قصة الحضارة - ول ديورانت - م 10 ك 4 ف 16

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 13535

قصة الحضارة -> روسو والثورة -> الإسلام والشرق السلافي -> الإسلام -> الأتراك


الكتاب الرابع
الإسلام والشرق السلافي 1715 - 1796

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل السادس عشر: الإسلام 1715 - 1796

الأتراك

حوصرت المسيحية في القرن الثامن عشر بين فولتير ومحمد (صلى الله عليه وسلم) بين حركة التنوير والإسلام. فمع أن العالم الإسلامي كان قد فقد سطوته الحربية منذ رد سويبسكي الترك على فيينا عام 1683، إلا أنه ظل مسيطراً على المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر وشبه جزيرة العرب وفلسطين وسوريا وفارس وآسيا الصغرى والقرم وجنوبي روسيا وبسارابيا وملدافيا وولاشيا (رومانيا) وبلغاريا والصرب (يوغسلافيا) والجبل الأسود والبوسنة ودلماشيا واليونان وكريت وجزر الأرخبيل وتركيا. وهذه الأقطار كلها- باستثناء فارس- كانت جزءاً من إمبراطورية الأتراك العثمانيين المترامية الأطراف. فعلى الساحل الدلماشي بلغوا الأدرياتيك وواجهوا الولايات البابوية، وعلى البوسفور تسلطوا على المنفذ البحري الوحيد من البحر الأسود، وكان في مقدورهم أن يقفوا سداً منيعاً بين الروس والبحر المتوسط متى شاءوا.

فإذا عبرنا الأقاليم المجرية إلى بلاد المسلمين لم نلحظ للوهلة الأولى فرقاً يذكر بين المدينتين المسيحية والإسلامية. فهنا أيضاً كان فقراء المسلمين السذج الأتقياء يفلحون الأرض تحت إمرة سادتهم الأغنياء والأذكياء المتشككين. ولكن المشهد الاقتصادي يتغير فيما وراء البوسفور: فلا يكاد المزروع من الأقاليم يبلغ 15%، أما الباقي فصحراء أو جبال لا تتيح غير التعدين أو الرعي، هناك كان الإنسان يتميز به الإقليم هو البدوي الذي أسود لونه وتحمص جلده من الشمس، وتدثر على نحو معقد اتقاء للرمال والقيظ. أما المدن الساحلية والمتفرقة هنا وهناك كانت حافلة بالتجارة والحرف اليدوية، ولكن الحياة بدت أكثر دعة واسترخاء مما كانت في المراكز المسيحية، فالنساء يلزمن بيوتهن أو يسرن في وقار شديد تحت أحمالهن ووراء خمرهن، والرجال يمشون الهوينا في الشوارع. وكان جل الصناعة يدوياً، وورشة الصانع ملحقاً يتصدر بيته، وكان يدخن غليونه ويتجاذب الحديث مع غيره أثناء العمل، وأحيناً يشارك زبوناً قهوته.

ويمكن القول بوجه عام أن التركي العادي كان قانعاً غاية القناعة بمدينته، حتى لقد ظل قروناً لا يطيق أي تغيير ذي بال. وكانت التقاليد هنا كما كانت في التعاليم الكاثوليكية مقدسة قداسة التنزيل. أما الدين فكان أعظم قوة وانتشاراً في الأقطار الإسلامية مما كان في العالم المسيحي، والقرآن هو الشريعة والديانة معاً، وفقهاء الإسلام شراح الشريعة الرسميون. وكان الحج إلى مكة المكرمة يقود كل عام درامته المثيرة فوق رمال الصحراء وعلى الطرق المتربة. أما في الطبقات العليا فإن البدع العقلانية التي طلع بها معتزلة القرن الثامن الميلادي، والتي واصلها الشعراء والفلاسفة المسلمون طوال عصر الإيمان، لقيت قبولاً واسعاً مستوراً. كتبت الليدي ماري ورتلي مانتاجيو من الاستانة في 1719 تقول:

"إن الأفندية (أي الطبقة المتعلمة).. ليسوا أكثر إيماناً بالوحي الذي أنزل على محمد (صلى الله عليه وسلم) منهم بعصمة البابا. ويصرحون بالربوبية بينهم وبين من يثقون بهم ولا يتكلمون على شريعتهم (أي ما يمليه القرآن الكريم) إلا بوصفها مؤسسة سياسية، تصلح الآن لأن يتقيد بها العقلاء من الناس وإن كانت أصلاً من عمل رجال السياسة والمتحمسين من رجال الدين"(1).

وانقسم الإسلام بين مذهبي السنة والشيعة كما انقسمت مسيحية الغرب بين الكاثوليكية والبروتستنتية، ثم قام مذهب جديد في القرن الثامن عشر على يد محمد بن عبد الوهاب، أحد شيوخ نجد- وهو الهضبة الوسطى التي نعرفها اليوم بالعربية السعودية. وكان الوهابيون من الإسلام أشبه بالبيورتان من المسيحية: استنكروا التعبد للأولياء، وهدموا أضرحة المشايخ والشهداء، واستهجنوا لبس الحرير والتدخين، ودافعوا عن حق كل فرد في أن يفسر القرآن لنفسه(2). وقد شاعت الخرافات في جميع المذاهب على السواء، ولقى دجاجلة الدين كما لقيت المعجزات الكاذبة التصديق السريع، وكان جل المسلمين يعدون مملكة السحر عالماً حقيقياً كعالم الرمال والشمس الذي يكتنفهم(3).

أما التعليم فهيمن عليه رجال الدين الذين آمنوا بأن أضمن سبيل لتكوين المواطنين الصالحين أو الأتباع الأوفياء القبيلة هي ترويض الخلق لا تحرير الفكر. وكان رجال الدين قد انتصروا في معركتهم مع العلماء والفلاسفة والمؤرخين الذين ازدهروا أيام الإسلام الوسيط، فانتكس الفلك إلى التنجيم، والكيمياء إلى الخيمياء، والطب إلى السحر، والتاريخ إلى الأساطير. ولكن في كثير من المسلمين حلت المحكمة الصامتة محل التعليم والتفقه في المعرفة. وكما قال داوتي الحكيم البليغ: "إن العرب والترك، الذين كتبهم هي وجوه الرجال... والذين شروحهم وتفاسيرهم هي الأقوال المأثورة السائرة ومئات الأمثال الحكيمة القديمة السائدة في عالم الشرق، هؤلاء قريبون من إدراك الحقائق الإنسانية. إنهم شيوخ راسخون في الحكمة وهم لا يزالون شباباً، ولا ينسون بعد ذلك إلا القليل مما تعلموا(4)". وقد أكد ورتلي مونتجيو في خطاب كتبه عام 1717 لأديسون أن "الرجال ذوي الشأن من الأتراك يبدون في أحاديثهم مهذبين لا يقلون تحضراً عن أي رجال التقيت بهم في إيطاليا"(5)، أجل فالحكمة ليس لها وطن.

ولقد كان عالم الإسلام على الدوام غنياً بالشعراء. ذلك أن الصحاري الرهيبة، والسماء المحيطة، والنجوم المنتشرة إلى ما لا نهاية في الليالي الصافية، كل أولئك حرك الخيال كما حرك الإيمان الديني بالإحساس بما في الكون من أسرار ملغزة، وأضفى دم الشباب المضطرم بالرغبة المكبوتة على مفاتن النساء تصوراً مثالياً، تلك المفاتن التي زدنها إغراء في ذكاء وحكمة باحتجابهن وحيائهن. وفي 1774 نشر السير وليم جونس كتابه "شروح على الشعر العربي" الذي كشف للعقول اليقظة في غربي أوربا عن حب المسلمين للشعر وما ينطوي عليه من رقة وعاطفة مشبوبة. أما أعظم فحول الشعراء العثمانيين في القرن الثامن عشر فهو نديم، الذي تغنى بشعره أيام السلطان محمد الثالث (1703- 30):


إيه أيها الحب الحائر، إن قلبي وروحي ضاعا هباءً



وفرغ مني الصبر وذهب الجلد



ذات مرة كشفت عن صدرها البديع،



فإذا الراحة والسلام يهربان من صدري...



لها خال في خدها وثني، وضفائر وثنية، وعيون وثنية...


أقسم أن دنيا جمالها القاسي بأسرها وثنية خالصة.


ولقد وعدتني بقبلات على نحرها، وبقبلات على صدرها،


ولكن ويلي فقد حنثت الوثنية بوعدها السابق.


يا للرشاقة المحببة التي أبرزت بها غدائرها من تحت طربوشها،


كل مخلوق أبصرها تأمل حسنها مشدوهاً لتوه.


يا قاسية القلب، لأجلك يبكي الرجال وينوحون يأساً،


إن قدك الرقيق لزكي من كل شذى وأبهج من كل لون،


فليت شعري هل أرضعتك وردة عطرة من ثديها.


وأنك لتقبلين أيتها الحلوة وفي إحدى يديك وردة وفي الأخرى كأس.


فلا أدري أي الثلاثة آخذ- الوردة أم الكأس أم أنت.


لكأن نبعاً متدفقاً تفجر من نهر الحياة.


حين طلعت عليَّ بذلك القد اللدن البديع(6).


وكان على النساء الإفادة ما استطعن من قدودهن اللدنة الرشيقة، فمتى ذبلت محاسنهن جر عليهن الزمن ذيول النسيان في زوايا الحريم. وكان لفظ "الحريم" هذا لا يقصر على أزواج الرجل وسراريه، بل ينسحب على كل إناث بيته. وقد ظل الحجاب مضروباً عليهن في القرن الثامن عشر، وكان يسمح لهن بالخروج من الدار، ولكن (بعد 1754) كان عليهن إذا خرجن أن يخفين كل عضو فيهن إلا عيونهن الساحرة، ولا يدخل جناحهن غير الأب، أو الأخ، أو الزوج، أو الابن. وحتى بعد الموت كان المفروض أن يتصل هذا الفصل بين الجنسين في الدار الآخرة. فالمؤمنات لهن جنتهن غير جنة الرجال، والمؤمنون يمضون إلى فردوس آخر ترفه فيه عنهم حور من الجنة أبكار متجددات الشباب. وكانت خيانة المرأة لزوجها تعاقب عقاباً صارماً ويندر حدوثها، وكان العربي يحلف بـ "شرف حريمه" كأغلظ الإيمان(7). وروت الليدي ماري أن النساء التركيات اللاتي سمح لها بلقائهن لم تضقن بالحجاب الذي عزلهن عن الرجال. وقد رأت بعضهن يعدلن في جمال الوجه وحسن القد ورفاهة الطبع "أشهر حساننا الإنجليزيات(8). فلما أذن لها بدخول أحد الحمامات العامة الكثيرة، تبين لها أن النساء يمكن أن يكن جميلات حتى لو تجردن من الثياب. وقد افتتنت على الأخص بنساء الطبقة الراقية في حمام بأدرنة. دعوتها لخلع ملابسها والاستحمام معهن، فاعتذرت. "ولما اشتد إلحاحهن عليَّ اضطررت في النهاية إلى أن أفتح قميصي وأريهن مشدي (الكورسيه)، فأقنعهن هذا تماماً إذ رأيت أنهن اعتقدن أني حبيسة بقيود تلك الآلة بحيث لا أقوى على فتحها، وقد عزون هذه الحيلة لتدبير زوجي. وعلقت إحداهن قائلة "انظرن كم يقسو الأزواج الإنجليز على نسائهن المساكين(9)".

وكان الأتراك فخورين بحماماتهم العامة، يرون أنفسهم على العموم شعباً أنظف من النصارى الكفار. وكان الكثيرون من أفراد الطبقتين العليا والوسطى يختلفون إلى الحمام التركي مرتين في الأسبوع، وأكثر منهم يختلفون مرة في الأسبوع. هناك يجلسون في غرفة ملئت بخاراً حتى يتصببون عرقاً، ثم يأتي عامل فيدعك كل مفصل في أجسامهم ويدلك لحمهم ويكيسه بقطعة من القماش الخشن ثم يغسله. لا عجب إذن إن لم نسمع الكثير عن روماتيزم المفاصل في تركيا. على أن أمراضاً أخرى تفشت بينهم لا سيما الرمد، فالرمال والذباب كانت تنقل العدوى إلى العيون. ولكن الأتراك كما أسلفنا علموا أوربا التطعيم ضد الجدري.

ولم يخامرهم شك في أن مدينتهم تفوق مدنية الأقطار المسيحية. صحيح أنهم سلموا بأن الرق كان أوسع انتشاراً في بلاد المسلمين، ولكنهم لم يروا فرقاً حقيقياً بين الأرقاء في تركيا والأقنان (Serfs) أو الخدم (Servants) في العالم المسيحي، وقد اتفقت معهم في الرأي الليدي ماري واصل اللفظ. وكانوا لا يقلون عنا غلواً في حب الأزهار والعناية بها، فكانت لهم مثلنا مباريات مجموعة في تربية زهرة الطوليب؛ كما شهدت الآستانة في عهد السلطان أحمد الثالث (1703- 30)؛ ويبدو أن الأتراك هم الذين أدخلوا إلى أوربا المسيحية بطريق البندقية وفيينا والأراضي الواطئة أزهار الطوليب والياقوتية (Hyacinth) الشرقية وحوزان الحدائق (ranuneulus) كما أدخلوا أشجار القسطل (أبي فروة)- والميموزا(10).

أما الفن في تركيا فكان الآن في اضمحلال شأنه في معظم الأقطار المسيحية. واعتبر الأتراك أنفسهم أرقى في صناعات الفخار والنسيج والأبسطة والزخرفة وحتى في المعمار. فقد ورثوا عن آبائهم كيف يضفون على التصوير التجريدي منطقاً وتواصلاً ودلالة. وفاخروا ببهاء القاشاني الذي صنعوه (كما يرى على نافورة أحمد الثالث في الآستانة)، وبيريق قرميدهم الذي لا ينطفئ، وبصلابة منسوجاتهم ورقتها" وبتألق أبسطتهم ومتانتها. واشتهرت الأناضول والقوقاز في هذه الحقبة بوبرهما اللامع وتصميم السجاد الهندسي الدقيق، لا سيما سجاجيد الصلاة التي توجه أعمدتها وأقواسها المدببة المصلى الراكع صوب المحراب الذي يشير في كل مسجد إلى قبلة مكة المكرمة. كذلك فضل الأتراك جوامعهم ذات القباب والقرميد والمآذن على أبراج الكاتدرائيات القوطية وعقودها وفخامتها الكابية. وشيدوا حتى في هذه الحقبة المضمحلة المساجد العظيمة في نوري- عثمانية (1748) ولا ليلى- يامسي (1765)، وحاكى أحمد الثالث طراز الحمراء في القصر الذي شيده في عام 1729. أما الآستانة فلعلها كانت أروع العواصم الأوربية، كما كانت أوسعها رقعة برغم شوارعها المتشابكة وأحيائها الفقيرة الكثيرة الضجيج، وكان سكانها البالغون مليونين من الأنفس(11) مثلى سكان لندن، وثلاثة أمثال سكان باريس، وثمانية أمثال سكان روما(12). وحين أطلت الليدي ماري على المدينة والميناء من قصر السفير البريطاني، خيل إليها أنهما "ربما يؤلفان معاً أبهى مشهد في العالم"(13).

على عرش هذه الإمبراطورية العثمانية، من الفرات إلى الأطلنطي، تربع سلاطين عصر الاضمحلال. ولقد نظرنا في موقع آخر من هذا الكتاب(14) في أسباب ذلك الاضمحلال: وهي انتقال تجارة غربي أوربا التي تقصد آسيا، إذ أصبحت تدور حول أفريقيا بحراً بدلاً من طريقها البري الذي كان يختر مصر أو غربي آسيا؛ وتخريب قنوات الري أو إهمالها؛ وتوسع الإمبراطورية وامتدادها إلى مسافات مترامية لا تتيح لها الحكم المركزي الفعال وما ترتب على ذلك من استقلال الباشوات ونزوع الولايات إلى الانفصال؛ وتدهورت الحكومة المركزية لتفشي الرشوة والعجز والكسل، وتمرد الانكشارية المرة تلو المرة على النظام الصارم الذي كان له الفضل فيما بلغوا من قسوة وتسلط القدرية والجمود على الحياة والفكر، وتراخي السلاطين الذين استطابوا خدور النساء وآثروها على ساحات الوغى.

وقد استهل أحمد الثالث حكمه بسماحة للإنكشارية بأن يملوا عليه اختياره لكبير وزرائه (الصدر الأعظم). وهذا الوزير هو الذي قبل رشوة بلغت 230.000 روبل بعد أن قاد 200.000 تركي ضد 38.000 جندي من جيش بطرس الأكبر عند نهر بروت، لقاء سماحه للقيصر المحاصر بالفرار (21 يوليو 1711). وحدث أن حضرت البندقية أهل الجبل الأسود على الثورة على تركيا، فأعلنت هذه الحرب عليها (1715) وأتمت فتح كريت واليونان.. فلما أن تدخلت النمسا، أعلنت تركيا الحرب عليها (1716)، ولكن أوجين أمير سافوا هزم الترك في بترفارداين وأكره السلطان بمقتضى معاهدة بساروفتز (1718) على الجلاء من المجر، والنزول عن بلغراد وأجزاء من ولاشيا للنمسا، وتسليم البندقية حصوناً في ألمانيا ودلماشيا. ولم تسفر المحاولات التي بذلتها تركيا لتعويض هذه الخسائر بالغارات تشنها على فارس إلا على المزيد من النكسات والهزائم، وقد قتل الغوغاء- بقيادة عامل حمام- الوزير إبراهيم باشا وأكرهوا أحم على التنازل عن العرش (1730).

وجدد ابن أخيه محمود الأول (1730- 54) الصراع مع الغرب ليفرض بالحرب تدفق الضرائب وتعاليم الدين، وانتزع جيش تركي أوخاكوف وكلبورون من الروسيا، واسترد جيش آخر بلغراد من النمسا. غير أن اضمحلال تركيا عاود سيرته الأولى في عهد مصطفى الثالث (1757- 74). ففي 1762 أعلنت بلغاريا استقلالها. وفي 1769 خاضت تركيا الحرب مع الروسيا منعاً لانتشار سلطان الروسيا في بولندا. وهكذا بدأ ذلك الصراع الطويل الذي أنزلت فيه جيوش كاترين الكبرى هزائم ساحقة بالأتراك. فلما مات مصطفى أبرم أخوه عبد الحميد الأول (1774- 89) معاهدة مذلة تسمى قجوق قينارجي (1774)، قضت على النفوذ التركي في بولندا وجنوبي الروسيا ومالدافيا وولاشيا، وعلى هيمنة الأتراك على البحر الأسود. وجدد عبد الحميد الحرب في 1787، فهزم هزائم منكرة، ومات كمداً. وكان على تركيا أن تنتظر حتى يجيء كمال باشا (أتاتورك) لينهي قرنين من الفوضى ويجعل منها دولة حديثة.


الإسلام في أفريقيا

بعد أن فتح العثمانيون مصر (1517) أنابوا عنهم في حكمها الباشوات والولاة. وسمحوا للمماليك الذين كانوا يحكمون مصر منذ 1250 بالاحتفاظ بسلطتهم بكوات على السنجقيات الاثنتي عشرة التي قسمت إليها البلاد. وبينما كان الباشوات يبددون عافيتهم في البذخ والترف، درب البكوات جنودهم على الولاء لأشخاصهم. وسرعان ما تحدوا سلطة الولاه المكروهين. وكان أكثر هؤلاء الحكام المحليين إقداماً هو على بك [الكبير]، الذي كان في طفولته قد بيع عبداً. ففي 1766 خلع الباشا وفي 1769 أعلن استقلال مصر. وانتشى بخمرة النصر فقاد جنده المماليك ليفتح جزيرة العرب، واستولى على مكة، واتخذ لقب سلطان مصر وخاقان البحرين (الأحمر والمتوسط). وفي 1771 أوفد "أبا الذهب" على رأس ثلاثين ألف مقاتل لفتح الشام، ففتحها، ولكنه تحالف مع الباب العالي، وقاد جيشه عائداً إلى مصر. وفر على بك إلى عكا، وجند جيشاً آخر، والتقى بقوات أبي الدهب والأتراك، وقاتل حتى أثخن بالجراح فعجز عن المضي في القتال، ووقع في الأسر، ثم قضى نحبه بعد أسبوع (1773). وعادت مصر ولاية عثمانية من جديد.

ودون ذبذبات السلطة ونشوات القتل هذه استطاعت مراكب التجارة وقوافلها، واجتهاد الحرفيين، وفيضان النيل السنوي، وعرق الفلاحين في التربة الطمية الخصبة-استطاعت كلها أن تبقى في مصر على اقتصاد لم يجن ثماره غير قلة حبتها الطبيعية أو الظروف بالكفاية أو المنصب. وأنتج جهد الحقول والبحار ومحصولها طعاماً للمدن وخصوصاً الإسكندرية التي كانت من أعظم الثغور، والقاهرة التي كانت من أكثر العواصم سكاناً في عالم القرن الثامن عشر. وكانت الشوارع ضيقة لتحجب الشمس، وقد زينت بالمشربيات والشرفات التي يستطيع الحريم اختلاس النظر منها إلى الحياة من تحتهن. وكانت الشوارع الكبيرة تعج بالحرف التي تحدت تطفل رأس المال أو إنتاج الآلات. وكانت كل صناعة في أقطار الإسلام فناً، وحلت الجودة محل الكم. فصنع الفقراء التحف والطرف للأغنياء ولكنهم لم يبيعوهم قط آباءهم وعزة نفوسهم.

وقام في القاهرة ثلاثمائة مسجد تدعم فقراءها بالرجاء، وتزين المدينة بالقباب الضخمة والأروقة المعمدة الظليلة والمآذن الشامخة. وكان أحدها وهو الجامع الأزهر جامعة الإسلام الأولى، يؤمه على الطلاب ألفان أو ثلاثة من أقصى بقاع الأرض، من ماليزيا شرقاً إلى المغرب غرباً، ليتعلموا لغة القرآن وعلوم البلاغة والتوحيد والأخلاق والشريعة، وكان خريجو الجامعة يؤلفون جماعة العلماء، ومنهم يختار المعلمون والقضاة. لقد كان نظاماً وضع لسنية صارمة في الدين والأخلاق والسياسة.

وهكذا لم يكد يطرأ على الأخلاق أي تغيير من قرن إلى قرن. وكانت سن بلوغ الأحداث متقدمة عنها في الأقطار الشمالية، فتزوج كثير من البنات في الثانية أو الثالثة عشرة، وبعضهن في العاشرة، وبقاء الفتاة بغير زواج إلى السادسة عشرة كان عاراً. ولم يقدر على تعدد الزوجات الذي أباحته الشريعة الإسلامية إلا أغنياء القوم. أما الزوج الذي تخونه زوجته فلم يكن من حقه الشرعي أن يقتل هذه الزوجة المجرمة فحسب، بل كان يلقى التشجيع من الرأي العام(15). وكان الفكر الإسلامي، كالمسيحي، يعتبر المرأة مصدراً رئيسياً للشر، لا يمكن السيطرة عليه إلا بإخضاعها إخضاعاً صارماً. وكان الأطفال ينشأون على نظام الحريم، فيتعلمون أن يحبوا أمهم وأن يخشوا أباهم ويجلوه، وكانوا كلهم تقريباً يتعلمون ضبط النفس وحين الأدب(16). وساد حسن السلوك جميع الطبقات، مع شيء من يسر الحركة ورشاقتها، لعله أخذ عن النساء اللائي ربما اكتسبنه من حمل الأثقال على رءوسهن. وكان المناخ مانعاً من العجلة مشجعاً على الكسل.

ولم يمنع تعدد الزوجات البغاء، ففي استطاعة البغايا توفير الإثارة التي أخمدها طول الألفة. وتخصصت غواني مصر في الرقصات الفاجرة، وبعض الآثار القديمة تكشف عن قدم هذا الإغراء. وكانت كل مدينة كبرى تخصص للبغايا حياً يمارسن فيه حرفتهن دون خوف من عقاب القانون. وكانت النساء اللائي يحذقن الراقصات الفاجرة، شأنهن في جميع الحضارات، يستأجرن لهز أجسادهن أمام محافل الذكور، وفي بعض الحالات كانت النسوة أيضاً يستمتعن بمشاهدة هذا الرقص(17).

أما الموسيقى فكانت تخدم الحب والحرب، فهي تستفز المهاجمين وتهدي المهزومين. وكان الموسيقيون المحترفون من الجنسين يؤتى بهم للترفيه. كتب إدوارد لين في 1833 يقول "سمعت في القاهرة أعظم الموسيقيين شهرة وأطربتني أغانيهم أكثر من أي موسيقى أخرى استمتعت بها في حياتي(18). وكانت الآلة المفضلة هي "الكمنجة"، وهي ضرب من الفيولا النحيلة، ولها وتران من شعر الخيل على صندوق مصمت مصنوع من جوزة هند شقت بين وسطها ورأسها وغطيت بقشر سمك مشدود . وكان العازف يتربع ويسند طرف الآلة المدبب على الأرض، ويضرب أوتارها بقوس من شعر الحصان وخشب الدردار. أو قد يقعد العازف وفي حجره قانون كبير وينقر الأوتار بريشة من القرن ملصقة بسبابتيه. وتحول العود القديم الآن إلى شكل الجيتار. فإذا أضفت تاياً، وماندولينا، وطمبورينا، اكتمل لك أوركسترا يروق الذوق المتحضر، خيراً من تلك الموسيقى البدائية التي تهيج اليوم المحافل الغربية.

أما "دول البربر" أي البلاد التي زعموا أنها "بربرية" أو همجية-وهي طرابلس وتونس والجزائر ومراكش-فقد دخلت التاريخ في القرن الثامن عشر أولاً بفضل بطولات قراصنتها أو اغتيال "باياتها" أو "داياتها" وقد احتفظت هذه الحكومات باستقلالها الفعلي بإرسالها "الهدايا" بين الحين والحين إلى السلاطين بالآستانة. وكان قوت الشعب يأتي أكثره من الزراعة أو القرصنة، وكانت الفدية التي تؤدى على الأسرى النصارى جزءاً هاماً من الدخل القومي: غير أن قباطنة القراصنة كان أكثرهم نصارى(19). أما الفنون فظلت محتفظة بوجود قلق، ولكن البنائين المغاربة احتفظوا بقدر من المهارة أتاح لهم أن يزركشوا بالقرميد الأزرق والأخضر المتألق "باب منصور" الفخم الذي أضيف في 1732 بوابة بقصر مولاي إسماعيل وجامعه الضخم الذي ابتناه في القرن السابع عشر في مكناس، وكانت آنئذ مقر سلاطين مراكش. أما مولاي إسماعيل هذا فقد أقر النظام في حكمه الذي امتد خمسة وخمسين عاماً (1672-1727) وأنجب مئات الأبناء، ورأى في منجزاته ما يبرر طلب يد ابنة للويس الرابع عشر يضمها إلى حريمه(20). ويصعب علينا أن نسيغ أساليب حياة شديدة التباين ن أساليب حياتنا، ولكن قد يعيننا على ذلك أن نتذكر ملاحظة قالها رحالة مغربي عند عودته من زيارة إلى أوربا "يا لها من متعة أن يعود المرء إلى الحضارة"(21).

الإسلام في فارس 1722-1789

ولو سئل رجل فارسي في هذه الحقبة لأعرب عن شعوره بالراحة شبيه بهذا عند عودته إلى وطنه بعد مقامه حقبة في الأقطار المسيحية أو حتى في أقطار العثمانيين المسلمين. فالفارسي المتعلم حتى سقوط الدولة الصفوية (1736) في أغلب الظن كان يضع المدنية الإيرانية في مرتبة أعلى من أي حضارة معاصرة، ربما باستثناء الصينية. وكان يستنكر النصرانية باعتبارها انتكاساً غلى الشرك الشائع بين العوام. ولعله كان يسلم بتفوق بلاد النصارى في العلوم والتجارة والحرب، ولكنه كان يؤثر الفنون على العلوم، والحرف اليديوة على الصناعة المميكنة.

كان القرن الثامن عشر قرناً أليماً على فارس. فأنى لإيران وقد غزاها الأفغانيون من الجنوب الشرقي، ولاحقتها غارات قناصة العبيد من الأزبك في الشمال الشرقي، وهاجمتها غارات السلب والنهب الروسية في الشمال، واجتاحتها المرة بعد المرة الجيوش التركية في الغرب، وأفقرها طغيان نادر شاه ملكها المحب للأبهة وتعسفه في جميع الضرائب، ومزق أوصالها الصراع الوحشي بين الأسر المتناحرة طمعاً في العرش الفارسي-نقول أني وكيف تستطيع إيران وقد ابتليت بهذا الاضطراب كله أو تواصل التقاليد العظمى للأدب والفن الفارسيين.

وكان البلد الذي نسميه الآن أفغانستان في القرن السادس عشر تتقاسمه ثلاث حكومات: كابول الخاضعة للحكم الهندي، وبلخ الخاضعة للأزبك، وهراة وقندهار الخاضعتان للفرس. وفي 1706-8 ثار أفغانيو قندهار بقيادة مير (أمير) فايز وطردوا الفرس. وغزا ابنه مير محمود فارس، وخلع الحاكم الصفوي حسيناً، ونصب نفسه شاهاً. وقد دعم الدين سلاحه، لأن الأفغانيين كانوا يتبعون المذهب السني، ويكفرون الفرس المتشيعين. وقتل محمود في سورة غضب ثلاثة آلاف من حرس حسين وثلاثمائة من أشراف الفرس، ونحو مائتي طفل اشتبه في أنهم استنكروا قتل آبائهم. وبعد راحة طويلة قتل محمود في يوم واحد (7 فبراير 1725) جميع الأحياء من أفراد الأسرة المالكة خلاً حسيناً واثنين من أبنائه الصغار. ثم التاث عقل محمود، فقتله وهو لا يزال في السابعة والعشرين ابن عمه أشرف (22 أبريل 1725) الذي نادى بنفسه شاهاً. وهكذا بدأ سفك الدماء الذي هد كيان فارس في ذلك القرن.

واستنجد طهماسب بن حسين بروسيا وتركيا، فاستجابت بالاتفاق على اقتسام فارس فيما بينهما (1725). ودخل جيش تركي فارس واستول على همدان وقزوين والمراغة، ولكن هزمه أشرف قرب كرمانشاه. وكان الجنود الأتراك يفتقرون إلى الحماسة، فقد تساءلوا أي سبب يدعوهم لمقاتلة الأفغانيين، وهم أخوة لهم سنيون على شاكلتهم، ليردوا الصفويين الشيعيين الزنادقة إلى الحكم. وتصالح الأتراك مع أشرف ولكنهم احتفظوا بالأقاليم التي فتحوها (1727).

وبدا أن أشرف قد غدا الآن في أمان، ولكن ما مضي عليه عام حتى تحدى سلطانه المغصوب الدخيل ظهور رجل فارسي مغمور انقض على العدو في بضع سنين، فحقق انتصارات من أروع وأفظع ما سجله تاريخ الحروب قاطبة. وقد ولد هذا المقاتل واسمه نادر قيلي (أي عبد الله) في خيمة بشمال شرقي إيران (1686) وكان يعين أباه على رعي ما يملكان من قطعان الغنم والماعز، ولم يتح له من التعليم غير ما لقنته الحياة الشاقة المحفوفة بالمخاطر. فلما بلغ الثامنة عشرة وخلف أباه كبيراً لأسرته اختطفه هو وأمه المغيرون الأزبك وحملوهما إلى خيوة حيث باعوهما عبيداً. وماتت الأم في ذل السر، ولكن نادراً هرب وأصبح زعيماً لعصابة لصوص، واستولى على كالات ونيشابور ومشهد، وأعلن ولاءه وولاء هذه المدن للشاه طهماسب، وتعهد بطرد الأفغانيين من فارس ورد عرش فارس إلى طهماسب. وقد أنجز هذا كله في حملات متلاحقة (1729-30) ورد طهماسب إلى عرشه، فعين نادراً سلطاناً على خراسان وسيستان وكرمان ومازندران.

وما لبث القائد المظفر أن شرع في استرداد الأقاليم التي استولت عليها تركيا. فاستطاع بهزيمة الترك هزيمة فاصلة في همدان (1731) أن يخضع العراق وأزربيجان لحكم الفرس. ثم نمى إليه نبأ تمرد في خراسان، فرفع الحصار عن أروان وزحف ألفاً وأربعمائة ميل عبر العراق وإيران ليحاصر هراة، وهو زحف يتضاءل بالقياس إليه الزاحف الشهير الذي عبر فيه فردريك الأكبر ألمانيا مراراً في حرب السنين السبع. ونزل طهماسب بشخصه أثناء ذلك إلى ساحة القتال ضد الترك فخسر كل ما كسبه نادر، ونزل عن جورجيا وأرمينيا لتركيا نظير تعهد الترك بمساعدته ضد روسيا (1732). فأسرع نادر قافلاً من الشرق وأنهى المعاهدة، وخلع طهماسب وسجنه، وأجلس على العرش غلاماً لطهماسب لم يجاوز عمره ستة أشهر باسم الشاه عباس الثالث، ونادى بنفسه وصياً على الصبي، وأرسل إلى تركيا إعلاناً بالحرب.

ثم زحف على الترك بجيش عدته ثمانون ألف مقاتل جندهم بالإقناع أو بالإرهاب. وعلى مقربة من سامراء التقى بجيش عرمرم من الترك يقودهم توبال عثمان من محفته لبتر ساقيه. وأطلقت النار مرتين على جوادي نادر أسفله، وفر حامل علمه ظناً منه أنه قتل، وانقلبت عليه فرقة عربية كان يعتمد على معونتها، وهكذا كانت هزيمة الفرس هزيمة نكراء ماحقة (18 يوليو 1733). ولكنه لملم فلول جيشه في همدان، وجند آلافاً جدداً، وسلحهم وأطعمهم، ثم كر على الترك وبطش بهم في ليلان في مذبحة رهيبة لقي فيها توبال عثمان حتفه. ثم اندلعت ثورة أخرى في جنوب غربي فارس، فشق نادر طريقه من الغرب إلى الشرق، وهزم الزعيم المتمرد فانتحر. وفي عودته عبر فارس والعراق، التقى بثمانين ألف تركي في بغاوند (1735)، وهزمهم هزيمة نكراء أكرهت تركيا على إبرام صلح نزلت بمقتضاه لفارس عن تفليس وجوندة وأروان.

لم ينس نادر أن بطرس الأكبر هاجم فارس في 1722-23، واستولى على أقاليم جيلان وأستراباد ومازندران على بحر قزوين، وعلى مدينتي دربند وباكو. وكانت روسيا قد ردت الأقاليم الثلاثة لفارس (1732) لانشغالها في جهات أخرى. فهدد نادر الآن (1735) بالتحالفمع تركيا ضد روسيا إن لم تنسحب من دربند وباكو. وعليه سلمت إليه المدينتان، ودخل نادر أصفهان دخول الفاتح الظافر الذي أعاد بناء قوة فارس. فلما مات الصبي عباس الثالث (1736) مختتماً بموت ملك الصفويين، جمع نادر بين الواقع والمظهر، وارتقى العرش باسم نادر شاه.

وكان يؤمن بأن الخلافات الدينية بين تركيا وفارس تعمل على نشوب الحروب المتكررة، لذلك أعلن أن فارس ستتخلى منذ الآن عن بدعة التشيع وترتضي السنية مذهباً لها. فلما أدان زعيم الشيعة هذه الخطوة شنقه نادر بكل هدوء مستطاع. ثم صادر أوقاف قزوين الدينية ليفي بنفقات جيشه لأن فارس على حد قوله مدينة لجيشها أكثر مما هي مدينة لدينها(22). ثم إذ شعر بالحنين إلى الحرب، فأشرك معه في الملك ابنه رضا قلي، ثم قاد جيشاً من 100.000 مقاتل ليفتح به أفغانستان والهند.

وضرب الحصار عاملاً كاملاً حول قندهار. فلما استسلمت له (1738) كان كريماً رحيماً مع المدافعين عنها، حتى أن جيشاً من الأفغانيين انضوى تحت لوائه وظل وفياً له إلى يوم مماته. ثم زحف على كابول مفتاح ممر خيبر، وهناك أعانته الغنائم التي ظفر بها على رفع الروح المعنوية في جيشه. وكان محمد شاه، إمبراطور الهند المغولي، يأبى أن يصدق إمكان الغزو الفرس للهند، وكان أحد ولاته قد قتل مبعوث نادر إليه، فعبر نادر جبال الهملايا، واستولى على بشاور، وعبر السند، وزحف على دلهي حتى لم يعد بينه وبينها سوى ستين ميلاً قبل أن يهب جيشه محمد لمقاومته والتقى الجيشان الهائلان على بطاح كرنال (1739)، واعتمد الهنود على فيلتهم، أما الفرس فقد هاجموا هذه الحيوانات الصبورة بكرات النار، فانقلبت الفيلة هاربة وأشاعت الفوضى في جيش الهنود، وقتل منهم عشرة آلاف، وأسر عدد زاد على القتلى، ويروي نادر أن محمد شاه جاءه يلتمس الرأفة "أمام حضرتنا السماوية". (23) وفرض عليه القائد المنتصر تسليم دلهي وكل ثروتها القابلة للنقل تقريباً، والتي تقدر بـ 87.500.000 جنيه، بما فيها عرش الطاووس الأشهر، الذي كان قد صنع (1628-35) لشاه جيهان في أوج سطوة المغول. وقتل بعض جنود نادر في شغب أحدثه الأهالي، فانتقم بالسماح بجيشه بذبح 100.000 من الوطنيين في سبع ساعات. واعتذر عن هذه الفعلة بتزويج ابنه نصر الله من ابنة محمد. ثم زحف قافلاً إلى فارس لا يعوقه عائق بعد أن أثبت أنه أعظم الفاتحين قاطبة منذ تيمور لنك.

وكان قدره المقدور أنه لو سرح جيشه فربما يعيث فساداً في الأرض ويشق عليه عصا الطاعة، ولو أبقى عليه جيشاً عاملاً فلزام عليه أن يكسوه ويطعمه، وكانت النتيجة التي خلص إليها أن الحرب أرخص له من السلم إذ استطاع خوضها على ساحة غريبة. فمن ترى يكون هدفه الآن؟ وتذكر غارات الأزبك على شمال شرقي فارس، وكيف باعوه عبداً، وكيف ماتت أمه في رقها. وإذن ففي 1740 قاد جيشه زاحفاً على أزبكستان، ولم يكن لأمير بخاري لا القوة ولا الميل للوقوف في وجه نادر، ومن ثم فقد أذعن، وأدى تعويضاً ضخماً، ووافق أن يكون نهر سيحون كما كان في القدم الحد بين أزبكستان وفارس. وكان أخاه خيوه قد أعدم مبعوث نادر، فقتل نادر هذا الخان، وأطلق سراح آلاف من العبيد الفرس والروس (1740).

كان نادر بكل شخصيته مقاتلاً استغرقت الحرب عقله كله، فلم يعد فيه ذرة من الرغببة في الحكم والإدارة. وبات السلام عنده عبئاً ثقيلاً لا يطيقه. وجعلته الغنائم والأسلاب إنساناً جشعاً بخيلاً بدلاً من أن يكون جواداً كريماً. فحين ملأت خزائنه كنوز الهند أعلن تأجيل دفع الضرائب في فارس ثلاث سنين، ثم عدل عن رأيه وأمر بجمع الأموال كما كانت تجمع من قبل، وأفقر جباته فارس كما لو كانت بلداً مغلوباً. ثم خامرته الظنون بأن ابنه يتآمر على خلعه، فأمر بأن تفقأ عيناه. وقال له ابنه رضا قلي "إنك تفقأ عيني بل عيني فارس"(24). وبدأ الفرس يمقتون منقذهم كما تعلم الروس من قبلهم أن يمقتوا بطرس الأكبر. وأثار الزعماء الدينيون عليه بغض أمة طعنت في إيمانها الديني. فحاول أن يخمد التمرد المتعاظم بإعدام المتمردين بالجملة، حتى لقد بنى أهراماً من جماجم ضحاياه. وفي 20 يونيو 1747 اقتحم خيمته أربعة رجال من حرسه وهجموا عليه، فقتل اثنين منهم، ولكن الآخرين صرعاه. وتنفست فارس كلها الصعداء.

وهوت من بعد البلاد إلى درك من الفوضى أسوأ مما تردت فيه أيام سيطرة الأفغانيين. فطالب نفر من خانات الأقاليم بالعرش، وتلا ذلك مباراة في التقتيل والاغتيال. وقنع أحمد خان بتأسيس مملكة أفغانستان الحديثة. أما شاه رخ-الرجل الوسيم اللطيف الرحيم-فقد سملت عيناه بعد اعتلائه العرش بقليل، فتقهقر ليحكم خراسان حتى 1796. وخرج كريم خان منتصراً من الصراع، وأسس الأسرة الزندية (1750) التي احتفظت بسلطانها حتى 1794. واختار كريم شيراز عاصمة لملكه، وزينها بالمباني الجميلة، وساد جنوبي فارس تسعة وعشرين عاماً من نظام وسلام لا بأس بهما. فلما مات جعل التطاحن على السلطة يتخذ من جديد صورة الحرب الأهلية، وعادت الفوضى تضرب أطنابها من جديد.

اختتمت فارس آخر مراحلها الفنية العظمى بسقوط الدولة الصفوية على يد الأفغانيين، فلم تجملها بعد ذلك غير بعض الآثار الفنية الصغيرة. وقد وصف اللورد كرزن مدرسة الشاه حسين (1714) بأصفهان-وكانت كلية لتدريب الدارسين والمحامين-بأنها "من أفخم الأطلال في فارس"(25). وتعجب السير برسي سايكس من "قرميدها البديع... ورسومها المخرقة الجميلة"(26). وكان صناع القرميد لا يزالون أمهر صناعه في العالم بأسره، بيد أن افتقار الطبقات العليا نتيجة للحروب الطويلة قضى على سوق المهارة والتفوق وأكره الخزافين على الهبوط بفنهم إلى مستوى الصناعة. وصنعت أغلفة الكتب الفاخرة من الورق المعجن المصقول. وأنتج النساجون أقمشة مقصبة ومطرزة غاية في الرهافة. وظلت السجاجيد الفارسية تنسج للمحظوظين من شعوب كثيرة رغم أنها شهدت آخر أمجادها في عهد الشاه عباس الأول. وفي يوشاجان، وهراة، وكرمان، وشيراز على الأخص، كان النساجون ينتجون سجاجيد "لا يقلل من روعتها في عين الناظر إلا مقارنتها بأسلافها الكلاسيكية"(27).

أما الشعر الفارسي فقد حطم الفتح الأفغاني قلبه، وتركه أخرس أو كالأخرس طوال حقبة العبودية التالية لهذا الفتح. وحوالي 1750 صنف لطف على بك أدار-قاموساً بسير الشعراء الفرس، اختتم بستين من معاصريه. ومع هذه الوفرة الظاهرة فإنه آسف على ما رآه مجاعة في الكتاب المجيدين في عصره، وعزا ذلك إلى الفوضى والفقر السائدين، "واللذين استشريا بحيث لم يعد لإنسان رغبة في قراءة الشعر فضلاً عن قرضه"(28). ونسوق هنا تجربة نموذجية للشيخ علي حزين اللاهيجي، الذي نظم أربعة دواوين من الشعر، ولكنه أمسك في حصار الأفغانيين لأصفهان، ومات كل أهل بيته في الحصار، وظل هو على قيد الحياة، ثم أفاق من محنته، وهرب من أنقاض المدينة التي كانت رائعة الجمال يوماً ما، وأنفق الأعوام الثلاثة والثلاثين الباقية من أجله في الهند. وقد خلد في "مذكراته" (1742) ذكرى مائة شاعر فارسي في جيله، وأعظمهم في رأيه سيد أحمد هاتف الأصفهاني، ولعل أكثر قصائده ظفراً بالثناء تلك التي أكد فيها بوجد المتصوفة إيمانه بالله رغم الشك والدمار:

"في الكنيسة قلت لفاتنة نصرانية،
يا من يقع القلب في فخك أسيراً،
أنت التي يتعلق كل طرف شعرة من شعري بسدي منطقتك!
إلى متى تضلين الطريق إلى وحدانية الله؟
إلى متى تفرضين على الإله الواحد عار التثليث؟
كيف يتأتى أن تدعي الإله الحق الواحد أباً وابنا وروح القدس؟
فافتر ثغرها الجميل وقالت لي والضحك الحلو يتدفق منها:
إن كنت تعرف سر الإله الواحد فلا ترمني بسبة الكفر!
في ثلاث مرايا يشرق الجمال الأبدي بشعاع من وجهه الساطع.
وبينما نحن في حديثنا هذا انبعثت هذه الأنشودة بجوارنا من جرس الكنيسة:
"إنه إله واحد ولا إله سواه؟
"لا إله إلا الله وحده...
في قلب كل ذرة تشقينها ترين شمساً في الوسط.
إن أنت بذلت لله كل ما تملكين، فلا حسب كافراً
إن أصابك مثقال ذرة من الخسران...
سوف تعبرين الصراط الضيق وتبصرين الملكوت الرحب،
ملكوت الإله الذي لا يحده مكان.. ..
وسوف تسمعين ما لم تسمعه أذن، وترين ما لم تره عين،
حتى يأتوا بك إلى مكان لا تبصرين فيه من الدنيا وأهلها غير واحد أحد
إلى هذا الواحد ستبذلين الحب من قلبك وروحك،
حتى ترى بعين اليقين في جلاء لا خفاء فيه.
إنه إله واحد ولا إله سواه،
لا إله إلا الله وحده"(29).