر. وكانت تستعين بالفن والعلم معاً في مهمة اختيار صاحب الحظوة الجديد. فهي تنشد رجالاً يجمعون بين القدوة السياسية والجسدية، كانت تدعو المرشح لتناول العشاء، وتختبر عاداته وعقله، فإذا جاز هذا الامتحان الدقيق فحصه بأمرها طبيب القصر، فإذا خرج من هذا الاختبار سليماً عينته ياوراً لها، وأعطته راتباً مغرياً، وسمحت له بمعاشرتها. وإذ كانت مجردة تماماً من الإيمان الديني، فإنها لم تسمح لأي من الأخلاقيات المسيحية بأن تتدخل في طريقتها الفذة في اختيار الوزراء. وقد وضحت الأمر لنقولا سالتيكوف فقالت: "إنني أخدم الإمبراطورة بتربيتي الشبان الأكفاء"(19) وكانت الخزانة تتكلف غالياً في مكافأة هؤلاء المحظوظين-وإن كانت التكلفة على الأرجح أقل كثيراً ما كانت تنفقه فرنسا على خليلات لويس الخامس عشر ومحظياته. وفي تقدير كاستيرا أن الاخوة الخمسة أورلوف تسلموا سبعة عشر مليون روبل، وبوتمكين خمسين مليوناً، ولانسكوي 7.260.000. وقد ارتدت بعض هذه النفقة إلى روسيا بصورة الخدمة الفعالة، فقد أضاف بوتمكين مثلاً، وهو أكثر عشاقها حظوة وتدليلاً، أقاليم درت على الإمبراطورية الربح الوفير.
ولكن لم كانت تغير وتبدل في عشاقها بهذه الكثرة، حتى أنها اتخذت منهم واحداً وعشرين في أربعين سنة؟ لأن بعضهم أخفق في واجب أو أكثر من واجباتهم المزدوجة، وبعضهم تبين عدم وفائه: وبعضهم مست الحاجة إليه في مواقع بعيدة. من ذلك أن أحدهم، ويدعى ريمسكي كورساكوف، فاجأته في مسكنها بين ذراعي وصيفة شرفها، فاكتفت كاترين بطرده، وتركها آخر يدعى مامونوف لأنه آثر عليها رفيقة أكثر شباباً، وأقالته الإمبراطورة دون أن تنتقم منه.(20) يقول ماسون، "من الخصائص الشديدة الغرابة في خلق كاترين أن أحداً من المقربين إليها لم يجلب على رأسه كرهها أو انتقامها، وإن أساء إليها العديدون منهم، ولم يكن تركهم مناصبهم بسببها. ولم ير الناس قط أحدهم ينزل به العقاب... وفي هذا تبدو كاترين أسمى من جميع النساء."(21)
بعد تولي كاترين العرش احتفظ جريجوري أوزلوف بمكانته المرموقة عشر سنوات، وقد أطرته كاترين في حب فقالت: "إن للكونت جريجوري عقل النسر، فأنا لم ألق في حياتي رجلاً أوتي فهماً أدق وألطف لأي أمر يضطلع به أو حتى يقترح عليه... ونزاهته تعصمه من أي تهجم عليه... ومن أسف أن التعليم لم يتح له أي فرصة لصقل سجاياه ومواهبه، وهي في الحق فائقة، ولكن حياته العشوائية تركتها كالأرض المرحة."(22)
ثم كتبت في موضع آخر "أن هذا الرجل كان خليقاً بأن يظل (عشيقها وأثيرها) إلى النهاية لولا أنه كان أول من مل صاحبه."(23)
وقد جاهد جريجوري لتحرير الأقنان، واقترح تحرير المسيحيين من ربقة العثمانيين، وأسن البلاء في الحروب، وأغضبت الحاشية بكبريائه وغطرسته وراغ من ذراعي كاترين. وقد أقصى في 1772 إلى حيث الثراء والدعة في ضياعه. أما أخوه ألكسي فقد أصبح أمير البحر الأول، وقاد الأسطول الروسي إلى النصر على الأتراك، وظل محتفظاً بالحظوة طوال العهد، وعمر حتى قاد أفواجه ضد نابليون. وحل محل جريجوري في حظوته فتى فائق الحسن مغمور يدعى ألكسيس فاسيلتشيك، دسه حزب من أحزاب البلاط على كاترين ليصرف فكرها عن أورلوف المنفي، ولكنها وجدته غير كفء لا في السياسة ولا في غير السياسة، فأحلت مكانه (1774) جريجوري ألكسندروفتش بوتمكين، وكان ضابطاً في حرس الخيالة، الذين ارتدت زيهم (1762) لتقودهم ضد بطرس، فلما لاحظ بوتمكين أن سيفها تنقصه الشرابة التي يعتز بلبسها الحرس، انتزع شرابته من مقبض سيفه وركب في جرأة خارج صفوف الجيش، وقدم لها هذا الوسام، فقبلته، واغتفرت له جرأته، وأعجبت بوجهه الوسيم وجسمه المفتول. وكان أبوه-وهو كولونيل متقاعد من صغار النبلاء-قد قرر أن يكون ابنه قسيساً، وتلقى بوتمكين قدراً لا يستهان به من التعليم في التاريخ والدراسات الكلاسيكية واللاهوت، وأثبت تفوقه في جامعة موسكو. ولكنه وجد حياة الجيش أنسب لمزاجه الجموح الخصب الخيال من المدرسة اللاهوتية. وقد سحره بالطبع ما اجتمع لكاترين من جمال وسلطان، فقال عنها أنها إذا دخلت حجرة مظلمة أنارتها"(24).
وفي حرب 1768 قاد فوج خيالته ببسالة مستهترة حملت كاترين على أن تبعث إليه بإطراء شخصي. فلما عاد إلى سانت بطرسبرج أكلته الغيرة من الاخوة أورلوف وفاسيلتشيك. وتشاجر مع الاخوة أورلوف، وفي معركة معهم فقد إحدى عينيه(25). ولكي يخرج الإمبراطورة من عقله-أو يدخل نفسها في عقلها-ترك البلاط، واعتزل في ضاحية، ودرس اللاهوت، وأطلق شعره ولحيته، وأعلن أنه سيترهب، فرق له قلب كاترين، وبعثت إليه تقول أنها تقدره تقديراً كبيراً، ودعته ليعود، فحلق لحيته، وهذب شعره، وارتدى بزته العسكرية، وظهر في البلاط، واهتز طرباً لبسمات الإمبراطورة. وحين افتقدت كاترين الكفاية في فاسيلتشيك فتحت ذراعيها لبوتميكن، وكان يومها في الرابعة والعشرين، في أوج عنفوانه وفتنته. وسعان ما هامت به هيامه بها، وراحت تحبوه بوصلها، وتغدق عليه الروبلات، والأراضي، والأقنان، وحين كان يغيب كانت ترسل إليه رسائل غرامية بريئة من مظهر الجلالة. "ما أعجب حالي! كل شيء اعتدت أن أسخر منه وقع لي الآن، لأن حبي لك أعماني. فالعواطف التي ظننتها بلهاء مفرطة غير طبيعية أمارسها أنا نفسي الآن. إنني لا أقوى على إبعاد عيني الغبيتين عنك...
"لا نستطيع الالتقاء إلا خلال الأيام الثلاثة القادمة، فبعدهايحل أول أسبوع في الصوم الكبير، المخصص للصلاة والصيام. وسيكون اللقاء إثماً كبيراً. إن مجرد التفكير في هذا البعد يبكيني"(26).
وعرض عليها الزواج، ويعتقد بعض المؤرخين أنهما تزوجا سراً، وفي خطابات عدوه تعدوه "زوجي الحبيب" وتتكلم عن نفسها فتقول "زوجتك"(27)، رغم أننا يجب ألا نستخلص الحقيقة أبداً من مجرد الألفاظ ويبدو أنه ملها، ربما لهيامها الجموح به؛ وتبين أن صوت المغامرة أقوى لديه من الدعوة للهجوم على قلعة فرغ من فتحها. وقد ظل نفوذه عليها عظيماً حتى أن معظم المقربين الذين خلفوه لم يخلفوه إلا بعد الحصول على موافقته. وهذا ما حدث لبيوتر زافودوفسكي، الذي استدفأ في خدرها من 1776 إلى 1777، ولسيمون زوريتش (1777-1778)، وإيفان رمسكي-كورساكوف (1778-1780). ولم تشعر بغرام يملك عليها لها مرة أخرى إلا حين اتخذت ألكسيس لانسكوي (1780) عشيقاً. فهذا الفتى لم يكن وسيماً كيساً مثقفاً فحسب، بل كان صاحب حس شعري مرهف وحب إنساني للخير، وصديقاً ذكياً للآداب والفنون. "لقد بدا أن الجميع يشاركون الملكة في ولعها به"(28). وفجأة أصيب بآلام لا تطاق في الأمعاء، واشتبهت الحاشية في أن يكون بوتمكين قد دس له السم، ثم مات رغم كل جهود الأطباء ورعاية كاترين المخلصة، ولفظ أنفاسه الأخيرة بين ذراعيها. وقضت ثلاثة أيام في عزلة وحزن. ونحن نسمع المرأة من خلف الحاكمة-والقلب من خلف التاريخ-في رسالة كتبتها في 2 يوليو 1784. "خيل إلي أنني هالكة بعد هذه الخسارة التي لا تعوض... لقد عللت نفسي بأن سيكون العون لي في شيخوختي. كان مجاملاً، وتعلم الكثير، واكتسب كل ميولي... كان فتى أقوم على تربيته، وكان شاكراً، رقيقاً، طيباً"... إن لانسكوي لم يعد له وجود.. وباتت حجرتي وكراً فارغاً بعد أن كانت تفيض إشراقاً وبهجة، ولا قدرة لي إلا على جر نفسي إليها كأنني طيف من الأطياف.. لا أستطيع النظر إلى وجه إنسان دون أن يختنق صوتي... لا أستطيع أن أذوق النوم ولا الطعام.. ولست أدري ماذا يكون مصيري"(29).
وظلت عاماً تحرم نفسها من العشاق، وأخيراً استسلمت لألكسيس أرمولوف، (1785-1786)، الذي ساء بوتمكين كثيراً فاستعيض عنه سريعاً بألكسيس مامونوف. ولكن سرعان ما زهد ألكسيس في خليلته ذات السبعة والخمسين، واستأذن في الزواج منالأميرة شرباتوف، واحتفلت كاترين بالعروسين في زفاف رسمي بالبلاط، ثم صرفتهما محملين بالهدايا (1789)(30). وآخر القائمة هو بلاتون زوبوف (89-1796) وكان ملازماً في حرس الخيالة، مفتول العضل دمث الطباع. وكانت كاترين شاكرة له خدماته، فاضطلعت بالإشراف على تعليمه، وانتهت بمعاملته معاملة الأم لابنها. وقد لازمها حتى مماتها.
الفيلسوفة
بين الحب والحرب، وسياسة الدولة والدبلوماسية، وجدت هذه المرأة المدهشة وقتاً للفلسفة. وقد تكون فكرة عن سمو المكانة التي بلغتها جماعة "الفلاسفة" الفرنسيين حين نرى أكفأ حاكمين من حكام القرن الثامن عشر يعتزان بتبادل الرسائل معهم ويتنافسان على الظفر بثنائهم. وكانت كاترين قبل ولايتها العرش بزمن طويل تستطيب أسلوب فولتير وفكاهته الذكية وعباراته المجردة من التوقير، وتحلم بأن تكون ذلك الحاكم "المستبد المستنير" الذي راود أحلامه. ولا بد أنها أعجبت بديدرو أيضاً، لأنها في سبتمبر 1762 عرضت أن تطبع الموسوعة في سانت بطرسبرج إذا أمعنت الحكومة الفرنسية في حظرها. ولم يبق من الرسائل التي كتبتها لفولتير قبل 1765 إلا واحدة، وقد ردت على أبيات أرسلها لها في أكتوبر 1763:
"لأول مرة آسف على أنني لست شاعرة، وأن يكون ردي على أبياتك بالضرورة نثراً لا شعراً. ولكني أود أن أقول لك أنني منذ 1764 مدينة بأعظم الفضل لك. فقبل تلك الحقبة لم أكن أقرأ شيئاً غير الروايات، ولكن حدق أن وقعت كتبك في يدي مصادفة، وبعدها لم أكف عن قراءتها، ولا رغبت في قراءة كتب أقل جودة في الكتابة أو أقل تثقيفاً... وهكذا لا أفتأ أعود إلى خالق ذوقي عودتي إلى أعمق أسباب تسليتي، وأؤكد لك يا سيدي إن كنت قد حصلت أي معرفة فالفضل فيها لك. وأنا الآن أقرأ مقالك "في التاريخ العام"، وبودي لو حفظت كل صفحة منه عن ظهر قلب"(31). وظلت كاترين طيلة حياتها، أو حتى مماتهم، تراسل فولتير وديدرو ودالمبير ومدام جوفران وجريم وكثيرين غيرهم من وجوه الفرنسيين. وأسهمت في المال الذي جمعه فولتير لقضية كالاس وسيرفانس وقد أسلفنا القول أنها أمرت باستيراد شحنات كبيرة من الساعات من فرنيه، ومن الجوارب التي صنعها عمال فولتير، وأحياناً فولتير نفسه (إن جاز لنا أن نصدق الثعلب العجوز). وكان من بواعث فخره ن الرؤوس المتوجة أغدقت عليه أسباب التكريم، وقد كافأ كاترين بأن أصبح مندوبها الصحفي في فرنسا. وقد برأ ساحتها من الاشتراك في جريمة قتل بطرس الثالث، وكتب يقول "أعلم أن كاترين تلومها بعض الشائعات التافهة حول زوجها، ولكن هذه أمور عائلية لا شأن لي بها"(32). وناشد أصحابه أن يؤيدوه في الدفاع عن كاترين، فكتب إلى دارجنتال يقول:
"هناك صنيع آخر أرجو أن تسديه إلى، وهو يخص كاترين. يجب أن ندعم سمعتها في باريس بين أفاضل القوم ووجهاؤهم... وعندي أسباب قوية للاعتقاد بأن الدوقين براسلان وشوازيل لا يعتبر أنها أكثر نساء العالم نقاء ضمير، ومع ذلك فأنا عليم... بأنه لم يكن لها يد في موت زوجها السكير.. ثم أنه كان أكبر أحمق تربع على عرش... ونحن مدينون بالفضل لكاترين لأنها أوتيت الشجاعة لخلع زوجها، وهي تسوس ملكة بحكمة واعتزاز، وينبغي أن نبارك رأساً متوجاً ينشر التسامح الديني في أرجاء 135 درجة طولية... إذن أرجوك أن تذكر كاترين بخير كثير(33). أما مدام دو دوفان فقد رأت أن تبرئة الإمبراطورة هذه مخزية جداً، كذلك أدانتها مدام دشوازيل وهوراس ولبول(34). وما كان يتوقع في براسلان وشوازيل اللذين يوجهان علاقات فرنسا الخارجية أن يعجبا بإمبراطورة تعارض النفوذ الفرنسي في بولندة وتتحداه في تركيا. وكانت الشكوك تساور فولتير ذاته بين حين وحين. فلما سمع بمصرع إيفان السادس، سلم في حزن بـ "أن علينا أن نخفف قليلاً من غلوائنا في التحمس" لكاترين(35). ولكنه ما لبث أن أطرى برنامجها التشريعي، ورعايتها للفنون، وحملتها لنسر الحرية الدينية في بولندة، وخلع عليها الآن (18 مايو 1767) لقب "سميراميس الشمال". وحين خاضت الحرب ضد تركيا قطع هجومه على الكنيسة الكاثوليكية I'imfame ليمتدح حملتها الصليبية لإنقاذ المسيحيين من المسلمين.
أما ديدرو فقد استهواه بالمثل ذلك الجمال المتربع على العرش، وكان له في ذلك مبررات قوية. ذلك أن كاترين سمعت أنه ينوي بيع مكتبته ليجمع مهراً لابنته، فأصدرت تعليماتها لوكيلها الباريسي بأن يشتريها بأي ثمن يطلبه ديدرو، فطلب ستة عشر ألف جنيه وقبضها. ثم رجت ديدرو أن يحتفظ بالكتب حتى مماته، وأن يكون حارسها على المكتبة نظير راتب قدره ألف جنيه في العام، وزادت بأن دفعت راتبه مقدماً عن خمسة وعشرين عاماً. وأصبح ديدرو بين عشية وضحاها رجلاً غنياً ومحامياً يدافع عن كاترين. فلما دعته لزيارتها لم يستطع أن يرفض. قال "يجب أن يرى الإنسان امرأة كهذه ولو مرة في العمر"(36).
وبعد أن دبر شئون المال لزوجته وابنته خرج وهو في الستين (3 يونيو 1773) في الرحلة الطويلة الشاقة إلى سانت بطرسبرج. ولبث شهرين في لاهاي يرشف حلاوة الشهرة على مهل، ثم واصل الرحلة بطريق درسدن وليبزج، وحرص على أن يتجنب برلين وفردريك الذي كان قد أبدى عنه بعض الملاحظات الشائكة. وأصيب مرتين خلال الرحلة بالمغص إصابة عنيفة، ثم وصل إلى سانت بطرسبرج في التاسع من أكتوبر، واستقبلته كاترين في العاشر منه. كتب يقول "ليس هناك من يعرف خيراً منها فن رفع الكفلة عن محدثها"(37). ودعته للتكلم في صراحة، "كما يتكلم رجل لرجل". ففعل، وأومأ إيماءاته على عادته، وأكد نقاطع بصفع فخذي الإمبراطورة. كتبت كاترين لمدام جوفران تقول "إن ديدرو هذا رجل غريب الأطوار. فأنا أخرج من لقاءاتي معه بفخذين مرضوضتين سوداوين تماماً. وقد اضطررت إلى وضع منضدة بيننا وقاية لنفسي ولأعضائي"(38).
وقد حاول فترة أن يلعب دور الدبلوماسي كما حاول فولتير مع فردريك، وأن يصرف روسياً عن تحالفها مع النمسا وبروسيا إلى تحالف مع فرنسا(39)؛ ولكنها سرعان ما صرفته إلى موضوعات أقرب إلى صناعته. وأخبرها في شيء من التفصيل كيف يمكن أن تحول روسيا إلى بلد مثالي، واستمعت إليه جذلة، ولكنها ظلت على تشككها. وقد استعادت فيما بعد هذه الأحاديث في رسالة كتبتها للكونت لوي-فليب دسيجور. قالت:
"تحدثت معه كثيراً ومراراً، ولكن بفضول أكثر من الفائدة. ولو صدقته لانقلب كل شيء في مملكتي، فالتشريع والإدارة المالية- كلها كانت تنقلب رأساً على عقب لتفسح مجالاً لنظريات غير عملية... ثم قالت له في صراحة: "يا مسيو ديدرو، لقد أصغيت بمنتهى اللذة لكل ما أوحى به فكرك اللماح.. أن المرء، بكل مبادئك السامية، قد يؤلف كتباً رائعة، ولكنه يخسر في تجارته... أنك تشتغل على الورق، الذي يتحمل كل شيء.. أما أنا، الإمبراطورة المسكينة، فأشتغل على جلد البشر، وهو جلد سريع التهيج حساس على نحو مختلف"... وبعدها قصر كلامه على الأدب(40). وحين وقعت على مذكرات كان قد كتبها "بتعليمات صاحبة الجلالة الإمبراطورة... لوضع القوانين" وصفتها (بعد وفاته) بأنها "محض هذيان، لا أثر فيه لمعرفة بالحقائق ولا لتدبير ولا لنظر ثاقب"(41). ومع ذلك استمتعت بحديثه المفعم حيوية، وكانت تبادله الأحاديث كل يوم تقريباً خلال مقامه الطويل . وبعد أن ديدرو خمسة أشهر من البهجة الغامرة في صحبتها، والتعب في بلاطها، نوى الرحيل إلى أرض الوطن. فأمرت كاترين بصنع عربة خاصة له يستطيع أن يتكئ فيها مستريحاً. وسألته أن الهدايا ترسلها إليه فقال لا شيء، ولكنه ذكرها بأنها لم تف بوعدها أن ترد له نفقات رحلته، وقد قدرها بألف وخمسمائة روبل، فنفحته بثلاثة آلاف وبخاتم ثمين، وعينت ضابطاً ليرافقه حتى لاهاي. فلما عاد إلى باريس أثنى عليها ثناء الشكر والعرفان.
ولم تحاول كاترين الاتصال بروسو، الذي كان نقيضها إلى حد مؤلم في الطبع والأفكار، ولكنها صادقت جريم، لأنها عرفت أن صحيفته "الرسائل الأدبية" تصل إلى أيدي الأوربيين ذوي النفوذ. واتخذ أول خطوة بعرضه (1764) أن يوافيها برسائله الدورية، فوافقت ونقدته ألفاً وخمسمائة روبل في السنة. وقد رآها أول مرة حين ذهب إلى سانت بطرسبرج (1773) في بطانة مير هسي-دار مشتات لحضور زفاف أخت الأمير إلى الغراندوق بولس. وقدوجدته كاترين أكثر واقعية من ديدرو، مطلعاً إطلاعاً مفيداً جداً على جميع مناحي ذلك العام الباريسي الذي سحرها بأدبه وفلسفته وفنه ونسائه وصالوناته. ودعته "للدردشة" معها كل يوم تقريباً خلال شتاء 1773-1774 وقد كتبت إلى فولتير عن هذه اللقاءات: "إن حديث السيد جريم يمتعني، ولكن الأشياء التي نود أن نتبادل الكلام فيها من الكثرة بحيث اتسمت لقاءاتنا إلى الآن بالحماسة أكثر من اتسامها بالنظام أو التتابع" وفي حرارة هذه الأحاديث كان عليها المرة بعد المرة أن تذكر نفسها بأن عليها (على حد قولها) أن تعود إلى "أكل العيش" أكل عيشها بالالتفافات إلى مهمة الحكم(43). وعاد جريم إلى باريس يطفح تحمساً لكاترين "غذاء روحي، وعزاء قلبي، وفخر عقلي، وبهجة روسيا، وأمل أوربا"(44). وعاد إلى زيارة بطرسبرج في 1776، وكان يلقاها كل يوم تقريباً على مدى عام. ورجته أن يمكث ويشرف على التنظيم الجديد للتعليم في روسيا، ولكن حن إلى باريس ومدام ريينيه. ولم تكن كاترين بالمرأة الغيور، فلما سمعت أن مدام ريينيه تعاني أزمة مالية بعثت إليها بطريق رقيق غير مباشر ما يكفي لتلبية حاجاتها(45). ومنذ 1777 قام جريم بمهمة الوكيل لكاترين في فرنسا في المشتريات الفنية والمهام السرية. ودامت صداقته لها إلى النهاية دون أن يكدر صفوها مكدر.
ماذا كان نتائج هذا الغزل بين الأوتقراطية والفلسفة؟ أما من حيث مصادقتها للفلاسفة بوصفهم وكلاؤها الصحفيين في فرنسا، فالأثر السياسي كان صفراً؛ فالسياسة الفرنسية، ومن ثم المؤرخون الفرنسيون، ظلوا خصوماً ألداء لبلد كروسيا يحبط الأهداف الفرنسية في أوربا الشرقية. ولكن إعجابها بأبطال التنوير الفرنسي كان مخلصاً، لأنه بدأ قبل تقلدها السلطة بزمن طويل، ولو كان تظاهراً وادعاءً لما ثبت للمواجهات الطويلة مع ديدرو وجريم. وقد أعان اتصالها بالفكر الفرنسي على صبغ روسيا المتعلمة بالصبغة الأوربية، وعلى تعديل الرأي الغربي الذي رأى في روسيا وحشاً هائلاً جباراً. وقد اقتدى روس كثيرون بكاترين، وراسلوا كتاب الفرنسيين، وشعروا بتأثير الثقافة والعادات والفنون الفرنسية. وزار باريس عدد متزايد من الروس، ومع أن كثيرين منهم أنفقوا وقتهم في المغامرات الجنسية إلا أن الكثيرين اختلفوا إلى الصالونات والمتاحف والبلاط، وقرأوا الأدب والفلسفة الفرنسيين، وجلبوا معهم أفكاراً شاركت في الإعداد لتفجر الأدب الروسي في القرن التاسع عشر.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الحاكمة القديرة
لا يتطرق إلينا الشك في صدق نيات كاترين في مطلع حكمها. فقد وجدت هذه القرارات في نسخة "تليماك" التي كانت تقرؤها: "عليك بدراسة الإنسان، وبتعلم استخدام الرجال بغير الاستسلام لهم دون تحفظ. وابحثي عن الكفاية الأصيلة وإن وجدت في أقصى الأرض، لأنها تكون عادة متواضعة متوارية. ولا تسمحي لنفسك بأن تصبحي فريسة للمتملقين، أفهميهم أنك ى تعبأين بالمديح ولا بالتذلل والخنوع. وضعي ثقتك في أولئك الذين لديهم الشجاعة للاعتراض على آرائك... والذين تهمهم سمعتك أكثر مما يهمهم رضاءك. "كوني مؤدبة، رحيمة، منفتحة، عطوفاً، متحررة العقل. ولا تدعي سمو مكانتك بمنعك من النزول في تلطف إلى صغار الناس، ووضع نفسك في موضعهم. واحرصي على ألا يضعف هذا اللطف من سلطانك أو ينتقص من احترامهم لك... وانبذي كل تصنع وافتعال. ولا تسمحي للعالم أن يلوثك إلى الحد الذي يفقدك مبادئ الشرف والفضيلة القديمة.
أقسم بالسماء أن أطبع هذه الكلمات على صفحة قلبي"(46).
وكانت تدأب على الإحاطة بدقائق كل موضوع تتناوله، وقد كتبت تعليمات مفصلة عن مئات المواضع من تدريب الجيش والعمليات الصناعية إلى زينة حاشيتها وإخراج الأوبرات والتمثيليات. قال أحد كتاب سيرتها الأولين وكان من أقلهم تعاطفاً:
"إن الطموح لم يطفئ في روح كاترين تذوقاً حاراً للذة، ولكنها كانت تعرف كيف تنبذ اللذة، وتنتقل إلى الاضطلاع بأكثر الواجبات خطراً، وإلى الممارسة التي لا تكل لشئون الحكم. فتحضر جميع مداولات المجلس، وتقرأ رسائل سفرائها، وتملي، أو تشير... بالردود التي لا يرد بها. ولا تكل لوزرائها سوى تفاصيل العمل، ولا تفتأ تراقب تنفيذه"(47).
واستحالت أو كادت مهمة حكم رقعة ملكها الشاسعة لكثرة القوانين الموجودة (عشرة آلاف). وتنوعها، وتناقضاتها، وفوضاها. وإذ راودها الأمل في أن تؤدي لروسيا ما أداه من قبل جستنيان للدولة الرومانية، وفي أن تدعم سلطتها، فإنها دعت إلى موسكو في 14 ديسمبر 1766 موظفين إداريين وخبراء قانونيين من كل ركن من أركان الإمبراطورية، ليقوموا بمراجعة دقيقة شاملة وجمع وتنسيق للقانون الروسي. واستعداداً لمجيئهم أعدت بشخصها تعليمات "Nakaz" تصف المبادئ التي ينبغي أن يشكل على أساسها القانون الجديد. وقد عكست هذه المبادئ قرائتها لمونتسكيو وبكاريا وبلاكستون وفولتير. واستهلت تعليماتها بالتصريح بأنه يتعين التفكير في روسيا على أنها دولة أوربية، ينبغي أن يكون لها دستور قائم على "مبادئ أوربية". وليس معنى هذا في مفهومها "حكومة دستورية" تخضع الملك لهيئة تشريعية يختارها الشعب، فمستوى التعليم في روسيا لن يسمح حتى بحق انتخاب محدود كالموجود آنئذ في بريطانيا. إنما يعني حكومة يحكم فيها الحاكم طبقاً للقانون، وإن كان هو ف نهاية الأمر المصدر الوحيد للقانون. وقد أيدت كاترين النظام الإقطاعي-أعني نظام الولاء والخدمات المتبادلة بين الفلاح والمقطع (التابع) وبين المقطع والسيد الإقطاعي، وبين السيد والملك-باعتباره نظاماً لا غنى عنه للاستقرار القتصادي والسياسي والحربي في روسيا عام 1766 (وهي بلد الجماعات التي لا تكاد تنعزل بعضها عن بعض، وعن مركز الحكومة، نتيجة لصعوبات الانتقال والنقل)، ولكنها ألحت على ضرورة تعريف وتحديد حقوق السادة على أقنانهم قانوناً، وعلى السماح للأقنان بتمالك الأملاك، وعلى نقل محاكمة الأقنان وعقابهم من السيد الإقطاعي إلى قاضي عمومي يسأل محكمة إقليمية مسئولة أمام الملك(48). وينبغي أن تكون جميع المحاكمات علنية، وأن يبطل استخدام التعذيب، وأن تلغى عقوبة الإعدام قانوناً وواقعاً. أما العبادة الدينية فينبغي أن تكون حرة، "فالتعصب هو أضر الكبائر بين هذه الكثرة من مختلف العقائد"(49). ثم قدمت هذه التعليمات قبل طبعها إلى مستشاريها، فنبهوها إلى أن أي تغيير فجائي من الأحوال المألوفة سيدفع بالروسيا إلى مهاوي الفوضى؛ وقد سمحت لهم بتعديل مقترحاتها، لا سيما ما استهدفت عتق الأرقاء تدريجياً(50).
وقد دفعت هذه التعليمات التي نشرت في هولندة في 1767 صفوة المفكرين الأوربيين إلى الثناء الحماسي عليها، حتى بعد أن عدلت على هذا النحو. وأرسلت الإمبراطورة نسخة منها رأساً إلى فولتير، الذي قدم فروض احترامه المعهودة: "سيدتي، تلقيت البارحة ضماناً من ضمانات خلودك-هو مجموعة قوانينك في ترجمة ألمانية. وقد شرعت اليوم في ترجمتها إلى الفرنسية. وسوف تظهر في الصينية، وفي كل لسان، وسوف تكون إنجيلاً للبشر أجمعين(51). وأضاف في رسائل تالية: "إن المشرعين يحتلون مكان الصدارة في هيكل المجد، أما الفاتحون فيأتوهم من بعدهم... إنني أعد (التعليمات) أجل آثار هذا القرن"(52). ومنعت الحكومة الفرنسية بيع (التعليمات) في فرنسا.
وقدمت "التعليمات" المعدلة إلى "لجنة صياغة القانون الجديد" التي اجتمعت في 10 أغسطس 1767. وكانت تتألف من 564 عضواً تنتخبهم جماعات شتى: 161 من النبلاء و208 من المدن، 79 من الفلاحين الأحرار، و54من القوزاق، و34 من القبائل غير الروسية (مسيحيين أو غير مسيحيين) و28 من الحكومة. ولم يمثل الاكليروس بصفتهم طبقة، ولم يمثل الأقنان إطلاقاً. وكانت اللجنة من بعض وجوها نظير لمجلس طبقات الأمة الفرنسي الذي تقرر أن يجتمع في باريس في 1789، وقد أتى المندوبون للحكومة بقوائم احتوت المظالم ومقترحات الإصلاح من دوائرهم على نحو ما سيفعل مندوبو ذلك المجلس الأشهر. ورفعت هذه الوثائق إلى الإمبراطورة فأتاحت لها ولمساعديها مسحاً قيماً لحالة المملكة.
ولم تخول اللجنة سلطة إصدار القوانين، بل تقديم المشورة للإمبراطورة عن حالة كل طبقة أو إقليم وحاجاته وتقديم الاقتراحات للتشريع. وكفلت للمندوبين حرية الكلام وعدم المساس بأشخاصهم. واقترح بعض عتق جميع الأقنان وطلب بعضهم مزيداً من التوسع في حق امتلاك الأقنان. وفي ديسمبر 1767-استراحت اللجنة، وفي فبراير 1768 انتقلت إلى سانت بطرسبرج، وبلغ مجموع الجلسات التي عقدتها 203؛ وفي 18 ديسمبر أجلت إلى أجل غير مسمى لأن نشوب الحرب ضد تركيا استدعى وجود مندوبين كثيرين في الجبهة. ووكلت مهمة صياغة التشريع المقترح إلى لجان فرعية، ظل بعضها يجتمع حتى 175، ولكن لم توضع مجموعة قوانين. ولم تسوء كاترين تماماً هذه النتيجة غير الحاسمة، فقالت "إن اللجنة... أعطتني النور والمعرفة عن جميع الإمبراطورية، وأنا الآن على بينة مما يلزم، وأعرف بما ينبغي أن أهتم. وقد فصلت اللجنة جميع أقسام القانون، ووزعت الشئون تحت رؤوس مواضيع، وكنت خليقة بأن أفعل أكثر من هذا لولا الحرب مع تركيا، ولكنا أدخلنا وحدة لم نعهدها إلى الآن في مبادئ النقاش وطرائقه"(53). وقد أظهرت كاترين للنبلاء في الوقت نفسه مبلغ عرض القاعدة التي ترتكز عليها سلطاتها. واقترحت اللجنة قبل انفضاضها أن تخلع عليها لقب "الكبرى"، فرفضت، ولكنها وافقت على أن تلقب "أم الوطن".
وأصبحت اثنتان من توصيات كاترين قانوناً: إلغاء التعذيب وإقرار التسامح الديني. وقد توسع في هذا التسامح: فسمح القانون للكنيسة الكاثوليكية الرومانية بأن تنافس اليونانية الأرثوذكسية، وحمى اليسوعيين حتى بعد أن حل البابا كلمنت الرابع عشر طائفتهم (1773)، وأذن للتتار الفولجا بأن يعيدوا بناء مساجدهم. وسمحت كاترين لليهود بدخول روسيا، ولكنها أخضعتهم لضرائب خاصة، وقصرت إقامتهم على مناطق معينة (ربما تحقيقاً لسلامتهم). ثم تركت الراسكولنيكيين-المنشقين الدينيين-أحراراً في ممارسة شعائرهم دون عائق؛ وكتبت إلى فولتير تقول "صحيح أن عندنا متعصبين يحرقون أنفسهم لأنهم لم يعودوا مضطهدين من الغير، ولكن لو حذا حذوهم المتعصبون في الدول الأخرى لما نجم عن ذلك ضرر يذكر"(54).
وأبهج جماعة الفلاسفة بصفة خاصة إخضاع كاترين الكنيسة الروسية للدولة. وشكا بعضهم من أنها لا تزال تحضر الخدمات الدينية (وكذلك كان يفعل فولتير)، وأدرك أكبرهم سناً أن حضورها لا غنى عنه للاحتفاظ بولاء الشعب. وقد حولت بمرسوم أصدرته في 26 فبراير 1764 جميع أراضي الكنيسة ملكاً للدولة. وبدأت الدولة منذ الآن تدفع رواتب رجال الدين الأرثوذكس-وبهذا ضمنت تأييدهم للحكومة. وأغلق الكثير من أديرة الرهبان والراهبات، ومنع الباقي منها من قبول أكثر من عدد معلوم من المترهبين الجدد، ورفعت السن القانونية لنذر الرهبنة. واستخدمت الموارد الفائضة من المؤسسات الكنسية في إنشاء المدارس والملاجئ والمستشفيات(55).
وعارض رجال الدين والنبلاء التوسع في التعليم الشعبي مخافة أن يفضي انتشار المعرفة بين الجماهير إلى الهرطقة والكفر والتحزب، وأن يعرض النظام الاجتماعي للخطر. هنا بدأت كاترين-كما بدأت في غيره-بتطلعات تحررية، فلجأت إلى جريم: "أصغوا إليَّ لحظة يا أصدقائي الفلاسفة: ستكونون لطافاً ظرافاً إذا تفضلتم برسم خطة للشباب، من ألف باء إلى الجامعة... ليس عندي-أنا التي لم أدرس في باريس ولم أعش فيها-معرفة بهذا الأمر ولا بصر به.. إنني مهتمة جداً بفكرة إنشاء جامعة وإدارتها، ومدرسة ثانوية (جمنازيوم) وأخرى أولية... وإلى أن تستجيبوا لطلبي سأنقب في "الموسوعة" عما أنشده وبالتأكيد سأستخرج منها ما أنشده"(56). وقد أثرت فيها أثناء ذلك الحماسة البيداجوجية التي أبداها إيفان بتسكي، الذي جاب السويد وألمانيا وهولندة وإيطاليا وفرنسا، واختلف إلى صالون مدام جوفران ودرس الموسوعة والتقى بروسو. ففي 1763 أنشأت في موسكو مدرسة القطاء، خرجت في 1796 أربعين ألف طالب، وفي 1764 فتحت مدرسة للبنين في سانت بطرسبرج، وفي 1765 أخرى للبنات، وفي 1764 حول دير سمولني إلى معهد سمولني لبنات النبلاء- وهذا صدى لمعهد مدام دمانتنون "سان سير"، وكانت كاترين أول حاكم روسي يفعل شيئاً لتعليم النساء. ولما فت في عضدها افتقارها إلى المعلمين المؤهلين، بعثت الطلاب الروس لدراسة التربية في إنجلترة وألمانيا والنمسا وإيطاليا، وأنشئت مدرسة للمعلمين في 1786.
وقد أعجبتها إصلاحات يوزف الثاني التعليمية في النمسا، فطلبت إليه أن يعيرها شخصاً خبيراً بنظامه، فأرسل إليها تيودور يانكوفش الذي وضع لها خطة نشرتها باسم "قانون المدارس الشعبية" (5 أغسطس 1786). وأنشئت مدرسة أولية في أهم بلدة في كل إقليم، ومدرسة ثانوية في كل مدينة كبرى من مدن ست وعشرين مقاطعة، وفتحت هذه المدارس لجميع الأطفال أياً كان طبقتهم، ولم يسمح فيها بالعقاب البدني؛ وكانت الدولة تمدها بالمدرسين والكتب المدرسية. بيد أن المشروع أحبطه إلى حد كبير عزوف الآباء عن إرسال أبنائهم إلى المدارس بدلاً من استخدامهم للشغل في البيت. وخلال اسنوات العشر التي انقضت منذ تأسيس "المدارس الشعبية" حتى وفاة كاترين، زاد عدد ببطء من أربعين إلى 316 مدرسة، وعدد المعلمين من 136 إلى 744، وعدد التلاميذ من 4.398 إلى 17.341. وفي عام 1796 كانت روسيا لا تزال شديدة التخلف عن الغرب في ميدان التعليم الشعبي. أما التعليم العالي فكان متاحاً على نطاق ضيق في جامعة موسكو وفي المعاهد أو الأكاديميات الخاصة، وأنشئت مدرسة تجارية في 1772، وأكاديمية للمناجم في 1773. ووسعت أكاديمية العلوم القديمة وزودت بالمال الوافر. وفي 1783، بناء على إلحاح الأميرة داشكوفا، وتحت رآستها، أنشئت أكاديمية روسية لتحسين اللغة، وتشجيع الأدب، ودراسة التاريخ، فأصدرت المترجمات، ونشرت الدوريات، وصنفت قاموساً صدر في ستة أجزاء بين 1789، 1799.
وقد روعت كاترين نسبة الوفيات العالية في روسيا، وبدائية وسائل حفظ الصحة العامة والنظافة الشخصية، فاستقدمت الأطباء الأجانب، وأسست كلية للصيدلة في موسكو، ودبرت المال لإنتاج الأدوات الجراحية. وفتحت في موسكو ثلاثة مستشفيات جديدة ومستشفى للأمراض العقلية وفي سانت بطرسبرج ثلاثة مستشفيات جديدة بما فيها "مستشفى سري" للأمراض التناسلية(57). وفي 1768 أدخلت لروسيا التطعيم ضد الجدري، وهدأت مخاوف الشعب بوضعها شخصها وهي في الأربعين ليجري عليها العلاج كثاني شخص في روسيا، وما لبثت كاترين أن كتبت لفولتير تقول "إن الذين طعموا هناك في شهر واحد أكثر ممن طعموا بفيينا في سنة"(58). (وفي 1772 دخل التطعيم نابلي لأول مرة، وفي 1774 مات لويس الخامس عشر بالجدري غير مطعم).
الاقتصادية
من القوانين الأساسية التي أصدرتها كاترين قانون (1765) قضى بأجواء مسح لجميع أراضي روسيا. وقد قوبلت هذه العملية بمقاومة شديدة من الملاك. وحين اختتم العهد كانت قد شملت عشرين إقليماً من خمسين، ولكنها لم تستكمل حتى منتصف القرن التاسع عشر. وبينما كان المسح جارياً أدركت الإمبراطورة في وضوح مثبط للهمم كيف يعتمد اقتصاد روسيا على تنظيم الزراعة بواسطة نظام قوامه السادة والأقنان. وفي 1766 أعلنت عن جائزة من ألف دوقاتية تمنح لأفضل مقال عن تحرير الأقنان. وفاز بالجائزة بياردي دلابيه إكس لا شابل، الذي رأى أن "العالم كله يطالب الملوك بتحرير الفلاحين" وتنبأ بأن الإنتاج الزراعي سيزداد زيادة هائلة "إذا ملك الفلاحون الأرض التي يزرعونها"(59). غير أن الملاك الأشراف حذروا كاترين من أن الفلاح سيهجر القرى إلى المدن إن لم يربط بالأرض وبسيده الإقطاعي، أو سيهاجر من قرية إلى قرية في لا مبالاة أكثر، فيخلق بذلك الفوضى، ويمزق الاقتصاد، ويعوق تجنيد أبناء الفلاحين الأشداء للجيش أو الأسطول.
ومضت القيصرة الحائرة في مشروعها على حذر، فالنبلاء يملكون المال والسلاح اللذين يستطيعان الإطاحة بها، وهم في هذه المحاولة يستطيعون الاعتماد على تأييد الاكليروس الذين ساءهم فقدان أراضيهم وأقنانهم. وخافت من الخلل الذي قد تحدثه هجرة جماعية من الفلاحين المحررين إلى مدن غير مستعدة لإسكانهم أو إطعامهم أو تشغيلهم. على أنها قامت بخطوات نحو عتق الأقنان. فجددت مرسوم بطرس الثالث الذي حرم شراء الأقنان لتشغيلهم في المصانع، وفرضت على أرباب العمل أن يدفعوا أجور عمالهم نقداً وأن يراعوا ظروف العمل التي يقررها موظفو المدينة أو "المير"(60)؛ ولكن حتى مع هذا ظل وضع الأقنان الصناعيين وضع العبودية القاسية المذهلة. وحرمت كاترين القنية في المدن التي أنشأتها(61)، ثم عتقت الأقنان المشتغلين على الأراضي التي أخذت من الكنيسة نظير دفعهم رسماً صغيراً(62)، على أن هذه التحسينات طغت عليها منحها المتكررة من أراضي الدولة لمن أخلصوا لها الخدمة كالقواد أو رجال الدولة أو العشاق، وعلى هذا النحو أصبح أكثر من 800.000 من الفلاحين الأحرار أقناناً. وارتفعت نسبة الأقنان في سكان الريف من 52.4% في بداية العهد إلى 55.5% في ختامه، وزاد عدد الأقنان من 7.6700.000 إلى 20.000.000(63). ثم أكملت كاترين استسلامها للنبلاء بـ "خطابات الامتياز للنبلاء" (1785): فقد أكدت فيها من جديد إعفاءهم من ضريبة الرؤوس، والعقوبة البدنية، والخدمة العسكرية، وحقهم في ألا يحاكموا إلا أمام أمرائهم، وفي استخراج المعادن من أرضهم، وفي امتلاك المشروعات الصناعية، وفي السفر إلى خارج البلاد كما يشاءون. وقد حظرت على الملاك أن يكونوا طغاة أو قساة، ولكنها أبطلت مفعول هذا الحظر بمنع الأقنان من أن يرسلوا إليها شكاواهم.
ولجأ الفلاحون بعد أن أخمد صوتهم على هذا النحو إلى الفرار أو التمرد أو الاغتيال. وقد قتل ثلاثون من السادة الإقطاعيين بأيدي فلاحيهم بين عامي 1760 و1769؛ واندلعت خمسون فتنة بينهم فيما بين عامي 1762 و1773(64). وكانت هذه الفتن تخمد سريعاً حتى قائم زعيم ثائر عرف كيف يحول السخط نظاماً، وأسلحة اللاحين انتصارات. ذلك أن إمليان بوجاشيف كان قوزاقياً من إقليم الدون، حارب في صفوف الروس ضد البروسيين والأتراك، ثم طلب تسريحه، ولكن طلبه رفض، ففر من الجيش، وقبض عليه، فعاودوا الفرار، وارتضى حياة طريد القانون. وفي نوفمبر 1772، بعد أن شجعه الرهبان الساخطون، أعلن أنه بطرس الثالث الناجي بأعجوبة من كل المحاولات التي بذلت لقتله. وجذب الفلاحين وقطاع الطرق للانضواء تحت لوائه، حتى أحس بأن ساعده اشتد، فهجر بعصيان الغاصبة كاترين (سبتمبر 1773). وتوافد عليه قوزاق الأورال والفولجا والدون؛ وآلاف الرجال الذين حكم عليهم بالسخرة في مناجم الأورال ومصاهر المعادن؛ وفئات "المؤمنين القدامى" التواقين إلى الإطاحة بالكنيسة الأرثوذكسية؛ وقبائل التتار والقرغيز والبشكير المحلية الذين لم ينسوا إكراه اليزابث لهم على الدخول في المسيحية؛ ثم أقنان آبقون من سادتهم، ومساجين هربوا من السجون: هؤلاء تقاطروا على لواء بوجاشيف حتى اجتمع له عشرون ألف رجل تحت إمرته. فزحفوا ظافرين من مدينة إلى مدينة، وهزموا القوات التي سيرها ضدهم الحكام المحليون، واستولوا على مدن هامة مثل قازان وساراتوف؛ ثم صادر المؤن، وقتلوا الملاك، وأكرهوا الفلاحين المعارضين على الانضمام إليهم، وزحفوا مصعدين في حوض الفولجا صوب موسكو. وأعلن بوجاشيف أن لن يرتقي هو العرش هناك، بل سيبوئة الغراندوق بولس. ولكنه-بمزاح رهيب على الأرجح-لقب زوجته الفلاحة بالملكة، وكبار ضابطه بأسماء ضباط كاترين: الكونت أورلوف، والكونت بانين، والكونت فورونشوف. وسخرت كاترين أول الأمر من هذا "المركيز بوجاشيف"، ولكنها حين علمت أن العصاة استولوا على قازان، جردت قوة كبيرة تحت إمرة الجنرال بيوتر إيفانوفتش بانين لإخماد الفتنة. وخف النبلاء لنجدتها بعد أن أدركوا أن الخطر يتهدد هيكل الإقطاع بأسره، وسرعان ما انضم الجنرال الكسندر فاسيليفتش سوفوروف إلى بانين بفرسانه الذين أصبحوا أحراراً في التحرك بعد عقد الصلح مع الأتراك؛ وأوقع الخلل في صفوف العصاة التقاؤهم بجنود مدربين تحت قيادة ضباطهم الإمبراطوريين. فتقهقروا من موقع إلى آخر، واستنفدوا مؤنهم، وبدأوا يتضورون جوعاً. واعتقل بعض زعمائهم-الطامعين في الخبر واعفو-بوجاشيف وسلموه للمنتصرين. فجيء به إلى موسكو في قفص من حديد، وحوكم في الكرملين، وقطع رأسه ومزق جسده أرباعاً، وعرض رأسه على عمود في أربعة أقسام من المدينة ليكون "عبرة لغيره" ثم أعدم خمسة من ضباطه، وجلد غيرهم على هذا الجانب من الموت، ونفوا إلى سيبيريا. وكان من نتائج الفتنة دعم التحالف بين الإمبراطورة والنبلاء.
على أنها تحدث النبلاء شيئاً ما بتأييدها لنمو طبقة قوامها رجال المال والأعمال. ذلك أن اقتناعها ببراهين الفزيوقراطيين دعاها لإقرار حرية التجارة في المحاصيل الزراعية (1762)، ثم في كل شيء، وأنهت (1735) الاحتكارات المعتمدة من الحكومة بإصدارها قراراً يبيح لكل إنسان حرية الاضطلاع بأي مشروع صناعي وتنفيذه. وقد أخر نمو الطبقة الوسطى غلبة الصناعة التي تقوم في الأكواخ والعزب، ومشاركة النبلاء في المغامرات الصناعية والتجارية. وزادت المصانع من 984 إلى 3.161 في عهد كاترين، ولكن هذه كان أكثرها ورشاً صغيرة لا تستخدم من الصناع إلا القليلين. وزاد سكان المدن من 328.000 في عام 1724 إلى 1.300.000 في عام 1796-ومع ذلك لم يزل أقل من أربعة في المائة من مجموع السكان(65). ولم تأل الإمبراطورة الكثيرة الشواغل جهداً في النهوض بالتجارة دون أن تلقى إلا التأييد الضنين من حاشيتها النبيلة. لقد كانت الطرق غاية في السوء، ولكن الأنهار كثيرة، وقد ربطتها القنوات في شبكة مفيدة. وفي عهد كاترين بدئ شق قناة بين الفولجا والنيفا لربط البلطيق ببحر قزوين، وقد خططت لقناة أخرى تصل بحر قزوين بالبحر الأسود(66). وظفرت بالتفاوض أو بالحرب بحرية مرور التجارة الروسية دون معوق في البحر الأسود ومنه إلى البحر المتوسط. ثم حثت دبلوماسييها على عقد المعاهدات التجارية مع إنجلترة (1766) وبولندة (1775) والدنمرك (1782) وتركيا (1783) والنمسا (1785) وفرنسا (1787). ونمت التجارة الخارجية من 21.000.000 روبل عام 1762 إلى 96.000.000 عام 1796(67).
في هذه الأرقام يجب أن نحسب حساب تضخم العملة الذي تدفع به الحكومات نفقات حروبها. وقد اقترضت كاترين من داخل البلاد وخارجها 130.000.000 روبل لتمويل حملاتها على تركيا، وأصدرت نقوداً ورقية تجاوزت كثيراً أي غطاء من الذهب. وفقد الروبل أثناء حكمها 32% من قيمته. وفي هذه الفترة ذاتها، ورغم زيادة الإيرادات من 215.000.000(68). وأكثر هذا الدين نجم عن الحروب التي كسرت شوكة تركيا، ومدت حدود روسيا إلى البحر الأسود.
المحاربة
بدأت كاترين بأهداف سلمية كما يبدأ كل فيلسوف: فأعلنت أن مشاكل الإمبراطورية الداخلية ستستغرق اهتمامها، وأنها ستتجنب كل صراع مع الدول الأجنبية إذا لم يتحرش بها أحد. فثبتت صلح بطرس الثالث مع بروسيا، وأنهت حربه مع الدنمرك. وفي 1762 رفضت الإغراء بفتح كورلاند أو التدخل في بولندة، وقالت "عندي ما يكفي من البشر الذين على إسعادهم، ولن يزيدني رفاهية ذلك الركن الصغير من أركان الأرض"(69). ثم خفضت الجيش، وأهملت ترسانات السلاح، وسعت إلى التفاوض مع تركيا لإبرام معاهدة للصلح الدائم. ولكنها كانت كلما درست الخريطة وجدت عيباً في حدود روسيا. ففي الشرق كانت الإمبراطورية محمية جيداً بجبال الأورال وبحر قزوين وضعف الصين. وفي الشمال تحميها الثلوج. أما في الغرب فالسويد مستولية على جزء من فنلنده، قد يتوقع منه الهجوم في أي لحظة يشنه شعب ما فتئ يسوؤه ما غصبه منه بطرس الأكبر؛ وكانت بولندة وبروسيا تسدان الطريق إلى "أوروبا" والاصطباغ بحضارتها. أما في الجنوب فقد سد التتار، الخاضعون لخان مسلم يسيطر عليه الترك، الطريق إلى البحر الأسود. فأي إجهاضات للتاريخ أعطت روسيا جغرافية كهذه، وحدوداً شاذة كهذه؟ وهمس في أذنها القائد القديم مونيش، والقائد الجديد جريجوري أورلوف، بأن الوضع يكون معقولاً أكثر لو كان البحر الأسود هو الحد الجنوبي، وبأنه يكون جميلاً رائعاً لو استطاعت روسيا الاستيلاء على الآستانة والتسلط على البوسفور. ما نيكيتا بانين، وزير خارجيتها من 1763 إلى 1780. فقد فكر في طرق لإعلاء نفوذ روسيا في بولندة ومنع هذا البلد الأعزل من الوقوع في براثن بروسيا.
وتأثرت كاترين بحججهم، وأخذت تتحرق شوقاً لأن تبوئ وطنها الثاني مكاناً في السياسة يتفق ومكانها على الخريطة. فلم ينقض عام على تقلدها السلطة حتى انطلقت إلى سياسة خارجية لا ترضى في طموحها بأقل من جعل روسيا الدولة المحورية على القارة. كتبت إلى الكونت كيزرلنج، سفيرها في وارسو تقول "أقول لك أن هدفي أن أرتبط بروابط الصداقة مع جميع الدول، في تحالف مسلح، حتى أستطيع على الدوام أن أقف في صف مظلوم، وبهذا أصبح الحكم لأوربا(70).
وأنت عليها فترات كانت فيها قاب قوسين من هدفها هذا. وآية ذلك أنها سحبت روسيا من حرب السنين السبع فإنها في الوقع حسمت ذلك الصراع الذي شمل القارة كلها لصالح فردريك. وفي عام 1764 أبرمت مع فردريك معاهدة كانت نذيراً بتقطيع أوصال بولندة. ثم استغلت حاجة الدنمرك إلى تأييد روسيا لها ضد السويد لتهيمن على سياسة الدنمركيين الخارجية. وفي عام 1779 كانت حكماً بين فردريك ويوزف في معاهدة تشن، وأصبحت حامية الدستور الإمبراطوري الألماني. وفي 1780 ربطت الدنمرك والسويد وبروسيا والنمسا والبرتغال بالروسيا في "عصبة حياد مسلح" لحماية السفن المحايدة في الحرب الدائرة بين إنجلترة ومستعمراتها الأميركية، فتقرر ألا تتعرض السفن المحايدة للهجوم من أي من الطرفين المحاربين ما لم تحمل ذخائر حربية؛ وأن الحصار لكي يكون شرعياً ولكي يحترم يجب أن يكون حقيقياً لا مجرد إعلان على الورق.
وقبل أن قلبت الأحلاف ذلك القلب الثاني بزمن طويل بدأ الصراع الطاحن على التسلط على البحر الأسود. وقد نشأت أول حروب كاترين التركية نتيجة ثانوية غريبة لغزوها بولندة. ذلك أنها كانت قد أرسلت هناك جيشاً لإعانة غير الكاثوليك في كفاحهم لنيل حقوق متساوية من الأغلبية الكاثوليكية؛ وحمل الكاثوليك سفيراً بابوياً على أن يفهم تركيا أو فرصتها حانت لتهاجم روسيا؛ وأيدت فرنسا الاقتراح، وحرضت السويد وخان القرم على الانضمام للهجوم(71). وحزن فولتير على إمبراطورته التي أحدق بها الخطر. وكتب إليها يقول "إن تجنيد سفير بابوي للأتراك في حربه الصليبية عليك لموضوع جدير برواية هزلية إيطالية عنوانها "مصطفى الحليف الفاضل للبابا!"، فالموقف كاد يغريه بأن يكون مسيحياً. لا بل أنه في خطاب أرسله إلى كاترين في نوفمبر 1768 اقترح عليها حرباً مقدسة على الكفار.
"إنك تكرهين البولندين على أن يكونوا متسامحين سعداء على الرغم من سفير البابا، ويبدو أنك تلقين من السماء عنفاً. فإذا شنوا عليك الحرب فربما تبلورت فكرة بطرس الأكبر في جعل الآستانة عاصمة للإمبراطورية الروسية... وفي ظني أنه لو قدر على الأتراك أن يطردوا من أوربا يوماً فسيكون هذا على أيدي الروس... فليس يكفي لإذلالهم؛ بل يجب ردهم إلى موطنهم إلى الأبد(72). ورفضت السويد أن تشارك في الهجوم على روسيا، ولكن تتار القرم اجتاحوا مستعمرة "الصرب الجديدة" الروسية، الحديثة، (يناير 1769). وزحف جيش تركي عدته 100.000 مقاتل صوب بود وليا لينضم إلى جيش الاتحاد البولندي. ورفضت كاترين أن تسحب قواتها من بولندة. وجردت ثلاثين ألف مقاتل يقودهم ألكسندر جولتسين وبيوتر روميا نتسيف لهزيمة التتار ورد الترك؛ فلما قيل لها إن عدد هؤلاء الترك هائل أجابت "إن الرومان لم يكونوا يعبأون بكثرة إعدامهم، إنما كانوا يسألون، أين هم؟"(73). ورد التتار على أعقابهم، واستولى الروس على آزوف وتاجانروج شمالي الدون؛ وهزم سبعة عشر ألف روسي 150.000 تركي في كاجول (1770) وتقدم روميانتسيف حتى بلغ بوخارست، حيث استقبله السكان الأرثوذكس بمظاهر الفرح والتهليل. وفي 1771 اجتاح فاسيلي ميخايلوفتش دولجوروكي القوم وقضى على الحكم التركي هناك.
وأكثر حتى من هذا إثارة للعجب والإعجاب جرأة الكرسي أورلف، الذي قاد أسطولاً روسياً مخر به عباب المانش، والأطلنطي، والبحر المتوسط، وهزم الأسطول التركي تجاه خيوس، وأباده في خزمي (يوليو 1770)؛ غير أن الضرر الذي لحق بمراكبه كان فادحاً فلم يتح له مواصلة انتصاراته. على أن أحداثاً أخرى لم تبعث مثل هذه البهجة في فؤاد كاترين. من ذلك أن طاعوناً تفشي في الجيش الروسي على طول الدانوب ثم ارتد إلى موسكو حيث كان يحصد ألف روح كل يوم في صيف 1770. وكانت عليمة بأن فردريك ينظر باستنكار إلى امتداد ملكها وسلطانها؛ وأن يوزف الثاني يزعجه تقدم روسيا إلى حدود النمسا في البلقان؛ وأن فرنسا لا تترك حجراً لا تقلبه دعماً لحليفتها تركيا؛ وأن إنجلترة ستقاوم بشدة تسلط روسيا على البوسفور؛ وأن السويد إنما تترب بها الدوائر. فدعت كاترين الترك إلى مؤتمر، فحضروا، ولكنهم حرنوا لإصرارها على استقلال القرم؛ وفي 1773 استؤنفت الحرب.
وفي يناير 1774 مات مصطفى الثالث؛ وقرر خلفه أن تركيا قد بلغت من الفوضى والإرهاق حداً يهدد وجودها كدولة أوربية. فاعترفت تركيا بمقتضى صلح كجوق قينارجي (في رومانيا) 21 يوليو 1744 باستقلال القرم (التي ظلت تحت حكم التتار)، ونزلت لروسيا عن آزوف، وكرش وبنيكالي، وكلبورون (على مصب دنيبر). وفتحت البحر الأسود والبوسفور والدردنيل للمراكب الروسية، ودفعت لروسيا تعويض حرب قدره 4.500.000 روبل، ومنحت العفو للمسيحيين الذين شاركوا في ثورات على حكامهم الأتراك، واعترفت بحق روسيا في حماية المسيحيين في تركيا. وكان هذا في جملته من أميز المعاهدات التي أبرمتها روسيا في تاريخها(74). فقد غدت روسيا الآن من دول البحر الأسود؛ وتركت القرم وغيرها من أقاليم التتار في جنوب روسيا مفتوحة أمام الغزو الروسي المبكر، واستطاعت الإمبراطورة الشاكة أن تظهر بمظهر المدافعة عن الإيمان. وراحت كاترين-بعد أن أسكرها النصر-تحلم بتحرير اليونان-أعني بفتحها، وبتتويج حفيدها قسطنطين في الآستانة رأساً لإمبراطورية جديدة. وأبهجت فؤاد فولتير الشائخ برؤى الألعاب الأولمبية وقد ردت إلى مجدها التليد؛ فكتبت إليه تقول "سوف تجعل ممثلين يونانيين يمثلون التراجيديات اليونانية القديمة في مسرح (ديوينسيوس) بأثينا". فلما تذكرت الجيوش والخزانة التي استنفدت أضافت: "على أن أمرس الاعتدال، وأقول إن السلم خير من أروع حروب الدنيا"(75).
وأخذت الآن تحل محل فردريك كأشهر ملوك أوربا، وتعجب الناس جميعاً من سعيها الحثيث لتحقيق أهدافها، ومن الامتداد المرعب لسلطانها، وسافر يوزف الثاني إمبراطور النمسا، الذي طالما انحنى لعبقرية فردريك، إلى موجيليف، ومنها أكمل الرحلة الطويلة إلى سانت بطرسبرج ليلتقي بالقيصرة ويسعى إلى التحالف معها. وفي مايو 1781 أبرمت مع يوزف ميثاقاً للعمل الموحد في بولندة وضد تركيا.
وكان بوتمكين في غضون هذا يبني لنفسه الشهرة في الجنوب. ذلك أنه نظم وسلح وأطعم جيشاً جديداً عدته 300.000 مقاتل، وبنى أسطولاً للبحر الأسود، له موانئ في سباستبول وأودسا وترسانة في خرسون، واستعمر أقطار روسيا الجنوبية ذات المستوطنات الضئيلة، وأسس المدن والقرى، وأقام المصانع، وزود المستعمرين بالماشية والآلات والبزار-وكل هذا ليوفر قواعد للتموين في حملة حربية تضيف القرم إلى تاج كاترين، وربما ليظفر بتاج لنفسه. وتشاجر تتار القرم وانقسموا، فألان بوتمكين زعماءهم بالرشا؛ فلما غزا شبه الجزيرة في النهاية (ديسمبر 1782) لم يلق من المقاومة إلا أقلها؛ وفي 8 أبريل 1783، ورغم احتياجات تركيا عديمة الجدوى، ابتعلت مملكة الروس القرم. ورقى بوتمكين مشيراً، ورئيساً للكلية الحربية، وأميراً لطورس، وحاكماً عاماً للقرم. ونفحته الإمبراطورة فوق هذا كله بمكافأة من 100.000 روبل، أنفقها بوتمكين على الخليلات والشراب والطعام.
ورأتن كاترين هي أيضاً أن الوقت قد حان لشيء من الاسترخاء. فجمعت بين اللهو والعمل بترتيبها "رحلة ملكية" فخمة على اليابس والماء تفتش خلالها على فتوحها وتترك انطباعاً قوياً في نفوس هذه الأقاليم-وأوربا كلها-بثراء بلاطها وأبهته. وفي 2 يناير 1787، غادرت القصر الشتوي مدثرة بفرائها وشرعت في رحلتها الطويلة في "برلينيه" أي مركبة مقفلة في الكبر بحيث تحتوي-فضلاً عن شخصها الذي اتسعت أبعاده الآن-عشيقها مامونوف صاحب الخطوة آنئذ، وكبيرة وصيفاتها، وكلباً صغيراً، ومكتبة صغيرة. وتبعتها أربع عشرة عربة و170 مركبة جليد، تحمل سفراء النمسا، وبريطانيا، وفرنسا-كوبنتزل، وفتزهربرت، والكونت سيجور-مضافاً إليهم الأمير دلين وجيش من الموظفين والبطانة والموسيقيين والخدم. وكان بوتمكين قد سبقها بأيام ليعد لها الطريق، وليضيئه بمئات المشاعل، وليرتب كل ليلة وجباتها وأماكن لنوم الجميع. وكان الموكب إذا مر بمدينة كبرى استراح يوماً أو يومين ريثما تلتقي القيصرة بوجود المدينة، وتستعرض أحوالها، وتوجه أسئلتها، وتوزع اللوم أو المكافأة. وبدت كل مدينة على الطريق في أحسن مظهر عملاً بتحذيرات بوتمكين وتعليماته، فاغتسلت وتزينت كما لم تفعل قط من قبل، سعيدة ولو ليوم واحد في حياتها. وفي كييف أشرف بوتمكين على نقل البلاط المتنقل إلى سبع وثمانين سفينة كان قد أعدها وزينها. وعليها أبحر الركب الإمبراطوري هابطاً الدنيبر. وعلى طول النهر شاهدت كاترين "القرى البوتمكينية" التي هيأها أمير طورس الأريب وجلاها ليدخل السرور إلى قلبها، وربما ليترك في نفوس الدبلوماسيين انطباعاً قوياً عن ثراء روسيا. وبعض هذا الثراء ارتجله بوتمكين، وبعضه كان حقيقياً. "أما أنه شيد القرى الكاذبة على الضفتين، ودرب الفلاحين ليخلقوا وهماً بما هم عليه من تقدم، فذلك من شطحات خيال دبلوماسي سكسوني"(76). فقد قام الأمير دلين بعدة رحلات على الشاطئ ليستكشف ما وراء الواجهة، فقال أنه رغم بوتمكين لجأ إلى بعض الحيلة، فإنه (أي دلين) راعته "المنشآت الفخمة وهي بعد في مهدها، والمصانع النامية، والقرى ذات الشوارع المنتظمة التي تحفها الأشجار"(77). ولعل كاترين نفسها لم تنخدع، ولكنها ربما استنتجت كما استنتج سيجور، أنه حتى لو كان نصف ثراء تلك المدن ونظافتها مظهراً زائلاً، فإن حقيقة وجود سباستبول فعلاً-المدينة والقلاع والميناء، وكلها بنى على شواطئ القرم في عامين-هذه الحقيقة كفت لجعل بوتمكين جديراً بالثناء. وقد وصفه الأمير دلين الذي كان يعرف تقريباً كل إنسان ذي شأن في أوربا بأنه "أعجب رجل التقيت به في حياتي"(78).
وفي كانيوف جاء ستانسلاس بونياتوفسكي ملك بولندة، ليقدم فروض الولاء للمرأة التي منحته حبها وعرشه. وفي موقع أبعد على الدنيبر الأدنى، عند كايداكي، انضم يوزف الثاني إلى الموكب الذي اتخذ طريقه ثم برا إلى خرسون فالقرم. هنالك داعبت الإمبراطورة، والإمبراطور، والحاكم العام، أحلامهم بطرد الترك من أوربا، فحلمت كاترين بالاستيلاء على الآستانة، ويوزف بابتلاع البلقان، وبوتمكين بتولي عرش داشيا (رومانيا). ونصحت إنجلترة وبروسيا السلطان عبد الحميد بأن يوجه ضربته إلى الروس في غفلة منهم قبل أن يستكملوا استعداداتهم الحربية(79). وكان في وقاحة السفير الروسي في الآستانة ما هيأ لتركيا حافزاً إضافياً، فحبسه السلطان، وأعلن الجهاد، وطالب برد القرم ثمناً للصلح. وفي أغسطس 1787 عبر الجيش التركي الرئيسي الدانوب وزحف على أوكرانيا.
لقد تعجل بوتمكين في الإعلان عن فرحه؛ ذلك أن روسيا لم تكن مستعدة بعد للامتحان النهائي؛ لذلك نصح الإمبراطورة بالتخلي عن القرم. ولكنها وبخته على جبنه الذي لم تعهده فيه، ثم أمرته هو وسوفوروف وروميا نتسيف أن يعدوا كل القوات المتاحة لهم وينطلقوا للقاء الغزاة؛ أما هي فقد انسحبت إلى سانت بطرسبرج. ودحر سوفروف الترك في كلبورون، وحاصر بوتمكين أوشاكوف المشرفة على منافذ دنيبر وبوج. وبينما كان الجهاد والحرب الصليبية يواجه أحدهما الآخر في جنوبي روسيا، قررت السويد أن الفرصة واتتها أخيراً لاسترداد ما فقدت من أقاليم. فجدد جوستاف الثالث حلفاً قديماً مع الترك بعد أن شجعته إنجلترة وبروسيا(80)، وطالب كاترين برد فنلنده وكاريليا للسويد، ةالقرم لتركيا. وقد نفصل الحديث عن هذه الحرب في موضع لاحق، أما الآن فحسبنا أن نقول أن أسطولاً سويدياً أنزل بالروس في البلطيق هزيمة فاصلة في 9 يوليو 1799، وكان قصف المدفعية السويدية يسمع من القصر الشتوي؛ وفكرت كاترين في إخلاء عاصمتها. على أن مفوضيها ما لبثوا أن أقنعوا السويد بأن تبرم الصلح (15 أغسطس 1790).
وغدت كاترين الآن حرة في تركيز قوات ضد الترك، وانضمت النمسا إلى روسيا في الحرب. وأنهى بوتمكين حصار أوشاكوف بأن أمر رجاله بالهجوم مهما كان الثمن. وكلف النصر الروس ثمانية آلاف قتيل، وختمت المعركة الضارية بمذبحة أتت على الضحايا دون تمييز (17 ديسمبر 1788) وتقدم بوتمكين ليستولي على بندر، واستولى النمساويون على بلغراد، ودحر سوفروف الأتراك في رمنيك (22 سبتمبر 1789). وبدا أن تركيا مقضي عليها بالفناء. على أن الدول الغربية أحست أن الموقف يدعو إلى العمل الموحد ضد كاترين إن أريد ألا يقع البوسفور-ذلك المعقل الاستراتيجي-في يدها فتصبح روسيا السيد المتسلط على أوربا. وبعد موت فردريك الأكبر (1789) رأى خليفته فردريك وليم الثاني في فزع تحرك روسيا صوب الآستانة، وتحرك النمسا في البلقان؛ وبين روسيا والنمسا وهما بهذه القوة الجديدة ستبيت بروسيا تحت رحمتهما. وعليه ففي 31 يناير 1790 ربط حكومته مع الباب العالي في ميثاق ألزمه بأن يعلن الحرب على روسيا والنمسا جميعاً في الربيع، وبألا يضع السلاح إلا إذا ردت لتركيا كل إقليمها التي خسرتها. وبدا أن المد السياسي يتحول ضد كاترين. فقد أضعف قوة يوزف الثاني نشوب الثورة في الأراضي الواطئة النمساوية وانتشار الفوضى في المجر؛ ثم مات في 20 فبراير 1790، وأبرم خلفه هدنة مع الأتراك. وحثت إنجلترة وبروسيا كاترين مرة أخرى على عقد الصلح على أساس الاحتفاظ بكل الأراضي التي تم الاستيلاء عليها في الحرب؛ ولكنها أبت؛ ذلك أن استيلاءها على أوشاكوف كان قد فتح الطريق أمام روسيا إلى البحر الأسود، فهي لا تريد أن تتخلى عن هذا الكسب الحيوي. ثم إن قوادها كانوا يسيرون من نصر إلى نصر، وتوجوا انتصاراتهم باستيلاء سوفوروف وبوتمكين على مدينة اسماعيل (22 ديسمبر 1790)؛ وقد خسر الروس في سبيل الاستيلاء على هذا المعقل التركي الواقع على الدانوب عشرة آلاف مقاتل، وخسر الترك ثلاثين ألفاً. وبعد هذه الوليمة الدموية انتكس بوتمكين الذي أنهكته الحرب إلى ضرب من الكسل المترف والسفاح المخزمي مع بنات أخيه؛ وفي 15 أكتوبر 1791 مات على طريق قريب من ياسي. وأغمى على كاترين ثلاث مرات في اليوم الذي سمعت فيه بنبأ موته.
وفي مارس 1791 اقترح وليم بت الابن على البرلمان إرسال إنذار نهائي إلى روسيا يطالبها بأن ترد لتركيا كل الأقاليم التي استولت عليها في الحرب الراهنة، واقترح إرسال أسطول بريطاني إلى البلطيق نذيراً بالحرب. ولم تجب كاترين، أما البرلمان فقد ثنى بت عن إنفاذ مشروعه حين سمع التجار البريطانيون يتحسرون على ضياع تجارتهم مع روسيا. وأما تركيا فقد كفت عن الصراع بعد أن أنهكتها الحرب، فوقعت في جاسي (9 يناير 1792) معاهدة ثبتت سيطرة روسيا على القرم وحوضي دنيبر وبوج. وهكذا لم تصل كاترين إلى الآستانة، ولكنها بلغت ذروة حياتها كأقوى حاكم في أوربا، وألمع امرأة في قرنها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المرأة
أكانت امرأة، أم هولة؟ رأينا أنها في مستهل حكمها كانت فاتنة الجسد، وفي عام 1780 كانت قد سمنت، ولكن هذه السمنة لم تفعل بها شيئاً إلا إضافة الثقل إلى العظمة. وقد وصفها الأمير دلين (الذي كان من أوائل من لقبوها "الكبرى"(84) وصفاً مهذباً فقال:
"كانت في 1780 لا تزال حسنة الصورة، وفي استطاعة الناظر إليها أن يستنتج أنها كانت فيما مضى رائعة الجمال أكثر منها وسيمة. ولم يكن بالمرء حاجة إلى فراسة ليقرأ على جبينها، كما يقرأ في كتاب، العبقرية والعدالة والشجاعة ةالعمق ورباطة الجأش ولطف الطبع والهدوء والتصميم. وقد اكتسب صدرها الجميل على حساب خصرها الذي كان يوماً ما شديد النحول؛ ولكن الناس عادة يسمنون في روسيا... ولم يلحظ المرء قط أنها قصيرة القامة"(82).
وقد صورها كاستيرا في كتابته عنها عقب موتها بأنها كانت ترتدي ثوباً أخضر في احتشام. "كان شعرها المبدر ببودرة خفيفة، يطفو على كتفيها، وتعلوه قلنسوة صغيرة مرصعة بالماس. وفي سنيها الأخيرة ألفت أن تستعمل قدراً كبيراً من الروج، لأنها كانت لا تزال تطمع في ألا تسمح لآثار الزمن أن تبدو على وجهها، ومن المحتمل أن هذا الطموح وحده هو الذي دعاها للعيش بمنتهى الاعتدال"(83). كانت مغرورة، واعية في غير مواربة بثقافتها وسلطتها. قال يوزوف الثاني لكاونتز "إن الغرور معبودها، وقد أفسدها الحظ وثقافتها المسرفة"(84). وفي رأي فردريك الأكبر أن كاترين لو كانت تراسل الله لا دعت لنفسها مرتبة مساوية له على الأقل(85). ومع ذلك كانت تتحدث إلى ديدرو كما يتحدث "رجل إلى رجل"، ورجت فالكونيه أن يسقط من حديثه لها عبارات المجاملة. وكانت "باستثناء بعض جرائم القتل المحتملة ومذابح الحرب المبررة) لا تقل لطفاً وأنساً عن تشارلز الثاني ملك إنجلترة أو هنري الرابع ملك فرنسا. وفي كل يوم كانت تلقى من نوافذها الخبر لآلاف الطيور التي تجيئها بانتظام لتطعم(86). وفي سنوات ملكها الأخيرة كانت تطلق العنان بين الحين والحين لنوبات غضب لا تليق بصاحبة السلطان المطلق، ولكنها حرصت على ألا تصدر أمراً أو توقع ورقة وهي في هذه النوبات البركانية، وسرعان ما أخذت تشعر بالخجل من هذه التفجرات، وأخذت نفسها بالتحكم في أعصابها. أما عن شجاعتها فقد نبذت أوربا كل شك فيها.
كانت شهوانية بلا مراء ولا مبالاة، ولكن غرامياتها لا تؤذينا بشيء بقدر ما تؤذينا "حديقة ظباء" لويس الخامس عشر. وقد درجت على ما درج عليه كل حكام زمانها فأخضعت الأخلاق للسياسة، وأخمدت المشاعر الشخصية إذا عرقلت توسيع رقعة دولتها. وحيث انعدم مثل هذا الصراع كان لها كل حنان المرأة ورقتها، تحب الأطفال، وتلاعبهم وتمرح معهم، وتعلمهم، وتصنع لهم اللعب. وكانت في رحلاتها تحرص دائماً على أن يطعم السائقون والخدم كما ينبغي أن يطعموا(87). وبين الأوراق التي وجدت على منضدتها بعد موتها قبرية كتبتها لنفسها، "كانت تغفر في يسر، ولا تبغض أحداً، وإذا كانت متسامحة، متفهمة، ذات طبع مرح، فقد أوتيت روحاً جمهورية وقلباً عطوفاً"(88).
ولم تكن عطوفاً على ولدها البكر، من جهة لأن بولس أخذ منها بعد ولادته بقليل، وقام على تربيته بانن وغيره تحت إشراف اليزابت؛ ومن جهة لأن المؤامرات التي دبرت لخلعها كانت أحياناً تنوي جعله إمبراطوراً تحت الوصاية؛ ومن جهة لأن بولس طالما خامره الظن بأن أمه قاتلة بطرس؛ كذلك لأن بولس "كان يطيل التفكير دائماً في سرقة حقوقه في خلافة أبيه الافتراضية على العرش". ولكن كاترين تعلقت بابني بولس الساحرين ألكسندر وقسطنطين، وأشرفت بشخصها على تعليمها، وحاولت إبعادهما عن تأثير أبيهما، وبيتت أن يرث تاجها ألكسندر لا بولس(89). أما بولس الذي سعد بزواجه الثاني فكان ينظر في اشمئزاز واضح إلى سلسلة العشاق الذين أمتعوا أمه واستنزفوا موارد الدولة.
أما من الناحية العقلية فقد بزت كاترين على عشاقها. كانت ترضى جشعهم، ولكن ندر أن سمحت لهم بتقرير سياستها. وقد أحسنت استيعاب الأدب الفرنسي إلى حد أتاح لها مراسلة أقطابه كما يراسل الواحد من جماعة الفلاسفة صاحبه؛ لا بل إن خطاباتها لفولتير كانت تنافس خطاباته لها فطنة وتمييزاً، وتضارعها رشاقة وخفة دم. وكانت رسائلها كثيرة العدد كترة رسائل فولتير مع أنها كتبتها خلال فواصل دسائس القصر، والثورات الداخلية، والدبلوماسية الحرجة، والحروب التي غيرت خرائط الدول. وكان حديثها يجعل ديدرو دائم التنبه والاستعداد، ويحرك مشاعر جريم إلى حد الانتشاء. "كان على المرء في تلك اللحظات أن يرى هذا الرأس الفذ الذي هو مزاج من العبقرية والحسن حتى يكون فكرة عن النار التي تحركها، والسهام التي تطلقها، والهجمات التي تلاحق... الهجمة منها الهجمة... ولو كان في طاقتي أن أدون هذه الأحاديث كلمة كلمة لأتيح للدنيا كلها قطعة نفيسة وربما فريدة في تاريخ العقل البشري(90). على أنه كان يشوب هذا السيل الدافق من أفكارها اضطراب وعدم استقرارا سريعان؛ فكانت تندفع بأسرع مما ينبغي في مشاريع لم تمعن التفكير فيها، وكانت أحياناً يهزمها إلحاح الأحداث وكثرة الواجبات. ولكن النتيجة حتى مع هذا كانت هائلة".
ويبدو أمراً لا يصدق أن تجد كاترين في حياة اضطربت بمثل هذه الأحداث المثيرة سياسية كانت أم حربية وقتاً تكتب فيه قصائد الشعر، والأخبار التاريخية، والمذكرات، والتمثيليات، ونصوص الأوبرات، ومقالات المجلات، وحكايات الجن، ورسالة علمية عن سيبيريا، وتاريخاً للأباطرة الرومان، ومذكرات مستفيضة عن "تاريخ روسيا" وفي 1769-1770 رأست تحرير مجلة هجائية دون أن تعلن عن اسمها، وكانت هي أهم محرريها. ومن صورها الأدبية صورة وصفت منافقاً في الدين يحضر القداس يومياً، ويشعل الشموع أمام الصور المقدسة، ويتمتم بالصلوات في فترات متقطعة، ولكنه يغش التجار، ويفتري على الجيران، ويضرب الخدم، ويندد بالرذيلة الفاشية ويتحسر على الأيام الخالية الطيبة(91). أما حكاية الجن التي كتبتها كاترين، واسمها "الأمير خلور" فتحكي عن شاب خاض مغامرات خطرة بحثاً عن وردة خرافية بلا شوك، ليكشف في النهاية أنه ليس هناك وردة كهذه إلا الفضيلة؛ وقد أصبحت هذه القصة من عيون القصص في الأدب الروسي، وترجمت إلى لغات كثيرة؛ وكانت اثنتان من مسرحياتها مآسي تاريخية تقلد شكسبير؛ ومعظمها فكاهيات بسيطة تسخر من المشعوذين والمغفلين والبخلاء والمتصوفين والمسرفين، وتهزأ بكاليسترو، والماسون، والمتعصبين الدينيين. هذه التمثيليات كان يعوزها الدقة والصقل، ولكنها أبهجت الجماهير مع أن كاترين أخفت أنها مؤلفتها، وقد وضعت هذه العبارة على ستار المسرح الذي شيدته في الهرمتاج "إنه يهذب العادات بالضحك"؛ وكان هذا خير تعبير عن هدف كوميدياتها. أما أفضل مسرحياتها، واسمها "أوليج" فكانت تتابعاً رائعاً لمشاهد من تاريخ روسيا، أشاع فيها الحيوية سبعمائة مؤد في الرقصات والباليهات والألعاب الأولمبية. وكانت جل إنتاج كاترين الأدبي يراجعه السكرتيرون، لأنها لم تتمكن قط من الهجاء أو النحو الروسي، ثم أنها لم تأخذ هوايتها للتأليف مأخذ الجد الشديد؛ ولكن الأدب استمد الشجاعة من قدوتها الإمبراطورية وأضفى على ملكها عظمة نهائية ومجداً تشوبه الشوائب.
الأدب
أخذت روسيا تشعر بعدم نضجها الفكري، فراح جيش من المؤلفين يقلدون في تواضع النماذج الأجنبية، أو يترجمون آثاراً حظبت بالشهرة في فرنسا أو إنجلترة أو ألمانيا. وجادت كاترين بخمسة آلاف روبل من جيبها الخاص لتشجيع هذا السيل الدخيل، وترجمت هي نفسها قصة "بليزير" لمارمونتيل. فلما تحمس الروس للمشروعات العريضة ترجم رحمانينوف، أحد ملاك الأراضي في تامبوف، أعمال فولتير؛ وترجم فيريفكين، رئيس كلية قازان، إلى الروسية "موسوعة" ديدرو. وترجم غير هؤلاء شكسبير والكلاسيكيات اليونانية واللاتينية، "وأورشليم المحررة" لتاسو...
أما أنجح شعراء العهد فهو جافريل رومانوفتش درزافين. ولد الأسرة رقيقة الحال في أورنبرج الشرقية، وكان الدم التتاري يجري في عروقه، فخدم في فوج بريوبرازنسكي عشرة أعوام، ورأى كاترين ترقى إلى ذري السلطة، وشارك في إخماد فتنة بوجاشيف ضابطاً في الجيش، وشق طريقه صعداً إلى عضوية مجلس الشيوخ، وحين لاحظ درازفين أن الإمبراطورة أطلقت اسم "فليتسا" على أميرة خيرة في قصة "الأمير خلور"، أطلق هذا الاسم في قصيدة عاطفية شهيرة (1782) على "الملكة الشبيهة بالآلهة لقبيلة قرغيز-قازاق" وتوسل إلى هذه السلطانة قائلاً "علميني كيف أجد الوردة التي لا شوك لها... وكيف أعيش حياة تجمع بين اللذة والاستقامة"(92). وحين ناجى الشاعر فليتسا بأن "من قلمها تفيض السعادة على كل البشر الفانين" كان يمتدح كاترين على نحو واضح. وحين لام نفسه "على النوم حتى الظهر، وتدخين التبغ، وشرب القهوة... وجعل الدنيا ترتعد لنظراتي... والانغماس في ولائم فاخرة على مائدة تتألق بالفضة والذهب"، عرف البلاط كله أن هذه غمزة أراد بها بوتمكين. وقد ارتفع درازفين إلى قمة النشوة في مديح "الإمبراطورة" فليتسا، التي "تخلق النور من الظلمات، ولا تؤذي أحداً، وتقضي عن الهنات، وتدع الناس يتكلمون كما يشاءون، وتكتب القصص الخرافية لتعلم شعبها، وتعلم خور الأبجدية" (أي حفيدها ألكسندر). ويختتم الشاعر بقوله: "أتوسل إلى النبي العظيم أن يسمح لي بلمس تراب قدميك، وأن أستمتع بذلك الجدول العذب جدول ألفاظك ولحظك. أني أتضرع إلى قوى السماء أن تنشر أجنحتها الزرقاء وتحرسك في الخفاء... وأن يسطع صيت أعمالك في الأجيال القادمة سطوع النجم في السماء"(93). وأكد درازفين أنه لا يطمع في جزاء على كل هذا المديح العطر، ولكن كاترين رقته، وما لبث أن قرب منها قرباً بصره بعيوبها؛ فكف عن كتابة المدائح. واتجه إلى عرش أسمى ونظم "قصيدة غنائية للإله"، مهنئاً إياه تعالى على كونه "ثلاثة-في-واحد" وعلى حفظه السماوات في مثل هذا النظام الجميل. وكان أحياناً يهبط إلى الميتافزيقا، ويردد برهان ديكارت على وجود الله فيقول: "أنا بالطبع موجود، وإذن فأنت موجود"(94). وقد ظلت هذه القصيدة الغنائية نصف قرن لا ينافسها شعر في شعبيتها حتى جاء بوشكن.
وقد فاجأ دنيس إيفانوفتش فون فيزين العاصمة بكوميديتين رشيقتين هما "اللواء" و "القاصر". ونجحت الثانية نجاحاً كاملاً حتى أن بوتمكين نصح المؤلف قائلاً "مت الآن، أو لا تكتب شيئاً بعد اليوم" بمعنى أن أي شيء يكتبه بعد هذا سيضعف من شهرته(59). وقد فض فيزين النصيحة ورأى تحقيق النبوءة التي احتوتها. وفي سنته الأخيرة جاب غربي أوربا وأرسل إلى وطنه بعض رسائل ممتازة احتوت إحداها نبوءة فيها رنين الافتخار "نحن (الروس) بادئون، أما هم (يقصد الفرنسيين) فمنتهون"(96).
وأطرف شخصية في أدب عصر كاترين هو نيكولاي إيفانوفتش نوفيكوف. فقد تطور هذا الفتى بعد أن طرد من جامعة موسكو لكسله وتخلفه ليصبح رجلاً ذا نشاط ذهني لايني. ففي الخامسة والعشرين (1769)، في سانت بطرسبرج، رأس تحرير مجلة "الدبور" التي أطلق عليها هذا الاسم بخبث شيطاني ليعارض دورية سوماروكوف "النحلة النشيطة". وقد هاجم نوفيكوف بأسلوبه المرح الفساد الذي استشرى في الحكومة، وهاجم الإلحاد الفولتيري السائد في الطبقات العليا لأنه مدمر للأخلاق الشخصية؛ وامتدح بالمقارنة ما افترض وجوده من إيمان الروس المسلم وأخلاقهم المثالية قبل بطرس الأكبر. "وكان قدامى الحكام الروس قد توقعوا أن إدخال الفنون والعلوم سيقضي قضاءً مبرماً على أثمن كنز يملكه الروس-وهو أخلاقهم"(97). هنا أيضاً كان روسو يخوض حرباً مع فولتير. وحدجت كاترين "الدبور" بنظرات متجهمة، فحتجبت في 1770. وفي 1775 انضم نوفيكوف إلى الماسون الأحرار، الذين كانوا ينزعون في روسيا إلى الغيبية، والتقوية، والأوهام "الروزكروشية" بينما اخوانهم في فرنسا يداعبون الثورة. وفي 1779 انتقل إلى موسكو، واضطلع بأعمال مطبعة الجامعة، ونشر في ثلاث سنوات من الكتب عدداً يفوق ما أخرجته تلك المطبعة في أربع وعشرين سنة. وحصل بمعونة مالية من صديق له على مزيد من المطابع، وكون داراً للنشر، وفتح مكتبات لبيع الكتب في جميع أرجاء روسيا، وأذاع نشر إنجيله في الدين والإصلاح. وأسس المدارس، والمستشفيات، والمستوصفات والبيوت النموذجية للعمال.
فلما أحالت الثورة الفرنسية كاترين من حاكمة مستبدة مستنيرة إلى حاكمة مستبدة مذعورة، خشيت أن يكون نوفيكوف بسبيل قلب النظام القائم. فأمرت بلاتون، مطران موسكو، أن يفحص أفكار نوفيكوف. وكتب الحبر يقول: "أضرع إلى الله الواسع الرحمة أن يكون هناك مسيحيون مثل نوفيكوف، لا في القطيع الذي وكله الله وأنت إلى فحسب، بل في العالم بأسره"(98). ولكن الإمبراطورة التي ظلت على ربيبتها رغم ذلك أمرت بسجن نوفيكوف في قلعة شلوسلبورج (1792). هناك ظل حبيساً حتى ماتت كاترين. فلما أفرج عنه بولس الأول اعتكف في ضيعته بتخفين، وأنفق سنيه الأخيرة في التقوى وأعمال البر.
أما ألكسندر نيكولايفتش رد شتشيف فقد لقي حظاً أشد عثاراً. أوفدته كاترين إلى جامعة ليبزج، فتعرف إلى بعض أعمال جماعة الفلاسفة، وأثر فيهبنوع خاص كتاب روسو "العقدالاجتماعي" كما أثر فيه فضح رينال لوحشية الأوربيين في استغلال المستعمرات وتجارة الرقيق. وعاد إلى سانت بطرسبرج وهو يضطرم بالمثل الاجتماعية، فلما وكلت إليه إدارة الجمرك تعلم الإنجليزية ليتعامل مع التجار البريطانيين، ودرس الأدب الإنجليزي، وأثر فيه خاصة كتاب ستيرن "رحلة عاطفية". وفي 1790 نشر كتاباً من عيون الأدب الروسي اسمه "رحلة من سانت بطرسبرج إلى موسكو". وقد أقر الكتاب بالإيمان القويم، ولكنه ندد بخدع القساوسة التي يحتالون بها على سذاجة الشعب؛ وقبل النظام الملكي، ولكنه برر الثورة على الحاكم الذي ينتهك "العقد الاجتماعي" بتجاهله للقانون. ووصف تمزيق نظام التجنيد الإجباري لأوصال السر، وبغي السادة على أقنانهم. وقال راد شتشيف أنه أخبر في أحد الأماكن بنبأ مالك هتك عرض ستين فلاحة عذراء. ثم شهر بالرقابة ودافع عن حرية الصحافة. ولم يكن داعية للثورة، ولكنه طلب التفهم الرحيم لمن يدعون إليها. وناشد النبلاء والحكومة إنهاء القنية. "فلترق قلوبكم أيها القساة؛ حطموا أغلال أخوتكم، وافتحوا سجون الرق. إن للفلاح الذي يهبنا العافية والحياة الحق في التصرف في الأرض التي يفلحها"(99).
ومن عجب أن الرقيب أجاز الكتاب. ولكن كاترين خافت في 1790 أن يحذو شعبها حذو الثورة الفرنسية. فدونت ملاحظة بضرورة عقاب مغتصب العذارى الستين، ولكنها أمرت بمحاكمة راد شتشيف بتهمة الخيانة. ووجدت في كتابه فقرات عن اقتحام الحصون وثورة الجنود على قيصر قاس، ومدائح للإنجليز لمقاومتهم ملكاً ظالماً. فحكم مجلس الشيوخ على المؤلف بالإعدام؛ وخففت كاترين الحكم إلى النفي عشر سنين في سيبيريا. وسمح الإمبراطور بولس الأول لراد شتشيف بالعودة من المنفى (1796)، ثم دعاه ألكسندر الأول إلى سانت بطرسبرج (1801). وهناك انتحر بعد سنة، لأنه ظن دون مبرر أنه سينفي ثانية. ومصيره ومصير نوفيكوف من الوصمات الكثيرة التي تلطخ عهداً رائعاً.
الفن
صنعت كاترين للفن أكثر قليلاً مما صنعته للأدب، لأن الفن لا يستهوي غير الطبقات العليا، ولا يقرع ناقوس الثورة. ولكن الموسيقى الشعبية كانت ثورية دون قصد منها، لأن كلها تقريباً تألف من أغان حزينة في مقام صغير وبمصاحبة شاكية باكية، لا تحكي قصة القلوب التي انفطرت حباً فحسب، بل الأنفس التي براها الكد والكدح. وندر أن سمع النبلاء تلك الأغاني، ولكنهم استمتعوا بالأوبرات الإيطالية التي جلبها إلى سانت بطرسبرج جالوبي، وبايزيللو، وسالبيري وتشيماروزا، الذين كانت الدولة تدفع أجورهم كلهم، أما كاترين نفسها فلم تكون شديدة الحب للأوبرا. قال "لا أستطيع في الموسيقى أن أميز نغمات غير نغمات كلابي التسعة، التي يشترك كل منها بدوره في شرف الوجود في حجرتي، والتي أستطيع التعرف على صوت كل كلب منها عن بعد"(100).
ثم اعترفت أيضاً أنها لا تملك القدرة على فهم الفن. وقد بذلت وسعها لتربي هذا الفهم في روسيا. فوفرت المال الذي مكن بتسكي من أن يدير بالفعل (1764) عجلة أكاديمية الفنون التي أنشئت أيام اليزابث (1757). واشترت روائع الفن المعترف بقيمتها في الخارج وعرضتها في قاعات تحفها، فدفعت 180.000 روبل ثمناً لمجموعة الكونت فون برول في درسدن، و40.000 جنيه ثمناً لمجموعة السير روبرت ولبول في هوتن هول، و440.000 فرنك لمجموعة شوازيل، و460.000 لمجموعة كروزا. وقد عقدت بهذا كله صفقات رابحة دون أن تدري، لأن هذه المجموعات التي التقطتها من هنا وهناك ضمت ألفاً ومائة لوحة من أعمال رفائيل، وبوسان، وفانديك، ورمبرانت، وغيرها من التحف الخالدة التي زادت قيمتها مع الزمن وهبوط العملة. واستطاعت من طريق جريم وديدرو (اللذين كانت تتابع نشاط صالونيهما باهتمام) أن تكلف برسم اللوحات فنانين فرنسيين-أمثال فرنيه، وشاردان، وهودون-ونسخت لها كطلبها بالحجم الطبيعي لوحات جصية من أعمال رفائيل في الفاتيكان وبنيت قاعة خاصة بها في الأرميتاج. ولم تكلف الفنانين الوطنيين إلا بالقليل، لأن ذوقها الفرنسي لم يجد في فن جيلها الروسي غير القليل مما له قيمة باقية.. على أنها قدمت المال لتعليم وإعالة الطلاب في أكاديمية الفنون وأوفدت عدداً منهم للدراسة في غربي أوربا. وفي تلك الأكاديمية تخرج رسام أحداث التاريخ أنطون لوزنكو، ورساما الأشخاص ديمتري ليفتسكي وفلاديمير بوروفيكوفسكي. أما لوزنكوا فقد قضى خمس سنين في باريس وثلاثاً في روما ثم عاد إلى سانت بطرسبرج (1769) ليعلم في الأكاديمية. وقد أثار ضجة بلوحته المساة "فلاديمير أمام روجنيدا"، ولكنه-ربما لفداحة واجباته الأكاديمية-أخفق في أن ينتج الروائع المنتظرة منه، ثم اختطفه الموت وهو في السادسة والثلاثين (1773). وأما ليفتسكي فقد استخدمته كاترين ليرسم بعض الشابات اللاتي كن يدرسن بمعهد سمولني؛ والنتيجة شاهد بجمالهن الرائع. وقد سترت اللوحة التي صور فيها كاترين بدانتها تحت أردية فضفاضة. كذلك جلست لتصورها مدام فيجه لبرون، وكانت من بين الفنانات الفرنسيات الكثيرات اللاتي دعتهن كاترين لإضفاء الرشاقة الفرنسية على الفن الروسي. وأعظم فنانيها الذين استتقدمتهم كان فالكونيه. قدم في 1766، وأقام في روسيا اثنتي عشرة سنة. وقد طلبت إليه كاترين أن يصمم ويصب بالبرونز تمثالاً لبطرس الأكبر ممتطياً جواده. وكان قد جلب معه شابة تدعى ماري-آن-كوللو، كانت النموذج لرأي التمثال الضخم. وتحدى فالكوفيه قوانين الفيزياء بتمثيله الحصان يقفز في الهواء، وقائمتاه الخلفيتان فقط تلمسان أرضاً صلبة، وهي صخرة ضخمة جلبت من كاريليا لترمز إلى المقاومة الهائلة التي تغلب عليها بطرس؛ وتحقيقاً للتوازن أظهر فالكونيه حية نحاسية-رمزاً للحسد-تلدغ ذيل الحصان. وقد احتفظت هذه الرائعة الفنية بتوازنها بينما تغيرت سانت بطرسبرج إلى بتر وجراد ثم إلى لننجراد. واستغرق فالكونيه في هذا العمل وقتاً أطول مما توقعته كاترين؛ ففقد اهتمامها به، وأهملت المثال، فعاد إلى باريس وقد خاب أملها فيه، وفي روسيا، وفي الحياة.
وفي 1758 وفد نيكولا-فرانسوا جييه من فرنسا ليعلم النحت في الأكاديمية. وقد نبغ ثلاثة من تلاميذه في عهد كاترين: تشوين وكوزلوفسكي وشخيدرين. أما تشوين فقط كلفه بوتمكين بنحت تمثال "كاترين الثانية" لقاعة نصر نارويدا المقببة (الروتندا)؛ وقد وصف الخبراء التمثال بأنه "عديم الحياة بارد(101)"، وكذلك يبدو التمثال الذي نحته تشوين لبوتمكين. أما كوزلوفسكي فقد انتهى إلى مثل هذا الجمود في المقبرة التي نحتها للمرشال سوفوروف، وحتى في تمثاله لإله الحب كيوبيد. أما شيخدرين فجل أعماله أنتجها في عهد ألكسندر الأول: فإلى عام 1812 ينتمي تمثاله المسمى "الكرتيدات يسندن الكرة السماوية"-وترى فيه امرأة تحمل الدنيا-وقد تخصص إيفان بتروفتش مارتوس في التماثيل الجنائزية، وحفلت الجبانات في بطرسبرج بتماثيله "الباكية"؛ وقد قيل عنه أنه "أبكى الرخام" وقد تخلف النحت الوطني إلا في تقليده للطرز الأجنبية. وكانت الكنائس الأرثوذكسية تحرم التماثيل وقنع النبلاء بالفنانين الذين يعثرون عليهم بين أقنانهم. ولكن المعمار ازدهر في عهد كاترين، لأنها صممت على أن تترك بصمتها على عاصمتها. قالت "إن المباني العظيمة تعلن عظمة الحكم ببلاغة لا تقل عن بلاغة الأعمال العظيمة"(102). وكتبت في 1779 تقول "أنت تعلم أن هوس البناء أقوى اليوم عندنا مما كان في أي وقت مضى، ولم يهدم زلزال قط عمائر قدر العمائر التي شيدناها... وهذا الهوس شيء لعين، فهو ينضب المال، وكلما بنينا ازددنا رغبة في البناء، إنه مرض كالسكر بالخمر"(103). ومع أنها قالت لفالكونيه "إني لا أعرف حتى كيف أرسم" فقد كان لها رأيها الخاص في الفن، أو قل رأى تأثير بالحفائر الرومانية في هركولانيوم وكتب كايلوس وفنكلمان. فولت ظهرها للباروك المزوق والروكوك الزاهي، وهما طرازان سادا في عهد اليزابث، وفضلت عليهما الطراز الكلاسيكي الجديد الأكثر بساط ونقاء. وقد عزا إليها بعض معاصريها فضل إصدار التعليمات الواضحة المحددة والرسوم التخطيطية التمهيدية لمعمارييها(104).
فلما افتقدت الفنانين الوطنيين الذين يحققون لها أفكارها، ولت وجهها شطر غربي أوربا التماساً لرجال ورثوا التقاليد الكلاسيكية. وهكذا قدم جان باتست فالان دلا موت، الذي شيد لها على نهر نيفا قصر أكاديمية الفنون (1765-72) وله واجهة بطراز النهضة منآجر مكسو ورواق معمد كلاسيكي، وداخله سلم نصف مستدير فخم يفضي إلى قاعة مستديرة تعلوها قبة. وبنى فلان ملحقاً للقصر الشتوي هي الأرميتاج الشهير، الذي كانت كاترين تراه ملاذاً تحتمي به من مراسيم البلاط، ولكنه أصبح قاعة تحفها، وهو اليوم من أهم متاحف العالم. وقالت كاترين في وصفه لجريم عام 1790 "أنه خلوتي الصغيرة، في موقع مناسب بحيث لا يكلفني الذهاب إليه أو الإياب منه إلى حجرتي أكثر من ثلاثة آلاف خطوة.. هناك أجول بين طائفة من الأشياء التي أحبها وأزهو بها، وتلك الجولات الشتوية التي تحفظ على عافيتي"(105). ومن فرنسا أيضاً قدم الاسكتلندي تشارلز كاميرون، الذي درس الزخرفة الكلاسيكية في وطنه. وقد ابتهجت كاترين بالإشراق والرقة اللذين كان يزين بهما-بالفضة واللاكيه والزجاج واليشب والعقيق والرخام المتعدد الألوان-الجناح الخاص الذي احتفظت به لنفسها ولعشاقها وكلابها في "القصر العظيم" بتسارسكو سيلو. كتبت تقول "لم أر قط ضريباً لهذه الحجرات حديثة الزخرف؛ ولم أمل قط طوال الأسابيع التسعة الأخيرة من تأملها"(106). وحول هذا القصر خططت لها حديقة بالطراز "الطبيعي" و "الإنجليزي"، وصفتها في خطاب إلى فولتير فقالت: "إنني الآن أهيم حباً بالحدائق الإنجليزية الطراز، بخطوطها القصيرة، والمنحنية، ومنحدراتها المدرجة في رفق، وبركها وبحيراتها... إنني شديدة النفور من الخطوط المستقيمة؛ وباختصار أقول أن الهوس الإنجليزي (الانجلومانيا) يسيطر على هوسي بالنبات"(107). وقد بنى كاميرون لولدها بولس وزوجته الثانية الفاتنة في بافلوفسك (وهي ضاحية أخرى من ضواحي العاصمة) قصراً بطراز الفيلات الإيطالية؛ هنا حفظ الغراندوق وماريا فيود وروفنا التحف التي جمعاها في رحلاتهما في غرب أوربا.
ومن إيطاليا أقبل أنطونيو رينالدي، الذي بنى قصرين باذخين أهدتهما كاترين لجريجوري أورلوف، قصر الرخام على نهر نيفا، وقصر جاتشينا قرب تسارسكوسيلو، الذي أصبح المسكن المفضل عند بولس الأول. ومن جاء جاكومو كورانجين الذي استهوته المعابد اليونانية في باسيتوم وروائع باللاديو في قتشنتشا. وفي 1780 عرض على كاترين عن طريق جريم تصميمات ونماذج لأبنية شتى كان يؤمل تشييدها. وافتتنت بها كاترين ومنذ ذلك التاريخ حتى 1815 شيد كورانجي في سانت بطرسبرج أو على مقربة منها العدد الوفير من المباني بالطراز الكلاسيكي، مسرح الأرميتاج، ومعهد سمولني (الذي ألحقه بدير سمولني في راستريللي)، ومصرف الإمبراطورية، ومصلى الطريق المالطية، والقصرالإنجليزي في بيتر هوف، وقصر ألكسندر في تسارسكو سيلو. وقد صمم هذا القصر لحفيد كاترين الذي أصبح فيما بعد ألكسندر الأول، والذي انتقل إليه في 1793، بعد الفراغ من تشييده بعامين. "إنه من روائع معمار القرن الثامن عشر"(108) .
ولكن ألم يكن هناك معماريون روس ينفقون روبلات كاترين؟ بلى. فقد حداها الأمل في ترك أثر يخلد ذكرها في موسكو إلى أن تكلف فاسيلي بازينيف بتصميم "كرملن" من الحجر ليحل محل كرملن إيفان الأكبر المبني بالآجر. وصمم بازينيف قصراً هائلاً لو قام لتضاءل بالقياس إليه قصر فرساي؛ والذين رأوا نموذجه الخشبي-الذي تكلف ستين ألف روبل-تعجبوا من براعته. غير أن الأساسات التي أرسيت ليقوم عليها هبطت بهبوط التربة بفعل نهر موسكو، فنكصت كاترين عن المغامرة على أنها دبرت المال الذي أتاح لإيفان ستاروف أن يبني على ضفة نيفا اليسرى قصر تارويدا، وأهدت هذا القصر المنيف إلى بوتمكين تخليداً لفتحه القرم. وأياً كانت تكلفة نفقات المباني التي شيدتها كاترين فإنها حققت هدفها. كتب ماسون المعاصر لها يقول: "إن الرجل الفرنسي بعد دورانه على شواطئ بروسيا الماحلة وشقه سهول ليفونيا المقفرة التي لم تزرع، تأخذه الدهشة والطرب إذ يعثر مرة أخرى وسط بيداء مترامية على مدينة كبيرة فخمة، تزخر بمجتمع راق وبأسباب الترويح وبالفنون وألوان الترف التي خالها لا توجد إلا في باريس"(109). أما الأمير دلين فبعد أن شهد أوربا كلها تقريباً خلص إلى أنه "رغم ما في كاترين من عيوب، فإن الصروح التي شيدتها، العامة منها والخاصة، تجعل سانت بطرسبرج أبدع مدينة في العالم"(110) ولا عجب، فقد حول لحم عشرة ملايين من الفلاحين ودمهم إلى طوب وحجر.
خاتمة المطاف
لو أن كاترين سئلت لبينت-كما هو دأب الحكام طوال العصور والأزمان-أنه ما دام الموت حقاً على البشر على أية حال، فلم لا يسخر الحكام عبقرية الرجال لتوجيه هؤلاء الأحياء المطاردين والبشر المقضي عليهم لا محال بالموت، لجعل الدولة قوية، وجعل مدنها عظيمة؟ لقد عودتها سنوات السلطان، وتحديات الثورة والحرب، وتقلبات النصر والهزيمة، أن تطيق آلام الغير دون أن تجفل، وأن تغضي عن استقلال الأقوياء للضعفاء باعتباره شراً لا قبل لها بعلاجه.
وقد أرهبتها الثورة الفرنسية بعد ما أزعجها العديد من المؤامرات لخلعها وأخافتها فتنة بوجاشيف. وقد أطاقتها راضية حين توقعت ألا تكون أكثر من إطاحة بأرستقراطية عاطلة وحكومة عاجزة؛ ولكن حين أكره حشد من رعاع باريس لويس السادس عشر وماري انطوانيت على ترك فرساي وسكنى التويلري وسط جماهير أفل زمامها-وحين أعلنت الجمعية التأسيسية أنها صاحبة السلطة العليا، وحين ارتضى لويس أن يكون الأداة المنفذة لأوامرها لا غير-عندها ارتعدت كاترين فرقاً من التشجيع الذي أعطى بالمثل للذين سعوا إلى أن يفعلوا نظير هذا في روسيا. فسمحت للأكليروس بأن يحظروا نشر أعمال فولتير التي كانت يوماً ما موضع حبها(111). ثم حرمت هي ذاتها بعد قليل جميع المطبوعات الفرنسية؛ ونقلت تماثيل فولتير النصفية من قاعاتها إلى حجرة لسقط المتاع (1792)(112) ثم نفت المثالي راد يشتشيف (1790)، وسجنت نوفيكوف المشرب بروح خدمة المجتمع (1792)، وفرضت رقابة تفتيشية على الأدب والمسرحيات. فلما قطع رأساً لويس السادس عشر وماري أنطوانيت بالجيلوتين (1793) قطعت صلاتها مع الحكومة الفرنسية، وحضت الملكيات الأوربية على تأليف تحالف ضد فرنسا. ولك تنضم هي ذاتها لذلك التحالف، بل استعملته لتشغل به الدول الغربية ريثما تتم ابتلاعها لبولندة. وقد قالت لأحد دبلوماسييها "إن كثيراً من مشروعاتي لم يستكمل بعد، ويجب شغل بلاطي برلين وفيينا حتى يتركانا طلقاء بغير قيود"(113). على أن آثاراً ضئيلة تخلفت من تحررها القديم وبقيت حتى 1793. ففي ذلك العام أبلغها أحد الحاشية أن فردريك-سيزار دلاهارب، الذي كان المعلم الخاص لحفيديها، جمهوري عنيد. فأرسلت في طلبه وأنبأنه بالخبر، فأجاب "إن جلالتك كنت على علم قبل أن تكلي إلى تعليم الغراندوقين أنني سويسري، وإذن فجمهوري" ثم رجاها أن تمتحن تلميذيه، وأن تحكم على عمله من سلوكهما. ولكنها كانت تعلم كم أحسن تعليمهما، فقالت له "سيدي، لتكن يعقوبياً أو جمهورياً أو ما شئت، إنني مؤمنة بأنك رجل أمين، وهذا يكفيني. فابق مع حفيدي واحتفظ بكامل ثقتي، وعلمهما بما عهدته فيك من غيرة"(114).
وفي وسط هذا الضجيج اتخذت آخر عشاقها (1789) وهو بلاتون زوبوف. وكان في الخامسة والعشرين، وهي في الحادية والستينز وكتبت لعشيقها "الشرفي" بوتمكين تقول: "عدت إلى الحياة كأنني ذبابة خدرها البرد"(115). واقترح "تلميذها" الجديد هجوماً مثلث الشعب على تركيا: جيش روسي بقيادة أخيه فاليران ذي الأربعة والعشرين ربيعاً يعبر القوقاز إلى فارس ويقطع كل تجارة اليابس بين تركيا والشرق؛ وجيش ثان بقيادة سوفوروف يتغلغل في البلقان ليحاصر الآستانة؛ ثم أسطول البحر الأسود الروسي، تحت إمرة الإمبراطورة نفسها ليتسلط على البوسفور. وبعد سنوات من الإعداد بدئ بتنفيذ هذه المغامرة الملحمية (1796) واستولى الروس على دربنت وباكو؛ وتطلعت كاترين إلى انتصارات تكمل برنامجها وتتوج حياتها. وفي صباح 17 نوفمبر 1796 بدت مرحة كالعادة. وبعد الفطور اعتكفت في حجرتها. ومضى وقت ولم تظهر ثانية، فقرعت خادمتها الباب، فلما لم تجب دخلت، فوجدت الإمبراطورة منبطحة على الأرض، صريعة انفجار شريان في الدماغ، وفصدت مرتين، وأفاقت لحظة، ولكنها فقدت النطق. وفي العاشرة من مساء ذلك اليوم لفظت أنفاسها.
وأحس أعداؤها أنها لا تستحق ميتة رحيمة كهذه. ولم يغفروا لها قط تلك التناقضات بين مزاعمها التحررية وحكمها الاستبدادي، وضيقها بالمعارضة، وإخفاقها في تنفيذ الإصلاح المقترح للقانون الروسي، واستسلامها للنبلاء في توسيعها للقنية. ولم تحمد لها انتصاراتها تلك الأسر التي أفقرتها الضرائب الباهظة، أو التي ثكلت أبناءها بسبب حروبها. ولكن الشعب في جملته صفق لها لأنها مدت روسيا إلى حدود أرحب وأكثر أمناً. لقد أضافت 200.000 ميل مربع لمساحة روسيا، وفتحت ثغوراً جديدة لتجارة روسيا، وزادت السكان من تسعة عشر إلى ستة وثلاثين مليوناً. وكانت عديمة الضمير في دبلوماسيتها- ربما أكثر قليلاً من معظم حكام ذلك العهد في ابتلاعها بولندة.
أما أعظم منجزاتها فهو مواصلتها جهود بطرس الأكبر لإدخال روسيا في نطاق الحضارة الغربية. وبينما كان بطرس يفكر في هذا الهدف بلغة التكنولوجيا، كانت كاترين تفكر فيه أولاً بلغة الثقافة، فاستطاعت بقوة شخصيتها وشجاعتها أن تنتزع الطبقات المتعلمة في روسيا من العصور الوسطى وتدفعها إلى فلك الفكر الحديث في الأدب والفلسفة والعلوم والفنون. وكانت بين أندادها من الحكام المسيحيين (باستثناء فردريك الثاني غير المسيحي) سباقة إلى توطيد التسامح الديني. وقد عقد مؤرخ فرنسي مقارنة فضلها فيها على الملك الأعظم (لويس 14) قال "إن سماحة كاترين، وبهاء حكمها، وفخامة بلاطها ومنشآتها، وآثارها، وحروبها-هذا كله كان بالنسبة لروسيا بالضبط ما كأنه عصر لويس الرابع عشر بالنسبة لأوربا. غير أن كاترين إذا نظرنا إليها كفرد وجدناها أعظم من هذا الملك. ذلك أن الفرنسيين هم الذين بنوا مجد لويس، أما كاترين فهي التي بنت مجد الروس. ولم يتح لها كما أتيح له ميزة حكم شعب مهذب، ولا أحيطت منذ طفولتها بشخصيات عظيمة مثقفة"(116). وفي تقدير مؤرخ إنجليزي أن كاترين "هي الحاكمة الوحيدة التي فاقت اليزابث ملكة إنجلترة كفاءة، وهي تعدلها من حيث الأهمية الباقية لأعمالها"(117). وقال مؤرخ ألماني "كان كل ما فيها "كائناً سياسياً"، لا ضريب لها من جنس النساء في التاريخ الحديث، ولكنها في الوقت ذاته امرأة خالصة، وسيدة عظيمة"(118)، ويجوز لنا أن نطبق عليها المبدأ السمح الذي وضعته جوته: كانت عيوبها عدوى انتقلت إليها من جيلها أما فضائلها فكانت من صنعها هي."