قصة الحضارة - ول ديورانت - م 10 ك 3 ف 11

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 13281 قصة الحضارة -> روسو والثورة -> الجنوب الكاثوليكي -> أسبانيا وحركة التنوير -> البيئة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الحادي عشر: أسبانيا وحركة التنوير 1700 - 1788

البيئة

أوصى شارل الثاني، أخر الهابسبورجيين الأسبان، عند وفاته عام 1700، بأسبانيا وكل إمبراطوريتها العالمية لفرنسا البوربونية-العدو القديم لآل هابسبورج، وقد قاتل حفيد لويس الرابع عشر، الذي لقب بفليب الخامس ملك أسبانيا، ببسالة خلال حرب الوراثة الأسبانية (1703-12) للاحتفاظ بوحدة تلك الإمبراطورية كاملة، وامتشقت أوربا كلها تقريباً الحسام للحيلولة دون هذا التوسع الخطر في قوة البوربون. وأخيراً أكرهت أسبانيا على النزول عن جبل طارق ومينورقة لإنجلترا، وصقلية لسافوي، ونابلي وسردانيا وبلجيكا للنمسا.

ثم إن فقد أسبانيا لقوتها البحرية لم يترك لها سوى قبضة ضعيفة على المستعمرات التي كانت تغذي تجارتها وثروتها. فقمع أمريكا الأسبانية مثلاً كان يعطيها غلة بلغت من خمسة إلى عشرين ضعفاً في الفدان لقلة الأرض الأسبانية. وجادت تلك الأراضي المشمسة بالزئبق النحاس والزنك والزرنيخ والأصباغ واللحوم والجلود والمطاط والقرمز والسكر والكاكاو والبن والتبغ والشاي والكينين والكثير من العقاقير الأخرى. وفي 1788 صدرت أسبانيا لمستعمراتها الأمريكية بضائع قيمتها 158.000.000 ريال، واستوردت منها بضائع قيمتها 804.000.000 ريال ولكن هذا "الخلل في الميزان التجاري الذي لم يكن في مصلحة أسبانيا محاه سيل متدفق من الفضة والذهب الأمريكيين. وأرسلت الفلبين شحنات سفن من الفلفل والقطن والنيلة وقصب السكر. وقد بلغ سكان الفلبين في تقرير ألكسندر فون همبولت في ختام القرن الثاني عشر 1.900.000، وسكان أمريكا الأسبانية 16.902.000، أما أسبانيا نفسها عام 1797 فقد بلغ سكانها 10.541.000(1). وأنه لفضل يعزى لحكم البوربون أن هذا الرقم الأخير يعني تضاعف السكان الذين لم يزيدوا على 5.700.000 عام 1700.

لم تسخ الجغرافيا على أسبانيا إلا بميزة التجارة البحرية. كانت الأرض في الشمال خصبة تغذرها الأمطار والثلوج الذائبة من جبال البرانس، وكانت قنوات الري (وأكثرها خلفه المغاربة للغالبين) وقد استصلحت الأراضي الجدباء في بلنسية ومرسية والأندلس، ولكن باقي أراضي أسبانيا كان جبلياً أو قاحلاً إلى درجة مثبطة للهمم. ولم يتح لهبات الطبيعة أن تنموا وتتطور بفضل الإقدام الاقتصادي، فذهب أكثر الأسبان حباً للمغامرة إلى المستعمرات، وفضلت أسبانيا أن تشتري المنتجات الصناعية من الخارج بذهب مستعمراتها وما تغله مناجم الفضة أو النحاس أو الحديد أو الرصاص في أسبانيا ذاتها. وتخلفت صناعاتها التي كانت لا تزال في المرحلة النقابية أو البيتية تخلفاً شديداً عن صناعات أقطار الشمال النشيطة، وكان الكثير من مناجمها الغنية تشغله الإدارة الأجنبية لفائدة المستثمرين الألمان أو الإنجليز. واحتكرت "المستا" إنتاج الصوف، وهي اتحاد من ملاك قطعان الغنم ميزته الحكومة، ورسخت التقاليد قدمه، وسيطرت عليه فئة قليلة من النبلاء والأديرة، وخنقت المنافسة، وتخلفت أسباب التحسين. وتعفنت برولتاريا ضئيلة في المدن، وتشتغل خدماً لكبار القوم أو عمال مياومة في النقابات الحرفية، وكانت منازل الأثرياء تزدان ببعض العبيد الزنوج أو المغاربة. وعاش طبقة وسطى صغيرة معتمدة على الحكومة أو الأشراف أو الكنيسة.

وكان 51.5% من الأرض الزراعية تملكه الأسر الشريفة في مساحات شاسعة و16.5% تملكه الكنيسة، و32% تملكه الكومونات (المدن) أو الفلاحون. وتأخر نمو ملكية الفلاحين للأرض بفعل قانون وقف قديم يشترط وقف الأرض كاملة على الابن الأكبر ويمنع رهن أي جزء منها أو بيعه. وكان ثلاثة أرباع الأرض خلال معظم هذا القرن فيما عدا إقليم الباسك يفلحه مستأجرون يؤدون ضريبة على صورة إيجار، أو رسوم، أو خدمات، أو عيناً لملاك من الأشراف أو رجال الدين الذين ندر أن رأوهم ولما كانت الإيجارات تجنى حسب إنتاجية المزرعة، فإن المستأجرون افتقدوا الحاجز على الابتكار أو الاجتهاد(2). ودافع الملاك عن هذا النظام بالزعم بأن الهبوط المطرد في قيمة العملة يكرههم على رفع الإيجارات لتتمشى مع الأسعار والتكاليف المتصاعدة. ثم أن ضريبة مبيعات فرضت على ضروريات الحياة كاللحم والنبيذ وزيت الزيتون والشموع والصابون كانت أثقل وطأة على الفقراء (الذين أنفقوا معظم دخلهم على الضروريات) وأخف وقعاً على الأغنياء. وترتب على هذه الإجراءات، وعلى الامتيازات الوراثية، وعلى الفوارق الطبيعية في القدرة البشرية، أن تركزت الثروة في القمة، وران على القاع فقر كئيب اتصل جيلاً بعد جيل، تخففه وتسري به التعزيات فوق الطبيعة.

وكانت طبقة النبلاء منقسمة إلى درجات من الشرف انقساماً يملؤه التحاسد والتنابذ. ففي القمة (في 1787) 119 من كبار النبلاء (Grandes de Espana). وقد نحزر مبلغ ثرائهم من تقرير مبالغ فيه على الأرجح كتبه الرحالة البريطاني المعاصر جوزف تاونسند وذكر فيه "أن ثلاثة من كبار النبلاء-وهم دوق أوزونا، ودوق ألبا، ودوق مديناسلي-يملكون إقليم الأندلس بجملته(3). وكان دخل دوق مدينا من مصايد أسماكه وحدها مليون ريال في العام، ودخل دوق أوزنا السنوي 8.400.000 ريال، ودخل كونت أراندا قرابة 1.600.000 ريال في السنة"(4). ويلي كبار النبلاء 535 من أصحاب الألقاب Titulos-وهم رجال منحهم الملك ألقاباً وراثية بشرط أداء نصف دخلهم للتاج. ويلي هؤلاء الفرسان Caballeros الذين يعينهم الملك في عضوية مجزية في إحدى طبقات أسبانيا الأربع: وهي سنتياجو، والقنطرة، وكالاترافا ومونتيزا. أما أدنى النبلاء مرتبة فكانوا الـــ 400.000 هيدلج Hidalgo الذين يملكون مساحات متواضعة من الأرض، والذين أعفوا من الخدمة العسكرية ومن السجن للدين، وكان لهم الحق في أن يلبسوا شعار النبالة وأن يخاطبوا بلقب "الدون". وكان بعضهم فقراء، وبعضهم انضم إلى المتسولين في الشوارع. وكان معظم النبلاء يعيشون في المدن، ويعينون موظفي الأقاليم.

أما الكنيسة الأسبانية فقد ادعت الحق في نصيب مريح من جملة الناتج القومي بوصفها الحارس الإلهي للوضع الراهن. وقد قدر مصدر أسباني موثوق أن دخلها السنوي بعد الضرائب يبلغ 1.101.753.000 ريال، ودخل الدولة يبلغ 1.371.000.000 ريال(5). وكان ثلث إيرادها يأتيها من الأرض، ومبالغ طائلة تجمعها من العشور وبواكير الثمار، ومبالغ صغيرة من مراسيم العماد، والزيجات، والجنائز، والقداديس على أرواح الموتى، والحلل الديرية تباع للأتقياء الذين ظنوا إنهم إن ماتوا وعليهم هذه الأرواب فقد يتسللون إلى الجنة دون مساءلة. وأتى الرهبان المستجدون بمزيد من المال بلغ 53.000.000 ريال. على أن أوساط القساوسة كانوا بالطبع فقراء لكثرة عددهم من جهة، فقد كان في أسبانيا 91.258 من رجال الكهنوت، منهم 16.481 كانوا قسساً و2.943 رهباناً يسوعيين(6). وفي 1797 كان ستون ألف راهب وثلاثون ألف راهبة يعيشون في ثلاثة آلف دير. وكان رئيس أساقفة إشبيلية وموظفوه البالغون 235 مساعداً يتمتعون بدخل سنوي مقداره ستة ملايين ريال، أما رئيس أساقفة طليطلة-وكان له ستمائة مساعد-فبلغ دخله تسعة ملايين ريال. وهنا، كما في إيطاليا والنمسا، لم تثر ثروة رجال الدين أي احتجاج من الشعب، فالكاتدرائية من خلقهم، وقد أحبوا أن يروها في زينة بهية.

وقد ضرب تدينهم المثل والقدوة للعالم المسيحي. فلم يلقَ اللاهوت الكاثوليكي في بقعة أخرى في القرن الثاني عشر مثل هذا الإيمان الشامل به، ولا شهدت الطقوس الكاثوليكية من هذا الاحترام الشديد. ونافست الممارسات الدينية السعي وراء العيش، ولعلها فاقت السعي وراء الجنس، باعتبارها جزءاً من صميم الحياة. وكان أفراد الشعب بما فيهم البغايا، يرسمون علامة الصليب مراراً وتكراراً كل يوم. وفاقت عبادة العذراء عبادة المسيح بكثير، وانتشرت صورها وتماثيلها في كل مكان، وكان النساء يخطن الأرواب لتماثيلها في شغف، ويتوجن رأسها بالأزهار النضرة، وفي أسبانيا أكثر من غيرها ارتفع صوت الشعب مطالباً بجعل، "حملها غير الدنس"-أي خلوها من لوثة الخطيئة الأصلية-جزءاً من العقيدة المحددة المشترطة. وكان الرجال يساوون النساء تمسكاً بأهداب الدين. فكثير من الرجال، كالنساء، كانوا يختلفون إلى القداس يومياً. وكان الرجال من الطبقات الدنيا يجلدون أنفسهم في بعض المواكب الدينية (حتى حرم هذا الجلد في 1777) في حبال فيها عقد تنتهي بكرات من الشمع تحوي زجاجاً محطماً، وزعموا أنهم يفعلون هذا برهاناً على حبهم لله أو مريم أو امرأة ما، ورأى بعضهم أن هذا القصد مفيد للصحة(7) وأنه يهدئ من شبق إيروس.

وكانت المواكب الدينية كثيرة، مثيرة، غنية بالألوان، وقد شكا ظريف من أنه لم يستطع أن يخطو في مدريد خطوة دون أن يصادف المشهد المريب، وكان في الامتناع عن الركوع إذا مر الموكب مجازفة بالاعتقال أو الاعتداء. فحين قام أهل سرقسطة بثورة عام 1766 وراحوا ينهبوا ويسلبون ظهر موكب ديني على رأسه الأسقف يحمل بين يديه القربان المقدس، فكشف العصاة رؤوسهم وجثوا في الشوارع، فلما عبر الموكب استأنفوا سلب المدينة(8). وكانت كل مصالح الحكومة تشارك في موكب "عيد القربان" العظيم، يتقدمهم الملك أحياناً. وكانت مدن أسبانيا تجلل بالسواد طوال أسبوع الآلام، والملاهي والمقاهي تغلق، والكنائس تغص بالعابدين، والمذابح الإضافية تقام في الميادين العامة استجابة لتدفق التقوى والورع. ففي أسبانيا كان المسيح ملكاً، ومريم ملكة، والإحساس بالحظرة الإلهية في كل لحظة من لحظات اليقظة، جزءاً من صميم الحياة.

وزكت طائفتان دينيتان أكثر من غيرهما في أسبانيا. فسيطر اليسوعيون على التعليم بفضل علمهم ولباقته في الحديث وأصبحوا آباء الاعتراف للأسرة المالكة. أما الدومنيكان فسيطروا على ديوان التفتيش، ومع أن هذه المؤسسة كانت قد ودعت عصرها الذهبي منذ أمد بعيد، فقد بقي لها من القوة ما يكفي لإرهاب الشعب وتحدي الدولة. فلما ظهرت فلول لليهودية بسبب تراخي البوربون قطع ديوان التفتيش دابرهم بإحراقهم علناً. وعلى مدى سبع سنوات (1720-27) أدان الديوان 868 شخصاً، اتهم 820 منهم بأنهم يبطنون اليهودية، وأحرق 75، وزج غيرهم في سفن تشغيل العبيد أو أكتف بجلدهم(9).وفي 1722 أظهر فليب الخامس تبنيه لأساليب الحياة الأسبانية إذ ترأس مهرجاناً فخماً لإحراق المهرطقين، أحرق فيه تسعة منهم احتفالاً بمقدم أميرة فرنسية إلى مدريد(10). أما خلفه فرديناند السادس فقد أبدى روحاً أكثر اعتدالاً، ففي عهده (1746-59) أحرق عشرة "فقط" أحياء، وكلهم من اليهود "المرتدين(11)".

ومارس ديوان التفتيش رقابة خانقة على كل ضروب النشر. وقد قدر راهب دومنيكي أن المطبوع في أسبانيا خلال القرن الثاني عشر كان أقل من المطبوع في القرن السادس عشر(12). وكان أكثر الكتب دينياً، وأحبها الشعب بوصفها هذا. وكانت الطبقات الدنيا أمية، ولم تشعر بحاجة للقراءة أو الكتابة. وكانت المدارس في قبضة رجال الدين، ولكن آلافاً من الأبرشيات كانت خلواً من المدارس. أما الجامعات الأسبانية التي كانت يوماً ما جامعات عظيمة فقد تخلفت تخلفاً شديداً عن نظيراتها في إيطاليا أو فرنسا أو إنجلترا أو ألمانيا في كل ناحية إلا اللاهوت التقليدي. وكانت مدارس الطب فقيرة، رديئة الإعداد بالأساتذة، ناقصة الأجهزة، واعتمد العلاج على الحجامة، وإعطاء المسهلات، والاستعانة ببركات القديسين، والصلاة. وكان الأطباء الأسبان خطراً على حياة الناس. كان العلم علم العصر الوسيط، والتاريخ أساطير، وزكت الخرافة وكثرت النذر والمعجزات. وظل الإيمان بالسحر إلى نهاية القرن، وظهر بين الأهوال التي صورها الرسام جويا.

تلك كانت أسبانيا التي قدم البوربون من فرنسا ليحكموها.

2- فليب الخامس 1700-1746

كان فليب الخامس (Felipe Quinto) رجلاً طيباً في حدود فلسفة حياته التي ضيقها تعليمه. كان ابناً أصغر للدوفان، فدرب إلى التواضع، والتقوى، والطاعة، فلم يتغلب قط على هذه الفضائل إلى حد يكفي للتصدي لنصف قرن من التحديات في الحكم والحرب. وأفضت به تقواه إلى أن يتقبل في أسبانيا ظلامية دينية كانت تحتضر في فرنسا، وجعلته سهولة انقياده مطوعاً لوزرائه وزوجاته. وكانت ماريا لويزا جابرييلا، ابنة فكتور أماديوس الثاني ملك سافوي، لا تعدو الثالثة عشرة يوم تزوجت فليب (1701)، ولكنها كانت رغم حداثتها حاذقة لمكر النساء وكيدهن، واستطاعت بجمالها وحيويتها وبغضباتها ودموعها، أن تخضع الملك فيستسلم بعد إرهاق، بينما تدير هي وكبيرة وصيفاتها سياسة وطنهما الجديد. وكانت هذه الوصيفة-ماري آن دلا تريموال، أميرة أورسان، والأرملة الفرنسية لنبيل أسباني كبير، قد أعانت الملكة الصبية على الزواج والقبض على السلطة. ومكنها طموحها الممزوج باللباقة من أ، تصبح قوة وراء العرش خلال عشرة أعوام. وما كان في استطاعتها أن تعتمد على الحمال لأنها كانت في التاسعة والخمسين في 1701، ولكنها أمدت المملكة بما تفتقر إليه من معرفة ودهاء، وبعد عام 1705 كانت تقرر السياسة. وفي 1714 ماتت ماريا لويزا في السادسة والعشرين، وتردى فليب الذي تعلم أن يحبها حباً صادقاً في اكتئاب مرضي. ورأت مدام ديزورسان أن تنفذ سلطانها بترتيب زواجه من إيزابيلا (اليزابيث) فارتيزي، ابنة أودواردو الثاني دوق بارما وبياسنزا. وذهبت للقاء الملكة الجديدة عند الحدود الأسبانية، ولكن إيزابيلا أمرتها في اقتضاب أن ترحل عن أسبانيا، فاعتزلت في روما وماتت بعد ثماني سنوات مغمورة منسية رغم ثرائها.

لم تعترف إيزابيلا بأن النهضة الأوربية قد ولت، فقد وهبت كل قوة الإرادة، وشدة الذكاء، وحدة الطبع، واحتقار الوساوس الذي تميزت به النساء كما تميز الرجال الذين هيمنوا على إيطاليا القرن السادس عشر. وقد وجدت في فليب رجلاً عاجزاً عن الحسم؛ عاجزاً عن النوم منفرداً، ومن ثم أصبح فراشها عرشها الذي تحكم منه أمة، وتدير جيوشاً، وتظفر بإمارات إيطالية. ولم تكن قد عرفت أي شيء تقريباً عن أسبانيا. ولم تألف قط الخلق الأسباني ولكنها درست ذلك الخلق، ونجحت في التعرف على حاجات البلد؛ وأدهش الملك أن يجدها لا تقل عن وزرائه إطلاعاً وسعة حيلة.

وكان فليب في سنوات حكمه الأولى قد استخدم جان أوري وغيره من المساعدين الفرنسيين لإعادة تنظيم الحكومة على الأسس التي وضعها لويس الرابع عشر: إدارة ومالية ممر كرتان مراقبتان، مع بيروقراطية مدربه ونظار إقليمين؛ وكلهم خاضعون لسلطة المجلس الملكي التشريعية والقضائية والتنفيذية؛ وأسمه هنا "مجلس تشتالة" Consejo de Castilla؛ فقل الفساد؛ وحد من الإسراف-إلا في عمليات البناء الخاصة بالملك. ثم خلف هؤلاء الوزراء الفرنسيين في 1714 إيطالي كفء طموح هو الاباتي جوليو البيروني، الذي جعل نشاطه الأسبانيين يرتعدون. وكان أبناء لبستاني في بياتشنزا، وصل إلى أسبانيا بوصفه سكرتيراً لدوق فندوم. وكان أول من اقترح إيزابيللا فارنيزي زوجة ثانية لفليب، فيسرف وصوله إلى السلطة عرفاناً بصنيعه. وقد وفقا معا في إقصاء الملك عن شؤون الدولة. وعن أي مشورة غير مشورتهما. وخططا معاً لبناء قوات أسبانيا المسلحة واستخدامها لطرد النمساويين من إيطاليا واستعادة النفوذ الأسباني في نابلي وميلان، وإقامة عروش للأذواق يزينها يوماً ما أبناء إيزابيللا البعيدة النظر.

وطلب البيروني خمس سنين للاستعداد، فأحل في المناصب الرئيسية رجالاً أكفاء من الطبقة الوسطى محل الكسالى من حملة الألقاب، وفرض الضرائب على الأكليروس القساوسة المتمردين(13)، وخرد السفن البالية وبنى خيراً منها، وأقام القلاع والترسانات على طول السواحل والحدود، وأعان الصناعة بالمال، وشق الطرق، وزاد من سرعة المواصلات وألغى ضرائب المبيعات ومكس المرور. وقد أنذر السفير البريطاني في مدريد حكومته بأن أسبانيا لن تنقضي عليها بضع سنين أخر من أمثال هذه الخطى حتى تغدو خطراً على غيرها من دول أوربا(14). ورغبة في تهدئة هذه المخاوف تظاهر البيروني بأنه يجند القوات ليعين بها البندقية والبابوية على الترك. والواقع أنه أرسل ست سفن كبيرة إلى كلمنت الحادي عشر، الذي كافأه بقبعة الكردينالة الحمراء (1717). كتب فولتير "أن الملكية الأسبانية قد استأنفت حياة جديدة تحت حكم الكردينال البيروني(15)".

ومنح كل شيء إلا الوقت. كان يرجو أن يكسب رضاء الفرنسيين والإنجليز عن الأهداف الأسبانية في إيطاليا، وعرض تنازلات قيمة مقابل هذا الرضا، ولكن الملك المهمل أفسد هذه المناورات بكشفه عن رغبته في الحلول محل فليب أورليان حاكماً لفرنسا. وانقلب هذا على فليب، وانضم إلى إنجلترا والأقاليم في ميثاق للحفاظ على الترتيبات الإقليمية التي حددتها معاهدة أوترخت. وانتهكت النمسا تلك المعاهدة بإكراهها سافوي على إعطائها صقلية مقابل سردانيا. واحتج البيروني بأن هذا يضع عبر البحر المتوسط دولة ما زال رئيسها يطالب بتاج أسبانيا. ولعن تطور الأحداث بهذه العجلة على غير ما ينبغي ثم أذعن لدخول حرب قبل الأوان. واستولى أسطوله الوليد على بلرمو (1718)، وسرعان ما أخضع جيشه صقلية كلها لسلطة أسبانيا وهنا انضمت النمسا إلى إنجلترا وفرنسا وهولندا في حلف رباعي ضد أسبانيا. وفي 11 أغسطس 1718 دمر أسطول بريطاني بقيادة الأميرال بنج الأسطول الأسباني تجاه ساحل صقلية، وحبس خيرة أسبانيا في تلك الجزيرة بينما غزت الجيوش الفرنسية أسبانيا. وطلب فليب وايزابيللا الصلح، فأجيب الطلب شريطة أن ينفي البيروني. ففر إلى جنوه (1719)، وشق طريقه متخفياً إلى روما عبر لومبارديا التي يملكها النمساويون، وشارك في مجمع الكراولة الذي انتخب البابا إنوسنت الثالث عشر، ومات عام 1752 وقد بلغ الثامنة والثمانين. وفي 17 فبراير 1720 وقع مبعوث أسباني بلندن معاهدة نزل فيها فليب عن كل حق يدعيه في عرش فرنسا، ونزلت أسبانيا عن صقلية للنمسا، ووعدت إنجلترا برد جبل طارق إلى أسبانيا، وتعهدت الحلفاء بأن يكون لنسل إيزابيللا الحق في وراثة بارما وتسكانيا. وفي مجال السياسة الدولية سرعان ما ينقلب الحلفاء أعداء، ويصبح الخصوم أصدقاء رسمياً. ودعماً للسلام مع فرنسا، كان فليب قد خطب ابنته ماريا أنا فكتوريا التي لم تسلخ من عمرها سوى عامين، للويس الخامس عشر في 1721، وأرسل إلى فرنسا (1722) وسط دهشة الجمع. ولكن في 1725 ردتها فرنسا لعل لويس أن يتزوج امرأة تستطيع الاضطلاع فوراً بمهمة انجاب وريث له. ورأت أسبانيا في هذا الرد إهانة، فتحالف مع النمسا، ووعد الإمبراطور شارل السادس بمساعدة أسبانيا على استعادة جبل طارق، فلما حاول جيش أسباني الاستيلاء على ذلك المعقل لم يأت العون من النمسا؛ وفشلت المحاولة، ولم تصطلح أسبانيا مع إنجلترا وحسب، بل ردت لها احتكار الازينتو Asiento الذي يبيح لها بيع العبيد للمستعمرات الأسبانية، ومقابل هذا تعهدت بريطانيا بأن تجلس الدون كارلوس، ابن إيزابيللا، على عرش دوقية بارما. وفي 1731 اتجه كارلوس وستة آلاف أسباني إلى إيطاليا في حراسة أسطول إنجليزي. ونزلت النمسا عم بارما وبياتشنزا لكارلوس رغبة في الحصول على تأييد بريطانيا وأسبانيا لها في ارتقاء ماريا تريزا للعرش الإمبراطوري. وفي 1734 رفع كارلوس نفسه إلى عرش نابلي. وهكذا اكتمل نصر إيزابيللا.

على أن فليب أصابته نوبة من الاكتئاب أخذت بعد عام 1736 تنحدر أحياناً إلى درك الجنون. فقبع في ركن من حجرته، ظاناً أن كل الداخلين عليه ينوون قتله، وعافت نفسه الأكل مخافة أن يدس له السم فيه. وظل ردحاً طويلاً يأبى أن يبرح فراشه أو يحلق لحيته. وجربت إيزابيللا عشرات الوسائل لشفائه أو تهدئته، ولكنها أخفقت كلها إلا واحدة. ففي 1737 أقنعت فارنيللي بأساليب الملاطفة والتملق أن يجيء إلى أسبانيا. وذات ليلة، في جناح ملاصق لجناح الملك، رتبت حفلاً موسيقياً عنى فيه "الخصي" العظيم لحنين من تأليف هاسي. ونهض فليب من فراشه لينظر خلال الباب ويرى أي قوة استطاعت أن تشدو بهذه الأصوات الساحرة. وجاءته إيزابيللا بفارينللي، فأثنى عليه الملك وعانقه وأمره بأن يطلب ما شاء من مكافأة فتوهب له مهما غلت. وكانت الملكة قد أوصت المغني بما يجيب، فلم يطلب إلا أن يسمح الملك بأن تحلق لحيته وأن يرتدي ثيابه ويحضر المجلس الملكي. ووافق الملك وخفت مخاوفه، وبدا أنه شفي كأنما بمعجزة. ولكن حين أقبل المساء التالي أرسل في طلب فارنيللي ورجاه أن يغني هاتين الأغنيتين ذاتهما ثانية، إذ لم يكن في الإمكان تهدئته لينام إلا بهذه الطريقة. وهكذا استمرت الحال ليلة إثر ليلة طوال عشر سنين. وكان أجر فارنيللي 200.000 ريال في العام، ولكن لم يسمح له بالغناء إلا في البلاط. وتقبل هو الشرط شاكراً، ومع أن نفوذه على الملك كان أقوى من نفوذ أي من وزرائه، فأنه لم يستغله وأستعمله دائماً للخير؛ وظل بريئاً من روح الرشوة وأكتسب إعجاب الجميع(16). وفي 1746 أمر فليب أن يقام 100.000 قداس لخلاص نفسه. فإذا لم يكن ثمة حاجة لهذا العدد الكبير ليدخل به الجنة فليوهب الفائض للنفوس المسكينة التي لم يتح لها مثل هذا الاستعداد(17). في ذلك العام قضى فليب نحبه.


3- فرديناند السادس 1746 - 1759

وخلفه على العرش ثاني أبنائه من زوجته الأولى، فأعطى أسبانيا ثلاثة عشر عاماً من الحكم الشافي من عللها. وعمرت إيزابيللا حتى سنة 1766، ولقيت من ابن زوجها معاملة رقيقة مجاملة، ولكنها فقدت سلطانها على التأثير في الأحداث. وأصبحت زوجة فرديناند، ماريا بربارا، تلميذة سكارلاتي، هي المرأة التي تقف وراء العرش. ومع أنها كانت مفرطة الولع بالطعام والمال، فإنها كانت روحاً أرق من إيزابيللا، وبذلت أكثر همتها لتشجع الموسيقى والفن. وواصل فارنيللي غناءه لحكام الجدد، ولم يستطع هاريسكورد سكارلاتي أن ينافسه. وعمل الملك والملكة على إنهاء حرب الوراثة النمساوية، فقبلا معاهدة إكس-لا-شابل (1748)، مع إنها أعطت تسكانيا للنمسا، وبعد عام أنهيا اتفاق الازينتو الذي عمر 136 سنة بدفع 100.000 جنيه لشركة بحر الجنوب تعويضاً عن خسارة امتيازاتها في تجارة الرقيق.

كان فرديناند رجلاً حسن النية، لطيفاً أميناً، ولكنه ورث جسداً رقيقاً وكان معرضاً لنوبات من الغضب كان يخجل منها خجلاً مؤلماً.(18) وحمله الوعي بعيوبه على ترك الحكم لوزيرين قديرين-دون دون خوزيه دي كارفاخال وزينون دي سومر ديفللا، مركيز انسنادا. وحسن انسنادا أساليب الزراعة، وأعان بالمال التعدين والصناعة، وشق الطرق والقنوات، وألغى المكوس الداخلية، وأعاد بناء البحرية واستبدل بضريبة البيوع البغيضة ضريبة على الدخل والممتلكات، ونظم المالية من جديد، وحطم عزلة أسبانيا الفكرية بإيفاده البعوث من الطلبة إلى الخارج. ويرجع بعض الفصل إلى دبلوماسية انسنادا في إبرام اتفاق مع البابوية (1753) احتفظ للملك بحق فرض الضرائب على الأملاك الكنسية وتعيين الأساقفة للكراسي الأسبانية. وقد حد من سلطان الكنيسة، وأخضع ديوان التفتيش، وألغيت الاحتفالات العلنية بإحراق المهرطقين.

واختلف الوزيران في سياستهما الخارجية. فأما كارفاخال فقد أثر فيه لطف السفير البريطاني المخلص، السير بنجامين كين، فاستن سياسة مؤيدة للبريطانيين مسالمة لهم، وأما انسنادا فقد حابى فرنسا، وتحرك نحو محاربة إنجلترا. وطال صبر فرديناند عليه لأنه قدر نشاطه وكفايته، ولكنه أقاله في النهاية. وبينما كانت كل أوربا تقريباً تتردى في سنوات سبع من الحرب، منح فرديناند شعبه فترة من السلام والرخاء أطول مما حظيت به أسبانيا منذ أيام فليب الثاني.

وفي 1758 ماتت ماريا بربارا. وكان الملك يحبها حباً يوحي بأن السياسة لم يكن لها دخل في زواجهما، ومن ثم اعترته حالة من الاكتئاب وتشعث الشعر وإطلاق اللحية ذكرت الناس باكتئاب أبيه من قبل، وأصابته هو الآخر لوثة في آخر سنة من عمره. وفي أخريات أيامه كان يأبى الذهاب إلى فراشه مخافة ألا ينهض منه أبداً. ومات في كرسيه في 10 أغسطس 1759 وبكى الجميع الملكين الحبيبين لأن حكمهما كان بركة ندر أن حظيت بها أسبانيا.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

4- التنوير يدخل أسبانيا

قصة التنوير في أسبانيا مثال لقوة عرضة للمقاومة تصطدم بجسم ثابت لا يقبل الحركة. فالخلق الأسباني، ووفاؤه لإيمانه الوسيط وفاء كتبه بالدم، كان يصد كل رياح الهرطقة أو الشك عاجلاً أو آجلاً، ويرفض كل دخيل من الزي أو العادات أو الاقتصاد. ولم يحبذ الفكر الدخيل غير قوة اقتصادية واحدة-هي التجار الأسبان الذين كانوا يتعاملون مع الأجانب كل يوم، ويعرفون أي قوة وثراء حققهما ونظراؤهم في إنجلترا وفرنسا. وكانوا راغبين في استيراد الأفكار إذا استطاعت أن تضعف من السلطة التي ورثها النبلاء والأكليروس على أرض أسبانيا وحياتها وعقلها. وقد علموا أن الدين فقد سلطانه في إنجلترا، وسمع بعضهم بنيوتن ولوك، لا بل أن جبون قدر له أن يجد بعض من يقرؤونه في أسبانيا(19).

وبالطبع هبت أقوى رياح التنوير من فرنسا. وكان النبلاء الفرنسيون الذين تبعوا فليب الخامس إلى مدريد قد مستهم الزندقة التي أخفت رأسها أيام لويس الرابع عشر، ولكنها استشرت أيام الوصاية. وفي 1714 أسس بعض الدارسين الأكاديمية الملكية الأسبانية محاكاة للأكاديمية الفرنسية؛ وسرعان ما بدأت وضع معجم لغوي؛ وفي 1737 اضطلعت صحيفة "دياريو دي لوس لتراتوس دي أسبانيا" بمنافسة "الجورنال دي سافان" الفرنسية. وكان الدوق ألبا الذي أشرف على الأكاديمية الملكية عشرين عاماً (1756-76) شديد الإعجاب بجان-جاك روسو(20). وفي 1773-أكتتب بثمانية جنيهات ذهبية (لوي دور) لتمثال فولتير الذي كان يصنعه بيجال. كتب إلى دالامبير يقول "أنني وقد مضى عليّ بتثقيف عقلي سراً أغتنم هذه الفرصة للشهادة علانية بعرفاني وإعجابي بالرجل العظيم الذي كان أول من دلني على الطريق(21)".

وحظي كتاب روسو "إميل" بإعلان مجاني حين أحرق في احتفال رسمي بكنيسة من كنائس مدريد (1765)(22). وعاد شباب من الأسبان الذين عرفوا باريس كالمركيز دي مورا الذي عشق جولي دلسبيناس إلى أسبانيا يحملون شيئاً من آثار الشكوكية التي التقوا بها في الصالونات. وهربت إلى أسبانيا نسخ من أعمال فولتير أو ديدرو أو رينال؛ فأيقظت بعض العقول المحددة.وكتب أسباني في 1763 يقول "كان من أثر الكتب المؤذية الكثيرة التي راجت بين الناس؛ ككتب فولتير وروسو وهلفتيوس؛ أن كثر فتور الإيمان في هذا البلد(23)". وكان بابلو أو لافيدي يجهر بالأفكار الفولتيرية في صالونه بمدريد (حوالي 1766)(24). وحوت رفوف "الجمعية الاقتصادية لأصدقاء السلام" أعمالاً لفولتير وروسو وبيل ودالامبير ومونتسكيو وهوبز ولوك وهيوم(25). وذكر الأبيه كليمان الذي جاب أرجاء أسبانيا عام 1768 انتشار اللامبالاة بالدين انتشاراً واسعاً، لا بل الكفر بالعقيدة، المستتر وراء مراعاة الطقوس الكاثوليكية في الظاهر(26). وقد أبلغ ديوان التفتيش في 1778 أن كبار موظفي البلاط يقرؤون لجماعة الفلاسفة الفرنسيين(27).

وكان من الأهمية بمكان للتاريخ الأسباني أن يصبح بدرو أباركا، كونت أراندا، خلال رحلة قام بها في فرنسا، صديقاً لفولتير. وقد نحكم على علاقته من نشاطه اللاحق سفيراً لأسبانيا لدى فرنسا، وقد اختلط في غير تجرح بالموسوعيين في باريس وقامت بينه وبين دالامبير صداقة ملؤها الإعجاب به، وعبر فرنسا ليزور فولتير في فرنيه. وكان يصرح بولائه للكنيسة في أسبانيا، ولكنه هو الذي أقنع شارل الثالث بطرد اليسوعيين، وبإرشاده انظم إب صفوف "المستبدين المستنيرين" الذين كان يتطلع إليهم جماعة الفلاسفة باعتبارهم خير معوان لهم في نشر التعليم والحرية والعقلانية.


5- شارل الثالث 1759 - 1788

أ- الحكومة الجديدة

حين وصل من نابلي كان يناهز الثالثة والأربعين. ورحب به الجميع إلا اليسوعيين(28) الذين ساءهم بيع أسبانيا لمستوطناته في باراجواي إلى البرتغال (1750)، وفيما عدا هذا كسب جميع القلوب بإعفاء الناس من الضرائب المتأخرة، ورد بعض الامتيازات التي فقدتها الأقاليم في ظل سياسة المركزية التي انتهجها فليب الخامس. وقد جلل موت زوجته ماريا أماليا بالحزن سنة حكمه الأولى لأسبانيا. ولم يتزوج بعدها قط وإنه لمما يشرف آل بوربون الأسبان في القرن الثامن عشر أنهم ضربوا لملوك أوربا المثل في الوفاء لأزواجهم والثبات على حبهم.

وقد رسم دبلوماسي بريطاني صورة بريطانية لشارل الذي كانت له مواجهات مع الإنجليز في نابلي. "للملك مظهر غريب سواء شخصه أو زيه. فهو ضئيل القامة ولون بشرته شبيه بلون المحنة ولم يفصل له سترة طوال هذه السنين الثلاثين، لذلك يبدو في سترته وكأنها الزكيبة، وصدريته وسراويله وكوبه من الجلد عادة، وعل ساقه طماق يقيهما من البلل. وهو يخرج للرياضة كل يوم من أيام السنة غير عابئ بمطر أو ريح(29).

ولكن إيرل برستول- أردف في 1761، "إن للملك الكاثوليكي مواهب جيدة، وذاكرة مواتية، وسيطرة غير عادية على نفسه في جميع المناسبات. وقد بات يتشكك في الناس لكثرة ما خدعوه. وهو يفضل دائماً أن ينال موافقة الآخرين على رأيه باللين، وله من طول الأناة ما يجعله ينصح محدثه المرة بعد المرة دون أن يستعمل سلطته. ومع ذلك فرغم سيماء اللطف العظيم البادي عليه استطاع أن يبث الرهبة في قلوب وزرائه وحاشيته."(30)

ولم يكن في تقواه الشخصية ما ينذر بأنه سيهاجم اليسوعيين أو يضطلع بالإصلاحات الدينية. كان يختلف إلى القداس كل يوم. وقد أدهش عدواً إنجليزياً "وفاؤه الأمين العنيد بكل معاهداته مبادئه وارتباطاته"(31) وكان يخصص جزءاً كبيراً من كل يوم من أيام الأسبوع (عدا الأحد) لشؤون الحكم. يستيقظ في السادسة، ويزور أبناؤه، ويفطر، ويعكف على العمل من الثامنة إلى الحادية عشرة، ويجتمع بوزرائه، ويستقبل كبار القوم ويتناول غداءه مع غيره، ويخصص عدة ساعات للصيد، ويتعشى في التاسعة والنصف، ويطعم كلابه، ويتلو صلواته، ثم يمضي إلى فراشه. ولعل الصيد كان وقاءً صحياً قصد بن أن يصرف عنه الاكتئاب الموروث في الأسرة. وبدأ ببعض الأخطاء الخطيرة. ذلك أنه لجهله بأسبانيا التي لم يرها من كان في السادسة عشرة اتخذ اثنين من الإيطاليين كانا قد أخلصا في خدمته بنابلس مساعدين أثيرين لديه: المركيز دي جريمالدي في السياسة الخارجية، والمركيز دي سكللاتشي في الشؤون الداخلية.

وقد وصف إيرل برستول سكللاتشي هذا بأنه "غير ذكي. أنه مولع بالعمل ولا يشكو أبداً من كثرته تنوع إدارات الحكومة التي تتركز فيه...وأعتقد أنه غير قابل للارتشاء، ولكنني لا أريد أن أكون مسئولاً بهذا القدر عن زوجته(32) ولم يحب جرائم مدريد ولا روائحها الخبيثة ولا ظلمتها، ومن ثم فقد نظم لها شرطة نشيطة وفرقة لتنظيف شوارعها، وأنار العاصمة بخمسة آلاف مصباح. وأباح الاحتكارات لتزويد المدينة بالزيت والخبز وغيرهما من الضروريات. وحدث أن الجفاف رفع الأسعار، فطالبت الجماهير برأس سكللاتشي. وقد أغضب رجال الدين بلوائح حدت من امتيازاتهم وسلطتهم. وفقد المئات من المؤيدين حين صادر الأسلحة المخبأة. وأخيراً أثار الشعب بمحاولة تغيير زي الشعب. فقد أقنع الملك بأن العباءة أو الكاب الطويل الذي يخفي البدن والقبعة العريضة ذات الحافة المقلوبة التي تخفي كثيراً من الوجه، يسهلان إخفاء السلاح ويعوقان الشرطة عن التعرف على المجرمين. ومن ثم حظرت سلسلة متعاقبة من المراسيم الملكية الكاب والقبعة، وزود رجال الضبط بالمقصات الكبيرة يقصون بها العباءات المخالفة حتى يصلوا بها إلى الطول القانوني(33). وكان في هذا التحكم فوق ما يطيقه المدريديون الأباة. فثاروا في أحد الشعانين، 23 مارس 1766، واستولوا على مخازن الذخيرة، وأطلقوا السجناء، وتغلبوا على الجنود والشرطة، وهاجموا بيت سكللاتشي، وحصبوا جريمالدي، وقتلوا الحرس الولوني الذين يحرسون القصر الملكي، وجابوا الشوارع يرفعون رءوس هؤلاء الدخلاء الممقوتين على الرماح متوجة بقبعات عريضة الحواف. وظل الرعاع يومين يواصلون التقتيل والنهب. وهنا أذعن شارل، وألغى المراسيم، وأعاد سكللاتشي إلى إيطاليا محروساً. وكان في غضون ذلك قد أكتشف مواهب الكونت أراندا، وعينه رئيساً لمجلس قشتالة. فجعل أراندا العباءة والصمبريرة Sombrero أي القبعة العريضة الحافة الزي الرسمي للبلاد.وكان في هذا المعنى الجديد المتضمن ما زهد الناس في الزي القديم، ومن ثم اتخذ معظم أهل مدريد الزي الفرنسي.

كان أراندا سليل أسرة عريقة غنية في أرجوان. رأيناه يتشرب التنوير في فرنسا، كذلك ذهب إلى بروسيا حيث درس التنظيم العسكري ثم عاد إلى أسبانيا متشوقاً إلى العمل على أن يصل وطنه إلى مستوى تلك الدول الشمالية. وأفرط أصحابه الموسوعيون في الجهر باغتباطهم لتقليده السلطة، وأحزنه أنهم بذلك زادوا مهمته صعوبة،(34) وود لون أنهم درسوا الدبلوماسية من قبل. وقد عرف الدبلوماسية السياسة بأنها فن "إعادة تنظيم قوة مختلفة السلطات، ومواردها، ومصالحها، وحقوقها، ومخاوفها وآمالها، حتى إذا سمحت المناسبة استطعنا أن نهدئ من هذه القوى، أو نفرق بينها، أو نهزمها أو نتحالف معها، ذلك رهن بكيفية خدمتها لمصالحنا وزيادتها لأمتنا"(35).

وكنا الملك في حالة نفسية مواتية لإصلاحات الكنيسة لتوجسه من أن الأكليروس شجعوا الثورة على سكللاتشي سراً(36). وكان قد أذن للمطبعة الحكومية في أن تطبع عام 1765 مقالاً غفلاً من أسم الكاتب عنوانه Tratado de la Regalia de L'amortizaction. تشكك في حق الكنيسة في جمع الثورة العقارية، وزعم أن الكنيسة ينبغي أن تكون خاضعة للدولة في جميع الأمور الزمنية. وكان المؤلف هو كونديه بدرو رودريجر دي كومبومانيس، وكان عضواً في مجلس قشتالة. وكان شارل قد أصدر عام 1761 أمراً يشترط موافقة الملك على نشر الأوامر أو الرسائل البابوية في أسبانيا، وفي تاريخ لاحق ألغى هذا الأمر. ولكنه عاد فجدده في 1768. وأيد الآن أراندا وكومبومانتيس في سلسلة من الإصلاحات الدينية شكلت من جديد وجه أسبانيا الفكري طوال جيل مثير.


ب - الإصلاح الديني الأسباني

لم يكن في نية المصلحين الأسبان أن يقضوا على الكاثوليكية في أسبانيا- ربما باستثناء أراندا. وكانت الحروب الطويلة التي خاضتها البلاد لطرد العرب (كالكفاح الطويل لتحرير أيرلندا) قد جعلت الكاثوليكية جزءاً من الوطنية وكتفتها إلى درجة إحالتها إلى إيمان قدسته تضحيات الأمة تقديساً لا يتيح التحدي الناجح أو التغيير الجذري. وكان أمل المصلحين أن يخضعوا الكنيسة لإشراف الدولة، وأن يحرروا عقل أسبانيا من رهبة محكمة التفتيش. وقد بدءوا بمهاجمة اليسوعيين.

كانت جماعة اليسوعيين قد ولدت بأسبانيا في عقل أغناطيوس لويولا وتجاربه، وكان نفر من أعظم قادتها من أسبانيا. وكما حدث في البرتغال، وفرنسا، وإيطاليا، والنمسا اضطلعت الجماعة بالتعليم الثانوي، وزودت الملوك والملكات بآباء الاعتراف، وشاركت في تشكيل السياسات الملكية. وقد أثار سلطانها المتسع غيرة الأكليروس الكاثوليكي غير الرهباني، وأحياناً عداءه. وكان بعض هؤلاء يؤمنون بأن سلطة المجامع المسكونة تعلو على سلطة الباباوات، أما اليسوعيين فقد دافعوا عن سمو سلطة الباباوات على سلطة المجامع والملوك. وشكا رجال الأعمال الأسبان من أن اليسوعيين المشتغلين بتجارة المستعمرات يبيعون بأسعار أقل من التجار المحترفين بفضل ما يتمتعون به من إعفاءات كنسية من الضرائب، وقرروا أن هذا يقلل من الإيرادات الملكية. وآمن شارل بأن اليسوعيين ما زالوا يشجعون مقاومة هنود باراجواي لأوامر الحكومة الأسبانية(37)؛ وروعه أن يطالعه أراندا وكامبومانيس وغيرهما على خطابات ادعوا أنهم وجدوها بين رسائل اليسوعيين، وقد صرح أحد هذه الخطابات الذين زعموا أن كاتبه هو الأب ريكي قائد الطائفة اليسوعية؛ بأن شارل ابن غير شرعي ويجب أن يحل محله أخوه لويز. وقد رفض الكاثوليك وغير المؤمنين على السواء صحة هذه الخطابات(39)، ولكن شارل ظنها صحيحة وانتهى إلى أن اليسوعيين يأتمرون لخلعه، وربما لقتله(40). ولحظ أن محاولة- زعموا أن اليسوعيين كانوا ضالعين فيها- بذلت لاغتيال يوسف الأول ملك البرتغال (1758)، فصحت نيته على أن يحذو حذو يوسف ويطرد الطائفة من مملكته.

وحذره كامبومانيس من أن خطوة كهذه لن يتاح لها النجاح إلا بالاستعدادات المستورة تتبعها ضربة فجائية مدبرة، وإلا استطاع اليسوعيين الذين كانوا يحظون بتبجيل الشعب أن يثيروا ضجة مؤذية في الأمة وممتلكاتها جميعاً. وعملاً باقتراح أراندا أرسلت رسائل مختومة ممهورة بتوقيع الملك في مطلع عام 1767 إلى الموظفين في جميع أرجاء الإمبراطورية مشفوعة بالأمر بعدم فضها إلا في 31 مارس في أسبانيا، وفي 2 إبريل في المستعمرات، وألا كان الموت عقاب المخالفين . وفي 31 مارس أستيقظ اليسوعيون الأسبان ليجدوا بيوتهم ومدارسهم يطوقها الجنود، ويجدوا أنفسهم معتقلين. وأمروا بالرحيل في هدوء، غير مصطحبين سوى ما يطيقون حمله، أما سائر ممتلكات اليسوعيين فقد صادرتها الدولة. ومنح كل مبعد معاشاً صغيراً يوقف أن عارض أي يسوعي في طرده. ثم أخذوا في عربات تحت الحراسة العسكرية إلى أقرب ميناء وأركبوا السفن إلى إيطاليا. وبعث شارل بكلمة إلى البابا كلمنت الثالث عشر يخيره أنه "ينقلهم إلى الأراضي الكنسية ليظلوا تحت إشراف قداسته الحكيم العاجل....وأني أرجو من قداستكم ألا تعتبروا هذا القرار إلا احتياطاً مدنياً لا غنى عنه، لم أتخذه إلا بعد البحث الناضج والتفكير العميق(41)".

فلما حاولت أولى السفن التي كانت تحمل ستمائة من اليسوعيين، أن تنزلهم في تشيفبتافكيا، رفض الكردينال تورجياني، السكرتير البابوي، السماح لهم بالرسو محتجاً بأن إيطاليا لا تستطيع بهذه السرعة المفاجئة أن تعنى بهذا العدد الكبير من اللاجئين(42). وظلت السفينة الأسابيع تجوب البحر المتوسط باحثة عن ميناء مضياف بينما يعاني ركابها البائسون من رداءة الجو ومن الجوع والمرض. وأخيراً سمح لهم بالنزول في قورسقه، وبعد حين استوعبتهم الولايات البابوية في جماعات سهلة القيادة. ولقي اليسوعيون في غضون هذا النفي المماثل من نابلي وبارما وأمريكا الأسبانية والفلبين. وناشد كلمنت الثالث عشر شارل الثالث أن يلغي هذه المراسيم التي سيصعق العالم المسيحي كله لا محالة لما فيها من مباغتة وقسوة. فأجاب شارل "أنني لرغبتي في أن أعفي العالم من فضيحة كبرى سأظل ما حييت مختبئاً في قلبي سر المؤامرة النكراء التي اقتضت هذه الصرامة. وينبغي لقداستكم أن تصدقوا كلمتي، فسلامة حياتي تفرض عليّ الصمت العميق(43)".

ولم يصفح الملك قط عن الأدلة التي قام عليها مراسيمه. وفي التفاصيل من التناقض والغموض ما يجعل المرء عاجزاً عن الحكم عليها. وقد اعترض دالامبير على الطريقة التي نفي بها اليسوعيون، ولم يكن بصديق لهم. ففي 4 مايو 1767 كتب إلى فولتير يقول:

"ما رأيك في مرسوم شارل الثالث الذي طرد اليسوعيين على هذا النحو المفاجئ؟ ألا ترى، رغم اقتناعي بأن لديه مبررات كافية ووجيهة، بأنه كان ينبغي أن يصفح عنها لا أن يحبسها في "قلبه الملكي"؟ ألا ترى أنه كان ينبغي له أن يسمح لليسوعيين بتبرير أنفسهم، لا سيما لأن الجميع واثقون أنهم ما كانوا يستطيعون هذا؟ وألا ترى أيضاً أن من الظلم البين لهم أن يتركوا جميعاً ليموتوا جوعاً بينما الواجب على أخ علماني واحد، ربما يقطع الكرنب الآن في المطبخ، أن يقول كلمة بطريقة أو بأخرى في الدفاع عنهم؟...ألا يبدو لك أنه كان مستطيعاً أن يتصرف بتعقل أكثر في تنفيذ أمر هو رغم كل شيء أمر معقول(44)"؟ أكان طردهم إجراء محبباً لدى الشعب؟ بعد عام من استكمال هذا الطرد وفي عيد القديس شارل، طلع الملك على شعبه من شرفة قصره، فلما سألهم جرياً على عادة مألوفة عندهم أي منحة يرغبون في أن يهبهم صاحوا "بصوت واحد" أن يسمح لليسوعيين بالعودة، وأن يلبسوا رداء الأكليروس غير الرهباني- فأبى شارل، ونفى رئيس أساقفة طليطلة متهماً إياه بأنه المحرض على الالتماس الذي أشتبه في أنه يهدف إلى التوفيق(45). ولما طلب البابا في 1769 إلى أساقفة أسبانيا رأيهم في طرد اليسوعيين، وافق عليه اثنان وأربعون، وعارضه ستة، ولم يبد ثمانية رأياً في الأمر(46). وأغلب الظن أن الكهنة من غير الرهبان كانوا مغتبطين بإعفائه من منافسة اليسوعيين لهم. ووافق الأخوة الأوغسطينيون في أسبانيا على الطرد، ثم أيدوا بعد ذلك مطالبة شارل الثالث بفض جماعة اليسوعيين بجملتها(47).

أما ديوان التفتيش فلم يكن في الإمكان اتخاذ إجراء معجل كهذا معه، فقد كان أعمق من جمعية اليسوعيين تغلغلاً في رهبة وتقاليد الشعب الذي عزا إلى الديوان في صيانة الأخلاق والاحتفاظ بنقاء إيمانهم- بل حتى نقاء دمائهم. وحين ولي شارل العرش كان الديوان يسيطر على عقل أسبانيا برقابة صارمة ساهرة. فأي كتاب تظن به الهرطقة الدينية أو الانحراف الخلقي يقدم إلى الفاحصين، فإذا رأوه خطراً بعثوا بتوصياتهم إلى مجلس ديوان التفتيش، وللمجلس سلطة الأمر بمصادرة الكتاب وعقاب مؤلفه. وكان الديوان يصدر دورياً فهرساً بالكتب المحرمة، وكان إحراز كتاب منها أو قراءته دون إذن كنسي جريمة لا يغتفرها إلا ديوان التفتيش، وقد يعاقب مرتكبها بالجرم. وكان على القساوسة خصوصاً في الصوم الكبير أن يسألوا جميع المعترفين بذنوبهم أن كانوا يملكون أو يعلمون أن إنساناً يملك كتاباً محظوراً. وكل مقصر في الإبلاغ عن انتهاك للفهرس يعتبر مذنباً كمنتهكه، وما كان لأية روابط أسرية أو علاقات ودية أن تعفيه من العقاب(48).

ولم ينجز وزراء شارل في هذا المضمار سوى إصلاحات صغيرة. ففي 1768 حد من سلطة الديوان في رقابة المطبوعات باشتراط الحصول على التصديق الملكي على جميع المراسيم المحرمة للكتب قبل تنفيذها. وفي 1770 أمر الملك محكمة الديوان بأن تقتصر على الهرطقة والارتداد دون غيرهما، وإلا تسجن إنساناً ما لم يثبت ذنبه على نحو قاطع. وفي 1784 أمر بأن تعرض عليه إجراءات الديوان الخاصة بكبار النبلاء، وأعضاء مجلس الوزراء والموظفين الملكيين، لمراجعتها. ثم عين رئيساً عاماً للديوان أبدى موقفاً أكثر تحرراً بازاء خلافات الفكر(49).

وكان لهذه الإجراءات المتواضعة بعض الأثر، لأن الرئيس العام لديوان التفتيش قرر في حزن أن الخوف من اللوم الكنسي على قراءة الكتب المحرمة يكاد يصبح في خبر كان(50)، وكان وكلاء الديوان بعد 1770 بوجه عام أقل غلواً، وعقوباته أرحم من ذي قبل. ومنح التسامح الديني للبروتستنت في عهد شارل الثالث، وللمسلمين في 1779، وأن لم يمنح لليهود(51). وفي عهد شارل الثالث أحتفل بإحراق المنحرفين أربع مرات، آخرها عام 1780 في إشبيلية حين أحرقت عجوز اتهمت بالسحر، وأثار إعدامها هذا من النقد في كل أرجاء أوربا(52) ما مهد الطريق لإلغاء ديوان التفتيش الأسباني في 1713.

ومع ذلك ظلت حرية الفكر إذا أعرب صاحبها عنها حتى في عهد شارل الثالث تعاقب قانوناً بالموت. ففي 1768 أتهم بابلو أولافيدي أمام ديوان التفتيش بحيازته صوراً بذيئة في بيته بمدريد، وربما كانت نسخاً من عرايا بوشيه، لأن أولافيدي كان قد جاب فرنسا حتى فرنيه. ثم رمي بتهمة أخطر في 1774، هي أنه لم يسمح بإقامة أديرة في القرى النموذجية التي أنشأها في سييرا مورينا، وأنه حظر على الكهنة تلاوة القداس في غير يوم الأحد أو طلب الصدقات. وأحاط ديوان التفتيش الملك بأن هذه الجرائم وغيرها قد أثبتت بشهادة ثمانين شاهداً. وفي 1778 أستدعي أوفلافيدي لمحاكمته وأتهم بتأييده نظرية كوبرنيق الفلكية وتراسله مع فولتير وروسو. فرجع الرجل عن أخطائه وتصالح مع الكنيسة، وصودرت كل أملاكه، وحكم عليه بالحبس في دير ثمانية أعوام. وفي 1780 تداعت صحته، وسمح له بالاستشفاء بمياه منتجع معدني في قنلونيه، ومنها فر إلى فرنسا، حيث أستقبله أصحابه الفلاسفة في باريس استقبال الأبطال. ولكنه لم يقضِ في منفاه بضع سنوات حتى استبد به الحنين إلى مغانيه الأسبانية. فألف كتاباً مشرباً بروح التقوى عنوانه "الإنجيل المنتصر أو الفيلسوف المهدي" وعليه أذن ديوان التفتيش بعودته(53).

ونلاحظ أن محاكمة أوفلافيدي جرت بعد سقوط أراندا من رآسة مجلس قتشتالة وفي أخريات حكم أراندا أنشأ مدارس جديدة يقوم بالتدريس فيها أكليروس غير رهباني لملء الفراغ الذي خلفه اليسوعيون، وأصلح العملة بإحلال نقود من نوع جيد وتصميم أرقى محل العملات الممزوقة (1770). على أن إحساسه باستنارته الفائقة جعله بمضي الزمن نزقاً متغطرساً وقحاً. فبعد أن جعل سلطة الملك مطلقة سعى إلى تقييدها بزيادة نفوذ الوزراء. وفقد القدرة على الرؤية المتناسية وتقدير الأمور في أوضاعها الصحيحة، وحلم بإخراج أسبانيا بعد جيل واحد من كتلتها المطمئنة إلى تيار الفلسفة الفرنسية. وأعرب في جرأة مغالية عن أفكاره المهرطقة، حتى لكاهن اعترافه. ومع أن الكثير من رجال الأكليروس غير الرهبان أيدوا بعض إصلاحاته الكنسية لما فيها من نفع للكنيسة(54)، فأنه أخاف عدد أكبر بالكشف عن أمله في حل ديوان التفتيش جملة(55). وأشتد كره الناس له حتى أنه لم يجرؤ على الخروج من قصره دون حرس. وراح يكثر من الشكوى من ثقل أعباء وظيفته حتى أخذه شارل آخر الأمر عن كلمته فأوفده سفيراً إلى فرنسا (1713- 87) وهناك تنبأ بأن المستعمرات الإنجليزية في أمريكا، التي بدأت ثورتها آنذاك، ستصبح في الوقت المناسب من أعظم دول العالم(56).


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

جـ - الاقتصاد الجديد

سيطر على الوزارة بعد رحيل أراندا ثلاثة من الرجال الأكفاء. فخلف خوزيه مونينو، كونت فلوريدا بلانكا، جريمالدي وزيراً للشؤون الخارجية (1776)، وسيطر على مجلس الوزراء حتى عام 1792. وقد تأثر بالفلاسفة الفرنسيين كما تأثر أراندا ولكن بدرجة أقل. وأرشد الملك في إجراءات لتحسين الزراعة والتجارة والتعليم والعلوم والفنون، ولكن الثورة الفرنسية أخافته فانتكس محافظاً، وقاد أسبانيا إلى أول تحالف ضد فرنسا الثورة (1792). أما بدور دي كامبومانيس فقد ترأس مجلس قشتالة خمس سنين، وكان المحرك الأول في الإصلاح الاقتصادي. وأما جسبار ملكور دي خوفللانوس، أرفع الأسبان في جيله(57)" فقد عرفته الجماهير أول ما عرفته قاضياً رحيماً نزيهاً في إشبيلية (1767) ومدريد (1778). وجاء أكثر نشاطه في الحكومة المركزية تالياً لعام 1789، ولكنه أسهم إسهاماً قوياً في السياسة الاقتصادية أيام شارل الثالث بكتاب ألفه في الإصلاح الزراعي (1787). وقد أذاع اقتراحه مراجعة القانون الزراعي، وهو الاقتراح الذي كتبه برشاقة أسلوب كاد يداني بها رشاقة أسلوب شيشيرون، وشهرته في أوربا طولاً وعرضاً. هؤلاء الثلاثة، بالإضافة إلى أراندا، كانوا أباء التنوير الأسباني والاقتصاد الجديد. ويرى دارس إنجليزي، بوجه عام، أن النتيجة الطيبة التي حققوها تضارع ما تحقق في مثل هذا الزمن القليل في أي بلد آخر، ولا ريب في أن تاريخ أسبانيا لا يحوي فترة يمكن مقارنتها بحكم شارل الثالث(58).

كانت العقبات التي اعترضت الإصلاح في أسبانيا لا تقل خطراً في الاقتصاد عنها في الدين. فقد بدأ تركيز الملكية الثانية في الأسر الشريفة أو الجماعات الكنسية، واحتكار "المستا" لإنتاج الصوف، حاجزين في وجه التغيير الاقتصادي لا سبيل إلى التغلب عليهما. وكان ملايين الأسبان يفخرون بحياة الكسل التي يحيونها، ولا يخجلون من التسول، وكانوا لا يثقون في التغيير لأنه خطر يهدد بالتبطل . وكان المال يختزن في خزائن القصور والكنائس بدلاً من استثماره في التجارة أو الصناعة. وكان طرد المغاربة واليهود والموريسكو قد أزال كثيراً من مصادر تحسين الزراعة وتطوير التجارة. وقد نجم عن صعوبات الاتصال والنقل الداخليين أن تخلف داخل البلاد قرناً عن برشلونة وإشبيلية ومدريد.

على أن فريقاً صادقي النية- نبلاء وقساوسة وأفراد من طبقة العامة رجالاً ونساء- كونوا رغم هذه المعوقات "جمعية اقتصادية لأصدقاء السلام" لدراسة وتشجيع التعليم والعلوم والصناعة والتجارة والفنون. فأنشئوا المدارس والمكتبات، وترجموا الأبحاث الأجنبية وقدموا الجوائز على المقالات والأفكار، وجمعوا المال لمشروعات وتجارب اقتصادية تقدمية. وقد أدانوا تكديس الأمة للذهب باعتباره أثراً مذكراً بالركود، وذلك اعترافاً منهم بتأثير الطبيعيين الفرنسيين وآدم سمث. وأكد واحد منهم: "أن الأمة التي تملك معظم الذهب هي أفقر الأمم...كما أثبتت أسبانيا(60). ورحب خوفللانوس بـــ"علم الاقتصاد المدني" باعتباره "علم الدولة الحقيقي". وكثرت المقالات الاقتصادية. وكان مقال كاميومانيس عن الصناعة الشعبية إلهاماً للآلاف ومنهم الملك.

وبدأ شارل باستيراد الغلال والبذور للأقاليم التي اندثرت فيها الزراعة. وحث المدن على أن تؤجر أراضيها المشاع غير المزروعة للفلاحين بأقل إيجار عملي. وأنشأ فلوريدا بلايكا ببعض إيرادات التاج من دخول الرتب الكنسية الشاغرة أرصدة دينية في بلنسية وملقا لإقراض المال للمزارعين بفائدة منخفضة. ولكي يحد شارل من إزالة الغابات وتعرية التربة أمر جميع الكومونات بأن تزرع كل سنة عدداً محدداً من الأشجار. ومن هنا ذلك الاحتفال السنوي بــ"يوم الشجرة" الذي ظل في نصف الكرة تقليداً صحياً أيام شبابنا. وقد شجع إغفال الأوقاف القديمة، وثبط وقف الجديد منها، وبهذا يسر تجزئة الضياع الكبيرة إلى ملكيات للفلاحين. ثم اختزلت امتيازات احتكار أغنام المستا اختزالاً حاداً وأبيح زرع مساحات كبيرة من الأرض كانت من قبل حكراً للرعي. واستقدم المستعمرون الأجانب لتعمير المناطق الخفيفة السكان. مثال ذلك أن أولافيدي أنشأ (1767 وما بعدها) في إقليم سبيرا مورينا بجنوب غربي أسبانيا، الذي كان إلى ذلك الحين متروكاً للصوص والوحوش، أربعاً وأربعين قرية وإحدى عشرة مدينة مأهولة بالوافدين الفرنسيين أو الألمان، وأصبحت هذه المستوطنات مشهورة برخائها. وشقت القنوات الطويلة لربط الأنهار وري مساحات واسعة من الأرض كانت من قبل جرداء قاحلة. ثم شقت شبكة من الطرق الجديدة كانت في فترة خير الطرق في أوربا(62)، فربطت القرى والمدن في تيسير يعين على سرعة المواصلات والنقل والتجارة.

ومدت الحكومة يد العون للصناعة. ورغبة في إزالة الوصمة التي ألصقتها التقاليد بالعمل اليدوي، أعلن مرسوم ملكي أن لا تعارض بين الأعمال الحرفية وشرف المكانة الاجتماعية، وأن الحرفيين يصح منذ الآن اختيارهم للوظائف الحكومية. وأنشئت المصانع النموذجية: للمنسوجات في وادي الحجارة وسقوبية، وللقبعات في سان فرناندو، وللحرائر في طلبيه، وللصيني في بوين رتيرو، وللزجاج في سان إلدفونسو، وللزجاج والأثاث الخشبي الفاخر وقطع النسيج المرسوم في مدريد. وشجعت المراسيم الملكية تطور الإنتاج الرأسمالي على نطاق واسع، لا سيما في صناعة النسيج. فكان في وادي الحجارة عام 1780 ثمانمائة نول تستخدم أربعة آلاف نساج، وأدارت شركة واحدة في برشلونة ستين مصنعاً تضم 2.162 نولاً نساج القطن، وكان في بلنسيه أربعة آلاف نول تنسج الحرير، وأخذت تنافس تجارة ليون في الحرير لما حظيت به من إمكانات التصدير. وفي 1792 كان في برشلونة ثمانون ألف نساج، ولم يفقها في إنتاج الأقمشة القطنية غير أقاليم إنجلترا الوسطى.

وكانت إشبيلية وقادس تتمتعان منذ عهد بعيد باحتكار تحميه الدولة للتجارة مع الممتلكات الأسبانية في الدنيا الجديدة، فأنهى شارل الثالث هذا الامتياز وسمح لمختلف الثغور بالاتجار مع المستعمرات، ثم أبرم بعد التفاوض مع تركيا معاهدة (1782) فتحت الموانئ الإسلامية للسلع الأسبانية. وكانت النتائج مجزية لجميع الأطراف. وازداد أمريكا الأسبانية سريعاً، وارتفع دخل أسبانيا من أمريكا ثمانمائة في المائة في عهد شارل الثالث، وتضاعفت تجارة صادرها ثلاث مرات(63).

وتطلبت أنشطة الحكومة المتسعة دخولاً أكبر. وقد أمكن الحصول عليها إلى حد ما باحتكار الدولة لبيع البراندي، والتبغ، وورق اللعب، والبارود، والرصاص، والزئبق، والكبريت، والملح. وفي بداية العهد كانت هناك ضرائب مبيعات نسبتها خمسة عشر في المائة في قتلونيا، وأربعة عشر قشتالة. وقد وصف خوفللانوس ضرائب المبيعات بحق إذ قال "إنها تفاجئ ضحيتها...عند ميلادها، وتطاردها وتعترضها حين تدور، ولا تغفل عينها عنها أبداً أو تدعها تفلت منها حتى تقضي عليها".(64) وفي عهد شارل الثالث ألغيت ضريبة المبيعات في قتلونيا، وفي قشتالة خفضت إلى اثنين أو ثلاثة أو أربعة في المائة(65). وفرضت ضريبة متدرجة معتدلة على الدخول. وضماناً للمزيد من المال بتشغيل مدخرات الشعب، أقنع فرانسسكو دي كاباروس الخزانة بأن تصدر سندات حكومية تقل فائدة. فلما هبطت هذه السندات إلى ثمانية في المائة من قيمتها الاسمية، أسس (1782) أول مصرف قومي أسباني- بنكودي سان كارلوس- استهلك السندات بقيمتها الاسمية وأعاد الثقة المالية بالدولة.

وأثمر حسن الإدارة وروح الأقدام زيادة محسوسة في ثروة الأمة في جملتها. وكان أكثر الطبقات انتفاعاً هي الوسطى، لأن منظماتها هي التي أعادت تشكيل الاقتصاد الأسباني. ففي مدريد كون 375 من رجال الأعمال خمس نقابات تجارية كبرى سيطرت على معظم تجارة العاصمة. ونستطيع الحكم على مبلغ ثرائها من استطاعتها أن تقرض الحكومة عام 1776 ثلاثين مليون ريال(66).

وقد حبذت الحكومة بوجه عام ظهور طبقة رجال الأعمال هذا باعتباره أمراً لا غنى عنه لتحرير أسبانيا من الاعتماد الاقتصادي والسياسي على دول ذات اقتصاد أرقى. ولم تحظ البرولتاريا الناشئة، هنا شأنها في تلك الدول، بنصيب مذكور في الثراء الجديد. وارتفعت الأجور لا سيما في قتلونية حيث شكا الأغنياء من صعوبة العثور على الخدم والاحتفاظ بهم(67)، ولكن يمكن القول بوجه عام أن الأسعار ارتفعت بأسرع من ارتفاع الأجور، وإن الطبقات العاملة كانت فقيرة في ختام العهد فقرها في مطلعه. وقد لاحظ إنجليزي حساب لنسيه في 1797 ذلك التناقض بين (ثراء..التجار، وأصحاب المصانع، ورجال الدين، والعسكريين، والسادة من ملاك الأرض و "الفقر، والبؤس، والأسمال" التي ترى في كل شارع(68). وعليه فقد رحبت الطبقات الوسطى بالتنوير Luees الآتي من فرنسا وإنجلترا في حين كان موظفيهم الذين ملئوا الكنائس ولثموا المزارات يعوزون أنفسهم بالنعمة الإلهية وبآمال الفردوس. واتسعت المدن في ظل الاقتصاد الجديد. وكان يعيش في المراكز البحرية الكبرى- برشلونة وبلنسية وإشبيلية وقادس- سكان يتفاوتون من 80.000 إلى 100.000 (1800). وكان يسكن مدريد (في 1797) 167.607، بالإضافة إلى 30.000 من الأجانب. وحين ولي شارل الثالث العرش كانت المدينة تشتهر بأنها أقذر عواصم أوربا. وكان الناس من سكان الأحياء الفقيرة لا يزالون يفرغون قمامتهم في الشوارع معتمدين على الريح أو المطر لتبديدها، فلما حظر شارل هذه العادة رموه بالطغيان. قال "إن الأسبان أطفال يبكون حين يحممون(69)". وقد أقام موظفوه رغم هذا نظاماً لجمع القمامة وللصرف، ونظم الزبالون لجمع النفاية لاستخدامها سماداً(70)، وبذل جهد لمنع التسول ولكنه باء بالفشل، ورفض الشعب السماح للشرطة بالقبض على المتسولين- لا سيما المكفوفين منهم الذين شكلوا نقابة قوية فيما بينهم.

وأصلح شارل من أمر عاصمته عاماً بعد عام. فجيء لها بالماء من الجبال إلى سبعمائة نافورة، حمله منها 720 سقاء في مشقة وعناء لتوزيعه على بيوت المدينة. وأضيأت الشوارع بمصابيح الزيت من الغسق إلى نصف الليل طوال شهور ستة في الخريف والشتاء، وكان أكثر الشوارع ضيقاً ملتوياً يتبع دروباً عتيقة متعرجة ويتوارى من شمس الصيف، ولكن بعض الشوارع المشجرة العريضة الجميلة شقت، وتمتع الشعب بالبساتين الفسيحة والمماشي الظليلة. وكان أحبها إلى الناس (باسيوديل برادو) أو متنزه المرج، الذي لطفت هواءه النوافير والأشجار، وفضله العشاق للاستطلاع ولقاءات الغرام. وهناك في 1785 بدأ خوان دي فيللا نوفا تشييد متحف البرادو. وهناك في أي يوم تقريباً كانت تجري أربعمائة مركبة، وفي أي عشية كان يتجمع ثلاثون ألف مدريدي. وحظر عليهم التغني بالأغاني البذيئة، أو الاستحمام عراة في النوافير، أو عزف الموسيقى بعد منتصف الليل، ولكنهم كانوا يستمتعون بأصوات النساء الرخيمة وهن ينادين على البرتقال والليمون والبندق. ذكر الرحالة أن المشهد الذي كان يرى كل يوم على البادو في أخريات القرن الثامن عشر كان يعدل ما يرى في مدن أخرى في الفترة نفسها في الآحاد والعطلات فقط(71)، وأصبحت مدريد آنئذ، كما عادت في عصرنا هذا، من أجمل مدن أوربا.

لم ينجح شارل الثالث في السياسة الخارجية نجاحه في الشؤون الداخلية. وبدا أن ثورة المستعمرات الإنجليزية في أمريكا تتيح فرصة الانتقام للخسائر التي منيت بها أسبانيا في حرب السنين السبع، فحث أراندا شارل على تقديم العون للثوار، فبعث له الملك سراً بمليون جنيه (يونيو 1776). وأفضت هجمات القراصنة الإنجليز على السفن الأسبانية آخر الأمر إلى إعلان أسبانيا الحرب على إنجلترا (23 يونيو 1779). واستعادت قوة أسبانية مينورقة، ولكن محاولة الأسبان الاستيلاء على جبل طارق باءت بالفشل. واتخذت العدة لغزو إنجلترا، ولكن الغزو عطلته العواصف (البروتستنتية) وفي صلح فرساي (1783) سحبت أسبانيا مطالبها بجبل طارق ولكنها استعادت فلوريدا.

وأحزن الملك في سنيه الأخيرة إخفاقه في استرداد وحدة الأراضي الأسبانية وكانت الحروب قد أتت على شطر كبير من الثروة التي أنتجها الاقتصاد الجديد. ولم يستطع وزراؤه الأكفاء أن يتغلبوا قط على شديدتين من قوى المحافظة- كبار النبلاء بضياعهم الشاسعة، والأكليروس بما لهم من مصلحة راسخة في سذاجة الشعب. أما شارل نفسه فنذر أن تذبذب في ولائه الأصيل للكنيسة. ولم يعجب به شعبه قط إعجابه حين يراه- وقد لقي موكباً دينياً- يعطي مركبته للأسقف حامل القربان ثم ينضم إلى الموكب سائراً على قدميه. وأكسبه ورعه المحبة التي افتقدها من الشعب وهو الغريب الوافد من إيطاليا- في العقد الأول من حكمه. فلما وافته منيته (14 ديسمبر 1788)، بعد أربعة وخمسين عاماً حكم فيها نابلي وأسبانيا، كان كثيرون يرون فيه أبر ملوك أسبانيا إن لم يكن أعظمهم. وقد تجلت فطرته الطيبة الرقيقة حين سأله الأسقف القائم على خدمته وهو على فراش الموت هل غفر لأعدائه جميعاً، فقال متسائلاً "كيف أنتظر جواز المرور هذا قبل أن أغفر لهم؟ لقد غفرت لهم أجمعين في اللحظة التالية للإساءة(72)".


6- الخلق الأسباني

أي طراز من الناس كان أسبان القرن الثامن عشر هؤلاء؟ الإجماع على أنهم كانوا قوماً أفاضل إذا قيسوا بنظرائهم في إنجلترا وفرنسا. وكان لهم في تدينهم الشديد، ومن شجاعتهم وإحساسهم بالشرف، ومن تماسكهم ونظامهم الأسريين، عوامل تصحيح قوية لحساسيتهم الجنسية وكبريائهم العدوانية، حتى مع تكريسهم شوفينيه مشبوبة في مسائل العرق والدين. وقد أعاق الانتخاب الجنسي الشجاعة لأن النساء الأسبانيات وهن يطلبن الحماية كن يمنحن أرق ابتساماتهن للرجال الذين يواجهون الثيران في الحلبة أو الشوارع، أو الذين يبادرون برفض الإهانة والثأر لأنفسهم، أو الذين يعودون من الحرب مكللين بغار الانتصار.

ولانت الفضائل الجنسية يتفق الأفكار والعادات الفرنسية، وكانت الصبايا يحرسن حراسة مشددة، وكان رضا الوالدين (بعد 1766) شرطاً قانونياً للزواج، ولكن النساء في المدن الكبيرة كن بعد الزواج ينغمسن في الغزل والمعابثة وأصبح "الفرس التابع" ملحقاً ضرورياً للسيدة العصرية، وازداد الفجور(73). وابتدعت جماعة صغيرة تدعى "الماخو" و"الماخا" مظهراً فذاً من مظاهر الحياة الأسبانية. وكان الماخو رجالاً من الطبقة الدنيا يلبسون كالغنادير، ويرتدون العباءات الطويلة، ويطيلون شعورهم، ويغطون رؤوسهم بقبعات عريضة الحافة، ويدخنون السيجار الكبير، وكانوا على استعداد دائم للعراك، يعيشون عيشة بوهيمية على نفقة خليلاتهم-الماخا-كلما أمكن ذلك. ولم يعبئوا بالقانون في اتصالاتهم الجنسية؛ وكان للماخا في كثير من الحالات زوج يعولها بينما تعول هي خليلها الماخو، ويعرف نصف العالم الماخا، كاسية أو عارية من فرشاة جويا.

أما الفضيلة الاجتماعية فكانت عالية المستوى نسبياً. لقد وجد الفساد السياسي والتجاري، ولكن ليس على النطاق الواسع المعروف آنئذ في فرنسا أو إنجلترا، ذكر رحالة فرنسي أن "الأمانة الأسبانية مضرب الأمثال وتتجلى واضحة في العلاقات التجارية"(74).فكانت كلمة السيد الأسباني مستنداً أدبياً ساري المفعول من لشبونة إلى سانت بطرسبرج. وكثيراً ما كانت الصداقة في أسبانيا أبقى من الحب. أما البر بالفقراء فموفور. ففي مدريد وحدها كانت المؤسسات الدينية توزع كل يوم ثلاثين ألفاً من قصاع الحساء المغذي على الفقراء(75). وأسس الكثير من المستشفيات والملاجئ الجديدة، ووسع الكثير من القديم منها أو حسن. وكان جل الأسبان كرماء رحماء إلا مع المهرطقين والثيران.

وكان قتال الثيران ينافس الدين والجنس والشرف والأسرة محلاً لحب الأسبان. وكان الدفاع عن هذه المعارك، شأنه شأن ألعاب المجالدة في روما القديمة، يقوم على أساسين أن الشجاعة يجب أن تربى في الرجال، وأن الثيران لا بد أن تموت قبل أن تؤكل. وقد حرم شارل هذه المعارك، ولكنها استأنفت بعد موته بقليل. وكان مهرة المصارعين الفرسان ومغامروهم معبودي الطبقات كلها. وكان لكل منهم أنصاره، فدوقة ألبا تؤثر كوستللاريس ودوقة أوزونا تؤثر روميرو، وقسم الحزبان مدريد كمل قسم جلوك ويتشيني باريس. وراهن الرجال والنساء بأرزاقهم على مصير الثيران، وعلى كل شيء آخر تقريباً. وكان القمار محرماً بالقانون ولكنه شائع، لا بل كانت البيوت الخاصة تدير أمسيات للقمار وكانت المضيفات يقبضن رسوم اللعب.

وتخلت ملابس السادة شيئاً فشيئاً عن العباءة السوداء المقبضة والياقة الصلبة التي تزيا بها الجيل السابق، واستبدلت بها الزي الفرنسي-وهو السترة الملونة والصدرة الطويلة من الساقان أو الحرير، وسراويل الركوب، والجوارب الحريرية الطويلة، والحذاء ذو المشبك، يتوج هذا كله باروكة وقبعة مثلثة الأركان. أما المرأة الأسبانية فألفت أن تجعل من مفاتنها سراً غامضاً مقدساً تلفها في صدرات من الدنتللا وتنورات طويلة، ذات أطواق موسعة أحياناً. وتستعمل براقع من قماش الطرح إخفاء لعيونهن التي يود المعجب الأسباني لو أغرق روحه في أعماقها المظلمة. وكانت السيدة في القرن السابع عشر نادراً ما تكشف عن قدميها لأنظار الرجال، أما الآن فقد قصرت الجونلة إلى بضع بوصات فوق الأرض، واستعيض عن الخفين المستويين بحذاء مدبب عالي الكعب، وقد أنذر الوعاظ بأن تعرية النساء لأقدامهن على هذا النحو غير مهذب إنما يزيد نار الرجال المتقدة اشتعالاً. ولكن النساء ابتسمن، وزين أحذيتهن، ونشرن تنوراتهن، وروحن بمراوحهن حتى في أيام الشتاء. وكانت إيزابيللا فارنيزي تملك ذخيرة من 1626 مروحة زين بعضها برسوم لرسامين ذوي شهرة قومية.

وكانت الحياة الاجتماعية مقيدة في كل شيء إلا المراقص. فاجتنبت المجتمعات في الأمسيات النقاش الجاد مؤثرة عليه الألعاب والرقص والغزل. وكان الرقص غراماً كبيراً في أسبانيا، وقد أفرخ ألواناً اشتهرت في أوربا. فكانت "الفاندانجو" ترقص على ميزان ثلاثي بالصاجات، أما السجيديللا فيؤديها زوجان أو أربعة أزواج من الراقصين، بمصاحبة الصاجات وبالغناء عادة، وقد اتخذت رقصة مشتقة منها تسمى البوليرو وشكلها حوالي 1780، وسرعان ما اكتسبت شعبية مجنونة. وفي رقصة الكونترادانزا كان صف من الرجال يواجه صفاً من النساء في تقدم وتأخر متناوبين، وكأنما يرمز هذا إلى تكتيك الحرب الأبدية بين المرأة والرجل، أو كان أربعة أزواج يؤلفون ويحيطون مربعاً في رقصة فخمة تدعى الكونترا دانزا كوادرادا-أي الكدريل. وكانت حفلات الرقص المقنع تجتذب أحياناً 3.500 من الراقصين المتحمسين، وكان القوم في المرافع يرقصون حتى مطلع الفجر.

وجعلت هذه الرقصات الحركة شعراً حياً وحافزاً جنسياً. قيل إن المرأة الأسبانية التي ترقص السجيديللا كان في رقصها من الإغراء ما يخرج البابا ومجمع الكرادلة بأسره عن وقارهم(76). وقد وجد كازانوفا نفسه شيئاً يتعلمه في أسبانيا فقال:

"حين أوشك الليل أن ينتصف بدأت أعنف الرقصات وأكثرها جنوناً...وهي الفندانجو، التي ظننت في سذاجتي أنني طالما شهدتها، والتي فاقت (هنا) أشد تصوراتي جموحاً...ففي إيطاليا وفرنسا يحرص الراقصون على تجنب الإيماءات التي تجعل هذه الرقصة أكثر الرقصات شهوانية. ويخطو الزوجان-راقص وراقصة-ثلاث خطوات فقط، ثم يرتميان في مختلف الأوضاع الفاجرة وهما يصحبان الموسيقى بالمصاحبات ويعرضان قصة العشق كلها من مولده إلى ختامه من أول تنهيدة إلى آخر نشوه. فلم أملك لشدة انفعالي إلا أن أصيح عاليا(77)".

وقد عجب من سماح ديوان التفتيش برقصة مثيرة كهذه إلى هذا الحد، فقيل له أنها "محرمة تحريماً باتاً، لولا أن الكونت أراندا أذن بها لما جرؤ أحد على رقصها".

وارتبطت بالرقص ألوان من الموسيقى الأسبانية كانت من أحبها إلى الشعب، مثال ذلك أن الكانتي فلامنكو أو الغناء الغجري (الفلمنكي) استخدم نغمة شاكية عاطفية كان كل المغنين الغجر يصاحبون بها "السجيديللا جيتانا". ولعل هذه الأغاني الشجية كانت أصداء لألحان مغربية، أو لعلها عكست النوعية المكتئبة للدين والفن الأسبانيين، أو العجز المسخط عن الوصول إلى جسد المرأة، أو انقشاع الوهم عقب الوصال. وقد وفدت نغمة أبهج بوفود الأوبرا الإيطالية (1703) وأغاني فازينللي. ولكن "الخصي" العجوز فقد الحظوة في عهد شارل الثالث بعد أن ظل يشدو بأغانيه طوال عهدين، وقد أنزله شارل عن عرشه بهذا السطر "أن الديوك المخصية لا تصلح إلا للأكل(78)". واتصل النفوذ الإيطالي بمجيء سكارلاتي، وانتصر مرة أخرى بمجيء بوكيريني الذي قدم في 1768، وسيطر على موسيقى البلاط على عهد شارل الثالث وشارل الرابع، ومكث بأسبانيا حتى وافاه الأجل (1805).

وبحركة عكس هذه الحركة وفق فنشنتي مارتن أي سولار، بعد أن حقق لنفسه الشهرة في أسبانيا، في أن يخرج الأوبرا الإيطالية في فلورنسة، وفيينا، وسانت بطرسبرج ونافست صوناتات أنطونيو سولر على الهاربسكورد صونتات سكارلاتي، وحول دون لويز ميسون "التونادا" أو السولو الصوتية، إلى "التوناد يللو" فاصلاً من الغناء بين فصول المسرحية. وفي 1799 أنهى أمر ملكي حكم الموسيقى الإيطالية في أسبانيا بحظر أداء أي تمثيلية ما لم تكتب باللغة القشتالية ويمثلها ممثلون أسبان(79).

والخلق الأسباني لا يمكن صبه في قالب متماثل واحد. فالروح الأسبانية تتفاوت بتفاوت المشهد الطبيعي من ولاية إلى ولاية، وكان الأسبان المتفرنسون الذين تجمعوا في مدريد طرازاً يختلف كل الاختلاف عن المواطنين الذين تجمدوا في العادات الأسبانية. ولكننا قد نستطيع بعد أن نغض النظر عن الأقليات الدخيلة ظان نتبين في الشعب الأسباني طبعاً أصيلاً متفرداً. فقد كان في الأسباني كبرياء ولكن في قوة صامته لا تستمد الكثير من الشوفينية أو القومية، كانت كبرياء الفردية، وإحساساً مصمماً بالكفاح المنفرد ضد الأذى الدنيوي أو الإهانة الشخصية أو الهلاك الأبدي. ولمثل هذه الروح كان يمكن أن يبتدي العالم الخارجي أمراً ذا أهمية ثانوية لا يستحق القلق أو الكد في سبيله، فلا أهمية إلا مصير النفس في الصراع مع الإنسان والبحث عن الله. إذن فما أتفه مشكلات السياسة، والسباق على المال، والإعلاء من قدرة الشهرة أو المنصب، وحتى انتصارات الحرب لا مجد يكللها ما لم تكن انتصارات على أعداء الدين. أما وقد ضربت جذور الأسباني في صميم هذا الدين، فقد كان في استطاعته أن يقابل الحياة بهدوء رواقي، وبإيمان بالقضاء والقدر ينتظر في اطمئنان ثواب الجنة بعد الممات.


7- العقل الأسباني

حين قبل لويس الرابع عشر ما عرضه آخر ملوك الهابسبورج في أسبانيا من الإيصاء بتاجه لحفيد الملك العظيم، صاح سفير أسباني بفرساي في ابتهاج "لم يعد الآن وجود لجبل البرانس!" ولكن تلك الكتل الرهيبة لم تتزحزح عن موقفها عقبة كؤوداً في سبيل التنوير الفرنسي، ورموزاً للمقاومة التي ستلقاها محاولة قلة مخلصة أن تصبغ العقل الأسباني بالصبغة الأوربية. وقد فاجأ كاميومانيس الشيوخ بمقال في التعليم الشعبي (1774-76)، جعل من التوسع في التعليم الشعبي أساساً لا غنى عنه لحيوية الأمة ونموها. ولم يرَ بعض كبار رجال الدين وملاك الأراضي معنى لإزعاج الشعب بمعرفة لا لزوم لها قد تفضي في النهاية إلى الهرطقة الدينية أو الثورة الاجتماعية. ولكن خوفيللانوس الذي لم يثنه هذا الاعتراض كافح لنشر الإيمان بالتعليم، وكتب يقول "كثيرة هي الجداول المؤدية إلى الرخاء الاجتماعي، ولكنها كلها تنبع من منبع واحد هو التعليم العام.(80) وكان يعلل نفسه بأن التعليم سيعلم الناس أن يفكروا، وإن التفكير سيحررهم من سلطان الخرافة والتعصب، وإن العلم الذي يطوره أمثال هؤلاء سيستخدم موارد الطبيعة لقهر المرض والفقر. وتقبل بعض كرائم النبيلات هذا التحدي، والفن Junta dw Damas لتميل المدارس الابتدائية. وأنفق شارل الثالث مبالغ كبيرة في إنشاء المدارس الأولية المجانية. وشارك أفراد غير رسميين في تأسيس الأكاديميات لدراسة اللغات أو الأدب أو التاريخ أو الفن أو القانون أو الطب.

وكان طرد اليسوعيين ملزماً بإعادة تشكيل المدارس الثانوية وميسراً لها. وأمر شارل بتوسيع مقررات العلوم في هذه الكليات، وبتحديث كتبها المدرسية، وبالسماح للعلمانيين بالتدريس في أقسامها. وأعان الكليات بالمنح والهبات، وقرر المعاشات للبارزين من المعلمين(81)". ونصحت الجامعات بتدريس فيزياء نيوتن وفلسفة ديكارت وليبنتز في مناهجها. ورفضت جامعة سلمنقه النصيحة بحجة أن "مبادئ نيوتن...وديكارت لا تشابه الحقيقة الموحى بها بالقدر الذي تشابهها به مبادئ أرسطو(82)"، ولكن معظم الجامعات الأسبانية قبلت التوجيه الملكي، وكانت جامعة بلنسيه الآن (1784)، بطلابها البالغ عددهم 2.400، أكبر المراكز التعليمية وأكثرها تقدماً في أسبانيا. وأدخلت عدة طوائف دينية "الفلسفة الحديثة" في كلياتها. وحث قائد الرهبان الكرملين الحفاة، المعلمين الكرمليين على قراءة أفلاطون وشيشرون وفرنسيس بيكن وديكارت ونيوتن وليبنتز ولوك وفولف وكوندياك، هنا لم يكن للقديسين حكم. ودرست جماعة من الرهبان الأوغسطينيين هوبز، وأخرى هلفيتوس. وكانت مثل هذه الدراسات تلحق دائماً بردود تفندها، ولكن كثيراً من المؤمنين الغيورين فقدوا إيمانهم وهم يفندون دعاوى أعدائه.

من ذلك "حداثة" راهب فذ اشتهر يوم كان شارل لا زال شاباً، ذلك هو بنيتو خيرونيمو فيخواي مونتنجرو الذي انفق الأعوام السبعة والأربعين الأخيرة من عمره (1717-64) في دير بندكتي ياوفيدو، ومع ذلك استطاع أن يدرس بيكن وديكارت وجاليلو وبسكال وجاسندي ونيوتن وليبنتز، ورأى في عجب وخجل كيف عزلت أسبانيا بعد سرفانتس عن التيارات الكبرى للفكر الأوربي. فأرسل من قلايته، بين عامي 1726 و1739، سلسلة من ثمانية مجلدات سماها Teatro Critico وهو لا يعني نقد المسرح، بل الامتحان الدقيق للأفكار. وقد هاجم فيها المنطق والفلسفة اللذين يدرسان في أسبانيا في أيامه، وامتدح دفاع بيكن عن العلم الاستقرائي، ولخص كشوف العلماء في كثير من المجالات، وهزأ بالسحر والكهنة والمعجزات الزائفة، والجهل بالطب، والخرافات الشعبية، ووضع قواعد للوثوق بالتاريخ نسفت الأساطير القوية الساذجة في غير رحمة، وطالب بنشر التعليم بين جميع الطبقات، ودافع عن حياة أكثر حرية وعلنية للنساء في التعليم والمجتمع.

واجتمع حول كتبه شرذمة من الأعداء يتهمون وطنيته وينددون بإقتحاماته. واستدعاه ديوان التفتيش أمام محكمته، ولكنها لم تهتد إلى هرطقة صريحة لا في شخصه ولا في كتابه. وفي 1742 استأنف حملته بأول مجلدات خمس عنوانه "رسائل متفقهة مستطلعة". وكان يكتب بأسلوب جيد، مقراً بالتزام كل مؤلف التزاماً أدبياً بأن يكون واضحاً، واستطاب الجمهور تعليمه وشجاعته فتكاثر الطلب على "التياترو" و "الرسائل" حتى بلغ ما طبع منها خمس عشرة طبعة حتى علم 1786. ولكنه لم يستطع قطع دابر الخرافة في أسبانيا، فظلت الساحرات والعفاريت والشياطين تملأ الجو وتخيف العقول، ولكن كان جهده بداية السير على الدرب، ومن مفاخر طائفته أن يقوم بهذا الجهد راهب لزم قلايته المتواضعة دون أن يزعجه أحد حتى أوفته منيته وهو في الثامنة والثمانين (1764).

وأكليريكي أخر هو الذي كتب أشهر كتاب نثري في أسبانيا في القرن الثامن عشر. وكما حرص البندكتيون على ألا يلحق بفيخواي أذى، فكذلك حمي اليسوعيون قسيساً منهم كان أهم إنتاج له نقداً لاذعاً للمواعظ. وكان خوزيه فرانسسكو ذي ايزلا هو نفسه واعظاً بليغاً، ولكن أضحكته أول الأوامر، ثم أزعجته، الحيل الخطابية والأوهام الدبية، والتمثيل والتهريج الذي يجذب به بعض الوعاظ انتباه الشعب ودراهمه في الكنائس والميادين العامة. وفي 1758 سخر سخرية لاذعة بهؤلاء المبشرين في "قصة عن الراهب جيروندو الواعظ المشهور". يقول الأب ايزلا إن الراهب جيروندو:

"ألف أن يبدأ عظاته بمثل أو نكتة سوقية أو شذرة غريبة انتزعت من سياقها فبدت لأول وهلة غير منطقية أو تجديفاً أو كفراً حتى إذا ترك جمهوره لحظة مترقباً في عجب أنهى عباراته وطلع بتفسير أحال كل ما قاله إلى ضرب من التفاهة الحقيرة. من ذلك أنه كان يعظ ذات يوم عن سر الثالوث فاستهل عظته بقوله "أنى أنكر إن الله موجود كوحدة في الجوهر وثالوث في الذات" ثم توقف لحظة. وتلفت السامعون بالطبع حولهم..متسائلين ما عسى أن تكون خاتمة هذا التجديف المهرطق. وأخيراً، وبعد أن ظن الواعظ أنه قبض على ناصيتهم، وأصل الحديث قائلاً: "كذلك يزعم الأبيونيون، والمارسيونيون، والاريوسيون، والمانويون، والسوسينيون، ولكني أثبت ضلالهم كلهم من الأسفار المقدسة، والمجامع، وآباء الكنيسة(83)".

وبيعت ثمانمائة نسخة من كتاب "الراهب جيروندو" خلال يوم من صدوره. وهاجمه الرهبان الوعاظ زاعمين أنه يشجع على احتقار رجال الدين. وأستدعى أيزلا أما محكمة التفتيش، وأدين كتابه (1760)، أما هو فلم يعاقب. ثم أنضم إلى إخوانه اليسوعيين في المنفى، وأصيب في الطريق بالشلل. وقضى ختام عمره في بولونيا عائشاً على المعاش الضئيل الذي منحه إياه الحكومة الأسبانية. أما الشعر فكان يقرضه كل أسباني ملم بالكتابة. وقد اجتمع في 1727 في مباراة شعرية (عام 1727) 150 متنافساً. وأضاف خوفيلانوس الشعر والدراما لضروب نشاطه الأخرى فقيهاً ومربياً ورجل دولة. وأصبح بيته في مدريد ملتقى لرجال الأدب وقد ألف الهجائيات على طريقة جوفينال، موبخاً الفساد الذي وجده في الحكومة والقانون، وتغنى بمناهج الحياة الريفية الآمنة المطمئنة شأن كل ساكن للمدن. ونظم نقولا فرنانديز دي موراتن شعراً ملحمياً تناول مغامرات كورتيز، ويقول العارفون أن-هذه القصيدة "أرفع قصيدة من نوعها أنجبتها أسبانيا في القرن الثامن عشر(84)".

وكانت الأشعار المرحة المهذبة التي نظمها دييجو جونزالز، الراهب الأوغسطيني، أحب إلى الشعب من قصيدته التعليمية "مراحل الإنسان الأربع" التي أهداها إلى خوفيللانوس. كذلك اتخذ دون توماس دي أيريارتي أي أوروبيزا اتجاهاً تعليمياً في قصيدته "في الموسيقى"، وكان خيراً منها "قصصه الخرافية" (1782) التي طغت مغامز العلماء وأكسبته شهرة لم تزل حية إلى اليوم. وترجم بعض مآسي فولتير وملاهي موليير، وسخر من الرهبان "الذين يتسلطون على السموات وعلى ثلثي أسبانيا"، وقد حاكمه ديوان التفتيش فأنكر آراءه، ومات بالزهري وهو في الحادية والأربعين (1791)(85).

وفي 1780 أعلنت الأكاديمية الأسبانية عن جائزة تمنح لقصيدة تمجد الحياة الرعوية. فقال إيريارتي الجائزة الثانية ولم يغفر قط لصاحب الجائزة الأولى، لأن ميلانديز فالديس مضى ليصبح كبير الشعراء الأسبان في ذلك العهد. وتودد خوان إلى خوفيلانوس، وحصل بنفوذه على كرسي الإنسانيات في جامعة سلمنقة (1781) وهناك أقنع الطلاب أولاً، ثم الكلية، بدراسة منهج أكثر اقتحاماً، بلغ إلى حد قراءة لوك ومونتسيكو. وألف في أوقات فراغه فيما بين المحاضرات مجلداً من الأغاني والشعر الرعوي-هو استحضارات حية لمشاهدة الطبيعة في أبيات بلغت من الرقة وكمال الصقل ما لم تقرأه أسبانيا منذ أكثر من قرن. وكان للرضى الذي أسبغه عليه خوفللانوس الفضل في ترقيته إلى منصب القضاء بسرقسطة وإلى محكمة القضاء العالي في بلد الوليد، وأضرت السياسة بشعره. فلما نفي خوفيللانوس (1798) أقصى ميلانديز أيضاً. فجرد قلمه للتنديد بغزاة أسبانيا الفرنسيين، وخص منهم جوزيف بونابرت، ولكنه عاد إلى مدريد في 1808، وقبل وظيفة تحت رآسية جوزيف بونابرت، وصدم أسبانيا بقصائد يتملق بها سادته الأجانب. وفي حرب التحرير التي خلعت جوزيف نهب الجنود الفرنسيون منزل الشاعر، وهاجمه هو نفسه الغوغاء الغاضبون، فهرب لحياته من أسبانيا. وقبل أن يعبر البيداسوا إلى فرنسا قبل آخر بقعة من التراب الأسباني (1813). وبعد أربع سنوات مات فقيراً مغموراً في مونبلييه.

وكان ينبغي أن يكون لأسبانيا كتاب مسرح أكفاء في هذا العهد، لأن الملوك البوربون كانوا ميالين للمسرح. وقد عملت على اضمحلاله ثلاثة عوامل: إيثار إيزابللا فارنيزي القوي الأوبرا، وفليب الخامس لفارنيللي، ومن ثم اعتماد المسرح على الجمهور الذي كان أكثر ما يستحسنه هو "الفرص"، والمعجزات، والأساطير والشقشقات اللفظية، وجهد كتاب الدراما الجادون لحبس تمثيلياتهم داخل "الوحدات الأرسطاطالية" في الحركة والمكان والزمان. وكان أحب كتاب المسرحية إلى الشعب في ذلك القرن هو رامون فرانسسكودي لاكروز، الذي كتب نحو أربعمائة فارص صغير يهجو فيها عادات الطبقتين الوسطى والدنيا وأفكارهما وحديثهما، ويصور مع ذلك ذنوب الجماهير وحماقاتهم بعطف غافر. أما خوفيللانوس، "رجل أسبانيا الجامع" فقد جرب الكوميديا، وظفر باستحسان الجمهور والنقاد جميعاً بملهاته "المجرم المكرم" (1773): وفحواها أن سيداً أسبانياً يرفض مراراً وتكراراً أن يبارز غريماً ثم يقبل التحدي أخيراً بعد إلحاح، ويقتله في معركة عادلة، ثم يحكم عليه بالإعدام قاضٍ يتبين أنه أبوه. وقد أستهدف خوفيللانوس، وهو المصلح على الدوام، من تمثيليته هذه الوصول إلى التخفيف من القانون الذي اعتبر المبارزة جريمة كبرى. أما الحملة الداعية إلى الوحدات الأرسطاطالية فقد تزعمها الشاعر نيقولا فرنانديزدي موراتن: وواصلها حتى تكللت بالنجاح ابنه لياندرو. وقد أبهجت خوفللانوس أشعار هذا الفتى الباكرة، فحصل له على وظيفة في السفارة الأسبانية بباريس. وهناك صادق جولدوني، فوجهه إلى كتابة التمثيليات. وأغدق الحظ هباته على صوراتين الابن: فأوفد على نفقة الدولة ليدرس المسارح في ألمانيا وإيطاليا وإنجلترا. وحين عاد إلى أسبانيا منح وظيفة شرفية أتاحت له الفراغ اللازم للعمل الأدبي. وقدمت ملهاته الأولى لمسرح في مدريد عام 1786، ولكن عرضها عطل أربع سنوات ريثما يفرغ المديرون والممثلون من الجدل في استطاعته تمثيلية تتبع قواعد أرسطو والتمثيلية الفرنسية أن تجتذب جمهوراً أسبانياً. وقد نجحت نجاحاً معتدلاً. وانقلب موراتين مهاجماً، ففي تمثيليته الكوميديا الجديدة (1792) سخر من المرهي الشهبية سخرية تقبل الجمهور بعدها الدرامات التي تدرس الخلق وتنير الحياة. وأشاد القوم بموراتين مولييرا أسبانيا، وسيطر على مسرح مدريد حتى غزا الفرنسيون أسبانيا عام 1808. وقادته ميوله الفرنسية وسياسته التحررية كما قادت ميلانديز وجويا إلى التعاون مع حكومة جوزف بونابرت، فلما سقط جوزيف لم ينج موراتين من السجن إلا بشق النفس. ولجأ إلى فرنسا، ومات أخيراً بباريس في 1828 وهي السنة التي مات فيها ببوردو الرسام جويا الذي نفى نفسه عن وطنه مختاراً.


8- الفن الأسباني

ما الذي يمكن توقعه منه بعد اجتياح أسبانيا في حرب الوراثة لأسبانيا الطويلة؟ لقد سلبت الجيوش الغازية الكنائس، ونهبت المقابر، وأحرقت الصورة، وربطت خيولها في المزارات المقدسة. ثم جاء غزو جديد بعد الحرب، وخضع الفن الأسباني طوال نصف قرن للنفوذ الفرنسي أو الإيطالي فلما أنشئت أكاديمية سان فرناندو عام 1752 لإرشاد شباب الفنانين ومساعدتهم، جاهدت لتقر في أذهانهم مبادئ كلاسيكية جديدة غريبة كل الغرابة عن الروح الأسبانية.

وكافح الباروك كفاحاً عنيفاً في سبيل البقاء، وكان له ما أراد في المعمار والنحت. فانتصر في الأبراج التي أضافها فرناندو دي كازيس أي نوفا (1738) إلى كاتدرائية سنتياجودي كومبوستيلا، وفي الواجهة الشمالية التي شيدها فنتورا روديجيز _1764) لهذا الصرح ذلته تذكاراً للقديس يعقوب حامي أسبانيا وقد زعمت إحدى الأساطير المحببة للشعب أن تمثالاً للعذراء مقاماً على عمود في سرقسطة دبت فيه الحياة وتكلم مع القديس يعقوب. في ذلك الموقع شيدت التقوى الأسبانية "كنيسة عذراء العمود"، ولتلك الكنيسة صمم رودريجيز هيكلاً هو مقصورة من الرخام والفضية يضم تمثال العذراء.

وأقيم قصران مشهوران فيعهد فليب الخامس. فقد اشترى على مقربة من سقوبية أرض دير ومزرعته الملحقة، ووكل إلى فليبو يوفارا التوريني أن يشيد على هذه البقعة قصر سان الدوفونسو (1719 وما يليها)، وأحاط المباني بحدائق وست وعشرين نافورة تنافس نافورات فرساي. وعرفت هذه المجموعة بلاجرانغا، وقد كلفت الشعب 45.000.000 كراون. ولم تكد تكتمل حتى دمرت النار ليلة ميلاد عام 1734 "القصر" الذي كان المقر الملكي بمدريد منذ عهد الإمبراطور شارل الخامس وانتقل فيليب إلى بوين رتيرو التي شيد فيها فليب الثاني قصراً 1631. فظل هذا المقر الرئيسي للملك طوال ثلاثين عاماً.

وصمم يوفارا قصراً ملكياً آخر عوضاً عن "القصر" المحترق-يضم المساكن والمكاتب وحجرات الاجتماع ومصلى ومكتبة ومسرحاً وحدائق-لوشيد لفاق في فخامته أي قصر ملكي عرف يومها، وكان النموذج وحده يحوي من الخشب كمية تكفي لبناء بيت. ولكن يوفارا عاجلته المنية قبل أن يبدأ البناء (1736). ورفضت إيزابللا فارنيزي تصميمه لفداحة تكاليفه، فشيد خلفه جوفاني باتستا ساكيتي التوريني القصر الملكي (1737-64) القائم بمدريد اليوم-وطوله 470 قدماً، وعرضه 470 قدماً، وارتفاعه 100 قدم. هنا حل طراز النهضة المـتأخرة محل الباروك: فكانت الواجهة ذات أعمدة دورية وإيوانية، يتوجها درابزين انتشرت عليه تماثيل ضخمة لملوك أسبانيا القدامى. وحين صحب نابليون أخاه جوزيف ليملك في هذا القصر قال وهما يصعدان السلم الفخم "ستكون أفضل من مني منزلاً(86)". وقد انتقل شارل الثالث إلى هذا الصرح الهائل عام 1764.

أما النحت الأسباني ففقد بعض صرامته وجموده متأثراً بالفنين الفرنسي والإيطالي، وخلع الضحك على ملاكه (السيرافيم) والرشاقة على قديس أو قديسين. وكانت موضوعاته دينية على الدوام تقريباً، لأن الكنيسة كانت تدفع للنحاتين أعلى الأجور. من ذلك أن رئيس أساقفة طليطلة أنفق 200.000 دوقاتية على حجاب المذبح الشفاف الذي أقامه نارسيسوتومي (1721) خلف خورس الكاتدرائية: وهو مجموعة ملائكة من رخام يطوفون على سحب من رخام، وكان في ممشى الكنيسة المسقوف فتحه جعلت الرخام وضاء ومنه اتخذ حجاب المذبح اسمه. وعاشت الواقعية القديمة في تمثال "جلد المسيح(87)" الذي نحته لوزيز كارمونا-وهو تمثال من الخشب، رهيب بما فيه من آثار ضرب وجروح دامية. وأجمل منه تمثال الإيمان، والرجاء، والمحبة، التي نحتها فرانسسكو فرجارا الابن لكاتدرائيات كوينسا (1759). وقد عدها سبان-برموديز، فازارى أسبانيا، أروع ما أنتجه الفن الأسباني.

وأعظم الأسماء في فن النحت الأسباني في القرن الثامن عشر كان اسم فرانسسكو زاركيللو إي الكراز. مات أبوه ومعلمه، وكان نحاتاً في كابوا، وفرانسسكو في العشرين وخلفه العائل الأول لأمه وأخته وستة أخوة. وكان الفتة أفقر من أن يستأجر الموديلات، لذلك كان يدعو المارة، بل المتسولين ليشاركوه غداءه وليرسمهم، وربما كانت تلك هي الطريقة التي عثر فيها على الأشخاص لرائعته "العشاء الأخير" المحفوظة الآن في "دير يسوع" بمرسيه. وبمساعدة أخته اينيس التي كانت ترسم وتعمل نموذجاً له؛ وأخيه خوزيه، الذي كان ينحت التفاصيل، وأخيه القسيس باتريسيو، الذي كان يلون الأجسام والثياب، انتج فرانسسكو في سني عمره الأربع والسبعين 1.792 تمثالاً فيها الكبير وفيها الصغير، بعضها ذو حيل لا طعم لها كعباءة من المخمل المطرز فوق تمثال للمسيح، بعضها مؤثر بتقواه البسيطة تأثيراً حمل مدريد على أن تعرض عليه مهام مجزية لتزيين القصر الملكي. ولكنه فضل البقاء في وطنه مرسيه الذي شيعه عند وفاته عام 1781 في مشهد جليل.

أما التصوير الأسباني في القرن الثامن عشر فكان يرزخ تحت كابوس أجنبي مزدوج لم يفق منه حتى حطم جويا كل القيود بفنه الجارف الذي لم يسبق له نظير. جاءت أول موجة فرنسية بمجيء ران ورينيه وميشيل-آنج هواس، ولوي-ميشيل فانلو. وقد أصبح هذا مصور البلاط لفليب الخامس، ورسم لوحة هائلة للأسرة المالكة كلها، بالبواريك والجونلات المطوقة، وغيرها(88). ثم أقبل قطيع من الإيطاليين الذين يفيضون حيوية فانفينللي، واميجوني، وكورادو.

ووصل جامباتستا تيبولو وأبناؤه إلى مدريد في يونيو 1762. وعلى سقف غرفة العرش في القصر الملكي الجديد رسموا صورة جصية شاسعة "تمجيد أسبانيا"، احتفالاً بتمجيد الملكية الأسبانية وقتها وفضائلها وتقواها وأقاليمها: فيها الأجسام الأسطورية الرمزية متوازنة في الهواء، والنيريدات والتريتونات والزفيرات، والجن المجنح، والأطفال السمان، والفضائل والرذائل ملحقة في الفضاء المنور، وأسبانيا ذاتها متربعة على العرش وسط ممتلكاتها، ممجدة بكل صفات الحكومة الصالحة. وعلى سقف غرفة الحرس رسم تيبولو "اينياس تقوده فينوس إلى معبد الخلود"، وعلى يقف الحجرة الملحقة بمخدع الملكة رسم ثانية "انتصار الملكية الأسبانية". وفي 1766 كلف شارل تيبولو بأن يرسم سبع لوحات لمذبح كنيسة القديس بسكال بأرانحيز، واستخدم المصور في إحداها وجه حسناء أسبانية ليمثل حمل العذراء غير المدنس، ولا تزال الصورة تتألق. في البرادو. وأدان كاهن الملك، الأب خوالين دي إلكنا ما في فن تيبولو من وثنية وفجاجات لأنها دخيلة على روح أسبانيا. وتاب تيبولو، ورسم صورة قوية سماها إنزال المسيح عن الصليب"(89)، وهي تأمل في الموت تنيره الملائكة الواعدة بالقيامة وأرهقت هذه الجهود الجبار الهرم، فمات في مدريد عام 1770 وقد بلغ الرابعة والسبعين. وبعد قليل أزيلت لوحات مذبح ارانجنيز وكلف أنطوان روفائيل منجز برسم لوحات بدلها.

وكان منجز قد وفد على مدريد في 1761 وهو في الثالثة والثلاثين، فتى قوي واثق من نفسه آمر ناه. ولم يكن شارل يشعر قط بارتياح لمرأى غيوم تيبولو المنورة-فآنس الآن في هذا الألماني المقحام الرجل المطلوب لتنظيم العمل الفني اللازم للقصر. وفي 1764 عين منجز مديراً لأكاديمية سان فرناندو، وسيطر على التصوير الأسباني في فترات إقامته بأسبانيا. وقد أساء ترجمة الطراز الكلاسيكي إلى سكون لا دم فيه ولا حياة، وأغضب بذلك تيبولو الشيخ وجويا الشاب. ولكنه كافح كفاحاً نافعاً لينهي إسراف الزخرفة الباروكية وشطحات خيال الروكوك. ومن أقواله أن الفن يجب أن يسعى أولاً إلى "أسلوب طبيعي" بمحاكاته الأمينة للطبيعة، وعندها فقط يستهدف الأسلوب السامي "الذي انتهجه الإغريق. فكيف السبيل إلى هذا التسامي؟ بإقصاء الناقص وغير المتصل بالموضوع، بالربط بين الكمالات الجزئية التي توجد هنا وهناك في أشكال مثالية يتصورها خيال مدرب مع تجنب كل ضروب الإسراف. وافتتح منجز إنتاجه برسم أرباب أولمب على سقف مخدع الملك، وزين مخدع الملكة بصورة مماثلة. وربما أدرك منجز أن صاحبي الجلالة، لم يتبعاه تماماً حتى جبل أولمب، لذلك رسم رافده مذبح للمصلى الملكي، "ميلاد المسيح" و "إنزال المسيح من الصليب". وكان يضني نفسه في العمل، ولا يأكل إلا قليلاً، بات عصبي المزاج، وانهارت صحته، وخيل إليه أنه واجد البرء في روما. ومنحه شارل إجازة مدها منجز إلى أربعة أعوام. وفي فترة إقامته الثانية بأسبانيا مزيداً من الرسوم الجصية إلى القصور الملكية في مدريد وأرانجيز. ولكن صحته تداعت مرة أخرى، فالتمس من الملك الأذن له بالتقاعد في روما. ومنحه الملك الطيب طلبته، وأجرى عليه معاشاً متصلاً من ثلاث آلاف كراون في العام.

ولكن ألم يكن في أسبانيا آنئذ فنانون وطنيون يرسمون؟ أجل كانوا كثيرين ولكن اهتمامنا الذي تضائل مع بعد الشقة والزمان خلفهم على هامش الشهرة الخابية. كان هناك لويز ميلنديز للذي كاد يعدل شاروان في صور الطبيعة الصامتة (الطيور والفواكه) ويحتفظ متحف البرادو بأربعين منها، ومتحف بوسطن بمثال منها فاتح للشهية، ولكن اللوفر يبزهما جميعاً بصورة ذاتية رائعة. وهناك لويز باريت أي الكازار، الذي بارى كاناليتو في تصوير مناظر المدينة كما ترى في لوحته Puerta de Sol-أكبر ميادين مدريد، وأنطونيو فيلادامات، الذي شهد له منجز بأنه أكفأ مصوري العصر الأسبان، وفرانسسكو بايو لإي سوبياس، الرقيق المتهجم المخلص لفنه، الذي نال الجائزة الأولى في الأكاديمية عام 1758، وصمم قطع النسيج لمنجز، وأصبح صديقاً، وعدواً، وصهراً لجويا.


9- فرانسسكو دي جويا أي لوسيبنتس

أ - نشأته

اتخذ فرانسسكو اسم قديس حام شأن جميع الصبيان الايبيريين، ثم اسم أبيه خوزيه جويا، واسم أمه أورجاسيا لوسيبنتس- أي ربة اللطف والنور. وكانت تنتمي إلى طبقة الهيدلج (أدنى طبقات النبلاء) ومن هنا إضافة "دي" التي أدخلها فرانسسكو على اسمه. ولد في 30 مارس 1746 بفونتينودوس، وهي قرية ارجونية يسكنها 150 من الأنفس ولا يزينها شجر- إنما هي تربة حجرية، وصيف قائظ، وشتاء قارس، يأتي على الكثيرين، ويصيب الأحياء بالاكتئاب والخشونة.

وراح فرانسسكو يتلهى بفرشاة الرسم، فرسم في صباه لكنيسة القرية صورة للعذراء "سيدة العمود"، حامية أرجون. وفي 1760 انتقلت الأسرة إلى سرقسطة، حيث اشتغل الأب بالطلاء بالذهب، وأتاح له دخله أن يوفد ابنه لدراسة الفن على يد خوزيه لوزان. ومع هذا الفنان وخوان راميريز نسخ جويا صور كبار الرسامين القدامى، وقلد تلوين تيبولو الناعم، وتعلم من التشريح قدراً يكفي لرسم صور العرايا المحرمة. وفي رواية أنه شارك- ثم تزعم بعد قليل- فريقاً من الشباب الجموح الذين دافعوا عن قريتهم ضد قرية أخرى، وكيف أن بعض الفتيان قتلوا في إحدى المعارك، وكيف فر فرانسسكو إلى مدريد مخافة أن يقبض عليه.

وفي ديسمبر 1763 دخل امتحاناً للالتحاق بالأكاديمية فرسب. وتصف الأسطورة حياته الصاخبة في العاصمة، ولكن لا نعلم على التحقيق إلا أن جويا كان بينه وبين القوانين حب مفقود. وعاد إلى دخول امتحان المسابقة في 1766 ورسب. وربما كان هذا الرسوب المتكرر من حسن حظه: فقد أفلت من وصاية منجز الأكاديمية، ودرس الصور التي كان تيبولو يرسمها في مدريد، ثم أرسى أسلوب فذ تغلب عليه شخصيته. وتروي الأسطورة بعد ذلك أنه أنظم إلى فريق من مصارعي الثيران وسافر معهم إلى روما في تاريخ مجهول. ولقد كان دائماً شديد التحمس لمصارعي الثيران الراكبين (التوريادور) ومرة وقع باسم دي لويس تورس. كتب إلى موارنين في شيخوخته يقول "كنت في شبابي مصارع ثيران، لا أرهب شيئاً وسيفي في يدي"(91). وربما قصد بهذا أنه كان من أولئك الصبية المغامرين الذين يصارعون الثيران في الشوارع. على أية حال وصل إلى إيطاليا، لأنه في 1770 فاز بالجائزة الثانية في مسابقة بأكاديمية الفنون الجميلة في بارما. وتحكي الأسطورة أنه تسلق قبة كاتدرائية القديس بطرس وسطا على دير ليخطف راهبة. وأكثر من هذا احتمالاً أنه كان يدرس صور ماناسكو الذي ربما كان لتلوينه القاتم، وأجساده المعذبة، ومناظر محكمة تفتيشه، من الأثر العميق في نفسه ما فاق الأوضاع الهادئة الكلاسيكية التي أوصى بها منجز في أسبانيا.

وفي خريف 1771 نلتقي به في سرقسطة التي عاد إليها ليزين مصلى في الكاتدرائية "الكنيسة الكبرى لسيدة العمود". وقد أجاد التصوير، وكوفئ بخمسة عشر ألف ريال نظير جهد استغرقه ستة أشهر، واستطاع الآن أن يعول زوجة إذا تزوج. وعامل القرب في تقرير اختارنا شريك الحياة، وهكذا تزوج (1773) خوزيفا بايو، وكان فيها ريعان الشباب، ولها شعر ذهبي، ومكانها في متناوله. وقد استخدمها نموذجاً، ورسم صورتها مراراً، وصورتها المعلقة في البرادو تظهرها متعبة بتكرار الحمل، أو محزونة لخيانات فرانسسكو لها(92).

ثم نقل إلى مدريد (1775). وكلفه منجز (1776)- بتوصية من من بايو على الأرجح- بأن يرسم لوحات قماشية كبيرة تصلح رسوماً تخطيطية (كرتونات) للمصنع الملكي للنسجيات الذي أنشأه فليب الخامس على غرار مصنع الجوبلان. وغامر جويا الآن برفض خطير، فاتخذ قراراً شكل مستقبله. ذلك أنه أغفل ميل منجز إلى الميثولوجيا الكلاسيكية وتاريخ الأبطال، فرسم على اتساع كبير وبألوان ناصعة الناس الذين ينتمون إلى طبقته وعصره- رسم كدهم وحبهم، ومهرجاناتهم وأعيادهم، ومصارعاتهم مع الثيران ولعبهم بطائرات الورق، أسواقهم ورحلاتهم الخلوية وألعابهم، وإلى هذه الواقعية أضاف في جرأة أشياء تخيلها ولكنه لم يرها قط. أما منجز فقد ارتفع إلى مستوى الموقف: فلم يذم هذا الخروج على التقاليد الأكاديمية، وشعر بنبض الحياة يسري في الأسلوب الجديد، وأعطى هذا التمرد مزيداً من التكليفات. وأنتج جزياً خلال خمسة عشر عاماً خمسة وأربعين كلاتوناً أساسياً لعمله، بينما راح ينتقل إلى مجالات أخرى بثقة متزايدة. واستطاع الآن أن يأكل ويشرب مطمئناً. كتب إلى صديقه زاباترا "أن دخلي يتراوح بين اثني عشر ألفاً وثلاثة عشر ألف ريال في السنة".

على أن نوعاً من البكتريا تطفل على هذا النجاح الذي أصابه ولسنا نعرف مصدر الزهري الذي ابتلي به جويا، ولكنا نعرف أنه مرض مرضاً خطيراً في إبريل 1777(93). وأبلى منه شيئاً فشيئاً، ولكن لعل المرض كان له بعض الأثر في التشاؤم الذي شاب فنه، وربما في فقده السمع في 1793. على أنه تملك صحته في 1778 بالقدر الذي أتاح له المشاركة في مشروع وضعه شارل الثالث ليذيع في خارج أسبانيا بالنسخ المطبوعة عن الكليشهات ذخائر الفن الأسباني. ولهذا الغرض نسخ جويا ثماني عشرة لوحة لفيلاسكيذ، ومن هذه النسخ صنع محفورات، وكانت هذه مهارة جديدة عليه، وظل مناقشه حيناً متردداً فجاً، ولكن من هذه البداية تطور ليصبح من أعظم الحفارين بعد رمبرانت. وسمح له بأن يقدم نسخة بشخصه إلى الملك، وفي 1780 سجل واحد من مصوري البلاط. وقبل الآن في الأكاديمية آخر الأمر. وحوالي 1785 رسم لوحة شارل الثالث الشهيرة، التي بدأ فيهل الملك لابسا حلة الصيد، مهيأ للقتل، ولكنه هرم، مكدود، متقوس الساقين محدودب الظهر، هنا ضحى جويا كعادته بالرضى في سبيل الصدق.

واستقدم جويا أمه وأخاه كاميلو بعد موت أبيه ليعيشا معه ومع خوزيفا والأطفال. وقبل شتى التكليفات ليعول هذه الأسرة المتكاثرة: فرسم لوحة جصية في كنيسة سان فرانسسكو الجراندي، وصوراً دينية لكلية كالاترافا بسلمنقة، ومشاهد من الحياة اليومية لمنزل دوق أوزونا الريفي، ثم رسم لوحات للأشخاص لكونها أربح فرع في مهنته. فرسم عدة لوحات لوزونا(94)، واحدة للدوق وأسرته- يبدو فيها الأطفال شديدي التصلب وأخرى لدوقة أوزونا بثلاثة أرباع طولها(95)- وهي معجزة من اللون والزيت تستحيل حريراً ومخرمات.

وربما كان جويا سعيداً عام 1784. ففي ذلك العام ولد له خافيد، وهو الابن الوحيد الذي قدر له أن يبقى حياً بعد موت أبيه. وأزيح الستار عن الصور الجصية التي رسمها لكنيسة القديس فرنسيس الكبير في احتفال رسمي، وأثنى مشاهدوها عليها كأروع لوحة في ذلك العهد، وكان الملك وكل حاشيته حضوراً، وقد شاركوا في الثناء. وحوالي 1787 رسم جويا لوحة المركيز دي بونتيخوس، وهي الآن من أنفس ما تملكه قاعة الصور القومية في واشنطن. وبعد عام إلى رسم الطبيعة في لوحته La Pradera de San Isidro(96)- وتمثل حقلاً غص بالمتنزهين يحتفلون بعيد القديس حامي مدريد العظيم بالركوب والتمشي والجلوس والأكل والشرب والغناء والرقص على شواطئ مانزاناريس المعشية. وهي لا تعدوا أن تكون تخطيطاً، ولكنها آية من آيات التصوير.

ولم يزد عمر جويا على الثالثة والأربعين حين مات شارل (1788) ولكنه حسب نفسه قد شاخ. وكان قد كتب في ديسمبر من العام إلى زاياتر يقول "لقد شخت، وملأت التجاعيد وجهي حتى أنك لن تستطيع التعرف عليّ "لولا أنفي الأفطس وعيناي الغائرتان(97)". وما كان في استطاعته التنبؤ بأنه ما زال أمامه فسحة في الأجل تمتد أربعين سنة، وبأن أكثر مغامراته شططا وأروع إنتاجه مستكناً في مستقبل أيامه. لقد تطور في بطء والآن سيكرهه الغرام والثورة أن يتابع السير وإلا كان من المغرقين. فأرتفع مع الأحداث، وأصبح أعظم فنان في جيله.


ب - غرامه

وقد شغله 1789 رسم صور للملك والملكة الجديدين احتفالاً بدخولهما مدريد رسمياً في 21 سبتمبر. وكان "فيليبي" بن شارل الثالث البكر، قد أقصي عن وراثة العرش لعتهه، فآل العرش للابن الثاني الذي وصفه مؤرخ غير متعاطف بأنه "نصف معتوه(98)" لا أكثر. وكان شارل الرابع ساذجاً حسن الظن بالناس، فيه من الطيبة ما يكاد يغري الأشرار بالشر. وكان قد انصرف إلى حياة القنص والأكل والإنجاب لافتراضه أنه مقصي عن وراثة العرش، بحكم كونه الابن الثاني. أما وقد بات الآن بديناً لين العريكة، فأنه أستسلم راضياً لزوجته ماريا لويز البارمية، وتجاهل- أو جهل- فسقها مع عشقها، ورقى عشيقها مانويل دي جودوي رئيساً للوزارة (1792- 97).

وكانت الملكة الجديدة قد داعبت الأفكار التحررية قبل ولايتها للعرش، وقد شجع شارل الرابع في أول سني حكمه فلوريدا بلانكا، وخوفيللانوس، وكامبومانيس (وكلهم رسمهم جويا) على المضي في برنامج إصلاحاتهم. غير أن سقوط الباستيل روع شارل الرابع وفلوريدا بلانكا فارتدت الحكومة إلى رجعة سياسية أعدتها إلى التعاون الكامل مع الكنيسة باعتبارها أقوى معقل للملكية. وأهمل الكثير من القوانين التقدمية التي سنت في عهد شارل الثالث، وأستعاد التفتيش بعض سلطاته، وأوقف استيراد الأدب الفرنسي، وحظرت جميع الصحف إلا صحيفة مدريد اليومية الرسمية، وأقصي عن البلاط خوفيللانوس وكامبومانيس وأراندا. وابتهج الشعب بانتصار إيمانهم الذي يعتزون به. وفي 1793 انضمت أسبانيا إلى الحرب التي خاضتها الملكيات ضد فرنسا الثائرة. في وسط هذا المعمعان حالف الحظ جويا.ففي إبريل 1789 عين "رساماً للحجرة" فلما مرضت خوزيفا وأشار الطبيب بهواء البحر علاجاً لها صحبها جويا إلى بلنسيه (1790) حيث كرمه القوم كأنه فيلاسكويز أسبانيا الجديد. وواضح أن الطلب أشتد عليه من أقصى أسبانيا إلى أقصاها، لأننا نجده في 1792 في قادس ضيفاً على سبستيان مارتينيز. وفي طريق عودته أصيب في إشبيلية بالدوار والشلل الجزئي، فعاد إلى صديقه في قادس، وظل نهباً للقلق طوال فترة نقاهة غير قصيرة.

فأي مرض هذا الذي شكا منه؟ لقد وصفه بايو وصفاً غامضاً بقوله أنه "ذو طبيعة رهيبة جداً". وخامره الشك في أن جويا سيبرأ منه يوماً ما(99). وكتب رياتر صديق جويا في مارس 1793: "لقد جلب على جويا هذا المأزق افتقاره إلى التدبر، ولكن لابد من مواساته بكل الشفقة التي يتطلبها مصابه(100)". وقد فسر دارسون كثيرون هذا المرض بأنه من أعقاب الزهري(101) ولكن آخر تحليل طبي رفض هذا الرأي وشخصه بأنه التهاب أعصاب تلافيف الأذن(102). أياً كان الأمر فإن جويا كان فاقد السمع حين عاد إلى مدريد في يوليو 1793، وكذلك ظل إلى يوم مماته. وفي فبراير 1794 كتب خوفيللانوس في يوميته "كنبت إلى جويا، فرد بأنه كان عاجزاً حتى عن الكتابة نتيجة السكتة الدماغية التي أصيب بها(103)". ولكن الشلل زال شيئاً فشيئاً، وما وافى عام 1795 حتى كان في جويا من العافية ما أغراه بالوقوع في الحب.

وكانت تريزا كاتيانا ماريا ديل بيلار الدوقة الثالثة عشرة من سلالة ألبا الشهيرة. وكان أبوها قد تشرب الفلسفة الفرنسية، فرباها على مبادئ متحررة، وتلقت تعليماً هيأ لها عقلاً يقظاً وإرادة عنيدة. فلما بلغت الثالثة عشرة تزوجت الدوق خوزيه دي توليدو أوزوريو، دوق ألبا البالغ من العمر تسعة عشر ربيعاً. وكان الدوق رقيق الجسد معلولاً، فلزم بيته أكثر الوقت وأغرق نفسه في الموسيقى. ورسمه جويا جالساً إلى البيانو أمام نوتة لهايدن. وكانت الدوقة متغطرسة جميلة شهوانية. وقد لاحظ رحالة فرنسي أنه "ليس في رأسها شعرة لا تثير الشهوة(104)"، وكانت تشبع رغباتها دون قيد من فضيلة أو نفقة أو طبقة. واقتنت في بيتها شخصاً معتوهاً، وراهباً أعور، وزنجية صغيرة أصبحت ربيبتها المفضلة. ولكن كان وراء هذه المغامرات الجريئة نفس سمحة كريمة، ولعلها انعطفت نحو جويا لأنه كان أصم تعساً بقدر ما مالت إليه لأنه يستطيع أن يخلدها بفرشاته.

ولا بد أنه رآها مراراً قبل أن تقف ليرسمها، لأنها كانت تحوم داخل البلاط وخارجه وتثير الأقاويل بمغازلاتها وبعدائها الجريء للملكية. وأول صورة تحمل تاريخاً رسمها لها تبدو فيها بطولها كله، وقد لفت قسماتها النحيلة الحارة في لمة من الشعر الأسود، ويمناها تشير إلى شيء على الأرض. فإذا تأملنا الصورة قرأنا عليها بوضوح هذه العبارة "إلى دوقة ألبا دي جويا 1795(105)". وهنا إيماءة إلى صداقة قائمة فعلاً. وليست الصورة من روائع جويا. ويفضلها كثيراً تلك التي رسمها في العام نفسه لفرانسسكو بايو الذي كان قد مات لتوه. وفي نوفمبر خلفه جويا مديراً لمدرسة التصوير بالأكاديمية.

ومات دوق ألبا في يونيو 1796. واعتكفت الدوقة فترة حداد وجيزة في ضيعتها الريفية بسانلوكار، بين إشبيلية وقاديس. وليس من المؤكد أن جويا رافقها، ولا علم لنا إلا بغيابه عن مدريد من أكتوبر 1796 إلى إبريل 1797، وبتدوينه في كراستين رسوماً لبعض ما رأى في سانلوكار. ومعظم الرسوم تبدو فيها الدوقة تستقبل الضيوف، أو تربت الزنجية، أو تشد شعرها في نوبة غضب، أو تتقيل (بينما تنقل الخادمة المبولة)(106)، أو يغشى عليها في نزهة، أو تعبث مع منافس أو آخر ممن ينافسون جويا على يديها الملاطفتين. وتدل الرسوم التخطيطية على غيرته المتصاعدة، وتبدو فيها أيضاً امرأة أخرى- تخرج عارية من الحمام، أو ترقد على الفراش نصف كاسية أو تضع الرباط على ساق بديعة التكوين، ولعل جويا انغمس كالدوقة في انحرافات الحب. ومع ذلك فالراجح أنه في سانلوكار رسم أعظم ما يفخر به من صورها(107)- في زي "ماخا" وقحة ترتدي ثوباً أسود في صفرة، بحزام من القرمز والذهب حول خصرها النحيل، وطرحة سوداء فوق رأسها، وفي يمناها (وهي في حد ذاتها من آيات التصوير) خاتمان يحمل أحدهما اسم "ألبا" والآخر "جويا"، وتشير سبابتها إلى اسمه، وتاريخ 1797، مكتوبين على التربة الرملية تحت قدميها. وكان يرفض دائماً بيع هذه اللوحة.

وكانت مغامرة غرامه المزدهر قد صورت حين رجع جويا إلى مدريد. وتتهمها بعض رسومه "الكابريكو" (1797) بالاستسلام الفاجر لأشتات من ذكور يفتقرون إلى اللياقة. وقد اتهمها جودوي بإغواء وزير الحربية وكتب إلى الملكة يقول أن ألبا وكل أنصارها ينبغي أن يدفنوا في حفرة كبيرة(108)". وحين ماتت الدوقة (23 يوليو 1803) وهي بعد في الأربعين، أرجفت مدريد أنها سممت، وعطف الناس عليها لأنها خلفت قدراً كبيراً من ثروتها الضخمة لخدمتها. كذلك أوصت براتب سنوي يبلغ 3.600 ريال لخافير بن جويا. وأمر الملك بالتحقيق في موتها- وعين جودوي رئيساً للمحققين- وزج بالطبيب وبعض أتباع الدوقة في السجن، وألغيت وصيتها، وحرم خدمها من أنصبتهم التي أوصت لهم بها، وسرعان ما تزينت الملكة بأجمل جواهر ألبا(109).


جـ - قمة المجد

كان جويا قد استقال عام 1797 من منصبه مديراً للتصوير في الأكاديمية، فقد أعجزته كثرة شواغله الآن عن التدريس. وفي 1978 اختير لزخرفة قبة كنيسة سان أنطوني دي لافلوريدا وقلب قوصرتها، ومع أنه أثار غضب الأكليروس بتصويره الملائكة بأطراف شهوانية، إلا أن الكل تقريباً أجمعوا على أنه نقل إلى تلك الفراغات المقدسة، في صورة الهام، حياة شوارع مدريد ودمها. وفي 31 أكتوبر 1799 عين "مصور البلاط الأول" براتب قدره خمسون ألف ريال في العام. ورسم في (1800) أشهر لوحاته قاطبة وهي "شارل الرابع وأسرته(110)"- وهي كشف قاس عن بلاهة الأسرة المالكة، ونحن نقشعر حين نتخيل منظر هذه المجموعة من الأبدان المنتفخة والأرواح القميئة إذا جردوا من ثيابهم البراقة- وتلك براعة في الإشعاع والتألق ندر أن بزها رسام في تاريخ الفن. ويروي التاريخ أن الضحايا أعربوا عن كامل الرضى عن اللوحة(111).

وفي ركن من اللوحة رسم جويا نفسه. وعلينا أن نغفر أنانية صوره الذاتية الكثيرة، ولا ريب في أن بعضها كان دراسات تجريبية استخدم فيها مرآة، شأنه فيها شأن ممثل يتدرب على التعبير بسحنته أمام المرآة، واثنتان منهما رائعتان. وخيرهما (اللوحة الأولى من الكابريكو) يبدو فيها في الخمسين ، أصم ولكن في كبرياء، له ذقن عدواني، وشفتان شهوانيتان وعيون فظة، وشعر ينمو فوق أذنيه ويكاد يصل إلى ذقنه، وتتوج هذا كله قبعة حريرية فاخرة تعلوا رأسه الضخم كأنها تحد لجميع نبلاء الدنيا المحظوظين. وبعد تسعة عشر عاماً من رسمه هذه اللوحة، وبعد أن نجا من ثورة، رمى القبعة، وفتح قميصه عن عنقه، وكشف عن نفسه في مزاج ألطف. لم تزل له كبرياؤه، ولكن فيه من الثقة الكبيرة بنفسه ما يربأ به عن التحديات(112).

وكان رسم الأشخاص أقوى نواحي فنه. ومع أن معاصريه كانوا يعلمون بأنه لن يتملقهم، فأنهم خضعوا في لهفة لحكم فن راودهم الأمل في أنه سيحمل ذكراهم قروناً طوالاً سواء كانت الذكرى مبعث صيت ذائع أو عار يخزيهم. ولدينا علم بثلاثمائة نبيل وثمانية وثمانين عضواً في الأسرة المالكة جلسوا أمامه ليرسمهم، وقد بقيت من هذه الصور مائتان. ومن أفضلها صورة لفرديناند جييمارويه، السفير الفرنسي، وقد أتى بها صاحبها إلى باريس، واقتناها اللوفر 1865، وإليها يرجع بعض الفضل في بعث شهرة جويا في فرنسا. وأروع ما رسم من صور الأطفال صورة دون مانويل أوزوريو دي زونيجا، المحفوظة بمتحف المتروبوليتان للفن بنيويورك، هنا أدرك جويا فيلاسكيز. وقد ضارع فيلاسكيز ثانية في كوكبة النساء اللاتي صورهن، وانتظمت صوره لهن أشتاتاً، فيها النحيلات مثل "الطفلة الملكية يوزيفا"، وفيهن المرأة الساحرة الخلابة مثل السنيورا جارثيا(113)، والممثلة المتكهلة "لاتيرانا(114)"_جمال مصور ولكنه يخلي مكانه للشخصية.

أما أكثر نساء جويا سفوراً فهي "الماخا" الوقحة التي رقدت حوالي (1798) خالية من كل زينة ليرسم لها "الماخا العارية" ثم كاسية في إغراء ليرسم لها "الماخا في ثيابها" وهاتان اللوحتان الصنوان تجتذبان من رواد البرادو عدداً غفيراً كالذي تجتذبه الموناليزا من رواد اللوفر. والماخا العارية ولوحة فيلاسكويز "فينوس في المرآة" هما الصورتان العاريتان الوحيدتان في التصوير الأسباني، لأن رسم العرايا في الفن الأسباني كان عقابه السجن سنة ومصادرة المنقولات والنفي. وقد غامر به فيلاسكويز في حماية فليب الرابع، وجويا في حماية جودوي الذي وافق جويا على تفضيل الثديين الكبيرين والخصر النحيل والشفاه الممتلئة. "وماخا" جويا لم تكن صورة لدوقة ألبا رغم ما تواتر عنها، كذلك لم تكن الكاسية التي رسمها جويا لتحل محل العارية حين جاء الدوق الغاضب (كما تروي الأسطورة) وفي عينيه نذير المبارزة. ولكن اللوحتين اشترتهما الدوقة أو أعطيتا لها، وانتقلتا بعد وافتها إلى مجموعة جودوي.

وبينما كان جويا يمد أسرته بالمال الذي يكسبه من تصوير الأشخاص، راح يتسلى (1796- 97) بمحفورات وصور مائية نشرها في 1799 على أنها "نزوات"- ثلاث وثمانون صورة لعقل أرزن فيه خشونة وغضب، وتصف في هجاء قاتم وعناوين ساخرة عادات جيله وأخلاقه ونظمه. وألمع هذه السلسلة هي رقم 43: وهي تصور رجلاً أستسلم للنوم على مكتبة بينما العفاريت تحوم حول رأسه: وعلى المكتب عبارة تقول "حلم العقل يبعث العفاريت". وقد فسر جويا هذا بأن "الخيال إذا هجره العقل أفرخ العفاريت، وإذا اتحد بالعقل كان خالق الفنون ومبدع أعاجيبها(114)". وهذه طعنة للخرافات التي أظلمت عقل أسبانيا، ولكنها كذلك وصف انصف إن جويا. فلقد كانت الأحلام المرعبة لا تبرحه، "ونزواته" على الأخص تمتلئ بمناظرها المروعة. هناك ترى جسد الإنسان وقد انحط إلى عشرات الأشكال الوارمة، العجفاء، الكسيحة، الوحشية، والبوم والقطط تنظر إلينا شزراً، والذئاب والنسور تجوس خلسة، والساحرات يطرن في الهواء، والأرض تبعثرت فيها الجماجم وعظام السيقان وجثث الأطفال حديثي الولادة حديثي الموت. وكأنما قفز خيال هيرونيموس بوش المريض عبر فرنسا متخطياً القرون ليدخل عقل جويا ويشيع فيه الفوضى.

أكان جويا عقلانياً؟ كل ما نستطيع أن نقوله هو أنه فضل العقل على الخرافة. ففي أحد رسومه صور شابة مكللة بالغار ممسكة بميزان تطارد طيور سوداء بالسوط، وتحت الصورة كتب جويا "أيها العقل المقدس لا تبق على أحد(116)". وفي رسم أخر رهبان يجردون أنفسهم من أرديتهم(117)؛ وقد ركب على جسد راهب يصلي وجه مجنون(118). وصور "محكمة ديوان التفتيش(119)" مشهداً كئيباً من ضحايا مساكين تحاكمهم سلطة باردة الشعور. وصور يهودياً مقيداً بالأغلال في زنزانة التفتيش، وكتب هذا التعليق "أي زاباتا، أن مجدك سيدوم إلى الأبد(120)". أكان هذا صدى لكتاب فولتير "أسئلة زاباتا"؟ وقد رسم تسعاً وعشرين لوحة لضحايا التفتيش يعانون شتى العقوبات(121)، وفي أخرهم رسم إنساناً مبتهجاً فوق هذا العنوان "الحرية المقدسة!"(122) ومع ذلك ظل إلى يوم مماته يرسم علامة الصليب على وجهه في روع، ويدعو المسيح والقديسين ويتوج رسائله برسم الصليب، وربما كانت هذه كلها أثار متخلفة من عادات كونها في صباه.


د - ثورة

أكان جويا ثائراً؟ لا بل إنه لم يكن حتى جمهورياً. وليس في فنه أو كلامه علامة تدل على أنه يرغب في الإحاطة بالملكية الأسبانية. وقد ربط شخصه وحظه بشارل الثالث، وشارل الرابع، وجودوي، وجوزف بونابرت، وعاشر نبلاء البلاط في سرور وابتهاج. ولكنه خبر الفقر من قبل، وما زال يراه من حوله، ونفره إملاق الجماهير وما ترتب عليه من جهل وخرافة، وتقبل الكنيسة للفقر الجماعي نتيجة طبيعية لطبيعة البشر وفوارقهم. وقد خلد نصف فنه الأغنياء، أما النصف الأخر فكان صرخة تطالب بإنصاف الفقراء، واحتجاجاً على همجية القانون وديوان التفتيش والحرب. كان موالياً للملكية قي لوحاته الشخصية، كاثوليكياً في صوره، متمرداً في رسومه، ففيها أعرب بقوة تكاد تكون وحشية عن مقته للظلامية والظلم والحماقة والقسوة. ويمثل رسم منها رجلاً ممداً فوق مخدعه وعنوان الرسم "لأنه أكتشف حركة الأرض". ورسم آخر يصور امرأة وضعت في المقطرة لأنها "أبدت عطفها على قضية التحرير". ومن هؤلاء الأسبان الذين سموا أنفسهم تحرريين؛ يبدوا أنهم كانوا أول حزب سياسي استعمل ذلك الاسم. وقد عنوا به التدليل على شوقهم إلى الحرية- حرية العقل من الرقابة، وحرية الجسد من الانحطاط، وحرية الروح من الطغيان. وكانوا قد تلقوا في عرفان "التنوير" الوافد من حركة التنوير الفرنسية. ورحبوا بدخول قوة فرنسية في أسبانيا (1807)، والواقع أنه نصف السكان رحبوا بها جيشاً للتحرير؛ ولم يسمع احتجاج حين استقال شارل الرابع وتوج ولده فرديناند السابع تحت حماية جنود مورا. وقد رسم جويا صورة للحاكم الجديد.

ولكن مزاج الشعب ومزاج جويا تغيرا حين استدعى نابليون شارل الرابع وفرديناند السابع إلى بايون وخلعهما؛ ونفى أحدهما إلى إيطاليا والآخر إلى فرنسا، ونصب أخاه جوزف ملكاً على أسبانيا. وتجمع حشد غاضب أمام القصر الملكي. وأمر جنده بأن يخلوا الميدان، ففر الجمع، ولكنه عاد إلى الاحتشاد حتى بلغوا عشرين ألفاً في ميدان مايور. فلما زحف الجنود الفرنسيون والمماليك نحو الميدان أطلقت عليهم النيران من النوافذ والبواكي. فاشتد غضبهم، واقتحموا البيوت وراحوا يقتلون أهلها دون تمييز. ودارت بين الجند والجماهير معركة امتدت طوال النهار، هو يوم مايو الأشهر (2 مايو 1808)، وسقط مئات الرجال والنساء صرعى، وشهد جويا من موضع قريب شطراً من المذبحة(123). وفي 3 مايو أعدم ثلاثون من السجناء الذين قبض عليهم الجند بواسطة فرقة لإطلاق النار. وأعدم كل أسباني أمسك متلبساً ببندقية في يده. وهبت أسبانيا الآن كلها تقريباً ثائرة على الفرنسيين، وسرت "حرب التحرير" من إقليم لإقليم. ولطخت الطرفين بما اقترفا من فظائع وحشية وشهد جويا بعضها ولم تبرحه ذكراها حتى يوم مماته. وفي 1811 كتب وصيته مخافة أن يتفاقم سوء الحال. وفي 1812 ماتت خوزيفا. وفي 1813 استولى ولنجتن على مدريد، وعاد فرديناند السابع إلى عرشه.

واحتفل جويا بانتصار أسبانيا برسم لوحتين من أشهر لوحاته (1814)(124). إحداهما "يوم مايو" أعاد فيها يناء ما رأى أو سمع أو تخيل من المعركة الناشبة بين جماهير مدريد وجنود الفرنسيين والمماليك. فوضع المماليك في القلب، لأن اشتراكهم في القتال هو الذي أثار أبلغ استنكار في الذاكرة الأسبانية. ولا داعي للسؤال هل كانت الصورة تاريخاً صحيحاً، فهي فن رائع قوي، ابتداء من تدريجات الألوان التي تومض على جواد المملوك المجند وانتهاء بوجوه الرجال الذين روعهم ووحشهم الاختيار بين أن يقتلوا أو يُقتلوا. وأنصع من هذه اللوحة، اللوحة الأخت "الرمي بالنار في الثالث من مايو"- وفيها فرقة لحملة البنادق الفرنسيين يعدمون السجناء الأسبان. وليس في فن جويا ما هم أبلغ وقعاً في النفس من التباين بين الرعب والتحدي في الشخصية الوسطى في تلك المذبحة.

والآن وقد بات جويا أرملاً، أصم، مكرهاً على الصمت، فقد انكفأ إلى فنه وهو ما يزال "مصور الحجرة الملكية" ذا المعاش المقرر، ولكنه لم يعد أثيراً لدى البلاط. ولعل أقوى محفوراته قد حفرها في 1812. وهي "العملاق"(125)- وتثمل هرقول بوجه كاليبان، جالساً على حافة الكرة الأرضية، كأنه مارس يستريح بعد حرب ظافرة. وكان طوال الفترة من 1810 يرسم رسوماً تخطيطية صغيرة ثم يحفرها ويطبعها، وقد سماها "العقابيل القتالة لحرب أسبانيا الدموية مع بونابرت، وغيرها من النزوات". ولم يجرؤ على نشر هذه الرسوم الخمسة الثمانين ولكن أوصى بها لولده، الذي باعها أبنه لأكاديمية سان فرناندو، والتي نشرتها عام 1863 بعنوان "توارث الحرب".

وهذه الرسوم التخطيطية ليست مشاهد عادية للمعارك يستخفي القتال فيها في ثوب البطولة والمجد. إنما هي لحظات من الرعب والقسوة تنسى خلالها ضوابط الحضارة الهزلية في حميا الصراع ونشوة الدماء. هنا بيوت تحترق وتنهار على ساكنيها، ونسوة يهرعن إلى المعركة بحجارة أو رماح أو بنادق، هنا نساء تهتك أعراضهن، ورجال يشدون إلى أعمدة أما فرق ضرب النار، ورجال طاحت سيقانهم أو أذرعهم أو رؤوسهم, وجندي يحب الأعضاء التناسلية لرجل(126) وجثث تخوزق فوق جذوع أو أطراف الشر الحادة، ونساء ميتات مازلن قابضات على أطفالهن الرضع، وأطفال يرقبون في هلع قتال آبائهم، وأكداس من الموتى يقذف بهم في الحفر، والنسور تستمتع بالتهام الموتى من الآدميين. وتحت هذه الصور أضاف جويا تعليقات ساخرة. "هذا ما ولدت له"(127)، "هذا رأيته"(128)، "لقد حدث هكذا"(129)، "ليدفنوا الموتى ويلزموا الصمت"(130). وفي النهاية أعرب جويا عن يأسه وأمله. فالصورة رقم 79 تمثل امرأة تموت بين الحفارين والكهنة، وعنوانها "الحق يموت"، ولكن الصورة رقم 80 تظهرها وهي تشع ضياء، وتسأل "أتبعث حية مرة أخرى؟".

هـ - انحدار

في فبراير 1819 أشترى بيتاً ريفياً على الضفة الأخرى لنهر مانزاتاريس. كانت الأشجار تظلله، ومع أنه كان عاجزاً عن سماع شدو الغدير الذي حف به، فإنه استطاع أن يحس الدرس المستفاد من جريانه الهادئ المطمئن. وكان جيرانه يسمون بيته "بيت الأصم". ولما كان خافير قد تزوج واستقل ببيته، فقد صحب جويا معه دونا لونادياوايس، خليلة ومديرة لبيته. وكانت امرأة سليطة اللسان قوية البدن، ولكن جويا كان في حصن حصين من لسانها السليط. وأتت معها بطفلين- صبي هو جييرمو، وفتاة صغيرة مرحة تدعى ماريا ديل روزاريو، وقد أصبحا عزاء لحياة الفنان في شيخوخته.

ولقد كان في أمس الحاجة لهذا الحافز الصحي لأن عقله كان على شفا الجنون. على هذا النحو فقط نستطيع أن نفهم "الرسوم الزنجية" التي غطى بها كثيراً من جدران البيت الذي كان مستشفاه. وراح يرسم بالأسود والأبيض في الأغلب، وكأنه يعكس ظلام عقله، ولم يعطِ حدوداَ معينة للأجساد التي رسمها وكأنه وفي لغموض رؤاه، ولكنه استعمل ألواناً جصية حسنة ليثبت بسرعة على الحائط صور حلم سريعة الزوال. وقد رسم على جدار جانبي طويل "رحلة سان ايزيدرو" وهو العيد الذي رسمه مبتهجاً عام 1788 قبل إحدى وثلاثين سنة ولكنه الآن أصبح مشهداً كئيباً لمتعصبين متوحشين مخمورين. وجمع على الجدار المقابل أشخاصاً أفظع حتى من هؤلاء في "سبت الساحرات" وهن يتعبدن لنيس أسود ضخم على نحوٍ رهيب لأنه شيطانهن وإلههن الآمر. وفي أقصى الحجرة ارتفعت أبشع صورة في تاريخ الفن، صورة ساترن يفترس ابنه- مار يفترس طفلاً عاريا، أكل رأسه وذراعه وأخذ يلتهم الذراع الباقية وهو يرش الدم من حوله(131). وربما كانت الصورة رمزاً مجنوناً لأمم مجنونة تأكل بنيها في الحرب. هذه رؤى رجل تعذبه أطياف الموت المروعة فهو يرسمها في جنون ليطردها من ذاته ويثبتها على الجدار.

وفي 1823 هربت ليوثاديا إلى بوردو بولديها لخوفها من الاعتقال بسبب نشاطها الماسوني. وقرر جويا أن يلحق بهم بعد أن ترك وحيداً مع الجنون الذي رسمه على جدرانه. ولكنه لو رحل بغير إذن من الملك لفقد حقه في الراتب الرسمي الذي كان يتقاضاه بوصفه مصور الحجرة، فألتمس إجازة شهوراً للاستشفاء بمياه بلومبيير، فمنح الإجازة. ونقل ملكية بيته لحفيده ماريانو، وفي يونيو 1824 يمم شطر بوردو، وليوثاريا، ماريا ديل روزاريو.

وبات حبه لحفيده ماريانو العاطفة المشبوبة المتسلطة عليه كلما دنت منيته. فأوصى بمعاش سنوي للصبي وعرض دفع النفقات إذا أتى خافيير بماريانو إلى بوردو. ولم يستطع خافيير الحضور ولكنه أرسل زوجته وأبته، فلما وصلا عانقهما جويا في انفعال انهار بسببه واضطر إلى ملازمة الفراش. وكتب إلى ابنه يقول: "يا عزيزي خافيير، إنما أردت أن أخبرك بأن هذه الفرحة كلها كانت فوق ما أحتمل...أدعو الله أن يتيح لك أن تأتي وتأخذهما وعندها تفيض كأس سعادتي(132)". وفي صباح الغد أحتبس صوته وشل نصف بدنه. وطال احتضاره ثلاثة عشر يوماً وهو ينتظر بصبر نافذ مجيء خافيير دون جدوى. ومات في 16 إبريل 1828. وفي 1899 نقل رفاته من بوربو إلى مدريد ودفن أمام مذبح كنيسة سان أنطونيو دي لافلوريدا، حيث رسم قبل مائة عام تحت القبة آلام الحياة الأسبانية وأحزانها وأفراحها وقصص حبها.