قصة الحضارة - ول ديورانت - م 10 ك 4 ف 17

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 13555

قصة الحضارة -> روسو والثورة -> الإسلام والشرق السلافي -> فاصل روسي -> العمل والحكم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل السابع عشر: فاصل روسي 1725-1762

1- العمل والحكم

كتب فريدريك الأكبر حوالي عام 1776 يقول: "من بين جيران بروسيا أجمعين تستحق روسيا أعظم الاهتمام لأنها أخطرهم، فهي قوية وقريبة. وسيضطر حكام بروسيا القادمون كما اضطررت أنا للسعي إلى صداقة هؤلاء الهمج"(1).

وعلينا دائماً ونحن نفكر في روسيا أن نتذكر حجمها. كانت في عهد كاترين الثانية تضم أستونيا وليفونيا وفنلنده (بعضها)، وروسيا الأوربية، وشمالي القوقاز، وسيبريا. وقد اتسعت رقعتها من 687.000 إلى 913.000 كيلو متر مربع في القرن الثامن عشر، وزاد سكانها من ثلاثة عشر مليوناً في 1722 إلى ستة وثلاثين مليوناً في 1790(2). وفي 1747 قدر فولتير سكان فرنسا أو ألمانيا بأنهم يزيدون قليلاً من سكان روسيا، ولكنه لاحظ أن روسيا تبلغ مساحتها ثلاثة أضعاف مساحة أي من الدولتين. وسيقوم الزمن والأصلاب الروسية بملء تلك المساحات الشاسعة. وفي عام 1722 كان 97.7% من سكان روسيا ريفيين، وظلت نسبتهم 96.4% في 1790، فقد كان التصنيع يسير ببطء شديد. وفي 1762 كان كل الشعب إلا عشرة في المائة منه فلاحين، وكان 52.4% من هؤلاء أقناناً(3)، ونصف الأرض يمتلكه نحو 100.000 من النبلاء، ومعظم ما بقي منها تملكه الدولة أو الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، وبعضها يملكه فلاحون شبه أحرار ما زالوا يلتزمون بأداء الخدمات وبالطاعة للسادة المحليين. وكانت ثورة الممالك تحسب بعدد أقنانه، من ذلك أن الكونت بيتر بلغت ثروته 140.000 قن(4). وكان الأقنان الذين تمتلكهم الكنيسة وعددهم 992.000 أهم جزء في ثروتها، وكان 2.800.000 قن يفلحون أراضي التاج في 1762(5).

وكان الشريف يتكفل بالقيادة العسكرية والتنظيم الاقتصادي، وهو عادة معفى من الخدمة العسكرية ولكنه كثيراً ما تطوع بها أملاً في الحظوة عند الحكومة. وكان له حقوق محاكمة أقنانه، وله أن يعاقبهم، أو يبيعهم أو ينفيهم إلى سيبيريا. على أنه كان عادة يسمح لفلاحيه بإدارة شئونهم بواسطة مجلس قريتهم أو "المير" وكان القانون يلزمه بإمداد أقنانه بالبزار وبإعالتهم في فترات القحط. وقد ينال القن حريته بشرائها من مالكه أو بالانخراط في سلك الجيش، ولكن هذا مشروط في برضى الملك. وكان للفلاحين الأحرار حق شراء الأقنان وامتلاكهم، وكان بعض هؤلاء الأحرار ويلقبون "كولاكي" (أي القبضات)، يهيمنون على الشئون القروية، ويقرضون المال بالربا، ويبزون السادة الإقطاعيين استغلالاً وصرامة(6). وكان السيد والقن كلاهما متين السلالة، صلب العود، قوي الذراع واليد، عكفاً مع على تذليل التربة، واضطلعا معاً بعبء ترويض فصول السنة. وكانت المشاق أحياناً فوق ما يطيق البشر، بحيث نسمع مراراً بأقنان يهجرون مزارعهم في أعداد كبيرة ويختفون في بولندة أو الأورال أو القوقاز، وكان الألوف منهم يلقون حتفهم في الطريق، والألوف يتصيدهم الجند ويقبضون عليهم. وبين الحين والحين يهب الفلاحون في ثورة مسلحة على سادتهم وعلى الحكومة، وتنشب بينهم وبين الجيش معارك يستميتون فيها في الدفاع عن أنفسهم، ولكن الهزيمة تلاحقهم دائماً، فيزحف الأحياء منهم قافلين إلى واجباتهم-إلى إخصاب النساء بذريتهم، والتربة بدمائهم.

وقد درب بعض الأقنان على الفنون والحرف، فكانوا يمدون سادتهم بكل احتياجاتهم تقريباً. ويروي الكونت سيجور في معرضه حديثه عن حفل أقيم لكاترين الثانية أن الشاعر الذي نظم الأوبرا والمؤلف الذي ألف موسيقاها، والمعماري الذي بنى قاعة الاستماع، والنقاش الذي زخرفها، وممثلي المسرحية وممثلاتها، والراقصين والراقصات في الباليه، والموسيقيين في الأوركسترا-كل أولئك كانوا أقناناً للكونت خريمتييف(7). وكان الفلاحون يصنعون في الشتاء الطويل الملابس والأدوات التي سيحتاجون إليها في السنة المقبلة. وكانت الصناعة في المدن بطيئة التطور، من جهة لأن كل بيت كان ورشة، ومن جهة أخرى لأن صعوبات النقل كانت عادة تضيق السوق فلا تجاوز الجهات المجاورة للمنتج. وشجعت الحكومة المشروعات الصناعية بتقديمها الاحتكارات للمحظوظين، وأحياناً بتزويدهم برأس المال، وقد وافقت على أن يشارك الأشراف في الصناعة والتجارة. وظهرت رأسمالية مبتدئة في صناعات التعدين والميتالورجيا والعتاد الحربي، وفي إنتاج المصانع للمنسوجات والخشب المنشور والسكر والزجاج. وسمح للـ "مقاولين" بشراء الأقنان لتزويد مصانعهم بالعمال، على أن هؤلاء "الفلاحين المملوكين" لم يكونوا مربوطين بالمالك بل بالمشروع، وألزمهم مرسوم حكومي صدر في 1736، هم ذريتهم، بالبقاء في مصانعهم حتى يؤذن لهم رسمياً بتركها.وكانوا في حالات كثيرة يعيشون في معسكرات منفصلين عن أسرهم في الغالب الأعم(8). أما ساعات العمل فتتفاوت بين إحدى عشرة وخمس عشرة في اليوم للرجال، تتخللها ساعة الغداء، وأما الأجور فتتراوح بين أربعة روبلات وثمانية في اليوم للرجال، وبين روبلين وثلاثة للنساء. ولكن بعض أرباب العمل تكلفوا بإطعام عمالهم وإسكانهم ودفع الضرائب عنهم. وبعد عام 1734 ازداد تشغيل العمال "الأحرار"-أي غير الأقنان-في المصانع لأنه أتاح مزيداً من الحوافز للعمال وحقق مزيداً من الربح لحق العمل. وكان العمل من الرخص بحيث لا يشجع اختراع الآلات أو استخدامها، ولكن في عام 1748 استخدم بولزونوف آلة بخارية في مصانع الحديد التي ممتلكها بالأورال.(9)

وبدأت طبقة وسطى صغيرة عديمة الحول سياسياً تتشكل ببطء بين طبقتي النبلاء والفلاحين. ففي عام 1725 كان نحو ثلاثة في المائة من السكان تجاراً: أصحاب متاجر في القرى والمدن والأسواق، ومستوردين للشاي والحرير من الصين والسكر والبن والتوابل والعقاقير من وراء البحار، وللمنسوجات الفاخرة والخزف والورق من غربي أوربا، ومصدرين للخشب والتربنتينة والقار وشحم الحيوان والكتان والقنب. وكانت القوافل تسافر إلى الصين بطريق سيبيريا أو بحر قزوين، والسفن تقلع من ريجا وريفل ونارفا وسانت بطرسبرج. ولعل الأنهار والقنوات كانت تنقل من التجارة أكثر مما تنقله الطرق البرية أو البحرية.

وكانت موسكو تقع في قلب تلك التجارة الداخلية، وكانت من الناحية المادية أكبر مدن أوربا، إذ أنها بها شوارع طويلة عريضة، و484 كنيسة ومائة قصر، وآلاف الأكواخ والزرائب، ويكن بلغوا 277.535 في 1780(10)، والفرنسيون والألمان واليونان والإيطاليون والإنجليز والهولنديون والآسيويون يتحدثون لغاتهم ويعبدون آلهتهم كما يشاءون. وكانت سانت بطرسبرج قلعة الحكومة. ومعقلاً لأرستقراطية متفرنسة، ومركزاً للأدب والفن، أما موسكو فكانت قطب الديانة والتجارة، وتتسم بحياة نصف شرقية لم تخلع عنها طابعها الوسيط، وبوطنية وسلافية مشربة بالغيرة والإخلاص. هاتان كانتا البؤرتين المتنافستين اللتين تدور حولهما المدينة الروسية. حيناً تمزق الشعب شطرين كالخلية المنقسمة، وحيناً تحيله مركباً متوتراً سيصبح قبل ختام القرن مبعث الرعب لأوربا والحكم الفيصل في مصيرها.

وكان محالاً على شعب أضناه ووحشه صراعه مع الطبيعة، وأعوزته أسباب الاتصال أو الأمن على الحياة، وأفتقر أشد الافتقار إلى فرص التعليم وإلى الوقت الذي يفكر فيه-نقول إن شعباً كهذا كان محالاً عليه أن يحظى بامتيازات الديمقراطية في صورة من صورها، ومن ضرب عن النظام الملكي في الحكم المركزي. وكان من الأمور التي لا بد من توقعها أن تتعرض الملكية للانقلابات المتكررة، تقوم بها أحزاب النبلاء المهيمنين على إمدادهم العسكرية للحكومة، وأن تسعى الملكية إلى الحكم المطلق، وأن تعتمد على الدين معواناً لجنودها وشرطتها وقضاتها على صيانة الاستقرار الاجتماعي والسلام الداخلي.

وكان الفساد عقبة كؤوداً سدت كل مسالك الإدارة. وحتى النبلاء الأثرياء الملتفون حول العرش كان من السهل اجتذابهم بـ "الهدايا". يقول كاستيرا الذي كان معاصراً تقريباً لهذه الحقبة "إن كان هناك عاصم الروس من التملق، فإنه ما من أحد منهم يستطيع مقاومة إغراء الذهب(11)". وكان النبلاء يهيمنون على حرس القصر، ذلك الحرس المعز المذل، الذي يقيم الملوك ويخلعهم، ويؤلفون طبقة مميزة من الضباط في الجيش، ويملأون مجلس الشيوخ الذي كان يشرع القوانين في عهد اليزابيث، ويرأسون الوزارات (الكوليجيا) التي تهيمن على العلاقات الخارجية، والمحاكم، والصناعة، والتجارة، والمالية، ويعينون الكتبة الذين يواصلون السير على النظام البيروقراطي، ويوجهون اختيار الحاكم للمحافظين، الذين يديرون الـ "جوبرنيات" أي المحافظات التي انقسمت إليها الإمبراطورية ويختارون (بعد 1761) "الفويفوديين" الذين يحكمون الأقاليم. وكان مكتب الرقيب المالي المؤلف أكثره من رجال الطبقة الوسطى يبسط ظلله على جميع فروع الحكومة، وهو مكتب مخابرات اتحادي، مخول له أن يكشف ويعاقب الاختلاس، ولكنه ألقى نفسه محبطاً رغم استخدامه المخبرين على نطاق واسع. فلو أن الملك رفت كل موظف مذنب بالرشوة والفساد لتوقف دولاب الدولة. وكان في جباة الضرائب من الفهم للمال مالاً يبقى لخزانة الدولة مما يجمعون أكثر من ثلثه.(12)


2- الدين والثقافة

كان للدين سلطان كبير في روسيا. لأن الفقر كان مدقعاً، ولأن تجار الأمل وجدوا مشترين كثيرين. واقتصرت الشكوكية على طبقة عليا تقرأ الفرنسية، وكان للماسونية أتباع كثيرون في هذه الطبقة(13). أما سكان الريف وأكثر سكان المدن فكانوا يحيون في عالم فوق طبيعي قوامه التدين الذي يشيع فيه الخوف، يتخيلون الشياطين محيطة بهم، ويرسمون الصليب مراراً وتكراراً في اليوم، ويتضرعون للقديسين بالتشفع لهم، ويتعبدون لرفاتهم، يرهبون المعجزات، ويرتعدون فرقاً من النذر، ويخرون سجداً أمام الصور المقدسة، ويولولون بترانيم كئيبة تنطلق من صدور جهيرة. وكان للكنائس أجراس ضخمة قوية، وقد أقم بوريس جودونوف جرساً منها بلغ وزنه 882.000 رطل، ولكن الإمبراطورة أنا إيفانو فينا بزته في هذا الميدان، إذ صب لها جرس يزن 432.000 رطل(14). وعمرت الكنائس بالمصلين، وكانت الطقوس هنا أكثر مهابة ووقاراً والصلوات أكثر حماسة ووجدا منها في روما البابوية نصف الوثنية. أما القساوسة الروس-وكل منهم يلقب بالبابا-فكانت لهم لحي وشعر مرسل وأردية قاتمة تصل إلى أقدامهم (لأن مظهر السيقان يتعارض مع الكرامل والوقار). وقلما كانوا يختلطون بالنبلاء أو البلاط بل يعيشون في بساطة متواضعة، متبتلين في أديرتهم أو متزوجين في دورهم. وكان رؤساء الأديرة يحكمون الرهبان، والرئيسات يحكمن الراهبات؛ وكان الكهنة غير الرهبان يخضعون للأساقفة، وهؤلاء لرؤساء الأساقفة، وهؤلاء للمطارنة الإقليميين، وهؤلاء للبطريرك في موسكو؛ والكنيسة بجملتها تعترف برئيس الدولة رأساً لها. وخارج الكنيسة عشرات من الملل والنحل تتنافس في التصوف والتقوى والكراهية.

وأفاد الدين في بث ناموس أخلاقي حقق بالجهد خلق النظام وسط الدوافع القوية التي طبع عليها شعب بدائي. واتخذ نبلاء البلاط أخلاق الأرستقراطية الفرنسية وعاداتها ولغتها، وكانت زيجاتهم صفقات عقارية خفف من عبئها العشاق والخليلات. وكان نساء القصر أرقى تعليماً من رجاله، ولكنهن قد يتفجرن في لحظات الغضب بألفاظ حامية وعنف قاتل. أما عامة الشعب فكانت لغتهم سوقية غليظة، وكثر بينهم العنف، وكانت القسوة تتفق وقوة البدن وصفاقة الجلد. وكان كل إنسان يقامر ويسكر حسب طاقته، ويسرق حسب منصبه(15)، ولكن الكل كانوا محسنين، وبزت الأكواخ القصور في كرم الضيافة. وكانت الوحشية والكرم صفتين شائعتين في المجتمع كله.

أما اللباس فيختلف من أزياء باريس العصرية في البلاط إلى القلانس من الفراء وجلد الغنم والقفازات الصفيقة التي يرتديها الفلاحون، ومن جوارب النبلاء الطويلة الحريرية إلى الأربطة الصوفية التي تحوي سيقان الأقنان وأقدامهم. وفي الصيف قد يستحم عامة الناس عراة في الأنهار متجاهلين الجنس. وكانت الحمامات الروسية كالتركية عنيفة ولكنها محبوبة. وفيما خلا هذا كان الاهتمام بالنظافة الصحية عارضاً، وحفظ الصحة العامة بدائياً. وكان انبلاء يحلقون لحاهم، أما عامة الشعب فيطلقونها رغم مراسيم بطرس الأكبر.

وكان في كل بيت تقريباً بالالايكا (جيتار)، وكان في سانت بطرسبرج على عهد اليزابيث وكاترين الثانية أوبرا مجلوبة من إيطاليا وفرنسا. وإليها وفد مشاهير المؤلفين والقادة الموسيقيين، وأبرع مغني العصر وعازفيه. وكان المال ينفق بسخاء على تعليم الموسيقى، وقد أثبت صوابه وفائدته بتفجير العبقرية الموسيقية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وكان أصحاب الأصوات المبشرة من الذكور يرسلون من جميع أصقاع روسيا إلى الكنائس الكبرى لتدريبهم. ولما كانت الطقوس الكنسية اليونانية لا تبيح استعمال الآلات في الكورس، فإن الأصوات كانت حرة طليقة، فحققت من أعمال الانسجام والتناغم ما لم يكن له نظير في أي بلد آخر في العالم، وغنى الصبيان أدوار السوبرانو، ولكن المرتلين بأصوات الباص (العميقة الخفيفة) هم الذين أذهلوا كثيرين من الأجانب بمدى الخفض في أصواتهم وباتساع شعورهم من همسات الرقة والحنان إلى موجات القوة الحنجرية. فمن تراهم مؤلفو هذه الموسيقى المؤثرة لفرق الترتيل الروسية، أكثرهم رهبان مغمورين لم تقرع الأجراس لموتهم ولم تشتهر أسمائهم. ويبرز من بينهم راهبان في القرن الثامن عشر. أولهما سوزونوفتش بيريزوفسكي الصبي الأوكراني الذي وهب صوتاً كأنما خلق ليتعبد الله. وأوفدته كاترين الثانية إلى إيطاليا على نفقة الدولة ليحصل أفضل التعليم الموسيقي، وعاش سنوات في بولونيا، وتعلم التأليف الموسيقي على البادري مارتيني. فلما عاد إلى روسيا كتب موسيقى دينية جمعت بين القوة الروسية والرشاقة الإيطالية. وقوبلت جهوده لإصلاح ترتيل الكورس بالمقاومة من أنصار القديم، فبات فريسة لاكتئاب مرضى، وقتل نفسه غير مجاوز الثانية والثلاثين (1777)(16). أما الثاني، وهو أشهر منه، فاسمه ديمتري بورتنيانسكي، الذي أدخل وهو لا يزال طفلاً في السابعة كورس كنيسة البلاط، وناطت الإمبراطورة اليزابيث جالوبي بتعليمه، فلما عاد جالوبي إلى إيطاليا أوفدت كاترين الثانية ديمتري معه إلى البندقية ومنها انتقل إلى يد البادري مارتيني ثم إلى روما ونابلي، حيث ألف موسيقى على الطريق الإيطالية. وفي 1779 عاد إلى روسيا، وسرعان ما عين مديراً لكورس كنيسة البلاط، وقد احتفظ بمنصبه هذا حتى مماته (1825). وقد ألف لفرقة الترتيل قداساً يونانياً، وموسيقات في أربعة وثمانية أقسام لخمسة وخمسين مزموراً. وتدريبه للفرقة يرجع له أكثر الفضل في بلوغها مكانة من التفوق جعلتها إحدى عجائب العالم الموسيقي. وفي 1901 احتفلت سانت بطرسبرج بذكرى ميلاده المائة والخمسين بمظاهر الأبهة والفخامة.

أما الفن الروسي فقد سيطر عليه التأثير الفرنسي، ولكن الشخصية القائدة فيه كان إيطاليا يدعى فرانشيسكو، (أوبارتولوميو) راستريللي. وكان بطرس الأكبر قد استقدم أبلي كارلو إلى روسيا (1715)، فصب بالبرونز تمثالاً لبطرس ممتطياً صهوة جواد، وآخر بالحجم الطبيعي للإمبراورة أنا أيفانوفنا. وورث الابن طراز لويس الخامس عشر الذي جلبه كارلو من فرنسا، وأضاف إليه بعض ما استوحاه من روائع الباروك التي صنعها بلتازار نويمان وفيشر فون أرلاخ في ألمانيا والنمساء، وقد طوع هذه التأثيرات لحاجات روسيا وطرزها الفنية بانسجام فائق حتى أصبح المعماري المقرب للقيصرة اليزابيث. ويكاد يكون كل بناء روسي ذي خطر مشيد من 1741 إلى 1763 مصمماً بيده أو بيد معاونيه. فعلى ضفة نيفا اليسرى أقام (1732-54) "القصر الشتوي" الذي أحرق في 1837 ولكن أعيد بناؤه طبقاً لتصميمه الأصلي فيما يظن: كتلة هائلة من النوافذ والعمد في ثلاث طبقات، تعلوها التماثيل والشرفات المفرجة؛ وكان أقرب منه إلى ذوق اليزابث قصر زاركوي سيلو (أي قرية القيصر)، المشيد على ربوة تبعد خمسة عشر ميلاً جنوبي سانت بطرسبرج. وعلى يساره بني كنيسة، وفي داخل القصر كان سلم فخم يؤدي إلى قاعة كبرى تضيئها نوافذ ضخمة بالنهار وست وخمسون ثرياً بالليل؛ وفي الطرف الأبعد قاعة العرش وأجنحة الإمبراطورة، ثم حجرة صينية تقدم فروض الإجلال التي درج القرن الثامن عشر على تقديمها للفن الصيني. وهناك "حجرة الكهرمان" المكسوة بألواح من الكهرمان والتي أهداها فردريك وليم الأول بديلاً لخمسة وخمسين من رماة القنابل اليدوية الفارعي الأجسام، وقاعة للصور تضم بعض المجموعات الإمبراطورية. أما داخل القصر فأكثره بزخرفة ركوكية، وصفها رحالة إنجليزي بأنها "مزيج من الهمجية والفخامة"(17). وقد أزيلت بأمر كاترين الثانية زخارف الواجهة الذهبية، فقد كانت كاترين بسيطة نقية في ذوقها.

وكان الأدب أبطأ تطوراً من الفن. فقد افتقد التشجيع لندرة القراء، وقيدت رقابة الكنيسة والدولة حرية التعبير، ولم تكن اللغة الروسية قد صقلت ذاتها نحواً ولفظاً بحيث ترقى إلى مستوى الأداة الأدبية. ومع ذلك فحتى قبل تولي اليزابيث العرش (1742 (ترك ثلاثة من الكتاب بصماتهم على صفحة التاريخ. وأولهم فازيلي تايتشيف-كان صاحب نشاط وفكر، رحالة مؤرخاً، دبلوماسياً وفيلسوفاً، يحب روسيا ولكنه يفتح عقله في تشوق للتطورات الاقتصادية والفكرية في الغرب. وكان واحداً من ذلك النفر من الشباب الذين أوفدهم بطرس إلى الخارج بغية إخصاب روسيا فكرياً. وقد أعاد بأفكار خطرة: فقد قرأ الأصول أو الخلاصات لكتب بيكون وديكارت ولوك وجروتيوس وبيل، وذبل إيمانه السني، فلم يؤيد الدين إلا بوصفه معواناً على الحكم(18). وقد خدم بطرس في حملات حربية خطرة. وأصبح حاكماً لأستراخان، واتهم بالاختلاس.(19) واجتمع له من جولاته ذخيرة من المعلومات الجغرافية والعرقية والتاريخية انتفع بها في كتابه "تاريه روسيا". وقد أغضب هذا الكتاب رجال الدين، ولم يجرؤ أحد على طبعه حتى السنوات السمحة الأولى من حكم كاترين الثانية (1768-1774).

وواصل ثاني هؤلاء الكتاب الثلاثة-وهو الأمير أنطيوخ كانتمير-التمرد على الهوت. كان ابناً لحاكم (هوسبودار) ملدافي، وجيء به إلى روسيا في عامه الثالث، وتعلم الحديث بست لغات، وخدم في السفارات الروسية في لندن وباريس، والتقى بمونتسكيو وموبرتوي، فلما عاد كتب نقداً لاذعاً لأولئك الغلاة من الوطنيين الداعين للجامعة السلافية، المعارضين لتلويث الحياة الروسية بالأفكار الغربية. وإلى القارئ طرفاً من قصيدته "إلى عقلي": "أيها العقل الفج، يا ثمرة الدراسات الحديثة، أمسك، ولا تدفع القلم في يدي... ما أكثر الطرق السهلة المؤدية في زماننا هذا إلى أسباب التشريف، ولكن أقل الطرق تقبلاً هو الطريق الذي خططته الأخوات الحافيات التسع (ربات الفنون)... عليك أن تكد وتكدح هناك، وبينما تشقى أنت يتجنبك الناس كأنك الوباء ويتهكمون عليك، ويبغضونك... ... "أن الذي يكب على الكتب ينقلب كافراً"، هكذا يدمدم كريتو متذمراً في يده مسبحته... ويريدني أن أرى مبلغ الخطر في بذرة المعرفة التي تلقى بيننا: إن أطفالنا..... مما يفزع الكنيسة، بدأوا يقرأون الكتاب المقدس، وهم يناقشون كل شيء ويريدون معرفة العلة لكل شيء، ولا يضعون في رجال الدين إلا أقل الثقة... إنهم لا يوقدون الشمع أمام الصور، ولا يحفظون المواسم والأعياد...

"أيها العقل، نصيحتي لك أن تصبح أشد صمماً من قطعة زلابية، ولا تشك لأنك مغمور... وإذا كانت الحكمة المنعمة قد علمتك شيئاً،... فلا تشرحه لغيرك"(20).

وزاد كانتيمير من إساءاته بترجمته كتاب فونتنيل "أحاديث حول تعدد العوالم"، وقد أدين الكتاب لأنه كوبرنيقي، مهرطق، مجدف، ولكن كانتيمير أحبط ما بيته له مضهدوه، فقد مات وهو في السادسة والثلاثين (1744). ولم تجد هجائياته ناشراً يقدم على نشرها حتى عام 1762.

وفي عهد القيصرة اليزابيث بدأ الأدب الروسي يؤكد ذاته شيئاً أكثر من مجرد كونه صدى للأدب الفرنسي. وقد شعر ثالث هؤلاء الكتاب، وهو ميخائيل لومونوزف، بالتأثير الألماني لا الفرنسي، وكان قد درس في ماربورج وفرايبورج، ثم تزوج فتاة ألمانية، وجلب معها إلى سانت بطرسبرج حملاً ثقيلاً من العلم. وأصبح سبع الأكاديمية المبرز في كل شيء حتى في الشراب(21). ورفض أن يتخصص، فكان عالماً في المعادن، وجيولوجياً، وكيميائياً، وكهربائياً، وفلكياً، واقتصادياً، وجغرافيا، ومؤرخاً، وفيلولوجياً، وخطيباً. وقد لقبه بوشكن "أول جامعة روسية"(22) وفي غمار هذا كله كان يقرض الشعر:

وكان منافسه الأكبر على ثناء الطبقة المفكرة هو ألكسيس سوماروكوف الذي نشر ديواناً من القصائد الغنائية من نظمه ونظم لومونوسوف ليظهر أنه أشعر منه (وكان الفرق بينهما طفيفاً). أما مفخرة سوماروكوف الحقيقية فهي إنشاؤه مسرحاً قومياً روسياً (1756) ألف له تمثيليات رددت صدى تمثيليات راسين وفولتير. وقد ألزمت اليزابيث حاشيتها بالحضور، وكانوا لا يدفعون أجراً عن دخول المسرح، فشكا سوماروكوف من أن راتب الخمسة آلاف روبل الذي يتقاضاه في العام لا يقيم أوده، ولا يعين مسرحه على الحياة. "إن ما كان الناس يشهدونه في أثينا يوماً وما يشهدونه اليوم في باريس، يشهدونه كذلك في روسيا بفضل اهتمامي... وفي ألمانيا لم يوفق حشد من الشعراء لما وفقت إلى صنعه بجهودي أنا وحدي"(23).

وفي 1760 أعيا من هذه الجهود المضنية فشد رحاله إلى موسكو، ولكن ميله للشجار ما لبث أن أورثه الفقر هناك. فناشد كاترين الثانية أن تبعث به إلى الخارج على نفقة الدولة، وأمد لها أنه "لو وصف أوربا قلم كقلمي، لما كفاه 300.000 روبل"(24) واحتملته كاترين في صبر حتى مات صريع الشراب (1777).

ولنبعث الآن شيئاً من الإشراق في هذه الصفحات بقصة غرام بطلتها أميرة اسمها ناتاليا بوريسوفنا دولجوروكايا، وكانت ابنة الكونت والمشير بوريس خريميتيف، رفيق سلاح بطرس الأكبر. ففي ربيعها الخامس عشر (1729) يوم كانت "باهرة الجمال ومن كار الوارثات في روسيا"(25) خطبت لفاسيلي لوكيش دولجوروكي، أقرب المقربين للقيصر بطرس الثاني. وقبل أن يتاح عقد القران مات بطرس، فنفى خلفه فاسيل إلى سيبريا، وأصرت ناتاليا على أن تتزوجه وتتبعه إلى المنفى. وعاشت معه ثمانية أعوام في تبولسك، وولدت له طفلين. وفي عام 1739 أعدم، وبعد أن قضت في المنفى ثلاثة أعوام أخرى سمح لها بالعودة إلى روسيا الأوربية فأكملت تعليم أبنائها، ثم دخلت ديراً في كييف. هناك، واستجابة لرجاء ولدها ميخائيل، كتبت "مذكراتها" (1768) التي نشرها حفيدها الشاعر الأمير إيفان ميخايلوفيتش دولجوروكي في 1810. وقد أحيا ذكراها ثلاثة عراء روس، وهي محل إجلال روسيا باعتبارها نموذجاً للكثيرات من النساء الروسيات اللاتي شرفن الثورة ببطولتهن ووفائهن.

والخلاصة أن الحضارة الروسية في جملتها كانت مزيجاً من الانضباط الحتمي والاستغلال القاسي، ومن التدين والعنف، ومن الصلاة والتجديف، ومن الموسيقى والتبذل، ومن الوفاء والقسوة، ومن الخضوع الذليل والبسالة التي لا تقهر. ولم يستطيع القوم أن يكتسبوا فضائل السلم لأنه كان لزاماً عليهم أن يخوضوا، خلال فصول شتاء مديدة، وليالي قارسة البرد طويلة، حرباً مريرة مع الرياح القطبية التي تكتسح سهولهم المتجمدة دون ما حاجز يعوقها. إنهم لم يعرفوا قط النهضة الأوربية ولا الإصلاح البروتستنتي، ومن ثم كانوا-إلا في عاصمتهم المتكفلة-لا يزالون أسرى قيود اعصر الوسيط. وكانوا يعزون أنفسهم بكبرياء العرق ويقين الإيمان، دون أن يبلغ ذلك بعد مبلغ النزعة القومية الإقليمية، إنما كان اقتناعاً ضارياً بأنه بينما كان الغرب يورد نفسه موارد الهلاك بالعلم والثروة والوثنية والكفر، أقامت "روسيا المقدسة" وفية لمسيحية آباء الكنيسة الأولين، أقرب الأمم إلى قلب المسيح وأحبها إليه، وإليها سيؤول حكم العالم وافتداؤه، يوما ما.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

السياسة الروسية 1725-1741

ليس تاريخ روسيا ما بين بطرس الأكبر واليزابث بتروفنا إلا سجلاً كئيباً محيراً من الدسائس وثورات القصر. فهذه الحقبة تتيح لنا-إن كان لحقبة ما أن تتيح-ونحن مطمئنون-أن نوفر في الحيز والوقت. ومع ذلك فلا مناص من ذكر بعض عناصر هذا الخليط إن أردنا أن نفهم مركز كاترين الكبرى وخلقها وسلوكها.

كان الوريث الطبيعي للعرش عام 1725 بيوتر ألكسيفتش، صبي العاشرة وابن ألكسيس (وألكسيس هو الابن القتيل لبطرس الأكبر)، ولكن أرملة بطرس التي لم تعرف القراءة والكتابة أقنعت حرس القصر (بدفعها رواتبهم التي طال تخلفها) بأنه عينها خلفاً له، وبفضل تأييدهم أعلنت (7 فبراير 1725) توليها العرش باسم كاترين الأولى، إمبراطورة إقليم روسيا كلها. ولكن كاترين الصغرى هذه انغمست بعد ذلك في الشراب والفسق. وكانت تحب الخمر حتى تغيب عن وعيها كل مساء، وتمضي إلى فراشها عادة في الخامسة صباحاً، وقد تركت زمام الحكم لعشيقها السابق الأمير الكسندر دانيلوفتش منشيكوف ومعه مجلس أعلى،-واضطلع الكونت أندراي أوسترمان، الألماني المولد، بالشئون الخارجية ووجه روسيا إلى مصادقة ألمانيا والنمس ومعاداة فرنسا. وعملاً بمخططات بطرس الأكبر، زوجت كاترين ابنتها آنا بتروفنا لكارل فريدرش، دوق هولشتين-جوتورب، وذهب العروسان ليعيشا في كيل، حيث ولدت آنا الغلام الذي صار فيما بعد بطرس الثالث. أما كاترين نفسها، فقد ماتت في 6 مايو 1727 شهيدة لذاتها، بعد أن عينت خلفاً لها الصبي بيوتر الكسيفيتش الذي اغتصب عرشه من قبل.

ولم يكن بطرس الثاني هذا يتجاوز الثانية عشرة، فظل منشيكوف يواصل الحكم، واستغل سلطاته في الإثراء تحسباً للمستقبل. فهب لفيف من النبلاء بزعامة الأخوين إيفان وفاسيلي لوكيتش دولجوروكي فأطاحوا بمنشيكوف ونفوه إلى سيبيريا حيث مات في 1729. ولم يمض عام حتى لقى بطرس الثاني حتفه بالجدري، وانتهى بموته صلب الذكور في أسرة رومانوف. هذا الحادث المؤسف هو الذي أتاح لروسيا أن تحكمها على مدى ستة وستين عاماً ثلاث نساء ضارعن، أو فقن، أكثر معاصريهن من الملوك كفاءة تنفيذية وآثاراً سياسية، وسبقنهم جميعاً-باستثناء لويس الخامس عشر-في مضمار العربدة الجنسية.

أما أولى هؤلاء القيصرات فهي آنا إيفانوفنا، ابنة إيفان الكسيفيتش البالغة خمسة وثلاثين عاماً، وأبوها كان الأخ الأبله لبطرس الأكبر. وقد اختارها المجلس الأعلى لأنها اكتسبت سمعة واقية بالوداعة والطاعة. ووضع المجلس الذي كان يهيمن عليه آل دولجوروكي وجولتسين "شروطاً" بعثوا بها إلى آنا وهي في كورلاند، لا بد من قبولها لتثبيتها على العرش. فوقعت على الشروط (28 يناير 1730). ولكن لا الجيش ولا الاكليروس أرادوا إحلال الاولجركية محل الأوتقراطية. لذلك انطلق وفد من حرس القصر للقاء آنا، والتمس منها أن تتقلد زمام السلطة المطلقة. فاستوحث الشجاعة من أسلحتهم، ومزقت "الشروط" على مرأى من الحاشية.

وكانت آنا عديمة الثقة بالنبلاء الروس، فاستقدمت من كورلاند الألمان الذين كانوا يمتعونها هناك. فأصبح إرنست فون بورن، أو بيرون عشيقها السابق رئيساً للحكومة، ورد أوسترمان لرياسة الشئون الخارجية، وأعاد الكونت خريستوف فون مونيش تنظيم الجيش، وساعد لوفنفولدي وكورف، وكيزرلنج، على تطعيم نظام الحكم الجديد ببعض الكفاية الألمانية. فجمعت الضرائب بصرامة يقظة، ووسع التعليم وأدخلت عليه التحسينات، وهيئ للدولة جهاز مدرب من الموظفين المدنيين. وبمثل هذه الفاعلية سجنت الحكومة أو نفت أو أعدمت الدولجوروكيين والجولتسينيين.

وعاشت آنا عيشة منتظمة نسبياً، بعد أن قنعت بعشيقين (بيرون ولوفنفولدي)، فكانت تستيقظ في الثامنة، وتخص ثلاث ساعات لشئون الحكم، وتبتسم ابتسامة الرضى، إذ يبسط رجالها الألمان سلطان روسيا. فغزا جيش يقوده مونيش بولنده، وخلع ملكها ستانسلاس لسكزنسكي-الخاضع لتوجيه الفرنسيين-وأجلس على عرشه أوغسطس الثالث السكسوني، واتخذ أول خطوة على طريق ربط بولنده بالروسيا. وردت فرنسا بأن حرضت تركيا على أن تهاجم روسيا، ولكن السلطان تردد لانشغاله على جبهته الفارسية، فرأت روسيا الفرصة مواتية لإعلان الحرب على تركيا، وهكذا بدأت (1735) ستون سنة من صراع السيادة على البحر الأسود. وشرح دبلوماسيو آنا الموقف فقالوا إن الأتراك، أو من يلوذ بهم في جنوبي روسيا، في يدهم مخارج الأنهار الخمسة الكبرى-دنيستر، وبوج، ودنيير، ودون، وكوبان-التي كانت أهم مسالك التجارة الروسية المتجهة جنوباً، وأن القبائل الإسلامية نصف الهمجية التي سكنت الأحواض الدنيا لهذه الأنهار هي خطر دائم يتهدد مسيحيي روسيا، وأن الشواطئ الشمالية للبحر الأسود جزء طبيعي وضروري من روسيا، وأن شعباً عظيماً نامياً كالشعب الروسي يجب ألا يحال بعد اليوم بينه وبين الوصول إلى البحر الأسود والبحر المتوسط دون معوق، وقد ظلت هذه الحجج الأنشودة المتكررة التي ظلت تتغنى بها روسيا طوال ما بقي من القرن وما بعده.

أما أول الأهداف فكان القرم، شبه الجزيرة الذي يقوم معقلاً تركياً على الجبهة الشمالية للبحر الأسود. وكان الاستيلاء على شبه الجزيرة تلك هو الغاية التي استهدفتها حملة مونيش عام 1736. وكان أعدى أعدائه في هذه الحملة المسافات المترامية والمرض... ذلك أنه كان عليه أن يعبر 330 ميلاً من القفار والبراري التي لا تستطيع لبلدة واحدة من بلادها أن تقدم الطعام أو الدواء لجيش عدته 57.000 مقاتل، وكان لزاماً أن ترافقهم ثمانون ألف عربة في طابور طويل معرض في أي نقطة أو لحظة لهجوم قبائل التتار عليه. واستطاع مونيش بفضل قيادته الماهرة أن يستولي في تسعة وعشرين يوماً على بريكوب، وكوسلوف، وبخشيسراي (عاصمة القرم)، ولكن في ذلك الشهر تفشت الدوسنطاريا وغيرها من الأمراض في جيشه فأحدثت من الشقاء والتمرد بين رجاله ما أكرهه على التخلي عن فتوحه والتقهقر إلى أوكرانيا، واستولى أثناء ذلك قائد آخر من قواد آنا على آزوف المشرفة على مصب نهر دون.

وكر مونيش على الجنوب في أبريل 1737 بسبعين ألف مقاتل، واستولى على أوخاكوف، قرب مصب نهر بوج. وفي يونيو انضمت إليه النمسا في مهاجمة الترك، ولكن حملتها باءت بفشل ذريع ألجأها إلى إبرام صلح منفرد، أما روسيا التي تركت فجأة لتواجه الجيش التركي برمته، والتي كانت تتوقع حرباً مع السويد، فقد وقعت (18 سبتمبر 1739) صلحاً رد إلى الأتراك تقريباً كل ما كسبه الروس في حملات ثلاث. واحتفل بالمعاهدة في سانت بطرسبرج على أنها انتصار باهر لم يكلف أكثر من مائة ألف قتيل.

وعاشت آنا بعد سنة الحرب، وقبيل موتها عينت وريثاً للعرش، إيفان السادس، الغلام الذي لم يتجاوز عمره ثمانية أسابيع: وهو ابن بنت أختها آنا ليوبيو لدوفنا الألمانية المولد وأنطون أولريش أمير برنزويك. وأوصت أن يكون بيرون وصياً على إيفان حتى يبلغ السابعة عشرة. ولكن مونيش وأوسترمان كانا الآن قد نالهما من بيرون ما يكفي، فانضما إلى أولريش وليوبولدوفنا ونفوه إلى سيبيريا (9 نوفمبر 1740). وأصبحت آنا ليوبولدوفنا وصية، ومونيش "الوزير الأول". وخشي السفيران الفرنسي والسويدي أن يسيطر التيوتون على روسيا سيطرة كاملة، فمولا ثورة يقومبها الأشراف الروس. واختار الثوار سراً مرشحاً للعرش في اليزافيتا بتروفنا ابنة بطرس الأكبر وكاترين الأولى.

وكانت اليزابث، كما سندعوها هنا. في الثانية والثلاثين من عمرها، ولكنها في أوج حسنها وشجاعتها ونشاطها، تحب الألعاب الرياضية والتدريب العنيف، ولكنها أيضاً ولوعة بمتع الغرام، وقد رفهت عن سلسلة من العشاق، ولم تظفر بقدر يذكر من التعليم، وكانت تكتب الروسية بصعوبة وتتكلم الفرنسية بطلاقة. ويبدو أن فكرة تشريفها العرش لم تخطر لها ببال إلى أن نحتها آنا ليوبولدوفنا وأوسترمان جانباً مؤثرين عليها الأجانب. فلما أمرت الوصية فرق سانت بطرسبرج بالرحيل إلى فنلندة، وتذمر الجند لأنهم سيواجهون حرب شقاء، اغتنمت اليزابث الفرصة، فلبست الزي العسكري، وقصدت ثكنات الجند في الساعة الثانية من صباح 6 ديسمبر 1741، وناشدتهم أن يناصروها، ثم ركبت مركبة الجليد إلى القصر الشتوي على رأس فوج من الجيش وأيقظت الوصية، وزجت بها هي والقيصر والطفل في السجن. فلما استيقظت المدينة وجدت أن لها حاكماً جديداً، إمبراطورة روسية خالصة، وابنة لبطرس العظيم. واغتبطت روسيا وفرنسا بهذا الحدث.

إليزابث بتروفنا 1741-1762

من العسير فهم هذه المرأة خلال ضباب الزمن والأهواء. وحين لقيتها كاترين الثانية في 1744 "راعها منها جمالها وجلال سلوكها.. ومع أنها كانت بدينة جداً، فإن بدانتها لم تنل قط من حسنها أو تجعل حركتها ثقيلة مضطربة... رغم ارتدائها طوقاً هائلاً لتنورتها حين تكتمل زينتها(26)". وكانت تبطن الشكوكية إلى شفا الإلحاد(27)، وتظهر الغيرة على الديانة التقليدية. وقد لاحظ مراقب فرنسي "ميلها السافر للشراب"(28)، ولكن علينا أن نتذكر أن روسيا بلداً بارداً وأن الفودكا تدفئ شاربها. وقد رفضت أن تتزوج مخافة أن يبدد الزوج قوتها ويضاعف من أسباب الخلاف والخصومة. ويزعم البعض أنها تزوجت سراً الكسيس رازموفسكي، فإذا كان الأمر كذلك فإنه لم يكن سوى الأول بين أقران عديدين. وكان فيها غرور وخيلاء، وولع بالحلي والملابس المبهرجة، ولها خمسة عشر ألف ثوب، وأكوام من الجوارب، و2500 حذاء(29)، وقد استعملت بعضها قذائف أثناء النقاش، وكان في استطاعتها أن توبخ خدمها وحاشيتها بلغة السوقة، وقد صدقت على بعض العقوبات القاسية، ولكنها كانت في سريرتها رحيمة الفؤاد(30). ألغت عقوبة الإعدام إلا على جريمة الخيانة (1744)، ولم تسمح بالتعذيب إلا في أخطر المحاكمات؛ أما عقوبة الجلد فقد بقيت نافذة، ولكن اليزابث كانت تشعر أنه لا بد من إيجاد وسيلة لتثبيط المجرمين الذين جعلوا الطرق العامة وشوارع المدن غير مأمونة في الليل، وقد جمعت في طبعها بين القلق والكسل، ووهبت ذكاءً فطرياً حاداً، وأعطت وطنها خير حكومة سمحت بها حالة التعليم والأخلاق والعادات والاقتصاد الروسي.

وبعد أن نفت أوسترمان ومونش إلى سيبيريا، أعادت مجلس الشيوخ إلى قيادة السلطة الإدارية، ووكلت الشئون الخارجية إلى ألكسي بتروفيش بستوزيف-ريومين. وقد وصفته كاترين الثانية بأنه "دساس كبير، سيئ الظن بالناس، حازم جريء في مبادئه، عدواً لا يعرف الصفح، ولكنه صديق صدوق لأصدقائه"(31). وكان مشغوفاً بالمال كما يشغف به عادة من يعرفون أن سمو المنصب قد يفضي إلى السقوط، وحين حاولت إنجلترة أن ترشوه قدرت أن نزاهته تكلف 100.000 كراون(32). ولا علم لنا إن كانت الصفقة قد تمت، ولكن بستوزيف وقف بوجه عام في صف إنجلترة ولكن هذا كان رداً طبيعياً على تأييد فرنسا للسويد وتركيا ضد روسيا. وقد عرض فردريك الأكبر هو الآخر على بستوزيف 100.000 كراون إلى ألف بين روسيا وبروسيا، ولكن العرض رفض(33). وبدلاً منه ألف بستوزيف بين روسيا والنمسا (1745) وإنجلترة (1755). فلما اتبعت إنجلترة هذا التحالف مع بروسيا (16 يناير 1756) تهدم بناء الأحلاف الذي أقامه بستوزيف، وأهملت اليزابيث بعدها الأخذ بنصائحه، وربطت وزارة جديدة روسيا بحلف فرنسي-نمساوي كان "نقضاً للأحلاف السابقة: وكان رحى حرب السنين السبع دائرة.

وقد رأينا في موضع سابق من هذا الكتاب-وما أبعد الشقة بيننا وبينه-كيف هزم القائد الروسي أبراكسين البروسيين في جروس بيجرزدورف (1757)، ثم سحب جيشه إلى بولندة. وأقنع سفيرا فرنسا والنمسا اليزابث بأن بستورزيف كان قد أمر بتقهقر أبراكسين وأنه يتآمر لخلعهما. فأمر بالقبض على المستشار والقائد جميعاً (1758). ومات أبراكسين في السجن، وأنكر بستورزيف التهمتين، وقد برأت ساحته المعلومات التي أنيط عنها اللثام فيما بعد. وأراد خصومه أن يعذبوه ليعترف، ولكن اليزابث كفتهم، وحل ميخائيل فورونستوف محل بستوزيف مستشاراً. وفي غمار حفلات البلاط الراقصة، وموائد قماره ودسائسه وغيراته وأحقاده، كانت اليزابث تشجع معاونيها على دفع المدنية الروسية قدماً. ففتح محسوبها الشاب إيفان شوفالوف جامعة في موسكو، وأسس المدارس الابتدائية والثانوية، وأوفد الطلاب في بعثات للخارج للدراسات العليا في الطب، واستقدم المعماريين والمثالين والمصورين الفرسيين لأكاديمية الفنون (Akademia Iskustv) التي أقامها في العاصمة (1758). وقد تبادل الرسائل مع فولتير، وأغراه بتأليف "تاريخ الإمبراطورية الروسية في عهد بطرس الأكبر" (1757). أما أخوه بيوتر شوفالوف فقد أعان الاقتصاد بإلغاء المكوس على التجارة الداخلية. على أن اليزابث سمحت أثناء ذلك للتعصب الديني بأن يزداد إرضاء لدعاة الجامعة السلافية، فأغلقت بعض المساجد في أقاليم التتار، ونفت 35.000 يهودياً.

وكانت أكبر مآثرها انتصار جيوشها وقوادها المرة بعد المرة على فردريك الثاني، ووقفهم الزحف البروسي، وإشرافهم على سحقه لولا أن هد تدهور صحتها من قدرتها على حمل التحالف الفرنسي النمساوي الروسي على التماسك كتب السفير البريطاني في تاريخ مبكر (1755) يقول: "لقد ساءت صحة الإمبراطورية وأصيبت ببصق الدم والنهج، وبالسعال المستمر، وبالأرجل المتورمة، وبالماء في رئتيها، ومع ذلك فقد رقصت "منويتا معي".(34) وراحت الآن تدفع ثمناً باهظاً لإيثارحا حياة الفسق على الزواج. وإذ كانت بغير خلف، فق طالما بحثت عن شخص من دم ملكي يستطيع التصدي لمشاكل روسيا الخارجية والداخلية، فوقع اختيارها-وهو اختيار لا يمكن تفسيره-على كارل فريدرش أولرش، ابن أختها آنا بتروفنا وكار فريدرش، دوقهولشتين-جوتورب. وكانت هذه أكبر غلطة اقتفتها في حكمها، ولكنها كفرت عنها باختيارها لشريكة حياته.


بطرس وكاترين 1743-1761

ولد بيوتر فيودوروفتش، كما أعادت اليزابث تسمية وريثها، بمدينة كيل في 1728. ووكان بوصفه حفيداً لبطرس الأكبر ولشارل الثاني عشر كليهما صالحاً لارتقاء العرشين الروسي والسويدي. وقد ألزم البيت لضعف صحته حى بلغ السابعة، ثم اختير بتغيير فجائي للانضمام إلى حرس هولشتين ونشئ على حياة الجندية. وأصبح رقيباً في التاسعة، وكان يسير شامخ الرأس في العروض الميدانية، وتعلم لغة ضباط الجيش وأخلاقهم. وحين ناهز الحادية عشرة عين له مرب ألماني نشأنه على الإيمان اللوثري بصورة لا تنسى، وأسرف في تأديبه إسرافاً أصابه بالعصاب. وإذ أرهبه هذا المربي بعنفه، فقد انطوى على الجبن والتكتم، ولاذ بالمكر والخداع،(35) وبات "دائم النزق والعناد وحب الشجار"(36). ولعل روسو كان مستشهداً به مثالاً يوضح الزعم بأن الإنسان خير الفطرة ولكن البيئة السيئة هي التي تفسده. ذلك أن بطرس كان رقيق الفؤاد، يتمنى أن يسلك المسلك الحق، كما سنرى من مراسيمه الملكية، ولكن دمره ما فرض عليه من القيام بأدوار لا تناسبه. وحين التقت به كاترين الثانية وهو في الحادية عشرة وصفته بأنه "وسيم الطلعة حسن السلوك مجامل" وقالت "أنها لم تشعر بأي نفور من فكرة الزواج به".(37)

وفي 1743 أمرت اليزابث بأن يؤتى به إلى روسيا، وخلعت عليه لقب الغراندوق، ويبدو أنها أدخلته في المذهب الأرثوذكسي، وحاولت تدريبه على شئون الحكم. ولكنها "وقفت مشدوهة" لفقر تعليمه واهتزاز شخصيته وفي سانت بطرسبرج أضاف السكر عيباً إلى عيوبه الأخرى، وراود الأمل اليزابث بأن هذا الفتى الغريب قد يتاح له، إذا زوج بامرأة صحيحة البدن ذكية الفؤاد، أن ينجب قبل وفاة اليزابث قيصراً كفوءاً لروسيا في مستقبل أيامه. وبهذه الروح المجردة من التعصب العرقي، والتي اتسمت بها الأستقراطيات الأوروبية حتى أثناء قيام الدول القومية، اتجهت اليزابث ببصرها خارج روسيا، فوقع اختيارها على أميرة مغمورة من إحدى الإمارات الألمانية الصغرى. وكان فريدريك الثاني الماكر قد أوصى بهذا الاختيار أملاً في أن يظفر بقيصرة ألمانية صديقة في روسيا التي أصبحت الآن مبعث خوف لألمانيا.

وعند هذه النقطة تواجهنا مذكرات كاترين الكبرى، وهي مذكرات لا يتطرق الشك إلى صحة نسبتها إليها، لم تطبع حتى عام 1859، ولكن المخطوطة الفرنسية التي كتبتها كاترين بخط يدها محفوظة بدار المحفوظات القومية في موسكو فهل هي جديرة بالثقة؟ إن القصة التي ترويها هذه المذكرات تؤيدها على العموم مصادر أخرى.(38) وعيبها ليس الكذب بل التحيز فهي قصة أجادت روايتها بذكاء وحيوية، ولكنها في بعضها دفاع عن خلعها زوجها، وعن احتمالها نبأ قتله بمثل ما احتملته به من رباطة جأش.

وقد ولدت في شتتن بيومرانيا في 21 أبريل 1729 وسميت عند تعميدها صوفيا أوجستا فردريكا بأسماء ثلاث عمات لها. أما أمها فكانت يوهانا اليزابث أميرة هولشتين-جوتورب، ومن طريقها كانت كاترين ابنة خالة بطرس. أما أبوها فكان كرستيان أوجست، أمير انهالت-تسربست في وسط ألمانيا، واللواء في جيش فريدريك. وقد خاب أمل أبويها لولادة بنت لا ولد، وحزنت الأم كأنها أسقطت جنيناً. أما كاترين فقد كفرت عن أنوثتها باتخاذها فحولة القادة العسكريين وحنكة الأباطرة المحاكمين، بينما ظلت طوال ذلك أكثر العشيقات في أوربا طلاباً وأقربهن منالاً. كانت تشكو ألواناً من أمراض الطفولة، ومنها مرض اشتد عليها حتى خلفها تبدو للناظرين كأنها ستظل مشوهة ما بقي لها من العمر "في عمودها الفقري تعرج" و "كتفها اليمنى أعلى كثيراً من اليسرى"، وأصبحت الآن "تتخذ شكل حرف Z" فحبسها جلاد المدينة السابق" الذي تخصص في علاج انخلاع المفاصل، في مشد (كورسيه) "لم أكن أخلعه قط نهاراً ولا ليلاً إلا حين أغير ملابسي الداخلية، وبعد ثمانية عشر شهراً بدأت أبدي علامات على استقامة عودي".(39) ولكثرة ما تردد في سمعها أنها دميمة، صممت على أن تنمي ذكاءها بديلاً عن الجمال، فكانت مثالاً آخر من أمثلة النقص الذي يشعر به صاحبه فيحفزه إلى قدرات تعويضية. واختفت دمامتها حين لف البلوغ أعضاءها فاستدارت. وكانت رغم هذا الخطوب ذات "طبع رضي" وفيها من الفرح الفطري "ما استلزم ضبطه".(40)

تلقت تعليمها على مهذبين نخص منهم بالذكر قسيساً لوثرياً كان يلقى عنتاً من أسئلتها. مرة سألته "أليس من الظلم أن يحكم على تيطس، وماركوس أوريليوس، وجميع عظماء العالم القديم بالهلاك الأبدي رغم فضلهم، لأنهم لم يعرفوا شيئاً عن رؤيا يوحنا اللاهوتي؟" وكانت تحسن الجدل إلى حد حمل معلمها على أن يعتزم جلدها لولا تدخل إحدى المربيات. وقد أرادت بصفة خاصة أن تعرف شكل تلك الهيولي التي سبقت الخليقة كما ورد في سفر التكوين. "ولكن إجاباته لم تبد قط مقنعة" و "فقد كلانا أعصابه"، وزاد انزعاجه بإصرارها على أن يفسر لها "بالضبط معنى الختان"(41) وكان معلموها الآخرون ومربيها فرنسيين، لذلك أتقنت الفرنسية، فقرأت كورنيي، وراسين، وموليير، وكان واضحاً أنها مهيأة لقراءة فولتير. وهكذا أصبحت من أفضل نساء عصرها تعليماً.

وانتهى نبأ هذه الأميرة الذكية إلى الإمبراطورة اليزابث، وكانت تواقة إلى فتاة قد تمنح بطرس الذكاء بالتناضح. ففي أول يناير 1744 وصلت إلى أم صوفيا دعوة للحضور معها في زيارة البلاط الروسي. وتردد الوالدان، فقد بدت لهما روسيا بلداً قلقاً بدائياً إلى حد خطر، أما صوفيا التي حدست أن زواجها من الفرندوق قيد البحث فقد التمست الجواب بقبول الدعوة. وعليه ففي 12 يناير بدأوا الرحلة الطويلة الشاقة عبر برلين وشتتن وبروسيا لشرقية وريجا وسانت بطرسبرج إلى موسكو، وفي برلين استضافهم فريدريك، وأعجبته صوفيا، "وراح يسألني ألف سؤال ويتكلم على الأوبرا والكوميديا والشعر والرقض، وباختصار كل شيء يمكن أن يخطر ببال إنسان يتحدث إلى فتاة في الرابعة عشرة(42)" وفي شتتن "ودعني أبي، وكانت آخر مرة رأيته فيها، وقد بكيت بكاءً مراً". وبلغت الأم وابنتها موسكو في 9 فبراير في حاشية مترفة، بعد رحلة في مركبة جليد امتدت اثنتين وخمسين ساعة من سانت بطرسبرج.

وفي ذات المساء التقت ببطرس ثاني مرة، وقد وقع من نفسها هذه المرة أيضاً موقعاً طيباً، إلى أن أسر لها أنه لوثري صميم، وأنه يحب إحدى الوصيفات في البلاط(43). ولاحظت أن الروس يكرهون لهجته وعاداته الألمانية، أما هي فقد عولت على تعلم الروسية والتمكن منها. وعلى قبول المذهب الأرثوذكسي بحذافيره وشعرت بشيء "أكثر قليلاً من عدم المبالاة نحو بطرس، ولكن "لم أكن غير مبالية بالتاج الروسي". وعينوا لها ثلاثة مدرسين-للغة، والدين، وللرقصات الروسية. وقد شقت على نفسها في الدرس-فنهضت مرة في منتصف الليل للاستذكار-حتى ألزمت الفراش لإصابتها بذات الجنب، "زظللت أتذبذب بين الحياة والموت سبعة وعشرين يوماً، فصدمت خلالها ست عشرة مرة، أحياناً أربع مرات في اليوم"(44). وفقدت أمها حظوتها في البلاط لأنها طلبت استدعاء قسيس لوثري. أما صوفيا فقد كسبت قلوباً كثيرة بطلبها قسيساً يونانياً. وأخيراً، في 21 أبريل، استطاعت أن تظهر أمام الناس. "كنت هزيلة كأنني هيكل عظمي... في وجهي وقسماتي غضون، وشعري ساقط، ولوني غاية في الشحرب"(45) وأرسلت لها الإمبراطورة ملء قدر من "الروج".

وفي 28 يونيو جازت صوفيا، في خشوع مؤثر، مراسم دخولها في المذهب الأرثوذكسي. وأضيف الآن إلى أسمائها اسمان هما إكاترينا ألكسيفنا؛ ومن ثم أصبحت منذ الآن تدعى كاترين. وفي صباح الغد، وفي الكتدرائية الكبرى، "أوسبنسكي سوبور"، خطبت رسمياً للغرندوق بطرس. وابتهج كل من رآها بتواضعها اللبق، وحتى بطرس بدأ يحبها. وبعد أربعة عشر شهراً من التدريب تزوجا في 21 أغسطس 1745 في سانت بطرسبرج. وفي 10 أكتوبر رحلت أم كاترين قاصدة أرض الوطن.

وكان بطرس الآن في السابعة عشرة، وزوجته في السادسة عشرة. كانت جميلة، وكان قبيحاً لأنه أصيب بالجدري في سنة خطبتهما. وكانت من الناحية الفكرية شرهة يقظة، أما هو فيقول سولوفيف أنه "بدت عليه كل إمارات التخلف العقلي، وكان أشبه بطفل كبير"(46)، يلهو بالدمى والعرائس والعساكر اللعب، ويولع بالكلاب حتى أنه يحتفظ بعدد منها في شقته، ولم تعرف كاترين أيهما شر من الآخر، نباحها أم رائحتها المنتنة(47). ولم يحسن الموقف بالعزف على كمانه. وازداد ميله للشراب، "ومنذ1753 كان يثمل بالشراب كل يوم تقريباً"(48) وكثيراً ما كانت الإمبراطورة اليزابث توبخه على نقائصه، ولكنها لم تضف القدوة إلى الوصية. وكان الذي يزعجها أكثر هو كرهه السافر لروسيا التي سماها "بلداً لعيناً"(49)، واحتقاره للكنيسة الأرثوذكسية وقساوستها، وأهم من هذا كله عبادته لفريدريك الأكبر، حتى أثناء اشتباك روسيا وبروسيا في حرب طاحنة، وأحاط نفسه بـ "حرس هولشتيني" من الجند كلهم تقريباً ألمان، وفي بيب لهوه بأورانينباوم كان يلبس أتباعه الزي الألماني، ويدربهم على الطريقة البروسية. وحين هرم القائدان الروسيان فرمور وسالتيكوف البروسيين عام 1759 أمسكا عن متابعة انتصاراتهما مخافة أن يغضبا بطرس(50) الذي قد يصبح قيصراً في أية لحظة.

وكاد زواجهما أن يصبح صراعاً بين ثقافتين، لأن كاترين كانت تسعى إلى المزيد من التعليم بدراسة الأدب الفرنسي. ويبدو أمراً لا يصدق أن تقرأ هذه الشابة خلال سنيها التسعة وهي غراندوقة أفلاطون وبلوتارخ وتاسيتوس وبيل وفولتير وديدرو ومونتسكيو الذي قالت عن كتابه "روح القوانين" أنه ينبغي أن يكون "كتاب صلوات يومية لكل ملك سليم الإدراك"(51) ولا بد أن كتباً كهذه أتت على البقية الباقية من معتقدات كاترين الدينية-رغم أنها واصلت دون توان مراعاتها للطقوس الأرثوذكسية وأعطتها هذه الكتب ذلك المفهوم عن "الاستبداد المستنير" الذي تشربه فريدريك من فولتير قبل ذلك بجيل.

وخلال ذلك (إن صدقنا روايتها المباشرة) "لم يصل زواجي بالغراندوق إلى نقطة الاكتمال"(52) وفي رأي كاستيرا الذي كتب في 1800 سيرة لكاترين تنبئ بإطلاع حسن كما تتسم بالعداء لها، أن "بطرس كان يشكو عيباً بدا رغم سهولة إزالته أشد قسوة، ولم يستطع عنف حبه ولا محاولاته المتكررة أن يحققا نقطة الاكتمال في زواجه.(53) وهذه الحالة لها نظير لافت للنظر، وهي حالة لويس السادس عشر وماري أنطوانيت، وربما كان النفور الذي انتهت كاترين إلى الإحساس به نحو بطرس خلال خطبتهما الطويلة قد وضح له وأورثه العنة النفسية. وسرعان ما اتجه إلى نساء أخريات، واتخذ الخليلة تلو الخليلة ممن راودهن الأمل في الحلول محل الغراندوقة كاترين. وفي روايتها أن سنوات الزواج الأولى هذه كانت سنوات شقاء وتعاسة لها. وذات يوم (فيم يروي هوراس ولبول)، حين سألتها الإمبراطورة لم يثمر زواجها، أجابت بأنه ينبغي ألا ينتظر أي ثمر له. وكان هذا في الواقع إعلاناً لعجز زوجها. وأجابت اليزابث بأن الدولة تطالب بالخلف، وتركت للغراندوقة مهمة الحصول على هذا الخلف بمساعدة من تشاء. وكانت ثمرة طاعتها ولداً وبنتاً. "(54) وقد بينت مدام ماريا تشوجلوكوفا، التي عينتها إليزابث وصيفة لكاترين، للغراندوقة (فيما روته هذه) أن هناك استثناءات هامة لقاعدة الوفاء الزوجي، ووعدتها بأنها تكتم السر إذا اتخذت كاترين عشيقاً،(55) و (" لا ريب في أن هذا الاقتراح المخجل لم يأت من الوصيفة بل من الإمبراطورة ذاتها(56)". وعلينا أن ننظر إلى هذه الأمور في منظور بلاط روسي طال إلفه لملكات عديدات العشاق، وبلاط فرنسي تعود على ملوك متعددي العشيقات، وبلاط سكسوني-بولندي ضم مائة وخمسين طفلاً أنجبهم أوغسطس الثالث.

فهل اقتدت كاترين بهذه المثل إلى درجة الإفراط؟ بعد ولايتها العرش، نعم. أما قبلها فيبدو أنها اقتصرت في قصد رواقي على ثلاثة عشاق-أولهم-بعد زواجها بنحو ست سنوات-سرجي سالتيكوف، الضابط الشاب المفعم حيوية. وتشرح كاترين استجابتها لحبه فتقول:

"إن جاز لي توخي الصراحة.... قلت إنني كنت أجمع بين عقل الرجل ومزاجه، وبين مفاتن المرأة الجديرة بأن تحب، وأرجو الصفح عن هذا الوصف، الذي يبرره صدقه... فلقد كنت جذابة، ومن ثم كان نصف الطريق إلى الإغراء قد قطع فعلاً، ومن الإنسانية الخالصة في مثل هذه المواقف ألا يقف الإنسان في منتصف الطريق.... فالمرء لا يستطيع أن يمسك بقلبه في يده، يحبسه أو يطلقه، يشد عليه قبضته أو يرخيها كما يشاء."(57)

وفي 1751 حملت ولكنها أسقطت حملها، وتكررت هذه التجربة المؤلمة في 1753. وفي 1754 ولدت الطفل الذي صار فيما بعد الإمبراطور بولس الأول. واغتبطت اليزابث، وأهدت كاترين 100.000 روبل، وأرسلت سالتيكوف لينزوي انزواءاً مأموناً في استكهولم ودرسدن، حيث كان "عابثاً مستهتراً مع جميع النساء اللاتي قابلهن"(58) كما تروي كاترين أما بطرس فازداد سكراً، واتخذ مزيداً من الخليلات، واستقر أخيراً على اليزافينا فوروتسوفا، ابنة أخي المستشار الجديد. وكانت كاترين تتشاجر معه، وتسخر منه ومن أصدقائه علانية.(59) وفي 1756 قبلت ملاطفة فتى بولندي وسيم في الرابعة والعشرين يدعى الكونت ستانسلاس بونياتوفسكي، قدم إلى سانت بطرسبرج ملحقاً للسير هانبري-وليمز، السفير البريطاني. وتصفها سيرة ستانسلاس الذاتية في سنة 1755:

"كانت تناهز الخامسة والعشرين... في تلك اللحظة بالذات التي هي أجمل اللحظات للنساء الجميلات. كان لها شعر فاحم، وبشرة بيضاء ناصعة وأهداب سوداء طويلة، وأنف إغريقي، وفم كأنه خلق للقبلات، ويدان وذراعة غاية في الحسن، وقد نحيل يغلب فيه الطول على القصر. ومشية غاية في النشاط ملؤها المهابة رغم هذا. وكان رنين صوتها مبهجاً، وضحكتها مرحة كطبعها"(60).

فلما حدق النظر فيها "نسي أن هناك قطراً اسمه سيبيريا. "وكان هذا الغرام أعمق ما شعرت به من غراماتها الكثيرة، وغراماته هو، فقد ظل قلبها مع يونياتوفسكي بعد أن اتخذت عشاقاً آخرين بزمن طويل، أما هو فلم يفق قط تماماً مع افتتانه بها، مهما أنزلت به سياساتها من آلام موجعة. وحين ذهبت لتقيم مع بطرس في أورانينباوم، خاطر ستانسلاس بحياته بزيارتها سراً هناك. وكشف أمره، وأصدر بطرس أوامره بشفته. غير أن كاترين تشفعت لبطرس بخليلته التي هدأت ثائرة الغراندوق بعد أن ألانتها هدية من كاترين. وأخيراً، وفي نوبة من الود، ولم يكتف بطرس بالصفح عن يونياتوفسكي، بل دعا كاترين للانضمام إلى عشيقها، ودخل معهما ومع اليزافيتا فورونتسوفا في "معيشة رباعية" لطيفة تخللتها عشاءات مرحة اشتركوا فيها جميعاً(61).

وفي 9 ديسمبر 1758 ولدت كاترين بنتاً. واعتقد أفراد الحاشية عموماً أن أباها هو بونياتوفسكي(62) ولكن بطرس نسب الفضل لنفسه، وتقبل التهاني، ونظم المهرجانات احتفالاً بهذا الإنجاز(63)، ولكن الطفلة ماتت بعد أربعة أشهر. واستدعى بونياتوفسكي إلى بولندة بأمر الإمبراطورة، وحرمت كاترين العشق هنيهة، ولكنها افتتنت بمغامرات الحب والحرب التي خاضها جريجوري جريجوريفتش أورلوف، ياور بيوتر شوفالوف. وكان أورلوف قد كسب لنفسه حسن السمعة بثباته في موقعه في معركة زورندورف رغم جروحه الثلاثة. وكان له بنية الرجل الرياضي و "وجه ملاك"(64)، ولكنه لم يعرف من المناقب إلا الظفر بالسلطة والنساء بأي وسيلة متاحة. وكان لشوفالوف خليلة هي الأميرة إلينا كوراكين، وكانت من أجمل حسان القصر وأكثرهن تحللاً، فاجتذبها أورلوف وظفر بها من رئيسه، وأقسم شفالوف أنه قاتله، ولكنه مات قبل أن ينفذ فيه وعيده. وأعجبت كاترين بشجاعة أورلوف، ولاحظت أن له أربعة أخوة في الحرس كلهم قوي فارع الطول، وقالت في نفسها إن هؤلاء الخمسة سيفيدون إذا طرأ طارئ. وعليه رتبت لقاء مع جريجوري، ثم ثانياً، فثالثاً، وسرعان ما أزاحت كوراكين واحتلت مكانها. ولم يحل يوليو 1761 حتى كانت حاملاً، وفي أبريل 1762 ولدت ابناً لأورولف، وأحيط الحدث بما أمكن من تكتم، وربى الغلام باسم الكسيس بوبرينسكي.

وفي ديسمبر 1761 وضح أن الإمبراطورة بادئة مرضها الأخير، وبذلت محاولات لإشراك كاترين في مؤامرة تستهدف منع بطرس من ارتقاء العرش، وقد أنذرت بأن بطرس إن أصبح قيصراً سينحيها جانباً ويجعل اليزافيتا فورونتسوفا زوجته ومليكته، ولكن كاترين رفضت الاشتراك في المؤامرة. وفي 5 يناير 1762 (حسب التقويم الجديد) ماتت الإمبراطورة اليزابث، وارتقى العرش بطرس دون معارضة سافرة.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بطرس الثالث 1762

وقد أدهش الجميع بسماحة قراراته، فالود الفطري الذي حجبه ضباب العادات الفظة الغبية تكشف الآن في نوبة من العرفان لتقلده السلطة بسلام، فصفح عن أعدائه، واستبقى معظم وزراء اليزابث، وحاول أن يتلطف مع كاترين. فخصص لها في القصر جناحاً مريحاً في طرف منه، وسكن هو جناحاً في الطرف الآخر. وخصص لخليلته الغرف الوسطى، وكان هذا بالطبع إهانة بالغة، ولكن كاترين ابتهجت في دخيلة نفسها بسكناها على مبعدة منه. وزودها بمخصصات سخية، ودفع ديونها الباهظة دون تحقيق في أصلها.(65) وفي الحفلات الرسمية كان يسوي بينها وبينه في المكان وأحياناً يقدمها على نفسه.(66)

ثم أعاد من المنفى الرجال والنساء الذين نفاهم الحكام السابقون إلى سيبيريا فعاد الآن مونيش وقد بلغ الثانية والثمانين ليرحب به اثنان وثلاثون حفيداً، ورده بطرس إلى رتبة المشير، وأقسم مونيش ليخدمنه إلى النهاية، وقد بر بقسمه. وأحل الإمبراطور السعيد النبلاء من الالتزام الذي فرضه عليهم بطرس الأكبر، وهو أن يعطوا الدولة سنين كثيرة في حياتهم، فاقترحوا أن يصنعوا له تمثالاً من الذهب، ولكنه أمرهم أن يستعملوا هذا الذهب استعمالاً أرشد.(67) وألغى مرسوم أصدره بطرس في 21 فبراير بالشرطة السرية التي أبغضها الناس جميعاً، وحرم الاعتقال للتهم السياسية حتى يراجعها مجلس الشيوخ ويقرها. وفي 25 يونيو أصدر بطرس مرسوماً بأن يعفى مقترف الزنا من التعنيف الرسمي منذ الآن، "فحتى المسيح لم يدن (الزانية) في ذلك الأمر".(68) وابتهجت الحاشية، وسر التجار لتخفيض رسوم التصدير، وخفض ثمن الملح، وأبطل شراء الأقنان لتشغيلهم في المصانع أما "قدامى المؤمنين" الذين هربوا من روسيا اتقاء اضطهادهم في عهد اليزابث فقد دعوا للعودة والتمتع بالحرية الدينية. ولكن رجال الدين أثارت سخطهم الشديد مراسيم 16 فبراير و21 مارس التي أممت جميع أراضي الكنيسة وجعلت جميع القساوسة الأثوذكس موظفين حكوميين ذوي رواتب. وحرر الأقنان العاملون على ضياع النبلاء أن يحرروا هم أيضاً-سريعاً. ووسط هذه الإصلاحات كلها-التي أشار بها عليه مختلف الوزراء-راح بطرس يشرب حتى يثمل.

أما أغرب قراراته الذي أسعده أيما سعادة، فهو إنهاؤه الحرب مع بروسيا. وكان حتى قبل ولايته العرش قد فعل الكثير ليساعد فريدريك، فأوصل سراً الخطط الحربية التي وضعها مجلس اليزابث، وراح الآن يفاخر بعمله هذا(69) وفي 5 مايو ربط الروسيا ببروسيا في تحالف دفاعي هجومي. وأصدر تعليماته إلى قائد القوات الروسية المحاربة مع الجيش النمساوي أن يضعها في خدمة "سيدي الملك"(70) ثم ارتدى بزة عسكرية بروسية، وأمر الجنود المحليين بأن يحذوا حذوه، تم أدخل الضبط والربط البروسيين في الجيش، ونظم التدريبات العسكرية كل يوم لحاشيته، وأجبر كل ذكر في الحاشية على المشاركة فيها دون مراعاة للسن أو النقرس(71). وقدم "حرس هولشتين" الخاص به على أفواج العاصمة المعتدة بمكانتها. ولم يكن الجيش الروسي كارهاً للسلم، ولكن أذهله هجر روسيا لحلفائها الفرنسيين والنمساوين في عجلة، وتخليها عن جميع الأقاليم التي ظفرت بها من بروسيا خلال الحرب. وأفزعه أن يذيع بطرس عزمه على تجريد جيش روسي على الدنمرك لاسترداد دوقية شلزفج التي أخذتها الدنمرك من أدواق هولشتين، ومنهم أبو بطرس. وأبان الجلود في غير لبس إنهم سيرفضون خوض حرب كهذه، فلما طالب بطرس إلى كيريل رازوموفسكي أن يزحفبجيش على الدنمرك أجابه القائد "يا صاحب الجلالة يجب أولاً أن تعطيني جيشاً آخر يكره جيشي على الزحف."(72)

وفجأة وجد بطرس نفسه مكروهاً رغم إصلاحاته الجريئة الممتازة، كرهه الجيش خائناً لوطنه، وكرهه الإكليروس لوثرياً أو شرامن اللثوري، وطالب الأقنان الذين لم يعتقوا بالحرية في تذمر وصخب، وسخر منه البلاط ووصفه رجلاً أحمق مأفوناً. وفوق هذا كله حامت حوله شبهة عامة في أنه ينوي تطليق كاترين والزواج من خليلته.(73) "أن هذه الشابة" (كما يروي كاستيرا) "العاطل من أي موهبة خطاب أو كلام، المتغطرسة في غباوة.. استطاعت بدهائها أن تحصل من القيصر-تارة بتملقه، وتارة يتأنبه، وتارة حتى بضربه-على تجديد للعهد الذي قطعه لها... وهو أن يتزوجها ويبوئها عرش روسيا بدلاً من كاترين(74) ولما لعبت برأسه السلطة والخمر عنف في معاملة كاترين، حتى لقد رماها علانية بالحماقة.(75) كتب البارون دبروتري إلى شوازيل يقول: "إن الإمبراطورة (كاترين) في وضع شديد القسوة، وهي تعامل بمنتهى الاحتقار... ولن يدهشني أنا العليم بشجاعتها وعنفها إن دفعها هذا إلى نوع من الشطط... ولا يألو بعض أصدقائها جهداً في تهدئتها، ولكنهم لا يترددون في المخاطرة بكل شيء في سبيلها أن اقتضى الأمر"(76).

وكانت سانت بطرسبرج وأرباضها حافلة بأنصار كاترين. أحبها الجيش والحاشية وجماهير الشعب. وكان أخلص أصدقائها في هذه الأيام العصيبة، بعد وصيفاتها وجريجوري أورلوف، أميرة داشكوفا "إيكاترينا رومانوفنا". ولم تكن هذه السيدة الجريئة المغامرة تتجاوز التاسعة عشرة، ولكنها كانت ذات مكانة مرموقة في القصر لأنها ابنة أخي المستشار فورونتسوفوأخت خليلة بطرس. وكان بطرس في سذاجته أو بين كؤوس الخمر قد كشف لها عن نيته في خلع كاترين وإحلال اليزافيتا فورونتسوفا محلها على العرش.(77) ونقلت داشكوفا النبأ إلى كاترين،-ورجتها أن تشترك في مؤامرة لتنحية بطرس. ولكن كاترين كانت قد دبرت فعلاً مؤامرة مع نيكيتا بانين، مربي ولدها بولس، وكيريل رازوموفسكي، هتمان (زعيم) أوكرانيا، ونيقولا كورف رئيس الشرطة، والأخوين أورلوف، وب. ب باسيك، وهو ضابط في فوج محلي.

وفي 14 يونيو أصدر بطرس أمره بالقبض على كاترين، ثم ألغى الأمر، ولكنه أمرها بالاعتكاف في بيترهوف، على اثني عشر ميلاً غربي العاصمة. أما بطرس نفسه فخلاً بعشيقته في أورانينباوم. وترك تعليمات بأن يعد الجيش نفسه فلإبحار إلى الدنمرك، ووعد بأن يلحق به في يوليو. وفي 27 يونيو قبض على الملازم باسيك لإلقائه خطباً تحط من قدر الإمبراطور. وخشي جريجوري وألكسي أورلوف أن يكره بالتعذيب على الاعتراف بالمؤامرة، فقرر التصرف فوراً. وعليه ففي الثامن والعشرين ركب ألكسي في عجلة قاصداً بيترهوف، وأيقظ كاترين، وأقنعها بأن تعود معه راكبة إلى سانت بطرسبرج. وفي طريقهما توقفاً عند ثكنات فوج اسماعيلوفسكي، واستدعى الجند على قرع الطبول، وناشدتهم كاترين أن ينقذوها من تهديدات الإمبراطور، فأقسموا على حمايتها، "اندفعوا ليقبلوا بدمي وقدمي، وهدب ثوبي، وهم يدعونني مخلصتهم" (في رواية كاترين ليونيا فوفسكي(78))-لأنهم علموا أنها لن ترسلهم إلى الدنمرك. ومضت إلى كتدرائية كازن في حراسة فوجين والأخوين أورلوف، وهناك نودي بها حكماً مطلقاً لروسيا. ولحقت بها فرقه بريويرازنسكي هناك، وتوسل رجالها إليها "أن-تغفر لنا أننا آخر من جاء"(79) ثم انضم إلى صفوفهم حرس الخيالة، وصحبها أربعة عشر ألف جندي إلى القصر الشتوي؛ وهناك أعلن مجمع الكنيسة، ومجلس الشيوخ رسمياً خلع بطرس وتولية كاترين. واحتج بعض ذوي المقامات الرفيعة، ولكن الجيش أرهبهم، فأقسموا يمين الولاء للإمبراطورة.

وارتدت زي نقيب في حرس الخيالة، وركبت على رأس جندها إلى بيترهوف. وكان بطرس قد ذهب إلى هناك صبيحة ذلك اليوم ليراها، فلما علم بالثورة فر إلى كرونستات. وعرض عليه مونيش أن يصحبه إلى بومرانيا ويجند جيشاً ليرده إلى العرش، ولكن بطرس عاد إلى أورانينباوم وهو عاجز عن اتخاذ القرار. فلما اقتربت قوات كاترين أنفق يوماً في التماس حل وسط، ثم وقع على اعتزاله العرش في 29 يونيو (حسب التقويم القديم)؛ قال فردريك: "لقد سمح بأن يطاح به كما يسمح طفل بأن يرسل إلى فراشه"(80). وسجن في روبشا، على خمسة عشر ميلاً من سانت بطرسبرج. والتمس من كاترين أن تسمح له بالاحتفاظ بخادمه الزنجي، وكلبه الصغير، وكمانه، وخليلته. فأجيبت طلباته كلها إلا آخرها. ونفيت اليزافيتا فوونتسوفا إلى موسكو: ثم اختفت من صحائف التاريخ إلى الأبد.