قصة الحضارة - ول ديورانت - م 10 ك 3 ف 12

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 13349

قصة الحضارة -> روسو والثورة -> الجنوب الكاثوليكي -> وداعاً إيطاليا -> جولة وداع

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثاني عشر: وداعاً إيطاليا 1760 - 1789

جولة وداع

لو سمحنا لأنفسنا بنظرة واحدة أخرى إلى إيطاليا لوجدناها حتى في هذه القيلولة الظاهرية دافئة بالحياة. فسنرى تورين تحتضن الفيري، ولوكا تنشر موسوعة ديدرو، وفلورنسة تزدهر ثانية تحت حكم الدوق الكبير ليوبولد، وميلان تصلح القانون بفضل بيكاريا وبافيا وبولونيا تهتزان طرباً لتجارب فولتا وكلفاني، والبندقية تعاني من سلوك كازانوفا، ونابلي تتحدى البابوية، وروما متورطة في مأساة اليسوعيين، وعشرات من مرابي الموسيقى تصدر الأوبرا ومهرة العازفين ليهدئوا صدر الأقطار المتوحشة عبر الألب. وسنلتقي في إيطاليا بمائة ألف أجني قدموا إليها ليدرسوا كنوزها وليصطلوا بشمسها. ففي هذا العهد وفد إليها جوته بعد أن أرهقه نبلاء قيمار ليجدد شبابه ويروض ربة شعره.

كان انطباع جوته الأول وهو منحدر من الأب إلى فينتسيا ترد نتينا (سبتمبر 1786) تأثره بالهواء المعتدل والجو المشرق الذي "يضفي غاية البهجة على مجر الوجود بل حتى على الفقر"(1) ثم هذه الحياة الطليقة: "فالأهالي دائماً خارج بيوتهم وهم لخلو بالهم لا يفكرون في شيء، إلا في أن يحيوا". وظن أن التربة المثمرة لابد أن تجود على هؤلاء القوم البسطاء بحاجاتهم المتواضعة دون إبطاء، ولكن الفقر وعدم وجود الوسائل الصحية في المدن الصغيرة أفزعاه: "حين سألت النادل عن مكان (لقضاء الحاجة) أشار لي على الفناء قائلاً "ممكن، تحت، في الحوش". فسألته "أين؟" فقال في لهجة ودية "في أي مكان، كما تشاء...كل الأفنية الأمامية والأعمدة تلوثها الأقذار، لأن القوم يقضون حاجاتهم بطريقة طبيعية جداً"(2).

على أن التكيف الحسي جعله يسلم بالأمر الواقع شيئاً فشيئاً. وكانت البندقية تستمتع بانحلالها اللطيف، فحوالي 1778 وصف كارلو جوتسي في مبالغة تغار على الفضيلة ما بدا له أنه انحلال عام في الأخلاق:

"إن منظر النساء وقد انقلبن رجالاً، والرجال نساء، وكلهم نسانيس، وكلهم غارقون...في دوامة الموضة، يفسدون ويغوون بعضهم بعضا بلهفة كلاب الصيد تجري وراء رائحة الفريسة، ويتنافسون في شهواتهم وسرفهم المدمر...ويحرقون البخور...ليريابوس(3)...(إله الشهوة)".

وفي 1797 ألقى اللوم على الفلسفة في هذا الانهيار:

"إن الدين، ذلك الكابح الصحي لشهوات البشر...قد أصبح هزؤوا بين الناس. ولست أملك إلا الإيمان بأن المشنقة مفيدة للمجتمع، لأنها أداة لعقاب الجريمة وردع من تحدثه نفسه بالإجرام. ولكن فلاسفتنا العصريين نددوا بالمشنقة زاعمين أنها تحيز ظالم وهكذا زادوا جرائم القتل على الطريق العام والسرقات وأعمال العنف مائة ضعف".

"وقد أكدوا لنا أن إبقاء النساء في بيوتهن لرعاية بنيهن وبناتهن...والإشراف على خدمة الأسرة واقتصادها، إنما هو تحيز بالٍ وهمي. وللتو انطلقت النساء من بيوتهن معربدات كالباخوسيات، صائحات "الحرية...الحرية..." وغصت الشوارع بهن...وأسلمن أثناء ذلك عقولهن الطائشة إلى الموضات والبدع التافهة، والملاهي ومغامرات الحب ومظاهر الدلال وسائر السفاسف .... أما الأزواج فلم يؤتوا من الشجاعة ما يمكنهم من مقاومة هذا التدمير لشرفهم ومالهم وأسرهم، وخافوا من أن يشهر بهم ويرموا بهذه الكلمة الرهيبة، كلمة "التحيز"...فقد وصفت مكارم الأخلاق، والحشمة، والعفة، بأنها تحيز...وحين أكرهت جميع هذه التحيزات المزعومة على الهروب...ظهر الكثير من النعم الكبرى والبركات العظمى. كالكفر، والإحاطة بالاحترام والتوقير، وقلب العدالة رأساً على عقب...وتشجيع المجرمين والرثاء لهم، والخيالات الملتهبة، والأحاسيس المرهفة، والغرائز البهيمية، والانهماك في جميع اللذات والشهوات، والترف العاتي... والتفاليس... والخيانات الزوجية(4)".

ولكن أسباب الانحلال الرئيسية كانت بالطبع اقتصادية وحربية؛ ذلك أن البندقية فقدت ثراءها الذي لها الدفاع عن قوتها وعلى النقيض منها ازدادت قوة غريمتها النمسا البشرية ازدياداً مكنها من السيطرة على كل المداخل البرية إلى بحيرات البندقية، ومن خوض بعض حملاتها الحربية على أرض الجمهورية المحايدة العاجزة.

وفي 9 مارس 1789 انتخب لودوفيكومانن لرئاسة الجمهورية-وكان بذلك آخر الأدواج المائة والعشرين الذين تعاقبوا على كرسي رئاسة البندقية في استمرار رائع منذ عام 697. وكان رجلاً ذا ثراء طائل وشخصية هزيلة، ولكن ما كان في طوق الفقر أو الشجاعة أن يردا عنه مأساته. ذلك أن الباستيل سقط في أربعة أشهر، وتسلطت عبادة الحرية على خيال فرنسا، وحين أقبل هذا الدين مع فيالق نابليون اكتسح كل إيطاليا تقريباً تحت رايته وبقوة نشوته. وفرض الكورسيكي الظافر يظاهره ثمانون ألف جندي على ملكة الأدرياتيكي حكومة مؤقتة أملاها بنفسه (12 مايو 1797) محجاً بأن القوات النمساوية قد استعانت عليه بأرض البندقية، ومتهماً البندقية بأنها ساعدت أعداءه سراً. وفي ذلك اليوم أعطى الدوج مانن قلنسوة الرئاسة لأحد أتباعه بعد أن استقال، وأمره قائلاً "خذها بعيداً عني فلن تحتاج إليها ثاني(5)" وبعد أيام مات. وفي 16 مايو احتلت الجنود الفرنسية المدينة. وفي 17 أكتوبر وقع بونابرت في كاميوفورميو معاهدة نقلت البندقية وكل الأقاليم التي تمتلكها تقريباً إلى النمسا في مقابل تنازلات من النمسا لفرنسا في البلجيك وضفة الرين اليسرى. وحدث هذا بالضبط بعد ألف ومائة عام من انتخاب أول دوج لحكم بحيرات البندقية والدفاع عنها. أما بارما فكانت محمية أسبانية، ولكن دوقها، والدون فيليبي، ابن فيليب الخامس وايزابيللا فارنيزي، تزوج لويزا اليزابث ابنة لويس الخامس عشر وقد عود نفسه عاداتها المسرفة وجعل بلاطه فرسايا مصغرة. وأصبحت بارما مركزاً للثقافة تختلط فيه أساليب الحياة العالمية في بهجة ومرح. يقول كازانوفا "لقد خيل إلي أنني لم أعد عائشاً في إيطاليا، فكل شيء بدا منتمياً للجانب الآخر من الألب. ولم يكن المارة يتكلمون إلا الفرنسية والأسبانية(6)". وقام وزير مستنير يدعى جيوم دوتيو بإصلاحات حافزة للدوقية. هنا كانت تنتج مصنوعات من أبدع أنواع النسيج والبللور والقاشاني.

أما ميلان فقد شهدت توسعاً صناعياً ينبئ في تواضع بما بلغته من تفوق اقتصادي في إيطاليا اليوم. ذلك أن الحكم النمساوي أرخى قبضته على قدرات الأهالي وإقدامهم. وتعاون الكونت كارل يوزف فون فرميان، حاكم لومبارديا، مع الزعماء الوطنيين على تحسين الإدارة، وحد من السلطة الظالمة التي كان يمارسها البارونات الإقطاعيون الأوليجركيون في المدن. وظهرت طائفة من أحرار الاقتصاد يتزعمهم بيترو فري، وتشيزاري بونيزانا دي بيكاريا، وجوفاني كارلي، اعتنقت مبادئ الفيزوقراطيين، وألغوا المكوس على التجارة الداخلية، وأنهوا نظام الالتزام الضرائبي، ووزعوا العبء بفرض الضرائب على الأملاك الكنسية. ونمت صناعة النسيج حتى انتظمت في 1785 تسعاً وعشرين شركة تشغل 1.384 نولاً. ومسحت الأراضي، ومولت الدولة مشروعات الري، واشتغل الفلاحون بهمة صادقة. وفي السنوات الإحدى والعشرين فيما بين 1749 و1770 ارتفع سكان الدوقية من 90.000 إلى 130.000(7). وفي فترة انتعاش ميلانو هذه بنى مجتمعها التياترو الاسكالا (1776-78)، الذي اتسع لــ3.600 متفرج تحيط بهم زخارف فاخرة كزخارف القصور، واحتوى تسهيلات للموسيقى، والسمر، والأكل، ولعب الورق، والنوم. وفوق هذا كلها صهريجاً للمياه صمم لإطفاء أي حريق. هنا ظفر تشيما روزا وكيروبيني بانتصارات مدوية.

وكان العصر عصر البطولة لكورسكا. لقد كانت تلك الجزيرة الجبلية الصغيرة مثقلة بأحداث التاريخ. فالفينيقيون القادمون من آسيا الصغرى أقاموا مستعمرات فيها حوالي 560ق.م. ثم قهرهم الأثروريون، الذين قهرهم القرطاجنيون، الذين قهرهم الرومان، الذي قهرهم الروم البيزنطيون، الذين قهرهم الفرنجة، الذي قهرهم المسلمون، الذين قهرهم إيطاليو تسكانيا، الذي قهرهم البيزاويون، الذي قهرهم الجنويون (1347). ومات في ذلك القرن ثلثا السكان من الطاعون الأسود. وفي ظل الحكم الجنوي انحدر الكورسيكيون الذين أرهقهم الوباء وغارات القراصنة، والذين حرمت عليهم المناصب الكبرى وأثقلت كواهلهم بضرائب لا يطيقونها، وانقلبوا إلى حال أشبه بالتوحش لم يحترم فيها قانون غير قانون الثورات العنيفة..وأخفقت الثورات التي اندلعت بين الحين والحين لما ابتلي به القوم من عداوات طاحنة وما افتقدوا من العون الأجنبي. أما جنوه ففي سبيل الدفاع عن حياتها ضد الجيوش النمساوية استنجدت بفرنسا لتعينها على حفظ النظام في كورسكا. واستجابت فرنسا مخافة أن يستولي البريطانيون على الجزيرة ويستخدموها قلعة يتسلطون منها على البحر المتوسط، فاحتلت الجنود الفرنسية أياتشو وغيرها من الحصون الكورسيكية (1719-48). ولما بدا أن الأمن قد استتب انسحب الفرنسيون، وعاد سلطان جنوه إلى سابق عهده، وبدأت ثورة باولي التاريخية. وقد سبق باسكالي دي باولي هذه البطولات غاريبالدي بقرن كامل. وقد وصفه اللورد شاتام بأنه "واحد من هؤلاء الرجال الذين لم يعد الناس يعثرون عليهم إلا في صفحات بلوتارخ(8)". ولد (1725) ابناً لثائر كورسيكي وتبع أباه إلى المنفى، ودرس في نابلي على يد الاقتصادي المتحرر جينوفيزي، وخدم في جيش نابلي، ثم عاد إلى كورسيكا (1755) واختير ليقود تمرداً على جنوه. وبعد عامين من القتال أفلح في طرد الجنويين من الجزيرة إلا بعض مدنها الساحلية فلما ولي رئاسة الجمهورية الجديدة بالانتخاب (1757-68) أظهر في ميدان التشريع والإدارة نبوغاً لا يقل عن نبوغه في استراتيجية الحرب وتكتيكها. فقد وضع دستوراً ديمقراطياً، وقمع الثورات، وألغى حقوق أمراء الإقطاع الظالمة، ونشر التعليم، وأسس جامعة في عاصمته كورتي.

واضطرت حنوه لعجزها عن قهره إلى بيع الجزيرة لفرنسا (15 مايو 1768) بمليوني فرنك. ووجد باولي الآن نفسه يقاتل جنوداً فرنسيين يعززون بالإمداد المرة بعد المرة. وكان سكرتيره ومساعده في ذلك الوقت كارلو بونابتي، الذي ولد له ابن سماه نابليوني باياتشو في 15 أغسطس 1769. فلم قهر الفرنسيون باولي في بونتينوفو (مايو 1769) طلق هذا النضال الذي لا أمل فيه ولجأ إلى إنجلترا، وهناك منحته الحكومة معاشاً، وأذاع بوزويل اسمه. وكان جونسون واحداً من أصدقائه. على أن الجمعية الوطنية لفرنسا الثورة استدعته من منفاه، وأشادت به "بطلاً وشهيداً للحرية" وعينته حاكماً على كورسيكا، (1791). ولكن المؤتمر الفرنسي حكم بأن في ميوله اليعقوبية قصوراً، فأرسل لجنة لخلعه، وخف الجنود البريطانيون لنجدته، ولكن القائد البريطاني استولى على الجزيرة وأعاد باولي إلى إنجلترا (1795). ثم جرد نابليون قوة فرنسية لتطرد البريطانيين (1796)، ورحب أهل الجزيرة بالفرنسيين باعتبارهم موفدين من قبل "الكورسيكي"، وانسحب البريطانيون، وخضعت كورسيكا لفرنسا.

أما توسكاني فقد ازدهرت تحت حكم كبار الأدواق الهابسبورج الذين خلفوا آل مديتشي (1738). وبعد أن اتخذ حاكمها الأسمى فرانسوا اللوريني النمسا مقراً له لزواجه من ماريا تريزا، فوض الحكم إلى مجلس وصاية يرأسه زعماء وطنيون نافسوا الميلانيين الأحرار في إصلاحاتهم الاقتصادية، فقد حققوا حرية التجارة الداخلية في الغلال (1767) قبل أن يبذل طورجو محاولة كمحاولتهم في فرنسا بسبع سنين. وحين مات فرانسوا (1765) خلفه دوقاً أكبر ابنه الأصغر ليوبولد، الذي تطور حتى أصبح واحداً من أجرأ وأشجع "المستبدين المستنيرين". كبح الفساد في المناصب، وأصبح القضاء والإدارة المالية، وسوى بين الناس في الضرائب، وألغى التعذيب والمصادرة وحكم الإعدام، وأعان الفلاحين، وجفف المستنقعات، وأنهى الاحتكارات، ونشر حرية التجارة وحرية المؤسسات التجارية، وسمح للكومونات بالحكم الذاتي، وتطلع إلى وضع دستور شبيه بالدساتير الديمقراطية للدوقية. وقد راع جوته ما شهده من نظافة المدن التوستانية النسبية وصلاحية الطرق والكباري، وجمال الأشغال العامة وفخامتها(9). وحين أصبح يوزف أخو ليوبولد إمبراطوراً أوحد، أعان ليوبولد على إلغاء معظم الامتيازات الإقطاعية في تسكانيا، وإغلاق كثير من الأديرة، والحد من سلطة الأكليروس.

وفي ميدان الإصلاحات الكنسية تلقى ليوبولد تعاوناً صادقاً من سكبيوني دي ريكي أسقف بستويا وبراتو. وكان في تسكانيا عرف قاسي يقضي على جميع الفتيات اللاتي لا مهور لهن بالرهبة، وانضم ريكي إلى الدوق الكبير في رفع السن الدنيا لنذر الرهبنة وتحويل الكثير من الأديرة إلى مدارس للبنات. واتخذت التدابير لنشر التعليم غير الديني بإحلال المدارس العلمانية محل مدارس اليسوعيين. وكان ريكي يتلو القداس بالإيطالية. ويقاوم الخرافات، المر الذي أساء كثيراً إلى جماهير الشعب. فلما شاع أنه ينوي إزالة "حزام العذراء مريم" الشهير في براتو لأنه زائف، أحدث الشعب شغباً ونهبوا قصر الأسقف. على أن ريكي دعا رغم ذلك مجمعاً أسقفياً انعقد في بستويا عام 1786 وأعلن مبادئ تذكر بـــ"المواد الغالية" الصادرة في 1682. ومفادها أن السلطة الزمنية مستقلة عن السلطة الروحية (أي أن الدولة مستقلة عن الكنيسة)، وأن البابا عرضة للخطأ حتى في الأمور المتصلة بالعقيدة.

وكان ليوبولد يحيا حياة البساطة، وأحبه الناس لطباعه الفطرية غير المتكلفة. ولكن حين امتد حكمه وأرهقته خصومة السنين بات ظنوناً معتزلاً الناس، واستخدم عدداً غفيراً من الجواسيس ليكونوا له عيوناً على مساعديه وأعدائه على السواء. وقد أسدى له يوزف النصيحة من فيينا قائلاً: "دعهم يغشونك أحياناً، فهذا خير من أن تعذب نفسك عذاباً متصلاً لا غناء فيه"(10). فلما غادر ليوبولد فلورنسة ليخلف يوزف إمبراطوراً (1790) انتصرت قوى الرجعية في تسكانيا وأدان البابا بيوس الداس ريكي في 1794 وأودعه السجن (1799-1805) حتى سحب هرطقاته. ورد قدوم حكومة نابليون (1800) الأحرار إلى سابق سلطانهم.

وهرول جوته إلى روما عبر تسكانيا. استمع إليه وهو يكتب في أول نوفمبر 1786:

"وأخيراً وصلت إلى عاصمة العالم العظيمة هذه..وكأنما طرت طيراناً فوق جبال النيرول. إن شوقي لبلوغ روما كان شديدا..حتى كان التفكير في التخلف في أي مكان ضرباً من المحال، وحتى فلورنسة لم أمكث فيها سوى ثلاث ساعات. والآن، كما أخالني سأظفر بالهدوء مدى الحياة، فلنا أن نقول إن حياة جديدة تبدأ حين يرى الإنسان بعينيه ما لم يسمع أو يقرأ عنه من قبل إلا قليلاً. وأنا الآن أرى جميع أحلام شبابي تتحقق أمام عيني".

وأي خليط يدير الرؤوس كانت روما القرن الثامن عشر وهي تشغى بالشحاذين والنبلاء، بالكرادلة والخصيان المغنين، بالأساقفة والبغايا، بالرهبان والتجار، باليسوعيين واليهود، بالفنانين والمجرمين، بالفتاك والقديسين، وبالسياح يبحثون عن الآثار نهاراً وعن الغواني ليلاً. وهنا، وعلى اثني عشر ميلاً من أسوار المدينة، مدرجات وثنية وأقواس نصر، وقصور ونافورات من عهد النهضة، وثلاثمائة كنيسة وعشرة آلاف قسيس و170.000 نسمة. ومن حول الفاتيكان قلعة المسيحية الكاثوليكية، عاش صنف من الرعاع كانوا أشد ما عرف العالم المسيحي صخباً وتمرداً وعداءاً للأكليروس. وكالنت الكراسات البذيئة المهاجمة للكنيسة يطاف بها في الشوارع، والمهرجون يقلدون في سخرية في الميادين العامة أقدس مراسم القداس. ولعل فنكلمان وهو الرجل الحي الرقيق كان يبالغ قليلاً حين قال:

"في النهار يسود روما هدوء معتدل، أما في الليل فإن الشيطان ينطلق من عقاله. ونتيجة للحرية الكبيرة التي تسود هنا، ولعدم وجود أي نوع من أنواع الشرطة، يتصل الشجار وضرب النار وإطلاق الصواريخ والألعاب الناري في جميع الشوارع الليل كله..والجماهير عاصية لا تخضع لسلطان، قد أعيا الحاكم كثرة النفي والشنق"(11).

كانت روما مدينة تتسم بطابع العالمية أكثر حتى من باريس-يختلط فيها الفنانون والطلاب والشعراء والسياح بالأحبار والأميرات في الصالونات وقاعات الفن والمسارح.

هنا كان فنكلمان ومنجز يبشران بإحياء الطراز الكلاسيكي، وهنا كان الباباوات المرهقون المحاصرون يكافحون لتهدئة ثائرة الجماهير التي طحنها الفقر بالخبز والبركات الروحية، ولتعطيل السفراء الذين يلحون في إلغاء الطائفة اليسوعية والحفاظ على صرح المسيحية المعقد بأسره من الانهيار تحت وطأة التقدم العلم وهجمات الفلسفة.

ولكن لنمضي قدماً مع جيته إلى نابلي. لقد خيل إليه أنه لم يشهد قط مثل هذه الفرحة بالحياة:

"إذا كان في استطاعة المرء وهو في روما أن يعكف من فوره على الدراسة، فليس في استطاعته هنا أن يفعل شيئاً إلا أن يعيش. فأنت تنسى نفسك والعالم، وأنا عن نفسي أجده شعوراً غريباً أن أتنقل من قوم لا يفكرون إلا في الاستمتاع بالحياة...عنا لا يعرف الناش شيئاً بعضهم عن بعض. وقلما يلحظون أن غيرهم يسيرون أيضاً في طريق سيرهم جنباً إلى جنب معهم. وهم يجرون سحابة نهارهم خلفاً وأماماً في فردوس دون أن يلتفتوا حولهم، ولو بدأ فكا الجحيم المجاوران ينفتحان ويثوران، فإنهم يستنجدون بالقديس يتيواريوس(12).

وكان الدوق كارلوس بعد رحيله عن نابلي قاصداً أسبانيا في 1759 قد أوصى بمملكة بانلي وصقلية إلى ابنه فرديناند الرابع البالغ من العمر ثمانية أعوام، بوصاية المركيز دي تانوكي وواصل تانوكي حرب الكنيسة التي بدأها على عهد كارلوس. فألغى الكثير من أديرة الرهبان والراهبات ولم يتردد في إتباع تعليمات شارل الثالث ملك أسبانيا بطرد اليسوعيين. فما أن انتصف ليل 3-4نوفمبر 1767 حتى قبض الجند على جميع أعضاء الطائفة في المملكة، وقادوهم-وهو لا يحملون من مقتنياتهم سوى الثياب التي عليهم-إلى أقرب ثغر أو نقطة حدود، ومن هناك رحلوا إلى الولايات البابوية. ولما بلغ فرديناند الرابع عامه السادس عشر (1767) أنهى وصاية تانوكي. وبعد عام تزوج ماريا كارولينا، الأبنة التقية لماريا تريزا. وسرعان ما سيطرت على زوجها وتزعمت حركة رجعية ضد سياسات تانوكي المناهضة لرجال الدين. وكانت إصلاحات المركيز قد قوت ملكية تانوكي ضد نبلاء الإقطاع والكنيسة، ولكنها لم تحقق شيئاً يذكر في تخفيف الفقر الذي لم يترك للجماهير أملاً إلا في الآخرة.

وانتهجت صقلية نهجاً مماثلاً. فكان بناء كاتدرائية بلرمو (1782-1802) أهم وأخطر في نظر الشعب من محاولة دمونيكو دي كاراكولي ترويض أمراء الإقطاع الذين سيطروا على البلاد. وكان قد عمل سنوات كثيرة سفيراً لنابلي في لندن وباريس، وأستمع إلى البروتستنت والفلاسفة. فلما عُين والياً على صقلية (1781) فرض الضرائب الباهظة على كبار ملاك الأراضي، واختزل حقوقهم الإقطاعية على أقنانهم، وأنه ما كان لهم من امتيازات اختيار القضاة المحليين. ولكن حين تجاسر على حبس أمير يحمي قطاع الطرق، وأمر بإنقاص يومين من العطلات التي تمنح تكريماً للقديس روزاليا حامي بلرمو، ثارت عليه جميع الطبقات، وقفل إلى نابلي مهزوماً (1785)(13). فالفلاسفة لم يكونوا قد برهنوا بعد على أنهم يفهمون حاجات الإنسان وطبيعته خيراً مما تفهمها الكنيسة.


البابوات والملوك واليسوعيون

استندت قوة الكنيسة الكاثوليكية على إيمان بالخوارق ركب في فطرة البشر، والتسليم بالدوافع الحسية والمخلفات الوثنية والتسامي بها، وتشجيع الخصوبة الكاثوليكية، وغرس لاهوت غني بالشعر والأمل، نافع للتهذيب الخلقي والنظام الاجتماعي. كذلك كانت الكنيسة في إيطاليا لمصدر الرئيسي للدخل القومي، ورادعاً معترفاً بقيمته لشعب يؤمن إيماناً شديداً بالخرافات، وثني النزعة مشبوب العطفة. وقد كثرت الخرافات بين الإيطاليين، فحتى (1787) أحرقت الساحرات في بلرمو-وقدمت المرطبات للنبيلات العصريات اللاتي حضرن هذا المشهد(14). وعاشت المعتقدات والعادات والمراسم الوثنية في ظل موافقة الكنيسة عليها عن طيب خاطر. كتب جوته يقول "لقد انتهيت إلى اعتقاد القاطع بأن كل آثار المسيحية الأصلية قد انقرضت هنا في روما(15)". على انه بقي في العالم المسيحي الكثير من المسيحيين الحقيقيين، حتى في إيطاليا. ومن هؤلاء الكونت كايسوتي دي كيوزانو، أسقف أستي، الذي نزل عن ميراثه الكبير، وعاش في فقر اختياري، وكان لا يسافر إلا راجلاً. كذلك كان تستا أسقف مونريالي ينام على القش، ولا يأكل إلا ما يمسك رمقه ولا يحتفظ من دخله إلا بثلاثة آلاف ليرة لحاجاته الشخصية، ويخصص ما بقي منه للأشغال العامة وللفقراء(16).

واستجابت الكنيسة لحركة التنوير إلى حد ما. وبالطبع أدرجت أعمال فولتير وروسو وديدرو وهلفتيوس ودولباخ ولا متري وغيرهم من أحرار الفكر في قائمة الكتب المحرمة، ولكن أبيح الحصول على إذن بقراءتها من البابا. وكان المونسنيور فنتمليو أسقف قطنيا (1757-73) يقتني في مكتبته طبعات كاملة من فولتير وهلفتيوس وروسو(17). وألغيت محكمة التفتيش في تسكانيا وبارما عام 1769، وفي صقلية عام 1782، وفي روما عام 1809. وفي 1783 نشر قسيس كاثوليكي يدعى تابعورني، تحت اسم صديقه تراوتما نسدورف، مقالاً "في التسامح الكنسي والمدني" أدان فيه محكمة التفتيش وحكم على كل ضروب الإكراه للضمير بأنها منافية للمسيحية، ودافع عن جميع أنواع اللاهوت إلا الإلحاد(18). وكان من سوء طالع البابوات في نصف القرن الثامن عشر هذا أن يضطروا إلى مواجهة مطالبة الملوك الكاثوليك بحل جمعية اليسوعيين كلية. وكانت الحركة المناهضة لليسوعيين جزءاً من صراع على القوة بين قومية الدولة الحديثة الظافرة، ودولية بابوية أضعفتها حركة الإصلاح البروتستانتي وحركة التنوير وصعود طبقة رجال الأعمال. ولم يلح أعداء الجمعية الكاثوليك إلحاحاً سافراً باعتراضهم الرئيسي عليها، وهو أنها دأبت على تأييد سلطة الباباوات باعتبارها فوق سلطة الملوك، ولكنه كرهوا أشد الكره أن يشكل قيام منظمة لا تعترف برئيس غير رئيسها، والبابا في الواقع داخل كل دولة عميلاً لسلطة أجنبية. وقد سلموا بغزارة علم اليسوعيين وتقواهم، وبإسهاماتهم في العلوم والأدب والفلسفة والفن، وبتربيتهم المثابرة الفعالة للشباب الكاثوليكي؛ وببطولتهم في البعثات الأجنبية وباستعادتهم كثيراً من الأرض التي فقدتها الكاثوليكية واستولت عليها البروتستنتية. ولكن التهمة التي وجهوها إلى الجمعية هي أنها كانت تتدخل المرة بعد المرة في الشؤون العلمانية؛ وأنها اشتغلت بالتجارة طمعاً في الربح المادي؛ وأنها غرست مبادئ الفتاوى التي تغتفر الفساد الخلقي والجريمة، وأغضت حتى عن قتل الملوك، وأنها سمحت للعادات والمعتقدات الوثنية بأن تعيش بين أتباعها المزعومين في آسيا؛ وأنها أساءت إلى الطوائف الدينية الأخرى وإلى كثير من الكهنة غير الرهبان، بحدتها في الجدل ونغمتها المشربة بالاحتقار. وأصر سفراء ملوك البرتغال وأسبانيا ونابلي وفرنسا على إلغاء الترخيص البابوي الخاص بالجمعية وعلى حل المنظمة رسمياً وفي كل مكان. على أن طرد اليسوعيين من البرتغال في 1759 ومن فرنسا في 1764-67، ومن أسبانيا ونابلي في 1767، ترك الجمعية تواصل نشاطها وسط وشمالي إيطاليا، وفي سيليزيا وبولندا.وفي 7 فبراير 1768 طردوا من دوقية بارما البوربونية، وأضيفوا إلى حشد اللاجئين اليسوعيين في ولايات الكنيسة. واحتج البابا كلمنت الثالث عشر بأن بارما إقطاعة بابوية، وهدد الدوق فرديناند السادس ووزراءه بالجرم إذا نفذ مرسوم الطرد. فلما أصروا أصدر مرسوماً أعلن فيه مصادرة رتبة الدوق ولقبه وإلغاءهما. وبدأت الحكومات الكاثوليكية في أسبانيا ونابلي وفرنسا حرباُ على البابوية. واستولى تانوتشي على مدينتي بنيفنتو وبونتيكوفو البابويتين واحتلت فرنسا أفنيون. وفي 10 ديسمبر 1768 قدم السفير الفرنسي في روما باسم فرنسا ونابلي وأسبانيا إلى البابا مطلباً بسحب المرسوم الموجه ضد بارما وبإلغاء جمعية اليسوعيين. وانهار الحبر الأعظم تحت وطأة هذا الإنذار النهائي. وكان يبلغ من العمر آنذاك ستة وسبعين عاماً، فدعا لعقد مجمع من المطارنة والمبعوثين في 3 فبراير 1769 لدراسة الأمر. وفي 2 فبراير خر صريعاً بانفجار عرق في دماغه.

وانقسم الكرادلة الذين دعوا لاختيار خلف له فريقين: الغيورين الذين اقترحوا تحدي الملوك، والمهدئين الذين آثروا التسويات الهادئة. ولما كانت الكثرة العظمى من الكرادلة الإيطاليين من فريق الغيورين الذين اجتمعوا سريعاً في روما، فقد حاولوا افتتاح المجمع قبل أن يصل فريق الكرادلة المهدئين من فرنسا وأسبانيا والبرتغال. واحتج السفير الفرنسي فأجل المجمع. وفي غضون هذا عرض لورنتسو ريكي قائد اليسوعيين قضيتهم للخطر إذ أصدر كراسة اعترضت على سلطة أي بابا في إلغاء الجمعية(19). وفي مارس وصل الكاردينال دبيرني من فرنسا وبدأ طوافه على الكرادلة بهدف ضمان انتخاب بابا راغب في إرضاء أصحاب الجلالة الكاثوليك. وقد رفض المؤرخون، سواء منهم الكاثوليك(21)، وخصوم الكاثوليك(22)، الشائعات التي زعمت بعد ذلك(20) أنه هو أو غيره رشوا أغروا بوسيلة ما الكاردينال جوفاني جانجاتللي بأن يعد بهذا إذا اختير لكرسي البابوية. وكان جانجاتللي بإجماع الكل رجلاً عظيم الثقافة والتقوى والنزاهة، بيد أنه كان ينتمي إلى طائفة الفرنسسكان التي طالما خاصمت اليسوعيين سواء في ميدان البعثات التبشيرية أو اللاهوت(23).

وفي 19 مايو 1769 انتخب باجماع آراء الكرادلة الأربعين، واتخذ اسم كلمنت الرابع عشر، وكان يومها في الثالثة والستين.

ثم ألفى نفسه واقفاً تحت رحمة الدول الكاثوليكية. ففرنسا ونابلي تتشبثان بالأقاليم البابوية التي استولتا عليها، وأسبانيا وبارما تتخذان موقف التحدي، وهددت البرتغال بإقامة بطريركية مستقلة عن روما، بل أن ماريا تريزا التي كانت حتى ذلك الحين حارة الولاء للبابوية واليسوعيين ولكنها الآن فقدت سلطانها الذي انتزعه منها ابنها حر التفكير جوزف الثاني، وردت على نداء البابا بطلب معونتها بـأنها لا تستطيع مقاومة الإرادة الموحدة لمثل هذا العدد الكبير من الملوك والحكام. وأصدر شوازيل الذي كان مسيطراً على حكومة فرنسا آنذاك تعليماته لبيرني بأن يخبر البابا أنه "إذا لم يستطع التوصل إلى تفاهم مع فرنسا ففي استطاعته أن يعتبر كل علاقاته به منتهية(24)".

وكان شارل الثالث ملك أسبانيا قد أرسل مثل هذا الإنذار النهائي في 22 إبريل. أما كلمنت، الذي حاول كسب الوقت، فقد وعد شارل بأنه عن قريب "سأرفع إلى حكمة جلالتكم وذكائكم خطة للقضاء المبرم على الجمعية(25)". وأمر مساعديه بالرجوع إلى السجلات وتلخيص تاريخ جمعية اليسوعيين وإنجازاتها وجرائمها المزعومة. ورفض التسليم بما طالب به شوازيل من الفصل في النزاع خلال شهرين. وقد اقتضاه الفص ثلاث سنين، ولكنه أذعن في النهاية. ففي 21 يوليو 1773 وقع الرسالة البابوية التاريخية، وقد بدأت بقائمة طويلة من الجماعات الدينية التي حظرها الكرسي البابوي المقدس على مدى الأيام، وذكرت الشكاوى الكثير التي رفعت ضد اليسوعيين، والجهود الكثيرة التي بذلها البابوات لعلاج المساوئ المزعومة. "وقد لاحظنا ببالغ الحزن أن هذه العلاجات وغيرها مما استعمل بعد ذلك لم يكن لها من الفاعلية أو القوة ما يضع حداَ لهذه المتاعب والتهم والشكاوى(26)". واختتمت الرسالة بهذه العبارة "وإذ تبين لنا أن جمعية اليسوعيين لم تعد قادرة على أن تؤتي الثمرات الوفيرة والخير العظيم اللذين من أجلهما أسست ووافق عليها العدد الكبير من الباباوات أسلافنا الذين شرفوها بالكثير من المزايا الجديرة بالإعجاب، وإذ رأينا أنه من المستحيل تقريباً-بل أنه مستحيل إطلاقاً-على الكنيسة أن تتمتع بسلام صادق متين ما بقيت هذه الطائفة...فإننا بعد الفحص المتـأني، ونتيجة لمعرفتنا الخاصة وبحكم كمال سلطتنا الرسولية، نحل ونلغي بمقتضى هذه الرسالة البابوية جمعية اليسوعيين. ونبطل ونلغي كل مناصبها ووظائفها وإداراتها، ودورها، ومدارسها، وكلياتها وخلواتها، وملاجئها وسائر المؤسسات التي تخصها على أي وجه كائناً ما كان وفي أي إقليم أو مملكة أو دولة لها وجود فيه(27)".

ثم وعدت الرسالة البابوية بصرف معاشات لليسوعيين الذين لم يرسموا بعد ويريدون العودة لحياة العلمانيين، وأذن للكهنة اليسوعيين بالانضمام إلى الأكليروس غير الرهبان أو بأي طائفة دينية يوافق عليها الكرسي البابوي، وسمح لليسوعيين المقبولين في الرهبنة والذين نذروا أنفسهم نذراً نهائياً مطلقاً بأن يبقوا في بيوتهم السابقة شريطة أن يلبسوا رداء الكهنة غير الرهبان ويخضعوا لسلطة الأسقف المحلي. وفي معظم الحالات؛ وباستثناء بعض المبعوثين في الصين، تقبل اليسوعيون حكم إعدام هذا الذي أصدره البابا على جمعيتهم بامتثال ونظام ظاهرين..بيد أن كراسات غفل من اسم المؤلف طبعت ووزعت دفاعاً عن قضيتهم، وقبض على ريتشي وعدد من معاونيه بتهم لم تثبت عليهم قط بأنهم يتراسلون مع خصوم المرسوم. ومات ريتشي في السجن في 24 نوفمبر 1775 بالغاً الثمانية والسبعين. ولم يعش كلمنت الرابع عشر إلا عاماً واحداً أو يزيد بعد المرسوم. وكثرت الشائعات بأن عقله أختل في شهوره الأخيرة. وقد اجتمعت عليه الأسقام، ومنها الأسقربوط والبواسير، لتجعل كل نهار وليل في حياته شقاء وتعاسة له. وأصابته في إبريل 1774 نزلة برد لم تبرحه قط، ولم تحل نهاية أغسطس حتى كان الكرادلة يناقشون مسألة خلافتهم، وفي 22 سبتمبر قضى كلمنت نحبه.

وبعد الكثير من التأجيلات والدسائس أجلس مجمع الكرادلة على كرسي البابوية (15 فبراير 1775) جوفاني براسكي الذي اتخذ اسم بيوس السادس. وكان رجلاً مثقفاً أكثر منه سياسياً، يجمع التف الفنية، ويسحر الجميع برفته، وقد حسن إدارة الكوريا (الإدارة البابوية) وأستصلح بعض المستنقعات الوبتية. ورتب حلاً وسطاً مؤقتاً مسالماً لليسوعيين مع فردريك الأكبر. وفي 1793 أنظم للحلف المعدي لفرنسا الثائرة. وفي 1796 غزا نابليون الولايات البابوية، وفي 1798 دخل الجيش الفرنسي روما، وأعلنها جمهورية، وطالب البابا بالتخلي عن كل سلطاته الزمنية. ولكنه أبى، فاعتقل، وظل في أماكن وحالات مختلفة من السجن حتى وفاته (29 أغسطس 1799). أما خليفته بيوس السابع فقد جعل رد جمعية اليسوعيين إلى سابق عهدها (1714) جزءاً من انتصار التحالف على نابليون.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

القانون وبيكاريا

ظلت أخلاق إيطاليا وسلوكها مزيجاً من العنف والتراخي، من الثأر والحب. كتب موتسارت من بولونيا عام 1770، وكان في الرابعة عشرة من عمره "إن إيطاليا بلد ناعس"(28)، ولم يكن قد تعلم فلسفة القيلولة. أما أبوه فكان رأيه في 1775 أن "الإيطاليين أوغاد في كل أنحاء العالم"(29).

وقد علق موتسارت وجوته كلاهما على الجريمة الإيطالية. كتب موتسارت يقول إن في نابلي "زعيماً للشحاذين يتقاضى من الملك خمساً وعشرين دوقاتية كل شهر مقابل تهدئتهم لا أكثر"(30). وكتب جوته يقول :إن أكثر ما يلفت نظر الغريب هو كثرة الاغتيالات. واليوم كان الضحية فناناً ممتازاً هو شفندمان...وقد طعنه القاتل الذي اشتبك معه عشرين طعنة، فلما أقبل الحارس طعن نفسه. وليس هذا ما يجري به العرف هنا عموماً، فالقاتل عادة يقصد أقرب كنيسة، فمتى بلغها أصبح في مأمن تام"(31). وكانت كل كنيسة تعطي المجرم الأمان في حرمها-أي الحصانة من الاعتقال ما بقي تحت سقفها. وحاول القانون كبح الجريمة بتشديد العقوبة أكثر مما حاولها بكفاية الشرطة. فقد نصت قوانين بندكت الرابع عشر الرحيم على عقوبات التجديف بالجلد، فإذا تكررت الجريمة ثلاث مرات كان عقابها التشغيل خمس سنوات في سفن الأسرى والعبيد. وكان السطو على دير الراهبات ليلاً جناية كبرى، أما مغازلة امرأة شريفة أو معانقتها علانية فعقابه التشغيل المؤبد على هذه السفن. وكان تشويه السمعة الخلقية، حتى إذا لم يحتو غير الصدق يعاقب بالإعدام ومصادرة الممتلكات. (ومع ذلك لم يقلل هذا من المقطوعات الهجائية). ومثل هذه العقوبة فرضت على حمل الطبنجات المخبأة. على أن الجناة كانوا في كثير من المناطق يتفادون هذه الأوامر بالفرار إلى دولة مجاورة أو بفضل رحمة القاضي، أو الاحتماء بالكنيسة. ولكن العقوبات كانت تنفذ بصرامة في حالات عديدة. من ذلك أن رجلاً شنق لادعائه أنه كاهن، وآخر لسرقة ثوباً كهنوتياً باعه بفرنك وربع، وثالث ضرب عنقه لكتابته خطاباً أتهم البابا كلمنت الحادي عشر بعلاقة غرامية مع ماريا كلمنتينا سوبيسكا(32). وإلى تاريخ متأخر (1762) كان السجناء تحطم أجسادهم على دولاب التعذيب، عظمة بعد عظمة، أو يسحلون على الأرض في ذيل حصان مهموز. على أن من واجبنا أن نضيف جانباً أكثر إشراقاً على الصورة، هو أن بعض الجماعات كانت تجمع المال لدفع غرامات السجناء وتحريرهم. وغدا إصلاح القانون، سواء من حيث الإجراءات أو من حيث العقوبات، جزءاً طبيعياً من الروح الرحيمة التي أنجبها أبوان-حركة تنوير إنسانية، وأخلاقيات مسيحية تحررت من لاهوت قاس.

ومن مفاخر إيطاليا أن يصدر أقوى نداء يدعو لإصلاح القانون في هذا القرن عن شريف ميلاني. وقد كان هذا الشريف-تشزاري بونيزانا، مركيز بكاريا، نتاج اليسوعيين والفلاسفة الفرنسيين. ومع أنه وهب من الثراء ما يسمح له بحياة التبطل فإنه كرس نفسه بغيرة لا تفتر لحياة التأليف الفلسفي والإصلاح العملي. وقد أمسك عن مهاجمة دين الشعب؛ ولكنه تصدى رأساً للظروف الفعلية للجريمة والعقاب. وقد صدمه أن يرى قذارة السجون الميلانية التي كانت مرتعاً للأمراض، وأن يسمع من السجناء كيف ولم اعتادوا الإجرام وكيف حوكموا على جرائمهم. وأفزعه أن يكتشف مخالفات صارخة في الإجراءات القضائية، وألواناً من التعذيب الوحشي للمشبوهين والشهود، وضروباً من التعسف في الأحكام سواء بالتشديد أو التخفيف، وألواناً من القسوة الضاربة في العقاب. وحوالي 1761 انضم إلى بييتروفيري في جمعية سمياها "البونيات" (قبضات الأيدي)-نذرت نفسها للعمل والفكر معاً. وفي 1764 بدءا مجلة "المقهى" محاكاة لمجلة أديسون "سبكتير"، وفي ذلك العام نشر نيكاريا بحثه التاريخي "بحث في الجرائم والعقوبات".

وفي مستهل كتابه أعلن غي تواضع أنه يتأثر بخطى "روح القوانين" الذي ألفه "الرئيس الخالد" لبرلمان بوردو، فالقوانين يجب أن ترسي على العقل، ورائدها الأساسي ليس الانتقام من الجريمة بل حفظ النظام الاجتماعي، وينبغي أن تستهدف دائماً "أوفر سعادة موزعة على أكبر عدد(33)". هنا قبل بنتام بخمسة عشر عاماً، نجد المبدأ الشهير لأخلاقيات مذهب المنفعة. واعترف بكاريا بصراحته المعهودة بتأثره بهلفتيوس، الذي أورد الصيغة ذاتها في كتابه "في الروح" (1758). (وكان قد صدر في سلسلة فرانسس هتشسن "أفكار في الجمال والفضيلة" (1725).وقال بكايا أن توسع التعليم وتعميقه أملاً في الحد من الجرائم أصوب لمصلحة المجتمع من الالتجاء إلى عقوبات فد تحول شخصاً أجرم عرضاً من مخالطته المجرمين إلى مجرم عريق. فالواجب أن يكون لكل متهم الحق في محاكمة عادلة وعلنية أما قضاة أكفاء يتعهدون بالحياد والنزاهة.ويجب أن تقفو المحاكمة الاتهام سريعاً؛ وأن يكون العقاب متناسباً مع الضرر الواقع على المجتمع لا مع نية الفاعل. فضراوة العقوبة تولد ضراوة الخلق، حتى في الجمهور غير المجرم. أما التعذيب فيجب عد الالتجاء إليه إطلاقاً، فالمذنب الذي تعود على الألم قد يحتمله في تجلد وتفترض براءته، في حين قد يكره الألم بريئاً مرهب الأعصاب على الاعتراف بأي شيء فيحكم بأنه مذنب. ويجب ألا يسمح بعد بحماية الكنيسة للمجرمين، ويجب إلغاء عقوبة الإعدام.

وطبع الكتيب ست طبعات في ثمانية عشر شهراً، وترجم إلى اثنتين وعشرين لغة أوربية. وأشاد بكاريا بالترجمة الفرنسية التي قام بها مورلليه وقال أنها أفضل من الأصل. وقد شارك فولتير بمقدمة غفل من الاسم لتلك الترجمة؛ وأقر المرة بعد المرة بأثر بكاريا في جمهوره لإصلاح القانون. وبادرت معظم الدويلات الإيطالية إلى إصلاح قوانين عقوباتها. ولم يحل عام 1789 حتى كانت أوربا كلها تقريباً قد ألغت التعذيب. وتأثرت كاترين ببكاريا كما تأثرت بفولتير في إلغاء التعذيب في أملاكها. أما فردريك الأكبر فكان قد أنهاه فعلاً في روسيا(1740) إلا في حالات الخيانة. وفي 1768 عين بكاريا في كرسي للقانون والاقتصاد أنشئ خصيصاً له في كلية البالاتين بميلان. وفي 1790 عين في لجنة لإصلاح القضاء في لمبارديا. وقد سبقت محاضراته عدة أفكار أساسية لآدم سمث ومالتامن في تقسيم العمل والعلاقة بين العمال ورأس المال، وبين السكان وكمية الطعام. وفيه بعثت "إنسانية" النهضة الأوربية من جديد في صورة التنوير في إيطاليا.

مغامرات

كاليوسترو

ولد جوزيبي بلسامو لصاحب متجر ببلرمو في 1743. ونضج مبكراً وسرعان ما أصبح لصاً بارعاً. وفي الثالثة عشرة قيد تلميذاً في دير البنفراتيللي. وعين هناك مساعداً لصيدلي الدير، فتعلم كم قواريره ومحابيره وكتبه من الكيمياء والخيمياء ما يكفي لإعداد نفسه لاحتراف الشعوذة الطبية...ولما كلف بأن يقرأ حياة القديسين على الرهبان وهم يتناولون طعامهم، استبدل بأسماء القديسين أسماء أشهر مومسات بلرمو. وجلد عقاباً له، فهرب من الدير وانظم إلى عالم المجرمين السفلي، ودرس فن الأكل دون بذل العرق. واشتغل قواداً ومزوراً ومزيفاً للنقود، وقارئاً للبخت، وساحراً، ولصاً وأفلح في إخفاء آثاره بمهارة عجزت معها الشرطة عن إدانته إلا بالوقاحة.

فلما رأى نفسه مشبوهاً على نحو يضايقه، انتقل إلى مسينا، وعبر إلى ريدجو كالأبرياء، وجرب الفرص التي تتيحها نابلي وروما. وتكسب فترة بإدخال لمسات على نسخ الصور وبيعها على أنها من صنعه. ثم تزوج لورنتسا فيلكياني، وأثرى ببيع جسدها. وأنتحل اسم المركيز دي بللجريني، وأخذ نبيلته المكسبة إلى البندقية ومرسليا وباريس ولندن. ثم دبر أن تمسك زوجته بين ذراعي كويكري ثري؛ وعاشا على المال الذي ابتزاه نتيجة للخطة شهوراً. ثم غير اسمه إلى الكونت دي كاليوسترو، وتنكر بشوارب ولبس حلة كولونيل بروسي، وسمى زوجته من جديد بالكونتيسة سيرافينا. ثم عاد إلى بلرمو، وقبض عليه بتهمة التزوير، ولكن أفرج عنه تحت إلحاح منذر بالشر من أصحابه الذين روعوا القضاء. وإذ بليت مفاتن سيرافينا لكثرة تداولها، فقد أخذ يطبق ما تعلم من كيمياء فجهز وباع العقاقير التي تضمن إزالتها التجاعيد وتأجيجها لنار العشق. ولما عاد إلى إنجلترا أتهم بسرقة قلادة من الماس وقضى فترة في السجن ثم انضم إلى جماعة الماسون وانتقل إلى باريس، وادعى أنه الرئيس الأكبر للماسون المصريين. وأكد لعشرات السذج أنه عثر على الأسرار القديمة لإعادة الشباب، الذي يمكن تحقيقه بعلاج يمتد أربعين يوماً تستعمل فيه المسهلات والمعرقات وغذاء من الجذور، والحجامة، والتيوصوفية(34). وكان كلما أفتضح أمره في مدينة مضى إلى غيرها؛ وأتصل بأسرها الفنية بفضل طريقة المصافحة وخاتمه الماسونيين. وفي سانت بطرسبرج أشتغل طبيباً، وعالج الفقراء مجاناً؛ وأستقبله بوتمكين، ولكن طبيب كاترين الكبرى، وكان اسكتلندياً حاذقاً، حلل بعض أكاسير هذا الطبيب ووجدها فارغة لا قيمة لها. فسمح لكاليوسترو بيوم واحد يحمل فيه بضاعته ويرحل. وفي وارسو أفتضح أمره ثانية على يد طبيب آخر في كتيب سماه "نزع القناع عن كاليوسترو" (1780)، ولكن قبل أن يدركه كان قد انطلق إلى فيينا وفرانكفورت وستراسبورج. وهناك سحر الكردينال الأمير لوي-رينيه-إدوارد روهان، الذي وضع في قصره تمثالاً نصفياً لزعيم الماسون الأكبر كتب عليه "كاليوسترو المقدس" وأتى به الكردينال إلى باريس، وتورط النصاب الكبير على غير قصد منه قصة القلادة الماسية. فلما انكشفت هذه الخدعة زج بكاليوسترو في الباستيل؛ ولكن سرعان ما أفرج عنه لبراءته، ولكنه أمر بمغادرة فرنسا(1786). فوجد زبائن جدداً في لندن. وزار جوته أثناء ذلك أم كاليوسترو في صقلية وأكد لها أن ولدها الذائع الصيت قد أطلق سراحه وأنه في مأمن(35).

وفي لندن حيث تكاثر المشككون في أمره انتقل الكونت والكونتيسة إلى بازل وتورين وزوفبريتو وترنت، يشتبه فيهما في كل بلد ثم يطردان. وتوسلت إليه سيرافينا أن يأخذها إلى روما لتصلي عند قبر أمها، فوافق الكونت. وفي روما حاولا أن يقيما محفلاً لماسونيته المصرية، فقبضت عليهما محكمة التفتيش (29 ديسمبر 1789)، واعترفا بأنهما دجالان نصابان، فحكم على كاليوسترو بالسجن مدى الحياة، وأنهى أيامه في قلعة سان ليو قرب بيزارو في 1795 وقد بلغ الثانية والخمسين. وهكذا كان هو أيضاً جزءاً من صورة القرن المستنير.

كازانوفا

أضاف جوفاني ياكوبو كازانوفا لقب "دي سينجالت" الفخم لاسمه بتفنيط عشوائي للأبجدية، باعتبار هذا اللقب تشريفاً يفيد في أبهر الراهبات وتحدى حكومات أوربا. ولد لممثل وممثلة في البندقية عام 1725، وظهرت عليه منذ طفولته أمارات النشاط الذهني. تتلمذ لاحتراف القانون، وزعم أنه نال الدكتوراه في جامعة بادوا وهو في السادسة عشرة. وعلينا في كل خطوة من "مذكراته" الشائقة أن نكون على حذر من شطط خياله، ولكنه يقص قصته بصراحة يدين بها نفسه إدانة تحملنا على تصديقه حتى ونحن نعلم أنه يكذب.

وبينما كان في بادو حقق أول غزواته-وهي بتينا، "فتاة حلوة في الثالثة عشرة" وأخت لمعلمه الكاهن الطيب جوتسي. فلما مرضت بالجدري عني بها كازانوفا وأصيب بالمرض. ويزعم في روايته أن أعمال الرحمة التي كان يقوم بها كانت تعدل غزواته الغرامية. وحين ذهب في شيخوخته إلى بادو لآخر مرة ،"ألفيتها عجوزاً، مريضة، فقيرة، وقد ماتت بين ذراعي".(37) وكل عشيقاته تقريباً يصورهن مغرمات به إلى النهاية.

على أنه عانى من فقر مذل رغم درجته القانونية. مات أبوه، وكانت أمه تمثل في مدن بعضها وصل في بعده حتى سانت بطرسبورج، وتنساه عادة. وكسب بعض المال من عزف الكمان في الحانات والشوارع. ولكنه وهب القوة كما وهب الوسامة والشجاعة. فلما أصيب السناتور البندقي زوان براجادينو (1746) بالنقطة وهو يهبط السلم، احتمله ياكوبو بين ذراعيه وأنقذه من سقطة فجائية. وبعدها بسط عليه السناتور حمايته في مآزق كثيرة وزوده بالمال لزيارة فرنسا والنمسا. وفي ليون انضم إلى الماسون الأحرار، وفي باريس "أصبحت رفيقاً، ثم رئيساً للطائفة". (ونحن نلحظ في شيء من الدهشة قوله "في زمني لم يكن في فرنسا من يعرف كيف يبالغ في الأسعار")(38).

وفي 1753 عاد إلى البندقية، وسرعان ما لفت نظر الحكومة باحترافه السحر والتنجيم. وبعد عام أبلغ محقق رسمي مجلس الشيوخ عنه فقال:

لقد أفلح في التسلل إلى قلب الشريف زوان براجادينو.... وابتز ماله ابتزازاً باهظاً..... وقد أخبرني بنديتو بيزانو أن كازانوفا بسبيله إلى أن يصبح فيلسوفاً قبلانياً وأنه يحاول التكسب بالحجج الزائفة يموه بها في مهارة على عقول ضحاياه.....وقد أمكنه.....إقناع براجادينو بأن في استطاعته استحضار ملاك النور لينفعه.(39) ويضيف التقرير أن كازانوفا قد بعث إلى أصحابه بكتابات تشي بحقيقته مفكراً ملحداً. ويقول كازانوفا "لقد وقر في نفسي سيدة تدعى مدام ممنو أنني أعلم ولدها مبادئ الإلحاد(40)".

"أن التهم التي وجهت إليّ تتعلق بالكرسي (البابوي) المقدس، والكرسي المقدس وحش ضارٍ من الخطر أن تمسه. وكانت هناك ظروف معينة...جعلت من الصعب عليهم حبسي في السجون الكنسية التابعة لمحكمة التفتيش، ولهذا السبب تقرر في النهاية أن تناط محكمة التفتيش الدولة "بمحاكمتي(41)".

ونصحه براجادينو بالرحيل عن البندقية، ولكن كازانوفا أبى. وفي الغداة قبض عليه، وصودرت أوراقه، وحبس دون محاكمة في البيومبي "ألواح الرصاص" هو اسم سجن الدولة البندقي نسبة إلى ألواح الرصاص المسقوف بها. "حين جن الليل استحال على أن أغمض عيني لأسباب ثلاثة: أولها الفئران، وثانيها الطنين الرهيب الذي تحدثه ساعة كاتدرائية القديس مرقس التي كانت تدق وكأنها في حجرتي، وثالثها ألوف البراغيث التي أغارت على بدني تعضني وتلدغني وتسمم دمي بحيث أصابتني انقباضات عنيفة بلغت حد التشنجات"(42).

وحكم عليه بالسجن خمس سنين، ولكنه هرب بعد أن ظل رهين محبسه خمسة عشر شهراً (1757) بفضل سلسلة معقدة من الحيل والمخاطرات والأهوال أصبحت روايته لها جزءاً من "عدة نصبه" في كثير من الأقطار.

فلما عاد ثانية إلى باريس اشتبك في مبارزة مع فتى يدعى الكونت نيكولا دلاتور دوقرن وأصابه بجرح، ثم شفاه بمرهم "سحري"، وكسب صداقته، فقدمه إلى عمة له غنية تسمى مدام دورفيه، كانت شديدة الإيمان بقوى السحر، ومؤملة أن تستعين بها على تغيير جنسها. واستغل كازونوفا سذاجتها، ووجد فيها وسيلة خفية للإثراء.

"إنني لا أستطيع وقد شخت الآن أن أرجع ببصري إلى هذا الفصل من حياتي دون أن أخمر خجلاً"(43). وهذا اتصل على مدى فصول كثيرة أخرى من كتابه. وأضاف إلى دخله بالغش في لعب الورق، وتنظيم يانصيب للحكومة الفرنسية، وبالحصول على قرض لفرنسا من الأقاليم المتحدة. وفي الرحلة من باريس إلى بوكسل قرأت كتاب هلفتيوس "في الروح" طول الطريق.(44) (ويقدم للمحافظين مثالاً مقنعاً من إنسان حر التفكير انقلب رجلاً فاسقاً وإن كانت المرحلة التالية هي العكس في أغلب الظن). وكان في كل محطة يلتقط خليلة، وفي كثير من المحطات يجد خليلة سابقة، وبين الحين والحين يقع مصادفة على ذرية له لم يقصد إنجابها.

وزار روسو في مونمورنسي، وفولتير في فرنيه (1760) وقد سبق أن استمتعنا بشطر من ذلك الحديث الخاص بينهم. وإذا جاز لنا أن نصدق كازانوفا، فإنه اغتنم الفرصة ليوبخ فولتير على فضحه سخافات الميثولوجيا الشعبية:

كازانوفا: هيك نجحت في القضاء على الخرافة، فماذا تحل محلها؟

فولتير: يعجبني هذا! حين أخلص البشرية من وحش ضار يفترسها، أتسألني ماذا أحل محله ؟

كازانوفا: إن الخرافة لا تفترس البشرية، بل أنها على العكس ضرورية لوجودها. فولتير: ضرورية لوجودها! ذلك تجديف مخيف. إنني أحب البشر، وأود أن أراهم أحراراً سعداء مثلي. والخرافة والحرية لا يمكن أن يسيرا يداً بيد. أتظن أن العبودية تؤدي إلى السعادة؟ كازانوفا: إن ما تريده إذن هو سيادة الشعب؟ فولتير: معاذ الله! يجب أن يكون للجماهير ملك يحكمها. كازانوفا: في هذه الحالة تكون الخرافة ضرورية، لأن الشعب لن يعطي رجلاً هو مجرد إنسان حق حكمه... فولتير: أريد ملكاً يحكم شعباً حراً، ويلتزم قبله بشروط متبادلة تمنع أي ميل من جانبه للاستبداد. كازانوفا: يقول أديسون أن هذا الملك...يستحيل وجوده. وأنا متفق مع هوبز. فعلى المرء أن يختار من الشرين أقلهما ضرراً. والأمة التي تحررت من الخرافة هي أمة من الفلاسفة والفلاسفة لا يعرفون كيف يطيعون. وما من سعادة ترجى لشعب لا يسحق ويذل ويظل مصفداً بالقيود. فولتير: هذا شنيع! وأنت فرد في الشعب!... كازانوفا: إن العاطفة المسيطرة عليك هي حبك للبشرية. وهذا الحب يعميك. أحب البشرية، ولكني أحبها كما هي. فالبشرية ليست قابلة للمزايا التي تود أن تغدقها عليها، فهذه المزايا لن تزيدها إلا تعاسة وانحرافاً..... فولتير: يؤسفني أن يكون لك هذا الرأي السيئ في إخوانك في الإنسانية(45).

وكان كازانوفا يشق طريقه أينما ذهب إلى بيت من البيوت الأرستقراطية، لأن الكثير من النبلاء الأوربيين كانوا ماسوناً، أو روزيكروشيين أو مدمنين على علوم السحر. وهو لم يقتصر على ادعاء العلم الغيبي في هذه الميادين، بل أضاف إلى دعواه القوام الممشوق، والوجه المتميز (وإن لم يكن وسيماً) والتمكن من اللغات، وتأكيد الذات الخداع، ومعيناً من القصص والفكاهات، وقدرة خفية غامضة على الكسب في لعب الورق أو ألعاب الكازينوات. وكان حيثما ذهب يساق عاجلاً أو آجلاً إلى السجن أو حدود البلاد. واضطر بين الحين والحين إلى الاشتباك في مبارزة، ولكنهم كالأمة في مراحل تاريخها لم يخسر قط.

وأخيراً غلبه الحنين إلى وطنه. وكان حراً في السفر أينما شاء في إيطاليا إلا في البندقية. والتمس الإذن مراراً بالعودة، وأخيراً منحه، وفي 1775 عاد إلى البندقية. واستخدمته الحكومة جاسوساً، وكان نصيب تقاريره الإهمال لاحتوائها على الكثير جداً من الفلسفة والقليل جداً من المعلومات، فرفت. وانتكس إلى عادات صباه وكتب هجاء للشريف جريمالدي، فأمر بأن يبرح البندقية وإلا واجه السجن مرة أخرى في "ألواح الرصاص". وفر إلى فيينا (1782)، ثم إلى سبا، ومنها إلى باريس.

وهناك التقى بالكونت فون فالدشتين، الذي أحبه فدعاه إلى العمل أميناً لمكتبته في قلعة دوكس بيوهيميا. وكانت فنون كازانوفا في العشق والسحر وخفة اليد قد وصلت إلى نقطة تقلصت فيها عائداتها، فقبل الوظيفة براتب ألف فلورين في العام. فلما وصل وتسلم منصبه، أحزنه أن يتكشف أنه أعتبر خادماً، وأن يتناول غداءه في قاعة الخدم. وفي دوكس أنفق أعوامه الأربعة عشر الأخيرة من عمره. وهناك كتب "تاريخ حياته" "أولاً لتخفيف هذا الركود الميت الذي يقتلني في بوهيميا الخاملة هذه...وقد استطعت بالكتابة عشر ساعات أو اثنتي عشرة كل يوم أن امنع الحزن الأسود من نهش قلبي المسكين وإتلاف عقلي"(46). وقد زعم الصدق المطلق في روايته، وهي في كثير من الحالات تتفق والتاريخ في الهزء والسخرية، بيد أننا كثيراً ما نفتقر إلى إثبات صحة روايته، ولعل ذاكرته تداعت بينما قوي خياله. ولا نملك إلى القول بأن كتابه من أكثر مخلفات القرن الثامن عشر فتنة واستهواء للقارئين. وقد عمر كازانوفا حتى ناح على موت النظام القديم فقال: "إيه يا فرنسا العزيزة الجميلة! البلد الذي كانت الأمور في تلك الأيام تجري فيه رخاء رغم أوامر الاعتقال الملكية، ورغم السحرة ورغم فقر الشعب! أي فرنسا العزيزة، إلام انتهى أمركِ اليوم؟ لقد أصبح الشعب ملكاً عليك، الشعب الذي هو أشرس الحكام قاطبة وأشدهم طغياناً"(47).

وهكذا في آخر أيامه، وهو 4 يونيو 1798، أختتم حياته في تقوى أتته في أوانه. "لقد عشت فيلسوفاً وهاأنذا أموت مسيحياً"(48). لقد حسب الفسق فلسفة، ورهان بسكال مسيحية.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فنكلمان

ولننظر الآن إلى رجل مثالي على سبيل المقابلة بينت الأضداد. وهذا الرجل الذي كان أعظم الشخصيات أثراً في تاريخ الفن في هذا العهد لم يكن فناناً بل دارساً كرس حياته الناضجة لدراسة تاريخ الفن، وحرك موته الغريب روح أوربا المثقفة. ولد في 9 ديسمبر 1717 بمدينة ستندال في براندنبورج. وكان أبوه الإسكافي يأمل أن يحترف ابنه حرفته، ولكن يوهان رغب في درس اللاتينية. وقد أدى نفقات تعليمه الباكر بالغناء. ثم تقدم سريعاً مدفوعاً بشوقه واجتهاده. فكان يعلم التلاميذ الذين تنقصهم الكفاية، ويشترى الكتب والطعام. فلما كف بصر معلمه كان يوهان يقرأ له، وراح يلتهم مكتبة أستاذه. وأجاد تعلم اللاتينية واليونانية، ولم يكن ميالاً إلى اللغات الأجنبية الحديثة. وحين سمع بأن مكتبة يوهان ألبرت فابريكوس الدارس الكلاسيكي الشهير ستباع بالمزاد لوفاته، سار 178 ميلاً من برلين إلى همبرج، واشترى روائع الكتب اليونانية واللاتينية، وحملها على كتفه عائداً إلى برلين(49). وفي 1738 دخل جامعة هاله طالب لاهوت، ولم يكن به شغف باللاهوت، ولكنه اغتنم الفرصة لدراسة العبرية. وبعد أن تخرج اكتسب قوته بتعليم التلاميذ الخصوصيين وقرأ مرتين كل قاموس بيل "القاموس التاريخي والنقدي". ولعل هذه القراءة خلفت بعض الأثر على إيمانه الديني. وفي عام واحد قرأ الألياذة والأوديسة ثلاث مرات من أولهما لآخرهما باليونانية.

وفي 1743 قبل دعوة ليكون مديراً معاوناً لمدرسة بزيهاوزن في ألتمارك، بمرتب قدره 250 طالراً في العام. وكان في النهار يعلم "أطفالاً جرب الرؤوس أبجديتهم. بينما كنت...أتحرق شوقاً لمعرفة "الجنين"، وأردد تشبيهات من هومر"(50). وكان في المساء يدرس لتلاميذه الخصوصيين ليحصل على نفقات مسكنه وطعامه، ثم يعكف على الروائع الكلاسيكية حتى منصف الليل وينام حتى الرابعة، ثم يعود إلى روائعه الكلاسيكية ثانية، ثم يخرج متعباً ليدرس. وقبل بابتهاج دعوة وجهها إليه الكونت فون بون بوناو ليكون مساعداً لأمين مكتبة في قصره الريفي بنوتهنتز، قرب درسدن، لقاء السكن وخمسين إلى ثمانين طالراً في العام (1748). هناك ألفى المتعة البالغة في مجموعة من أضخم مجموعات الكتب في ذلك العصر.

وممن كانوا يختلفون إلى هذه المكتبة الكردينال أركنتو، القاصد البابوي في بلاط ناخب سكسونيا. وقد راعه علم فنكلمان وحماسته، ونحوله وشحوبه. فقال له "ينبغي أن تذهب إلى إيطاليا". وأجاب يوهان أن هذه الرحلة غاية مشها قلبه، ولكن موارده تعجز عن نفقتها. ودعاه القاصد لزيارته بدرسدن، فذهب إليه مرات. وقد أبهجه تفقه اليسوعيين الذين التقى بهم في بيت القاصد وأدبهم. وعرض عليه الكردينال باسونيي-وكان يقتني 300.000 مجلد في روما-وظيفة أمين مكتبته هناك، لقاء السكن والمعيشة وسبعين دوقاتية، ولكن الوظيفة لا يمكن أن يشغلها غير كاثوليكي. ووافق فنكلمان على الدخول في الكاثوليكية. وإذا كان قد أعرب من قبل عن إيمانه بأنك "بعد الموت ليس هناك ما يخيفك، ولا ما تؤمل فيه"(51) فإنه لم يجد صعوبات لاهوتية في هذا التحول، وكل صعوباته كانت اجتماعية. وقد كتب إلى صديق لأمه يقول "إن حب المعرفة، وهذا الحب وحده، هو الذي يستطيع إغرائي بالاستماع إلى الاقتراح الذي رض علي".

وفي 11 يوليو 1754، في مصلى القاصد في درسدن، أعلن إيمانه الجديد، واتخذت الترتيبات لرحلته إلى روما. ولأسباب شتى مكث في درسدن عاماً آخر، ساكناً دارساً مع الرسام-النحات-الحفار آدم وايزن. وفي مايو 1755 نشر في طبعة محدودة لم تتجاوز خمسين نسخة أول كتبه "خواطر في تقليد الآثار اليونانية في الرسم والنحت". وقد وصف فيه الآثار التي جمعت في درسدن، ورأى بالإضافة إلى هذا الوصف أن فهم اليونان للطبيعة كان أسمى من الفهم العصري لها، وهذا هو السر في التفوق الهليني في الفن. ثم اختتم بقوله "إن سبيلنا الوحيد إلى العظمة، بل إلى العظمة التي لا تحاكي...هو بمحاكاة القدماء"(56). ومن رأيه أن روفائيل دون جميع الفنانين المحدثين هو الذي حقق هذا الهدف الأسمى. وكان هذا الكتيب علامة بداية للحركة الكلاسيكية الجديدة في الفن الحديث. وقد لقي قبولاً طيباً، وأجمع كلويشتوك وجوتشيد على الإشادة بعلمه وأسلوبه. وحصل الأب رواخ، كاهن الاعتراف الخاص بفردريك أوغسطس، لفنكلمان من الملك الناخب على معاش من مائتي طالر لكل من العامين التاليين، وأعانه بثمانين دوقاتية لرحلته إلى روما. وأخيراً، في 20 سبتمبر 1755، انطلق فنكلمان إلى إيطاليا في صحبة يسوعي شاب. وكان قد بلغ السابعة والثلاثين.

فلما بلغ روما لقي عنتاً في جمرك المدينة الذي صادر عدة مجلدات لفولتير من حقائبه، على أنها أعيدت له بعد ذلك. ووجد سكناً من خمسة مصورين في بيت على التل الينسي-الذي قدسته ظلال بوسان وكلود لوران. والتقى بمنجز، الذي أعانه بشتى الطرق الكثيرة. وأطلق له الكاردينال باسيونيي في العمل بمكتبته، ولكن فنكلمان كان إلى الآن يرفض أي وظيفة ثابتة لرغبته في ارتياد فن روما. فحصل على إذن بزيارات متكررة لبلفيدير الفاتيكان وأنفق الساعات أمام تماثيل أبوللو، وهرقول النصفي، واللاوكون، واتخذت أفكاره شكلاً أوضح بعد تأمله في هذه المنحوتات. وزار تيفولي وفراسكاتي وغيرهما من الضواحي ذات الأطلال القديمة. وأكسبه حبه للفن القديم صداقة الكردينال الساندور الباني، وأعطاه الكردينال أركنتو مسكناً في البلاتسوديللا كانسلليريا-وهو المقر البابوي، وفي مقابل هذه المنحة أعاد فنكلمان تنظيم مكتبة القصر. وأصبح الآن في سعادة غامرة. قال "لقد كان الله مديناً لي بهذا، فأنني قاسيت كثيراً جداً في شبابي"(57). وكتب إلى صديق في ألمانيا كما كان يكتب عشرات الزوار الكبار:

"كل شيء صفر إذا قورن بروما! لقد ظننت فيما مضى أنني درست كل شيء دراسة كاملة، وهاأنذا أدرك بعد مجيئي أنني لم أعرف شيئاً. لقد أصبحت هنا أصغر مما كنت يوم خرجت من المدرسة إلى مكتبة بوناو. فإذا شئت أن تتعلم كيف تعرف الرجال، فهذا مكانك، هنا رؤوس ذات مواهب لا حد لها، رجال أوتوا قدرات فائقة، وآيات في الطابع الرفيع الذي خلعه اليونان على تماثيلهم...وكما أن الحرية التي يتمتع بها الناس في الدول الأخرى ليست إلا ظلاَ إذا قيست بحرية روما-وهو ما قد تخاله مفرقة-كذلك تجد في هذه المدينة أسلوباً مختلفاً في التفكير. فروما في اعتقادي هي المدرسة العليا للعالم، وأنا أيضاً امتحنت فيها وهذبت"(58).

وفي أكتوبر 1757 غادر روما قاصداً نابلي مزوداً بخطابات تعريف.

وسكن هناك ديراً ولكنه كان يتناول طعامه مع رجال كتانوكي وجالياني. وزار مدناً عابقة بأريج التاريخ القديم-بوتسولي، وبايا، وميزينوم، وكاوماي-ووقف مدهوشاً أمام هياكل بايستوم المهيبة. وفي مايو 1758 قفل إلى روما محملاً بذخائر العلم بالآثار. في ذلك الشهر استدعى إلى فلورنسة ليصنف ويوصف المجموعة الضخمة من الجواهر، والمحفورات، والخرائط، والمخطوطات التي خلفها البارون فليب فون ستوش. وشغلته المهمة قرابة عام وكادت تهدم صحته. ومات أركنتو أثناء ذلك، واجتاح فردريك الأكبر أرض سكسونيا، وفقد فنكلمان مسكنه في الكانسليريا ومعاشه من الملك الناخب التعس. وخف ألباني لنجدته إذ قدم له أربع حجرات وعشرة أسكوزات في الشهر لقاء العناية بمكتبته. وكان الكاردينال نفسه اثرياً متحمساً، وفي كل أحد كان يركب مع فنكلمان لتصيد التحف القديمة.

وأضاف فمكلمان جديداً إلى سمعته بإصداره كتيبات عميقة في هذه الموضوعات المفردة "في جمال الأعمال الفنية، ملاحظات على عمارة القدماء، وصف لتمثال هرقول النصفي في البلفدير، دراسة الآثار الفنية". وفي 1760 حاول ترتيب رحلة إلى اليونان مع الليدي أورفورد، زوجة أخي هوراس ولبول؛ ولكن الخطة أخفقت. كتب يقول "ما من شيء في الدنيا تقت إليه بحرارة كهذه الرحلة. وما كنت لأضن بإصبع من أصابعي تقطع، لا بل وددت أن أجعل من نفسي كاهناً لسيبيل (إلاهة الطبيعة) لو استطعت أن أشهد هذا البلد في فرصة كهذه"(50) أما كهنة سيبيل فكان الشرط فيهم أن يكونوا خصياناً، ولكن هذا لم يمنع فنكلمان من التنديد بأمر قديم للحكومة الرومانية يشترط تغطية الأعضاء الداخلية لابوللو واللاردكون وغيرهما من التماثيل في البلفدير بمآزر المعدن، وقد أعلن "إنه لم يشرع في روما طوال عهدها مثل هذه السنة الغبية".

وكان للإحساس بالجمال من السلطان عليه ما ألغى تقريباً كل وعي فيه بالجنس. فإذا شعر بتفصيل جمالي فإن تفضيله يؤثر جمال جسم الذكر المكتمل الرجولة عن حلاوة المرأة الهشة العابرة. ويبدو أن تمثال هرقل النصفي (التورسو) قد أثر فيه أكثر مما أثرت خطوط جسد فينوس الناعمة الملفوفة. وقال كلمة طيبة في الخناثي-على الأقل في التمثال الذي شهده في فيللابورجيزي(60). وقال مؤكد "لم أكن في حياتي عدوا للجنس الآخر، ولكن أسلوب حياتي أبعدني عن كل اتصال به. ولعلي كنت أتزوج، وأكبر ظني أنه كان واجباً على أن أفعل، لو أنني عدت إلى زيارة وطني الأول، أما الآن فإن هذا لا يكاد يخطر لي ببال"(61). وفي زيهاوزن كانت صداقته لتلميذه لامبريشت تقوم مقام التعلق بالمرأة، وفي روما عاش مع رجال الكنيسة، وندر أن التقى بالشباب مع النساء. وذكروا "إنه كان يتناول العشاء في السبوت فترة طويلة مع فتى من روما، نحيل وسيم الطلعة، فارع القامة، يتحدث معه عن الحب"(62). وقد "رسمت بناء على طلبه صورة لمغن جميل من الخصيان"(63) ثم إنه أهدى للشريف الفتى البارون فريدرش راينهولد فون برج "رسالة في القدرة على الإحساس بالجمال"، "وقد وجد القراء فيها وفي خطاباته لبرج لغة الحب لا لغة الصداقة، وهي في الواقع كذلك"(64).

وفي 1762 و1764 عاد إلى زيارة نابلي. وقد قدم للدارسين الأوربيين قي "خطاب عن آثار هوكولانيوم" (1762) و"تقرير عن أحدث كشوف هوكولانيوم"(1764) أول معلومات منظمة وعلمية عن الكنوز التي تم الحفر عنها في تلك المدينة وفي بومبي. وكان الآن معترفاً به أعظم حجة في الفن الكلاسيكي القديم. وفي 1763 عين بالفاتيكان في وظيفة "أثرى الحجرة الرسولية" وأخيراً، في 1764، نشر المجلدات الضخمة التي كان يؤلفها ويحيلها بالصور طوال سنوات سبع Geschichte der Kunst des Alterthums "تاريخ الفن القديم". وقد أحتوى الكتاب على أخطاء كثيرة رغم ما أنفق في إعداده من وقت وجهد، واثنان من هذه الأخطاء كانا خدعتين قاسيتين. ذلك أن صديقه منجز كان قد درس رسمين هما وليدا خيال منجز وزعم إنهما نسختان دقيقتان لصورة أثرية. وأدرج فنكلمان الصورتين في كتابه، واستعمل الرواسم وأهدى الكتاب كله لمنجز. وتضمنت المترجمات التي ظهرت سريعاً في الفرنسية والإيطالية كل الأخطاء تقريباً، مما أشعر فنكلمان بالخزي، فكتب إلى بعض أصحابه "إننا اليوم أحكم مما كنا بالأمس. ليتني أستطيع أن أريك كتابي "تاريخ الفن" وقد نقح تنقيحاً كاملاً ووسع توسيعاً كبيراً! لم أكن قد تعلمت الكتابة بعد حين شرعت في تأليفه فلم تكن الأفكار مترابطة بدرجة كافية، وفي مواضع كثيرة افتقار إلى الانتقال من السابق إلى اللاحق-وهو ملاك الفن الأسمى"(65). ومع ذلك أنجز الكتاب عملاً غاية في العسر-هو إجادة الكتابة في الفن. وقد رفعه حبه الشديد لموضوعه إلى مستوى الأسلوب الجميل.

وقد اتجه حرفياً إلى تاريخ الفن لا إلى الفنانين، وهو موضوع أيسر مأخذاً بكثير. وبعد أن مسح مسحاً متعجلاً الفن المصري والفينيقي واليهودي والفارسي والاتروري، أطلق العنان لحماسته الفياضة في 450 صفحة تناولت فن اليونان القديم. وفي فصول ختامية ناقش الفن اليوناني في عهد الرومان. وكان توكيده دائماً على اليونان لأنه كان مقتنعاً بأنهم عثروا على أسمى صور الجمال: في رهافة الخط لا في لمعة اللون، في تمثيل الأنماط لا الأفراد، في طبيعة الأجسام ونبلها، في انضباط التعبير العاطفي، في هدوء المظهر وصقله، في اطمئنان القسمات حتى في الحركة، وفوق هذا كلها في النسبة والعلاقات المتسقتين بين الأجزاء المتميزة في كل موحد توحيداً منطقياً. لقد كان الفن الإغريقي في رأي فنكلمان هو عصر العقل مجسماً.

وقد ربط تفوق الفن الإغريقي بالاحترام العظيم الذي كان الإغريق يكنونه بامتياز الجسد في الجنسين. "كان الجمال امتياز يقضي إلى الشهرة، لأننا نجد تواريخ الإغريق تذكر أولئك الذين تميزوا به"(66)، على نحو ما تفعل التواريخ الآن في ذكر كبار الساسة والشعراء والفلاسفة. وكانت هناك مباريات في الجمال عند الإغريق كما كانت مباريا للألعاب الرياضية. وعند فنكلمان أن الحرية السياسية، وتزعم اليونان لعالم البحر المتوسط قبل حرب البلوبونيز، هذان أفضيا إلى مركب من العظمة والجمال، وأنتجا "الطراز الفخم" في فيدياس مكانه لبراكستليس، وبدأ الاضمحلال. وكانت حرية الفن جزءاً من الحرية اليونانية، وتحرر الفنانون من القواعد الصارمة وجزءوا على خلق أجساد مثالية لا توجد في الطبعة. فلم يقلدوا الطبيعة إلا في التفاصيل، وكان العمل الفني كله مجموعة كمالات لا توجد في أي شيء طبيعي إلا جزئياً. لقد كان فنكلمان رومانتيكياً يبشر بالشكل الكلاسيكي.

ولقي كتابه القبول في أوربا بأسرها باعتباره حدثاً في تاريخ الأدب والفن. وأرسل إليه فردريك الأكبر دعوة (1765) للحضور إلى برلين مشرفاً على المكتبة الملكية وإدارة الآثار. ووافق فنكلمان نظير ألفي طالر في العام، وعرض فردريك ألفاً فقط، وأصر فنكلمان على موقفه، وذكر فردريك بقصة المغني الخصي الذي طالبه بمبلغ ضخم نظير أغانيه، فشكا فردريك من أنه يطلب أكثر مما يكلفه خير قواده، فكان رد المغني "إذن فليكلف قائده بالغناء".

وفي 1765 عاد فنكلمان لزيارة نابلي، هذه المرة في صحبة جون ولكز الذي كان قد جعل أوربا تدوي بتحديه للبرلمان ولجور الثالث. وبعد أن جمع المزيد من المعلومات عاد إلى روما وأكمل كتابه الهام الثاني "آثار قديمة غير منشورة" (1767). وكان أصدقاؤه من الأحبار قد شكوا من كتابته "تاريخه" بالألمانية التي لم تكن إلى ذلك الحين أداة كبرى من أدوات الدرس فأبهجهم الآن استعماله الإيطالية، وانتشى المؤلف السعيد، الجالس بين كردينالين، بقراءة جزء من كتابه في كاستل جاندولفو على كلمنت الثالث عشر وجمع غفير من الأعيان. على أنه أتهم بحيازته كتباً مهرطقة وإبدائه ملاحظات(68)، ولم يحصل من البابوية قط على المنصب الذي شعر بأنه جدير به.

وقرر أن يزور ألمانيا (1768) ربما مؤملاً أن يحصل فيها على مورد يمكنه من رؤية بلاد اليونان. ولكن استغراقه الشديد في الفن الكلاسيكي وأساليب الحياة الإيطالية أفقده اللذة في وجوده بأرض الوطن، فتجاهل مناظرها الطبيعية وساءه معمارها وزخارفها الباروكية. وكان يردد مائة مرة لرفيق رحلته(69)، "لنعد إلى روما" وقد احتفى به القوم في ميونخ، وأهدوه جوهرة أثرية رائعة. وفي فيينا أعطته ماريا تريزا مداليات غالية، ودعته الإمبراطورة والأمير فون كاونتز للإقامة هناك، ولكنه ما لبث أن قفل إلى إيطاليا في 18 مايو وهو لم يكد يغيب عنها شهراً واحداً.

وفي تريستا تعطل انتظاراً لسفينة يستقلها إلى أنكونا. وأثناء أيام الانتظار هذه تعرف إلى مسافر آخر يدعى فرانشيسكون أركانجيلي. وكانا يتمشيان معاً ويشغلان حجرتين متجاورتين في الفندق. وسرعان ما أراه فنكلمان الميداليات التي تلقاها في فيينا. على أنه-على قدر علمنا-لم يريه كيسه المملوء بالذهب. وفي صبيحة 8 يونيو 1768 دخل أركانجيلي حجرة فنكلمان، ووجده جالساً إلى منضدة، فألقى أنشوطة حول عنقه، ونهض فنكلمان واشتبك معه، فطعنه أركانجيلي خمس مرات وفر هارباً. وضمد طبيب جروحه ولكنه قال أنها مميتة. وتناول فنكلمان الأسرار المقدسة، وأملى وصيته، وأعرب عن الرغبة في أن يرى مهاجمه ويصفح عنه، ثم لفظ أنفاسه الأخيرة في الرابعة بعد الظهر. وقد خلدت تريستا ذكراه بتماثل جميل.

وقبض على أركانجيلي في 14 يونيو. فاعترف بجريمته، وفي 18 يونيو صدر عليه هذا الحكم: "عقاباً على جريمة القتل التي اقترفتها على جسد يوهان فنكلمان..قضت محكمة الجنايات الإمبراطورية بأن...تحطم حياً على دولاب التعليم، من رأسك إلى قدميك حتى تفارق روحك بدنك" وكذلك صنع به في 20 يوليو.

كانت عيوب فنكلمان وثيقة الصلة بالجغرافيا. فلأنه لم يحقق قط أمله في زيارة اليونان في ظروف كانت ستتيح له الدرس المستفيض للآثار القديمة، كان يفكر في الفن اليوناني وكأنه الفن اليوناني الروماني كما وجده في المتاحف والمجموعات والقصور في ألمانيا وإيطاليا، وفي إطلال هركو لانيوم وبوميي. وتفضيله النحت على التصوير، وتمثيل الأنماط لا الأفراد، والهدوء لا التعبير عن العاطفة، وإيثاره النسبة والتناسق، ومحاكاة القدامى دون الابتكار والتجريب. كل هذا فرض على الدوافع الخلاقة في الفن عدة قيود أسفرت عن الانتقاص الرومانتيكي على ما في الأشكال الكلاسيكية من الصرامة الباردة. وقد أعماه التركيز على اليونان والرومان عن حقوق الطرز الأخرى وإمكاناتها، وكان يرى-كما رأى لويس الرابع عشر-إن رسوم الحياة اليومية التي أنتجتها الأراضي الواطئة ليست إلا من قبيل "الجروتسك".

ومع ذلك كان إنجازه رائعاً. فقد أحدث انتفاضة في كل دنيا الفن والأدب والتاريخ الأوربي بتمجيده لليونان. ولقد جاوز حدود النزعة الشبيهة بالكلاسيكية التي نزعت إليها إيطاليا النهضة وفرنسا لويس الرابع عشر إلى الفن الكلاسيكي ذاته. ونبه العقل الحديث إلى ما في النحت اليوناني من كمال ناصع مطمأن. وجعل من فوضى مئات التحف الرخامية والبرونزية والصور والمجوهرات والعملات آثار علمية. وكان تأثيره على أفضل العقول في الجيل التالي هائلاً. فقد ألهم لسبخ، ولو بالاعتراض على آراءه، وشارك في إنضاج هيردر وجوته، ولعله لولا الإلهام الذي انبعث من فنكلمان لما توج بيرون شعره بالموت في بلاد اليونان. وقد أعان هذا الهلنستي الغيور على تشكيل مبادئ منجز ونورفالدسن الكلاسيكية الحديثة، وتصوير جاك-لوي دافيد الكلاسيكي الحديث. يقول هيجل "يجب أن يعد فنكلمان واحداً من أولئك الذين عرفوا في ميدان الفن كيف يخلقون أداة جديدة للروح الإنسانية".

الفنانون

لم تكن إيطاليا في حاجة إلى حث يأتيها من فنكلمان، لأنها كانت تكرم أربابها، وكان فنها المتراكم يقوم في كل جيل بمهمة المدرسة التي تدرب مئات الفنانين من أقطار كثيرة. من ذلك أن كارلو ماركيوني صمم فيلا الباني الفخمة (1758) التي جمع فيها الكردينال الباني بإرشاد فنكلمان مجموعة عالمية الشهرة من المنحوتات القديمة-لا تزال غنية رغم طول لعدوان عليها. (فقد سرق نابليون 294 من تحفها لفرنسا، وربما كان هذا هو العلة في قول إيطالي مأثورة في تلك الأيام: ليس كل الفرنسيين لصوصاً، بل عدد عديد منهم).

وأنجبت البندقية أكثر كبار المصورين الإيطاليين في تلك السنة، وقد ورث ثلاثة منهم أسماء مشهورة. أولها أليساندرو لونجي بن بييترو، الذي أبرز عبقرية قومه بصور شخصية رقيقة منها صورتان لجولدوني(71). ولقد رأينا من قبل دومنيكو تيبولو يصحب أباه إلى أوجزبورج ومدريد، ويعرض في تواضع تخصصه على عامة الشعب. ففي مضيفة فيلا فالمارنا أستهل إنتاجه المستقل بصور المشاهد اليومية في حياة الريف، فصورة "الفلاحين يستجمون" أشبه بالقصيدة الرعوية، تصور أدواتهم وقد سقطت عنهم، وتصور استرخاءهم في دعة واطمئنان. وبعد أن مات أبوه في أسبانيا عاد دومنيكو إلى البندقية وأطلق العنان لأسلوب الواقعية الساخرة الذي اتخذه لنفسه(72).

وثالث هؤلاء هو فرانشسكو جواردي، صهر جامباتستا تيبولا، الذي تعلم التصوير من أبيه، وأخيه، وكانا ليتو. وقد فاته التقدير في جيله، ولكن لوحته "فيدوتي" لفتت أنظار النقاد ببراعتها في التقاط ونقل لطائف الضوء وتقلبات الجو، وربما أوحى ببعض الإلماعات للتأثريين الفرنسيين. ولم ينتظر تحذير كونستابل الذي قال "تذكر أن الضوء والظل لا يقفان ساكنين أبداً"(74) وكأنما صممت أجواء البندقية ومياهها لتهيئ هذه المناظر المضببة المنصهرة. وقد ذكروا أن جواردي كان أحياناً يحمل مرسمه في زورق ويسير به على القنوات الصغرى ليلتقط مناظر لم تبتذل بطول إلف الناس لها. وكان يرسم الناس بغير عناية، وكأنه شعر بأنهم ليسوا سوى تفاصيل سريعة الزوال إلى جوال المعمار المكين والبحر والسماء الدائمين رغم مل يطرأ عليهما من تغير. ولكنه كان قادراً على تصوير الناس أيضاً، فتراهم يزحمون البياتسيتا في لوحة "المهرجان(75)"، أو يسيرون في ثياب فاخرة في "صالة فيلارمونيتشي(76)" الكبرى. وكان أخوه جوفاني يعد أثناء حياتهما مصوراً أفضل منه. وكاناليتو أعظم من كليهما، أما اليوم فإن جواردي يعد بالبقاء بعد أن تخبو شهرة الاثنين.

وعاد أنطونيو روفائيل منجز من أسبانيا عام 1768، وسرعان ما أصبح قطب التصوير في روما. ولم يشك أحد في تفوقه على معاصريه من الفنانين. كانت الرؤوس المتوجة تسعى إلى ريشته. وتسعى إليها دون جدوى أحياناً. وكان فنكلمان يلقبه بروفائيل عصره، وأشاد بلوحته الرهيبة "جبل بارناس" "رائعة" خليقة بأن ينحني أمامها حتى روفائيل(77)، وضمن كتابه "تاريخ الفن القديم" تقديراً عظيماً لصديقه(78).

وأروع الصور التي رسمها منجز في هذه الفترة صورته الذاتية (1773؟)(79) ويبدو فيها وهو ما يزال قوياً وسيماً أسود الشعر معتزاً بنفسه في الخامسة والأربعين. وبعد أن أقام فترة ثانية في أسبانيا عاد (1777) ليقضي ما بقي له من أجل في إيطاليا. وواصل نجاحه، ولكن موت زوجته (1778) حطم روحاً كانت من قبل شديدة المرح. واجتمعت عليه شتى الأسقام فأضعفته، وأجهز عليه التجاؤه إلى المشعوذين والعلاجات السحرية. ومات عام 1779 وهو في الحادية والخمسين. وأقام تلاميذه لذكراه نصباً في البانتيون، إلى جوار تمثال روفائيل. واليوم لا تجد من يجل ذكراه من النقاد مهما صغر شأنه.


الموسيقى

كانت موسيقى الكنيسة قد اضمحلت مع تحول الحياة شيئاً فشيئاً بعيداً عن الدين، ووصلتها العدوى من الأشكال الأوبرالية. وكانت موسيقى الآلات تزكو، من جهة بفضل التحسين الطارئ على البيانو، ولكن أهم من ذلك لشعبية الكمان (الفيولينه) المتزايدة. وغزا كبار العازفين من أمثال يوفياني وفيوتي ونارديني أوربا بقوس الكمان. وطاف موتزيو كلمنتي، الذي غادر إيطاليا ليعيش في إنجلترا عشرين سنة، بالقارة عازفا على الأرغن والبيانو، ونافس موتسارت تعليقاً على عزفه أن هذا العزف آلي أكثر مما يجب. وكان أنجح معلم للبيانو في القرن الثامن عشر، وقد أرسى أسلوب القرن التاسع عشر في تكنيك البيانو بسلسلة تمارينه ودراساته الشهيرة "خطوات إلى بارناس" موطن ربات الفنون Muses اللاتي اشتقت منهن الموسيقية اسمها. وورث جاتيانو بونياني تفنن أستاذه تارتيني في عزف الكمان وأسلمه إلى تلميذه جوفاني باتستا فيوتي، الذي عبر أوربا من ألها لآخرها ظافراً. ومازال في استطاعة آذاننا المؤثرة للقديم أن تستمتع بكونشرتو كمان فيوتي في مقام الصغير.

أما لويجي بوكيريني فقد رحل كما رحل الكثير من الإيطاليين عن البلد اكتظ بالموسيقيين ليلتمس جمهوراً من المستمعين الخارج. وقد سحر أسبانيا من 1768 حتى مماته في 1805 بآلة التشيللو كما سحرها من قبل فارنيللي بصوته وسكارلاتي ببيانه القيثاري (الهاربسكورد). وعلى مدى جيل كامل كانت مؤلفاته الآلية تنافس مؤلفات موتسارت في ظفرها بالإشادة والإطراء من شتى الدول، وكان فردريك وليم الثاني ملك بروسيا، وهو نفسه عازف تشيللو، يفضل رباعيات بوكيريني على رباعيات موتسارت(80). وقد ألف خلال سنيه الاثنتين والستين خمساً وتسعين رباعية وتربة، وأربعاً وخمسين ثلاثية، واثنتي عشرة خماسية للبيانو، وعشرين سمفونية، وخمسة كونشرتوات للتشيللو، وأوراتوريوين، وبعض الموسيقى الدينية. ويعرف نصف العالم حكته "الكنويت" وهي حركة من إحدى خماسياته. ولكن يجب أن يعرف العالم كله الكونشوتو بمقام B الشديد الانخفاض الذي ألفه للفيولو منشيللو والأوركسترا.

واستسلمت أوربا دون مقاومة (فيما عدا باريس مرة أخرى) للغناء الإيطالي الجميل "الملعلع" (البيل كانتو). فمن أكثر من عشر من مدن الحذاء السحري تدفقت مغنيات الأوبرا من أمثال كاترينا جابرييللي والمغنين الخصيان أمثال جسبارو باكييروتي عبر الألب إلى فيينا وميونخ وليبرج ودرسن وبرلين وسانت بطرسبورج وهمبورج وبروكسل ولندن وباريس ومدريد. وكان باكييروتي آخر الخصيان المشهورين في عالم الغناء، وقد نافس فن فارنيللي جيلاً بأكمله. واسترق أسماع لندن أربعة أعوام، ومازال إطراء الإنجليز له يتردد في "يومية"(81) فاني بيرني، وفي كتاب أبيها "تاريخ الموسيقى العام(82).

وتبع المؤلفون الموسيقيون وقادة الأوركسترا الإيطاليون المغنين. فألف بييتر جوليبمي مائتي أوبر، وتنقل بين نابلي ودرسدن وبرنزويك ولندن ليقودها. وقد انحدر إلينا ذكر موسيقى آخر من نابلي هو نيكولا بيتشيني، ولكنه ذكر شوهته منافسة لم يرغب فيها مع جلوك في باريس، ولكن جالياني وصفه بأنه "رجل شريف جداً(83)". وقد ظلت أوبراته الهازلة عقداً كاملاً للبدعة السائدة في نابلي وروما، لا بل أن أوبرا برجوليري "الخادمة التي انقلبت ربة البيت" لم تحظ بمثل الشعبية التي حظيت بها أوبرا بيتشيتي (1760). وكان جوميللي، وبرجوليزي، وليو، وجولبي قد لحنوا "أولبميادي" التي ألفها متاستازيو، فنهج بتشيني نهجهم وبزهم كلهم بإجماع الرأي. وفي 1776 قبل دعوة إلى باريس، أما الحرب الضارية التي تلت ذهابه إلى هناك فلابد أن تنتظر دورها الجغرافي، ولكن بتشيني سلك من أولها لآخرها مسلكاً غاية في المجاملة، مبقياً على صداقته مع منافسيه جلوك وساكيني رغم أن المتشيعين لهما هددوا حياته.(83) فلما أغرقت أحداث الثورة الفرنسية هذه الأوبرا الهازلة عاد بتشيني إلى نابلي. وهناك حددت إقامته في منزله أربع سنوات لتعاطفه مع فرنسا، وكانت أوبراته تقاطع بصيحات السخرية حتى توقف تمثيلها، وعاش في فقر يشين وطنه. وبعد أن فتح نابليون إيطاليا دعي إلى باريس مرة أخرى 1798، ومنحه القنصل الأول وظيفة شرفية متواضعة، ولكن أصابته بالشلل حطمته جسداً وروحاً، ومات في باريس عام 1800.

أما أنطونيو ساكيني فقد ولد لأب كان صياد سمك في بوتسولي، وكان يدرب ليخلف أباه حين سمعه فرانشسكو دورانتي يغني، فانطلق به إلى نابلي تلميذاً ومحسوباً له. وقد أحتفى الجمهور بأوبراه "سمير أميدي" في التياترو أرجنتينو بروما احتفاء أبقاه مع ذلك المسرح سبع سنين مؤلفاً للأوبرات. وبعد أن أقام ردحاً في البندقية خرج ليغزو ميونخ وشتوتجارت ولندن 1772. وصفق الجمهور لأوبراته هناك، ولكن الدسائس المعادية أضرت بشعبيته، وأتلفت عاداته الفاجرة صحته. ولما انتقل إلى باريس أخرج رائعته Oedipe a Colone (1786) التي احتلت خشبة الأوبرا طوال 583 عرضاً في السنوات السبعة والخمسين التالية، وفي وسعنا أن نسمعها إلى اليوم على الهواء من حين لحين. وقد اقتبس عدة إصلاحات مما أدخله جلوك، وأقلع عن أسلوب الإيطاليين في جعل الأوبرا تلفيقاً من الألحان، وفي أوديبي تسيطر القصة على الألحان، وتضفي الكوراس التي استلهمتها من أوبوراتوريوات هندل الجلال والعظمة على الموسيقى والموضوع كليهما.

واتصل الغزو الغنائي بأنطونيو سالييري، عدو موتسارت وصديق بيتهوفن الشاب. ولد قرب فيرونا، وأرسل وهو في السادسة عشرة إلى فيينا (1766)، وبعد ثماني سنوات عينه يوزف الثاني مؤلفاً موسيقياً للبلاط، وفي 1788 رئيساً لفرقة المنشدين. في هذه الوظيفة فضل مؤلفين آخرين على موتسارت، ولكن القصة التي زعمت أن هذه المعارضة سببت انهيار موتسارت ليست إلا خرافة(85). فبعد موت موتسارت صادق سالييري الابن وأعان على تطوره الموسيقي. وقد قدم بيتهوفن عدة مؤلفات لسالييري، وقبل اقتراحاته بتواضع لم يعهد فيه.

أما "ألمع نجم في سماء الأوبرا الإيطالية خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر(86)" فهو جوفاني بايزييلو. كان أبناً لجراح بيطري في تارانتو، وقد أعجب معلموه اليسوعيين بصوته إعجاباً حملهم على إقناع أبيه بأن يوفده إلى معهد جماهير نابلي شديدي الحب لبتشيني، لذلك قبل دعوة وجهتها إليه كاترين الكبرى. وفي سانت بطرسبورج ألف (1782) Il Barbiere di Siviglia (حلاق إشبيلية)، وقد كتب لها من النجاح الخالد في أوربا كلها ما جعل الجمهور يلعن أوبرا عرضها نفس الموضوع بروما (5 فبراير 1816) الموسيقي روسيني لأنها تطفل غير كريم على أرض حرام لبايزيللو الذي كان لا يزال على قيد الحياة. وتوقف بايزيللو بفيينا في طريق عودته من روسيا عام 1784 فترة أتاحت له تأليف اثنتي عشرة "سمفونية" ليوزف الثاني، وأخرج أوبرا Il ne Teodoro "تيودور الملك" سرعان ما ظفرت بقبول عم كل أوربا. ثم عاد إلى نابلي رئيساً لفرقة المرتلين لفرديناند الرابع. وأقنع نابليون فرديناند بأن "يعيره" بازيللو، فلما وصل المؤلف إلى باريس (1802) أستقبل استقبالاً بلغ من الفخامة والبهاء ما أثار عداء الكثيرين. وفي 1804 قفل إلى نابلي تحت حماية جوزيف بونابرت ومورا.

ويجب أن نلاحظ في مرورنا مبلغ الصبر والأناة التي كان هؤلاء الإيطاليون يعدون بهما مستقبلهم المهني. فبايزيللو درس تسع سنين في معهد دورانتي الموسيقي "دي سان أونوفريو"، وتشيماروزا درس إحدى عشرة سنة في معهد سانتا ماريا دي لورينو، ثم في نابلي. وبعد أن تتلمذ دومنيكو تشيماروزا طويلاً على يد ساكيني وبتثيني وغيرهما، أخرج أول أوبرا له Rtravaganze Del Cont "إسراف الكونت" وسرعان ما استمع الناس لأوبراته في فيينا ودرسدن ولندن. وفي 1787 ذهب بدوره إلى سان بطرسبورج حيث أبهج قلب القيصرة المزواج بأوبرا كليوباترة. وحين دعاه ليوبولد الثاني ليخلف سالييري رئيساً للمرتلين بفيينا، أخرج هناك أشهر أوبراته وهي "الزواج السري" (1792). وقد بلغ سرور الإمبراطور بها حداً جعله يأمر بعد انتهائها بتقديم العشاء لجميع الحاضرين، ثم أمر بإعادة الأوبرا كلها(87). وفي 1793 دعي ثانية إلى نابلي "رئيساً للمرتلين" لفرديناند الرابع. فلما خلع جيش من جيوش الثورة الفرنسية الملك (1799) رحب تشيماروزا بالحدث ترحيباً حاسماً، فلما رد فرديناند إلى عرشه حكم على تشيماروزا بالإعدام. ثم خفف الحكم إلى النفي. ويمم المؤلف شطر سانت بطرسبورج، ولكنه مات في الطريق بالبندقية (1801). واحتوت مخلفاته التي تركها بالإضافة إلى العديد من الكنتاتات، والقداسات، والأوراتوريوات، نحو ست وستين أوبرا كانت تلقى استحساناً أكثر بكثير ما ظفرت به أوبرات موتسارت، وهي حتى في وقتنا هذا يجب أن تعد في مرتبة تالية لأوبرات موتسارت فقط في أوبرا القرن الثامن عشر الهازلة.

وإذا كانت الملوديا هي لب الموسيقى، فالموسيقى الإيطالية إذن أسمى الموسيقات. كان الألمان يفضلون التناغم متعدد الأصوات (الهارمونيا البوليفونيه) على الخط الميلودي البسيط. وفي هذه الناحية ظفرت إيطاليا بنصر آخر على ألمانيا حين أخضع الأماني موتسارت البوليفونيه للميلودية.ولكن الإيطايين غلبوا الميلوديا تغليبا جعل أوبراتهم أقرب إلى أن تكون سلسلة من الأغاني الرخيمة أكثر منها درامات موسيقية كالتي قصد إليها أوائل مؤلفي الأوبرا الإيطاليين (حوالي 1600) في محاولتهم منافسة فن الإغريق الدرامي. وهكذا نرى دلالة الحركة الإيطالية، بل دلالة الكلمات في حالات كثيرة، تضيع وسط بهاء الأغنية وروعتها وكان هذا جميلاً، ولكن إذا كان الفن كما اعتدنا أن نراه هو استبدال النظام بالفوضى للكشف عن المغزى أو الدلالة، فإن الأوبرا في الأيدي الإيطالية قصرت دون بلوغ أسمى إمكاناتها، وقد اعترف بهذا بعض الإيطاليين مثل جوميللي وتراييتا، وجهدوا لصب الموسيقى والتمثيلية في كل موحد، ولكن ذلك الإنجاز كان عليه ينتظر أوبرات جلوك ليحقق أنصع صوره. وهكذا توقف في بندول الحياة الغزو الإيطالي لأوربا بالميلوديا، حين أخرج جلوك عام 1774 في باريس "أفحبيني في أولدي" التي أخضعت الموسيقى للتمثيلية. ولكن الصراع بين الميلوديا والدراما أتصل، وكسب فاجنز معركة للدراما، واستولى فردي على غنائم جديدة للميلوديا. وليت النصر الكامل لا يتحقق لأي من الفريقين.

الفييري

لم ينجب هذا العصر رجلاً على شاكلة دانتي، ولكن كان هناك باريني في الشعر وفيلانجييري في النثر، والفييري في الدراما والنثر والشعر.

ولقد شق جوزيبي باريني طريقه صعداً من الفقر، وكسب قوته بنسخ المخطوطات، ودخل دنيا النشر (1752) بديوان صغير من "الشعر المنثور" واحترف القسوسة وسيلة للعيش، وحتى بعد هذا اضطر لكسب قوته بإعطاء الدروس الخصوصية لأن إيطاليا اكتظت بالقساوسة. وأرهف الفقر قلمه فاتجه إلى الهجاء. وتأمل في حياة الكثير من نبلاء الإيطاليين العاطلة المترفة فخطر له أن يصف يوماً نموذجاً في حياة شريف ذي "دم أزرق". وفي 1763 أصدر أول جزء سماه (الصباح)، وبعد عامين أضاف (الظهيرة)، ثم أكمل الجزء الثالث الذي لم يعش لينشره (المساء) و(الليل)، وهي في مجموعها تؤلف هجائية ضخمة سماها "اليوم" Il Giorno وأبدى الكونت فوني فيرمان نبلاً حقيقياً بتعيينه القس الشاعر محرراً لجازيته ميلان، وأستاذاً للآداب البحتة في "السكولا بالاتينا" ورحب باريني بالثورة الفرنسية، وكافأه نابليون بعضوية مجلس مدينة ميلان. والقصائد الغنائية التي نظمها بين 1757 و1795 تدع من عيون الأدب الإيطالي الصغيرة. ولا يصلنا بالترجمة إلا صوت خافت منه، كما نسمعه في هذه السوتينته التي توحي بأن كاتبها عاشق لا قسيس:

إيه أيها الكرى الرحيم، يا من تشق بجناحك الرقيق

طريقك الهادئ متعجلاً في الليل البهيم

وتتراءى بالأحلام الكثيرة السريعة

للنفس المضناة على فراشها الساكن:

أذهب إلى حيث تضع "فيليس" رأسها اللطيف

وخدها النضر على الوسادة الهادئة،

وبينما يرقد جسدها روع روحها

برؤيا جسم كئيب خلقته بسحرك،

وليكن شديد الشبه بي،

شوه الشحوب وجهه،

حتى تستيقظ وقد هزها الحنان علي.

إنك لو تفضلت عليّ بهذا الصنيع،

لجدلت لك إكليلاً مزدوجاً من الزهر

ووضعته في سكون على مذبحك(88)

ولنضف إلى هذه الباقة من الزهر زهرة من التنوير الإيطالي هي فقرة كتاب جايتانو فيلانجييري "على التشريع" La Seienza Della Legislazione، (1780- 85)، استوحاها من بكاريا وفولتير.

"ما ينبغي أن يكون الفيلسوف مخترعاً للمذاهب بل رسولاَ للحقيقة، وما دامت الشرور التي ابتليت بها البشرية قائمة بغير شفاء، وما دام مسموحاً للخطأ والتحيز بأن يخلدا هذه الشرور، وما دامت الحقيقة مقصورة على القلة وعلى المميزين، محجوبة عن معظم النوع الإنساني وعن الملوك، فسيظل واجب الفيلسوف أن يبشر بالحقيقة، وأن يحافظ عليها ويشجعها، وينيرها. وحتى إذا كانت الأضواء التي ينشرها لا تفيد في جيله وقومه، فإنها لا شك ستفيد في بلد وجيل آخرين. فالفيلسوف- ذلك المواطن في كل مكان وزمان- أمامه الدنيا كلها وطناً، والأرض مدرسة، والأجيال القادمة تلاميذ"(89).

وقد لخص العهد كله في الفييري: فالإنتقاض على الخرافة، وتمجيد الأبطال الوثنيين، والتنديد بالاستبداد، والإشادة بالثورة الفرنسية، والنفور من شططها والصيحة المطالبة بتحرير إيطاليا- كل هذا مضافاً إلى قصة غرام حرام ووفاء نبيل. وقد سجل هذه الحياة المشبوهة في "حياة فيتوريو الفييري...وكتوبة بقلمه، موصولة إلى ما قبل موته بخمسة أشهر. وهي من أعظم التراجم الذاتية، لا تقل كشفاً عن نفس صاحبها عن "اعترافات" روسو. ويستهلها بعبارة يلقي القارئ أمامها السلاح: "إن حديث المرء عن نفسه، وأكثر منه الكتابة عن نفسه- إنما هو دون أدنى شك وليد المحبة الفائقة التي يحبها المرء لذاته، وبعدها لا يتوارى الكاتب خلف قناع من التواضع ولا تند عنه أمارة على عدم الأمانة:

"ولدت في مدينة أسني بييدمونت في 17 يناير 1749 لأبوين شريفين ثريين محترمين. وأنا أذكر هذه الظروف على أنها ظروف سعيدة للأسباب التالية. فقد خدمن شرف المولد خدمة كبرى،..لأنه مكنني من أن أذم النبالة لذاتها دون أن أتهم بالدوافع الدنيئة أو بدافع الحسد، وأن أميط اللثام عن حماقاتها، ورذائلها، وجرائمها...أما الثراء فعصمني من قبول الرشوة، وأطلق حريتي في خدمة الحق دون سواه"(90).

ومات أبوه وهو طفل، وتزوجت أمه ثانية. وانطوى الغلام على نفسه، وأطال التفكير، وفكر في الانتحار في الثامنة ولكنه لم يهتد إلى أي طريقة مريحة. وتكفل به خال له وأرسله وهو في التاسعة ليتلقى العلم في أكاديمية تورين. وهناك تولى خادم خاص خدمته والسيطرة عليه بالعنف. وحاول معلموه أن يحطموا إرادته كأول مرحلة في تنشئته رجلاً، ولكن طغيانه ألهب كبرياءه وشوقه إلى الحرية "إن درس الفلسفة...كان من النوع الذي ينوم الطالب وهو واقف منتصباً"(91). على ـن موت خاله تركه المتصرف في ثروة عريضة وهو بعد في الرابعة عشرة.

وبعد أن حصل على موافقة ملك سردينيا التي كانت شرطاً للسفر خارج البلاد بدأ في 1766 جولة في أوربا استغرقت ثلاثة أعوام. ووقع في غرام نساء شتى، وعشق الأدب الفرنسي والدستور الإنجليزي. ودمرت قراءته لمونتسيكو وفولتير وروسو لاهوته الموروث، وبدأت كراهيته للكنيسة الرومانية- مع أنه بالأمس فقط لثم قدم كلمنت الثالث عشر "شيخ لطيف في جلال وقور"(92). وفي لاهاي شغف حباً بامرأة متزوجة، فابتسمت ثم انصرفت عنه، وعاد يفكر في الانتحار، وكان العهد عهد فرتر، والانتحار فكرة شائعة في الجو. ثم عاد ليكتشف أن الفكرة أشد جاذبية منها تنفيذا، فرجع إلى بيدمونت ولكنه شقي في جو ملؤه الخضوع السياسي والديني شقاء حمله على استئناف أسفاره (1769). وجاب الآن أرجاء ألمانيا والدنمرك والسويد- حيث أحب الطبيعة كما يقول وأحب الناس وحتى الشتاء. ومنها إلى روسيا، فاحتقرها لأنه لم يرَ في كاترين الكبرى إلا مجرمة متوجة، ورفض أن يقدم لها. ولم يسغ بروسية فردريك خيراً من إساغته روسيا، فهرول إلى هولندا التي أنتجت نهج الجمهورية في بسالة، وإلى إنجلترا التي كانت تحاول أن تعلم جوج الثالث أن يخلي بينه وبين شؤون الحكم. وقد أغوى زوجة رجل إنجليزي، وبارز، وجرح. ثم أصيب بعدوى الزهري في أسبانيا(93)، وعاد إلى تورين للعلاج (1772).

وفي 1774 تماثل للشفاء بالقدر الذي أتاح له الدخول في ثاني مغامراته الغرامية الكبرى، مع امرأة تكبره بتسع سنين. وتشاجرا ثم افترقا. وأزاحها من أحلامه بكتابة تمثيلية سماها "كليوبطرة"، وأي شيء أكثر إثارة من عضوية في حكومة ثلاثية، وملكة، ومعركة، وصل؟ وأخرجت التمثيلية بتورين في 16 يونيو 1775 "وسط تصفيق الاستحسان ليلتين متعاقبتين"، ثم سحبه لإجراء تعديلات فيها. وأخذ الآن يتحرق شوقاً إلى الشهرة غاية في النبل والسمو. وأعاد الآن قراءة بلوتارخ وعيون الأدب اللاتيني، ودرس اللاتينية من جديد ليغوص في مآسي سنيكا، وفي هذه القراءات وجد موضوعات وأشكالاً لدراماته. وعزم على استعادة الأبطال والفضائل القديمة كما استعاد فنكلمان الفن القديم. وفي غضون هذا (1777) كان يكتب رسالته "في الطغاة". ولكنها احتوت من التهم الحادة للدولة والكنيسة ما جعله ينكص عن نشرها، فلم ترَ النور إلا في 1787. فقد كانت ملتهبة بغيرة أشبه بالغيرة الدينية:

"ليس الفقر الطاحن...ولا عطل الأرقاء الذي تتردى فيه إيطاليا، كلا، فما هذه هي الدوافع التي وجهت عقلي إلى الشرف الرفيع الحق، شرف تجريد قلمي للهجوم على الإمبراطوريات الزائفة. ذلك أن إلهاً ضارباً إلهاً مجهولاً، ظل يسوط ظهري منذ نعومة أظافري...إن روحي الحرة لن تجد سلاماً أو راحة حتى أكتب صفحات قاسية لهدم الطغاة"(94).

وهذا تعريفه للطغاة:

"كل الذين توسلوا بالقوة أو الحيلة- أو حتى بإرادة الشعب أو النبلاء- إلى القبض التام على أطراف الحكم ويعتقدون أنهم فوق القانون، أو هم كذلك...والطغيان هو الصفة التي يجب أن تنعت بها...أي حكومة يستطيع فيها الشخص أن المنوط بتنفيذ القوانين أن يضعها أو يقضي عليها أو ينتهكها أو يفسرها أو يعرقل سيرها أو يوقفها وهو في مأمن من العقاب"(95).

وعند الفييري أن الحكومة الأوربية كانت مستبدة باستثناء الجمهورية الهولندية والملكيتين الدستوريتين في إنجلترا والسويد. وقد أشاد بالجمهورية الرومانية متأثراً في ذلك بمكيافيللي، وراوده الأمل في أن الثورات ستقيم جمهوريات في أوربا عما قليل. ورأيه أن خير ما يستطيع أي وزير لطاغية مستبد أن يفعله هو أن يشجعه على ألوان من الطغيان تبلغ من الشطط ما يسوف الشعب إلى الثورة(96). والثورة في سنيها الأولى معذورة إذا لجأت إلى العنف لتمنع عودة الاستبداد إلى الحياة:

"وبما أن الآراء السياسية كالآراء الدينية لا يمكن تغييرها تغييراً كاملاً أبداً دون استعمال الكثير من العنف، لذلك كانت كل حكومة جديدة مضطرة لسوء الحظ إلى أن تعنف إلى حد القسوة، بل تظلم أحياناً حتى تقنع أو ربما تكره أولئك الذين لا يرغبون في التجديد ولا يفهمونه ولا يحبونه ولا يرتضونه"(97).

ومع أن الفييري كان نبيلاً، ولقبه الكونت دي كوتيميليا، فأنه أدان الأرستقراطية الوراثية لأنها شكل من أشكال الطغيان أو أداة من أدواته. وأدان بالمثل جميع الأديان المنظمة ذات السلطان. وقد سلم بأن "المسيحية أسهمت بقدر غير قليل في تلطيف العادات الشائعة بين جميع الناس"، ولكنه أشار إلى "الكثير من أعمال الوحشية الغبية الجاهلة" التي ارتكبها الحكام المسيحيون "من قسطنطين"(98). ويمكن القول عموماً: "إن الدين المسيحي يكاد لا يتفق والحرية...فالشعب، وحكمة التفتيش والمطهر، والاعتراف، والزواج الذي لا انفصام له، ورهبانية الكهنة- هذه هي الحلقات الست في السلسلة المقدسة التي تقيد السلطة الزمنية (الدولة) بقيود أوثق حتى لتزداد على الأيام ثقلاً وامتناعاً على التحطيم"(99).

وبلغ من مقت الفييري للاستبداد أنه نصح باجتناب الخلف أو الزواج إطلاقاً في دولة مستبدة. وبدلاً من أن ينجب أطفالاً، أخرج في خصوبة إيطالية مماثلة أربع عشرة مأساة بين 1775، و1783، كلها بالشعر المنثور، وكلها كلاسيكية بناء وشكلاً، وكلها يشب الطغيان بسخط خطابي، ويمجد الحرية باعتبارها أشرف من الحياة. فترى ميوله في "البازي" مع محاولة المتآمرين الإحاطة بلورنتسو وجوليانودي مديتشي، وفي "بروتس الأول" و "بروتس الثاني" لم يعف من اللوم تاركوين وقيصر، وفي "فليبو" كان بكل قلبه مع كارلوس ضد ملك أسبانيا، ولكنه في "ماريا ستواردا" (ماري ستيوارت) وجد في رؤساء العشائر الاسكتلندية من الطغيان أكثر مما في الملكة الكاثوليكية. فلما أنتقد على إخضاعه التاريخ لفكرته دافع عن نفسه بقوله:

"سيسمع الناس أكثر من لسان خبيث يقول...أنني لا أصور شيئاً إلا الطغاة في صفحات مفرطة الطول لا لطف فيها، وإن قلمي الدموي المنقوع في السلم يضرب دائماً على نغمة واحدة رتيبة، وأن ربة شعري الفظة لا تنهض إنساناً من العبودية الشريرة، بل تثير ضحك الكثيرين. ولكن هذه الشكاوى لن تحول روحي عن هدف بمثل هذا السمو، ولا تعوق فني مهما كان ضعيفاً غير كفء لتلبية حاجة بهذه الشدة. لا ولن يكون نصيب كلامي أن تبدده الرياح إذا ولد رجال صادقون بعدما يؤمنون بأن الحرية لا غنى عنها للحياة(100)".

وقد أولع بكونتيسة ألباني ولعاً لم يفقه إلا ولعه بالحرية وكانت ابنة جوستاف أدولف- أمير شتولبرج- جديرن فتزوجت (1773) الأمير تشارلز إدوارد ستيوارت، المطالب الشاب بعرش بريطانيا، الذي سمى الآن نفسه كونت ألباني. وقد انغمس هذا الذي كان فتى أنيقاً جداً يوم كان "الأمير الحلو تشارلي" في الشراب ومصاحبة الخليلات لينسى هزائمه. ولم يعقب هذا الزواج الذي رتبه البلاط الفرنسي، وكان زواجاً شيقاً، ويبدو أن الكونتيسة ذاتها لم تكن مبرأة من العيوب. وقد التقى بها الفييري في 1777، ورثى لها، ثم احبها. ولكي يكون قريباً منها، حراً في مساعدتها وتتبع تقلبات حظها دون أن يتكبد مشقة الحصول على إذن ملكي لكل خطوة عبر الحدود، تخلى عن مواطنه بيدمونت، ونزل عن معظم ثروته وضيعته لأخته، ثم انتقل إلى فلورنسا 1778. وكان الآن في التاسعة والعشرين من عمره.

واستجابت الكونتيسة لغرامه برقة وحذر مراعية كل أصول اللياقة. وفي 1780 حين أمست حياتها في خطر من جراء عنف زوجها السكير، اعتكفت في دير، ثم في بيت زوج أختها في روما. كتب الفييري يقول "بقيت في فلورنسا كأني يتيم مهجور، وعندها اقتنعت كل الاقتناع أنني بدونها لم أكن أوجد ولو نصف وجود، لأنني ألفيتني عاجزاً كل العجز تقريباً عن القيام بأي عمل جيد(101)". وما لبث أن ذهب إلى روما، حيث سمح له برؤية محبوبته بين الحين والحين، ولكن زوج أختها قاوم جهوده في الحصول على قرار بإبطال زواجها، مسترشداً بذلك في رأي القساوسة. (ومن هنا دفاعه الملتوني عن الطلاق "ديللا تيرانيدي(102)"). وأخيراً منعها زوج أختها من زيارة الكونتيسة، فغادر روما، وحاول أن يرفه عن نفسه بالأسفار والخيل- التي كانت "غرامه الثالث"، بعد الفنون و "سيدتي النبيلة". وفي 1784 حصلت عل انفصال شرعي، فانتقلت إلى كولمار في الألزاس. وهناك لحق بها الفييري، وبعدها عاشا في رباط غير زوجي حتى أتاح لهما موت زوجها أن يتزوجا. وقد كتب الفييري عن حبه في نشوة تذكرنا بما كتبه دانتي في "الحياة الجديدة".

"هذا الحب المحموم- الحب الرابع والأخير،..كان يختلف عن علاقاتي الغرامية الثلاث السابقة. ففيها لم أجد نفسي منفعلاً بأي عاطفة ذهنية توازي وتمتزج بعاطف القلب. نعم كان هذا الحب أقل عنفاً وحرارة ولكنه أكثر استمراراً وأعمق تغلغلاً في الشعور والوجدان. وبلغ من قوة عاطفتي أنها...سيطرت على كل انفعال وخاطر فيّ، ولن تنطفئ في داخلي أبداً إلا بانطفاء الحياة نفسها. وقد وضح لي...أنني وجدت فيها امرأة حقة، لأنها بدلاً من أن تصبح كسائر المساء العاديات عقبة في طريقي إلى الشهرة الأدبية- امرأة تقدم الاهتمامات النفعية وترخص...أفكار المرء- وجدت فيها التشجيع والعزاء والقدوة الحسنة في كل عمل صالح. وإذا تبينت هذا الكنز الفريد وقدرته حق قدره، فأنني بذلت لها ذاتي باستسلام مطلق. ولا ريب في أنني لم أكن مخطئاً في هذا، لأنني الآن وقد مضى على حبي لها أكثر من اثني عشر عاماً...يزداد حبي لها كلما ذبلت تلك المفاتن العابرة (وهي ليست نفسها الباقية) بحكم الزمن. ولكن عقلي وقد تركز فيها يسمو ويرق، ويزداد حسناً كل يوم، وأما عقلها هي فأنني أجرؤ على القول بأن هذا يصدق عليها، وأن من حقها أن تستمد مني العون والقوة(103)".

وبهذا الحافز مضى يكتب المزيد من المآسي، وبعض الملاهي، وشيئاً من الشعر بين الحين والحين. وكان قد كتب خمس قصائد غنائية بعنوان Ameraca Libra. وفي 1788 انتقل الحبيبان إلى باريس، حيث أشرف الفييري على نشر مطبعة بومارشين في كيل على الراين لأعماله. وحين سقط الباستيل هلل الفييري للثورة وكله حماسة متقدة للحرية وقال أنها فجر عصر أسعد للبشر. ولكن سرعان ما قزز شطر الثورة وسرقها روحاً كان تصورها للحرية أرستقراطياً، روحاً تطالب بالتحرر من الغوغاء والأغلبيات ومن البابوات والملوك على حد سواء. ففي 18 أغسطس 1792 غادر هو والكونتيسة باريس بما استطاعا حمله من مقتنياتهما في مركبتين فأوقفهما عند أبواب المدينة حشد يسألهما عن حقهما في مغادرته. يقول الفييري "قفزت من المركبة بين الغوغاء، ملوحاً بجوازات سفري السبعة وأخذت أصيح وأحدث ضجة.. وهو دائماً السبيل إلى التغلب على الفرنسيين(104)". وواصلا الرحلة راكبين إلى كاليه وبركسل، وهناك نما إليهما أن السلطات الثورية في باريس أمرت بالقبض على الكونتيسة. فهرعا إلى إيطاليا، واستقرا في فلورنسا. وكتب الفييري الآن Misogallo مضطرباً بنار الحقد على فرنسا و"حشد عبيدها أبناء السفاح"(105).

وفي 1799 استولى جيش الثورة الفرنسية على فلورنسا فلجأ الفييري والكونتيسة إلى فيللا في ضاحية حتى رحل الغزاة. وقد أضعفه وأشابه انفعال هذه السنين، فاعتقد في ختام ترجمته الذاتية التي كتبها عام 1802 وهو بعد في الثالثة الخمسين أنه شاخ. وأوصى بكل ممتلكاته للكونتيسة ثم مات بفلورنسا في 7 أكتوبر 1803 ودفن في كنيسة سانتا كروتشي. وهناك أقامت له الكونتيسة أثراً ضخماً من صنع كانوفا، وقد مثلت فيه إيطاليا تنوح فوق المقبرة. وقد ضمت إلى حبيبها هناك في 1824.

وتكرم إيطاليا الفييري باعتباره Il Vate d'Italia نبي الأحياء الذي حررها من الأغلال الأجنبية الكنيسية. وكانت دراماته على ما فيها من حدة ورتابة تقدماً منشطاً خلف ورائه المآسي العاطفية التي كانت تقدم للمسرح الإيطالي قبله. ومن تمثيلياته "فليبو" و "شاول" و"ميرا" أعدت روح إيطاليا نفسها لماتزيني جاريبالدي.

ولم يقتصر نشر الطغاة Della Tirannide في الخارج على كيل (1787) وباريس، بل طبع في ميلانو (1800) وغيرها من المدن الإيطالية في 1802 و1803 و1805 و1809 و1840 و1849 و1860، وأصبح لإيطاليا ما كان لفرنسا وإنجلترا وأمريكا كتاب يبين "حقوق الإنسان" (1750). وكان الفييري بداية الحركة الرومانسية في إيطاليا، بيرونا قبل بيرون، يبشر بتحرير العقول والدول من أغلالها. وبعده كان لزاماً على إيطاليا أن تتحرر.