قصة الحضارة - ول ديورانت - م 10 ك 3 ف 14
صفحة رقم : 13453
قصة الحضارة -> روسو والثورة -> الجنوب الكاثوليكي -> إصلاح الموسيقى -> مقدمة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الرابع عشر: إصلاح الموسيقى
إننا لا نتصور بسهولة يوزف الثاني موسيقياً وهو الرجل المتأهب للمعارك ومع ذلك يقال لنا أنه تلقى "تعليماً موسيقياً دقيقاً شاملاً" إنه كان صاحب صوت جهير رخيم، وكان يستمع إلى حفلة موسيقية كل يوم تقريباً، وكان عازفاً ماهراً على الفيولنشللو والفيولة والكلافير(1). وكان كثير من النبلاء موسيقيين، وأكثر منهم رعاة للموسيقى، وحذت الطبقة الوسطى حذوهم، فكان في كل بيت بيان قيثاري "هاربسيكورد" وتعلم كل إنسان أن يعزف على آلة موسيقية، وعزفت الثلاثيات والرباعيات في الشوارع، والحفلات الموسيقية في المتنزهات ومن زوارق مضاءة على قناة الدانوب في عيد القديس يوحنا. وازدهرت الأوبرا في البلاط وفي مسرح الأوبرا الذي أنشأه يوزف الثاني في 1778.
وارتقت فيينا إلى مقام الصدارة في مطالع القرن التاسع عشر بوصفها العاصمة الموسيقية لأوربا لأنه جمعت في أخريات القرن الثامن عشر بين تقاليد ألمانيا وإيطاليا الموسيقية المتنافسة. فمن ألمانيا جاءت البوليفونية، ومن إيطاليا الميلوديا، ومن ألمانيا جاءت الزنجشبيل-وهو مزيج من الدراما الهزلية والحوار المنطوق والموسيقى العارضة والأغاني الشعبية، ومن إيطاليا جاءت الأوبرا الهازلة، وتحالف الشكلان في فيينا كما نرى في أوبرا موتسارت "الاختطاف من السراي". ويمكن القول عموماً أن التأثير الإيطالي غلب الألماني في فيينا، فلقد غزت إيطاليا النمسا بالألحان كما غزت النمسا شمالي إيطاليا بالسلاح. وفي فيينا كانت الأوبرا الجادة إيطالية في أكثرها، إلى أن جاء جلوك، وجلوك نُشئ على الموسيقى الإيطالية.
كرستوفر فليبالت جلوك 1714 - 1787
ولد في إيرازباخ من أعمال البالاتينات العليا، لحراج كاثوليكي انتقل بأسرته في 1717 إلى نويشلوس ببوهيميا. وتلقى كريستوفر في المدرسة اليسوعية بكوموتاو تعليماً في الدين واللاتينية والآداب القديمة والترتيل والكمان والأرغن والبيان القيثاري. فلما رحل إلى براغ 1732 تلقى دروساً في الفيولنشللو، وتعيش بالترتيل في الكنائس، والعزف على الكمان في المراقص، وإحياء الحفلات الموسيقية في المدن المجاورة.
وكان كل صبي ذكي في بوهيميا ينجذب إلى براغ، واستطاع نفر من ألمعهم شق طريقهم إلى فيينا. واستهدف جلوك الحصول على وظيفة في أوركسترا الأمير فرديناند فون لوبكوفتز. وفي فيينا استمع إلى الأوبرات الإيطالية وأحس جاذبية إيطاليا القوية. وأعجب الأمير فرانشسكو ملتزي بعزمه، فدعاه إلى ميلان (1737). ودرس جلوك التأليف الموسيقي على يد سامارتبني، وتعلق بالأساليب الإيطالية في الموسيقى، وانتهجت أوبراته الأولى (1741-45) نهج الطرائق الإيطالية، وقاد حفلاتها الافتتاحية في إيطاليا. وأتته هذه الخطوات الموفقة بدعوة لتأليف وإخراج أوبرا لمسرح هيماركت في لندن.
وهنا قدم أوبرا La Caduta Degiganti (سقطة العملاق) (1746). ورفضت مصحوبة بمديح هزيل، وقال هندل العجوز الفض أن جلوك لا يعرف "عن الكونترابنت أكثر مما يعرف طباخي"(2) ولكن الطباخ كان صاحب صوت باص-جهير-حسن، ولم يكتب لجلوك أن تعتمد شهرته على الكونترابنت. والتقى برني بجلوك وقال في وصفه "إن له مزاجاً في شراسة مزاج هندل. ويشوهه الجدري تشويهاً رهيباً..وله جهمة كريهة"(3). وأذاع جلوك على الجماهير-ربما لموازنة ميزانيته-أنه سيقدم "كونشرتو على ست وعشرين كأس شراب ضبطت (بملئها إلى مستويات مختلفة) بماء نبع تصاحبها فرقة موسيقية كاملة (أوركسترا)، لأن هذه آلة موسيقية جديدة من اختراعه يعزف عليها كل ما يمكن عزفه على الكمان أو بيان قيثاري". ومثل هذه "الهارمونيكا الزجاجية أو الكؤوس الموسيقية" كانت قد أدخلت في دبلن قبل سنتين. واستحضر جلوك الأنغام بلمس حواف الكؤوس بإصبعه المبللة. واستهوى الحفل (23 إبريل 1746) أصحاب الفضول، فكرر بعد أسبوع.
وغادر جلوك لندن قاصداً باريس في 26 ديسمبر وهو مبتئس بهذا النجاح. وهناك درس أوبرات رامو الذي كان قد اتجه إلى الإصلاح بإدماج الموسيقى والباليه بالحركة. وفي سبتمبر قاد الأوبرات في همبورج واتصل في علاقة غرام مع مغنية إيطالية وأصيب بالزهري. وكان شفاؤه بطيئاً جداً، حتى أنه حين ذهب إلى كوبنهاجن كان عاجزاً عن قيادة الأوركسترا. ثم عاد إلى فيينا، وتزوج ماريان برجيا (15 سبتمبر 1750) ابنة تاجر غني. وقد منحه صداقها الأمن المالي فاتخذ بيتاً في فيينا، واختفى عن الأنظار في استجمام طويل.
وفي سبتمبر 1754 عينه الكونت مارتشالو دوراتزو قائداً للأوركسترا نظير ألفي فلورن في العام ليلحن للبلاط. وكان دواتزو قد مل الأوبرا الإيطالية التقليدية، فتعاون مع جلوك في دراما موسيقية سميت L'innocenza Giustificata (البراءة المبررة) لم تكن القصة مجرد تكئة للموسيقى، ولا موسيقى مجرد تجميع الألحان، إنما الموسيقى تعكس الحركة، والألحان حتى الكوراس-تدخل في الحبكة دخولاً فيه شيء من المنطق. وهكذا كانت حفلة الافتتاح (8 ديسمبر 1755) البشير والنتاج الأول للإصلاح الذي يقرن التاريخ بينه وبين اسم جلوك. وقد رأينا في موضع سابق مساهمات بنديتو مارتشللو وجومللي وترايتا في هذا التطور، والنداء الذي وجهه روسو وفولتير والموسوعيون لربط أوثق بين الدراما والموسيقى. وكان مناستازيو قد أعان عليه بإصراره في إباء على أن الموسيقى يجب أن تكون خادمة للشعر(4).وربما تأثر جلوك بشغف فنكلمان بإحياء المثل الإغريقية في الفن، وكان الملحنون يعرفون أن الأوبرا الإيطالية كمحاولة لإحياء الدراما الكلاسيكية التي أخضعت موسيقاها للتمثيلية وكان جان-جورج نوفير أثناء ذلك ينادي (1760) بالتسامي بالباليه من مجرد الرقص الإيقاعي إلى الإيماء الدرامي المعبر عن "عواطف كل شعوب الأرض وعاداتهم وتقاليدهم ومراسمهم وأزيائهم(5)". ونسج جلوك هذه العناصر كلها في شكل أوبراوي جديد بفضل ما أوتي من كيمياء العبقرية العجيبة.
إن من أسرار المرء أن يغتنم الفرصة إذا سنحت. فما الذي حدا بجلوك إلى هجر نصوص أوبرات متاستازيو ويتخذ رانييرو دا كالتابيجي شاعراً لأوبرا "أورفير وأورديتشني"؟ لقد ولد كالزابيجي في ليفورنو. وبعد مغامرات في الحب والمال وفد على باريس ونشر هناك ترجمة لــ"الشعر الدرامي" لمتاستازيو (1755) وقدم لها بــ"رسالة" أعرب فيها عن أمله في ظهور نوع جديد من الأوبرا-"كل مبهج يكون خلاصة التفاعل بين كورس كبير وبين الرقص والحركة التمثيلية التي يتحد فيها الشعر والموسيقى بطريقة رائعة(6)". فلما انتقل إلى فيينا أثار اهتمام دوراتزو بأفكاره عن الأوبرا، ودعاه الكونت ليكتب نصاً لأوبرا، فكتب.."أورفيو وأورديتشي". وعرض دوراتزو القصيدة على جلوك، فرأى في الحبكة البسيطة الموحدة موضوعاً يمكن أن يبتعث كل طاقاته.
وقدمت النتيجة لفيينا في 5 أكتوبر 1762. واستطاع جلوك أن يجند لدور أورفيوس أكبر المغنين الخصيان ذوي الصوت الكونترالتو وهو جاتيانو جواديني. أما القصة فقديمة قدم الأوبرا، وقد استعملها أكثر من عشرة كتاب لنصوص الأوبرا بين 1600، 1761، واستطاع جمهور السامعين تتبع الحركة دون أن يفقهوا الإيطالية. واستغنت الموسيقى عن السرد الذي لا يصاحبه العزف، والألحان الأساسية المعادة، (da capo)، والزخارف والمحسنات، وفيما عدا ذلك نهجت نهج الأسلوب الإيطالي ولكنها سمت إلى آفاق غنائية فيها من النقاء ما ندر أن بلغه أحد من قبل ولا من بعد. وصرخة اليأس المنبعثة من أورفيوس بعد أن أفقده الموت حبيبته مرة ثانية؟ Che Faro Sanz Euridice "ماذا أفعل بدون أورديتشي"؟ ما تزال أجمل ألحان الأوبرا قاطبة، ونحن حين نسمع هذا اللحن، ولحن القلوب الحزين في "رقصة الأرواح المباركة" تعجب كيف وجد هذا البوهيمي العاصف هذه الرهافة في روحه.
ولم تلقَ أورفيو استقبالاً حاراً في فيينا؛ ولكن ماريا تريزا تأثرت بها تأثيراً عميقاً وأرسلت إلى جلوك صندوق سعوط محشواً بالدوقاتيات. وما لبث أن اختير لتعليم الغناء للأرشيدوقة ماريا أنطونيا. وكان أثناء ذلك مكباً هو وكالزابيجي على تأليف أوبرا عدها البعض أكمل ما ألفاه من أوبرات، وهي "السيست". وقد أعلن المؤلف في مقدمة النسخة المنشورة كتبها كلزابيجي لجلوك مبادئ إصلاحه للأوبرا. قال:
"حين اضطلعت بكتابة الموسيقى لألسيست صممت على أن أجردها تماماً من كل تلك المساوئ..التي طالما شوهت الأوبرا الإيطالية..وقد جهدت لأقصر الموسيقى على وظيفتها الحقيقية وهي خدمة الشعر بالتعبير وبمتابعة مواقف القصة دون قطع الحركة المسرحية أو خنقها بحشو لا غناء فيه من التعليقات. ولم أرَ أن من واجبي أن أمر مرور الكرام بالقسم الثاني من لحن ما، ربما كانت كلماته آخر وأهم الكلمات-لكي أعيد بانتظام...كلمات القسم الأول...وقد أحسست أن الافتتاحية يجب أن تحيط المتفرجين بطبيعة الحركة التي ستقدم لهم وتكون-إن شئت-خلاصتها.., أن الآلات الأوركسترالية يجب أن تدخل متناسبة مه أهمية الكلمات وقوتها ولا تترك ذلك التناقض الحاد بين اللحن والسرد في الحوار...الذي يشوه بشكل غشوم قوة الحركة وحرارتها...وقد آمنت بأن جهدي الأعظم يجب أن ينصرف إلى البحث عن البساطة الجميلة(7)".
وباختصار، يجب أن تخدم الموسيقى الدراما وتزيد من حدتها، لا أن تجعل منها مجرد تكئة للعروض الصوتية أو الأوركسترالية. وقد عبر جلوك عن الأمر تعبيراً فيه غلو بقوله "أنني أحاول أن أنسى أنني موسيقي(8)"، وأن عليه أن يندمج مع كاتب النص في تأليف "دراما بالموسيقى". "وقصة السست تمتنع قليلاً على التصديق، ولكن جلوك أنقذها بافتتاحية قاتمة سبقت بتصوير الحركة المأساوية وأفضت إليها، وبمشاهد عاطفية مؤثرة بين السست وأطفالها، وبدعائها لآلهة العالم السفلي في لحن "أرباب ستاكس"، وبالكروالات الجليلة والمجموعات الفخمة. واستمع جمهور فيينا لهذه الأوبرا في ستين حفلة بين الافتتاح في 16 ديسمبر 1767 و1779. ولكن النقاد وجدوا فيها أخطاء كثيرة، أما المغنون فشكوا من أنها لم تفسح لهم المجال الكافي لعرض فنهم.
وبذل الشاعر والمؤلف محاولة ثانية في أوبرا "باريز وهيلانة" (30 نوفمبر 1770). وقد اقتبس كلزابيجي الحبكة من أوفيد الذي جعل من قصة باريز وهيلانة مغامرة غرامية شخصية بدل أن تكون فاجعة دولية. وعرضت الأوبرا عشرين مرة في فيينا، ومرة في نابلي، ولم تعرض في غيرهما. وتحمل كالزبيجي تبعة هذا الفشل النسبي، وطلق كتابة النصوص الأوبرات. وراح جلوك يبحث عن تربة يلقي فيها بذرته. وأشار عليه صديق في السفارة الفرنسية في فيينا يدعى فرانسوا دي رولليه أن يقدم لجماهير باريس تحية يرحبون بها، في صورة أوبرا فرنسية يضع موسيقاها مؤلف ألماني. وعملاً باقتراحات لديدرو وألجاروتي أشار فيها بأن تمثيلية راسين "إفجييني" تتيح موضوعاً مثالياً للأوبرا صاغ دورولليه التمثيلية نصاً لأوبرا وقدمها لجلوك..ورأى جلوك مادتها متفقة تمام الاتفاق مع ذوقه فعكف على العمل من فوره.
ورغبة في تمهيد الطريق إلى باريس وجه دورولليه خطاباً إلى مدير دار الأوبرا نشر في المركيز دفرانس أول أغسطس 1772-ذكر فيه أن "مسيو جلوش" كان ساخطاً أشد السخط على الزعم بأن اللغة الفرنسية لا تتلاءم مع الموسيقى، وأنه اقترح إثبات العكس بــ"إفجييني في أوليد". ولطف جلوك من غضب روسو المتوقع (وكان يومها يعيش منزوياً في باريس) بأن أرسل إلى المركيز خطاباً (أول فبراير 1773) أعرب فيه عن أمله في التشاور مع روسو حول "الوسيلة التي أنوي اتخاذها لإخراج موسيقى صالحة لجميع الأمم، وإزالة فوارق الموسيقى الوطنية السخيفة(9)". واستكملاً لهذا الإعلان الذي يبلغ الغاية في البراعة، استعملت ماري أنطوانيت-التي لن تنس أستاذها القديم-نفوذها في دار الأوبرا. ووافق مديرها على إخراج "إفجيني"، وحضر جلوك إلى باريس، وألزم المغنين وأوركسترا ببروفات بلغت من الشدة والانضباط حداً ندر أن عرفوه من قبل. وتبين أن صوفي أرنوا كبيرة المغنيات متمردة على أوامره فهدد بالإقلاع عن المشروع. وبدا أن جوزيف لجرو قد أضعفه المرض إلى حد منعه من تمثيل دور الجبار أخيل: "أما جانتان فستري" إله الرقص وقتها، فأراد أن يكون نصف الأوبرا باليهاً(10). وشد جلوك شعره، أو قل باروكته، وأصر على موقفه، وانتصر. وكانت حفلة الافتتاح (19 إبريل 1774) حدث العالم الموسيقي المثير. وقد نحس بما كانت عليه العاصمة الجياشة من هياج إذا قرأنا خطاب ماري أنطوانيت لأختها ماريا كرستينا في بروكسل. قالت:
"إنه نصر عظيم يا عزيزتي كرستين، إن الحماسة تجرفني، ولم يعد الناس يتكلمون على شيء غير هذا. وكل الرؤوس تجيش نتيجة لهذا الحدث...فهناك إنشقاقات ونزعات أشبه بالنزاع الديني. ومع أنني أعلنت في البلاط أنني في صف هذا العمل الملهم، فإن هناك تحريات ومناقشات شديدة الحيوية. أما في المدينة فيبدوا أن الحال أسوأ من هذا(11)".
ورد روسو تحية جلوك بإعلانه أن "أوبرا مسيو جلوك قلبت كل أفكاره رأسا على عقب، وقد اقتنع الآن أن اللغة الفرنسية تستطيع أن تنسجم كأي لغة أخرى مع الموسيقى القوية المؤثرة الحساسة(12). وكانت الافتتاحية رائعة حتى أن الجمهور في الليلة الأولى طالب بإعادتها ووجه النقد للألحان لأنها مسرفة في الطول، ولأنها تقطع سير الدراما، ولكنها تميزت بعمق مركب الشعور تفردت به موسيقى جلوك. وقد قال الأبيه أرنو عن أحدها وهو "أجاممنون" "بمثل هذا اللحن قد يؤسس المرء دينا(13)".
ونافس جلوك الآن لويس الخامس عشر المحتضر محوراً لحديث باريس. وكان بدنه الضخم القوي ووجهه الأحمر وانفه الكبير يشار إليها كلها حيثما ذهب. وأصبح طبعة الغضوب موضوعاً الغضوب موضوعاً لعشرات النوادر. ورمم له جروز صورة ظهرت فيها طبيعته الطيبة المرحلة من خلف خطوط النضال والتوتر. وراح يأكل كما يأكل الدكتور جونسون، ويسرف في الشراب إسرافاً لا يبرزه فيه غير بوزويل، ولم يتظاهر باحتقار المال، وكان يبادر للاشتراك في الثناء على عمله. وقد عامل الحاشية وعامة الناس معاملة واحدة باعتبارهم أدبي منه قدراً، وكان ينتظر من كبار النبلاء أن يناولوه باروكته ومعطفه وعصاه، ولما قدم إليه أحد الأمراء فلم يبرح جلوك مقعده علل سلوكه هذا بقوله "لقد ألف الناس في ألمانيا ألا يقوم الواحد منهم إلا لمن يحترمه(14)".
وكان مدير الأوبرا قد أنذروه بأنه في حالة نجاح "إفجيني وأوليد"، فسيضطر جلوك إلى كتابة خمس أوبرات أخرى في تعاقب سريع، لأن إفجيني ستطرد جميع الأوبرات الأخرى من المسرح. ولم يرهب الإنذار جلوك أنه اعتاد أن يقتطع أجزاء من مؤلفاته القديمة ويحشرها في الجديدة وترجمت له "اورفيو واوريديتشي" إلى الفريسة، ولما لم يجد مغنياً كفوءاً ذا صوت رنان "كونترالتو" في متناوله، أعاد كتابة دور اورفيو لليجرو ذي الصوت الصارخ (التينور). أما صوفي أرنو التي لانت عريكتها الآن فقد لعبت دور اوريديتشي. ونجحت حفلة الافتتاح الباريسية نجاحاً ادفأ صدره. وجادت ماري أنطوانيت، ملكة فرنسا الآن، بمعاش قدره ستة آلاف فرنك لـــ"عزيزي جلوك"(15). وقفل إلى فيينا ورأسه يطاول النجوم.
وفي مارس 1776 عاد إلى باريس بترجمة فرنسية لألسست، أخرجت فلم تلق غير استحسان متوسط في 23 إبريل. أما جلوك الذي تعود النجاح فقد استجاب لهذه النكسة بكبرياء غاضبة وقال "ليست ألسست من نوع الأعمال التي تسر الجمهور سروراً مؤقتاً، أو التي تسرهم لجدتها.
فليس للزمن عليها سلطان. وأنا أزعم أنها ستسر السامعين نفس السرور بعد مائتي عام إذا لم يطرأ على اللغة الفرنسية تغيير"(16). وفي يونيو عاد إلى فيينا، وسرعان ما بدأ يلحن النص الذي كتبه مارمونتيل من جديد لمسرحية "رولان" التي سبق أن كتب نصها كينو.
وبدأت الآن أشهر المعارك في تاريخ الأوبرا. ذلك أن إدارة الأوبرا كانت أثناء هذا قد كلفت نيكولوبتشيني النابولي بتلحين النص ذاته، وأن يحضر إلى باريس ويخرجه. وحضر (31 ديسمبر 1776)، فلما أنبئ جلوك بهذا التكليف أرسل إلى درولليه الذي كان بباريس آنذاك خطاباً يضطرم بغضبه أولمبية: "لقد تلقيت للتو خطابك الذي...ناشدتني فيه مواصلة تلحين أوبرا "رولان". ولكن هذا لم يعد ممكناً، لأنني حين سمعت أن إدارة الأوبرا التي لم تجهل أنني ألحن رولان كلفت بهذا العمل ذاته مسيوبتشيني، أحرقت كل ما كتبت منه، ولعله لم يكن يساوي الكثير...وأنا لم أعد رجلاً يدخل في منافسة، وسكون للمسيو بيتشيني ميزة كبيرة جداً عليّ لأنه بغض النظر عن كفايته الشخصية وهي بلا شك عظيمة جداً-سيكون له ميزة الجدة...وأنا واثق أن سياسياً معيناً من معارفي سيقدم الغذاء والعشاء لثلاثة أرباع باريس ليكسب له أنصاراً(17).
ولأسباب ليست الآن واضحة نشر هذا الخطاب-الذي كان من الواضح إنه خطاب خاص-في "الأنية ليترير" عدد فبراير 1777 فأصبح عن غير قصد إعلاناً للحرب.
ووصل جلوك إلى باريس في 29 مايو ومعه أوبرا جديدة هي "أرميد" والتقى المؤلفان الغريمان على الغداء، فتعانقا وتحدثا حديثاً ودياً. وكان بتشيني قد حضر إلى فرنسا دون أن يخطر له أنه سيكون بيدقاً في مؤامرة حزبية قذرة وتجارة أوبرالية، كان هو شخصياً شديد الإعجاب بفن جلوك. ولكن الحزب مضت في الصالونات والمقاهي، وفي الشوارع والبيوت، رغم ما بين الغريمين من مودة؛ وروى تشارلز ببرني أنه "ما من باب فتح لزائر دون أن يوجه إليه هذا السؤال قبل يسمح له بالدخول: سيدي أأنت من أنصار بتشيني أم من أنصار جلوك(18)؟" أما مارمونتيل ودالامبير ولاهارب فقد تزعموا الحزب المناصر لبتشيني والأسلوب الإيطالي، وأما الأبيه أرنو فقد دافع فقد دافع عن جلوك في "إعلان للإيمان بالموسيقى"، وأما روسو، الذي كان قد افتتح الحرب بمقاله المناصر للموسيقى الإيطالية "في الموسيقى الفرنسية"(1753)، فقد ناصر جلوك.
وأخرجت أرميد في 23 سبتمبر 1777. وكان موضوعها وموسيقاها رجوعاً إلى أشكال رسخت قبل إصلاح جلوك، وقد اقتبست القصة من تاسو، ومجدت رينالد والمسيحي وأرميدا الوثنية، وكانت الموسيقى موسيقى لوللي معادة برقة رومانسية، وأما الباليه فباليه نوفير في أروعه، وأعجب هذا المزيج الجمهور فاستقبل الأوبرا استقبالاً حسناً، ولكن انصار بيتشيني نددوا بأرميد قائلين إنها ليست سوى صقل للوللي ورامو. وانتظروا في شوق أوبرا رولان الذي كان يلحنها حامل لوائهم. وأهداها بيتشيني إلى ماري أنطوانيت مشفوعة باعتذاراته: لقد كنت في حاجة لكل شجاعتي وأنا مزدرع ومعزول في بلد كل شيء فيه جديد عليّ تفت في عضدي مئات العقبات المعترضة علي، ولقد فارقتني شجاعتي(19). وكان أحياناً يوشك أن يكف عن النضال ويعود إلى إيطاليا. ولكنه ثابر، ووجد عزاء في نجاح حفلة العرض الأولى (27 يناير 1778). وبدا أن الانتصارين يلغي أحدهما الآخر. وواصلت الحرب السافرة احتدامها. وقد رأتها مدام فيجيه لبرون رأى العين فقالت "كانت ساحة القتال العادية هي حديقة الباليه رويال. فهناك كان أنصار جلوك وبيتشيني يتشاجرون مشاجرات بلغ من عنفها أنها أفضت إلى مبارزات كثيرة.
وعاد جلوك إلى فيينا في مارس، وتخلف في فرتية ليرى فولتير. ثم صحب معه إلى بيته نصين أولهما كتبه نيكولا-فرانسوا جيار وبناه على مسرحية أوربيدس "إفجيني في تاورس". أما الثاني فكتبه البارون جان-باتيس وتشودي عن موضوع الصدى ونارسيس. وعكف على الكتابين فما حل خريف 1778 حتى شعر أنه على استعداد لخوض معركة أخرى. وهكذا نجده في نوفمبر في باريس مرة أخرى، وفي 18 مايو 1779 قدم في دار الأوبرا أوبرا "إفجيني في تاوريد" التي يعدها معظم الطلاب أعظم مؤلفاته الموسيقية. وهي قصة قاتمة، وكثير من موسيقاها شكاة رتيبة، ونحن نمل أحياناً لنواح إفجيني العالي. ولكن حين ينتهي العرض ويسكت سحر الموسيقى والأبيات عقلنا الشكاك ندرك أننا استمعنا إلى دراما عميقة قوية. وقد لاحظ معاصران أن فيها فقرات كثيرة رائعة، أما الأبيه أرنو فقال "إن فيها فقرة رائعة واحدة فقط، هي العمل كله(21)". واستقبل الجمهور العرض الأول للأوبرا بحماسة بالغة.
على أن جلوك تحدى الآلهة، فتعجل بتقديم أوبراه الثانية "الصدى ونارسيس" (21 سبتمبر 1779). ولكنها فشلت، فغادر المايسترو باريس في غضبة مضرية معلناً أنه شبع من باريس وأنه لن يكتب مزيداً من الأوبرات. ولو أطال مكثه فيها لسمع "إفجيني في تاورند". أخرى أخرجها بتشيني بعد عامين من الجهد الشاق. واستقبل الجمهور العرض الأول (23 يناير 1780) استقبالاً حسناً، ولكن في الليلة الثانية كانت الآنسة لا جير التي غنت دور إفجيني مخمورة بصورة واضحة حتى لقد حطمت صوفي أرنو العرض بتلقيها الأوبرا "إفجيني في شمبانيا(22)". وأنهى هذا الحادث المؤسف الحرب الأوبرالية، واعترف بيتشيني بهزيمته اعترافاً جميلاً.
أما جلوك فقد حلم في فيينا بانتصارات أخرى. ففي 10 فبراير 1880 كتب إلى كارل أوجست دوق ساكسي-فيمار راعي جوته: لقد شخت كثيراً، وقد بعثرت خير طاقات ذهني على الأمة الفرنسية. ولكني أشعر بدافع باطني يدفعني لكتابة شيء لبلدي(23). ثم لحن بعض أناشيد كلويشتوك التي مهدت الطريق لأجمل الليدات. وفي 1781 أصيب بالنقطة، ولكن كان عزاء له استقبال فيينا لإفجيني في تاروس وأحياء "أورفيو والسست". وفي 15 نوفمبر 1787 بينما كان يستضيف جماعة من أصدقائه تعاطى في جرعة واحدة قدحاً من مسكر قوي كان محظوراً عليه. وأصابته تشنجات لم تمهله غير ساعات. وحاول بتشيني وهو في نابلي دون جدوى جمع المال لإحياء حفلات موسيقية سنوية تذكاراً لمنافسه(24). ذلك أن إيطاليا التي كانت تحبذ الميلوديا لم تأبه بإصلاحات جلوك: ونهج موتسارت نهج الإيطاليين، ولابد أنه صعق لفكرة تسخير الموسيقى للشعر. أما هردر الذي جاء في ختام هذه الفترة الخلاقة والذي رجع البصر إليها بمعرفة محدودة بباخ وهايدن وموتسارت فقد وصف جلوك بأنه أعظم ملحني القرن قاطبة(25).
يوزف هايدن 1732 - 1809
من الأيسر علينا أن نحب هايدن، فهاهنا رجل لم يتشاجر مع إنسان غير زوجته، رجل يشيد بمنافسيه كأنهم أصدقاؤه، رجل أشرب موسيقاه بالمرح، وكان بمزاجه الفطري عاجزاً عن المأساة.
ولم يحبه الحظ شرف المولد. فقد كان أبوه صانع عربات ونقاشاً في روراو، وهي مدينة صغيرة على الحدود بين النمسا والمجر. أما أمه فكانت طاهية لأشراف هاراش وكان أبواه كلاهما من أصل سلافي كرواتي لا ألماني. وكثير من ألحان هايدن تردد صدى الأغاني الكرواتية. وكان الثاني بين اثني عشر طفلاً مات ستة منهم في مستهل طفولتهم. وقد عمد باسم فرانتس يوزف هايدن، ولكن كان من المألوف يومها أن ينادى الأطفال باسمهم الثاني.
فلما ناهز السادسة أرسل ليعيش مع قرب يدعى يوهان ماتياس فرانك، صاحب مدرسة في هاينبورج. هناك كان يومه يبدأ بدروس في الفصل من الساعة السابعة إلى العاشرة، ويلي القداس، ثم الرجوع للبيت لتناول الغداء، ثم دروس من الثانية عشرة إلى الثالثة، ثم دروس في الموسيقى. وقد درب على التدين ولم يفقده قط. وكانت أمه تتوق إلى تخرجه قسيساً، وأحزنها حزناً عميقاً اختياره حياة الموسيقى التي لا ضمان لاستقرارها. على أن فرانك شجع ميل الطفل للموسيقى وعلمه كل ما في طاقته أن يتعلمه، وألزمه نظاماً صارماً للدرس. وقد ذكر هايدن في شيخوخته هذا الرجل وغفر له قائلاً "سأكون ما حييت شاكراً لذلك الرجل أنه الزمني العكوف على العمل وإن اعتدت أن أنال من الجلد أكثر مما أنال من الطعام(26)". وبعد أن قضى يوزف عامين مع فرانك أخذه إلى فيينا جبورج روتير، مدير فرقة المرتلين في كاتدرائية القديس اسطفانوس، ورأى رويتر إن صوته "الضعيف الحلو" قد يجد مكاناً متواضعاً في فرقة المرتلين. وهكذا ذهب الغلام الحيي المشتاق ليعيش في مدرسة المرتلين "الكانتوربي" الملحقة بالكاتدرائية. وهناك كان يتلقى دروساً في الحساب والكتابة واللاتينية والترتيل والكمان. ورتل في الكاتدرائية وفي المصلى الإمبراطوري، ولكنه كان لا ينال إلا أتفه الغذاء، فكان يرحب بدعوات للغناء في البيوت الخاصة يستطيع أن يملأ معدته فضلاً عن إنشاد أغانيه.
وفي 1745 أنظم إليه في مدرسة المرتلين أخوه ميخائيل الذي كان يصغره بخمس سنين. وحوالي هذا التاريخ بدأ صوت يوزف يصبح أجش، فعرض عليه أن يخصى ليحتفظ بصوته السوبرانو، ولكن أبويه لم يوافقا. واحتفظ به رويتر أطول ما يستطيع، وأخيراً في 1748 وجد يوزف نفسه وهو في السادسة عشرة حراً ومفلساً، لم يؤت من حسن السمت وجاذبيته ما يكسبه رضى الحظ عنه. فقد نقر الجدري وجهه، وكان أنفه بارزاً، وساقاه أقصر مما يناسب جسمه، ولباسه رثاً، ومشيته لا رشاقة فيها، ومسلكه خجولاً متردداً. ولم يكن بعد قد حذق العزف على أي آلة، ولكنه كان في تلك الآونة يقلب الألحان في رأسه.
وعرض عليه زميل في صف المرتلين حجرة على السطح، وأقرضه أنطوان بوخهولتز 150 فلوريناً ردها إليه هايدن الأمين فيما بعد. وكان عليه أن يجلب الماء صعداً إلى حجرته العليا كل يوم، ولكنه حصل على كلافير (لوحة مفاتيح) قديم، وبدأ يعلم بعض التلاميذ، فأعانه هذا على الحياة. وكان أكثر الأيام يعمل ست عشرة ساعة بل أكثر، ويعزف على الكمان في الكنيسة، ثم على الأرغن في مصلى خاص للكونت هاوجفتز وزير ماريا تريزا، ويغني بصوت التينور بين آن وآخر في كاتدرائية القديس اسطفانوس. وكان لمناستازيو الشهير شقة في الميناء ذاته فحصل لهايدن على وظيفة معلم موسيقى لابنة صديق له، وعن طريق مناستازيو التقى هايدن ببوربورا، ووافق هايدن على أن يخدم أمير معلمي الغناء هذا على أي وجه شاء مقابل تعليمه التأليف الموسيقي. ثم تلقى دروس التأليف الثمينة، وكان ينظف حذاء المايسترو ومعطفه وباروكته ويقوم بمصاحبة بوربورا وتلاميذه على الكلافير. وقد قال هايدن وهو يذكر تلك الأيام فيما بعد "يستطيع الشباب أن يتعلموا من أن شيئاً يمكن أن يخرج من لا شيء. فكل ما أنا عليه الآن إنما هو ثمرة أوقات الشدة التي عانيتها(27)".
وعن طريق أصدقائه الجدد تعرف إلى جلوك، ودترزدورف وعدة أفراد من النبلاء. وأخذ كارل يوزف فون فورنبرج (1755) ليمكث معه طويلاً في بيته الريفي-فيتزيرل-بقرب ملك، هناك وجد هايدن أوركسترا من ثمانية عازفين واتسع بعض الفراغ للتأليف. فكتب الآن أولى رباعياته. ثم أضاف إلى هيكل الصوناتا المكون من ثلاث حركات والذي نقله عن كارل فيليب إيمانويل باخ منويتا، ودون الحركات الأربع لقطع أربع، ثم أعطى الآلية شكلها الحديث. وعاد إلى فيينا في 1756 ولفت أنظار نفر من التلاميذ النبلاء مثل الكونتيسة فون تون. ثم قبل (1759) وظيفة مدير الموسيقى للكونت مكسمليان فون مورتزن الذي كان أوركستراه الخاص المؤلف من اثني عشر إلى ستة عشر عازفاً يعزف في فيينا شتاءً، وفي فيللا الكونت بلوكافيك ببوهيميا صيفاً. ولهذه المجموعة كتب هايدن أولى سمفونياته (1759).
وإذ كان يكسب الآن مائتي فلورين في العام يضاف إليها المسكن والمأكل، فقد رأى أن في وسعه المغامرة بالزواج. وكان من بين تلاميذه ابنتان لصانع باروكات. فأغرم بالصغرى ولكنها ترهبت، وأقنع الأب هايدن بأن يتزوج شقيقتها ماريا أنا (1760). وكانت في الحادية والثلاثين وهو في الثامنة والعشرين. وتبين أنها مشاغبة متعصبة مسرفة عقيم. يقول هايدن "لا يهمها مثقال ذرة أن كان زوجها فناناً أو إسكافياً(28)". وبدأ ينظر إلى غيرها من النساء.
وكان يختلف إلى بيت مورتزن أحياناً للاستماع إلى الموسيقي الأمير يال أنطوان استرهاتسي. فلما حل مورتزن أوركستراه أستخدم الأمير هايدن (1761) مساعداً لمدير الموسيقى في مقره الريفي بأيزنشتات في المجر. ونص العقد على أن يتقاضى هايدن أربعمائة فلورن في العام بالإضافة إلى مكان على مائدة الموظفين، و "يلاحظ بصفة خاصة أنه حين يدعي الأوركسترا للأداء أما جمهور أن يبدو الموسيقيون في بزة رسمية مرتدين الجوارب الطويلة البيضاء والقمصان البيضاء...وضفيرة أو باروكة(29)". وفي أيزنشتات كان رئيس فرقة المرتلين جريجور فرنر عاكفاً على الموسيقى الكنسية، فجهز هايدن الحفلات وألف لها الموسيقى. وكان يترأس على أربعة عشر موسيقياً وسبعة مغنين وكورس أختير من بين خدم المير. وقد شارك حجم الأروكسترا الصغير، وطابع المستمعين، في تقرير نوع الموسيقى الخفيف اللطيف الذي كتبه هايدن لأسرة استرهاتسي. وأكسبته طبيعته محبة الموسيقيين ولم يمض على مجيئه إلى أيزنشتات كثير حتى راحوا يلقبونه "بابا هايدن" رغم إنه لم يتجاوز وقتها التاسعة والعشرين(30). وألف لهم الصوناتات والثلاثيات والرباعيات والكونشروتوات والأغاني والكنتاتات ونحو ثلاثين سمفونية. وكثير من هذه المؤلفات وإن كانت ملكاً للأمير حسب نص العقد نشر أو تداوله الناس مخطوطاً في فيينا وليبزج وأمستردام وباريس ولندن، ولم يحل عام 1766 حتى كان اسم هايدن ذائعاً دولياً.
فلما مات بال أنطون (18 مارس 1762) خلفه في رآسة أسرة إسترهاتسي أخوه ميكلوس يوزف الذي كاد يحب الموسيقى حبه لحلته المرصعة بالماس. وكان يحسن العزف على "الفيولادي بوردوني". (وهي شكل مختلف من أشكال الفيولادا جامبا)، وكان سيداً لطيفاً لهايدن طوال عشرتهما التي امتدت قرابة ثلاثين عاماً. يقول هايدن "كان أميري على الدوام راضياً عن أعمالي فلم احظ منه بمجرد تشجيع الاستحسان الدائم، ولكن بوصفي قائداً للأوركسترا استطعت أن أجري التجارب وألاحظ ما يحدث منها أثراً وما يضعف هذا الأثر، وهكذا كنت في وضع أتاح لي إن أحسن، وأغير..وأغامر كما أشاء. لقد كنت مقطوع الصلة بالعالم وما من أحد يشوش علي أو يعذبني، فأكرهت على الابتكار(31).
ومات فرنر في 5 مارس 1766، وأصبح هايدن رئيساً لفرقة المرتلين. وسرعان ما انتقلت الأسرة إلى القصر الجديد "قلعة هاتسي" التي كان ميكلوس قد بناها في الطرف الجنوبي لنويزيدلر زي في شمال غربي المجر. وكان الأمير شديد التعلق بهذا القصر حتى يسكنه من مطلع الربيع حتى آخر الخريف، ثم ينتقل شتاء إلى فيينا مصطحباً موسيقييه أحياناً. وكان العازفون المغنون يكرهون هذه العزلة الريفية لاسيما لأنها كانت تفصلهم عن زوجاتهم وأبنائهم ثلاثة فصول في العام، ولكنهم كانوا يتعاطون أجوراً حسنة ولم يجرؤا على الشكوى. وذات مرة أراد هايدن أن يلمح لميكلوس بأن موسيقييه مشتاقون إلى أخذ إجازة، فألف "سمفونية الوداع" (رقم 5) وفي ختامها كانت الآلة تلو الأخرى تختفي من المدونة والعازف يطفئ شمعته ويتناول موسيقاه وآلته ثم يغادر المسرح. وفطن الأمير إلى القصد فرتب الفرقة إلى فيينا في وقت قريب.
وسمح لهايدن على سبيل الاستثناء بأن يصحب معه زوجته إلى استرهاتسي، ولكنه لم يقدر هذا الامتياز. ففي 1779 وقع في غرام لويجا بولتسللي، وكانت مغنية وسطاً استخدمتها استرهاتسي مع زوجها عازف الكمان أنطونيو. ويبدو أن هايدن أحس أنه ما دامت الكنيسة الكاثوليكية لم تسمح له بتطليق زوجته المتعبة فإن عليها من قبيل الرأفة أن تسمح له بإنحرافة أو اثنتين، ولم يبذل كثيراً من الجهد في إخفاء علاقته الغرامية هذه. أما أنطونيو فقد بلغ من الكبر والمرض ما منعه من الاحتجاج الفعال، وكان يعلم أن الفضل في بقائه في وظيفته راجع إلى أن رئيس فرقته يستطب لويجا. وكانت قد قدمت إلى استرهاتسي بغلام في الثانية، وفي 1783 ولدت صبياً آخر نسبته الشائعات إلى بابا هايدن، وتعلق قلب هايدن بالغلامين جميعاً وكان عوناً لهما طوال حياته.
وخلال تلك السنوات الحافلة بالشواغل في استرهاتسي لم يتطور هايدن في فن التلحين إلا تطوراً بطيئاً لأنه افتقد الحافز والمنافسة الخارجيين، فلم ينتج شيئاً يستحق أن يذكر به إلى أن أبلغ الثانية والثلاثين-وهي سن كان موتسارت قد أكمل فيها "أعماله الكاملة" باستثناء "الناي السحري" و"القداس الجنائزي". وقد أنتج هايدن أبدع أعماله بعد بلوغه الخمسين، وأولى سمفونياته الكبرى حين قارب الستين، و"الخليقة" حين كان في السادسة والستين. وكتب عدة أوبرات تؤدى في استرهاتسي، ولكن حين دعته براغ لتقديم أوبرا فيها، ضمن سلسلة تقرر أن تحتوي على الزواج فيجارو ودون جوفاني، أحجم في رسالة كلها تواضع نبيل (ديسمبر 1787)، قال:
"تريد مني أوبرا هازلة...فإذا كان قصدك إخراجها في براغ فأني لا أستطيع أن أسدي إليك هذا الصنيع. ذلك أن أوبراتي لا تنفصل عن المجتمع الذي كتبت له، ولن تحدث التأثير المقصود منها إذا عزلت عن بيئتها الأصلية. ولكن يكون أمراً آخر أن أشرف بتكليفي بكتابة أوبرا جديدة لمسرحكم. على أنه حتى في هذه الحالة، سيكون من المغامرة أن أضع نفسي منفساً لموتسارت العظيم. ولو أنني استطعت فقط أن ألهم كل عاشق للموسيقى، خصوصاً بين العظماء، بمشاعر تبلغ في عمقها مشاعري، وفهم واضح كفهمي، وهم يستمعون إلى أعمال موتسارت الممتنعة على التقليد، إذن لتبارت الأمم على حيازة هذه الجوهرة الكريمة داخل حدودها. وعلى براغ أن تجاهد الاحتفاظ بهذا الكنز في قبضتها، ولكن بمكافأته المكافأة اللائقة. وإغفال هذا الجزء كثيراً ما يكون مصدر حزن في حياة عبقري عظيم، وتثبيط للمزيد من الجهود ولمستقبل الأيام. وأني لأشعر بالسخط لأن موتسارت لم يستخدم إلى الآن في أي بلاط إمبراطوري أو ملكي. عفواً إن كنت قد خرجت عن الموضوع، فموتسارت رجل عزيز علي جداً"(32).
وكان هايدن نفسه يتوق إلى بلاط تنشر فيه موهبته جناحيها على نطاق أوسع، ولكن كان عليه أن يقنع بالمجاملات الملكية. ووصلته الهدايا من فرديناند الرابع ملك نابلي وفردريك وليم الثاني ملك بروسيا وماريا فيودروفنا الأرشيدوقة الروسية. وفي 1781 بعث إليه شارل الثالث ملك أسبانيا علبة سعوط ذهبية مرصعة بالماس، وسافر السفير الأسباني لدى فيينا إلى استرهاتسي ليقدم إليه هذا الكنز الصغير بشخصه. ولعل لبوكيريني يداً في هذه اللفتة، وكان يومها يقيم في مدريد، لأنه اقتبس أسلوب هايدن بحماسة شديدة حتى لقد لقب بــ"زوجة هايدن"(33). ولما قرر مجلس الكاتدرائية في قادس تكليف موسيقى بوضع الإطار الموسيقي لــ"كلمات مخلصنا السبع الأخيرة" رسا التكليف على هايدن، فاستجاب بأوراتوريو (1785) لم يلبث أن أدى في أقطار كثيرة-في الولايات المتحدة الأمريكية في تاريخ مبكر (1791). وفي 1784 طلب مخرج باريسي ست سمفونيات، فأتحفه هايدن بست "سمفونيات باريسية". ووصلته عدة دعوات ليقود الحفلات الموسيقية في لندن. وشعر هايدن بأنه مربوط باتسرهاتسي برباط الولاء كما هو مربوط برباط التعاقد، ولكن خطاباته الخاصة تشي بشوقه المتزايد إلى مسرح أرحب لفنه.
وفي 28 سبتمبر 1790 مات الأمير نيكلوس يوزف. ولم يكن الأمير الجديد أنطون استرهاتسي ولوعاً بالموسيقى، ففصل كل الموسيقيين تقريباً، ولكنه احتفظ بهايدن اسمياً في خدمته، ومنحه معاشاً سنوياً قدره ألف وأربعمائة فلورين، وسمح له بأن يسكن حيث يشاء. وانتقل هايدن إلى فيينا لتوه تقريباً، وتلقى الآن عدة عروض، أعجلها من يوهان بيتر سالومون، الذي صرح له بهذه العبارة "لقد جئت من لندن لآخذك معي، وسنبرم اتفاقنا غداً". وعرض عليه 300 جنيه لقاء أوبرا جديدة، و300 أخرى نظير ست سمفونيات، و200 أخرى نظير حق تأليفها، و200 أخرى نظير عشرين حفلة موسيقية في إنجلترا، و200 أخرى نظير حفلة موسيقية تحيا فيها لصالح هايدن-ومجموعها كلها 1200 جنيه. وكان هايدن يجهل الإنجليزية ويخشى عبور المانش. وتوسل إليه موتسارت ألا يضطلع بهذه الأعباء والمغامرات قائلاً "يا أبت لم تتلق أي تعليم يؤهلهم للعالم الواسع، وأنت لا تتكلم إلا القليل جداً من اللغات!" وأجاب هايدن "ولكن لغتي مفهومة في العالم كله".(34) وباع البيت الذي منحه إياه الأمير ميكلوس يوزف في أيزنشتات، ودبر معاش زوجته وخليلته، ثم انطلق إلى مغامرته الكبرى. وأنفق مع موتسارت الأيام الأخيرة قبل الرحيل، وبكى موتسارت حين رآه يرحل (إنني أخشى يا أبتاه أن يكون هذا آخر وداع لنا).
وغادر هايدن وسالومون فيينا في 15 ديسمبر 1790، ووصلا إلى لندن في أول يناير 1791. وكانت أولى حفلات هايدن الموسيقية (11 مارس) انتصاراً له. وختمت "المورننج كرونكل" تقريرها عنها بهذه العبارة "لا نستطيع أن نخفي أملنا الوطيد في أن يكون في هذا الترحيب البالغ الذي لقيه منا أعظم عباقرة الموسيقى في جيلنا هذا ما يغريه بأن يتخذ مقامه في إنجلترا"(35). ونجحت كل الحفلات الموسيقية، وفي 16 مايو أبهجت قلب هايدن حفلة أحييت لصالحه بــ350 جنيه. وفي ذلك الشهر حضر حفلة تذكارية لهندل في كنيسة وستمنستر. واستمع إلى (المسيا) وبلغ به التأثر حد البكاء، وقال في تواضع (هندل، أستاذنا جميعاً)(36). واقترح بيرني على جامعة أكسفورد أن تمنح هندل الجديد درجة فخرية، وقبل الاقتراح، وذهب هندل إلى الجامعة في يوليو، وأصبح دكتوراً في الموسيقى، وقاد هناك سمفونية في مقام G الكبير (رقم 92) وكان قد ألفها قبل ثلاث سنوات، ولكن التاريخ يعرفها منذ ذلك الوقت بسمفونية أكسفورد.. وتذكرنا حركتها البطيئة الجميلة بالأغنية الشعبية الإنجليزية القديمة "لورد راندول".
ولقد أتيح لهايدن أن يستمتع بمشهد الريف الإنجليزي الذي رأى فيه تمجيداً سماوياً للنبات والمطر، لذلك قبل مغتبطاً عقب عودته إلى لندن دعوات لبيوت ريفية. وهناك وفي لندن كسب الكثير من الأصدقاء بترحيبه بالعزف والغناء في حفلات خاصة. واتخذ له تلاميذ متقدمين في الموسيقى ليعلمهم التأليف، ومن بينهم أرملة وسيمة غنية تدعى يوهانا شروتر. ومع أنه كان في الستين، فأن هالة شهرته أدارت رأسها فعرضت عليه حبها. وقد ذكر هذا الحديث فيما بعد فقال "أغلب الظن أنني كنت متزوجها لو كنت عزباً"(37). وفي غضون هذا كانت زوجته تلح عليه في العودة. وفي خطاب أرسله إلى لويجا بولتسيللي قال متذمراً (إن زوجتي -الوحش الجهنمي-كتبت لي أشياء بلغت من الكثرة ما أكرهني على الجواب بأنني لن أعود أبداً)(38).
وراح يشتغل بهمة رغم ما أثقل ضميره وجيبه من النسوة الثلاث، فألف الآن ستاً (رقم 93-98) من سمفونياته اللندنية الأثنتي عشرة. ونرى فيها تطوراً ملحوظاً من إنتاجه في إيزتشتات واسترهاتسي. ولعل سمفونيات موتسارت قد شحذت فنه، أو لعل احتفاء إنجلترا به قد اخرج خير ما فيه، أو لعل استماعه إلى هندل حرك فيه أعماقاً لم تمسها بيئته الساكنة الهادئة في ربى المجر، أو لعل علاقاته الغرامية قد رفعته إلى العواطف الرقيقة كما بعثت فيه الفرحة البسيطة. وشق عليه إن يبرح إنجلترا؛ ولكنه كان مرتبطاً يعقد مع الأمير أنطون استرهاتسي الذي أصر الآن على عودة هايدن ليشارك في المهرجانات الممهدة لتتوج الإمبراطور فرانسيس الثاني. ومن ثم نراه يقتحم المانش ثانية في أواخر يونيو 1792، وينتقل من كاليه إلى بروكسل إلى بون، ويلتقي ببيتهوفن (الذي كان آنئذ في الثانية والعشرين)، ويحضر التتويج في فرانكفورت، ثم يصل إلى فيينا في 26 يونيو.
ولم تشر صحيفة واحدة إلى عودته، ولا نظمت له حفلات موسيقية، ولا حفل به البلاط. ولو كان موتسارت موجودا لاحتفى بمقدمه، ولكن موتسارت كان قد قضى. وكتب هايدن إلى أرملته، وتطوع بإعطاء دروس مجانية لابنه؛ وحث الناشرين على طبع المزيد من موسيقى موتسارت. ثم ذهب ليعيش مع زوجته في المنزل المحتفظ به الآن متحفاً لهايدن (هايدن-جاسي 19). وأرادته الزوجة أن يكتب لها البيت فرفض. وازدادت مشاجراته معها حدة. وقدم بيتهوفن في ديسمبر 1792، ليدرس عليه. ولكن العبقريين لم ينسجما معاً، فقد كان بيتهوفن متكبراً مسيطراً، وكان هايدن يلقبه "المغولي الأكبر"(39). وقد شغله استغراقه في عمله هو عن تصحيح تمرينات تلميذه بأمانة، ووجد بيتهوفن سراً معلماً آخر، ولكنه واصل تلقي الدروس عن هايدن. فقال الجبار الصغير "لم أتعلم منه شيئاً(40)"، ومع ذلك فكثير من قطعه الأولى تنهج نهج هايدن، وقد أدهى بعضها لمعلمه الشيخ.
وازداد تقدير القوم لهايدن في النمسا وفي روراو، فأقام الكونت فون هاراخ في روراو، عام 1792، تمثالاً لابن البلدة الذي غداً الآن ذائع الصيت، ولكن ذكرى انتصاراته وصداقاته في إنجلترا كانت لا تزال حارة، ومن ثم لم يتردد الموسيقى في الموافقة على العرض الثاني الذي قدمه لم سالومون بالذهاب إلى لندن وتكلفه كتابة ست سمفونيات جديدة. فغادر فيينا في 19 يناير 1794 ووصل إلى لندن في 4 فبراير. وكانت إقامته هذه التي امتدت ثمانية عشر شهراً في إنجلترا نصراً مؤزراً شدد عزمه كنصره الأول. وظفرت المجموعة الثانية من "السمفونيات اللندنية" (أرقام 99-104) باستقبال طيب، وخرج هايدن من حفلة أحييت لصالحه بدخل صافي قدره 400 جنيه. وكان تلاميذه يدفعون له جنيهاً إنجليزياً في الدرس، وكانت السيدة شروتر تسكن بقربة، وعاد الأثير المقرب للطبقة الأرستقراطية، فاستقبله الملك وأعداء الملك على السواء، وأمير ويلز، وعرضت عليه الملكة مسكناً في ونزر طوال الصيف إذا أطال مقامه في إنجلترا موسماً آخر. ولكنه اعتذر بأن أمير استرهاتسي الجديد يدعوه للعودة، وأنه لا يستطيع الغياب عن زوجته فترة طويلة كهذه (!). وكان الأمير أنطون قد مات، وأراد خلفه الأمير ميكلوس الثاني أن يعيد الحفلات الأوركسترالية في ايزنشتات. وهكذا غادر هايدن لندن في 15 أغسطس 1795 بعد أن حزم حقائبه وجيوبه عامرة ويمم شطر وطنه.
وبعد أن زار تمثاله في روراو قدم نفسه لميكلوس الثاني في ايزنشتات ونظم الحفلات الموسيقية لشتى المناسبات هناك. على أنه كان يقيم في بيته في أطراف فيينا باستثناء الصيف والخريف. وفي عامي 1796-97 كان نابليون يسوق النمساويين أمامه في إيطاليا، وهدد تصاعد المشاعر الثورية في النمسا نظام هابسبورج الملكي، وتذكر هايدن كيف شدت الحماسة التي أثارها إنشاد النشيد الإنجليزي "حفظ الله الملك" إزر أسرة هانوفر في إنجلترا، وساءل نفسه إلا يمكن أن يفعل نشيد قومي مثل هذا في شد أزر الإمبراطور فارنسيس الثاني؟ وتقدم صديقه البارون جوتفريد فان زفيتن (ابن طبيب ماريا تريزا) بهذا الاقتراح إلى الكونت فون زاوراو وزير الداخلية. وعين زاوراو ليوبولد هاشكا ليؤلف نصاً للنشيد، واستجاب الشاعر بنشيده "حفظ الله الإمبراطور فرنسيس، إمبراطورنا الصالح فرانسيس".
ووفق هايدن لهذه الكلمات لحناً لأغنية كوراتية قديمة، وكانت النتيجة نشيداً قومياً مؤثراً رغم بساطته. وأنشد علانية في عيد ميلاد الإمبراطور في 12 فبراير 1797 في جميع المسارح الكبرى في مملكة النمسا والمجر. وقد ظل مع بعض التغيير في ألفاظه-النشيد القومي النمساوي حتى 1938. وطور هايدن اللحن، مع تنويعات، ليصبح الحركة الثانية في رباعيته الوترية (76 رقم 3).
ثم حاول أن ينافس "المسيا" وهو ما يزال أسيراً لسحر هندل. وكان سالومون قد قدم له نصاً مصنفاً من قصيدة لمتن "الفردوس المفقود"، وترجم فان زفيتن النص إلى الألمانية، ولحن هايدن الأوراتوريو الضخم "دي شويفونج" (الخليقة). وأدى إوراتوريو "الخليقة" أمام جمهور دعى إلى قصر الأمير فون شفارتسنبرج في 29-30 إبريل 1798. وبلغ احتشاد الجمهور خارج القصر مبلغاً اقتضى معه حفظ النظام استخدام خمسين شرطياً من الخيالة (كما يؤكدون)(41). ومول الأمير حفلة عامة في المسرح القومي في 19 مارس 1799، ونفح مؤلف الموسيقى بكل دخلها (الذي بلغ أربعة آلاف فلورن). وحيا السامعون الموسيقى بحماسة أشبه بالحماسة الدينية، وما لبث الأوراتوريو أن استمع إليه الناس في كل مدينة كبرى تقريباً في العالم المسيحي. وأدانت الكنيسة الكاثوليكية اللحن لأنه أخف وأجذل من يصلح لموضوع جليل كهذا، ووافق شيلر بيتهوفن في السخرية من تقليد هايدن لحيوانات جنة عدن، أما جوته فقد أشاد بالعمل، وظفر اللحن في بروسيا بعروض في القرن التاسع عشر فاقت في كثرتها أي لحن كورالي آخر.
وقدم فان زفيتن نصاً آخر اقتبسه من قصيدة جيمس طومسن "الفصول". وعكف هايدن عليه بهمة قرابة عامين (1799-1801)، مما أضر كثيراً بصحته. وقد قال "أن "الفصول" قصمت ظهري". وحظيت حفلة العرض الأولى باستقبال طيب، ولكن اللحن لم يثر حماسة واسعة أو دائمة. وبعد أن قاد هايدن "كلمات المسيح السبع الأخيرة" لصالح أحد المستشفيات اعتزل حياته النشيطة.
وكانت زوجته قد ماتت في 20 مارس 1800، ولكنه كان الآن قد بلغ من الكبر حداً لا يتيح له الاستمتاع بحريته وإن لم يمنعه من الاستمتاع بشهرته. فقد اعترف به الناس أمام المؤلفين الموسيقيين، وتكاثرت عليه أسباب التشريف من شتى المدن، ووفد عليه مشاهير الموسيقيين-أمثال كيروبيني، وآل فيبر، واجناز بلييل، وهوميل-لتقديم واجب الاحترام والإجلال له. ولكن الروماتزم والدوار وغيرهما من الأصواب أورثتهالاكئتاب وسرعة الغضب والتشبث الرهيب بأهدب الدين. وحين زاره كاميل بلييل في 1805 وجده "ممسكاً بمسبحة في يديه، وأعتقد أنه يقضي أكثر يومه في الصلاة، وهو لا يفتأ يقول أن نهايته قد دنت...ولم نطل المكث معه لأننا رأينا أنه يريد أن نصلي(42). في ذلك العام انتشرت شائعة كاذبة زعمت أن هايدن مات. وكتب كيروبيني كنتاتا عن موته، وخططت باريس لحفلة موسيقية تذكارية يعزف فيها قداس موتسارت الجنائزية، ثم وصل نبأ بأن الشيخ ما زال على قيد الحياة. فلما سمع هايدن بالأمر قال معقباً "إذن لسافرت إلى باريس لأقود القداس الجنائزي بنفسي"(43).
وظهر آخر مرة أمام الجمهور في 27 مارس 1809 حين رتلت "الخليقة" في جامعة فيينا احتفالاً بعيد ميلاده السادس والسبعين الوشيك. وأرسل الأمير استرهاتسي مركبته لنقل الرجل العاجز إلى الحفلة الموسيقية. وحمل هايدن على كرسي ذي مسندين إلى القاعة بين الجمهور من النبلاء ومشاهير القوم، ولفت الأميرات شيلانهن حول جسده المرتعش. وجثا بيتهوفن وقبل يده. وغلب التأثر المؤلف العجوز، ولم يكن بد من إعادته إلى بيته في فترة الاستراحة.
وفي 12 مايو 1809 بدأت مدفعية نابليون تقصف فيينا. وسقطت قنبلة على مقربة من بيت هايدن فهزته هو وسكانه، ولكن هايدن قال ليطمئنهم "يا أبنائي لا تخافوا، فحيث يوجد هايدن لن يصيبكم سوء". وصدق قوله إلا عن نفسه، فقد حطم القصف جهازه العصبي. فلما استولى الفرنسيون على المدينة أمر نابليون بأن يرابط حرس شرف أمام بيت المؤلف. ورتل ضابط فرنسي عند دخوله لحناً من "الخلقية" بطريقة فيها كثير من الرجولة والسمو حتى أن هايدن عانقه وفي 31 مايو قضى نحبه وهو في السابعة والسبعين، وأقامت كبرى مدن أوربا كلها الصلوات تذكاراً له.
يقتصر إنجاز هايدن التاريخي على تطوير الأشكال الموسيقية. وقد أضفى على الأوركسترا حيوية جديدة بما أوجده من توازن بين الأوتار وآلات النفخ والنقر. وإذ بنى فوق جهود سامارتيني وشتامنز وكارل فليب إيمانويل باخ: فإنه أرسى شكل الصوناتا باعتبارها عرضاً وتفصيلاً وتلخيصاً لموضوعات متعارضة وأعد لموتسارت الموسيقي الخفيفة المسلية المسماة "ديفرتمنتو" باعتبارها أقل شكلية من المتتالية وأنسب اللقاءات الاجتماعية. وأعطى الرباعية الوترية صورتها الكلاسيكية بإطالتها إلى أربع حركات، وبإعطاء الحركة الأولى "شكل الصوناتا". وهنا كان على خلفائه أن يستخدموا عدد ونوع الآلات التي استخدمها هايدن، وقد حقق في كثير من الحالات جمالاً مشرقاً رقيقاً يعود إليه بعضنا متخففاً من التعقيدات العسيرة التي نجدها في رباعيات بيتهوفن الأخيرة.
ولا تزال على قيد الحياة تسمع سمفونيات أو عشر من السمفونيات هايدن المائة والأربعة. ولم تكن الأسماء التي تحملها من اختياره ولكنها من وضع المعلقين أو الناشرين. وقد لاحظنا في مكان سابق تطور "السمفونية" (رأى الأصوات المجمعة) من المقدمة بفضل تجارب سامرتيني وشتامتز. وقد سبق كثيرون هايدن في صياغة بناء السمفونية "الكلاسيكية" فلما خرج من استرهاتسا إلى عالم أرحب لم يكن قد بلغ من الكبر حداً يعجزه عن أن يتعلم من موتسارت كيف يملأ البناء مغزى وعاطفة. وتحدد "سمفونية أكسفورد" مرحلة صعوده إلى مدى أبعد وقوة أعظم، وترينا "السمفونية اللندنية" هايدن في قمة آفاقه السمفونية. والسمفونية رقم 101 (سمفونية الساعة) مبهجة، ورقم 104 لا يقل مستواها عن سمفونيات موتسارت. ويمكن القول بوجه عام إننا نحس في موسيقاه طبيعة لطيفة سمحة ربما لم تشعر بأعماق الحزن أو الحب، طبيعة اضطرت إلى الإنتاج في عجلة لم تسمح بإنضاج الفكرة أو الموضوع أو الجملة. لقد كان هايدن أسعد من أن يبلغ العظمة العميقة، ولقد تكلم أكثر مما يتيح له التعبير عن الكثير. ومع ذلك فإن في هذه الأنغام اللعوب ذخيرة من البهجة الصافية الهادئة، فهنا كما قال "قد يستمتع المتعبون المكدودون، أو الرجل الذي أثقلته هموم الحياة، ببعض السلوى والانتعاش(44)".
وعقب موت هايدن انصرف العصر عن موسيقاه. فلقد عكست أعماله عالماً إقطاعياً ثابتاً وطيد الأركان، وبيئة من الأمن والدعة الأرستقراطيين، وكان في هذه الأعمال من المرح والرضى عن النفس ما لا يشبع قرناً ملؤه الثورات والأزمات والنشوات الرومانسية واليأس. ولكن الناس عادوا يقبلون عليه حين امتدحه برامز وكتب دبوسي "تحية إجلال لهايدن" (1909). عندها أدرك الناس أنه إذا كان روفائيل وميكل أنجيلو الموسيقي اللذان جاء بعده قد سكبا فكراً أعمق مع تمكن أرهف في مؤلفاتهما الموسيقية، فأنهما لم يستطيعا ذلك إلا لأن هايدن ومن سبقوه صاغوا الأشكال التي تلقاها فنهما الرائع. قال هايدن "إني أعلم أن الله منحني موهبة، وأنا شاكر له هذه المنحة وأحسبني قمت بواجبي وكنت ذا نفع..فليصنع الآخرون كما صنعت"(45).